قوله تعالى واقصد في مشيك أي ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا قال عطاء امش بالوقار والسكينة
قوله تعالى واغضض من صوتك أي انقص منه قال الزجاج ومنه قولهم غضضت بصري وفلان يغص من فلان أي يقصر به
إن أنكر الأصوات وقرأ أبو المتوكل وابن ابي عبلة ان انكر الاصوات بفتح الهمزة ومعنى أنكر أقبح تقول أتانا فلان بوجه منكر أي قبيح وقال المبرد تأويله أن الجهر بالصوت ليس بمحمود وأنه داخل في باب الصوت المنكر وقال ابن قتيبة عرفه قبح رفع الأصوات في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لأنها عالية قال ابن زيد لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله الله للحمير وقال سفيان الثوري صياح كل شئ تسبيح لله عز و جل إلا الحمار فانه ينهق بلا فائدة
فان قيل كيف قال لصوت ولم يقل لأصوات الحمير
الجواب أن لكل جنس صوتا فكأنه قال إن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبائنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
قوله تعالى وأسبغ عليكم أي أوسع وأكمل نعمه قرأ نافع (6/323)
وأبو عمرو وحفص عن عاصم نعمه أرادوا جميع ما انعم به وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم نعمة على التوحيد قال الزجاج هو ما أعطاهم من توحيده وروى الضحاك عن ابن عباس قال سألت رسول الله ص فقلت يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة فقال أما ما ظهر فالإسلام وما سوى الله من خلقك وما أفضل عليك من الرزق وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك وقال الضحاك الباطة المعرفة والظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الاعضاء
قوله تعالى أولو كان الشيطان يدعوهم هو متروك الجواب تقديره أفتتبعونه
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر (6/324)
يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم قوله تعالى ومن يسلم وجهه وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وقتادة ومن يسلم بفتح السين وتشديد اللام وذكر المفسرون أن قوله ومن كفر فلا يحزنك كفره منسوخ بآية السيف ولا يصح لانه تسلية عن الحزن وذلك لا ينافي الأمر بالقتال وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع هود 48 , العنكبوت61 , البقرة267 إلى قوله ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وفي سبب نزولها قولان
أحدهما أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله ص أرأيت قول الله عز و جل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الاسراء إيانا يريد أم قومك فقال كلا فقالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ فقال إنها في علم الله قليل فنزلت هذه الآية رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أن المشركين قالوا في القرآن إنما هو كلام يوشك أن ينفد وينقطع فنزلت هذه الآية قاله قتادة (6/325)
ومعنى الآية لو كانت شجر الأرض أقلاما وكان البحر ومعه سبعة أبحر مدادا وفي الكلام محذوف تقديره فكتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله لتكسرت الأقلام ونفذت البحور ولم تنفذ كلمات الله أي لم تنقطع
فأما قوله والبحر فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والبحر بالرفع ونصبه أبو عمرو وقال الزجاج من قرأ والبحر بالنصب فهو عطف على ما المعنى ولو أن ما في الأرض ولو أن البحر والرفع حسن على معنى والبحر هذه حاله قال اليزيدي ومعنى يمده من بعده يزيد فيه يقال مد قدرك أي زد في مائها وكذلك قال ابن قتيبة يمده من المداد لا من الإمداد يقال مددت دواتي بالمداد وأمددته بالمال والرجال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أن الله سميع بصير ألم تر ان الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في (6/326)
الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور
قوله تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة سبب نزولها أن أبي بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي ص إن الله خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة عظاما لحما ثم تزعم أنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة فنزلت هذه الآية ومعناها ما خلقكم ايها الناس جميعا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم جميعا في القدرة إلا كبعث نفس واحدة قاله مقاتل
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره آل عمران الرعد الحج إلى قوله ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله قال ابن عباس من نعمه جريان الفلك ليريكم من آياته أي ليريكم من صنعته عجائبه في (6/327)
البحر وابتغاء الرزق إن في ذلك لآيات لكل صبار قال مقاتل أي لكل صبور على أمر الله شكور في نعمه
قوله تعالى وإذا غشيهم يعني الكفار وقال بعضهم هو عام في الكفار والمسلمين موج كالظل قال ابن قتيبة وهي جمع ظلة يراد أن بعضه فوق بعض فله سواد من كثرته
قوله تعالى دعوا الله مخلصين له الدين وقد سبق شرح هذا يونس والمعنى أنهم لا يذكرون أصنامهم في شدائدهم إنما يذكرون الله وحده وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لما هرب يوم الفتح من رسول الله ص ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فقال اهل السفينة أخلصوا فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة ما هذا الذي تقولون فقالوا هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله فقال هذا إله محمد الذي كان يدعونا إليه لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره ارجعوا بنا فرجع فأسلم
قوله تعالى فمنهم مقتصد فيه ثلاثة أقوال
أحدها مؤمن قاله الحسن
والثاني مقتصد في قوله وهو كافر قاله مجاهد يعني أنه يعترف بأن الله وحده القادر على إنجائه وإن كان مضمرا للشرك
والثالث أنه العادل في الوفاء بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد قاله مقاتل
فأما الختار فقال الحسن هو الغدار قال ابن قتيبة الختر أقبح الغدر وأشده (6/328)
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي أرض تموت إن الله عليم خبير
قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم قال المفسرون هذا خطاب لكفار مكة وقوله لا يجزي والد عن ولده أي لا يقضي عنه شيئا من جنايته ومظالمه قال مقاتل وهذا يعني به الكفار وقد شرحنا هذا في البقرة قال الزجاج وقوله هو جاز جاءت في المصاحف بغير ياء والأصل جازي بضمة وتنوين وذكر سيبويه والخليل أن الإختيار في الوقف هو جاز بغير ياء هكذا وقف الفصحاء من العرب ليعلموا أن هذه الياء تسقط في الوصل وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياء ولكن الاختيار اتباع المصحف
قوله تعالى إن وعد الله حق أي بالبعث والجزاء فلا تغرنكم الحياة الدنيا بزينتها عن الاسلام والتزود لللآخرة ولا يغرنكم بالله أي بحلمه وإمهاله الغرور يعني الشيطان وهو الذي من شأنه أن يغر قال الزجاج الغرور على وزن الفعول وفعول من أسماء المبالغة يقال فلان أكول إذا كان كثير الأكل وضروب إذا كان كثير الضرب فقيل للشيطان غرور لأنه يغر كثيرا وقال ابن قتيبة الغرور بفتح الغين الشيطان وبضمها الباطل
قوله تعالى إن الله عنده علم الساعة سبب نزولها أن رجلا من (6/329)
أهل البادية جاء إلى النبي ص فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ما ذا تلد وبلدنا مجدب فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى اموت فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
ومعنى الآية إن الله عز و جل عنده علم الساعة متى تقوم لا يعلم سواه ذلك وينزل الغيث وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وينزل بالتشديد فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعلم ما في الأرحام لا يعلم سواه ما فيها أذكرا أم أنثى أبيض أو أسود وما تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري نفس بأي أرض تموت أي بأي مكان وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب (6/330)
وابن أبي عبلة بأية أرض بتاء مكسورة والمعنى ليس أحد يعلم أين مضجعه من الأرض حتى يموت أفي بر او بحر او سهل أو جبل وقال ابو عبيدة يقال بأي أرض كنت وبأية ارض كنت لغتان وقال الفراء من قال باي أرض اجتزأ بتأنيث الارض من ان يظهر في أي تأنيثا آخر قال ابن عباس هذه الخمس لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل مصطفى قال الزجاج فمن أدعى أنه يعلم شيئا من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه (6/331)
سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع وهي مكية باجماعهم
وقال الكلبي فيها من المدني ثلاث آيات أولها قوله أفمن كان مؤمنا السجدة وقال مقاتل فيها آية مدنية وهي قوله تتجافى جنوبهم الآية السجدة وقال غيرهما فيها خمس آيات مدنيات أولها تتجافى جنوبهم السجدة بسم الله الرحمن الرحيم آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون الله الذي خلق السماوات (6/332)
والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون
قوله تعالى تنزيل الكتاب لا ريب فيه قال مقاتل المعنى لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين
أم يقولون بل يقولون يعني المشركين افتراه محمد من تلقاء نفسه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما اتاهم من نذير من قبلك يعني العرب الذين أدركوا رسول الله ص لم يأتهم نذير من قبل محمد عليه السلام وما بعده قد سبق تفسيره الاعراف إلى قوله ما لكم من دونه من ولي يعني الكفار يقول ليس لكم من دونه عذابه من ولي أي قريب يمنعكم فيرد عذابه عنكم ولا شفيع يشفع لكم أفلا تتذكرون فتؤمنوا يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون
قوله تعالى يدبر الامر من السماء إلى الأرض في معنى الآية قولان احدهما يقضي القضاء من السماء فينزله مع الملائكة إلى الأرض ثم يعرج الملك إليه في يوم من ايام الدنيا فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من ايام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي
والثاني يدبر امر الدنيا مدة ايام الدنيا فينزل القضاء والقدر من (6/333)
السماء إلى الارض ثم يعرج إليه أي يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام وينفرد الله تعالى بالأمر في يوم كان مقداره ألف سنة وذلك في يوم القيامة لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة
وقال مجاهد يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى الملائكة فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى ثم كذلك أبدا
وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الوحي قاله السدي والثاني القضاء قاله مقاتل والثالث أمر الدنيا
ويعرج بمعنى يصعد قال الزجاج يقال عرجت في السلم أعرج وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج
وقرأ معاذ القارئ وابن السميفع وابن أبي عبلة ثم يعرج إليه بياء مرفوعة وفتح الراء وقرأ ابو المتوكل وأبو الجوزاء يعرج بياء مفتوحة وكسر الراء وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري ثم تعرج بتاء مفتوحة ورفع الراء
قوله تعالى الذي أحسن كل شئ خلقه فيه خمسة أقوال
أحدها جعله حسنا والثاني أحكم كل شئ رويا عن ابن عباس وبالاول قال قتادة وبالثاني قال مجاهد والثالث أحسنه لم يتعلمه من احد كما يقال فلان يحسن كذا إذا علمه قاله السدي ومقاتل والرابع (6/334)
أن المعنى ألهم خلقه كل ما يحتاجون إليه كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم قاله الفراء والخامس أحسن إلى كل شئ خلقه حكاه الماوردي
وفي قوله خلقه قراءتان قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر خلقه ساكنة اللام وقرأ الباقون بتحريك اللام وقال الزجاج فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل فيكون المعنى أحسن خلق كل شئ والعرب تفعل مثل هذا يقدمون ويؤخرون
قوله تعالى وبدأ خلق الإنسان يعني آدم ثم جعل نسله أي ذريته وولده وقد سبق شرح الآية المؤمنون
ثم رجع إلى آدم فقال ثم سواه ونفخ فيه من روحه وقد سبق بيان ذلك الحجر ثم عاد إلى ذريته فقال وجعل لكم السمع والأبصار أي بعد كونكم نطفا وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون
قوله تعالى وقالوا يعني منكري البعث أإذا ضللنا في الأرض وقرا علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وابو رجاء وأبو مجلز وحميد وطلحة ضللنا بضاد معجمة مفتوحة وكسر اللام الأولى قال الفراء ضللنا وضللنا لغتان إذا صارت عظامنا ولحومنا ترابا (6/335)
كالأرض تقول ضل الماء في اللبن وضل الشئ في الشئ إذا أخفاه وغلب عليه وقرأ أبو نهيك وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو حيوة وابن ابي عبلة ضللنا بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها وقرأ الحسن وقتادة ومعاذ القارئ صللنا بصاد غير معجمة مفتوحة وذكر لها الزجاج معنيين أحدهما أنتنا وتغيرنا وتغيرت صورنا يقال صل اللحم وأصل إذا أنتن وتغير والثاني صرنا من جنس الصلة وهي الأرض اليابسة
قوله تعالى أإئنا لفي خلق جديد هذا استفهام إنكار
قوله تعالى الذي وكل بكم أي بقبض أرواحكم ثم إلى ربكم ترجعون يوم الجزاء
ثم اخبر عن حالهم في القيامة فقال ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم أي مطأطئوها حياء وندما ربنا فيه إضمار يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا أي علمنا صحة ما كنا به مكذبين فارجعنا إلى الدنيا وجواب لو متروك تقديره لو رأيت حالهم لرأيت ما يعتبر به ولشاهدت العجب ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم (6/336)
ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون
قوله تعالى ولكن حق القول مني أي وجب وسبق والقول هو قوله لإبليس لاملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي من كفار الفريقين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا قال مقاتل إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة فذوقوا العذاب وقال غيره إذا اصطرخوا فيها قيل لهم ذوقوا بما نسيتم أي بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا إنا نسيناكم أي تركناكم من الرحمة
قوله تعالى إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها أي وعظوا بها خروا سجدا أي سقطوا على وجوههم ساجدين وقيل المعنى إنما يؤمن بفرائضنا من الصلاوات الخمس الذين إذا ذكروا بها بالأذان والإقامة خروا سجدا
قوله تعالى تتجافى جنوبهم اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في المتهجدين بالليل روى معاذ بن جبل عن رسول الله ص في قوله تتجافى جنوبهم قال قيام العبد من الليل وفي (6/337)
لفظ آخر أنه قال لمعاذ إن شئت أنبأتك بأبواب الخير قال قلت أجل يا رسول الله قال الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكذلك قال الحسن ومجاهد وعطاء وأبو العالية وقتادة وابن زيد أنها في (6/338)
قيام الليل وقد روى العوفي عن ابن عباس قال تتجافى جنوبهم لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله إما في الصلاة وإما في قيام او في قعود أو على جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله عز و جل
والثاني أنها نزلت في ناس من اصحاب رسول الله ص كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء قاله انس بن مالك
والثالث أنها نزلت في صلاة العشاء كان أصحاب رسول الله ص لا ينامون حتى يصلوها قاله ابن عباس
والرابع انها صلاة العشاء والصبح في جماعة قاله ابو الدرداء والضحاك
ومعنى تتجافى ترتفع والمضاجع جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه
يدعون ربهم خوفا من عذابه وطمعا في رحمته وثوابه ومما رزقناهم ينفقون في الواجب والتطوع
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم وأسكن ياء أخفي حمزة ويعقوب قال الزجاج في هذا دليل على أن المراد بالآية التي قبلها الصلاة في جوف الليل لأنه عمل يستر الإنسان به فجعل لفظ ما يجازي به أخفي لهم فاذا فتحت ياء أخفي فعلى تأويل الفعل الماضي وإذا أسكنتها فالمعنى ما أخفي انا لهم إخبار عن الله تعالى وكذلك قال الحسن البصري أخفي لهم بالخفية خفية وبالعلانية علانية وروى أبو هريرة عن رسول الله ص قال يقول الله عز و جل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم (6/339)
قوله تعالى من قرة اعين وقرا أبو الدرداء وأبو هريرة وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وقتادة من قرات اعين بألف على الجمع أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون اما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون
قوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا في سبب نزولها قولان
احدهما ان الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعلي بن أبي طالب أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال له علي اسكت فانما أنت فاسق فنزلت هذه الآية فعنى بالمؤمن عليا وبالفاسق الوليد (6/340)
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عطاء بن يسار وعبد الرحمن ابن ابي ليلى ومقاتل
والثاني أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل قاله شريك
قوله تعالى لا يستوون قال الزجاج المعنى لا يستوي المؤمنون والكافرون ويجوز ان يكون لاثنين لأن معنى الاثنين جماعة وقد شهد الله بهذا الكلام لعلي عليه السلام بالايمان وأنه في الجنة لقوله أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف جنة المأوى على التوحيد
قوله تعالى نزلا وقرأ الحسن والنخعي والاعمش وابن ابي عبلة نزلا بتسكين الزاي وما بعد هذا قد سبق بيانه الحج إلى قوله ولنذيقنهم من العذاب الأدنى وفيه ستة أقوال
أحدها أنه ما أصابهم يوم بدر رواه مسروق عن ابن مسعود وبه قال قتادة والسدي
والثاني سنون أخذوا بها رواه ابو عبيدة عن ابن مسعود وبه قال النخعي وقال مقاتل أخذوا بالجوع سبع سنين
والثالث مصائب الدنيا قاله ابي بن كعب وابن عباس في رواية ابن ابي طلحة وأبو العالية والحسن وقتادة والضحاك
والرابع الحدود رواه عكرمة عن ابن عباس
والخامس عذاب القبر قاله البراء
والسادس القتل والجوع قاله مجاهد (6/341)
قوله تعالى دون العذاب الأكبر أي قبل العذاب الأكبر وفيه قولان احدهما أنه عذاب يوم القيامة قاله ابن مسعود والثاني أنه القتل ببدر قاله مقاتل
قوله تعالى لعلهم يرجعون قال أبو العالية لعلهم يتوبون وقال ابن مسعود لعل من بقي منهم يتوب وقال مقاتل لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان
قوله تعالى ومن اظلم قد فسرناه في الكهف
قوله تعالى إنا من المجرمين منتقمون قال زيد بن رفيع هم اصحاب القدر وقال مقاتل هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجل أرواحهم إلى النار ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات (6/342)
أفلا يسمعون اولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب يعني التوراة فلا تكن في مرية من لقائه فيه أربعة أقوال
أحدها فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه رواه ابن عباس عن رسول الله ص
والثاني من لقاء موسى ليلة الإسراء قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وابن السائب
والثالث فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى قاله الحسن
والرابع لا تكن في مرية من تلقى موسى كتاب الله بالرضى والقبول قاله السدي قال الزجاج وقد قيل فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب فتكون الهاء للكتاب وقال ابو علي الفارسي المعنى من لقاء موسى الكتاب فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل (6/343)
وفي قوله وجعلناه هدى قولان أحدهما الكتاب قاله الحسن والثاني موسى قاله قتادة
وجعلنا منهم أي من بني إسرائيل أئمة أي قادة في الخير يهدون بأمرنا أي يدعون الناس إلى طاعة الله لما صبروا قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر لما صبروا بفتح اللام وتشديد الميم وقرأ حمزة والكسائي لما بكسر اللام خفيفة وقرا ابن مسعود بما بباء مكان اللام والمراد صبرهم على دينهم وأذى عدوهم وكانوا بآياتنا يوقنون أنها من الله عز و جل وفيهم قولان أحدهما أنهم الأنبياء والثاني أنهم قوم صالحون سوى الأنبياء وفي هذا تنبيه لقريش انكم إن أطعتم جعلت منكم أئمة
قوله تعالى إن ربك هو يفصل بينهم أي يقضي ويحكم وفي المشار إليهم قولان أحدهما أنهم الأنبياء وأممهم والثاني المؤمنون والمشركون
ثم خوف كفار مكة بقوله أو لم يهد لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي نهد بالنون وقد سبق تفسيره في طه
او لم يروا أنا نسوق الماء يعني المطر والسيل إلى الأرض الجرز وهي التي لا تنبت وقد ذكرناها في أول الكهف فاذا جاء الماء أنبت فيها ما يأكل الناس والأنعام
ويقولون يعني كفار مكة متى هذا الفتح وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه ما فتح يوم بدر روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال يوم بدر فتح للنبي ص فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت
والثاني أنه يوم القيامة وهو يوم الحكم بالثواب والعقاب قاله مجاهد (6/344)
والثالث أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا قاله السدي
والرابع فتح مكة قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة وقد اعترض على هذا القول فقيل كيف لا ينفع الكفار إيمانهم يوم الفتح وقد أسلم جماعة وقبل إسلامهم يومئذ فعنه جوابان
أحدهما لا ينفع من قتل من الكفار يومئذ إيمانهم بعد الموت وقد ذكرناه عن ابن عباس وقد ذكر أهل السير أن خالدا دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله ص فلقيه صفوان بن أمية وسهيل ابن عمرو في آخرين فقاتلوه فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم فقتل أربعة وعشرين من قريش وأربعة من هذيل وانهزموا فلما ظهر رسول الله ص قال ألم أنه عن القتال فقيل إن خالدا قوتل فقاتل
والثاني لا ينفع الكفار ما أعطوا من الأمان لأن النبي ص قال (6/345)
من اغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن قال الزجاج يقال آمنت فلانا إيمانا فعلى هذا يكون المعنى لا يدفع هذا الأمان عنهم عذاب الله وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار وإنما بينا وجهه لانه قد قيل
وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان أحدهما أنه الحكم والقضاء وهو الذي نختاره والثاني فتح البلد
قوله تعالى فأعرض عنهم وانتظر أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون بك حوادث الدهر قال المفسرون وهذه الآية منسوخة بأية السيف (6/346)
سورة الأحزاب
وهي مدنية باجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللاءي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قوله تعالى يا أيها النبي اتق الله سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن ابي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على رسول الله ص في الموادعة التي كانت بينهم فنزلوا على عبد الله بن ابي ومتعب بن قشير والجد بن قيس فتكلموا فيما بينهم وأتوا رسول الله ص فدعوه إلى أمرهم (6/347)
وعرضوا عليه أشياء كرهها فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال مقاتل سألوا رسول الله ص أن يرفض ذكر اللات والعزى ويقول إن لها شفاعة فكره ذلك ونزلت هذه الآية وقال ابن جرير ولا تطع الكافرين الذين يقولون اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المسلمين والمنافقين فلا تقبل منهم رأيا
فإن قيل ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى وهو سيد المتقين فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه والثاني الإكثار مما هو فيه والثالث أنه خطاب ووجه به والمراد أمته
قال الفسرون وأراد بالكافرين في هذه الآية أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن ابي سرح وطعمة بن أبيرق وما بعد هذا قد سبق بيانه النساء إلى قوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وفي سبب نزولها قولان
أحدهما أن المنافقين كانوا يقولون لمحمد قلبان قلب معنا وقلب مع أصحابه فأكذبهم الله تعالى ونزلت هذه الآية قاله ابن عباس (6/348)
والثاني أنها نزلت في جميل بن معمر الفهري كذا نسبه جماعة من المفسرين وقال الفراء جميل بن أسد ويكنى أبا معمر وقال مقاتل أبو معمر بن أنس الفهري وكان لبيبا حافظا لما سمع فقالت قريش ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان في جوفه وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما افضل من عقل محمد فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له ما حال الناس فقال انهزموا قال فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك قال ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده وهذا قول جماعة من المفسرين وقد قال الزهري في هذا قولا عجيبا قال بلغنا أن ذلك في زيد ابن حارثة ضرب له مثل يقول ليس ابن رجل آخر ابنك قال الأخفش من زائدة في قوله من قلبين (6/349)
قال الزجاج أكذب الله عز و جل هذا الرجل الذي قال لي قلبان ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له فقال وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم فأعلم الله تعالى ان الزوجة لا تكون اما وكانت الجاهلية تطلق بهذا الكلام وهو أن يقول لها انت علي كظهر أمي وكذلك قوله وما جعل أدعياءكم أبناءكم أي ما جعل من تدعونه ابنا وليس بولد في الحقيقة ابنا ذلكم قولكم بأفواهكم أي نسب من لا حقيقة لنسبة قول بالفم لا حقيقة تحته والله يقول الحق أي لا يجعل غير الابن ابنا وهو يهدي السبيل أي للسبيل المستقيم (6/350)
وذكر المفسرون أن قوله وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة
ومعنى الكلام ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن كامهاتكم في التحريم إنما قولكم معصية وفيه كفارة وأزواجكم لكم حلال وسنشرح هذا في سورة المجادلة إن شاء الله وذكروا أن قوله وما جعل أدعياءكم ابناءكم نزل في زيد بن حارثة أعتقه رسول الله ص وتبناه قبل الوحي فلما تزوج رسول الله ص زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون تزوج محمد امراة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزلت هذه الآية أدعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا
قوله تعالى أدعوهم لآبائهم قال ابن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت أدعوهم لآبائهم (6/351)
قوله تعالى هو أقسط أي أعدل فان لم تعلموا آباءهم أي إن لم تعرفوا آباءهم فاخوانكم أي فهم إخوانكم فليقل أحدكم يا أخي ومواليكم قال الزجاج أي بنو عمكم ويجوز أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به فيه ثلاثة أقوال
أحدها فيما أخطأتم به قبل النهي قاله مجاهد
والثاني في دعائكم من تدعونه إلى غير أبيه وأنتم ترونه كذلك قاله قتادة
والثالث فيما سهوتم فيه قاله حبيب بن أبي ثابت
فعلى الأول يكون معنى قوله ولكن ما تعمدت قلوبكم أي بعد النهي وعلى الثاني والثالث ما تعمدت في دعاء الرجل إلى غير أبيه
قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي احق فله أن يحكم فيهم بما يشاء قال ابن عباس إذا دعاهم إلى شئ ودعتهم أنفسهم إلى شئ كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم وهذا صحيح فان أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم (6/352)
قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم أي في تحريم نكاحهن على التأبيد ووجوب إجلالهن وتعظيمهن ولا تجري عليهن أحكام الامهات في كل شئ إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يتزوج بناتهن ولورثن المسلمين ولجازت الخلوة بهن وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت يا أماه فقالت لست لك بأم إنما أنا ام رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط وقال مجاهد وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وما بعد هذا مفسر (6/353)
في آخر الأنفال إلى قوله تعالى من المؤمنين والمهاجرين والمعنى أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا وهذا استثناء ليس من الأول والمعنى لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح الوصية للمعاقدين فللانسان ان يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلثه فالمعروف ها هنا الوصية
قوله تعالى كان ذلك يعني نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام في الكتاب يعني اللوح المحفوظ مسطورا أي مكتوبا وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا
قوله تعالى وإذ أخذنا المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم أي عهدهم وفيه قولان
أحدهما أخذ ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا قاله قتادة
والثاني أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادته ويصدق بعضهم بعضا وأن ينصحوا لقومهم قاله مقاتل (6/354)
وهذا الميثاق أخذ منهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذر قال ابي بن كعب لما أخذ ميثاق الخلق خص النبيين بميثاق آخر
فان قيل لم خص الأنبياء الخمسة بالذكر دون غيرهم من الأنبياء
فالجواب أنه نبه بذلك على فضلهم لانهم أصحاب الكتب والشرائع وقدم نبينا ص بيانا لفضله عليهم قال قتادة كان نبينا أول النبيين في الخلق
وقوله ميثاقا غليظا أي شديدا على الوفاء بما حملوا وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد اليمين بالله عز و جل (6/355)
ليسأل الصادقين يقول أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغهم ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم تبكيت مكذبيهم وها هنا تم الكلام ثم أخبر بعد ذلك عما أعد للكافرين بالرسل
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود وهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أيام الخندق
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالسيرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اجلي بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى الخروج لقتاله ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليم ففارقوهم على مثل ذلك وتجهزت قريش ومن تبعهم من العرب فكانوا أربعة آلاف وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم ب مر الظهران وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف وهم الأحزاب فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خروجهم من مكة أخبر الناس خبرهم وشاورهم فأشار سلمان بالخندق فأعجب ذلك المسلمين وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سفح سلع وجعل سلعا خلف ظهره ودس أبو سفيان بن حرب حيي ابن اخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكونوا معهم عليه فأجابوا واشتد الخوف وعظم البلاء ثم جرت بينهم مناوشة وقتال وحصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص (6/356)
إليهم الكرب وكان نعيم بن مسعود الاشجعي قد أسلم فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذل بينهم فاستوحش كل منهم من صاحبه واعتلت قريظة بالسبت فقالوا لا نقاتل فيه وهبت ليلة السبت ريح شديدة فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله لستم بدار مقام لقد هلك الخف والحافر وأجدب الجناب وأخلفتنا قريظة ولقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فاني مرتحل فأصبحت العساكر قد أقشعت كلها قال مجاهد والريح التي أرسلت عليهم هي الصبا حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ وقيل إن الملائكة جعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبر في جوانب عسكرهم فاشتدت عليهم فانهزموا من غير قتال
قوله تعالى لم تروها وقرأ النخعي والجحدري والجوني وابن السميفع لم يروها بالياء وكان الله بما تعملون بصيرا وقرأ أبو عمرو يعملون بالياء اذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (6/357)
قوله تعالى إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم أي من فوق الوادي ومن أسفله وإذا زاغت الأبصار أي مالت وعدلت فلم تنظر إلى شئ إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب وبلغت القلوب الحناجر وهي جمع حنجرة والحنجرة جوف الحلقوم قال قتادة شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها ان تخرج لخرجت وقال غيره المعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إلى الحنجرة وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء وذهب ابن قتيبة إلى أن المعنى كادت القلوب تبلغ الحلوق من الخوف وقال ابن الأنباري كاد لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم ينطق به
قوله تعالى وتظنون بالله الظنونا قال الحسن اختلفت ظنونهم فظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون وظن المؤمنون أنه ينصر
قرأ ابن كثير والكسائي وحفص عن عاصم الظنونا والرسولا الأحزاب و السبيلا الأحزاب بألف إذا وقفوا عليهن وبطرحها في الوصل وقال هبيرة عن حفص عن عاصم وصل أو وقف بالف وقرا نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالألف فيهن وصلا ووقفا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بغير ألف في وصل ولا وقف قال الزجاج والذي عليه حذاق النحويين والمتبعون السنة من قرائهم أن يقرؤوا الظنونا ويقفون على الألف ولا يصلون وإنما فعلوا ذلك لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يثبتون في آخرها الألف في الوقف
قوله تعالى هنالك أي عند ذلك ابتلى المؤمنون أي اختبروا بالقتال والحصر ليتبين المخلص من المنافق وزلزلوا أي ازعجوا وحركوا (6/358)
بالخوف فلم يوجدوا إلا صابرين وقال الفراء حركوا إلى الفتنة تحريكا فعصموا
قوله تعالى وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض فيه قولان
أحدهما أنه الشرك قاله الحسن والثاني النفاق قاله قتادة ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا قال المفسرون قالوا يومئذ إن محمدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع ان يجاوز رحله هذا والله الغرور وزعم ابن السائب أن قائل هذا معتب بن قشير
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤلا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى وإذ قالت طائفة منهم يعني من المنافقين وفي القائلين لهذا منهم قولان أحدهما عبد الله بن ابي وأصحابه قاله السدي والثاني بنو سالم من المنافقين قاله مقاتل
قوله تعالى يا أهل يثرب قال أبو عبيدة يثرب اسم أرض ومدينة النبي صلى الله عليه و سلم في ناحية منها (6/359)
قوله تعالى لا مقام لكم وقرأ حفص عن عاصم لا مقام بضم الميم قال الزجاج من ضم الميم فالمعنى لا إقامة لكم ومن فتحها فالمعنى لا مكان لكم تقيمون فيه وهؤلاء كانوا يثبطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى فارجعوا أي إلى المدينة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب سلع وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم فقال المنافقون للناس ليس لكم هاهنا مقام لكثرة العدو وهذا قول الجمهور وحكى الماوردي قولين آخرين
أحدهما لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب قاله الحسن
والثاني لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان قاله الكلبي
قوله تعالى ويستأذن فريق منهم النبي فيه قولان
أحدهما أنهم بنو حارثة قاله ابن عباس وقال مجاهد بنو حارثة ابن الحارث بن الخزرج وقال السدي إنما استأذنه رجلان من بني حارثة
والثاني بنو حارثة وبنو سلمة بن جشم قاله مقاتل
قوله تعالى إن بيوتنا عورة قال ابن قتيبة أي خالية فقد (6/360)
امكن من أراد دخولها وأصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت فاذا ذهبوا أعورت البيوت تقول العرب أعور منزلي إذا ذهب ستره أو سقط جداره وأعور الفارس إذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن يقول الله وما هي بعورة لأن الله يحفظها ولكن يريدون الفرار وقال الحسن ومجاهد قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق وقال قتادة قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الفرار
قوله تعالى ولو دخلت عليهم من أقطارها يعني المدينة والأقطار النواحي والجوانب واحدها قطر ثم سئلوا الفتنة وقرأ علي بن ابي طالب عليه السلام والضحاك والزهري وابو عمران وأبو جعفر وشيبة ثم سيلوا برفع السين وكسر الياء من غير همز وقرأ أبي بن كعب ومجاهد وأبو الجوزاء ثم سوءلوا برفع السين ومد الواو بهمزة مكسورة بعدها وقرأ الحسن وأبو الأشهب ثم سولوا برفع السين وسكون الواو من غير مد ولا همز وقرا الأعمش وعاصم الجحدري ثم سيلوا بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو ومعنى سئلوا الفتنة أي سئلوا فعلها والفتنة الشرك لآتوها قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر لاتوها بالقصر أي لقصدوها ولفعلوها وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي لآتوها بالمد أي لاعطوها قال ابن عباس في معنى الآية لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم امروهم بالشرك لأشركوا
قوله تعالى وما تلبثوا بها إلا يسيرا فيه قولان
أحدهما وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا قاله قتادة (6/361)
والثاني وما تلبثوا بالمدينة بعد الإجابة إلا يسيرا حتى يعذبوا قاله السدي وحكى ابو سليمان الدمشقي في الآية قولا عجيبا وهو ان الفتنة هاهنا الحرب والمعنى ولو دخلت المدينة على أهلها من أقطارها ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين وما تلبثوا يعني الجيوش الداخلة عليهم بها إلا قليلا حتى يخرجوهم منها وإنما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشك في دينك قال وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي
قوله تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر فلما علموا ما اعطى الله اهل بدر من الكرامة قالوا لئن شهدنا قتالا لنقاتلن قاله قتادة (6/362)
والثاني أنهم أهل العقبة وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على طاعة الله ونصرة رسوله قاله مقاتل
والثالث أنه لما نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل عاهد الله معتب بن قشير وثعلبة بن حاطب لا نولي دبرا قط فلما كان يوم الأحزاب نافقا قاله الواقدي واختاره ابو سليمان الدمشقي وهو اليق مما قبله وإذا كان الكلام في حق المنافقين فكيف يطلق القول على أهل العقبة كلهم
قوله تعالى وكان عهد الله مسؤولا أي يسألون عنه في الآخرة
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم فقال قل لن ينفعك الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا قليلا وهو باقي آجالكم
ثم أخبر ان ما قدره عليهم لا يدفع بقوله من ذا الذي يعصمكم من الله أي يجيركم ويمنعكم منه إن أراد بكم سوءا وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء او اراد بكم رحمة وهي النصر والعافية والسلامة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي لا يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله فيهم
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور اعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير اولئك لم يؤمنوا فأحبط الله اعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب (6/363)
يودوا لو انهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما
قوله تعالى قد يعلم الله المعوقين منكم في سبب نزولها قولان
احدهما ان رجلا انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاحزاب فوجد أخاه لأمه وابيه وعنده شواء ونبيذ فقال له انت هاهنا ورسول الله بين الرماح والسيوف فقال هلم إلي لقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال له كذبت والذي يحلف به اما والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمرك فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخبره فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله يسيرا هذا قول ابن زيد
والثاني أن عبد الله بن ابي ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له ويحك اجلس فلا تخرج ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فانا ننتظركم يثبطونهم عن القتال وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم فاذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
والمعوق المثبط تقول عاقني فلان واعتاقني وعوقني إذا (6/364)
منعك عن الوجه الذي تريده وكان المنافقون يعوقون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نصاره
قوله تعالى والقائلين لإخوانهم هلم إلينا فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد
والثاني أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال قاله مقاتل
والثالث أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله ص حكاه الماوردي
قوله تعالى ولا يأتون البأس أي لا يحضرون القتال في سبيل الله إلا قليلا للرياء والسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا
قوله تعالى أشحة عليكم قال الزجاج هو منصوب على الحال المعنى لا يأتون الحرب إلا تعذيرا بخلاء عليكم
وللمفسرين فيما شحوا به اربعة أقوال أحدها أشحة بالخير قاله مجاهد (6/365)
والثاني بالنفقة في سبيل الله والثالث بالغنيمة رويا عن قتادة وقال الزجاج بالظفر والغنيمة والرابع بالقتال معكم حكاه الماوردي
ثم أخبر عن جبنهم فقال فإذا جاء الخوف أي إذا حضر القتال رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت وهو الذي دنا موته وغشيته أسبابه فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف فكذلك هؤلاء لأنهم يخافون القتل
فاذا ذهب الخوف سلقوكم قال الفراء آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة حداد سليطة ذربة والعرب تقول صلقوكم بالصاد ولا يجوز في القراءة وهذا قول الفراء وقد قرأ بالصاد أبي بن كعب وأبو الجوزاء وأبو عمران الجوني وابن ابي عبلة في آخرين وقال الزجاج معنى سلقوكم خاطبوكم اشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال خطيب مسلاق إذا كان بليغا في خطبته أشحة على الخير أي خاطبوكم وهم أشحة على المال والغنيمة قال قتادة إذا كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم يقولون أعطونا فلستم أحق بها منا فاما عند الباس فأجبن قوم وأخذله للحق وأما عند الغنيمة فأشح قوم
وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الغنيمة والثاني على المال أن ينفقوه في سبيل الله تعالى والثالث على رسول الله ص بظفره (6/366)
قوله تعالى أولئك لم يؤمنوا أي هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين لنفاقهم فأحبط الله أعمالهم قال مقاتل أبطل جهادهم لانه لم يكن في إيمان وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا
ثم أخبر عنهم بما يدل على جبنهم فقال يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب أي يرجعوا إليهم كرة ثانية للقتال يودوا لو انهم بادون في الأعراب أي يتمنوا لو كانوا في بادية الاعراب من خوفهم يسألون عن أنبائكم أي ودوا لو انهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم فيقولون ما فعل محمد وأصحابه ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا وقيل بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم ولو كانوا فيكم أي لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتلوا إلا قليلا فيه قولان
أحدهما إلا رميا بالحجارة قاله ابن السائب
والثاني إلا رياء من غير احتساب قاله مقاتل
ثم عاب من تخلف بالمدينة بقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة والمعنى لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم احد حتى كسرت رباعيته وشج جبينه وقتل عمه وآساكم مع ذلك بنفسه
وقرأ عاصم أسوة بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان قال الفراء أهل الحجاز وأسد يقولون إسوة بالكسر وتميم وبعض قيس يقولون أسوة بالضم وخص الله تعالى بهذه الأسوة المؤمنين فقال لمن كان يرجو الله واليوم الآخر والمعنى أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان (6/367)
أحدهما يرجو ما عنده من الثواب والنعيم قاله ابن عباس والثاني يخشى الله ويخشى البعث قاله مقاتل
قوله تعالى وذكر الله كثيرا أي ذكرا كثيرا لأن ذاكر الله متبع لأوامره بخلاف الغافل عنه
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وفي ذلك الوعد قولان
أحدهما أنه قوله ام حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية البقرة فلما عاينوا البلاء يومئذ قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله قاله ابن عباس وقتادة في آخرين
والثاني ان رسول الله ص وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة ذكره الماوردي وغيره
قوله تعالى وما زادهم يعني ما رأوه إلا إيمانا بوعد الله وتسليما لأمره من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم (6/368)
إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شئ قديرا
قوله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه اختلفوا فيمن نزلت على قولين
احدهما أنها نزلت في أنس بن النضر قاله انس بن مالك وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فلما قدم قال غبت عن اول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه و سلم المشركين لئن اشهدني الله عز و جل قتالا ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف الناس فقال اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين ثم (6/369)
مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون احد واها لريح الجنة قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قد مثلوا به قال فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه قال أنس فكنا نقول أنزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فيه وفي أصحابه
والثاني أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله روى النزال بن سبرة عن علي عليه السلام أنهم قالوا له حدثنا عن طلحة قال ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى فمنهم من قضى نحبه لا حساب عليه فيما يستقبل (6/370)
وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة وأولها في أنس قال ابن جرير ومعنى الآية وفوا لله بما عاهدوه عليه وفي ذلك أربعة أقوال
أحدها أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنصرة
والثاني أنهم قوم لم يشهدوا بدرا فعاهدوا الله ان لا يتأخروا بعدها
والثالث أنهم عاهدوا أن لا يفروا إذا لاقوا فصدقوا
والرابع أنهم عاهدوا على البأساء والضراء وحين البأس
قوله تعالى فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فيه ثلاثة أقوال
أحدها فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت قاله ابن عباس
والثاني فمنهم من قضى عهده قتل او عاش ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال او صدق لقاء قاله مجاهد
والثالث فمنهم من قضى نذره الذي كان نذر قاله ابو عبيدة فيكون النحب على القول الأول الأجل وعلى الثاني العهد وعلى الثالث النذر وقال ابن قتيبة قضى نحبه أي قتل وأصل النحب النذر كأن قوما نذورا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله عليهم فقتلوا فقيل فلان قضى نحبه أي قتل فاستعير النحب مكان الأجل لان الأجل وقع بالنحب وكان النحب سببا له ومنه قيل للعطية من لأن من أعطى فقد من قال ابن عباس ممن قضى (6/371)
نحبه حمزة بن عبد المطلب وانس بن النضر وأصحابه وقال ابن إسحاق فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد ومنهم من ينتظر ما وعد الله من نصره أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وما بدلوا أي ما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم عليه كما غير المنافقون
قوله تعالى ليجزي الله الصادقين بصدقهم وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ويعذب المنافقين بنقض العهد إن شاء وهو ان يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم في الدنيا فيخرجهم من النفاق إلى الإيمان فيغفر لهم
ورد الله الذين كفروا يعني الأحزاب صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين بغيظهم أي لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيرا أي لم يظفروا بالمسلمين وكان ذلك عندهم خيرا فخوطبوا على استعمالهم وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والملائكة وأنزل الذين ظاهروهم (6/372)
أي عاونوا الأحزاب وهم بنو قريظة وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد وصاروا مع المشركين يدا واحدة
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل العلم بالسيرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انصرف من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل فتبدى له جبريل فقال ألا أراك وضعت اللأمة وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فاني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم فدعا عليا فدفع لواءه إليه وبعث بلالا فنادى في الناس إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة ثم سار إليهم فحاصرهم خمسة عشر يوما أشد الحصار وقيل عشرين ليلة فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر فأرسله إليهم فشاوروه في أمرهم فأشار إليهم بيده إنه الذبح ثم ندم فقال خنت الله ورسوله فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله (6/373)
توبته ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بهم رسول الله محمد ابن مسلمة وكتفوا ونحوا ناحية وجعل النساء والذرية ناحية وكلمت الأوس رسول الله صلى الله عليه و سلم ان يهبهم لهم وكانوا حلفاءهم فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ هكذا ذكر محمد بن سعد وحكى غيره أنهم نزلوا اولا على حكم سعد بن معاذ وكان بينهم وبين قومه حلف فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة فحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه المواسي وتسبى النساء والذراري وتقسم الأموال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة ارقعة وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بهم فأدخلوا المدينة وحفر لهم أخدود في السوق وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه أصحابه وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة
قوله تعالى من صياصيهم قال ابن عباس وقتادة من حصونهم قال ابن قتيبة وأصل الصياصي قرون البقر لأنها تمتنع بها وتدفع عن أنفسها (6/374)
فقيل للحصون الصياصي لأنها تمنع وقال الزجاج كل قرن صيصية وصيصية الديك شوكة يتحصن بها
قوله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب أي ألقى فيها الخوف فريقا تقتلون وهم المقاتلة وتأسرون وقرأ ابن يعمر وابن أبي عبلة وتأسرون برفع السين فريقا وهم النساء والذراري وأورثكم ارضهم وديارهم يعني عقارهم ونخيلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء وأرضا لم تطئوها أي لم تطؤوها باقدامكم بعد وهي مما سنفتحها عليكم وفيها اربعة أقوال
أحدها أنها فارس والروم قاله الحسن والثاني ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة قاله عكرمة والثالث مكة قاله قتادة والرابع خيبر قاله ابن زيد وابن السائب وابن اسحاق ومقاتل
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها (6/375)
مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
قوله تعالى يا أيها النبي قل لازواجك الآية ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فآلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهن شهرا وصعد إلى غرفة له فمكث فيها فنزلت هذه الآية وكن أزواجه يومئذ تسعا عائشة وحفصة وام حبيبة وسودة وام سلمة وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض الآية عليهن فبدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ثم قالت يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال إن الله بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب الحدائق وفي المغنى بطوله (6/376)
وفي ما خيرهن فيه قولان
أحدهما أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه هذا قول عائشة عليها السلام
والثاني أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن أو اختيار الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق قاله الحسن وقتادة
وفي سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال
أحدها أنهن سألنه زيادة النفقة والثاني أنهن آذينه بالغيرة والقولان مشهوران في التفسير
والثالث أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة أمر بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله حكاه أبو القاسم الصيمري
والمراد بقوله أمتعكن متعة الطلاق والمراد بالسراح الطلاق (6/377)
وقد ذكرنا ذلك في البقرة والمراد بالدار الآخرة الجنة والمحسنات المؤثرات للآخرة
قال المفسرون فلما اخترنه أثابهن الله عز و جل ثلاثة أشياء أحدها التفضيل على سائر النساء بقوله لستن كأحد من النساء والثاني أن جعلهن امهات المؤمنين والثالث أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله لا يحل لك النساء من بعد الأحزاب وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى
قوله تعالى من يأت منكن بفاحشة مبينة أي بمعصية ظاهرة قال ابن عباس يعني النشوز وسوء الخلق يضاعف لها العذاب ضعفين أي يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين كما انها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين وإنما ضوعف عقابهن لأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة مالا يشاهد غيرهن فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب ولان في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه و سلم وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم أكبر من جرم غيره
قوله تعالى وكان ذلك على الله يسيرا أي وكان عذابها على الله هينا ومن يقنت أي تطع وأعتدنا قد سبق بيانه النساء والرزق الكريم الحسن وهو الجنة
ثم اظهر فضيلتهن على النساء بقوله لستن كأحد من النساء قال الزجاج لم يقل كواحدة من النساء لان أحدا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة قال ابن عباس يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم إن اتقيتن فشرط عليهن التقوى بيانا ان فضيلتهن إنما تكون بالتقوى لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه و سلم (6/378)
قوله تعالى فلا تخضعن بالقول أي لا تلن بالكلام فيطمع الذي في قلبه مرض أي فجور والمعنى لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة
وقلن قولا معروفا أي صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا
وقرن في بيوتكن قرأ نافع وعاصم إلا أبان وهبيرة والوليد بن مسلم عن ابن عامر وقرن بفتح القاف وقرأ الباقون بكسرها قال الفراء من قرأ بالفتح فهو من قررت في المكان فخففت كما قال ظلت عليه عاكفا طه ومن قرأ بالكسر فمن الوقار يقال قر في منزلك وقال ابن قتيبة من قرأ بالكسر فهو من الوقار يقال وقر في منزله يقر وقورا ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل واقررن باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة مثله إلا أنهما كسرا الراء الأولى
قال المفسرون ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وان لا يخرجن
قوله تعالى ولا تبرجن قال ابو عبيدة التبرج أن يبرزن (6/379)
محاسنهن وقال الزجاج التبرج إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل
وفي الجاهلية الأولى أربعة اقوال
أحدها أنها كانت بين إدريس ونوح وكانت ألف سنة رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام وهو قول عائشة رضي الله عنها
والثالث بين نوح وآدم قاله الحكم
والرابع ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام قاله الشعبي قال الزجاج وإنما قيل الأولى لأن كل متقدم أول وكل متقدمة أولى فتأويله أنهم تقدموا أمة محمد صلى الله عليه و سلم
وفي صفة تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال
أحدها أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال فهو التبرج قاله مجاهد والثاني أنها مشية فيها تكسر وتغنج قاله قتادة والثالث أنه التبختر قاله أبن أبي نجيح والرابع أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره وذلك في زمن إبراهيم عليه السلام (6/380)
قاله الكلبي والخامس أنها كانت تلقي عن رأسها ولا تشده فيرى قرطها وقلائدها قاله مقاتل أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال لا تواري جسدها حكاه الفراء
قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس وفيه للمفسرين خمسة أقوال
أحدها الشرك قاله الحسن والثاني الإثم قاله السدي والثالث الشيطان قاله ابن زيد والرابع الشك والخامس المعاصي حكاهما الماوردي قال الزجاج الرجس كل مستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة
ونصب أهل البيت على وجهين أحدهما على معنى أعني أهل البيت والثاني على النداء فالمعنى يا أهل البيت
وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة اقوال
أحدها أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهن في بيته رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عكرمة وابن السائب ومقاتل ويؤكذ هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق وبعده متعلق بأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى أرباب هذا القول اعتراض وهو ان جمع المؤنث بالنون فكيف قيل عنكم ويطهركم فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهن فغلب المذكر
والثاني أنه خاص في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين قاله ابو سعيد الخدري وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك
والثالث أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأزواجه قاله الضحاك (6/381)
وحكى الزجاج أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم والرجال الذين هم آله قال واللغة تدل على انها للنساء والرجال جميعا لقوله عنكم بالميم ولو كانت للنساء لم يجز إلا عنكن ويطهركن
قوله تعالى ويطهركم تطهيرا فيه ثلاثة أقوال
أحدها من الشرك قاله مجاهد والثاني من السوء قاله قتادة والثالث من الإثم قاله السدي ومقاتل
قوله تعالى واذكرن فيه قولان
أحدهما أنه تذكيرلهن بالنعم
والثاني أنه أمر لهن بحفظ ذلك فمعنى واذكرن واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله يعني القرآن (6/382)
وفي الحكمة قولان أحدهما أنها السنة قاله قتادة والثاني الامر والنهي قاله مقاتل
قوله تعالى إن الله كان لطيفا أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما
قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم قلن ما له ليس يذكر إلا المؤمنون ولا تذكر المؤمنات بشئ فنزلت هذه الآية رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والثاني أن أم سلمة قالت يا رسول الله يذكر الرجال ولا ذكر فنزلت هذه الآية ونزل قوله لا أضيع عمل عامل منكم آل عمران قاله مجاهد (6/383)
والثالث أن أم عمارة الأنصارية قالت قلت يارسول الله بأبي وأمي ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء فنزلت هذه الآية قاله عكرمة وذكر مقاتل بن سليمان أن أم سلمة وأم عمارة قالتا ذلك فنزلت هذه الآية في قولهما
والرابع أن الله تعالى لما ذكر أزواج رسوله دخل النساء المسلمات عليهن فقلن ذكرتن ولم نذكر ولو كان فينا خير ذكرنا فنزلت هذه الآية قاله قتاده
والخامس أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت هل نزل فينا شئ من القرآن قلن لا فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال ومم ذاك قالت لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فنزلت هذه الآية ذكره مقاتل بن حيان
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع البقرة الأحزاب آل عمران البقرة يوسف البقرة الأنبياء آل عمران وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه (6/384)
أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة الآية في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فقالت لا أرضاه ولست بناكحته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بلى فانكحيه فاني قد رضيته لك فأبت فنزلت هذه الآية وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب فلما نزلت الآية رضيا وسلما قال مقاتل والمراد بالمؤمن عبد الله بن جحش والمؤمنة زينب بنت جحش
والثاني أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول أمرأة هاجرت فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد قبلتك وزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله فزوجها عبده فنزلت هذه الآية قاله ابن زيد والاول عند المفسرين أصح (6/385)
قوله تعالى إذا قضى الله ورسوله أمرا أي حكما بذلك أن تكون وقرأ أهل الكوفة أن يكون بالياء لهم الخيرة وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء الخيرة باسكان الياء فجمع في الكناية في قوله لهم لان المراد جميع المؤمنين والمؤمنات والخيرة الاختيار فأعلم الله عز و جل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله فلما زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم زيدا مكثت عنده حينا ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى منزل زيد فنظر إليها وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش فوقعت في قلبه فقال سبحان مقلب القلوب وفطن زيد فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها وقال بعضهم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم منزل زيد فرأى زينب فقال سبحان مقلب القلوب فسمعت ذلك زينب فلما جاء زيد ذكرت له ذلك فعلم أنها قد وقعت في نفسه فأتاه فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها وقال ابن زيد جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى باب زيد وعلى الباب ستر من شعر فرفعت الريح الستر فرأى زينب فلما وقعت في قلبه كرهت إلى الآخر فجاء فقال يا رسول الله أريد فراقها فقال له اتق الله وقال مقاتل لما فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فان فيها كبرا فهي تعظم علي وتؤذيني بلسانها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أمسك عليك زوجك واتق الله ثم إن زيدا طلقها (6/386)
بعد ذلك فأنزل الله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه بالاسلام وأنعمت عليه بالعتق
قوله تعالى واتق الله أي في أمرها فلا تطلقها وتخفي في نفسك أي تسر وتضمر في قلبك ما الله مبديه أي مظهره وفيه أربعة اقوال
أحدها حبها قاله ابن عباس
والثاني عهد عهده الله إليه أن زينب ستكون له زوجة فلما أتى زيد يشكوها قال له أمسك عليك زوجك واتق الله وأخفى في نفسه ما الله مبديه قاله علي بن الحسين
والثالث إيثاره لطلاقها قاله قتادة وابن جريج ومقاتل
والرابع أن الذي أخفاه إن طلقها زيد تزوجتها قاله ابن زيد
قوله تعالى وتخشى الناس فيه قولان
أحدهما أنه خشي اليهود أن يقولوا تزوج محمد امرأة ابنه رواه عطاء عن ابن عباس (6/387)
والثاني أنه خشي لوم الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها
قوله تعالى والله احق ان تخشاه أي أولى أن تخشى في كل الأحوال وليس المراد أنه لم يخش في هذه الحال ولكن لما كان لخشيته بالخلق نوع تعلق قيل له الله احق أن تخشى منهم قالت عائشة ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ولو كتم شيئا من الوحي لكتمها فصل
وقد ذهب بعض العلماء إلى تنزيه رسول الله من حبها وإيثاره طلاقها وإن كان ذلك شائعا في التفسير قالوا وإنما عوتب في هذه القصة على شيئين (6/388)
أحدهما أنه أخبر بأنها ستكون زوجة له فقال لزيد أمسك عليك زوجك فكتم ما أخبره الله به من أمرها حياء من زيد ان يقول له إن زوجتك ستكون امرأتي وهذا يخرج على ما ذكرنا عن علي بن الحسين وقد نصره الثعلبي والواحدي
والثاني أنه لما رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها وأضمر أنه إن طلقها تزوجتها صلة لرحمها وإشفاقا عليها لانها كانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفاؤه حين قال لزيد أمسك عليك زوجك وأراد منه ان يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله هلا أومأت إلينا بقتله فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمه الله عليه
قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا قال الزجاج الوطر كل حاجة لك فيها همة فاذا بلغها البالغ قيل قد قضى وطره وقال غيره قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشئ ثم صار عبارة عن الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة والمعنى لما قضى زيد حاجته من نكاحها زوجناكها وإنما ذكر قضاء الوطر هاهنا ليبين أن امرأة المتبني تحل وإن وطئها وهو قوله لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا والمعنى زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته لكيلا يظن أن امرأة المتبني لا يحل نكاحها وروى مسلم في (6/390)
أفراده من حديث أنس بن مالك قال لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لزيد اذهب فاذكرها علي قال زيد فانطلقت فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل عليها بغير إذن
وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أجيز له التزويج بغير مهر ليخلص قصد زوجاته لله دون العوض وليخفف عنه وأجيز له التزويج بغير ولي لأنه مقطعوع بكفاءته وكذلك هو مستغن في نكاحه عن الشهود وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه و سلم وتقول زوجكن أهلوكن وزجني الله عز و جل ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان امر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما (6/391)
قوله تعالى ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له قال قتادة فيما أحل الله له من النساء
قوله تعالى سنة الله هي منصوبة على المصدر لأن معنى ما كان على النبي من حرج سن الله سنة واسعة لا حرج فيها والذين خلوا هم النبيون فالمعنى أن سنة الله في التوسعة على محمد فيما فرض له كسنته في الأنبياء الماضين قال ابن السائب هكذا سنة الله في الأنبياء كداود فانه كان له مائة امرأة وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية (6/392)
وكان أمر الله قدرا مقدورا أي قضاء مقضيا وقال ابن قتيبة سنة الله في الذين خلوا معناه لا حرج على احد فيما لم يحرم عليه
ثم اثنى الله على الأنبياء بقوله الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله أي لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أحل لهم وباقي الآية قد تقدم بيانه النساء
قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال المفسرون لما تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب قال الناس إن محمدا قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية والمعنى ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته ولكن رسول الله قال الزجاج من نصبه فالمعنى ولكن كان رسول الله وكان خاتم النبيين ومن رفعه فالمعنى ولكن هو رسول الله ومن قرأ خاتم بكسر التاء فمعناه وختم النبيين ومن فتحها فالمعنى آخر النبيين قال ابن عباس يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ولدا يكون بعده نبيا (6/393)
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما
قوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا قال مجاهد هو أن لا ينساه أبدا وقال ابن السائب يقال ذكرا كثيرا بالصلوات الخمس وقال مقاتل بن حيان هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال وقد روى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يقول ربكم أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه (6/396)
قوله تعالى وسبحوه بكرة وأصيلا قال ابو عبيدة الأصيل ما بين العصر إلى الليل وللمفسرين في هذا التسبيح قولان
أحدهما أنه الصلاة واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر
واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال أحدها أنها صلاة العصر (6/397)
قاله أبو العالية وقتادة والثاني أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قاله ابن السائب والثالث أنها الظهر والعصر قاله مقاتل
والقول الثاني أنه التسبيح باللسان وهو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قاله مجاهد
قوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته في صلاة الله علينا خمسة أقوال
أحدها أنها رحمته قاله الحسن والثاني مغفرته قاله سعيد بن جبير والثالث ثناؤه قاله ابو العالية والرابع كرامته قاله سفيان والخامس بركته قاله ابو عبيدة
وفي صلاة الملائكة قولان
أحدهما أنها دعاؤهم قاله أبو العالية والثاني استغفارهم قاله مقاتل
وفي الظلمات والنور ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها الضلالة والهدى قاله ابن زيد والثاني الإيمان والكفر قاله مقاتل والثالث الجنة والنار حكاه الماوردي
قوله تعالى تحيتهم الهاء والميم كناية عن المؤمنين
فأما الهاء في قوله يلقونه ففيها قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله عز و جل ثم فيه ثلاثة أقوال احدها أن معناه تحيتهم من الله يوم يلقونه سلام وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يسلم على أهل الجنة والثاني تحيتهم من الملائكة يوم يلقون الله سلام (6/398)
قاله مقاتل وقال أبو حمزة الثمالي تسلم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم والثالث تحيتهم بينهم يوم يلقون ربهم سلام وهو ان يحيي بعضهم بعضا بالسلام ذكره أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أن الهاء ترجع إلى ملك الموت وقد سبق ذكره في ذكر الملائكة قال ابن مسعود إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له ربك يقرئك السلام وقال البراء بن عازب في قوله تحيتهم يوم يلقونه قال ملك الموت ليس مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه فأما الأجر الكريم فهو الحسن في الجنة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (6/399)
قوله تعالى يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا أي على أمتك بالبلاغ ومبشرا بالجنة لمن صدقك ونذيرا أي منذرا بالنار لمن كذبك وداعيا إلى الله أي إلى توحيده وطاعته باذنه أي بأمره لا أنك فعلته من تلقاء نفسك وسراجا منيرا أي أنت لمن اتبعك سراجا أي كالسراج المضئ في الظلمة يهتدي به
قوله تعالى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وهو الجنة قال جابر بن عبد الله لما أنزل قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات الفتح قال الصحابة هنيئا لك يا رسول الله فما لنا فنزلت هذه الآية
قوله تعالى ولا تطع الكافرين قد سبق في أول السورة
قوله تعالى ودع أذاهم قال العلماء معناه لا تجازهم عليه وتوكل على الله في كفاية شرهم وهذا منسوخ بآية السيف (6/400)
يا أيها الذين آمنوا إذ نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا
قوله تعالى إذ نكحتم المؤمنات قال الزجاج معنى نكحتم (6/401)
تزوجتم ومعنى تمسوهن تقربوهن وقرأ حمزة والكسائي تماسوه بألف
قوله تعالى فما لكم عليهن من عدة تعتدونها أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عدة وعندنا أن الخلوة توجب العدة وتقرر الصداق خلافا للشافعي
قوله فمتعوهن المراد به من لم يسم لها مهرا لقوله في البقرة أو تفرضوا لهن فريضة وقد بينا المتعة هنالك وكان سعيد بن المسيب وقتادة يقولان هذه الآية منسوخة بقوله فنصف ما فرضتم البقرة
قوله تعالى وسرحوهن سراحا جميلا أي من غير إضرار وقال قتادة هو طلاقها طاهرا من غير جماع وقال القاضي أبو يعلي الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق لانه قد ذكر الطلاق وإنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تخليتها من يده وحباله فصل
واختلف العلماء فيمن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها فعندنا أنها لا تطلق وهو قول ابن عباس وعائشة والشافعي واستدل أصحابنا (6/402)
بهذه الآية وأنه جعل الطلاق بعد النكاح وقال سماك بن الفضل النكاح عقدة والطلاق يحلها فكيف يحل عقدة لم تعقد فجعل بهذه الكلمة قاضيا على صنعاء وقال ابو حنيفة ينعقد الطلاق فاذا وجد النكاح وقع مالك ينعقد ذلك في خصوص النساء وهو إذا كان في امرأة بعينها ولا ينعقد في عمومهن فأما إذا قال إن ملكت فلانا فهو حر ففيه عن احمد روايتان يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ترجى من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شئ رقيبا
قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلها له فقال أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي مهورهن وهن اللواتي تزوجتهن بصداق وما ملكت يمينك يعني الجواري (6/403)
مما أفاء الله عليك أي رد عليك من الكفار كصفية وجويرية فانه أعتقهما وتزوجهما وبنات عمك وبنات عماتك يعني نساء قريش وبنات خالك وبنات خالاتك يعني نساء بني زهرة اللاتي هاجرن معك إلى المدينة قال القاضي أبو يعلى وظاهر هذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحل له نكاحها وقالت أم هانئ خطبني رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعتذرت إليه بعذر ثم أنزل الله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله اللاتي هاجرن معك قالت فلم أكن لاحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء وهذا يدل من مذهبها أن تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر من لم تهاجر
وذكر بعض المفسرين أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ ولم يذكر ناسخة وحكى الماوردي في ذلك قولين أحدهما أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق والثاني أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات (6/404)
قوله تعالى وامرأة مؤمنة أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها لك إن اراد النبي أن يستنكحها أي إن آثر نكاحها خالصة لك أي خاصة قال الزجاج وإنما قال إن وهبت نفسها للنبي ولم يقل لك لأنه لو قال لك جاز أن يتوهم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جاز في بنات العم وبنات العمات وخالصة منصوب على الحال
وللمفسرين في معنى خالصة ثلاثة أقوال
أحدها ان المراة إذا هبت له نفسها لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب
والثاني أن له أن ينكحها بلا ولي ولا مهر دون غيره قاله قتادة
والثالث خالصة لك ان تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين وهذا قول الشافعي وأحمد
وفي المرأة التي وهبت له نفسها أقوال أحدها أم شريك والثاني خولة بنت حكيم ولم يدخل بواحدة منهما وذكروا أن ليلى بنت الخطيم وهبت (6/405)
نفسها له فلم يقبلها قال ابن عباس لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة وهبت نفسها له وقد حكي عن ابن عباس ان التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث وعن الشعبي أنها زينب بنت خزيمة والأول اصح
قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم على المؤمنين غيرك في أزواجهم وفيه قولان
أحدهما أن لا يجاوز الرجل اربع نسوة قاله مجاهد
والثاني أن لا يتزوج الرجل المرأة ألا بولي وشاهدين وصداق قاله قتادة قوله تعالى وما ملكت أيمانهم أي وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور
قوله تعالى لكيلا يكون عليك حرج هذا فيه تقديم المعنى (6/406)
أحللنا لك أزواجك إلى قوله خالصة لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرج
قوله تعالى ترجي من تشاء منهن قرأ ابن كثير وأبوعمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ترجئ مهموزا وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بغير همز وسبب نزولها أنه لما نزلت آية التخيير المتقدمة أشفقن أن يطلقن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية قاله ابو رزين
وفي معنى الآية اربعة أقوال
أحدها تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء من نسائك قاله ابن عباس
والثاني تترك نكاح من تشاء وتنكح من نساء أمتك من تشاء قاله الحسن
والثالث تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق وتأتي من تشاء فلا تعز لها قاله مجاهد والرابع تقبل من تشاء من المؤمنات اللواتي يهبن أنفسهن وتترك من تشاء قاله الشعبي وعكرمة
وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم مصاحبة نسائه كيف شاء من غير إيجاب القسمة عليه والتسوية بينهن غير أنه كان يسوي (6/407)
بينهن وقال الزهري ما علمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أرجأ منهن أحدا ولقد آواهن كلهن حتى مات وقال ابو رزين آوى عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء وأرجأ سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وكان يقسم لهن ما شاء وكان أراد فراقهن فقلن اقسم لنا ما شئت ودعنا على حالنا وقال قوم إنما أرجأ سودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة فتوفي وهو يقسم لثمان
قوله تعالى وتؤوي أي تضم ومن ابتغيت ممن عزلت أي إذا أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلت من القسمة فلا جناح عليك أي لا ميل عليك بلوم ولا عتب ذلك أدنى أن تقر أعينهن أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن والمعنى إنهن إذا علمن أن هذا أمر من الله كان أطيب لأنفسهن وقرأ ابن محيصن وأبو عمران الجوني أن تقر بضم التاء وكسر القاف أعينهن بنصب النون (6/408)
ويرضين بما آتيتهن كلهن أي بما أعطيتهن من تقريب وتأخير والله يعلم ما في قلوبكم من الميل إلى بعضهن والمعنى إنما خيرناك تسهيلا عليك
قوله تعالى لا يحل لك النساء كلهم قرأ لا يحل بالياء غير أبي عمرو فانه قرأ بالتاء والتأنيث ليس بحقيقي إنما هو تأنيث الجمع فالقراءتان حسنتان
وفي قوله من بعد ثلاثة أقوال
أحدها من بعد نسائك اللواتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله قاله ابن عباس والحسن وقتادة في آخرين وهن التسع فصار مقصورا عليهن ممنوعا من غيرهن وذكر أهل العلم أن طلاقه لحفصة وعزمه على طلاق سودة كان قبل التخيير (6/409)
والثاني من بعد الذي أحللنا لك فكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله خالصة لك قاله أبي بن كعب والضحاك
والثالث لا تحل لك النساء غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات وتحل لك المسلمات قاله مجاهد
قوله تعالى ولا أن تبدل بهن فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن تطلق زوجاتك وتستبدل بهن سواهن قاله الضحاك
والثاني أن تبدل بالمسلمات المشركات قاله مجاهد في آخرين والثالث أن تعطي الرجل زوجتك وتأخذ زوجته وهذه كانت عادة للجاهلية قاله أبو هريرة وابن زيد
قوله تعالى إلا ما ملكت يمينك يعني الإماء
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها إلا أن تملك بالسبي فيحل لك وطؤها وإن كانت من غير الصنف الذي أحللته لك وإلى هذا أومأ أبي بن كعب في آخرين
والثاني إلا أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين قاله ابن عباس ومجاهد (6/410)
والثالث إلا أن تبدل أمتك بامة غيرك قاله ابن زيد
قال أبو سليمان الدمشقي وهذه الأقوال جائزة إلا أنا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يدن منها حتى اسلمت
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها منسوخة بقوله إنا أحللنا لك أزواجك وهذا مروي عن علي وابن عباس وعائشة وام سلمة وعلي بن الحسين والضحاك وقالت عائشة ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أحل له النساء قال ابو سليمان الدمشقي يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات
والقول الثاني أنها محكمة ثم فيها قولان
أحدهما أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخترنه بأن قصره عليهن فلم يحل له غيرهن ولم ينسخ هذا قاله الحسن وابن سيرين وأبو أمامة بن سهل وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
والثاني أن المراد بالنساء ها هنا الكافرات ولم يجز له ان يتزوج كافرة قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد (6/411)
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية في سبب نزولها ستة أقوال (6/412)
القول الأول أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما تزوج زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام وقعد ثلاثة فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل فاذا القوم جلوس فرجع وإنهم قاموا فانطلقوا وجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل وذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى هذه الآية
والثاني أن ناسا من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه و سلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتأذى بهم فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثالث أن عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل (6/413)
عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب أخرجه البخاري من حديث أنس وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر كلاهما عن عمر
والرابع ان عمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجاب فقالت زينب يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فنزلت الآية قاله ابن مسعود
والخامس أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم احجب نساءك فلا يفعل فخرجت سودة ليلة فقال عمر قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فنزل الحجاب رواه عكرمة عن عائشة (6/414)
والسادس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يطعم معه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم فكره النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فنزلت آية الحجاب قاله مجاهد
قوله تعالى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام أي ان تدعوا إليه غير ناظرين أي منتظرين إناه قال الزجاج موضع أن نصب والمعنى إلا بأن يؤذن لكم أو لأن يؤذن وغير منصوبة على الحال والمعنى إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين وإناه نضجه وبلوغه
قوله تعالى فانتشروا أي فاخرجوا
قوله تعالى ولا مستأنسين لحديث المعنى ولا تدخلوا مستأنسين أي طالبي الانس لحديث وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلا وكان ذلك يؤذيه ويستحيي أن يقول لهم قوموا فعلمهم الله الأدب فذلك قوله والله لا يستحيي من الحق أي لا يترك ان يبين لكم ما هو الحق وإذا سألتموهن متاعا أي شيئا يستمتع به وينتفع به من آلة المنزل فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر أي سؤالكم إياهن المتاع من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الريبة (6/415)
قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله أي ما كان لكم أذاه في شئ من الأشياء قال ابو عبيدة وكان من حروف الزوائد والمعنى ما لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا روى عطاء عن ابن عباس قال كان رجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لو توفي رسول الله ص - تزوجت عائشة فأنزل الله ما أنزل وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله
قوله تعالى إن ذلكم يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عند الله عظيما أي ذنبا عظيم العقوبة (6/416)
إن تبدوا شيئا أو تخفوه فان الله كان بكل شئ عليما لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء أخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيدا
قوله تعالى إن تبدوا شيئا أو تخفوه قيل إنها نزلت فيما أبداه القائل لئن مات رسول الله لأتزوجن عائشة
قوله تعالى لا جناح عليهن في آبائهن قال المفسرون لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله تعالى لا جناح عليهن في آبائهن أي في أن يروهن ولا يحتجبن عنهم إلى قوله و لا نسائهن قال ابن عباس يعني نساء المؤمنين لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رأينهن
فإن قيل ما بال العم والخال لم يذكرا فعنه جوابان (6/417)
أحدهما لأن المرأة تحل لأبنائهما فكره أن تضع خمارها عند عمها وخالها لأنهما ينعتانها لأبنائهما هذا قول الشعبي وعكرمة
والثاني لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يذكرا قاله الزجاج
فأما قوله ولا ما ملكت أيمانهن ففيه قولان
أحدهما أنه أراد الإماء دون العبيد قاله سعيد بن المسيب
والثاني انه عام في العبيد والإماء قال ابن زيد كن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحتجبن من المماليك وقد سبق بيان هذا في سورة النور
قوله تعالى واتقين الله أي أن يراكن غير هؤلاء إن الله كان على كل شئ شهيدا أي لم يغب عنه شئ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدمت في هذه السورة الأحزاب
قوله تعالى صلوا عليه قال كعب بن عجرة قلنا يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (6/418)
أخرجه البخاري ومسلم ومعنى قوله قد علمنا التسليم عليك ما يقال في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم سلموا لما يأمركم به
قوله تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (6/419)
أحدها في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اتخذ صفية بنت حيي قاله ابن عباس
والثاني نزلت في المصورين قاله عكرمة
والثالث في المشركين واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد وكذبوا رسوله وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا مجنون شاعر ساحر كذاب ومعنى أذى الله وصفه بما هو منزه عنه وعصيانه ولعنهم في الدنيا بالقتل والجلاء وفي الآخرة بالنار
قوله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات في سبب نزولها أربعة أقوال (6/420)
أحدها أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرجة فضربها وكف ما رأى من زينتها فذهبت إلى أهلها تشكو فخرجوا إليه فآذوه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها وإنما كانوا يؤذون الإماء غير أنه لم تكن الامة تعرف من الحرة فشكون ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية قاله السدي
والثالث أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك قاله الضحاك
والرابع ان ناسا من المنافقين آذوا علي بن أبي طالب فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
قال المفسرون ومعنى الآية يرمونهم بما ليس فيهم يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما لئن لم ينته المنافقون والذين في (6/421)
قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك الآية سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون النساء
إذا خرجن بالليل فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا هذه حرة وإذا رأوها بغير قناع قالوا أمة فآذوها فنزلت هذه الآية قاله السدي
قوله تعالى يدنين عليهن من جلابيبهن قال ابن قتيبة يلبسن الأردية وقال غيره يغطين رؤوسهن ووجوهن ليعلم أنهن حرائر ذلك أدنى أي أحرى وأقرب أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين
قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون أي عن نفاقهم والذين في قلوبهم مرض أي فجور وهم الزناة والمرجفون في المدينة بالكذب والباطل يقولون أتاكم العدو وقتلت سراياكم وهزمت لنغرينك بهم أي لنسلطنك عليهم بأن نأمرك بقتالهم قال المفسرون وقد أغري بهم فقيل له (6/422)
جاهد الكفار والمنافقين التوبة التحريم وقال يوم الجمعة اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق قم يا فلان فانك منافق ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة إلا قليلا حتى يهلكوا ملعونين منصوب على الحال أي لا يجاورونك إلا وهم ملعونون أينما ثقفوا أي وجدوا وأدركوا أخذوا وقتلوا تقتيلا معنى الكلام الأمر أي هذا الحكم فيهم سنة الله أي سن في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم ان يفعل بهم هذا
يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا
قوله تعالى يسألك الناس عن الساعة قال عروة الذي سأله عنها عتبة بن ربيعة
قوله تعالى وما يدريك أي أي شئ يعلمك امر الساعة ومتى تكون والمعنى أنت لا تعرف ذلك ثم قال لعل الساعة تكون قريبا
فان قيل هلا قال قريبة فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه أراد الظرف ولو أراد صفة الساعة بعينها لقال قريبة (6/423)
هذا قول أبي عبيدة والثاني أن المعنى راجع إلى البعث أو إلى مجئ الساعة والثالث أن تأنيث الساعة غير حقيقي ذكرهما الزجاج وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه البقرة النساء الاسراء
فأما قوله وأطعنا الرسول فقال الزجاج الاختيار الوقف بألف لأن أواخر الآي وفواصلها تجري أواخر الأبيات وإنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلف ليدل بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تم وقد أشرنا إلى هذا في قوله الظنونا الأحزاب
قوله تعالى أطعنا سادتنا وكبراءنا أي أشرافنا وعظماءنا قال مقاتل هم المطعمون في غزوة بدر وكلهم قرأوا سادتنا على التوحيد غير ابن عامر فانه قرأ سادتنا على الجمع مع كسر التاء ووافقه المفضل ويعقوب إلا أبا حاتم فأضلونا السبيل أي عن سبيل الهدى ربنا آتهم يعنون السادة ضعفين أي ضعفي عذابنا والعنهم لعنا كبيرا قرأ ابن كثير ونافع وابوعمرو وحمزة والكسائي كثيرا بالثاء وقرأ عاصم وابن عامر كبيرا بالباء وقال ابو علي الكثرة أشبه بالمرار المتكررة من الكبر
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما
قوله تعالى لا تكونوا كالذين آذوا موسى أي لا توذوا محمدا كما آذى بنو إسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم (6/424)
و في ما آذوا به موسى أربعة أقوال
أحدها أنهم قالوا هو آدر فذهب يوما يغتسل ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فخرج في طلبه فرأوه فقالوا والله ما به من بأس والحديث مشهور في الصحاح كلها من حديث ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ذكرته باسناده في المغني والحدائق قال ابن قتيبة والآدر عظيم الخصيتين
والثاني أن موسى صعد الجبل ومعه هارون فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته فآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مرت به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات فبرأه الله من ذلك قاله علي عليه السلام (6/425)
والثالث أن قارون استأجر بغيا لتقذف موسى بنفسها على ملأ من بني إسرائيل فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك قاله ابو العالية
والرابع أنهم رموه بالسحر والجنون حكاه الماوردي
قوله تعالى وكان عند الله وجيها قال ابن عباس كان عند الله حظيا لا يسأله شيئا إلا أعطاه وقد بينا معنى الوجيه في آل عمران وقرأ ابن مسعود والاعمش وأبو حيوة وكان عبدا لله بالتنوين والباء وكسرا اللام
قوله تعالى وقولوا قولا سديدا فيه أربعة أقوال (6/426)
أحدها صوابا قاله ابن عباس والثاني صادقا قاله الحسن والثالث عدلا قاله السدي والرابع قصدا قاله ابن قتيبة
ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا إله إلا الله قاله ابن عباس وعكرمة والثاني أنه العدل في جميع الأقوال والأعمال قاله قتادة والثالث في شأن زينب وزيد ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ما لا يصلح قاله مقاتل بن حيان
قوله تعالى يصلح لكم أعمالكم فيه قولان
أحدهما يتقبل حسناتكم قاله ابن عباس والثاني يزكي أعمالكم قاله مقاتل
قوله تعالى فقد فاز فوزا عظيما أي نال الخير وظفر به إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فابين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى إنا عرضنا الامانة فيها قولان
أحدهما أنها الفرائض عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدتها أثابها وإن ضيعتها عذبها فكرهت ذلك وعرضها على آدم فقبلها بما فيها رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير عرضت الأمانة على آدم فقيل له تأخذها بما فيها إن أطعت غفرت لك وإن (6/427)
عصيت عذبتك فقال قبلت فما كان إلا كما بين صلاة العصر إلى أن غربت الشمس حتى أصاب الذنب وممن ذهب إلى أنها الفرائض قتادة والضحاك والجمهور
والثاني أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها روى السدي عن أشياخه أن آدم لما أراد الحج قال للسماء احفظي ولدي بالأمانة فأبت وقال للأرض فأبت وقال للجبال فأبت فقال لقابيل فقال نعم تذهب وتجئ وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه فذلك حيث يقول الله عز و جل إنا عرضنا الأمانة إلى قوله وحملها الإنسان وهو ابن آدم فما قام بها
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين ان آدم لما حضرته الوفاة قال يا رب من أستخلف من بعدي فقيل له اعرض خلافتك على جميع الخلق فعرضها فكل أباها غير ولده
وللمفسرين في المراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض قولان
أحدهما أن الله تعالى ركب العقل في هذه الأعيان وأفهمهن خطابه وأنطقهن بالجواب حين عرضها عليهن ولم يرد بقوله أبين المخالفة (6/428)
ولكن أبين للخشية والمخافة لأن العرض كان تخييرا لا إلزاما وأشفقن بمعنى خفن منها ان لا يؤذنها فيلحقن العقاب هذا قول الأكثرين
والثاني أن المراد بالآية إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن
وفي المراد بالإنسان أربعة أقوال أحدها آدم في قول الجمهور والثاني قابيل في قول السدي والثالث الكافر والمنافق قاله الحسن والرابع جميع الناس قاله ثعلب
قوله تعالى إنه كان ظلوما جهولا فيه ثلاثة أقوال
أحدها ظلوما لنفسه غرا بأمر ربه قاله ابن عباس والضحاك
والثاني ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة امره قاله مجاهد
والثالث ظلوما بمعصية ربه جهولا بعقاب الأمانة قاله ابن السائب
وذكر الزجاج في الآية وجها يخالف أكثر الأقوال وذكر أنه موافق للتفسير فقال إن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له فأما السماوات والأرض فقالتا أتينا طائعين فصلت وأعلمنا ان من الحجارة ما يهبط من خشية الله وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجدون لله فعرفنا الله تعالى أن السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة لأنها أدتها وأداؤها طاعة الله وترك معصيته وكل من خان الأمانة فقد احتملها وكذلك كل من أثم فقد احتمل الإثم وكذلك قال الحسن وحملها الإنسان أي الكافر والمنافق حملاها أي خانا ولم يطيعا فأما من أطاع فلا يقال كان ظلوما جهولا (6/429)
قوله تعالى ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات قال ابن قتيبة المعنى عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم الله ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم أي يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إن وقع منهم تقصير في الطاعات (6/430)
سورة سبأ
وهي مكية باجماعهم
وقال الضحاك وابن السائب ومقاتل فيها آية مدنية وهي قوله ويرى الذين أوتوا العلم سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الارض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم (6/431)
عذاب من رجز أليم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
قوله تعالى الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ملكا وخلقا وله الحمد في الآخرة يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة فيقولون الحمد لله الذي صدقنا وعده الحمد لله الذي هدانا لهذا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن
يعلم ما يلج في الأرض من بذر أو مطر أو كنز او غير ذلك وما يخرج منها من زرع ونبات وغير ذلك وما ينزل من السماء من مطر او رزق او ملك وما يعرج فيها من ملك او عمل أو دعاء
وقال الذين كفروا يعني منكري البعث لا تأتينا الساعة أي لا نبعث (6/432)
قوله تعالى عالم الغيب قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو عالم الغيب بكسر الميم وقرأ نافع وابن عامر برفعها وقرأ حمزة والكسائي علام الغيب بالكسر ولام قبل الألف قال ابو علي من كسر فعلى معنى الحمد لله عالم الغيب ومن رفع جاز ان يكون عالم الغيب خبر مبتدأ محذوف تقديره هو عالم الغيب ويجوز أن يكون ابتداء خبره لا يعزب عنه و علام أبلغ من عالم وقرأ الكسائي وحده لا يعزب بكسر الزاي وهما لغتان
قوله تعالى ولا أصغر من ذلك وقرأ ابن السميفع والنخعي والأعمش ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالنصب فيهما
قوله تعالى ليجزي الذين آمنوا قال الزجاج المعنى بلى وربي لنأتينكم المجازاة وقال ابن جرير المعنى أثبث مثقال الذرة وأصغر منه في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وليري الذين أوتوا العلم
قوله تعالى من رجز أليم قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ويعقوب والمفضل من رجز أليم رفعا والباقون بالخفض فيهما
وفي الذين أوتوا العلم قولان
أحدهما أنهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قاله قتادة (6/433)
قوله تعالى الذي أنزل إليك من ربك يعني القرآن هو الحق قال الفراء هو عماد فلذلك انتصب الحق وما أخللنا به فقد سبق في مواضع الحج البقرة
وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا ام به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب
قوله تعالى وقال الذين كفروا وهم منكروا البعث قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل ينبئكم أي يقول لكم إنكم إذا مزقتم كل ممزق أي فرقتم كل تفريق والممزق هاهنا مصدر بمعنى التمزيق إنكم لفي خلق جديد أي يجدد خلقكم للبعث ثم أجاب بعضهم فقالوا أفترى على الله كذبا حين زعم أنا نبعث وألف أفترى ألف استفهام وهو استفهام تعجب وإنكار أم به جنة أي جنون فرد الله عليهم فقال بل أي ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون بل الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يجحدون البعث في العذاب إذا بعثوا في الآخرة والضلال البعيد من الحق في الدنيا
ثم وعظهم فقال أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء (6/434)
والأرض وذلك أن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قدماه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فالمعنى أنهم اين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم وأنا القادر عليهم إن شئت خسفت بهم الارض وإن شئت اسقطت عليهم قطعة من السماء إن في ذلك أي فيما يرون من السماء والأرض لآية تدل على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم لكل عبد منيب أي راجع إلى طاعة الله متأمل لما يرى
ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير
قوله تعالى ولقد آتينا داود منا فضلا وهو النبوة والزبور وتسخير الجبال والطير إلى غير ذلك مما أنعم الله به عليه يا جبال أوبي معه وروى الحلبي عن عبد الوارث أوبي بضم الهمزة وتخفيف الواو قال الزجاج المعنى وقلنا يا جبال أوبيء معه أي رجعي معه والمعنى سبحي معه ورجعي التسبيح ومن قرأ أوبي معناه عودي في التسبيح معه كلما عاد وقال ابن قتيبة أوبي أي سبحي واصل التأويب في السير وهو ان يسير النهار كله وينزل ليلا فكأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل (6/435)
قوله تعالى والطير وقرأ أبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي وابو العالية وابن ابي عبلة والطير بالرفع فأما قراءة النصب فقال أبو عمرو بن العلاء هو عطف على قوله ولقد آتينا داود منا فضلا والطير أي وسخرنا له الطير قال الزجاج ويجوز ان يكون نصبا على النداء كأنه قال دعونا الجبال والطير فالطير معطوف على موضع الجبال وكل منادي عند البصريين فهو في موضع نصب قال وأما الرفع فمن جهتين إحداهما ان يكون نسقا على ما في أوبي فالمعنى يا جبال رجعي التسبيح معه أنت والطير والثانية على النداء المعنى يا جبال ويا أيها الطير أوبي معه
قال ابن عباس كانت الطير تسبح معه إذا سبح وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه وقال وهب بن منبه كان يقول للجبال سبحي وللطير أجيبي ثم يأخذ هو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك ولا يسمعون شيئا أطيب منه
قوله تعالى وألنا له الحديد أي جعلناه لينا قال قتادة سخر الله له الحديد بغير نار فكان يسويه بيده لا يدخله النار ولا يضربه بحديدة وكان اول من صنع الدروع وكانت قبل ذلك صفائح
قوله تعالى أن اعمل قال الزجاج معناه وقلنا له اعمل ويكون في معنى لأن يعمل سابغات أي دروعا سابغات فذكر الصفة لانها تدل على الموصوف
قال المفسرون كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء (6/436)
فيعمل الدرع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير فيأكل ويتصدق والسابغات الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرها على الأرض
وقدر في السرد أي اجعله على قدر الحاجة قال ابن قتيبة السرد النسج ومنه يقال لصانع الدروع سراد وزراد تبدل من السين الزاي كما يقال سراط وزراط وقال الزجاج السرد في اللغة تقدمة الشئ إلى الشئ تأني به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا ومنه قولهم سرد فلان الحديث
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما عدل المسمار في الحلقة ولا تصغره فيقلق ولا تعظمه فتنفصم الحلقة قاله مجاهد
والثاني لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها قاله قتادة
قوله تعالى واعملوا صالحا خطاب لداود وآله
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (6/437)
قوله تعالى ولسليمان الريح قرأ الأكثرون بنصب الريح على معنى وسخرنا لسليمان الريح وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم الريح رفعا أي له تسخير الريح وقرأ أبو جعفر الرياح على الجمع
غدوها شهر قال قتادة تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين قال الحسن لما شغلت نبي الله سليمان الخيل عن الصلاة فعقرها أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الريح فكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع
قوله تعالى وأسلنا له عين القطر قال الزجاج القطر النحاس وهو الصفر أذيب مذ ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب
قال المفسرون أجرى الله لسليمان عين الصفر حتى صنع منها ما أراد من غير نار كما الين لداود الحديد بغير نار فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهن كجري الماء وإنما يعمل الناس اليوم مما اعطي سليمان (6/438)
قوله تعالى ومن الجن المعنى وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه باذن ربه أي بأمره سخرهم الله له وأمرهم بطاعته والكلام يدل على أن منهم من لم يسخر له ومن يزغ منهم أي يعدل عن امرنا له بطاعة سليمان نذقه من عذاب السعير وهل هذا في الدنيا أم في الآخرة فيه قولان أحدهما في الآخرة قاله الضحاك والثاني في الدنيا قاله مقاتل وقيل إنه كان مع سليمان ملك بيده سوط من نار فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط
يعملون له ما يشاء من محاريب وفيها ثلاثة أقوال أحدها أنها المساجد قاله مجاهد وابن قتيبة والثاني القصور قاله عطية والثالث المساجد والقصور قاله قتادة وأما التماثيل فهي الصور قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة ثم فيها قولان
أحدهما أنها كانت كالطواويس والعقبان والنسور على كرسيه ودرجات سريره لكي يهابها من أراد الدنو منه قاله الضحاك
والثاني أنها كانت صور النبيين والملائكة لكي يراهم الناس مصورين فيعبدوا مثل عبادتهم ويتشبهوا بهم قاله ابن السائب
وفي ما كانوا يعملونها منه قولان أحدهما من النحاس قاله مجاهد والثاني من الرخام والشبه قاله قتادة
قوله تعالى وجفان كالجوابي الجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة والجوابي جمع جابية وهي الحوض الكبير يجبي فيه الماء أي يجمع (6/439)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو كالجوابي بياء إلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف قال الزجاج وأكثر القراء على الوقف بغير ياء وكان الأصل الوقف بالياء إلا أن الكسرة تنوب عنها
قال المفسرون كانوا يصنعون له القصاع كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها
قوله تعالى وقدور راسيات أي ثوابت يقال رسا يرسو إذا ثبت
وفي علة ثبوتها في مكانها قولان أحدهما ان أثافيها منها قاله ابن عباس والثاني أنها لا تنزل لعظمها قاله ابن قتيبة
قال المفسرون وكانت القدور كالجبال لا تحرك من أماكنها يأكل من القدر ألف رجل
قوله تعالى اعملوا آل داود شكرا المعنى وقلنا اعملوا بطاعة الله شكرا له على ما آتاكم
قوله تعالى فلما قضينا عليه الموت يعني على سليمان (6/440)
قال المفسرون كانت الإنس تقول إن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد فوقف سليمان في محرابه يصلي متوكئا على عصاه فمات فمكث كذلك حولا والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته حتى اكلت الأرض عصا سليمان فخر فعلموا بموته وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب
وقيل أن سليمان سأل الله تعالى أن يعمي على الجن موته فأخفاه الله عنهم حولا
وفي سبب سؤاله قولان
أحدهما لأن الجن كانوا يقولون للانس إننا نعلم الغيب فأراد تكذيبهم
والثاني لانه كان قد بقي من عمارة بيت المقدس بقية
فاما دابة الأرض فهي الأرضة وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري دابة الارض بفتح الراء
والمنسأة العصا قال الزجاج وإنما سميت منسأة لأنه ينسأ بها أي يطرد ويزجر قال الفراء أهل الحجاز لا يهمزون المنسأة وتميم وفصحاء قيس يهمزونها
قوله تعالى فلما خر أي سقط تبينت الجن أي ظهرت وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب ولو علموا ما لبثوا في العذاب المهين (6/441)
أي ما عملوا مسخرين وهو ميت وهم يظنونه حيا وقيل تبينت الجن أي علمت لانها كانت تتوهم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب فعلمت حينئذ خطأها في ظنها وروى رويس عن يعقوب تبينت برفع التاء والباء وكسر الياء
لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ حفيظ
قوله تعالى لقد كان لسبأ في مساكنهم آية قرأ ابن كثير (6/442)
ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في مساكنهم وقرأ حمزة وحفص عن عاصم مسكنهم بفتح الكاف من غير ألف وقرأ الكسائي وخلف مسكنهم بكسر الكاف وهي لغة
قال المفسرون المراد بسبأ هاهنا القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان وقد ذكرنا في سورة النمل الخلاف في هذا وأن قوما يقولون هو اسم بلد وليس باسم رجل وذكر الزجاج في هذا المكان أن من قرأ لسبأ بالفتح وترك الصرف جعله اسما للقبيلة ومن صرف وكسر ونون جعله اسما للحي واسما لرجل وكل جائز حسن وآية رفع اسم كان وجنتان رفع على نوعين أحدهما أنه بدل من آية والثاني على إضمار كأنه لما قيل آية قيل الآية جنتان
الإشارة إلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسير أن بلقيس لما ملكت قومها جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تناهم فلا يطيعونها فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت فقالوا لترجعن أو لنقتلنك فقالت إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول فقالوا فانا نطيعك فجاءت إلى واديهم وكانوا (6/443)
إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة أيام فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم فكان الماء يخرج بينهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره النمل وبقوا بعدها على حالهم وقيل إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السيل أموالهم فيهلكها فكانوا يفتحون من ابواب السد ما يريدون فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه وكانت لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله فأخصبت أرضهم وكثرت فواكههم وإن كانت المرأة لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تمس بيدها شيئا منه ولم يكن يرى في بلدهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل لطيب هوائها وقيل لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة أي هذه بلدة طيبة أو بلدتكم بلدة طيبة ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي ورب غفور أي والله رب غفور وكانت ثلاث عشرة قرية فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوا الرسل ولم يقروا بنعم الله فذلك قوله فأعرضوا أي عن الحق وكذبوا أنبياءهم فأرسلنا عليهم سيل العرم وفيه أربعة أقوال (6/444)
أحدها أن العرم الشديد رواه علي بن أبي طالب عن ابن عباس وقال ابن الأعرابي العرم السيل الذي لا يطاق
والثاني أنه اسم الوادي رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة والضحاك ومقاتل
والثالث أنه المسناة قاله مجاهد وأبو ميسرة والفراء وابن قتيبة وقال أبو عبيدة العرم جمع عرمة وهي السكر والمسناة
والرابع أن العرم الجرذ الذي نقب عليهم السكر حكاه الزجاج
وفي صفة إرسال هذا السيل عليهم قولان
أحدهما أن الله تعالى بعث على سكرهم دابة من الأرض فنقبت فيه نقبا فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به رواه العوفي عن ابن عباس وقال قتادة والضحاك في آخرين بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد والخلد الفأر الأعمى فنقبه من أسفله فأغرق الله به جناتهم وخرب به أرضهم
والثاني أنه أرسل عليهم ماء أحمر أرسله في السد فنسفه وهدمه وحفر الوادي ولم يكن الماء أحمر من السد وإنما كان سيلا أرسل عليهم قاله مجاهد
قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم يعني اللتين تطعمان الفواكه جنتين ذواتي أكل خمط قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أكل بالتنوين وقرأ أبو عمرو أكل بالإضافة وخفف الكاف ابن كثير ونافع وثقلها الباقون أما الأكل فهو الثمر
وفي المراد ب الخمط ثلاثة أقوال (6/445)
أحدها أنه الأراك قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور فعلى هذا أكله ثمره ويسمى ثمر الأراك البرير
والثاني أنه كل شجرة ذات شوك قاله ابو عبيدة
والثالث أنه كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله قاله المبرد والزجاج فعلى هذا القول الخمط اسم للمأكول فيحسن على هذا قراءة من نون الأكل وعلى ما قبله هو اسم شجرة والأكل ثمرها فيحسن قراءة من أصناف
فأما الأثل ففيه ثلاثة اقوال أحدها أنه الطرفاء قاله ابن عباس والثاني أنه السمر حكاه ابن جرير والثالث أنه شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه
قوله تعالى وشيء من سدر قليل فيه تقديم وتقديره وشئ قليل من سدر وهو شجر النبق والمعنى أنه كان الخمط والأثل في جنتيهم (6/446)
أكثر من السدر قال قتادة بينا شجرهم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر
قوله تعالى ذلك جزيناهم أي ذلك التبديل جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
فان قيل قد يجازي المؤمن والكافر فما معنى هذا التخصيص فعنه جوابان
أحدهما أن المؤمن يجزى ولا يجازى فيقال في أفصح اللغة جزى الله المؤمن ولا يقال جازاه لأن جازاه بمعنى كافأه فالكافر يجازى بسيئته مثلها مكافأة له والمؤمن يزاد في الثواب ويتفضل عليه هذا قول الفراء
والثاني أن الكافر ليست له حسنة تكفر ذنوبه فهو يجازي بجميع الذنوب والمؤمن قد أحبطت حسناته سيئاته هذا قول الزجاج وقال طاووس الكافر يجازى ولا يغفر له والمؤمن لا يناقش الحساب
قوله تعالى وجعلنا بينهم هذا معطوف على قوله تعالى لقد كان لسبأ والمعنى كان من قصصهم أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي (6/447)
باركنا فيها وهي قرى الشام وقد سبق بيان معنى البركة فيها الانبياء هذا قول الجمهور وحكى ابن السائب ان الله تعالى لما أهلك جنتيهم قالوا للرسل قد عرفنا نعمة الله علينا فلئن رد إلينا ما كنا عليه لنعبدنه عبادة شديدة فرد عليهم النعمة وجعل لهم قرى ظاهرة فعادوا إلى الفساد وقالوا باعد بين أسفارنا فمزقوا
قوله تعالى قرى ظاهرة أي متواصلة ينظر بعضها إلى بعض وقدرنا فيها السير فيه قولان
أحدهما أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية قاله الحسن وقتادة
والثاني أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا قاله ابن قتيبة
قوله تعالى سيروا فيها والمعنى وقلنا لهم سيروا فيها ليالي وأياما أي ليلا ونهارا آمنين من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان فبطروا النعمة وملوها كما مل بنو إسرائيل المن والسلوى فقالوا ربنا بعد بين أسفارنا قرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بتشديد العين وكسرها وقرأ نافع وعاصم وحمزة باعد بألف وكسر العين وعن ابن عباس كالقراءتين قال ابن عباس إنهم قالوا لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن يشتهى جناها قال أبو سليمان الدمشقي لما ذكرتهم الرسل نعم الله أنكروا أن يكون ماهم فيه نعمة (6/448)
وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم وقرأ يعقوب ربنا برفع الباء باعد بفتح العين والدال جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عز و جل بهم وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو رجاء وابن السميفع وابن أبي عبلة بعد برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف على طريق الشكاية إلى الله عز و جل وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني بوعد برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين
قوله تعالى وظلموا أنفسهم فيه قولان أحدهما بالكفر وتكذيب الرسل والثاني بقولهم بعد بين أسفارنا
فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بما فعل بهم ومزقناهم كل ممزق أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق لأن الله لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد فصارت العرب تتمثل في الفرقة بسبأ إن في ذلك أي فيما فعل بهم لآيات أي لعبرا لكل صبار عن معاصي الله شكور لنعمه
قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه عليهم بمعنى فيهم (6/449)
وصدقه في ظنه أنه ظن بهم أنهم يتبعونه إذ أغواهم فوجدهم كذلك وإنما قال ولأضلنهم ولأمنينهم النساء بالظن لا بالعلم فمن قرأ صدق بتشديد الدال فالمعنى حقق ما ظنه فيهم بما فعل بهم ومن قرأ بالتخفيف فالمعنى صدق عليهم في ظنه بهم
وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم أهل سبأ والثاني سائر المطيعين لإبليس
قوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان قد شرحناه في قوله ليس لك عليهم سلطان الحجر قال الحسن والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شئ إلا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور
قوله تعالى إلا لنعلم أي ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين وقرأ الزهري إلا ليعلم بياء مرفوعة على ما لم يسم فاعله وقرأ ابن يعمر ليعلم بفتح الياء
وفي المراد بعلمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناه في أول العنكبوت
وربك على كل شئ من الشك والإيمان حفيظ وقال ابن قتيبة والحفيظ بمعنى الحافظ قال الخطابي وهو فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدة بقائها ويحفظ عباده من (6/450)
المهالك ويحفظ عليهم أعمالهم ويعلم نياتهم ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذنوب ويحرسهم من مكايد الشيطان قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يعلمون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير
قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم المعنى قل للكفار ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لينعموا عليكم بنعمة أو يكشفوا عنكم بلية ثم أخبر عنهم فقال لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض أي من خير وشر ونفع وضر وما لهم فيهما من شرك لم يشاركونا في شئ من خلقهما وماله أي وما لله منهم أي من الآلهة من ظهير أي من معين على شئ
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قرا ابن كثير ونافع وابن عامر أذن له بفتح الألف وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف أذن له برفع الألف وعن عاصم كالقراءتين أي لا تنفع شفاعة ملك ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة وقيل حتى يؤذن له فيمن يشفع وفي هذا رد عليهم حين قالوا إن هذه الآلهة تشفع لنا (6/451)
حتى إذا فزع عن قلوبهم قرأ الأكثرون فزع بضم الفاء وكسر الزاي قال ابن قتيبة خفف عنها الفزع وقال الزجاج معناه كشف الفزع عن قلوبهم وقرأ ابن عامر ويعقوب وأبان فزع بفتح الفاء والزاي والفعل لله عز و جل وقرأ الحسن وقتادة وابن يعمر فرغ بالراء غير معجمة وبالغين معجمة وهو بمعنى الأول لأنها فرغت من الفزع وقال غيره بل فرغت من الشك والشرك
وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الملائكة وقد دل الكلام على انهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ولم يذكره في الآية لأن إخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فزعهم قولان
أحدهما أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فاذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك قال فيقول الحق فينادون الحق الحق وروى ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قضى الله عز و جل الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا (6/452)
للذي قال الحق وهو العلي الكبير
والثاني أنهم يفزعون من قيام الساعة وفي السبب الذي ظنوه بدنو الساعة ففزعوا قولان
أحدهما أنه لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ثم بعث الله محمدا أنزل الله جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشئ من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي قاله قتادة ومقاتل وابن السائب وقيل لما علموا بالإيحاء إلى محمد صلى الله عليه و سلم فزعوا لعلمهم أن ظهوره من أشراط الساعة
والثاني أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا يسمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة وهذا كلما مروا عليهم رواه الضحاك عن ابن مسعود
والقول الثاني أن الذي أشير إليهم المشركون ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما أن المعنى حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق فأقروا حين لم ينفعهم الإقرار قاله الحسن وابن زيد (6/453)
والثاني حتى إذا كشف الغطاء عن قلوبهم يوم القيامة قيل لهم ماذا قال ربكم قاله مجاهد قل من يرزقكم من السماوات والارض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم
قوله تعالى قل من يرزقكم من السماوات يعني المطر والأرض يعني النبات والثمر وإنما أمر أن يسأل الكفار عن هذا احتجاجا عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة وهم لا يثبتون رازقا سواه ولهذا قيل له قل الله لأنهم لا يجيبون بغير هذا وهاهنا تم الكلام ثم أمره أن يقول لهم وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين مذهب المفسرين أن أو هاهنا بمعنى الواو وقال أبو عبيدة معنى الكلام وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين وقال الفراء معنى أو عند المفسرين معنى الواو وكذلك هو في المعنى غير أن العربية على غير ذلك لا تكون او بمنزلة الواو ولكنها تكون في الأمر المفوض كما تقول إن شئت فخذ درهما أو اثنين فله أن يأخذ واحدا أو اثنين وليس له أن يأخذ ثلاثة وإنما معنى الآية وإنا لضالون أو مهتدون وإنكم أيضا لضالون أو مهتدون وهو يعلم أن (6/454)
رسوله المهتدي وأن غيره الضال كما تقول للرجل تكذبه والله إن أحدنا لكاذب وأنت تعنيه فكذبته تكذيبا غير مكشوف ويقول الرجل والله لقد قدم فلان فيقول له من يعلم كذبه قل إن شاء الله فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب ومن كلام العرب أن يقولوا قاتله الله ثم يستقبحونها فيقول قاتعه الله ويقول بعضهم كاتعه الله ويقولون جوعا دعاء على الرجل ثم يستقبحونها فيقولون جودا وبعضهم يقول جوسا ومن ذلك قولهم ويحك وويسك وإنما هي في معنى ويلك إلا أنها دونها
قوله تعالى قل لا تسألون عما أجرمنا أي لا تؤاخذون به ولا نسأل عما تعلمون من الكفر والتكذيب والمعنى إظهار التبري منهم وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف ولا وجه لذلك
قوله تعالى قل يجمع بيننا ربنا يعني عند البعث في الآخرة ثم يفتح بيننا أي يقضي بالحق أي بالعدل وهو الفتاح القاضي العليم بما يقضي قل للكفار أروني الذين ألحقتم به شركاء أي أعلموني من أي وجه ألحقتموهم وهم لا يخلقون ولا يرزقون كلا ردع وتنبيه والمعنى ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالتكم فليس الأمر على ما أنتم عليه (6/455)
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون
قوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس أي عامة لجميع الخلائق وفي الكلام تقديم تقديره وما أرسلناك إلا للناس كافة وقيل معنى كافة للناس تكفهم عما هم عليه من الكفر والهاء فيه للمبالغة
ويقولون متى هذا الوعد يعنون العذاب الذي يعدهم به في يوم القيامة وإنما قالوا هذا لأنهم ينكرون البعث قل لكم ميعاد يوم وفيه قولان أحدهما أنه يوم الموت عند النزع والسياق قاله الضحاك والثاني يوم القيامة قاله ابو سليمان الدمشقي (6/456)
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانو يعملون
قوله تعالى وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه يعنون التوراة والإنجيل وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا إن صفة محمد في كتابنا فكفر أهل مكة بكتابهم
ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال ولو ترى إذ الظالمون يعني مشركي مكة موقوفون عند ربهم في الآخرة يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم على بعض في الجدال واللوم يقول الذين استضعفوا وهم الأتباع للذين استكبروا وهم الأشراف والقادة لولا أنتم لكنا مؤمنين أي مصدقين بتوحيد الله والمعنى أنتم منعتمونا عن الإيمان فأجابهم المتبوعون فقالوا أنحن صددناكم عن الهدى أي منعناكم عن الإيمان بعد إذ جاءكم به الرسول بل كنتم مجرمين بترك الإيمان وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سببا للعداوة في الآخرة فرد عليهم الأتباع فقالوا بل مكر الليل والنهار أي بل مكركم بنا في الليل والنهار قال الفراء (6/457)
وهذا مما تتوسع فيه العرب لوضوح معناه كما يقولون ليله قائم ونهاره صائم فتضيف الفعل إلى غير الآدميين والمعنى لهم وقال الأخفش وهذا كقوله من قريتك التي أخرجتك محمد قال جرير ... لقد لمتنا يا أم غيلان في السري ونمت وما ليل المطي بنائم ...
وقرأ سعيد بن جبير وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري بل مكر بفتح الكاف والراء الليل والنهار برفعهما وقرأ ابن يعمر بل مكر باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها الليل والنهار بنصبهما
قوله تعالى إذ تأمورننا ان نكفر بالله وذلك أنهم كانوا يقولون لهم إن ديننا حق ومحمد كذاب وأسروا الندامة وقد سبق بيانه في يونس
قوله تعالى وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا إذا دخلوا جهنم غلت أيديهم إلى أعناقهم وقالت لهم خزنة جهنم هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا قال ابو عبيدة مجاز هل هاهنا مجاز الإيجاب وليس باستفهام والمعنى ما تجزون إلا ما كنتم تعملون وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين (6/458)
يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين
وما أرسلنا في قرية من نذير أي نبي ينذر إلا قال مترفوها وهم أغنياؤهم ورؤساؤها
قوله تعالى وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا في المشار إليهم (6/459)
قولان أحدهما أنهم المترفون من كل أمة والثاني مشركو مكة فظنوا من جهلهم أن الله خولهم المال والولد لكرامتهم عليه فقالوا وما نحن بمعذبين لأن الله أحسن إلينا بما أعطانا فلا يعذبنا فأخبر أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والمعنى أن بسط الرزق وتضييقه ابتلاء وامتحان لا أن البسط يدل على رضى الله ولا التضييق يدل على سخطه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ثم صرح بهذا المعنى بقوله وما اموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى قال الفراء يصلح أن تقع التي على الأموال والأولاد جميعا لأن الأموال جمع والأولاد جمع وإن شئت وجهت التي إلى الأموال واكتفيت بها من ذكر الأولاد وأنشد لمرار الأسدي ... نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ...
وقد شرحنا هذا في قوله ولا ينفقونها في سبيل الله التوبة وقال الزجاج المعنى وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم فحذف اختصارا وقرأ أبي بن كعب والحسن وأبو الجوزاء باللاتي تقربكم قال الأخفش وزلفى هاهنا اسم مصدر كأنه قال تقربكم عندنا ازدلافا وقال ابن قتيبة زلفى أي قربى ومنزلة عندنا (6/460)
قوله تعالى إلا من آمن قال الزجاج المعنى ما تقرب الأموال إلا من آمن وعمل بها في طاعة الله فأولئك لهم جزاء الضعف والمراد به ها هنا عشر حسنات تأويله لهم جزاء الضعف الذي قد أعلمتكم مقداره وقال ابن قتيبة لم يرد فيما يرى أهل النظر والله اعلم أنهم يجازون بواحد مثله ولا اثنين ولكنه أراد جزاء التضعيف وهو مثل يضم إلى مثل ما بلغ وكأن الضعف الزيادة فالمعنى لهم جزاء الزيادة وقرأ سعيد بن جبير وأبو المتوكل ورويس وزيد عن يعقوب لهم جزاء بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلا الضعف بالرفع وقرأ أبو الجوزاء وقتادة وأبو عمران الجوني لهم جزاء بالرفع والتنوين الضعف بالرفع
قوله تعالى وهم في الغرفات يعني في غرف الجنة وهي البيوت فوق الأبنية وقرأ حمزة في الغرفة على التوحيد أراد اسم الجنس وقرأ الحسن وأبو المتوكل في الغرفات بضم الغين وسكون الراء مع الألف وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر بضم الغين وفتح الراء مع الألف آمنون من الموت والغير وما بعد هذا قد تقدم تفسيره الحج الرعد إلى قوله وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه أي يأتي ببدله يقال أخلف الله له وعليه إذا أبدل ما ذهب عنه وفي معنى الكلام اربعة أقوال
أحدهما ما أنفقتم من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه قاله سعيد بن جبير
والثاني ما أنفقتم في طاعته فهو يخلفه في الآخرة بالأجر قاله السدي
والثالث ما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه إما أن يعجله في الدنيا أو يدخره لكم في الآخرة قاله ابن السائب (6/461)
والرابع أن الإنسان قد ينفق ماله في الخير ولا يرى له خلفا أبدا وإنما معنى الآية ما كان من خلف فهو منه ذكره الثعلبي
قوله تعالى وهو خير الرازقين لما دار على الألسن أن السلطان يرزق الجند وفلان يرزق عياله أي يعطيهم أخبر أنه خير المعطين ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (6/462)
قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا يعني المشركين وقال مقاتل يعني الملائكة ومن عبدها ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين فنزهت الملائكة ربها عن الشرك فقالوا سبحانك أي تنزيها لك مما أضافوه إليك من الشركاء أنت ولينا من دونهم أي نحن نتبرأ إليك منهم ما تولينا ولا اتخذناهم عابدين ولسنا نريد وليا غيرك بل كانوا يعبدون الجن أي يطيعون الشياطين في عبادتهم إيانا أكثرهم بهم أي بالشياطين مؤمنون أي مصدقون لهم فيما يخبرونهم من الكذب أن الملائكة بنات الله فيقول الله تعالى فاليوم يعني في الآخرة لا يملك بعضكم لبعض يعني العابدين والمعبودين نفعا بالشفاعة ولا ضرا بالتعذيب ونقول للذين ظلموا فعبدوا غير الله ذوقوا عذاب النار الآية
ثم أخبر أنهم يكذبون محمدا والقرآن بالآية التي تلي هذه وتفسيرها ظاهر
ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة ولم يكذبوا محمدا عن يقين ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبي يخبرهم بفساد أمره فقال وما آتيناهم من كتب يدرسونها قال قتادة ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن (6/463)
ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد وهذا محمول على الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وقد كان إسماعيل نذيرا للعرب
ثم أخبر عن عاقبة المكذبين قبلهم مخوفا لهم فقال وكذب الذين من قبلهم يعني الامم الكافرة وما بلغوا معشار ما آتيناهم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر قاله الجمهور
والثاني ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحجة والبرهان
والثالث ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم حكاهما الماوردي
والمعشار العشر والنكير اسم بمعنى الإنكار قال الزجاج والمعنى فكيف كان نكيري وإنما حذفت الياء لأنه آخر آية قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ماسألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شئ شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد قل إن ضللت فانما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب
قوله تعالى قل إنما أعظكم أي آمركم وأوصيكم بواحدة وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها لا إله إلا الله رواه ليث عن مجاهد (6/464)
والثاني طاعة الله رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والثالث أنها قوله أن تقوموا لله مثنى وفرادى قاله قتادة والمعنى ان التي أعظكم بها قيامكم وتشميركم لطلب الحق وليس بالقيام على الأقدام والمراد بقوله مثنى أي يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم والمراد به فرادى أن يتفكر الرجل وحده ومعنى الكلام ليتفكر الإنسان منكم وحده وليخل بغيره وليناظر وليستشر فيستدل بالمصنوعات على صانعها ويصدق الرسول على اتباعه وليقل الرجل لصاحبه هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة قط أو جربنا عليه كذبا قط وتم الكلام عند قوله ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة وفيه اختصار تقديره ثم تتفكروا لتعلموا صحة ما أمرتكم به وأن الرسول ليس بمجنون إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في الآخرة
قوله تعالى قل ما سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة فهو لكم (6/465)
والمعنى ما أسألكم شيئا ومثله قول القائل ما لي في هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شئ
قوله تعالى قل إن ربي يقذف بالحق أي يلقي الوحي إلى أنبياءه علام الغيوب وقرأ أبو رجاء علام بنصب الميم
قل جاء الحق وهو الإسلام والقرآن
وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشيطان لا يخلق أحدا ولا يبعثه قاله قتادة
والثاني أنه الأصنام لا تبدئ خلقا ولا تحيي قاله الضحاك وقال أبو سليمان لا يبتدئ الصنم من عنده كلاما فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة
والثالث أنه الباطل الذي يضاد الحق فالمعنى ذهب الباطل بمجئ الحق فلم تبق منه بقية يقبل بها او يدبر أو يبدي او يعيد ذكره جماعة من المفسرين
قوله تعالى قل إن ضللت فانما أضل على نفسي أي إثم ضلالتي (6/466)
على نفسي وذلك أن كفار مكة زعموا أنه قد ضل حين ترك دين آبائه وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي من الحكمة والبيان ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب
قوله تعالى ولو ترى إذ فزعوا في زمان هذا الفزع قولان
أحدهما أنه حين البعث من القبور قاله الأكثرون
والثاني أنه عند ظهور العذاب في الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة وقال سعيد بن جبير هو الجيش الذي يخسف به بالبيداء يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقوا وهذا حديث مشروح في التفسير وأن هذا الجيش يؤم البيت الحرام لتخريبه فيخسف بهم وقال الضحاك وزيد ابن أسلم هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من المشركين (6/467)
قوله تعالى فلا فوت المعنى فلا فوت لهم أي لا يمكنهم أن يفوتونا وأخذوا من مكان قريب فيه ثلاثة أقوال
أحدها من مكانهم يوم بدر قاله زيد بن أسلم والثاني من تحت أقدامهم بالخسف قاله مقاتل والثالث من القبور قاله ابن قتيبة وأين كانوا فهم من الله قريب
قوله تعالى وقالوا أي حين عاينوا العذاب آمنا به في هاء الكناية أربعة أقوال
أحدها أنها تعود إلى الله عز و جل قاله مجاهد والثاني إلى البعث قاله الحسن والثالث إلى الرسول قاله قتادة والرابع إلى القرآن قاله مقاتل
قوله تعالى وأنى لهم التناوش قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم التناوش غير مهموز وقرا أبو عمرو وحمزة ة والكسائي والمفضل عن عاصم بالهمز قال الفراء من همز جعله من نأشت ومن لم يهمز جعله من نشت وهما متقاربان والمعنى تناولت الشئ بمنزلة ذمت الشئ وذامته إذا عبته وقد تناوش القوم في القتال إذ تناول بعضهم بعضا بالرماح ولم يتدانوا كل التداني وقد يجوز همز التناؤش وهي من نشت لانضمام الواو مثل قوله وإذا الرسل أقتت المرسلات وقال الزجاج من همز التناؤش فلأن واو التناوش مضمومة وكل واو مضمونة ضمتها لازمة إن شئت أبدلت منها همزة وإن شئت لم تبدل نحو أدؤر وقال ابن قتيبة معنى الآية وأنى لهم (6/469)
التناوش لما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من مكان بعيد وهو الموضع الذي تقبل فيه التوبة وكذلك قال المفسرون انى لهم بتناول الإيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت
قوله تعالى وقد كفروا به في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدمت في قوله آمنا به سبأ ومعنى من قبل أي في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة ويقذفون بالغيب أي يرمون بالظن من مكان بعيد وهو بعدهم عن العلم بما يقولون
وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم يظنون أنهم يردون إلى الدنيا قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه قولهم في الدنيا لا بعث لنا ولا جنة ولا نار قاله الحسن وقتادة
والثالث أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو ساحر هو كاهن هو شاعر قاله مجاهد
قوله تعالى وحيل بينهم وبين ما يشتهون أي منع هؤلاء الكفار مما يشتهون وفي ستة اقوال
احدها انه الرجوع إلى الدنيا قاله ابن عباس والثاني الأهل والمال والولد قاله مجاهد والثالث الإيمان قاله الحسن والرابع طاعة الله قاله قتادة والخامس التوبة قاله السدي والسادس حيل بين الجيش الذي (6/470)
خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خسف بهم قاله مقاتل
قوله تعالى كما فعل وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو عمران كما فعل بفتح الفاء والعين بأشياعهم من قبل قال الزجاج أي بمن كان مذهبه مذهبهم قال المفسرون والمعنى كما فعل بنظرائهم من الكفار من قبل هؤلاء فانهم حيل بينهم وبين ما يشتهون وقال الضحاك هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة إنهم كانوا في شك من البعث ونزول العذاب بهم مريب أي موقع للريبة والتهمة (6/471)
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة وهي مكية باجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم
قوله تعالى الحمد لله فاطر السماوات والأرض أي خالقهما مبتدئا على غير مثال قال ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتداءتها
قوله تعالى جاعل الملائكة وروى الحلبي والقزاز عن عبد الوارث (6/472)
جاعل بالرفع والتنوين الملائكة بالنصب رسلا يرسلهم إلى الأنبياء وإلى ما يشاء من الأمور أولي أجنحة أي أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع فبعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة وبعضهم له اربعة ويزيد في الخلق ما يشاء فيه خمسة أقوال
أحدها أنه زاد في خلق الملائكة الأجنحة رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني يزيد في الاجنحة ما يشاء رواه عباد بن منصور عن الحسن وبه قال مقاتل
والثالث أنه الخلق الحسن رواه عوف عن الحسن
والرابع أنه حسن الصوت قاله الزهري وابن جريج
والخامس الملاحة في العينين قاله قتادة
قوله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة أي من خير ورزق وقيل أراد بها المطر فلا ممسك لها وقرأ أبي بن كعب وابن ابي عبلة فلا ممسك له وفي الآية تنبيه على أنه لا إله إلا هو إذ لا يستطيع أحد إمساك ما فتح وفتح ما أمسك يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء الأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا (6/473)
ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير
قوله تعالى يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم قال المفسرون الخطاب لأهل مكة واذكروا بمعنى احفظوا ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم
هل من خالق غير الله وقرأ حمزة والكسائي غير الله بخفض الراء قال أبو علي جعلاه صفة على اللفظ وذلك حسن لإتباع الجر وهذا استفهام تقرير وتوبيخ والمعنى لا خالق سواه يرزقكم من السماء المطر و من الأرض النبات وما بعد هذا قد سبق بيانه الأنعام آل عمران البقرة لقمان إلى قوله إن الشيطان لكم عدو أي إنه يريد هلاككم فاتخذوه عدوا أي أنزلوه من أنفسكم منزلة الأعداء وتجنبوا طاعته إنما يدعو حزبه أي شيعته إلى الكفر ليكونوا من أصحاب السعير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (6/474)
قوله تعالى أفمن زين له سوء عمله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في ابي جهل ومشركي مكة قاله ابن عباس
والثاني في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى قاله سعيد بن جبير
والثالث أنهم اليهود والنصارى والمجوس قاله أبو قلابة
فان قيل اين جواب أفمن زين له
فالجواب من وجهين ذكرهما الزجاج
أحدهما أن الجواب محذوف والمعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ويدل على هذا قوله فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء
والثاني أن المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرات ويدل على هذا قوله فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (6/475)
وقرأ أبو جعفر فلا تذهب بضم التاء وكسر الهاء نفسك بنصب السين
وقال ابن عباس لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرة على تركهم الإيمان
قوله تعالى فتثير سحابا أي تزعجه من مكانه وقال أبو عبيدة تجمعه وتجئ به وسقناه بمعنى نسوقه والعرب قد تضع فعلنا في موضع نفعل وأنشدوا ... إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا ...
المعنى يطيروا ويدفنوا
قوله تعالى كذلك النشور وهو الحياة وفي معنى الكلام قولان
أحدهما كما أحيا الله الأرض بعد موتها يحيي الموتى يوم البعث روى أبو رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا قلت نعم قال فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه
والثاني كما أحيا الله الأرض المينة بالماء كذلك يحيي الله الموتى بالماء (6/476)
قال ابن مسعود يرسل الله تعالى ماء من تحت العرش كمني الرجال قال فتنبت لحمانهم وجسمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى ثم قرأ هذه الآية وقد ذكرنا في الأعراف نحو هذا الشرح من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور
قوله تعالى من كان يريد العزة فيه ثلاثة أقوال
أحدها من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فلله العزة جميعا قاله مجاهد
والثاني من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله قاله قتادة وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال إن ربكم يقول كل يوم انا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز
والثالث من كان يريد العزة لمن هي فانها لله جميعا قاله الفراء
قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والنخعي والجحدري والشيزري عن الكسائي (6/477)
يصعد الكلام الطيب وهو توحيده وذكره والعمل الصالح يرفعه قال علي بن المديني الكلم الطيب لا إله إلا الله والعمل الصالح أداء الفرائض واجتناب المحارم
وفي هاء الكناية في قوله يرفعه ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الكلم الطيب فالمعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وكان الحسن يقول يعرض القول على الفعل فان وافق القول الفعل قبل وإن خالف رد
والثاني أنها ترجع إلى العمل الصالح فالمعنى والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب فهو عكس القول الأول وبه قال أبو صالح وشهر بن حوشب فاذا قلنا إن الكلم الطيب هو التوحيد كانت فائدة هذا القول أنه لا يقبل عمل صالح إلا من موحد
والثالث أنها ترجع إلى الله عز و جل فالمعنى والعمل الصالح يرفعه الله إليه أي يقبله قاله قتادة
قوله تعالى والذين يمكرون السيئات قال أبو عبيدة يمكرون بمعنى يكتسبون ويجترحون ثم في المشار إليهم اربعة أقوال (6/478)
أحدها أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه و سلم في دار الندوة قاله أبو العالية
والثاني أنهم أصحاب الرياء قاله مجاهد وشهر بن حوشب
والثالث أنهم الذين يعملون السيئات قاله قتادة وابن السائب
والرابع أنهم قائلو الشرك قاله مقاتل
وفي معنى يبور قولان
أحدهما يبطل قاله ابن قتيبة والثاني يفسد قاله الزجاج والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية (6/479)
تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير
قوله تعالى والله خلقكم من تراب يعني آدم ثم من نطفة يعني نسله ثم جعلكم أزواجا أي أصنافا ذكورا وإناثا قال قتادة زوج بعضهم ببعض
قوله تعالى وما يعمر من معمر أي ما يطول عمر أحد ولا ينقص وقرأ الحسن ويعقوب ينقص بفتح الياء وضم القاف من عمره في هذه الهاء قولان
أحدهما أنها كناية عن آخر فالمعنى ولا ينقص من عمر آخر وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد في آخرين قال الفراء وإنما كني عنه كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال ولا ينقص من عمر معمر ومثله في الكلام عندي درهم ونصفه والمعنى ونصف آخر
والثاني أنها ترجع إلى المعمر المذكور فالمعني ما يذهب من عمر هذا المعمر يوم أو ليلة إلا وذلك مكتوب قال سعيد بن جبير مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم (6/480)
ذهب يومان ذهبت ثلاثة إلى أن ينقطع عمره وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين
فأما الكتاب فهو اللوح المحفوظ
وفي قوله إن ذلك على الله يسير قولان
أحدهما أنه يرجع إلى كتابة الآجال والثاني إلى زيادة العمر ونقصانه
قوله تعالى وما يستوي البحران يعني العذب والملح وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه الفرقان النحل آل عمران الرعد إلى قوله ما يملكون من قطمير قال ابن عباس هو القشر الذي يكون على ظهر النواة
قوله تعالى إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنهم جماد ولو سمعوا بأن يخلق الله لهم أسماعا ما استجابوا لكم أي لم يكن عندهم إجابة ويوم القيامة يكفرون بشرككم أي يتبرؤون من عبادتكم ولا ينبئك يا محمد مثل خبير أي عالم بالأشياء يعني نفسه عز و جل والمعنى أنه لا أخبر منه عز و جل بما أخبر أنه سيكون (6/481)
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فانما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير وما يستوي الاعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله أي المحتاجون إليه والله هو الغني عن عبادتكم الحميد عند خلقه باحسانه إليهم وما بعد هذا قد تقدم (6/482)
بيانه إبراهيم الأنعام إلى قوله وإن تدع مثقلة أي نفس مثقلة بالذنوب إلى حملها الذي حملت من الخطايا لا يحمل منه شئ ولو كان الذي تدعوه ذا قربى ذا قرابة إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب أي يخشونه ولم يروه والمعنى إنما تنفع بانذارك أهل الخشية فكأنك تنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع ومن تزكى أي تطهر من الشرك والفواحش وفعل الخير فانما يتزكى لنفسه أي فصلاحه لنفسه وإلى الله المصير فيجزي بالأعمال
وما يستوي الاعمى والبصير يعني المؤمن والمشرك ولا الظلمات يعني الشرك والضلالات ولا النور الهدى والإيمان ولا الظل ولا الحرور فيه قولان
أحدهما ظل الليل وسموم النهار قاله عطاء
والثاني الظل الجنة والحرور النار قاله مجاهد قال الفراء الحرور بمنزلة السموم وهي الرياح الحارة والحرور تكون بالنهار وبالليل والسموم لا تكون إلا بالنهار وقال ابو عبيدة الحرور تكون بالنهار مع الشمس وكان رؤبة يقول الحرور بالليل والسموم بالنهار
قوله تعالى وما يستوي الأحياء ولا الأموات فيهم قولان
أحدهما أن الأحياء المؤمنون والأموات الكفار
والثاني أن الأحياء العقلاء والأموات الجهال (6/483)
وفي لا المذكورة في هذه الآية قولان
أحدهما أنها زائدة مؤكدة والثاني أنها نافية لاستواء أحد المذكورين مع الآخر
قال قتادة هذه أمثال ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر يقول كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن
إن الله يسمع من يشاء أي يفهم من يريد إفهامه وما انت بمسمع من في القبور وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن والجحدري بمسمع من على الإضافة يعني الكفار شبههم بالموتى إن أنت إلا نذير قال بعض المفسرين نسخ معناها بآية السيف (6/484)
قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي ما من أمة إلا قد جاءها رسول وما بعد هذا قد سبق بيانه آل عمران الحج إلى قوله فكيف كان نكير أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب وافقه في الوصل ورش ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور
قوله تعالى ومن الجبال جدد بيض أي ومما خلقنا من الجبال جدد قال ابن قتيبة الجدد الخطوط والطرائق تكون في الجبال فبعضها بيض وبعضها حمر وبعضها غرابيب سود والغرابيب جمع غربيب وهو الشديد السواد يقال أسود غربيب وتمام الكلام عند قوله كذلك يقول من الجبال مختلف ألوانه ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك أي كاختلاف الثمرات قال الفراء وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وسود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب (6/485)
وقلما يقال غربيب أسود وقال الزجاج المعنى ومن الجبال غرابيب سود وهي ذوات الصخر الأسود وقال ابن دريد الغربيب الأسود أحسب أن اشتقاقه من الغراب
وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال
أحدها الطرائق السود قاله ابن عباس والثاني الأودية السود قاله قتادة والثالث الجبال السود قاله السدي
ثم ابتدأ فقال إنما يخشى الله من عباده العلماء يعني العلماء بالله عز و جل قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني وقال مجاهد والشعبي العالم من خاف الله وقال الربيع ابن انس من لم يخش الله فليس بعالم إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير
قوله تعالى إن الذين يتلون كتاب الله يعني قراء القرآن فأثنى عليهم بقراءة القرآن وكان مطرف يقول هذه آية القراء
وفي قوله يتلون قولان أحدهما يقرؤون والثاني يتبعون (6/486)
قال أبو عبيدة وأقاموا الصلاة بمعنى ويقيمون وهو إدامتها لمواقيتها وحدودها
قوله تعالى يرجون تجارة قال الفراء هذا جواب قوله إن الذين يتلون قال المفسرون والمعنى يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسد ولن تهلك ولن تكسد ليوفيهم أجورهم أي جزاء أعمالهم ويزيدهم من فضله قال ابن عباس سوى الثواب مالم ترعين ولم تسمع أذن
فأما الشكور فقال الخطابي هو الذي يشكر اليسير من الطاعة فيثيب عليه الكثير من الثواب ويعطي الجزيل من النعمة ويرضي باليسير من الشكر ومعنى الشكر المضاف إليه الرضى بيسير الطاعة من العبد والقبول له وإعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة قلت أو كثرت لئلا يستقلوا القليل من العمل ولا يتركوا اليسير منه ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير
قوله تعالى ثم أورثنا الكتاب في ثم وجهان أحدهما أنها بمعنى الواو والثاني أنها للترتيب والمعنى أنزلنا الكتب المتقدمة ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا وفيهم قولان
أحدهما أنهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس
والثاني أنهم الأنبياء وأتباعهم قاله الحسن (6/487)
وفي الكتاب قولان
أحدهما أنه اسم جنس والمراد به الكتب التي انزلها الله عز و جل وهذا يخرج على القولين فان قلنا الذين اصطفوا أمة محمد فقد قال ابن عباس إن الله أورث أمة محمد صلى الله عليه و سلم كل كتاب انزله وقال ابن جرير الطبري ومعنى ذلك أورثهم الإيمان بالكتب كلها وجميع الكتب تأمر باتباع القرآن فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق وأتبعه بقوله ثم أورثنا الكتاب فعلمنا أنهم أمة محمد إذ كان معنى الميراث انتقال شئ من قوم إلى قوم ولم تكن أمة على عهد نبينا انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته فان قلنا هم الأنبياء وأتباعهم كان المعنى أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ذلك النبي وأتباعه
والقول الثاني أن المراد بالكتاب القرآن
وفي معنى أورثنا قولان
أحدهما أعطينا لأن الميراث عطاء قاله مجاهد
والثاني أخرنا ومنه الميراث لأنه تأخر عن الميت فالمعنى أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة إكراما لها ذكره بعض أهل المعاني
قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه فيه أربعة أقوال (6/488)
أحدها أنه صاحب الصغائر روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الآية قال كلهم في الجنة
والثاني أنه الذي مات على كبيرة ولم يتب منها رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث أنه الكافر رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أنزل عليه الكتاب كما قال وإنه لذكر لك ولقومك الزخرف أي لشرف لكم وكم من مكرم لم يقبل الكرامة
والرابع أنه المنافق حكي عن الحسن وقد روي عن الحسن أنه (6/489)
قال الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته والمقتصد الذي قد استوت حسناته وسيئاته والسابق من رجحت حسناته وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية فقال سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا
قوله تعالى ومنهم سابق وقرأ أبو المتوكل والجحدري وابن السميفع سباق مثل فعال بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة أو إلى الرحمة باذن الله أي بارادته وأمره ذلك هو الفضل الكبير يعني إيراثهم الكتاب
ثم أخبر بثوابهم فجمعهم في دخول الجنة فقال جنات عدن يدخلونها قرأ أبو عمرو وحده يدخلونها بضم الياء وفتحها الباقون وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ولؤلؤا بالنصب وروى (6/490)
أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية والآية مفسرة في سورة الحج قال كعب تحاكت مناكبهم ورب الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك تجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمر كم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا
ثم أخبر عما يقولون عند دخولها وهو قوله الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الحزن والحزن واحد كالبخل والبخل
وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال أحدها أنه الحزن لطول المقام في المحشر روى ابو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فانه حزين في ذلك المقام فهو الحزن والغم وذلك قوله تعالى الحمد لله الذي (6/491)
أذهب عنا الحزن
والثاني أنه الجوع رواه أبو الدرداء أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح وبه قال شمر بن عطية وفي لفظ عن شمر أنه قال الحزن هم الخبز وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال الحزن هم الخبز في الدنيا
والثالث أنه حزن النار رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والرابع حزنهم في الدنيا على ذنوب سلفت منهم رواه عكرمة عن ابن عباس
والخامس حزن الموت قاله عطية
والآية عامة في هذه الأقوال وغيرها ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه وإنما حزنوا على ذنوبهم وما يوجبه الخوف (6/492)
قوله تعالى الذي أحلنا أي أنزلنا دار المقامة قال الفراء المقامة هي الإقامة والمقامة المجلس بالفتح لا غير قال الشاعر ... يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب ...
قوله تعالى من فضله قال الزجاج أي بتفضله لا بأعمالنا والنصب التعب واللغوب الإعياء من التعب ومعنى لغوب شئ يلغب أي لا نتكلف شيئا نعنى منه
قوله تعالى لا يقضى عليهم فيموتوا أي لايهلكون فيستريحوا مما هم فيه ومثله فوكزه موسى فقضى عليه القصص (6/493)
قوله تعالى كذلك نجزي كل كفور وقرأ أبو عمرو يجزي بالياء كل برفع اللام وقرأ الباقون نجزي بالنون كل بنصب اللام
قوله تعالى وهم يصطرخون فيها وهو افتعال من الصراخ والمعنى يستغيثون فيقولون ربنا أخرجنا نعمل صالحا أي نوحدك ونطيعك غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي فوبخهم الله تعالى بقوله أولم نعمركم قال أبو عبيدة معناه التقرير وليس باستفهام والمعنى أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر
وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال
أحدها أنه سبعون سنة قال ابن عمر هذه الآية تعبير لأبناء السبعين
والثاني أربعون سنة
والثالث ستون سنة رواهما مجاهد عن ابن عباس وبالأول منهما قال الحسن وابن السائب
والرابع ثماني عشرة سنة قاله عطاء ووهب بن منبه وأبو العالية وقتادة
قوله تعالى وجاءكم النذير فيه أربعة أقوال
أحدها أنه الشيب قاله ابن عمر وعكرمة وسفيان بن عيينة والمعنى او لم نعمر كم حتى شبتم والثاني النبي صلى الله عليه و سلم قاله قتادة وابن زيد (6/494)
وابن السائب ومقاتل والثالث موت الأهل والأقارب والرابع الحمى ذكرهما الماوردي
قوله تعالى فذوقوا يعني العذاب فما للظالمين من نصير أي من مانع يمنع عنهم وما بعد هذا قد تقدم بيانه المائدة إلى قوله خلائف في الأرض وهي الأمة التي خلفت من قبلها ورأت فيمن تقدمها ما ينبغي أن تعتبر به فمن كفر فعليه كفره أي جزاء كفره قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض ام لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا
قوله تعالى أرأيتم شركاءكم المعنى أخبروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم بأي شئ أوجبتم لهم الشركة في العبادة أبشئ (6/495)
خلقوه من الارض أم شاركوا خالق السماوات في خلقها ثم عاد إلى الكفار فقال أم آتيناهم كتابا يامرهم بما يفعلون فهم على بينة منه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم على بينة على التوحيد وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بينات جمعا والمراد البيان بأن مع الله شريكا بل إن يعد الظالمون يعني المشركين يعد بعضهم بعضا أن الأصنام تشفع لهم وأنه لاحساب عليهم ولا عقاب وقال مقاتل ما يعد الشيطان الكفار من شفاعة الآلهة إلا باطلا
قوله تعالى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا أي يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع قال الفراء ولئن بمعنى ولو وإن بمعنى ما فالتقدير ولو زالتا ما أمسكهما من احد وقال الزجاج لما قالت النصارى المسيح ابن الله وقالت اليهود عزير ابن الله كادت السماوات يتفطرن والجبال أن تزول والارض أن تنشق فأمسكها الله عز و جل وإنما وحد الارض مع جمع السماوات لأن الأرض تدل على الأرضين ولئن زالتا تحتمل وجهين أحدهما زوالهما يوم القيامة والثاني أن يقال تقديرا وإن لم تزولا وهذا مكان يدل على القدرة غير أنه ذكر الحلم فيه لأنه لما أمسكهما (6/496)
عند قولهم اتخذ الرحمن ولدا مريم حلم فلم يعجل لهم العقوبة وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا إستكبارا في الأرض ومكر السئ ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا
قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إرسال محمد صلى الله عليه و سلم لئن جاءهم نذير أي رسول الله ليكونن أهدى أي أصوب دينا من إحدى الأمم يعني اليهود والنصارى الصائبين فلما جاءهم نذير وهو محمد صلى الله عليه و سلم ما زادهم مجيئه إلا نفورا أي تباعدا عن الهدى استكبارا في الارض أي عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان به قال الاخفش نصب استكبارا على البدل من النفور قال الفراء المعنى (6/497)
فعلوا ذلك استكبارا ومكر السئ فأضيف المكر إلى السئ كقوله وإنه لحق اليقين الحاقة وتصديقه في قراءة عبد الله ومكرا سيئا والهمزة في السئ مخفوضة وقد جزمها الأعمش وحمزة لكثرة الحركات قال الزجاج وهذا عند النحويين الحذاق لحن إنما يجوز في الشعر اضطرارا وقال أبو جعفر النحاس كان الأعمش يقف على مكر السئ فيترك الحركة وهو وقف حسن تام فغلط الراوي فروى أنه كان يحذف الإعراب في الوصل فتابع حمزة الغالط فقرأ في الإدراج بترك الحركة
وللمفسرين في المراد ب مكر السئ قولان
أحدهما أنه الشرك قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك
والثاني أنه المكر برسول الله صلى الله عليه و سلم حكاه الماوردي
قوله تعالى فهل ينظرون أي ينتظرون إلا سنة الأولين أي إلا أن ينزل العذاب بهم كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم فلن تجد لسنة الله في العذاب تبديلا وإن تأخر ولن تجد لسنة الله تحويلا أي لا يقدر احد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ (6/498)
في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده بصيرا
قوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا هذا عام وبعضهم يقول أراد بالناس المشركين والمعنى لو واخذهم بأفعالهم لعجل لهم العقوبة وقد شرحنا هذه الآية في النحل وما أخللنا به فقد سبق بيانه يوسف الروم الأعراف النحل
قوله تعالى فإن الله كان بعباده بصيرا قال ابن جرير بصيرا بمن يستحق العقوبة ومن يستوجب الكرامة (6/499)
سورة يس وفيها قولان
أحدهما أنها مكية قاله ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة والجمهور وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا إنها مكية إلا آية منها وهي قوله وإذا قيل أنفقوا مما رزقكم الله يس 45
والثاني أنها مدنية حكاه أبو سليمان الدمشقي وقال ليس بالمشهور بسم الله الرحمن الرحيم
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون
وفي قوله يس خمسة أقوال
أحدها أن معناها يا إنسان بالحبشية رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل
والثاني أنها قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أن معناها يا محمد قاله ابن الحنفية والضحاك (7/3)
والرابع أن معناها يا رجل قاله الحسن
والخامس اسم من أسماء القرآن قاله قتادة
وقرأ الحسن وأبو الجوزاء يس بفتح الياء وكسر النون وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وابن ابي عبلة بفتح الياء والنون جميعا وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون قال الزجاج والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السور وبعض العرب يقول يس والقرآن بفتح النون وهذا جائز في العربية لوجهين أحدهما أن يس اسم للسورة فكأنه قال اتل يس وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف والثاني أنه فتح لالتقاء الساكنين والتسكين أجود لأنه حرف هجاء
قوله تعالى والقرآن الحكيم هذا قسم وقد سبق معنى الحكيم البقرة 32 قال الزجاج وجوابه إنك لمن المرسلين وأحسن ما جاء في العربية أن يكون لمن المرسلين خبر إن ويكون قوله على صراط مستقيم خبرا ثانيا فيكون المعنى إنك لمن المرسلين إنك على صراط مستقيم ويجوز أن يكون على صراط من صلة المرسلين فيكون المعنى إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة
قوله تعالى تنزيل العزيز قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو تنزيل (7/4)
برفع اللام وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تنزيل بنصب اللام وعن عاصم كالقراءتين قال الزجاج من قرأ بالنصب فعلى المصدر على معنى نزل الله ذلك تنزيلا ومن قرأ بالرفع فعلى معنى الذي أنزل إليك تنزيل العزيز وقال الفراء من نصب أراد إنك لمن المرسلين تنزيلا حقا منزلا ويكون الرفع على الاستئناف كقوله ذلك تنزيل العزيز وقرأ أبي بن كعب وأبو رزين وأبو العالية والحسن والجحدري تنزيل بكسر اللام وقال مقاتل هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه
قوله تعالى لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم في ما قولان
أحدهما أنها تنفي وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين
والثاني أنها بمعنى كما قاله مقاتل وقيل هي بمعنى الذي
قوله تعالى فهم غافلون أي عن حجج التوحيد وأدلة البعث
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين
لقد حق القول فيه قولان أحدهما وجب العذاب والثاني سبق القول بكفرهم (7/5)
قوله تعالى على أكثرهم يعني أهل مكة وهذه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة لكفرهم فهم لا يؤمنون لما سبق من القدر بذلك
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها مثل وليس هناك غل حقيقة قاله أكثر المحققين ثم لهم فيه ثلاثة أقوال أحدها أنها مثل لمنعهم عن كل خير قاله قتادة والثاني لحبسهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال قاله الفراء وابن قتيبة والثالث لمنعهم من الإيمان بالله قاله أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل قال مقاتل بن سليمان حلف أبو جهل لئن رأى النبي صلى الله عليه و سلم يصلي ليدمغنه فجاءه وهو يصلي فرفع حجرا فيبست يده والتصق الحجر بيده فرجع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقام رجل منهم فأخذ الحجر فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم طمس الله على بصره فلم يره فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فنزل في أبي جهل إنما جعلنا في أعناقهم أغلالا الآية ونزل في الآخر وجعلنا من بين أيديهم سدا (7/6)
والقول الثالث أنه على حقيقته إلا أنه وصف لما سينزله الله تعالى بهم في النار حكاه الماوردي
قوله تعالى فهي إلى الأذقان قال الفراء فهي كناية عن الأيمان ولم تذكر لأن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعا لهما فاكتفي بذكر أحدهما عن صاحبه وقال الزجاج هي كناية عن الأيدي ولم يذكر إيجازا لأن الغل يتضمن اليد والعنق وأنشد ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ...
وإنما قال أيهما لأنه قد علم أن الخير والشر معرضان للانسان قال الفراء والذقن أسفل اللحيين والمقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه قال أبو عبيده كل رافع رأسه فهو مقامح وقامح والجمع قماح فان فعل ذلك بانسان فهو مقمح ومنه هذه الآية وقال ابن قتيبة يقال بعير قامح وإبل قماح إذا رويت من الماء فقمحت قال الشاعر وذكر سفينة ... ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح وقال الأزهري المراد أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها (7/7)
قوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح السين والباقون بضمها وقد تكلمنا على الفرق بينهما في الكهف 94 وفي معنى الآية قولان
أحدهما منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر
والثاني حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالظلمة لما قصدوه بالأذى
قوله تعالى فأغشيناهم قال ابن قتيبة أغشينا عيونهم وأعميناهم عن الهدى وقرأ ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ويحيى بن يعمر فأغشيناهم بعين غير معجمة ثم ذكر ان الإنذار لا ينفعهم لإضلاله إياهم بالآية التي بعد هذه ثم أخبر عمن ينفعه الإنذار بقوله إنما تنذر أي إنما ينفع إنذارك من اتبغ الذكر وهو القرآن فعمل به وخشي الرحمن بالغيب وقد شرحناه في الأنبياء 49 والأجر الكريم الحسن وهو الجنة إنا نحن نحيي الموتى للبعث ونكتب ما قدموا من خير وشر في دنياهم وقرأ النخعي والجحدري ويكتب بياء مرفوعة وفتح التاء وآثارهم برفع الراء
وفي أثارهم ثلاثة أقوال
أحدها أنها خطاهم بأرجلهم قاله الحسن ومجاهد وقتادة قال أبو سعيد الخدري شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد منازلهم من المسجد فأنزل الله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم عليكم منازلكم فانما تكتب آثاركم وقال قتادة وعمر بن عبد العزيز لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدم ابن آدم (7/8)
والثاني أنها الخطا إلى الجمعة قاله أنس بن مالك
والثالث ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم قاله ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره الفراء وابن قتيبة والزجاج
قوله تعالى وكل شيء وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة وكل برفع اللام أي من الأعمال أحصيناه أي حفظناه في إمام مبين وهو اللوح المحفوظ (7/9)
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون
قوله تعالى واضرب لهم مثلا المعنى صف لأهل مكة مثلا أي شبها وقال الزجاج المعنى مثل لهم مثلا أصحاب القرية وهو بدل من مثل كأنه قال اذكر لهم أصحاب القرية وقال عكرمة وقتادة هذه القرية هي أنطاكية
إذ أرسلنا إليهم اثنين وفي اسميهما ثلاثة أقوال أحدها صادق وصدوق قاله ابن عباس وكعب والثاني يوحنا وبولس قاله وهب بن منبه والثالث تومان وبولس قاله مقاتل (7/10)
قوله تعالى فعززنا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم فعززنا بتشديد الزاي قال ابن قتيبة المعنى قوينا وشددنا يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم فعززنا خفيفة قال أبو علي أراد فغلبنا قال مقاتل واسم هذا الثالث شمعون وكان من الحواريين وهو وصي عيسى عليه السلام قال وهب وأوحى الله إلى شمعون يخبره خبر الاثنين ويأمره بنصرتهما فانطلق يؤمهما وذكر الفراء أن هذا الثالث كان قد أرسل قبلهما قال ونراه في التنزيل كأنه بعدهما وإنما المعنى فعززنا بالثالث الذي قبلهما والمفسرون على أنه إنما أرسل لنصرتهما ثم إن الثالث إنما يكون بعد ثان فأما إذا سبق الاثنين فهو أول وإني لأتعجب من قول الفراء واختلف المفسرون فيمن أرسل هؤلاء الرسل على قولين تعالى أرسلهم وهو ظاهر القرآن وهو مروي عن ابن عباس وكعب ووهب
والثاني أن عيسى أرسلهم وجاز أن يضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله قاله قتادة وابن جريج
قوله تعالى قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أي مالكم علينا فضل في شيء وما أنزل الرحمن من شيء أي لم ينزل كتابا ولم يرسل رسولا (7/11)
وما بعده ظاهر إلى قوله قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أن المطر حبس عنهم فقالوا إنما أصابنا هذا من قبلكم لئن لم تنتهوا أي تسكتوا عنا لنرجمنكم أي لنقتلنكم
قالوا طائركم معكم أي شؤمكم معكم بكفركم لا بنا أئن ذكرتم قرأ ابن كثير أين ذكرتم بهمزة واحدة بعدها ياء وافقه أبو عمرو إلا أنه كان يمد قال الأخفش معناه حيث ذكرتم أي وعظتم وخوفتم وهذا استفهام جوابه محذوف تقديره أئن ذكرتم تطيرتم بنا وقيل أئن ذكرتم قلتم هذا القول والمسرفون هاهنا المشركون
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كما منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فاذا هم خامدون
قوله تعالى وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى واسمه حبيب النجار وكان مجذوما وكان قد آمن بالرسل لما وردوا القرية وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم جاء يسعى فقال ما قصه الله علينا إلى قوله وهم مهتدون يعنى (7/12)
الرسل فأخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له الملك أفأنت تتبعهم فقال ومالى أسكن هذه الياء حمزة وخلف ويعقوب لا أعبد الذي فطرني أي وأي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وإليه ترجعون عند البعث فيجزيكم بكفركم
فان قيل لم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو يعلم أن الله قد فطرهم جميعا كما يبعثهم جميعا
فالجواب أن إيجاد الله تعالى نعمة يوجب الشكر والبعث في القيامة وعيد يوجب الزجر فكانت إضافة النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ في الزجر
ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله أأتخذ من دونه آلهة
قوله تعالى لا تغن عني شفاعتهم يعني أنه لا شفاعة لهم فتغني ولا ينقذون أثبت ها هنا الياء في الحالين يعقوب وورش والمعنى لا يخلصوني من ذلك المكروه إني إذا فتح هذه الياء نافع وأبو عمرو
قوله تعالى إني آمنت بربكم فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو
وفيمن خاطبهم بايمانه قولان أحدهما أنه خاطب قومه بذلك قاله ابن مسعود والثاني أنه خاطب الرسل
ومعنى فاسمعون اشهدوا لي بذلك قاله الفراء وقال أبو عبيدة المعنى فاسمعوا مني وأثبت ياء فاسمعوني في الحالين يعقوب قال ابن مسعود لما خاطب قومه بذلك وطئوه بأرجلهم وقال السدي رموه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي
قوله تعالى قيل ادخل الجنة لما قتلوه فلقي الله قيل ادخل الجنة (7/13)
فلما دخلها قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وفي ما قولان
أحدهما أنها مع غفر في موضع مصدر والمعنى بغفران الله لي
والثاني أنها بمعنى الذي فالمعنى ليتهم يعلمون بالذي غفر لي به ربي فيؤمنون فنصحهم حيا وميتا
فلما قتلوه عجل الله لهم العذاب فذلك قوله وما أنزلنا على قومه يعنى قوم حبيب من بعده أي من بعد قتله من جند من السماء يعني الملائكة أي لم ينتصر منهم بجند من السماء وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم وقيل المعنى ما بعثنا إليهم بعده نبيا ولا أنزلنا عليهم رسالة
إن كانت إلا صيحة واحدة قال المفسرون أخذ جبريل عليه السلام بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فاذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت وهو قوله فاذا هم خامدون أي ساكنون كهيأة الرماد الخامد
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكروه سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (7/14)
قوله تعالى يا حسرة على العباد قال الفراء المعنى يالها حسرة على العباد وقال الزجاج الحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم مالا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا وفي المتحسر على العباد قولان
أحدهما أنهم يتحسرون على أنفسهم قال مجاهد والزجاج استهزاؤهم بالرسل كان حسرة عليهم في الآخرة وقال أبو العالية لما عاينوا العذاب قالوا يا حسرتنا على المرسلين كيف لنا بهم الآن حتى نؤمن
والثاني أنه تحسر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل قاله الضحاك
ثم خوف كفار مكة فقال ألم يروا أي ألم يعلموا كم أهلكنا قبلهم من القرون فيعتبروا ويخافوا أن نعجل لهم الهلاك كما عجل لمن أهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا قال الفراء وألف أنهم مفتوحة لأن المعنى ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون وقد كسرها الحسن كأنه لم يوقع الرؤية على كم فلم يقعها على أن وإن استأنفتها كسرتها
قوله تعالى وإن كل لما وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة لما بالتشديد جميع لدينا محضرون أي إن الأمم يحضرون يوم القيامة فيجازون بأعمالهم قال الزجاج من قرأ لما بالتخفيف ف ما زائدة مؤكدة والمعنى وإن كل لجميع ومعناه وما كل إلا جميع لدينا محضرون ومن قرأ لما بالتشديد فهو بمعنى إلا تقول سألتك لما فعلت وإلا فعلت (7/15)
وآية لهم الأرض الميتة وقرأ نافع الميتة بالتشديد وهو الأصل والتخفيف أكثر وكلاهما جائز وآية مرفوعة بالابتداء وخبرها لهم ويجوز أن يكون خبرها الأرض الميتة والمعنى وعلامة تدلهم على التوحيد وأن الله يبعث الموتى أحياء الأرض الميتة
قوله تعالى فمنه يأكلون يعنى ما يقتات من الحبوب
قوله تعالى وجعلنا فيها وقوله وفجرنا فيها يعني في الأرض
قوله تعالى ليأكلوا من ثمره يعني النخيل وهو في اللفظ مذكر
وما عملته أيديهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم عملته بهاء وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم عملت بغير هاء والهاء مثبتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة قال الزجاج موضع ما خفض والمعنى ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم ويجوز أن يكون ما نفيا المعنى ولم تعمله أيديهم وهذا على قراءه من أثبت الهاء فاذا حذفت الهاء فالاختيار أن تكون ما في موضع خفض وتكون بمعنى الذي فيحسن حذف الهاء وكذلك ذكر المفسرون القولين فمن قال بالأول قال ليأكلوا مما عملت أيديهم وهو الغروس والحروث التي تعبوا فيها ومن قال بالثاني قال ليأكلوا ما ليس من صنعهم ولكنه من فعل الحق عز و جل أفلا يشكرون الله تعالى فيوحدوه
ثم نزه نفسه بقوله سبحان الذي خلق الأزواج كلها يعني الأجناس كلها مما تنبت الأرض من الفواكهة والحبوب وغير ذلك (7/16)
ومن أنفسهم وهم الذكور والإناث ومما لا يعلمون من دواب البر والبحر وغير ذلك مما لم يقفوا على علمه
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النار وكل في فلك يسبحون
قوله تعالى وآية له الليل نسلخ منه النهار أي وعلامة لهم تدل على توحيدنا وقدرتنا الليل نسلخ منه النهار قال الفراء نرمي بالنهار عنه ومنه بمعنى عنه وقال أبو عبيدة نخرج منه النهار ونميزه منه فتجيء الظلمة قال الماوردي وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فاذا خرج منه أظلم وقوله فاذا هم مظلمون أي داخلون في الظلام
والشمس أي وآية لهم الشمس تجرى لمستقر لها وفيه أربعة أقوال
أحدها إلى موضع قرارها روى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله لمستقر لها قال مستقرها تحت العرش وقال إنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الطلوع فيؤذن لها (7/17)
والثاني أن مستقرها مغربها لا تجاوزه ولا تقتصر عنه قاله مجاهد
والثالث لوقت واحد لا تعدوه قاله قتاده وقال مقاتل لوقت لها إلى يوم القيامة
والرابع تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول منازلها قاله ابن السائب وقال ابن قتيبة إلى مستقر لها ومستقرها أقصى منازلها في الغروب وذلك لأنها لا تزال تتقدم إلى أقصى مغاربها ثم ترجع
وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعلي بن الحسين والشيزري عن الكسائي لا مستقر لها والمعنى أنها تجري أبدا لا تثبت في مكان واحد
قوله تعالى ذلك الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير العزيز في ملكه العليم بما يقدر قوله تعالى والقمر قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والقمر بالرفع وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والقمر بالنصب قال الزجاج من قرأ بالنصب فالمعنى وقدرنا القمر قدرناه منازل ومن قرأ بالرفع فالمعنى وآية لهم القمر قدرناه ويجوز أن يكون على الابتداء (7/19)
وقدرناه الخبر
قال المفسرون ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ينزلها من أول الشهر إلى آخره وقد سميناها في سورة يونس 5 فاذا صار إلى آخر منازله دق فعاد كالعرجون وهو عود العذق الذي تركته الشماريخ فاذا جف وقدم يشبه الهلال قال ابن قتيبة والقديم هاهنا الذي قد أتى عليه حول شبه القمر آخر ليلة يطلع به قال الزجاج وتقدير عرجون فعلون من الانعراج
وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء والضحاك وعاصم الجحدري وابن السميفع كالعرجون بكسر العين
قوله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر فيه ثلاثة أقوال
أحدهما أنهما إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر فلا يشتركان في المنازل قاله ابن عباس
والثاني لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر قاله مجاهد
والثالث لا يجمتع ضوء أحدهما مع الآخر فاذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر قاله قتادة فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء لم يعرف الليل
قوله تعالى ولا الليل سابق النهار وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء (7/20)
وأبو عمران وعاصم الجحدري سابق بالتنوين النهار بالنصب وفيه قولان
أحدهما لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار
والثاني لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بيهما وباقي الآية مفسر في سورة الأنبياء33
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين
قوله تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم قرأ نافع وابن عامر ذرياتهم على الجمع وقرأ الباقون من السبعة ذريتهم على التوحيد قال المفسرون أراد في سفينة نوح فنسب الذرية إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم كأنه قال ذرية الناس وقال الفراء أي ذرية من هو منهم فجعلها ذرية لهم وقد سبقتهم وقال غيره هو حمل الأنبياء في أصلاب الآباء حين ركبوا السفينة ومنه قول العباس ... بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق ...
قال المفضل بن سلمة الذرية النسل لأنهم من ذرأهم الله منهم والذرية (7/21)
أيضا الآباء لأن الذر وقع منهم فهو من الأضداء ومنه هذه الآية وقد شرحنا هذا في قوله ذرية بعضها من بعض آل عمران 34 والمشحون المملوء
قوله تعالى وخلقنا لهم من مثله فيه قولان
أحدهما مثل سفينة نوح وهي السفن روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الضحاك وأبو مالك وأبو صالح والمراد بهذا ذكر منته بأن خلق الخشب الذي تعمل منه السفن
والثاني أنها الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وعن الحسن وقتادة كالقولين
قوله تعالى فلا صريخ لهم أي لا مغيث ولا مجير ولا هم ينقذون أي ينجون من الغرق يقال أنقذه واستنقذه إذا خلصه من المكروه إلا رحمة منا المعنى إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم
قوله تعالى وإذا قيل لهم يعني الكفار اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم فيه أربعة أقوال
أحدها ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب وما خلفكم ما يأتي من الذنوب قاله مجاهد (7/22)
والثاني ما بين أيدكم ما تقدم من عذاب الله للأمم وما خلفكم من أمر الساعة قاله قتادة
والثالث ما بين أيديكم من الدنيا وما خلفكم من عذاب الآخرة قاله سفيان
والرابع ما بين أيديكم من أمر الآخرة وما خلفكم من أمر الدنيا فلا تغتروا بها قاله ابن عباس والكلبي
لعلكم ترحمون أي لتكونوا على رجاء الرحمة من الله وجواب إذا محذوف تقديره إذا قيل لهم هذا أعرضوا ويدل على هذا المحذوف قوله وما تأتيهم من آية أي من دلالة تدل على صدق الرسول
وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إ ن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فاذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلتنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فاذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤن لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم (7/23)
قوله تعالى وإذا قيل لهم أنفقوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال أحدها في اليهود قاله الحسن والثاني في الزنادقة قاله قتادة والثالث في مشركي قريش قاله مقاتل وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة أنفقوا على المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام فقالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وقال ابن السائب كان العاص بن وائل إذا سأله مسكين قال اذهب إلى ربك فهو أولى بك مني ويقول قد منعه الله أطعمه أنا ومعنى الكلام أنهم قالوا لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعمهم وهذا خطأ منهم لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وافقر بعضا ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة والمؤمن لا يعترض على المشيئة وإنما يوافق الأمر وقيل إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء
وفي قوله إن أنتم إلا في ضلال مبين قولان أحدهما أنه من قول الكفار للمؤمنين يعنون إنكم في خطأ من اتباع محمد والثاني أنه من قول الله للكفار لما ردوه من جوانب المؤمنين
قوله تعالى متى هذا الوعد يعنون القيامة والمعنى متى إنجاز هذا الوعد إن كنتم صادقين يعنون محمدا وأصحابه
ما ينظرون أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخة الأولى و يخصمون بمعنى يختصون فأدغمت التاء في الصاد قرأ ابن كثير وابو عمرو يخصمون بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد وروي عن أبي عمرو اختلاس حركة الخاء وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي (7/24)
يخصمون بفتح الياء وكسر الخاء وعن عاصم كسر الياء والخاء وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد أي يخصم بعضهم بعضا وقرأ أبي بن كعب يختصمون بزيادة تاء والمعنى أن الساعة تأتيهم أغفل ما كانوا عنها وهم متشاغلون في متصرفاتهم وبيعهم وشرائهم فلا يستطيعون توصية قال مقاتل أعجلوا عن الوصية فماتوا ولا إلى أهلهم يرجعون أي لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم فهذا وصف ما يلقون في النفخة الأولى ثم ذكر ما يلقون في النفخة الثانية فقال ونفخ في الصور فاذا هم من الأجداث يعني القبور إلى ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء 96 قالوا يا وليلنا من بعثنا من مرقدنا وقرأ علي بن أبي طالب وأبو رزين والضحاك وعاصم الجحدري من بعثنا بكسر الميم والثاء وسكون العين قال المفسرون إنما قالوا هذا لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين قال أبي بن كعب ينامون نومة قبل البعث فاذا بعثوا قالوا هذا (7/25)
قوله تعالى هذا ما وعد الرحمن في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أنه قول المؤمنين قاله مجاهد وقتادة وابن أبي ليلى قال قتادة أول الآية للكافرين وآخرها للمؤمنين
والثاني أنه قول الملائكة لهم قاله الحسن
والثالث أنه قول الكافرين يقول بعضهم لبعض هذا الذي أخبرنا به المرسلون أننا نبعث ونجازى قاله ابن زيد
قال الزجاج من مرقدنا هو وقف التمام ويجوز أن يكون هذا من نعت مرقدنا على معنى من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنا راقدين فيه ويكون في قوله ما وعد الرحمن أحد إضمارين إما هذا وإما حق فيكون المعنى حق ما وعد الرحمن (7/26)
ثم ذكر النفخة الثانية فقال إن كانت إلا صيحة واحدة وما بعد هذا ظاهر إلى قوله إن أصحاب الجنة اليوم يعني في الآخرة في شغل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في شغل باسكان الغين وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في شغل بضم الشين والغين وقرأ أبو هريرة وأبو رجاء وأيوب السختياني في شغل بفتح الشين والغين وقرأ أبو مجلز وأبو العالية وعكرمة والضحاك والنخعي وابن يعمر والجحدري في شغل بفتح الشين وسكون الغين وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أن شغلهم اقتضاض العذارى رواه شقيق عن ابن مسعود ومجاهد عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة والضحاك
والثاني ضرب الأوتار رواه عكرمة عن ابن عباس وعن عكرمة كالقولين ولا يثبت هذا القول
والثالث النعمة قاله مجاهد وقال الحسن شغلهم نعيمهم عما فيه أهل النار من العذاب (7/27)
قوله تعالى فاكهون وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وقتادة وأبو الجوزاء والنخعي وأبو جعفر فكهون وهل بينهما فرق فيه قولان
أحدهما أن بينهما فرقا
فأما فاكهون ففيه أربعه أقوال أحدها فرحون قاله ابن عباس والثاني معجبون قاله الحسن وقتادة والثالث ناعمون قاله أبو مالك ومقاتل والرابع ذوو فاكهة كما يقال فلان لابن تامر قاله أبو عبيدة وابن قتيبة
وأما فكهون ففيه قولان أحدهما أن الفكه الذي يتفكه تقول العرب للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس إن فلانا لفكه بكذا ومنه يقال للمزاح فكاهة قاله أبو عبيدة
والثاني أن فكهين بمعنى فرحين قاله أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أن فاكهين وفكهين بمعنى واحد كما يقال حاذر وحذر قاله الفراء وقال الزجاج فاكهون وفكهون بمعنى فرحين وقال أبو زيد الفكه الطيب النفس الضحوك يقال رجل فاكه وفكه
قوله تعالى هم وأزواجهم يعنى حلائلهم في ظلال وقرأ حمزة والكسائي وخلف في ظلل قال الفراء الظلال جمع ظل والظلل جمع ظلة وقد تكون الظلال جمع ظلة أيضا كما يقال خلة وخلل فاذا كثرت فهي الخلال والحلال والقلال قال مقاتل والظلال أكنان القصور (7/28)
قال أبو عبيدة والمعنى أنهم لا يضحون فأما الأرائك فقد بيناها في سورة الكهف 31
قوله تعالى ولهم ما يدعون قال ابن قتيبة ما يتمنون ومنه يقول الناس هو في خير ما ادعى أي ما تمنى والعرب تقول ادع ما شئت أي تمن ما شئت وقال الزجاج هو مأخوذ من الدعاء والمعنى كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم وقوله سلام بدل من ما المعنى لهم ما يتمنون سلام أي هذا منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم و قولا منصوب على معنى سلام يقوله الله قولا قال أبو عبيدة سلام رفع على لهم فالمعنى لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام وقال الفراء معنى الكلام لهم ما يدعون مسلم خالص ونصب القول كأنك قلت قاله قولا وإن شئت جعلته نصبا من قوله ولهم ما يدعون قولا كقولك عدة من الله وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والجحدري سلاما قولا بنصبهما جميعا
وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون إصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (7/29)
قوله تعالى وامتازوا اليوم أيها المجرمون قال ابن قتيبة أي انقطعوا عن المؤمنين وتميزوا منهم يقال مزت الشيء من الشيء إذا عزلته عنه فانماز وامتاز وميزته فتميز
قال المفسرون إذا اختلط الإنس والجن في الآخرة قيل وامتازوا اليوم أيها المجرمون فيقال للمجرمين ألم أعهد إليكم أي ألم آمركم ألم أوصيكم وتعبدوا بمعنى تطيعوا والشيطان هو إبليس زين لهم الشرك فأطاعوه إنه لكم عدو مبين ظاهر العداوة أخرج أبويكم من الجنة
وأن اعبدوني قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وأن اعبدوني بضم النون وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة وأن اعبدوني بكسر النون والمعنى وحدوني هذا صراط مستقيم يعني التوحيد
ولقد أضل منكم جبلا قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف جبلا بضم الجيم والباء وتخفيف اللام وقرأ أبو عمرو وابن عامر جبلا بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام وقرأ نافع وعاصم جبلا بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي والزهري والأعمش جبلا بضم الجيم والباء مع تشديد اللام وقرأ عبد الله بن عمرو وابن السميفع جبلا بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام وقرأ سعيد بن جبير وأبو المتوكل ومعاذ القارئ جبلا برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام وقرأ أبو العالية وابن يعمر جبلا بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام وقرأ أبو عمران الجوني وعمرو بن دينار جبالا مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف ومعنى الكلمة كيف تصرفت في هذه اللغات الخلق والجماعة فالمعنى (7/30)
ولقد أضل منكم خلقا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون فالمعنى قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان أفلم تعقلوا ذلك وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو رجاء ومجاهد وابن يعمر أفلم يكونوا يعقلون بالياء فيهما فاذا أدنوا إلى جهنم قيل لهم هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا اصلوها أي قاسوا حرها
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستقبوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون
قوله تعالى اليوم نختم على أفواهم وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء يختم بياء مضمومة وفتح التاء وتكلمنا قرأ ابن مسعود ولتكلمنا بزيادة لام مكسورة وفتح الميم و واو قبل اللام وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة لتكلمنا بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم وقرأوا جميعا ولتشهد أرجلهم بلام مكسورة وبنصب الدال
ومعنى نختم نطبع عليها وقيل منعها من الكلام هو الختم عليها وفي سبب ذلك أربعة أقوال
أحدها أنهم لما قالوا والله ربنا ما كنا مشركين الأنعام 23 ختم الله على أفواهم ونطقت جوارحهم قاله أبو موسى الأشعري
والثاني ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي صارت شهودا عليهم (7/31)
والثالث ليعرفهم أهل الموقف فيتميزوا منهم بذلك
والرابع لأن إقرار الجوارح أبلغ في الإقرار من نطق اللسان ذكرهن الماوردي
فان قيل ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة
فالجواب أن اليد كانت مباشرة والرجل حاضرة وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل
قوله تعالى ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها ولو نشاء لأذهبنا أعينهم حتى لا يبدو لها شق ولا جفن والمطموس الذي لا يكون بين جفينه شق فاستبقوا الصراط أي فتبادروا إلى الطريق فأنى يبصرون أي فكيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم وقرأ أبو بكر الصديق وعروة بن الزبير وأبو رجاء فاستبقوا بكسر الباء فأنى تبصرون بالتاء وهذا تهديد لأهل مكة وهو قول الأكثرين
والثاني ولو نشاء لأضللناهم وأعميناهم عن الهدى فأنى يبصرون الحق رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم روي عن جماعة منهم مقاتل
قوله تعالى ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم وروى أبو بكر عن عاصم على مكاناتهم وقد سبق بيان هذا البقرة آية 65 (7/32)
وفي المراد بقوله لمسخناهم أربعة أقوال أحدها لأهلكناهم قاله ابن عباس والثاني لأقعدناهم على أرجلهم قاله الحسن وقتادة والثالث لجعلناهم حجارة قاله أبو صالح ومقاتل والرابع لجعلناهم قردة وخنازير لا أرواح فيها قاله ابن السائب
وفي قوله فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ثلاثة أقوال أحدها فما استطاعوا أن يتقدموا ولا أن يتأخروا قاله قتادة والثاني فما استطاعوا مضيا عن العذاب ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ قاله الضحاك والثالث مضيا من الدنيا ولا رجوعا إليها قاله أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق قرأ حمزة ننكسه مشددة مع ضمن النون الأولى وفتح الثانية والباقون بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد وعن عاصم كالقراءتين ومعنى الكلام من نطل عمره ننكس خلقه فنجعل مكان القوة الضعف وبدل الشباب الهرم فنرده إلى أرذل العمر أفلا يعقلون قرأ نافع وأبو عمرو أفلا تعقلون بالتاء والباقون بالياء والمعنى أفلا يعقلون أن من فعل هذا قادر على البعث
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين
قوله تعالى وما علمناه الشعر قال المفسرون إن كفار مكة قالوا إن (7/33)
هذا القرآن شعر وإن محمدا شاعر فقال الله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك قال الفسرون ما كان يتزن له بيت شعر حتى إنه روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه تمثل يوما فقال كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا أشهد أنك رسول الله ما علمك الله الشعر وما ينبغي لك ودعا يوما بعباس بن مرادس فقال أنت القائل أتجعل نهبي ونهب العبي د بين الأقرع وعيينة فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي لم يقل كذلك فأنشده أبو بكر فقال (7/34)
رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يضرك بأيهما بدأت فقال أبو بكر والله ما أنت بشاعر ولا ينبغي لك الشعر وتمثل يوما فقال ويأتيك من لم تزوده بالأخبار فقال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله فقال إني لست بشاعر ولا ينبغي لي وإنما منع من قول الشعر لئلا تدخل الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر (7/35)
قوله تعالى إن هو يعني القرآن إلا ذكر إلا موعظة وقرآن مبين فيه الفرائض والسنن والأحكام
قوله تعالى لينذر قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي لينذر بالياء يعنون القرآن وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب لتنذر بالتاء يعنون النبي صلى الله عليه و سلم أي لتنذر يا محمد بما في القرآن وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن السميفع لينذر بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعا
قوله تعالى من كان حيا وفيه أربعة أقوال
أحدها حي القلب حي البصر قاله قتاده
والثاني من كان عاقلا قاله الضحاك قال الزجاج من كان يعقل ما يخاطب به فان الكافر كالميت في ترك النذير
والثالث مهتديا قاله السدي وقال مقاتل من كان مهتديا في علم الله
والرابع من كان مؤمنا قاله يحيى بن سلام وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله إنما تنذر الذين يخشون ربهم فاطر 18 ويجوز أن يريد إنما ينفع إنذارك من كان مؤمنا في علم الله
قوله تعالى ويحق القول على الكافرين معناه يجب وفي المراد بالقول قولان أحدهما أنه العذاب والثاني الحجة
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم (7/37)
جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون
ثم ذكرهم قدرته فقال أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما قال ابن قتيبة يجوز أن يكون المعنى مما عملناه بقوتنا وقدرتنا وفي اليد القدرة والقوة على العمل فتستعار اليد فتوضع موضعها هذا مجاز للعرب يحتمله هذا الحرف والله أعلم بما أراد وقال غيره ذكر الأيدي ها هنا يدل على انفراده بما خلق والمعنى لم يشاركنا أحد في إنشائنا والواحد منا إذا قال عملت هذا بيدي دل ذلك على انفراده بعمله وقال أبو سليمان الدمشقي معنى الآية مما أوجدناه بقدرتنا وقوتنا وهذا إجماع أنه لم يرد هاهنا إلا ما ذكرنا
قوله تعالى فهم لها مالكون فيه قولان
أحدهما ضابطون قاله قتادة ومقاتل قال الزجاج ومثله في الشعر ... أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا ...
أي لا أضبط رأس البعير
والثاني قادرون عليها بالتسخير لهم قاله ابن السائب
قوله تعالى وذللناها لهم أي سخرناها فهي ذليلة لهم فمنها ركوبهم قال ابن قتيبة الركوب ما يركبون والحلوب ما يحلبون قال الفراء ولو قرأ قارئ فمنها ركوبهم كان وجها كما تقول منها أكلهم وشربهم وركوبهم وقد قرأ بضم الراء الحسن وأبو العالية (7/38)
والأعمش وابن يعمر في آخرين وقرأ أبي بن كعب وعائشة ركوبتهم بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة قال المفسرون يركبون من الأنعام الإبل ويأكلون الغنم ولهم فيها منافع من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل ومشارب من ألبانها أفلا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه
ثم ذكر جهلهم فقال واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون أي لتمنعهم من عذاب الله ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله لا يستطيعون نصرهم أي لا تقدر الأصنام على منعهم من أمر أراده الله بهم وهم يعني الكفار لهم يعني الأصنام جند محضرون وفيه أربعة أقوال
أحدها جند في الدنيا محضرون في النار قاله الحسن
والثاني محضرون عند الحساب قاله مجاهد
والثالث المشركون جند للأصنام يغضبون لها في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا قاله قتادة وقال مقاتل الكفار يغضبون للآلهة ويحضرونها في الدنيا وقال الزجاج هم للأصنام ينتصرون وهي لا تستطيع نصرهم
والرابع هم جند محضرون عند الأصنام يعبدونها قاله ابن السائب
قوله تعالى فلا يحزنك قولهم يعني قول كفار مكة في تكذيبك إنا نعلم ما يسرون في ضمائرهم من تكذيبك وما يعلنون بألسنتهم من ذلك والمعنى إنا نثيبك ونجازيهم (7/39)
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
قوله تعالى أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال
أحدها أنه العاص بن وائل السهمي أخذ عظما من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم أيحيي الله هذا بعد ما أرى فقال نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت هذه الآيات رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنه عبد الله بن أبي بن سلول جرى له نحو هذه القصة رواه العوفي عن ابن عباس (7/40)
والثالث أنه أبو جهل ابن هشام وأن هذه القصة جرت له رواه الضحاك عن ابن عباس
والرابع أنه أمية بن خلف قاله الحسن
والخامس أنه أبي بن خلف الجمحي وهذه القصة جرت له قاله مجاهد وقتادة والجمهور وعليه المفسرون
ومعنى الكلام التعجب من جهل هذا المخاصم في إنكاره البعث والمعنى ألا يعلم أنه مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته وقيل هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلا
وضرب لنا مثلا في إنكار البعث بالعظم البالي حين فته بيده وتعجب ممن يقول إن الله يحييه ونسى خلقه أي نسي خلقنا له أي (7/41)
ترك النظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة قال من يحيي العظام وهي رميم أي بالية يقال رم العظم إذا بلي فهو رميم لأنه معدول عن فاعله وكل معدول عن وجهه و وزنه فهو مصروف عن إعرابه كقوله وما كانت أمك بغيا مريم 28 فأسقط الهاء لأنها مصروفة عن باغية فقاس هذا الكافر قدرة الله تعالى بقدرة الخلق فأنكر إحياء العظم البالي لأن ذلك ليس في مقدور الخلق قل يحييها الذي أنشأها أي ابتدأ خلقها أول مرة وهو بكل خلق من الابتداء والإعادة عليم
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا قال ابن قتيبة أراد الزنود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفار فإن قيل لم قال الشجر الأخضر ولم يقل الشجر الخضر
فالجواب أن الشجر جمع وهو يؤنث ويذكر قال الله تعالى فمالئون منها البطون الواقعة 53 وقال فاذا أنتم منه توقدون
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر وقرأ أبو بكر الصديق وعاصم الجحدري يقدر بياء من غير ألف على أن يخلق مثلهم وهذا استفهام تقرير والمعنى من قدر على ذلك العظيم قدر على هذا اليسير وقد فسرنا (7/42)
معنى أن يخلق مثلهم في بني إسرائيل 99 ثم أجاب هذا الاستفهام فقال بلى وهو الخلاق يخلق خلقا بعد خلق وقرأ أبي بن كعب والحسن وعاصم الجحدري وهو الخالق العليم بجميع المعلومات والملكوت والملك واحد وباقي السورة قد تقدم شرحه البقرة 117 32 الأنعام 75 (7/43)
سورة الصافات وهي مكية كلها باجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم
والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق
قوله تعالى والصافات صفا فيها قولان
أحدهما أنها الملائكة قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور قال ابن عباس هم الملائكة صفوف في السماء لا يعرف ملك منهم من إلى جانبه لم يلتفت منذ خلقه الله عز و جل وقيل هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة إلى أن يأمرها الله عز و جل بما يشاء
والثاني أنها الطير كقوله والطير صافات النور 41 حكاه الثعلبي (7/44)
وفي الزاجرات قولان
أحدهما أنها الملائكة التي تزجر السحاب قاله ابن عباس والجمهور
والثاني أنها زواجر القرآن وكل ما ينهى ويزجر عن القبيح قاله قتادة
وفي التاليات ذكرا ثلاثة أقوال
أحدها أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى قاله ابن مسعود والحسن والجمهور
والثاني أنهم الرسل رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم قاله قتادة
وهذا قسم بهذه الأشياء وجوابه إن إلهكم لواحد وقيل معناه ورب هذه الأشياء إنه واحد
قوله تعالى ورب المشارق قال السدي المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا والمغارب مثلها على عدد أيام السنة
فإن قيل لم ترك ذكر المغارب (7/45)
فالجواب أن المشارق تدل على المغارب لأن الشروق قبل الغروب
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب
قوله تعالى إنا زينا السماء الدنيا يعني التي تلي الأرض وهي أدنى السموات إلى الأرض بزينة الكواكب قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي بزينة الكواكب مضافا أي بحسنها وضوئها وقرأ حمزة وحفص عن عاصم بزينة منونة وخفض الكواكب وجعل الكواكب بدلا من الزينة لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد فالمعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب وقرأ أبو بكر عن عاصم بزينة بالتنوين وبنصب الكواكب والمعنى زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور قال الزجاج ويجوز أن يكون الكواكب في النصب بدلا من قوله بزينة لأن قوله بزينة في موضع نصب وقرأ أبي بن كعب ومعاذ القارئ وأبو نهيك وأبو حصين الأسدي في آخرين بزينة بالتنوين الكواكب برفع الباء قال الزجاج والمعنى إنا زينا السماء الدنيا بأن زينتها الكواكب وبأن زينت الكواكب وحفظا أي وحفظناها حفظا فأما المارد فهو العاتي وقد شرحنا هذا في قوله شيطانا مريدا النساء 117
قوله تعالى لا يسمعون قال الفراء لا هاهنا كقوله كذلك (7/46)
سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به الشعراء 200 201 ويصلح في لا على هذا المعنى الجزم فان العرب تقول ربطت الفرس لا ينفلت وقال غيره لكي لا يسمعوا إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة الذين في السماء وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف لا يسمعون بتشديد السين وأصله يتسمعون فأدغمت التاء في السين وإنما قال إلى الملأ الأعلى لأن العرب تقول سمعت فلانا وسمعت من فلان وإلى فلان
ويقذفون من كل جانب بالشهب دحورا قال قتادة أي قذفا بالشهب وقال ابن قتيبة أي طردا يقال دحرته دحرا ودحورا أي دفعته وقرأ علي بن أبي طالب وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن والضحاك وأيوب السختياني وابن أبي عبلة دحورا بفتح الدال
وفي الواصب قولان
أحدهما أنه الدائم قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والفراء وابن قتيبة
والثاني أنه الموجع قاله أبو صالح والسدي
وفي زمان هذا العذاب قولان أحدهما أنه في الآخرة والثاني أنه في الدنيا فهم يخرجون بالشهب ويخبلون إلى النفخة الأولى في الصور
قوله تعالى إلا من خطف الخطفة قرأ ابن السميفع خطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها وقرأ أبو رجاء والجحدري بكسر الخاء والطاء جميعا والتخفيف قال الزجاج خطف وخطف بفتح الطاء وكسرها يقال خطفت أخطف وخطفت أخطف إذا أخذت الشيء بسرعة (7/47)
ويجوز إلا من خطف بفتح الخاء وتشديد الطاء ويجوز خطف بكسر الخاء وفتح الطاء والمعنى اختطف فأدغمت التاء في الطاء وسقطت الألف لحركة الخاء فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في اختطف ومن كسر الخاء فلسكونها وسكون الطاء فأما من روى خطف بكسر الخاء والطاء فلا وجه لها إلا وجها ضعيفا جدا وهو أن يكون على إتباع الطاء كسرة الخاء قال المفسرون والمعنى إلا من اختطف الكلمة من كلام الملائكة مسارقة فأتبعه أي لحقه شهاب ثاقب قال ابن قتيبة أي كوكب مضيء يقال أثقب نارك أي أضئها والثقوب ما تذكى به النار
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون وقالوا يا ولينا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤلون مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون
قوله تعالى فاستفتهم أي فسلهم سؤال تقرير أهم أشد خلقا أي أحكم صنعة أم من خلقنا فيه قولان (7/48)
أحدهما أن المعنى أم من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض قاله ابن جرير
والثاني أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة والمعنى إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمن هؤلاء
ثم ذكر خلق الناس فقال إنا خلقناهم من طين لازب قال الفراء وابن قتيبة أي لاصق لازم والباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما قال ابن عباس هو الطين الحر الجيد اللزق وقال غيره هو الطين الذي ينشف عنه الماء وتبقى رطوبته في باطنه فيلصق باليد كالشمع وهذا إخبار عن تساوي الأصل في خلقهم وخلق من قبلهم فمن قدر على إهلاك الأقوياء قدر على إهلاك الضعفاء
قوله تعالى بل عجبت بل معناه ترك الكلام الأول والأخذب في الكلام الآخر كأنه قال دع يا محمد ما مضى
وفي عجبت قراءتان قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر بل عجبت بفتح التاء وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة وقتادة وأبو مجلز والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي في آخرين بل عجبت بضم التاء واختارها الفراء فمن فتح أراد بل عجبت يا محمد ويسخرون هم قال ابن السائب أنت تعجب منهم وهم يسخرون منك وفي ما عجب منه قولان أحدهما من الكفار إذ لم يؤمنوا بالقرآن والثاني إذ كفروا بالبعث ومن ضم أراد الإخبار عن الله عز و جل (7/49)
أنه عجب قال الفراء وهي قراءة علي وعبد الله وابن عباس وهي أحب إلي وقد أنكر هذه القراءة قوم منهم شريح القاضي فإنه قال إن الله لا يعجب إنما يعجب من لا يعلم قال الزجاج وإنكار هذه القراءة غلط لأن العجب من الله خلاف العجب من الآدمين وهذا كقوله ويمكر الله الأنفال 30 وقوله سخر الله منهم التوبة 79 وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال قد عجبت من كذا وكذلك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله عز و جل جاز أن يقول عجبت والله قد علم الشيء قبل كونه وقال ابن الأنباري المعنى جازيتهم على عجبهم من الحق فسمى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء فسمى فعله عجبا وليس بعجب في الحقيقة لأن المتعجب يدهش ويتحير والله عز و جل قد جل عن ذلك وكذلك سمي تعظيم الثواب عجبا لأنه إنما يتعجب من الشيء إذا كان في النهاية والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفا له في أكثر معانيه قال عدي ... ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذلك الدهر يودي بالرجال ... فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا وقال ابن جريرمن ضم التاء فالمعنى بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا وتكذيبهم تنزيلي وقال غيره إضافة العجب إلى الله على ضربين أحدهما بمعنى الإنكار والذم كهذه الآية والثاني بمعنى الاستحسان والإخبار عن تمام الرضى كقوله عليه السلام عجب ربك من شاب ليست له صبوة (7/50)
قوله تعالى وإذا ذكروا لا يذكرون أي إذا وعظوا بالقرآن لا يذكرون ولا يتعظون وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو المتوكل وعاصم الجحدري وأبو عمران ذكروا بتخفيف الكاف
وإذا رأوا آية قال ابن عباس يعني انشقاق القمر يستسخرون قال أبو عبيدة يستسخرون ويسخرون سواء قال ابن قتيبة يقال سخر واستسخر كما يقال قر واستقر وعجب واستعجب ويجوز أن يكون يسألون غيرهم من المشركين أن يسخروا من رسول الله كما يقال استعتبته أي سألته العتبى واستوهبته أي سألته الهبة واستعفيته سألته العفو
وقالوا إن هذا يعنون انشقاق القمر إلا سحر مبين أي بين لمن تأمله أنه سحر
أإذا متنا قد سبق بيان هذه الآية مريم 66 (7/51)
أو آباؤنا هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف كقوله أو أمن أهل القرى الاعراف 98 وقرأ نافع وابن عامر أو آباؤنا الأولون بسكون الواو هاهنا وفي الواقعة 48
قل نعم أي نعم تبعثون وأنتم داخرون أي صاغرون
فانما هي زجرة واحدة أي فانما قصة البعث صيحة واحدة من إسرافيل وهي نفخة البعث وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر فاذا هم ينظرون قال الزجاج أي يحيون ويبعثون بصراء ينظرون فاذا عاينوا بعثهم ذكروا إخبار الرسل عن البعث وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين أى يوم الحساب والجزاء فتقول الملائكة هذا يوم الفصل أي يوم القضاء الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء ويقول الله عز و جل يومئذ للملائكة احشروا أي اجمعوا الذين ظلموا من حيث هم وفيهم قولان أحدهما أنهم المشركون والثاني أنه عام في كل ظالم وفي أزواجهم أربعة أقوال
أحدها أمثالهم وأشباههم وهو قول عمر وابن عباس والنعمان بن بشير ومجاهد في أخرين وروي عن عمر قال يحشر صاحب الربا مع صاحب الربا وصاحب الزنا مع صاحب الزنا وصاحب الخمر مع صاحب الخمر
والثاني أن أزواجهم المشركات قاله الحسن
والثالث أشياعهم قاله قتادة
والرابع قرناؤهم من الشياطين الذين أضلوهم قاله مقاتل
وفي قوله وما كانوا يعبدون ثلاثة أقوال أحدها الأصنام قاله عكرمة وقتادة والثاني إبليس وحده قاله مقاتل والثالث الشياطين ذكره الماوردي وغيره (7/52)
قوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم أي دلوهم على طريقها والمعنى اذهبوا بهم إليها قال الزجاج يقال هديت الرجل إذا دللته وهديت العروس إلى زوجها وأهديت الهدية فاذا جعلت العروس كالهدية قلت أهديتها
قوله تعالى وقفوهم أي احبسوهم إنهم مسؤولون وقرأ ابن السميفع أنهم بفتح الهمزة قال المفسرون لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال هناك وفي هذا السؤال ستة أقوال
أحدها أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا الثاني عن لا إله إلا الله رويا جميعا عن ابن عباس والثالث عن خطاياهم قاله الضحاك والرابع سألهم خزنة جهنم ألم يأتكم نذير الملك 8 ونحو هذا قاله مقاتل والخامس أنهم يسألون عما كانوا يعبدون ذكره ابن جرير والسادس أن سؤالهم قوله ما لكم لا تناصرون ذكره الماوردي قال المفسرون المعنى مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر نحن جميع منتصر القمر 44 فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخا والمستسلم المنقاد الذليل والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنما لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (7/53)
ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعلمون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون
قوله تعالى وأقبل بعضهم على بعض فيهم قولان أحدهما الإنس على الشياطين والثاني الأتباع على الرؤساء يتساءلون تسآل توبيخ وتأنيب ولوم فيقول الأتباع للرؤساء لم غررتمونا ويقول الرؤساء لم قبلتم منا فذلك قوله قالوا يعنى الأتباع للمتبوعين إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين وفيه ثلاثة أقوال
أحدها كنتم تقهروننا بقدرتكم علينا لأنكم كنتك أعز منا رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني من قبل الدين فتضلونا قاله الضحاك وقال الزجاج تأتوننا من قبل الدين فتخدعونا بأقوى الأسباب
والثالث كنتم توثقون ما كنتم تقولون بأيمانكم فتأتوننا من قبل الأيمان التي تحلفونها حكاه علي بن أحمد النيسابوري فيقول المتبوعون لهم بل لم تكونوا مؤمنين أي لم تكونوا على حق فنضلكم عنه إنما الكفر من قبلكم
وما كان عليكم من سلطان فيه قولان أحدهما انه القهر والثاني الحجة فيكون المعنى على الأول وما كان لنا عليكم من قوة نقهركم بها (7/54)
ونكرهكم على متابعتنا وعلى الثاني لم نأتكم بحجة على ما دعوناكم إليه كما أتت الرسل
قوله تعالى فحق علينا قول ربنا أي فوجبت علينا كلمة العذاب وهي قوله لأملأن جهنم الاعراف 18 إنا لذائقون العذاب جميعا نحن وأنتم فأغويناكم أي أضللناكم عن الهدى بدعائكم إلى ما نحن عليه وهو قوله إنا كنا غاوين
ثم أخبر عن الأتباع والمتبوعين بقوله فانهم يومئذ في العذاب مشتركون والمجرمون هاهنا المشركون إنهم كانوا في الدنيا إذا قيل لهم لا إله إلا الله أي قولوا هذه الكلمة يستكبرون أي يتعظمون عن قولها ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا المعنى أنترك عبادة آلهتنا لشاعر أي لاتباع شاعر يعنون رسول الله صلى الله عليه و سلم فرد الله عليهم فقال بل أي ليس الأمر على ما قالوا بل جاء بالحق وهو التوحيد والقرآن وصدق المرسلين الذين كانوا قبله والمعنى أنه أتى بما أتوا به ثم خاطب المشركين بما يعد هذا إلى قوله إلا عباد الله المخلصين يعني الموحدين قال أبو عبيدة والعرب تقول إنكم لذاهبون إلا زيدا وفي ما استثناهم منه قولان
أحدهما من الجزاء على الأعمال فالمعنى إنا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم بل نغفر لهم قاله ابن زيد
والثاني من دون العذاب فالمعنى فإنهم لا يذوقون العذاب قاله مقاتل
قوله تعالى أولئك لهم رزق معلوم فيه قولان أحدهما أنه الجنة قاله قتادة والثاني أنه الرزق في الجنة قاله السدي (7/55)
فعلى هذا في معنى معلوم قولان أحدهما أنه بمقدار الغداة والعشي قاله ابن سائب والثاني أنهم حين يشتهونه يؤتون به قاله مقاتل
ثم بين الرزق فقال فواكه وهي جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وهم مكرمون بما أعطاهم الله وما بعد هذا قد تقدم تفسيره الحجر 47 إلى قوله يطاف عليهم بكأس من معين قال الضحاك كل كأس ذكرت في القرآن فإنما عني بها الخمر قال أبو عبيدة الكأس الإناء بما فيه والمعين الماء الطاهر الجاري قال الزجاج الكأس الإناء الذي فيه الخمر ويقع الكأس على كل إناء مع شرابه فإن كان فارغا فليس بكأس والمعين الخمر تجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العيون
قوله تعالى بيضاء قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن قال أبو سليمان الدمشقي ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر أنه قال بيضاء فأنث ولو أراد الإناء على انفراده أو الإناء والخمر لقال أبيض وقال ابن جرير إنما أراد بقوله بيضاء الكأس ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء
قوله تعالى لذة قال ابن قتيبة أي لذيذة يقال شراب لذاذ إذا كان طيبا وقال الزجاج أي ذات لذة
لا فيها غول فيه سبعة أقوال
أحدها ليس فيها صداع رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني ليس فيها وجع بطن رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وابن زيد (7/56)
والثالث ليس فيها صداع رأس قاله قتادة
والرابع ليس فيها أذى ولا مكروه قاله سعيد بن جبير
والخامس لا تغتال عقولهم قاله السدي وقال الزجاج لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها وجع
والسادس ليس فيها إثم حكاه ابن جرير
والسابع ليس فيها شيء من هذه الآفات لأن كل من ناله شيء من هذه الآفات قيل قد غالته غول فالصواب أن يكون نفي الغول عنها يعم جميع هذه الأشياء هذا اختيار ابن جرير
قوله تعالى ولاهم عنها ينزفون قرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي هاهنا وفيه الواقعة 19 وفتح عاصم الزاي هاهنا وكسرها في الواقعة 19 وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتح الزاي في السورتين قال الفراء فمن فتح فالمعنى لا تذهب عقولهم بشربها يقال للسكران نزيف ومنزوف ومن كسر ففيه وجهان أحدهما لا ينفدون شرابهم أي هو دائم أبدا والثاني لا يسكرون قال الشاعر ... لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا ...
قوله تعالى وعندهم قاصرات الطرف فيه قولان
أحدهما أنهن النساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرنن إلى غيرهم وأصل القصر الحبس قال ابن زيد إن المرأة منهن لتقول (7/57)
لزوجها وعزة ربى ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي
والثاني أنهن قد قصرن طرف الأزواج عن غيرهن لكمال حسنهن سمعته من الشيخ أبي محمد ابن الخشاب النحوي
وفي العين ثلاثة أقوال أحدها حسان العيون قاله مجاهد والثاني عظام الأعين قاله السدي وابن زيد والثالث كبار العيون حسانها وواحدتهن عيناء قاله الزجاج
قوله تعالى كأنهن بيض مكنون في المراد بالبيض هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه اللؤلؤ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال أبو عبيدة
والثاني بيض النعام قاله الحسن وابن زيد والزجاج قال جماعة من أهل اللغة والعرب تشبه المرأة الحسناء في بياضها وحسن لونها بيضة النعامة وهو أحسن ألوان النساء وهو أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة
والثالث أنه البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي قاله السدي وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وقتادة وابن جرير
فأما المكنون فهو المصون فعلى القول الأول هو مكنون في صدفه وعلى الثاني هو مكنون بريش النعام وعلى الثالث هو مكنون بقشرة (7/58)
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول ءإنك لمن المصدقين ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآة في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون
قوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يعني أهل الجنة يتساءلون عن أحوال كانت في الدنيا
قال قائل منهم إني كان لي قرين فيه أربعة أقوال أحدها أنه الصاحب في الدنيا والثاني أنه الشريك رويا عن ابن عباس والثالث أنه الشيطان قاله مجاهد والرابع أنه الأخ قال مقاتل وهما الأخوان المذكوران في سورة الكهف 32 في قوله واضرب لهم مثلا رجلين والمعنى كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث يقول أئنك لمن المصدقين قال الزجاج هي مخففة الصاد من صدق يصدق فهو مصدق ولا يجوز هاهنا تشديد الصاد قال المفسرون والمعنى أئنك لمن المصدقين بالبعث وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة المصدقين بتشديد الصاد (7/59)
قوله تعالى أئنا لمدينون أي مجزيون بأعمالنا يقال دنته بما صنع أي جازيته فأحب المؤمن أن يرى قرينة الكافر فقال لأهل الجنة هل أنتم مطلعون أي هل تحبون الاطلاع إلى النار لتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهلها وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو عمران وابن يعمر هل أنتم مطلعون باسكان الطاء وتخفيفها فاطلع بهمزة مرفوعة وسكون الطاء وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة مطلعون بكسر النون قال ابن مسعود اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال لقد رأيت جماجم القوم تغلي قال ابن عباس وذلك أن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار
قوله تعالى فرآه يعني قرينة الكافر في سواء الجحيم أي في وسطها وقيل إنما سمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب قال خليد العصري والله لولا أن الله عرفه إياه ما عرفه لقد تغير حبره وسبره فعند ذلك قال تالله إن كدت لتردين قال المفسرون معناه والله ما كدت إلا تهلكني يقال أرديت فلانا أي أهلكته ولولا نعمة ربي أي إنعامه علي بالإسلام لكنت من المحضرين معك في النار قوله تعالى أفما نحن بميتين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه إذا ذبح الموت قال أهل الجنة أفما نحن بميتين (7/60)
إلا موتتنا الأولى التي كانت في الدنيا وما نحن بمعذبين فيقال لهم لا فعند ذلك قالوا إن هذا لهو الفوز العظيم فيقول الله تعالى لمثل هذا فليعمل العاملون قاله ابن السائب وقيل يقول ذلك للملائكة
والثاني أنه قوله المؤمن لأصحابه فقالوا له إنك لا تموت فقال إن هذا لهو الفوز العظيم قاله مقاتل وقال أبو سفيان الدمشقي إنما خاطب المؤمن أهل الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النعيم لا على طريق الاستفهام لأنه قد علم أنهم ليسوا بميتين ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سرورا
والثالث أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان ينكره ذكره الثعلبي
قوله تعالى لمثل هذا يعنى النعيم الذي ذكره في قوله أولئك لهم رزق معلوم الصافات 41 فليعمل العاملون وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عز و جل بطاعته
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه (7/61)
رؤوس الشياطين فانهم لآكلون منها فمالؤن منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين
أذلك خير يشير إلى ما وصف لأهل الجنة نزلا قال ابن قتيبة أي رزقا ومنه إقامة الأنزال وأنزال الجنود أرزاقها وقال الزجاج النزل هاهنا الريع والفضل يقال هذا طعام له نزل ونزل بتسكين الزاي وضمها والمعنى أذلك خير في باب الأنزال التي تتقوت ويمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار وهو قوله أم شجرة الزقوم
واختلف العملماء هل هذه الشجرة في الدنيا أم لا
فقال قطرب هي شجرة مرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر وقال غيره الزقوم ثمرة شجرة كريهة الطعم وقيل إنها لا تعرف في شجر الدنيا وإنما هي في النار يكره أهل النار على تناولها
قوله تعالى إنا جعلناها فتنة للظالمين يعني للكافرين وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقوال
أحدها أنه لما ذكر أنها في النار افتتنوا وكذبوا فقالوا كيف يكون (7/62)
في النار شجرة والنار تأكل الشجر فنزلت هذه الآية قاله قتادة وقال السدي فتنة لأبي جهل وأصحابه
والثاني أن الفتنة بمعنى العذاب قاله ابن قتيبة
والثالث أن الفتنة بمعنى الاختبار اختبروا بها فكذبوا قاله الزجاج
قوله تعالى تخرج في أصل الجحيم أي في قعر النار قال الحسن أصلها في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها طلعها أي ثمرها وسمي طلعا لطلوعة كأنه رؤوس الشياطين
فإن قيل كيف شبهها بشيء لم يشاهد فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين وإن لم تشاهد فجاز تشبيهها بما قد علم قبحه قال امرؤ القيس ... أيقتلني والمشر في مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال ...
قال الزجاج هو لم ير الغول ولا أنيابها ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب المذكر أن يمثل بالشياطين وفي باب المؤنث أن يشبه بالغول
والثاني أن بين مكة واليمن شجر يسمى رؤوس الشياطين فشبهها بها قاله ابن السائب (7/63)
والثالث أنه أراد بالشياطين حيات لها رؤوس ولها أعراف شبه طلعها برؤوس الحيات ذكره الزجاج قال الفراء والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا وهو حية ذو عرف قبيح الوجه
قوله تعالى فانهم لآكلون منها أي من ثمرها فمالئون منها البطون وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم
ثم إن لهم عليها لشوبها من حميم قال ابن قتيبة أي خلطا من الماء الحار يشربونه عليها قال أبو عبيدة تقول العرب كل شيء خلطته بغيره فهو مشوب قال المفسرون إذا أكلوا الزقوم ثم شربوا عليه الحميم شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوبا له
ثم إن مرجعهم أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم لإلى الجحيم وذلك أن الحميم خارج الجحيم فهم يوردونه كما تورد الإبل الماء ثم يردون إلى الجحيم ويدل على هذا قوله يطوفون بينها وبين حميم آن الرحمن 44 و ألفوا بمعنى وجدوا و يهرعون مشروح في هود 78 والمعنى أنهم يتبعون آباءهم في سرعة ولقد ضل قبلهم أي قبل هؤلاء المشركين أكثر الأولين من الأمم الخالية (7/64)
قوله تعالى إلا عباد الله المخلصين يعنى الموحدين فإنهم نجوا من العذاب قال ابن جرير وإنما حسن الاستثناء لأن المعنى فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله
ولقد نادانا نوح فلنعم الموجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين
ولقد نادانا نوح أي دعانا وفي دعائه قولان أحدهما أنه دعا مستنصرا على قومه والثاني أن ينجيه من الغرق فلنعم المجيبون نحن والمعنى إنا أنجيناه وأهلكنا قومه
وفي الكرب العظيم قولان أحدهما أنه الغرق والثاني أذى قومه
وجعلنا ذريته هم الباقين وذلك أن نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده فالناس كلهم من ولد نوح وتركنا عليه أي تركنا عليه ذكرا جميلا في الآخرين وهم الذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة قال الزجاج وذلك الذكر الجميل قوله سلام على نوح في العالمين وهم الذين جاؤوا (7/65)
من بعده والمعنى تركنا عليه أن يصلى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة إنا كذلك نجزي المحسنين قال مقاتل جزاه الله باحسانه الثناء الحسن في العالمين
وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم
قوله تعالى وإن من شيعته لإبراهيم أي من أهل دينه وملته والهاء في شيعته عائدة على نوح في قول الأكثرين وقال ابن السائب تعود إلى محمد صلى الله عليه و سلم واختاره الفراء (7/66)
فان قيل كيف يكون من شيعته وهو قبله
فالجواب أنه مثل قوله حملنا ذريتهم يس 41 فجعلها ذريتهم وقد سبقتهم وقد شرحنا هذا فيما مضى يس 41
قوله تعالى إذ جاء ربه أي صدق الله وآمن به بقلب سليم من الشرك وكل دنس وفيه أقوال ذكرناها في الشعراء 89
قوله تعالى ماذا تعبدون هذا استفهام توبيخ كأنه وبخهم على عبادة غير الله أءفكا أي أتأفكون إفكا وتعبدون آلهة سوى الله فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره كأنه قال فما ظنكم أن يصنع بكم
فنظر نظرة في النجوم فيه قولان
أحدهما أنه نظر في علم النجوم وكان القوم يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث هم وأراهم أني أعلم من ذ لك ما تعلمون لئلا ينكروا عليه ذلك قال ابن المسيب رأى نجما طالعا فقال إني مريض غدا
والثاني أنه نظر إلى النجوم لا في علمها
فان قيل فما كان مقصوده
فالجواب أنه كان لهم عيد فأراد التخلف عنهم ليكيد أصناهم فاعتل بهذا القول
قوله تعالى إني سقيم من معاريض الكلام ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه سأسقم قاله الضحاك قال ابن الأنباري أعلمه الله عز و جل أنه يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم يعرفه فلما رأى النجم علم أنه سيسقم (7/67)
والثاني إني سقيم القلب عليكم إذ تكهنتم بنجوم لا تضر ولا تنفع ذكره ابن الأنباري
والثالث أنه سقم لعلة عرضت له حكاه الماوردي وذكر السدي أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال أني سقيم أشتكي رجلي فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتم أي مال إليها وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاما لتبارك فيه على زعمهم فقال إبراهيم استهزاء بها ألا تأكلون
وقوله ضربا باليمين في اليمين ثلاثة أقوال
أحدها أنها اليد اليمنى قاله الضحاك (7/68)
والثاني بالقوة والقدرة قاله السدي والفراء
والثالث باليمين التي سبقت منه وهي قوله وتالله لأكيدن أصناكم الأنبياء 57 حكاه الماوردي
قال الزجاج ضربا مصدر والمعنى فمال على الأصنام يضربها ضربا باليمين وإنما قال عليهم وهي أصنام لأنهم جعلوها بمنزلة ما يميز
فأقبلوا إليه يزفون قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي يزفون بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء وقرأ حمزة والمفضل عن عاصم يزفون برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء وقرأ ابن السميفع وأبو المتوكل والضحاك يزفون بفتح الياء وكسر الزاي وتخفيف الفاء وقرأ ابن أبي عبلة وأبو نهيك يزفون بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء قال الزجاج أعرب القراءات فتح الياء وتشديد الفاء وأصله من زفيف النعام وهو ابتداء عدو النعام يقال زف النعام يزف وأما ضم الياء فمعناه يصيرون إلى الزفيف وأنشدوا ... تمنى حصين ان يسود جذاعه ... فأضحى حصين قد أذل واقهرا ...
أي صار إلى القهر واما كسر الزاي مع تخفيف الفاء فهو من وزف يزف بمعنى أسرع يسرع ولم يعرفه الكسائي ولا الفراء وعرفه غيرهما (7/69)
قال المفسرون بلغهم ما صنع إبراهيم فأسرعوا فلما انتهوا إليه قال لهم محتجا عليهم أتعبدون ما تنحتون بأيديكم والله خلقكم وما تعملون قال ابن جرير في ما وجهان
أحدهما أن تكون بمعنى المصدر فيكون المعنى والله خلقكم وعملكم
والثاني أن تكون بمعنى الذي فيكون المعنى والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله
فلما لزمتهم الحجة قالوا ابنوا له بنيانا وقد شرحنا قصته في سورة الأنبياء 52 74 وبينا معنى الجحيم في البقرة 119 والكيد الذي أرادوا به إحراقه
ومعنى قوله فجعلناهم الأسفلين أن إبراهيم علاهم بالحجة حيث سلمه الله من كيدهم وحل الهلاك بهم
وقال يعني إبراهيم إني ذاهب إلى ربي في هذا الذهاب قولان
أحدهما أنه ذاهب حقيقة وفي وقت قوله هذا قولان أحدهما أنه حين أراد هجرة قومه فالمعنى إني ذاهب إلى حيث أمرني ربي عز و جل سيهدين إلى حيث أمرني وهو الشام قاله الأكثرون والثاني حين ألقي في النار قاله سليمان بن صرد فعلى هذا في المعنى قولان أحدهما ذاهب إلى الله بالموت (7/70)
سيهدين إلى الجنة والثاني ذاهب إلى ماقضى به ربي سيهدين إلى الخلاص من النار
والقول الثاني إني ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي قاله قتادة
فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال رب هب لي من الصالحين أي ولدا صالحا من الصالحين فاجتزأ بما ذكر عما ترك ومثله وكانوا فيه من الزاهدين يوسف 20 فاستجاب له وهو قوله فبشرناه بغلام حليم وفيه قولان أحدهما أنه إسحاق والثاني أنه إسماعيل قال الزجاج هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إ نه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (7/71)
قوله تعالى فما بلغ معه السعي فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن المراد بالسعي هاهنا العمل قاله ابن عباس
والثاني أنه المشي والمعنى مشى مع أبيه قاله قتاده قال ابن قتيبة بلغ أن ينصرف معه ويعينه قال ابن السائب كان ابن ثلاث عشرة سنة
والثالث أن المراد بالسعي العبادة قاله ابن زيد فعلى هذا يكون قد بلغ
قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام وإنما المعنى أنه أمر في المنام بذبحه ويدل عليه قوله افعل ما تؤمر وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه ولم ير إراقة الدم قال قتادة ورؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه وذكر السدي عن أشياخه أنه لما بشر جبريل سارة بالولد قال إبراهيم هو إذا لله ذبيح فلما فرغ من بنيان البيت أتي في المنام فقيل له أوف بنذرك واختلفوا في الذبيح على قولين
أحدهما أنه إسحاق قاله عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس ابن عبد المطلب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأنس وكعب الأحبار ووهب بن منبه ومسروق وعبيد بن عمير والقاسم ابن أبي بزة ومقاتل بن سليمان واختاره ابن جرير وهؤلاء يقولون كانت هذه القصة بالشام وقيل طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر بمنى في ساعة
والثاني أنه إسماعيل قاله ابن عمر وعبد الله بن سلام والحسن البصري وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ويوسف بن مهران وأبو صالح (7/72)
ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن سابط واختلفت الرواية عن ابن عباس فروى عنه عكرمة أنه إسحاق وروى عنه عطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين وعن سعيد بن جبير وعكرمة والزهري وقتادة والسدي روايتان وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها وأصحابنا ينصرون القول الأول
الإشارة إلى قصة الذبح ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن إبراهيم لما أراد ذبح ولده قال له انطلق فنقرب قربنا إلى الله عز و جل فأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق حتى إذا ذهبا بين الجبال قال له الغلام يا أبت أين قربانك قال يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك فقال له اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أمي فتحزن واسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي فاذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي ويقول نعم العون أنت يا بني (7/73)
على أمر الله عز و جل ثم إنه أمر السكين على حلقه فلم يحك شيئا وقال مجاهد لما أمرها على حلقه انقلبت فقال مالك انقلبت قال اطعن بها طعنا وقال السدي ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس وهذا لا يحتاج إليه بل منعها بالقدرة أبلغ قالوا فلما طعن بها نبت وعلم الله منهما الصدق في التسليم فنودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا هذا فداء ابنك فنظر إبراهيم فاذا جبريل معه كبش أملح
قوله تعالى فانظر ماذا ترى لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عز و جل ولكن أراد أن ينظر ما عنده من الرأي وقرأ حمزة والكسائي وخلف ماذا تري بضم التاء وكسر الراء وفيها قولان أحدهما ماذا تريني من صبرك أو جزعك قاله الفراء والثاني ماذا تبين قاله الزجاج وقال غيره ماذا تشير
قوله تعالى افعل ما تؤمر قال ابن عباس افعل ما أوحي إليك من ذبحي ستجدني إن شاء الله من الصابرين على البلاء
قوله تعالى فلما أسلما أي استسلما لأمر الله عز و جل فأطاعا ورضيا وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والأعمش وابن أبي عبلة فلما سلما بتشديد اللام من غير همز قبل السين والمعنى سلما لأمر الله عز و جل
وفي جواب قوله فلما أسلما قولان
أحدهما أن جوابه وناديناه والواو زائدة قاله الفراء
والثاني أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلا عليه والمعنى فلما فعل ذلك سعد وأجزل ثوابه قاله الزجاج (7/75)
قوله تعالى وتله للجبين قال ابن قتيبة أي صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما وهي ما أصاب الأرض في السجود والناس لا يكادون يفرقون بين الجبين والجبهة فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه ندب السجود والجبينان يكتنفانها من كل جانب جبين
قوله تعالى وناديناه قال المفسرون نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفيه قولان
أحدهما قد عملت ما أمرت وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه وطاوعه الابن بالتمكين من الذبح إلا أن الله عز و جل صرف ذلك كما شاء فصار كأنه قد ذبح وإن لم يتحقق الذبح
والثاني أنه رأى في المنام معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام قيل له قد صدقت الرؤيا
وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري قد صدقت الرؤيا بتخفيف الدال وهاهنا تم الكلام ثم قال تعالى إنا كذلك أي كما ذكرنا من العفو من ذبح ولده نجزي المحسنين (7/76)
إن هذا لهو البلاء المبين في ذلك قولان أحدهما النعم البينة قاله ابن السائب ومقاتل والثاني الاختبار العظيم قاله ابن زيد وابن قتيبة فعلى الأول يكون قوله هذا إشارة إلى العفو عن الذبح وعلى الثاني يكون إشارة إلى امتحانه بذبح ولده
قوله تعالى وفديناه يعني الذبيح بذبح وهو بكسر الذال اسم ما ذبح وبفتح الذال مصدر ذبحت قاله ابن قتيبة ومعنى الآية خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما قاله ابن عباس في رواية مجاهد وقال في رواية سعيد بن جبير هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه كان في الجنة حتى فدي به
والثاني أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين رواه أبو الطفيل عن ابن عباس
والثالث أنه ما فدي إلا بتيس من الأورى أهبط عليه من ثبير قاله الحسن
وفي معنى عظيم أربعة أقوال
أحدها لأنه كان قد رعى في الجنة قاله ابن عباس وابن جبير (7/77)
والثاني لأنه ذبح على دين إبراهيم وسنته قاله الحسن
والثالث لأنه متقبل قاله مجاهد وقال أبو سليمان الدمشقي لما قر به ابن آدم رفع حيا فرعى في الجنة ثم جعل فداء الذبيح فتقبل مرتين
والرابع لأنه عظيم الشخص والبركة ذكره الماوردي
قوله تعالى وتركنا عليه قد فسرناه في هذه السورة الصافات 78
قوله تعالى وبشرناه باسحاق من قال إن إسحق الذبيح قال بشر إبراهيم بنبوة إسحاق وأثيب إسحاق بصبره النبوة وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة وبه قال قتادة والسدي ومن قال الذبيح إسماعيل قال بشر الله إبراهيم بولد يكون نبيا بعد هذه القصة جزاء لطاعته وصبره وهذا قول سعيد ابن المسيب
قوله تعالى وباركنا عليه وعلى إسحاق يعني بكثرة ذريتهما وهم الأسباط كلهم ومن ذريتهما محسن أي مطيع لله وظالم وهو العاصي له وقيل المحسن المؤمن والظالم الكافر (7/78)
ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبدانا المؤمنين وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على آل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين
قوله تعالى ولقد مننا على موسى وهارون أي أنعمنا عليهما بالنبوة
وفي الكرب العظيم قولان أحدهما استعباد فرعون وبلاؤه وهو معنى قول قتادة والثاني الغرق قاله السدي
قوله تعالى ونصرناهم فيه قولان أحدهما أنه يرجع إلى موسى وهارون وقومهما والثاني أنه يرجع إليهما فقط فجمعا لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع لجنوده وأتباعه ذكرهما ابن جرير وما بعد هذا قد تقدم بيانه الأنبياء 48 إلى قوله وإن إلياس لمن المرسلين فيه قولان
أحدهما أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل قاله الأكثرون
والثاني أنه إدريس قاله ابن مسعود وقتادة وكذلك كان يقرأ ابن مسعود وأبوالعالية وأبو عثمان النهدي وإن إدريس مكان إلياس (7/79)
قوله تعالى إذ قال لقومه ألا تتقون أي ألا تخافون الله فتوحدونه وتعبدونه أتدعون بعلا فيه ثلاثة أقوال
أحدها انه بمعنى الرب قاله ابن عباس ومجاهد وأبوعبيدة وابن قتيبة وقال الضحاك كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف فبينا هو جالس إذ مر أعرابي قد ضلت ناقته وهو يقول من وجد ناقة أنا بعلها فتبعه الصبيان يصيحون به يازوج الناقة يازوج الناقة فدعاه ابن عباس فقال ويحك ما عنيت ببعلها قال أنا ربها فقال ابن عباس صدق الله أتدعون بعلا ربنا وقال قتادة هذه لغة يمانية
والثاني أنه اسم صنم كان لهم قاله الضحاك وابن زيد وحكى ابن جرير أنه به سميت بعلبك
والثالث أنها امرأه كانوا يعبدونها حكاه محمد بن إسحاق
قوله تعالى الله ربكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم الله ربكم بالرفع وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب الله بالنصب (7/80)
قوله تعالى فكذبوه فانهم لمحضرون النار إلا عباد الله المخلصين الذين لم يكذبوه فإنهم لا يحضرون النار
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير أنه لما كثرت الأحداث بعد قبض حزقيل النبي عليه السلام وعبدت الأوثان بعث الله تعالى إليهم إلياس قال ابن إسحاق وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه فدعا عليهم بحبس المطر فجهدوا جهدا شديدا واستخفى إلياس خوفا منهم على نفسه ثم إنه قال لهم يوما إنكم قد هلكتم جهدا وهلكت البهائم والشجر بخطاياكم فاخرجوا بأصنامكم وادعوها فان استجابت لكم فالأمر كما تقولون وإن لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم عنه ودعوت الله ففرج عنكم فقالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم وأوثانهم فدعوا فلم يستجب لهم فعرفوا ضلالهم فقالوا ادع الله لنا فدعا لهم فأرسل المطر وعاشت بلادهم فلم بنزعوا عما كانوا عليه فدعا إلياس ربه ان يقبضه إليه ويريحه منهم فقيل له اخرج يوم كذا إلى مكان كذا فما جاءك من شيء فاربكه ولا تهبه فخرج فأقبل فرس من نار فوثب عليه فانطلق به وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار في الملائكة فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا (7/81)
قوله تعالى سلام على إلياسين قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي إلياسين موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام فجعلوها كلمة واحدة وقرأ الحسن مثلهم إلا أنه فتح الهمزة وقرأ نافع وابن عامر وعبد الوارث ويعقوب إلا زيدا إل ياسين مقطوعة فجعلوها كلمتين
وفي قراءة الوصل قولان
أحدهما أنه جمع لهذا النبي وامته المؤمنين به وكذلك يجمع ما ينسب إلى الشيء بلفظ الشيء فتقول رأيت المهالبة تريد بني المهلب والمسامعة تريد بني مسمع
والثاني أنه اسم النبي وحده وهو اسم عبراني والعجمي من الأسماء قد يفعل به هكذا كما تقول ميكال وميكائيل ذكر القولين الفراء والزجاج
فأما قراءة من قرأ إل ياسين مفصولة ففيها قولان
أحدهما أنهم آل هذا النبي المذكور وهو يدخل فيهم كقوله عليه السلام اللهم صل على آل أبي أوفى فهو داخل فيهم لأنه هو المراد بالدعاء (7/82)
والثاني أنهم آل محمد صلى الله عليه و سلم قاله الكلبي وكان عبد الله بن مسعود يقرأ سلام على إدراسين وقد بينا مذهبه في أن إلياس هو إدريس
فان قيل كيف قال إدراسين وإنما الواحد إدريس والمجموع إدريسي لا إدراس ولا إدراسي
فالجواب أنه يجوز أن يكون لغة كابراهيم إبراهام و مثله ... قدني من نصر الخبيبين قدي وقرأ أبي بن كعب وأبو نهيك سلام على ياسين بحذف الهمزة واللام (7/84)
وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون
قوله تعالى إذ نجيناه إذ هاهنا لا يتعلق بما قبله لأنه لم يرسل إذ نجي ولكنه يتعلق بمحذوف تقديره واذكر يامحمد إذ نجيناه وقد تقدم تفسير ما بعد هذا الشعراء 171 إلى قوله وإنكم لتمرون عليهم مصبحين هذا خطاب لأهل مكة كانوا إذا ذهبوا إلى الشام وجاؤوا مروا على قرى قوم لوط صباحا ومساء أفلا تعقلون فتعتبرون
وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (7/85)
فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين
قوله تعالى إذ أبق قال المبرد تأويل أبق تباعد وقال أبو عبيدة فزع وقال الزجاج هرب وقال بعض أهل المعاني خرج ولم يؤذن له فكان بذلك كالهارب من مولاه قال الزجاج والفلك السفينة والمشحون المملوء وساهم بمعنى قارع من المدحضين اي المغلوبين قال ابن قتيبة يقال أدحض الله حجته فدحضت أي أزالها فزالت وأصل الدحض الزلق
الإشارة إلى قصته قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي الأنبياء 86 على قدر ما تحتمله الآيات ونحن نذكر هاهنا ما تحتمله قال عبد الله بن مسعود لما وعد يونس قومه بالعذاب بعد ثلاث جأروا إلى الله عز و جل واستغفروا فكف عنهم العذاب فانطلق مغاضبا حتى انتهى إلى قوم في سفينة فعرفوه فحملوه فلما ركب السفينة وقفت فقال ما لسفينتكم قالوا لا ندري قال لكني أدري فيها عبد آبق من ربه إنها والله لا تسير حتى تلقوه فقالوا أما أنت يا نبي الله فوالله لا نلقيك قال فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرع يونس فأبوا أن يمكنوه من الوقوع فعادوا إلى القرعة حتى قرع يونس ثلاث مرات وقال طاووس إن صاحب السفينة هو الذي قال إنما يمنعها أن تسير (7/86)
أن فيكم رجلا مشؤوما فاقترعوا لنلقي أحدنا فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات
قال المفسرون وكل الله به حوتا فلما ألقى نفسه في الماء التقمه وأمر أن لا يضره ولا يكلمه وسارت السفينة حينئذ ومعنى التقمه ابتعله
وهو مليم قال ابن قتيبة أي مذنب يقال ألام الرجل إذا أتى ذنبا يلام عليه قال الشاعر ... تعد معاذرا لا عذر فيها ... ومن يخذل أخاه فقد ألاما ...
قوله تعالى فلولا أنه كان من المسبحين فيه ثلاثة أقوال أحدها من المصلين قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والثاني من العابدين قاله مجاهد ووهب بن منبه والثالث قول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين الأنبياء 87 قاله الحسن وروى عمران القطان عن الحسن قال والله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فعلى هذا القول يكون تسبيحه في بطن الحوت وجمهور العلماء على أنه أراد لولا ما تقدم له قبل التقام الحوت إياه من التسبيح للبث في بطنه إلى يوم يبعثون قال قتادة لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة ولكنه كان كثير الصلاة في الرخاء فنجاه الله تعالى بذلك (7/87)
وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال أحدها أربعون يوما قاله أنس بن مالك وكعب وأبو مالك وابن جريج والسدي والثاني سبعة أيام قاله سعيد بن جبير وعطاء والثالث ثلاثة أيام قاله مجاهد وقتادة والرابع عشرون يوما قاله الضحاك والخامس بعض يوم التقمة ضحى ونبذه قبل غروب الشمس قاله الشعبي
قوله تعالى فنبذناه قال ابن قتيبة أي ألقيناه بالعراء وهي الأرض التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره وكأنه من عري الشيء
قوله تعالى وهو سقيم أي مريض قال ابن مسعود كهيأة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش وقال سعيد بن جبير أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألقه في البر فألقاه لا شعر عليه ولا جلد ولا ظفر
قوله تعالى وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال ابن عباس هو القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت قبل الإسلام ... فأنبت يقطينا عليه برحمة ... من الله لولا الله ألفي ضاحيا ... قال الزجاج كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتد على وجه الارض نحو القرع والبطيخ والحنظل فهي يقطين واشتقاقه من قطن بالمكان إذا أقام فهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض فلذلك قيل له يقطين قال ابن مسعود كان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها فأوحى الله إليه أتبكي على شجرة أن يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال يزيد بن عبد الله بن قسيط قيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه (7/88)
فان قيل ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها
فالجواب أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا وجلده قد ذاب فأدنى شيء يمر به يؤذيه وفي ورق اليقطين خاصية وهو أنه إذا ترك على شيء لم يقربه ذباب فأنبته الله عليه ليغطيه ورقها ويمنع الذباب ريحه أن يسقط عليه فيؤذيه
قوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف اختلفوا هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أم بعد ذلك على قولين
أحدهما أنها كانت بعد نبذ الحوت إياه على ما ذكرنا في يونس 98 وهو مروي عن ابن عباس
والثاني أنها كانت قبل التقام الحوت له وهو قول الاكثرين منهم الحسن ومجاهد وهو الأصح والمعنى وكنا أرسلناه إلى مائة ألف فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إلى قومه الذين أرسل إليهم
وفي قوله أو ثلاثة أقوال
أحدها أنها بمعنى بل قاله ابن عباس والفراء
والثاني أنها بمعنى الواو قاله ابن قتيبة وقد قرأ أبي بن كعب ومعاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو عمران الجوني ويزيدون من غير ألف (7/89)
والثالث أنها على أصلها والمعنى أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون
وفي زيادتهم أربعة أقوال أحدها أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا رواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والثاني أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا والثالث مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا رويا عن ابن عباس والرابع أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا قاله سعيد بن جبير ونوف
قوله تعالى فآمنوا في وقت إيمانهم قولان أحدهما عند معاينة العذاب والثاني حين أرسل إليهم يونس فمتعناهم إلى حين إلى منتهى آجالهم
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم
قوله تعالى فاستفتهم أي سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وهم شاهدون أى حاضرون ألا أنهم من إفكهم أي كذبهم ليقولون ولد الله حين زعموا أن الملائكة بناته (7/90)
قوله تعالى أصطفى البنات قال الفراء هذا استفهام فيه توبيخ لهم وقد تطرح ألف الاستفهام من التوبيخ ومثله أذهبتم طيباتكم الأحقاف 20 وأذهبتم يستفهم بها ولا يستفهم ومعناهما واحد وقرأ أبو هريرة وابن المسيب والزهري وابن جماز عن نافع وأبو جعفر وشيبة وإنهم لكاذبون اصطفى بالوصل غير مهموز ولا ممدود قال أبو علي وهو على وجه الخبر كأنه قال اصطفى البنات على البنين كما يقولون كقوله ذق انك أنت العزيز الكريم الدخان 49
قوله تعالى مالكم كيف تحكمون لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين أم لكم سلطان مبين أي حجة بينة على ما تقولون فائتوا بكتابكم الذي فيه حجتكم
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قالوا هو وإبليس أخوان رواه العوفي عن ابن عباس قال الماوردي وهو قول الزنادقة والذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس
والثاني أن كفار قريش قالوا الملائكة بنات الله والجنة صنف من الملائكة يقال لهم الجنة قاله مجاهد
والثالث أن اليهود قالت إن الله تعالى تزوج إلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة قاله قتادة وابن السائب
فخرج في معنى الجنة قولان أحدهما أنهم الملائكة والثاني الجن
فعلى الأول يكون معنى قوله ولقد علمت الجنة أي علمت الملائكة إنهم أي إن هؤلاء الشركين لمحضرون النار (7/91)
وعلى الثاني ولقد علمت الجنة إنهم أي إن الجن أنفسها لمحضرون الحساب
قوله تعالى إلا عباد الله المخلصين يعني الموحدين وفيما استثنوا منه قولان
أحدهما أنهم استثنوا من حضور النار قاله مقاتل والثاني مما يصف أولئك وهو معنى قول ابن السائب قوله
تعالى فانكم يعني المشركين وما تعبدون من دون الله ما أنتم عليه أي على ما تعبدون بفاتنين أي بمضلين أحدا إلا من هو صال الجحيم أي من سبق له في علم الله أنه يدخل النار
وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثم أخبر عن الملائكة بقوله وما منا والمعنى ما منا ملك إلا له (7/92)
مقام معلوم أي مكان في السموات مخصوص يعبد الله فيه وإنا لنحن الصافون قال قتادة صفوف في السماء وقال السدي هو الصلاة وقال ابن السائب صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض
قوله تعالى وإنا لنحن المسبحون فيه قولان أحدهما المصلون والثاني المنزهون لله عز و جل عن السوء وكان عمر بن الخطاب إذا أقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال يا أيها الناس استووا فإنما يريد الله بكم هدي الملائكة وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون
ثم عاد إلى الإخبار عن المشركين فقال وإن كانوا ليقولون اللام في ليقولون لام توكيد والمعنى وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبي صلى الله عليه و سلم لو أن عندنا ذكرا أي كتابا من الأولين أي مثل كتب الأولين وهم اليهود والنصارى لكنا عباد الله المخلصين أي لأخلصنا العبادة لله عز و جل
فكفروا به فيه اختصار تقديره فلما آتاهم ما طلبوا كفروا به فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وهذا تهديد لهم
ولقد سبقت كلمتنا أي تقدم وعدنا للمرسلين بنصرهم والكلمة قوله كتب الله لأغلبن أنا ورسلي المجادلة 21 إنهم لهم المنصرون بالحجة وإن جندنا يعني حزبنا المؤمنين لهم الغالبون بالحجة أيضا والظفر فتول عنهم أي أعرض عن كفار مكة حتى حين أي حتى تنقضي مدة إمهالهم وقال مجاهد حتى نأمرك بالقتال (7/93)
فعلى هذا الآية محكمة وقال في رواية حتى الموت وكذلك قال قتادة وقال ابن زيد حتى القيامة فعلى هذا يتطرق نسخها وقال مقاتل بن حيان نسختها آية القتال
قوله تعالى وأبصرهم أي انظر إليهم إذا نزل العذاب قال مقاتل بن سليمان هو العذاب ببدر وقيل أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ما انكروا وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيبا به فقيل أفبعذابنا يستعجلون
فاذا نزل يعني العذاب وقرأ ابن مسعود وأبو عمران والجحدري وابن يعمر فإذا نزل برفع النون وكسر الزاي وتشديدها بساحتهم أي بفنائهم وناحيتهم والساحة فناء الدار قال الفراء العرب تكتفي بالساحة والعقوة من القوم فيقولون نزل بك العذاب وبساحتك قال الزجاج فكان عذاب هؤلاء القتل فساء صباح المنذرين أي بئس صباح الذين أنذروا العذاب
ثم كرر ما تقدم توكيدا لوعده بالعذاب فقال وتول عنهم الآيتين
ثم نزه نفسه عن قولهم بقوله سبحان ربك رب العزة قال مقاتل يعني عزة من يتعزز من ملوك الدنيا
قوله تعالى عما يصفون أي من اتخاذ النساء والأولاد (7/94)
وسلام على المرسلين فيه وجهان أحدهما تسليمه عليهم إكراما لهم والثاني إخباره بسلامتهم والحمد لله رب العالمين على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والمرسلين (7/95)
سورة ص
ويقال لها سورة داود وهي مكية كلها باجماعهم
فأما سبب نزول أولها فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا شكوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي طالب فقال يا ابن أخي ما تريد من قومك فقال يا عم إنما اريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم قال كلمة قال كلمة واحدة قال ماهي قال لا إله إلا الله فقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فنزلت فيهم ص والقرآن إلى قوله إن هذا إلا اختلاق بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (7/96)
واختلفوا في معنى ص على سبعة أقوال
أحدها أنه قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه بمعنى صدق محمد رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث صدق الله قاله الضحاك وقد روي عن ابن عباس أنه قال معناه صادق فيما وعد وقال الزجاج معناه الصادق الله تعالى
والرابع أنه اسم من أسماء القرآن أقسم الله به قاله قتادة
والخامس أنه اسم حية رأسها تحت العرش وذنبها تحت الأرض السفلى حكاه أبو سليمان الدمشقي وقال أظنه عن عكرمة
والسادس أنه بمعنى حادث القرآن أي انظر فيه قاله الحسن وهذا على قراءة من كسروا منهم ابن عباس والحسن وابن أبي عبلة قال ابن جرير فيكون المعنى صاد بعملك القرآن أي عارضه وقيل اعرضه على عملك فانظر أين هو منه
والسابع أنه بمعنى صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به وأحبوه حكاه الثعلبي وهذا على قراءة من فتح وهي قراءة أبي رجاء وأبي الجوزاء (7/97)
وحميد ومحبوب عن أبي عمرو قال الزجاج والقراءة صاد بتسكين الدال لأنها من حروف التهجي وقد قرئت بالفتح وبالكسر فمن فتحها فعلى ضربين أحدهما لالتقاء الساكنين والثاني على معنى أتل صاد ويكون صاد اسما للسورة لاينصرف ومن كسر فعلى ضربين أحدهما لالتقاء الساكنين أيضا والثاني على معنى صاد القرآن بعملك من قولك صادى يصادي إذا قابل وعادل يقال صاديته إذا قابلته
قوله تعالى ذي الذكر في المراد بالذكر ثلاثة أقوال أحدها أنه الشرف قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي والثاني البيان قاله قتادة والثالث التذكير قاله الضحاك
فإن قيل أين جواب القسم بقوله ص والقرآن ذي الذكر
فعنه خمسة أجوبة
أحدها أن ص جواب لقوله والقرآن ف ص في معناها كقولك وجب والله نزل والله حق والله قاله الفراء وثعلب (7/98)
والثاني أن جواب ص قوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن ومعناه لكم فلما طال الكلام حذفت اللام ومثله والشمس وضحاها قد أفلح الشمس 1 و 9 فإن المعنى لقد أفلح غير أنه لما اعترض بينهما كلام تبعه قوله قد أفلح حكاه الفراء وثعلب أيضا
والثالث أنه قوله إن كل إلا كذب الرسل ص 14 حكاه الأخفش
والرابع أنه قوله إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ص 64 قاله الكسائي وقال الفراء لا نجده مستقيما في العربية لتأخره جدا عن قوله والقرآن
والخامس أن جوابه محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار ويدل على هذا المحذوف قوله بل الذين كفروا في عزة وشقاق ذكره جماعة من المفسرين وإلى نحوه ذهب قتادة والعزة الحمية والتكبر عن الحق وقرأ عمرو بن العاص وأبو رزين وابن يعمر وعاصم الجحدري ومحبوب عن أبي عمرو في غرة بغين معجمة و راء غير معجمة والشقاق الخلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبق بيان الكلمتين مشروحا البقرة 206 138
ثم خوفهم بقوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعنى الأمم الخالية فنادوا عند وقوع الهلاك بهم وفي هذا النداء قولان أحدهما أنه الدعاء والثاني الاستغاثة (7/99)
قوله تعالى ولات حين مناص وقرأ الضحاك وأبو المتوكل وعاصم الجحدري وابن يعمر ولات حين بفتح التاء ورفع النون قال ابن عباس ليس حين يروه فرار وقال عطاء في لغة أهل اليمن لات بمعنى ليس وقال وهب بن منبه هي بالسريانية وقال الفراء لات بمعنى ليس والمعنى ليس بحين فرار ومن القراء من يخفض لات والوجه النصب لأنها في معنى ليس أنشدني المفضل ... تذكر حب ليلى لات حينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا ...
قال ابن الأنباري كان الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش وأبو عبيدة يذهبون إلى أن التاء في قوله ولات منقطعة من حين قال وقال أبو عبيدة الوقف عندي على هذا الحرف ولا والابتداء تحين لثلاث حجج
إحداهن أن تفسير ابن عباس يشهد لها لأنه قال ليس حين يروه فرار فقد علم أن ليس هي أخت لا وفي معناها
والحجة الثانية أنا لا نجد في شيء من كلام العرب ولات إنما المعروفة لا
والحجة الثالثة أن هذه التاء إنما وجدناها تلحق مع حين ومع الآن ومع ال أوان فيقولون كان هذا تحين كان ذلك وكذلك تأوان ويقال اذهب تلان ومنه قول أبي وجزة السعدي (7/100)
العاطفون تحين مامن عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم ...
وذكر ابن قتيبة عن ابن الأعرابي أن معنى هذا البيت العاطفونة بالهاء ثم تبتدئ حين مامن عاطف قال ابن الأنباري وهذا غلط لأن الهاء إنما تقحم على النون في مواضع القطع والسكون فأما مع الاتصال فانه غير موجود وقال علي بن أحمد النيسابوري النحويون يقولون في قوله ولات هي لا زيدت فيها التاء كما قالوا ثم وثمت ورب وربت وأصلها هاء وصلت ب لا فقالوا لاه فلما وصلوها جعلوها تاء والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي علي وعند الكسائي بالهاء وعند أبي عبيد الوقف على لا
فأما المناص فهو الفرار قال الفراء النوص في كلام العرب التأخر والبوص التقدم قال إمرؤ القيس ... أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص (7/101)
وقال أبوعبيدة المناص مصدر ناص ينوص وهوالمنجى والفوز
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذ لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ءأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب
قوله تعالى وعجبوا يعني الكفار أن جاءهم منذر منهم يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم النار
أجعل الآلهة إلها واحدا لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلتهم وهذا قولهم لما اجتمعوا عند أبي طالب وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أتعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم وهي لا إله إلا الله فقاموا يقولون أجعل الآلهة إلها واحدا ونزلت هذه الآية فيهم إن هذا الذي يقول محمد من أن الآلهة إلها واحدا لشيء عجاب أي لأمر عجب وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن يعمر وابن السميفع (7/102)
عجاب بتشديد الجيم قال اللغويون العجاب والعجاب والعجيب بمعنى واحد كما تقول كبير وكبار وكبار وكريم وكرام وكرام وطويل وطوال وطوال وأنشد الفراء ... جاؤوا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب ...
قال قتادة عجب المشركون أن دعي الله وحده وقالوا أيسمع لحاجتنا جميعا إله واحد
وقوله تعالى وانطلق الملأ منهم قال المفسرون لما اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب وشكوا إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما سبق بياه نفروا من قوله لا إله إلا الله وخرجوا من عند أبي طالب فذلك قوله وانطلق الملأ منهم الانطلاق الذهاب بسهولة ومنه طلاقة الوجه والملأ أشراف قريش فخرجوا يقول بعضهم لبعض امشوا و أن بمعنى أي فالمعنى أي امشوا قال الزجاج ويجوز أن يكون المعنى انطلقوا بأن امشوا أي انطلقوا بهذا القول وقال بعضهم المعنى انطلقوا يقولون امشوا إلى أبي طالب فاشكوا إليه ابن أخيه واصبروا على آلهتكم أي اثبتوا على عبادتها إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لشيء يراد أي لأمر يراد بنا
ما سمعنا بهذا الذي جاء به محمد من التوحيد في الملة الآخرة وفيها ثلاثة أقوال
أحدها النصرانية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وإبراهيم بن المهاجر عن مجاهد وبه قال محمد بن كعب القرظي ومقاتل (7/103)
والثاني أنها ملة قريش رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال قتادة
والثالث اليهودية والنصرانية قاله الفراء والزجاج والمعنى أن اليهود أشركت بعزير والنصارى قالت ثالث ثلاثة فلهذا أنكرت التوحيد
إن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم إلا اختلاق أي كذب أأنزل عيه الذكر يعنون القرآن عليه يعنون رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيننا أي كيف خص بهذا دوننا وليس بأعلانا نسبا ولا أعظمنا شرفا قال الله تعالى بل هم في شك من ذكري أي من القرآن والمعنى أنهم ليسوا على يقين مما يقولون إنما هم شاكون بل لما قال مقاتل لما بمعنى لم كقوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم الحجرات 14 وقال غيره هذا تهديد لهم والمعنى أنه لو نزل بهم العذاب علموا أن ما قاله محمد حق وأثبت ياء عذابي في الحالين يعقوب
قال الزجاج ولما دل قولهم أأنزل عليه الذكر على حسدهم له أعلم الله عز و جل أن الملك والرسالة إليه فقال أم عندهم خزائن رحمة ربك قال المفسرون ومعنى الآية أبأيديهم مفاتيح النبوة فيضعونها حيث شاؤوا والمعنى ليست بأيديهم ولا ملك السموات والأرض لهم فان ادعوا شيئا من ذلك فليرتقوا في الأسباب قال سعيد بن أي في أبوبا السماء وقال الزجاج فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء
قوله تعالى جند أي هم جند والجند الأتباع فكأنه قال هم اتباع مقلدون ليس فيهم عالم راشدو ما زائدةو هنالك إشارة إلى بدر والأحزاب جميع من تقدمهم من الكفار الذين تحزبوا على (7/104)
الأنبياء قال قتادة أخبر الله نبيه وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذوالأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وما ينظر هؤلاء إلا صحية واحدة مالها من فواق
قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح قال أبو عبيدة قوم من العرب يؤنثون القوم وقوم يذكرون فان احتج عليهم بهذه الآية قالوا وقع المعنى على العشيرة واحتجوا بقوله كلا إنها تذكرة عبس11 قالوا والمضمر مذكر
قوله تعالى وفرعون ذو الأوتاد فيه ستة أقوال
أحدها أنه كان يعذب الناس بأربعة أوتاد يشدهم فيها ثم يرفع صخرة فتلقى على الإنسان فتشدخه قاله ابن مسعود وابن عباس وكذلك قال الحسن ومجاهد كان يعذب الناس بأوتاد يوتدها في أيديهم وأرجلهم والثاني أنه ذو البناء المحكم روي عن ابن عباس أيضا وبه قال الضحاك والقرظي واختاره ابن قتيبة قال والعرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد وملك ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد وأصل هذا أن البيت من بيوتهم يثبت بأوتاد قال الأسود بن يعفر (7/105)
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثاتب الأوتاد ... والثالث أن المراد بالأوتاد الجنود رواه عطية عن ابن عباس وذلك أنهم كانوا يشدون ملكه ويقوون أمره كما يقوي الوتد الشيء
والرابع أنه كان يبني منارا يذبح عليها الناس
والخامس أنه كان له أربع أسطوانات فيأخذ الرجل فيمد كل قائمة إلى أسطوانة فيعذبه روي القولان عن سعيد بن جبير
والسادس أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها قاله عطاء وقتادة
ولما ذكر المكذبين قال أولئك الأحزاب فأعلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء وقد عذبوا وأهلكوا فحق عقاب أثبت الياء في الحالين (7/106)
يعقوب وما ينظر أي وما ينتظر هؤلاء يعني كفار مكة إلا صيحة واحدة وفيها قولان أحدهما أنها النفخة الأولى قاله مقاتل والثاني النفخة الأخيرة قاله ابن السائب
وفي الفواق قراءتان قرأ حمزة وخلف والكسائي بضم الفاء وقرأ الباقون بفتحها وهل بينهما فرق أم لا فيه قولان
أحدهما أنهما لغتان بمعنى واحد وهو معنى قول الفراء وابن قتيبة والزجاج قال الفراء والمعنى مالها من راحة ولا إفاقة واصله من الإفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أمها ثم تركتها حتى تنزل شيئا من اللبن فتلك الإفاقة وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال العيادة قدر فواق ناقة ومن يفتح الفاء فيه لغة جيدة عالية وقال ابن قتيبة الفواق والفواق واحد وهو أن تحلب الناقة وتترك ساعة حتى تنزل شيئا من اللبن ثم تحلب فما بين الحلبتين فواق فاستعير الفواق في موضع المكث والانتظار وقال الزجاج الفواق ما بين حلبتي الناقة وهو مشتق من الرجوع لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين يقال أفاق من مرضه أي رجع الى الصحة
والثاني أن من فتحها أراد مالها من راحة ومن ضمها أراد فواق الناقة قاله أبو عبيدة (7/107)
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها مالها من رجعة ثم فيه قولان أحدهما مالها من ترداد قاله ابن عباس والمعنى أن تلك الصيحة لا تكرر والثاني مالها من رجوع إلى الدنيا قاله الحسن وقتادة والمعنى أنهم لا يعودون بعدها إلى الدنيا
والثاني ما لهم منها من إفاقة بل تهلكهم قاله ابن زيد
والثالث مالها من فتور ولا انقطاع قاله ابن جرير والرابع مالها من راحة حكاه جماعة من المفسرين
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب
قوله تعالى وقالوا ربنا عجل لنا قطنا في سبب قولهم هذا قولان
أحدهما أنه لما ذكر لهم ما في الجنة قالوا هذا قاله سعيد بن جبير والسدي
والثاني أنه لما نزل قوله فأما من أوتي كتابه بيمينه الآيات الحاقة 19 37 قالت قريش زعمت يا محمد أنا نؤتى كتبنا بشمائلنا فعجل لنا قطنا يقولون ذلك تكذيبا له قاله أبو العالية ومقاتل
وفي المراد بالقط أربعة أقوال
أحدها أنه الصحيفة قاله أبو صالح عن ابن عباس قال الفراء القط (7/108)
في كلام العرب الصك وقال أبو عبيدة القط الكتاب والقطوط الكتب بالجوائز وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ومقاتل وابن قتيبة
والثاني أن القط الحساب رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنه القضاء قاله عطاء الخراساني والمعنى أنهم لما وعدوا بالقضاء بينهم سألوا ذلك
والرابع أنه النصيب قاله سعيد بن جبير قال الزجاج القط النصيب وأصله الصحيفة يكتب للانسان فيها شيء يصل إليه واشتقاقة من قططت أي قطعت فالنصيب هو القطعة من الشيء ثم في هذا القول للمفسرين قولان أحدهما أنهم سألوه نصيبهم من الجنة قاله سعيد بن جبير والثاني سألوه نصيبهم من العذاب قاله قتادة وعلى جميع الأقوال إنما سألوا ذلك استهزاء لتكذيبهم بالقيامة
إصبر على ما يقولون أي من تكذيبهم وأذاهم وفي هذا قولان (7/109)
أحدهما أنه أمر بالصبر سلوكا لطريق أولي العزم وهذا محكم
والثاني أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي
قوله تعالى واذكر عبدنا داود في وجه المناسبة بين قوله إصبر وبين قوله واذكر عبدنا داود قولان
أحدهما أنه أمر أن يتقوى علىالصبر بذكر قوة داود على العبادة والطاعة
والثاني أن المعنى عرفهم أن الأنبياء عليهم السلام مع طاعتهم كانوا خائفين مني هذا داود مع قوته على العبادة لم يزل باكيا مستغفرا فكيف حالهم مع أفعالهم
فأما قوله ذا الأيد فقال ابن عباس هي القوة في العبادة وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه
وفي الأواب أقوال قد ذكرناها في بني اسرائيل 25 إنا سخرنا الجبال معه يسبحن قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في الانبياء 79 وذكرنا معنى العشي في مواضع مما تقدم آل عمران 41 الأنعام 53 وذكرنا معنى الإشراق في الحجر 73 عند قوله مشرقين قال الزجاج الإشراق طلوع الشمس وإضاءتها وروي عن ابن عباس (7/110)
أنه قال طلبت صلاة الضحى فلم أجدها إلا في هذه الآية وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضحى مذكورة في النور 36 في قوله بالغدو والآصال
قوله تعالى والطير محشورة وقرأ عكرمة وأبو الجوزاء والضحاك وابن أبي عبلة والطير محشورة بالرفع فيهما أي مجموعة إليه تسبح الله معه كل له في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى داود أي كل لداود أواب أي رجاع إلى طاعته وأمره والمعنى كل له مطيع بالتسبيح معه هذا قول الجمهور
والثاني أنها ترجع إلى الله تعالى فالمعنى كل مسبح لله قاله السدي قوله تعالى وشددنا ملكه أي قويناه وفي ما شد به ملكه قولان
احدهما أنه الحرس والجنود قال ابن عباس كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل
والثاني أنه هيبة ألقيت له في قلوب الناس وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى وآتيناه الحكمة وفيها أربعة أقوال أحدها أنها الفهم قاله ابن عباس والحسن وابن زيد والثاني الصواب قاله مجاهد والثالث السنة قاله قتادة والرابع النبوة قاله السدي وفي فصل الخطاب أربعة أقوال
أحدها علم القضاء والعدل قاله ابن عباس والحسن (7/111)
والثاني بيان الكلام روي عن ابن عباس أيضا وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود
والثالث قوله أما بعد وهو أول من تكلم بها قاله أبو موسى الأشعري والشعبي
والرابع تكليف المدعي البينة والمدعى عليه اليمين قاله شريح وقتادة وهو قول حسن لأن الخصومة إنما تفصل بهذا
وهل آتك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
قوله تعالى وهل أتاك نبأ الخصم قال أبو سليمان المعنى قد أتاك فاستمع له نقصص عليك (7/112)
واختلف العلماء في السبب الذي امتحن لأجله داود عليه السلام بما امتحن به على خمسة أقوال
أحدها أنه قال يارب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لو وددت أنك أعطيتني مثله فقال الله تعالى إني ابتليتهم بما لم أبتلك به فان شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به وأعطيتك كما أعطيتهم قال نعم فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت فذهب ليأخذها فرأى امرأة تغتسل رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال السدي
والثاني أنه مازال يجتهد في العبادة حتى برز له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلون معه ويسعدونه بالبكاء فلما استأنس بهم قال أخبروني بأي شيء أنتم موكلون قالوا مانكتب عليك ذنبا بل نكتب صالح عملك ونثبتك ونوفقك ونصرف عنك السوء فقال في نفسه ليت شعري كيف أكون لو خلوني ونفسي وتمنى أن يخلى بينه وبين نفسه ليعلم كيف يكون فأمر الله تعالى قرناءه أن يعتزلوه ليعلم انه لا غناء به عن الله عزوجل فلما فقدهم جد واجتهد ضعف عبادته إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه ضعفه فأرسل إليه طائرا من طيور الجنة فسقط في محرابه فقطع صلاته ومد يده إليه فتنحى عن مكانه فأتبعه بصره فاذا امرأة أوريا هذا قول وهب بن منبه (7/113)
والثالث أنه تذاكر هو وبنو إسرائيل فقالوا هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه احد واكب على قراءه الزبور فاذا حمامة من ذهب فأهوى إليها فطارت فتبعها فرأى المرأة رواه مطر عن الحسن
والرابع أنه قال لبني إسرائيل حين ملك والله لأعدلن بينكم ولم يستثن فابتلي رواه قتادة عن الحسن
والخامس أنه أعجبه كثرة عمله فابتلي قاله أبو بكر الوراق
الإشارة إلى قصة ابتلائه
قد ذكرنا عن وهب أنه قال كانت الحمامة من طيور الجنة وقال السدي تصور له الشيطان في صورة حمامة قال المفسرون إنه لما تبع الحمامة رأى امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل وقيل بل على سطح لها فعجب (7/114)
من حسنها فحانت منها التفاته فرأت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا فسأل عنها فقيل هذه امرأة أرويا وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح عليه أو يستشهد ففعل ذلك ففتح عليه فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا ففتح عليه فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان فلما دخل بها لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز و جل ملكين في صورة إنسيين وقيل لم يأته الملكان حتى جاء منها سليمان وشب ثم اتياه فوجداه في محراب عبادته فمنعهما الحرس من الدخول إليه فتسوروا المحراب عليه وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة اكثر المفسرين وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس وروي عن الحسن وقتادة والسدي ومقاتل في آخرين وذكر جماعة من المفسرين أن داود لما نظر إلى المرأة سأل عنها وبعث زوجها إلى الغزاة مرة بعد مرة إلى أن قتل فتزوجها وروي مثل هذا عن ابن عباس ووهب والحسن في جماعة قال المصنف وهذا لا يصح من طريق النقل ولا يجوز من حيث المعنى لأن الأنبياء منزهون عنه
وقد اختلف المحققون في ذنبه الذي عوتب عليه على أربعة أقوال
أحدها أنه لما هويها قال لزوجها تحول لي عنها فعوتب على ذلك وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال مازاد داود على ان قال لصاحب (7/115)
المرأة أكفلنيها وتحول لي عنها ونحو ذلك روي عن ابن مسعود وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غزاته فأدناه وأكرمه جدا إلى أن قال له يوما انزل لي عن امرأتك وانظر أي امرأة شئت في بني إسرائيل أزوجكها أو أي أمة شئت أبتاعها لك فقال لا أريد بامرأتي بديلا فلما لم يجبه إلى ما سأل أمره أن يرجع إلى غزاته
والثاني أنه تمنى تلك المرأة حلالا وحدث نفسه بذلك فاتفق غزو أوريا وهلاكه من غير أن يسعى في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك فلما بلغة قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته فعوتب على ذلك وذنوب الأنبياء عليهم السلام وإن صغرت فهي عظيمة عند الله عز و جل
والثالث أنه لما وقع بصره عليها أشبع النظر إليها حتى علقت بقلبه
والرابع أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة فخطبها داود مع علمه بأن أوريا قد خطبها فتزوجها فاغتم أوريا وعاتب الله تعالى داود إذ لم يتركها لخاطبها الأول واختار القاضي أبو يعلى هذا القول واستدل عليه بقوله وعزني في الخطاب قال فدل هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج الآخر فعوتب داود عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التنزه عنهما أحدهما خطبته على خطبته غيره والثاني إظهار الحرص على التزويج مع كثرة نسائه ولم يعتقد ذلك معصية فعاتبه الله تعالى عليها قال فأما ماروي أنه نظر إلى المرأة فهويها وقدم زوجها للقتل (7/116)
فانه وجه لا يجوز على الأنبياء لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بها
الزجاج إنما قال الخصم بلفظ الواحد وقال تسوروا المحراب بلفظ الجماعة لأن قولك خصم يصلح للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى تقول هذا خصم وهي خصم وهما خصم وهم خصم وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر تقول خصمته أخصمه خصما والمحراب هاهنا كالغرفة قال الشاعر (7/117)
ربة محراب إذا جئتها ... لم ألقها أو أرتقي سلما ...
و تسوروا يدل على علو
قال المفسرون كانا ملكين وقيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياه لينبهاه على التوبة وإنما قال تسوروا وهما اثنان لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء والاثنان فما فوقهما جماعة
قوله تعالى إذ دخلوا على داود قال الفراء يجوز أن يكون معنى تسوروا دخلوا فيكون تكرارا ويجوز أن تكون إذ بمعنى لما فيكون المعنى إذ تسوروا المحراب لما دخلوا ولما تسوروا إذ دخلوا
قوله تعالى ففزع منهم وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخصوم وفي غير وقت الحكومة ودخلا تسورا من غير إذن وقال أبو الأحوص دخلا عليه وكل واحد منهما آخذ برأس صاحبه و خصمان مرفوع باضمار نحن قال ابن الأنباري المعنى نحن كخصمين ومثل خصمين فسقطت الكاف وقام الخصمان مقامها كما تقول العرب عبد الله القمر حسنا وهم يريدون مثل القمر قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمها ... من حس لي الأخوين ... كالغصنين أو من راهما ... أسدين في عيل يحيد ... القوم عن عرواهما (7/118)
صقرين لا يتذللان ... ولا يباح حماهما ... رمحين خطيين في ... كبد السماء تراهما ...
أرادت مثل أسدين ومثل صقرين فأسقطت مثلا وأقامت الذي بعده مقامه ثم صرف الله عز و جل النون والألف في بعضنا إلى نحن المضمر كما تقول العرب نحن قوم شرف أبونا ونحن قوم شرف أبوهم والمعنى واحد والحق هاهنا العدل
ولا تشطط أي لا تجر يقال شط وأشط إذا جار وقرأ ابن أبي عبلة ولا تشطط بفتح التاء وضم الطاء قال الفراء وبعض العرب يقول شططت علي في السموم وأكثر الكلام أشططت بالألف وشطت الدار تباعدت
قوله تعالى واهدنا إلى سواء الصراط أي إلى قصد الطريق والمعنى احملنا على الحق فقال داود تكلما فقال أحدهما إن هذا أخي قال ابن الأنباري المعنى قال أحد الخصمين اللذين شبه الملكان بهما إن هذا أخي فأضمر القول لوضوح معناه له تسع وتسعون نعجة قال الزجاج كني عن المرأة بالنعجة وقال غيره العرب تشبه النساء بالنعاج وتوري عنها بالشاء والبقر قال ابن قتيبة ورى عن ذكر النساء بذكر النعاج كما قال عنترة (7/119)
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم ... يعرض بجارية يقول أي صيد أنت لمن حل له أن يصيدك فأما أنا فان حرمة الجوار قد حرمتك علي وإنما ذكر الملك هذا العدد لأنه عدد نساء داود
قوله تعالى ولي نعجة واحدة فتح الياء حفص عن عاصم وأسكنها الباقون
فقال أكفلنيها قال ابن قتيبة أي ضمها إلي واجعلني كافلها وقال الزجاج انزل أنت عنها واجعلني أنا أكفلها
قوله تعالى وعزني في الخطاب أي غلبني في القول وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين العقبلي والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة وعازني بألف أي غالبني قال ابن مسعود وابن عباس في قوله وعزني في الخطاب ما زاد على أن قال انزل لي عنها وروى العوفي عن ابن عباس قال إن دعوت ودعا كان أكثر وإن بطشت وبطش كان أشد مني
فان قيل كيف قال الملكان هذا وليس شيء منه موجودا عندهما
فالجواب أن العلماء قالوا إنما هذا على سبيل المثل والتشبيه بقصة داود وتقدير كلامهما ما تقول إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا وكان داود لا يرى أن عليه تبعة فيما فعل فنبهه الله بالملكين وقال ابن قتيبة هذا مثل ضربه الله له ونبهه على خطيئته وقد ذكرنا آنفا أن المعنى نحن كخصمين
قوله تعالى قال يعني داود لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه (7/120)
قال الفراء أي بسؤاله نعجتك فاذا ألقيت الهاء من السؤال أضفت الفعل إلى النعجة ومثله لا يسأم الإنسان من دعاء الخير فصلت 49 أي من دعائه بالخير فلما ألقى الهاء أضاف الفعل إلى الخير وألقى من الخير الباء وأنشدوا ... فلست مسلما ما دمت حيا ... على زيد بتسليم الأمير ...
أي بتسليم على الأمير
قوله تعالى إلى نعاجه أي ليضمها إلى نعاجه قال ابن قتيبة المعنى بسؤال نعجتك مضمومة إلى نعاجه فاختصر قال ويقال إلى بمعنى مع
فان قيل كيف حكم داود قبل أن يسمع كلام الآخر
فالجواب أن الخصم الآخر اعترف فحكم عليه باعترافه وحذف ذكر الاعتراف اكتفاء بفهم السامع والعرب تقول أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال أي فاتجرت فكسبت ويدل عليه قول السدي إن داود قال للخصم الآخر ما تقول قال نعم أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي وهو كاره قال إذا لا ندعك وإن رمت هذا ضربنا منك هذا ويشير إلى أنفه وجبهته فقال أنت ياداود أحق أن يضرب هذا منك حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا واحدة فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه
قوله تعالى وإن كثيرا من الخلطاء يعني الشركاء واحدهم خليط وهو المخالط في المال وإنما قال هذا لأنه ظنهما شريكين إلا الذين آمنوا (7/121)
أي فانهم لا يظلمون أحدا وقليل ماهم ما زائدة والمعنى وقليل هم وقيل المعنى هم قليل يعني الصالحين الذين لا يظلمون
قوله تعالى وظن داود أي أيقن وعلم أنما فتناه فيه قولان أحدهما اختبرناه والثاني ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها وقرأ عمر بن الخطاب أنما فتناه بتشديد التاء والنون جميعا وقرأ أنس بن مالك وأبو رزين والحسن وقتادة وعلي بن نصر عن أبي عمرو أنما فتناه بتخفيف التاء والنون جميعا يعني الملكين قال أبو علي الفارسي يريد صمدا له وفي سبب علمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال
أحدها أن الملكين أفصحا له بذلك على ماذكرناه عن السدي
والثاني أنهما عرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم أنه عني بذلك قاله وهب
والثالث أنه لما حكم بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك ثم صعدا إلى السماء وهو ينظر فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك قاله مقاتل
قوله تعالى فاستغفر ربه قال المفسرون لما فطن داود بذنبه خر راكعا قال ابن عباس أي ساجدا وعبر عن السجود بالركوع لأنهما بمعنى الانحناء وقال بعضهم فخر بعد أن كان راكعا فصل
واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود على قولين أحدهما ليست (7/122)
من عزائم السجود قاله الشافعي والثاني أنها من عزائم السجود قاله أبو حنيفة وعن أحمد روايتان قال المفسرون فبقي في سجوده أربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بد منها ولا يأكل ولا يشرب فأكلت الأرض من جبينه ونبت العشب من دموعه ويقول في سجوده رب داود زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب قال مجاهد نبت البقل من دموعه حتى غطى رأسه ثم نادى رب قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء فنودي أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فينتصر لك فنحب نحيبا هاج كل شيء نبت فعند ذلك غفر له وقال ثابت البناني اتخذ داود سبع حشايا من شعر وحشاهن من الرماد ثم بكى حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه وقال وهب بن منبه نودي يا داود ارفع رأسك فانا قد غفرنا لك فرفع راسه وقد زمن وصار مرعشا (7/123)
فأما قوله وأناب فمعناه رجع من ذنبه تائبا إلى ربه فغفرنا له ذلك يعني الذنب وإن له عندنا لزلفى قال ابن قتيبة أي تقدم وقربة
قوله تعالى وحسن مآب قال مقاتل حسن مرجع وهو ما أعد الله له في الجنة
قوله تعالى يا داود المعنى وقلنا له يا داود إنا جعلناك أي صيرناك خليفة في الأرض أي تدبر أمر العباد من قبلنا بأمرنا فكأنك خليفة عنا فاحكم بين الناس بالحق أي بالعدل ولا تتبع الهوى أي لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله عز و جل فيضلك عن سبيل الله أي عن دينه إن الذين يضلون وقرأ أبو نهيك وأبو حيوة وابن يعمر يضلون بضم الياء
قوله تعالى بما نسوا يوم الحساب فيه قولان
أحدهما بما تركوا العمل ليوم الحساب قاله السدي قال الزجاج لما تركوا العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين
والثاني أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل وهو قول عكرمة (7/124)
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الأبصار
قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا أي عبثا ذلك ظن الذين كفروا أن ذلك خلق لغير شيء وإنما خلق للثواب والعقاب
أم نجعل الذين آمنوا قال مقاتل قال كفار قريش للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون فنزلت هذه الآية وقال ابن السائب نزلت في الستة الذين تبارزوا يوم بدر علي رضي الله عنه وحمزة رضي الله عنه وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة فذكر أولئك بالفساد في الأرض لعملهم فيها بالمعاصي وسمى المؤمنين بالمتقين لاتقائهم الشرك وحكم الآية عام
قوله تعالى كتاب أي هذا كتاب يعني القرآن وقد بينا معنى بركته في سورة الأنعام 92 (7/125)
ليدبروا آياته وقرأ عاصم في رواية لتدبروا آياته بالتاء خفيفة الدال أي ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صحتها وليتذكر بما فيه من المواعظ أولوا الألباب وقد سبق بيان هذا الرعد 19
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب
قوله تعالى نعم العبد يعني به سليمان (7/126)
وفي الأواب أقوال قد تقدمت في بني إسرائيل 25 أليقها بهذا المكان أنه رجاع بالتوبة إلى الله تعالى مما يقع منه من السهو والغفلة
قوله تعالى إذ عرض عليه بالعشي وهو ما بعد الزوال الصافنات وهي الخيل وفي معنى الصافنات قولان
أحدهما أنها القائمة على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد وابن زيد واختاره الزجاج وقال هذا أكثر قيام الخيل إذا وقفت كأنها تراوح بين قوائمها قال الشاعر ... ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا ...
والثاني أنها القائمة سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث قال الفراء على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة وقال ابن قتيبة الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها ومنه قوله صلى الله عليه و سلم من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار (7/127)
أي يديمون القيام له
فأما الجياد فهي السراع في الجرى وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال
أحدها أنه عرضها لأنه أراد جهاد عدو له قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
والثاني أنها كانت من دواب البحر قال الحسن بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة وقال إبراهيم التيمي كانت عشرين فرسا ذات أجنحة وقال ابن زيد أخرجتها له الشياطين من البحر
والثالث أنه ورثها من أبيه داود عليه السلام فعرضت عليه قاله وهب بن منبه ومقاتل والرابع
أنه غزا جيشا فظفر به وغنمها فدعا بها فعرضت عليه قاله ابن السائب
وفي عددها أربعة أقوال أحدها ثلاثة عشر ألفا قاله وهب والثاني عشرون ألفا قاله سعيد بن مسروق والثالث ألف فرس قاله ابن السائب ومقاتل والرابع عشرون فرسا وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي (7/128)
قال المفسرون ولم تزل تعرض عليه إلى أن غابت الشمس ففاتته صلاة العصر وكان مهيبا لا يبتدئه أحد بشيء فلم يذكروه ونسي هو فلما غابت الشمس ذكر الصلاة فقال إني أحببت فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حب الخير وفيه قولان أحدهما أنه المال قاله سعيد بن جبير والضحاك والثاني حب الخيل قاله قتادة والسدي والقولان يرجعان إلى معنى واحد لأنه أراد بالخير الخيل وهي مال وقال الفراء العرب تسمي الخيل الخير قال الزجاج وقد سمى رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد الخيل زيد الخير ومعنى أحببت آثرت حب الخير على ذكر ربي وكذلك قال غير الزجاج عن بمعنى على وقال بعضهم يحتمل المعنى فشغلني عن ذكر ربي قال أبو عبيدة ومعنى الكلام أحببت حبا ثم أضاف الحب إلى الخير وقال ابن قتيبة سمى الخيل خيرا لما فيها من الخير والمفسرون على أن المراد بذكر ربه صلاة العصر قاله علي وابن مسعود وقتادة في آخرين وقال الزجاج لا أدري هل كانت صلاة العصر مفروضة أم لا إلا أن اعتراضه الخيل شغله عن وقت كان يذكر الله فيه حتى توارت بالحجاب (7/129)
قال المصنف وأهل اللغة يقولون يعني الشمس ولم يجر لها ذكر ولا أحسبهم أعطوا في هذا الفكر حقه لأن في الآية دليلا على الشمس وهو قوله بالعشي ومعناه عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب ولا يجوز الإضمار إلا أن يجري ذكر أو دليل ذكر فيكون بمنزلة الذكر وأما الحجاب فهو ما يحجبها عن الأبصار
قوله تعالى ردوها علي قال المفسرون لما شغله عرض الخيل عليه عن الصلاة فصلاها بعد خروج وقتها اغتم وغضب وقال ردوها علي يعني أعيدوا الخيل علي فطفق قال ابن قتيبة أي أقبل مسحا قال الأخفش أي يمسح مسحا
فأما السوق فجمع ساق مثل دور ودار وهمز السؤق ابن كثير قال أبو علي وغير الهمز أحسن منه وقرأ أبو عمران الجوني وابن محيصن بالسؤوق مثل الرؤوس وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة اقوال
أحدها أنه ضربها بالسيف وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في (7/130)
قوله فطفق مسحا بالسوق والأعناق قال بالسيف وروى مجاهد عن ابن عباس قال مسح أعناقها وسوقها بالسيف وقال الحسن وقتادة وابن السائب قطع أعناقها وسوقها وهذا اختيار السدي ومقاتل والفراء وأبي عبيدة والزجاج وابن قتيبة وأبي سليمان الدمشقي والجمهور
والثاني أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال مجاهد مسحها بيده وهذا اختيار ابن جرير والقاضي أبي يعلى (7/131)
والثالث أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى حكاه الثعلبي
والمفسرون على القول الأول وقد اعترضوا على القول الثاني وقالوا أي مناسبة بين شغلها إياه عن الصلاة وبين مسح اعرافها حبا لها ولا أعلم قوله حبا لها يثبت عن ابن عباس وحملوا قول مجاهد مسحها بيده أي تولى ضرب أعناقها
فان قيل فالقول الأول يفسد بأنه لا ذنب للحيوان فكيف وجه العقوبة إليه وقصد التشفي بقتله وهذا يشبه فعل الجبارين لا فعل الأبياء
فالجواب أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أبيح له وجائز ان يباح له ما يمنع منه في شرعنا على أنه إذا ذبحها كانت قربانا وأكل لحمها جائز فما وقع تفريط قال وهب بن منبه لما ضرب سوقها وأعناقها شكر الله تعالى له ذلك فسخر له الريح مكانها وهي أحسن في المنظر وأسرع في السير وأعجب في الأحدوثة
قوله تعالى ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه وألقينا على كرسيه أي على سريره جسدا وفيه قولان
أحدهما أنه شيطان قاله ابن عباس والجمهور وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة اقوال أحدها صخر رواه العوفي عن ابن عباس وذكر العلماء أنه كان شيطانا مريدا لم يسخر لسليمان والثاني آصف قاله مجاهد إلا أنه ليس بالمؤمن الذي عنده الاسم الأعظم إلا أن بعض ناقلي التفسير حكى أنه (7/132)
آصف الذي عنده علم من الكتاب وأنه لما فتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبت فقال آصف أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك فقام في مقامه وسار بالسيرة الجميلة هذا لا يصح ولا ذكره من يوثق به والثالث حبقيق قاله السدي والمعنى أجلسنا على كرسيه في ملكه شيطانا ثم أناب أي رجع وفيما رجع إليه قولان أحدهما تاب من ذنبه قاله قتادة والثاني رجع إلى ملكه قاله الضحاك
وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال أحدها أنه كانت له امرأة يقال لها جرادة وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا وأوحى الله تعالى إليه أنه سيصيبك بلاء فكان لا يدري أيأتيه من السماء أو من الأرض رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني أن زوجته جرادة كانت آثر النساء عنده فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة وإني أحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي لأجل ما قال قاله السدي والثالث أن زوجته جرادة كان قد سباها في غزاة له وكانت بنت ملك فأسلمت وكانت تبكي عنده بالليل والنهار فسألها عن حالها فقالت أذكر أبي وما كنت فيه فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلى بها ففعل فكانت إذا خرج سليمان تسجد له هي و ولائدها أربعين صباحا فلما علم سليمان كسر تلك الصورة وعاقب المرأة و ولائدها ثم تضرع إلى الله تعالى مستغفرا مما كان في داره فسلط الشيطان على خاتمه هذا قول وهب بن منبه والرابع أنه احتجب عن الناس ثلاث أيام فأوحى الله تعالى (7/133)
إليه ياسليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم فسلط الشيطان على خاتمه قاله سعيد ابن المسيب والخامس أنه قارب امرأة من نسائه في الحيض أو غيره قاله الحسن
والقول الثاني أن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين فقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم ينفعك من البلاء (7/134)
فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله وعدا ابنه في السحاب خوفا من الشياطين فعاتبه الله تعالى على تخوفه من الشياطين ومات الولد فألقي على كرسيه ميتا جسدا قاله الشعبي والمفسرون على القول الأول ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور
الإشارة إلى ذلك
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين
أحدهما أنه كان جالسا على شاطئ البحر فوقع منه في البحر قاله علي رضي الله عنه والثاني أن شيطانا أخذه وفي كيفية ذلك أربعة أقوال
أحدها أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر وجعل الشيطان يقول أنا نبي الله قاله سعيد ابن المسيب
والثاني أن سليمان قال للشيطان كيف تفتنون الناس قال أرني خاتمك أخبرك فأعطاه إياه فنبذه في البحر فذهب ملك سليمان وقعد الشيطان على كرسيه قاله مجاهد
والثالث أنه دخل الحمام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها فلما خرج سليمان طلبه (7/135)
منها فقالت قد دفعته إليك فهرب سليمان وجاء الشيطان فجلس على ملكه قاله سعيد بن جبير
والرابع أنه دخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه الشيطان في البحر فذهب ملك سليمان وألقي على الشيطان شبهه قاله قتادة
فأما قصة الشيطان فذكر أكثر المفسرين أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر وألقي عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه وتحكم في سلطانه وقال السدي لم يلقه في البحر حتى فر من مكان سليمان وهل كان يأتي نساء سليمان فيه قولان أحدهما أنه لم يقدر عليهن قاله الحسن وقتادة والثاني أنه كان يأتيهن في زمن الحيض فأنكرنه قاله سعيد ابن المسيب والأول أصح قالوا وكان يقضي بقضايا فاسدة ويحكم بما لا يجوز فأنكره بنو إسرائيل فقال بعضهم لبعض إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم وإما أن يكون ملككم قد هلك فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن فذهبوا فقلن إنا والله قد أنكرنا ذلك فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء
وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال
أحدها أن سليمان وجد خاتمه فتختم به ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان قاله سعيد بن المسيب (7/136)
والثاني أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين فر الشيطان حتى دخل البحر قاله مجاهد
والثالث أنه لما مضى أربعون يوما طار الشيطان من مجلسه قاله وهب
والرابع أن بني إسرائيل لما أنكروه أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرؤوا فطار بين أيديهم حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت قاله السدي
وفي قدر مكث الشيطان قولان أحدهما أربعون يوما قاله الأكثرون والثاني أربعة عشر يوما حكاه الثعلبي
وأما قصة سليمان عليه السلام فانه لما سلب خاتمه ذهب ملكه فانطلق هاربا في الأرض قال مجاهد كان يستطعم فلا يطعم فيقول لو عرفتموني أعطيتموني أنا سليمان فيطردونه حتى أعطته امرأة حوتا فوجد خاتمه في بطن الحوت وقال سعيد بن جبير انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر فوجد صيادين قد صادوا سمكا كثيرا وقد أنتن عليهم بعضه فأتاهم يستطعم فقالوا اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها فقال لا أطعموني من هذا فأبوا عليه فقال أطعموني فاني سليمان فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضبا لسليمان فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئا فشق بطن حوت فاذا هو بالخاتم وقال الحسن ذكر لي أنه لم يؤوه أحد من الناس ولم يعرف أربعين ليلة وكان يأوي إلى امرأة مسكينة فبينا هو يوما على شط نهر وجد سمكة فأتى بها المراة فشقتها فاذا بالخاتم وقال الضحاك اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه
وفي المدة التي سلب فيها الملك قولان أحدهما أربعون ليلة (7/137)
كما ذكرنا عن الحسن والثاني خمسون ليلة قاله سعيد بن جبير قال المفسرون فلما جعل الخاتم في يده رد الله عليه بهاءه وملكه فأظلته الطير وأقبل لا يستقبله جني ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا سجد له حتى انتهى إلى منزله قال السدي ثم أرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وأقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه إلى أن تقوم الساعة وقال وهب جاب صخرة فأدخله فيها ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم قذفه في البحر
قوله تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فتح الياء نافع وأبو عمرو وفيه قولان
أحدهما لا يكون لأحد بعدي قاله مقاتل وأبو عبيدة وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا (7/138)
والثاني لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه قاله الحسن وقتادة وإنما طلب هذا الملك ليعلم أنه قد غفر له ويعرف منزلته باجابة دعوته قاله الضحاك ولم يكن في ملكه حين دعا بهذا الريح ولا الشياطين فسخرنا له الريح وقرأ أبو الجوزاء وأبو جعفر وأبو المتوكل الرياح على الجمع (7/139)
قوله تعالى رخاء فيه ثلاثة أقوال
أحدها مطيعة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن والضحاك والثاني أنها الطيبة قاله مجاهد والثالث اللينة مأخوذ من الرخاوة قاله اللغويون
فان قيل كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة الأنبياء 81 بأنها عاصفة
فالجواب أن المفسرين قالوا كان يأمر العاصف تارة ويأمر الرخاء أخرى وقال ابن قتيبة كأنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد
قوله تعالى حيث أصاب أي حيث قصد وأراد قال الأصمعي تقول العرب أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب أي أراد الصواب
قوله تعالى والشياطين أي وسخرنا له الشياطين كل بناء يبنون له ما يشاء وغواص يغوصون له في البحار فيستخرجون الدر وآخرين أي وسخرنا له آخرين وهم مردة الشياطين سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم قال مقاتل أوثقهم في الحديد وقد شرحنا (7/140)
معنى مقرنين في الأصفاد في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام إبراهيم 49 هذا عطاؤنا المعنى قلنا له هذا عطاؤنا وفي المشار إليه قولان
أحدهما أنه جميع ما أعطي فامنن أو أمسك أي أعط من شئت من المال وامنع من شئت والمن الإحسان إلى من لا يطلب ثوابه
والثاني أنه إشارة إلى الشياطين المسخرين له فالمعنى فامنن على من شئت باطلاقه وأمسك من شئت منهم وقد روي معنى القولين عن ابن عباس
قوله تعالى بغير حساب قال الحسن لا تبعة عليك في الدنيا ولا في الآخرة وقال سعيد بن جبير ليس عليك حساب يوم القيامة وقيل في الكلام تقديم وتأخير تقديره هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك
وما بعد هذا قد سبق تفسيره سبأ 37 الرعد29 الانبياء83 إلى قوله مسني الشيطان وذلك أن الشيطان سلط عليه فأضاف ما أصابه إليه
قوله تعالى بنصب قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد وقرأ (7/141)
الحسن وابن أبي عبلة وابن السميفع والجحدري ويعقوب بفتحهما وهل بينهما فرق فيه قولان
أحدهما أنهما سواء قال الفراء هما كالرشد والرشد والعدم والعدم والحزن والحزن وكذلك قال ابن قتيبة والزجاج قال المفسرون والمراد بالنصب الضر الذي أصابه
والثاني أن النصب بتسكين الصاد الشر وبتحريكها الإعياء قاله أبو عبيدة
وقرأت عائشة ومجاهد وأبو عمران وأبو جعفر وشيبة وأبو عمارة عن حفص بنصب بضم النون والصاد جميعا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء وهبيرة عن حفص بنصب بفتح النون وسكون الصاد
وفي المراد بالعذاب قولان أحدهما أنه العذاب الذي أصاب جسده والثاني أنه أخذ ماله وولده
قوله تعالى أركض أي اضرب الأرض برجلك (7/142)
ومنه ركضت الفرس فركض فنبعت عين ماء فذلك قوله عز و جل هذا مغتسل بارد وشراب قال ابن قتيبة المغتسل الماء وهو الغسول أيضا قال الحسن ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ثم ركض برجله فنبعت عين فشرب منها وعلى هذا جمهور العلماء أنه ركض ركضتين فنبعت له عينان فاغتسل من واحدة وشرب من الأخرى
قوله تعالى وخذ بيدك ضغثا كان قد حلف لئن شفاه الله ليجلدن زوجته مائة جلدة وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال
أحدها أن إبليس جلس في طريق زوجة أيوب كأنه طبيب فقالت له يا عبد الله إن ها هنا إنسانا مبتلى فهل لك أن تداويه قال نعم إن شاء شفيته على أن يقول إذا برأ أنت شفيتني فجاءت فأخبرته فقال ذاك الشيطان لله علي إن شفاني أن أجلدك مائة جلدة رواه يوسف بن مهران (7/143)
عن ابن عباس
والثاني أن إبليس لقيها فقال إني أنا الذي فعلت بأيوب مابه وأنا إله الأرض وما أخذته منه فهو بيدي فانطلقي أريك فمشى بها غير بعيد ثم سحر بصرها فأراها واديا عميقا فيه أهلها وولدها ومالها فأنت أيوب فأخبرته فقال ذاك الشيطان ويحك كيف وعى قوله سمعك والله لئن شفاني الله عز و جل لأجلدنك مائة قاله وهب بن منبه
والثالث أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة فقال ليذبح لي هذه وقد برأ فأخبرته فحلف ليجلدنها وقد ذكرنا هذا القول في سورة الأنبياء 83 عن الحسن
فأما الضغث فقال الفراء هو كل ما جمتعه من شيء مثل الحزمة الرطبة قال وما قام على ساق واستطال ثم جمعته فهو ضغث وقال ابن قتيبة هو الحزمة من الخلال والعيدان قال الزجاج هو الحزمة من الحشيش والريحان وما أشبههه قال المفسرون جزى الله زوجته بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهل الأمر فجمع لها مائة عود وقيل مائة سنبلة وقيل كانت أسلا وقيل من الإذخر وقيل كانت شماريخ فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمنيه وهل ذلك خاص له أم لا فيه قولان (7/144)
أحدهما أنه عام وبه قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى والثاني أنه خاص لأيوب قاله مجاهد فصل
وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه بها ضربة واحدة فقال مالك والليث بن سعد لا يبر وبه قال أصحابنا وقال أبو حنيفة والشافعي إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد منها فقد بر واحتجوا بعموم قصة أيوب عليه الصلاة و السلام
قوله تعالى إنا وجدناه صابرا أي على البلاء الذي ابتليناه به
واذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (7/145)
قوله تعالى واذكر عبادنا وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير عبدنا إشارة إلى إبراهيم وجعلوا إسحاق ويعقوب عطفا عليه لأنه الأصل وهما ولداه والمعنى اذكر صبرهم فابراهيم ألقي في النار وإسحاق أضجع للذبح ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتلي بفقد ولده ولم يذكر إسماعيل معهم لأنه لم يبتل كما ابتلوا
أولي الأيدي يعني القوة في الطاعة والأبصار البصائر في الدين والعلم قال ابن جرير وذكر الأيدي مثل وذلك لأن باليد البطش وبالبطش تعرف قوة القوي فلذلك قيل للقوي ذو يد وعنى بالبصر بصر القلب وبه تنال معرفة الأشياء وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن أبي عبلة أولي الأيد بغير ياء في الحالين قال الفراء ولها وجهان أحدهما أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي فحذف الياء وهو صواب مثل الجوار والمناد والثاني أن يكون من القوة والتأييد من قوله وأيدناه بروح القدس البقرة 87
قوله تعالى إنا أخلصناهم أي اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين فأفردناهم بمفردة من خصال الخير ثم أبان عنها بقوله ذكرى الدار
وفي المراد بالدار هاهنا قولان أحدهما الآخرة والثاني الجنة
وفي الذكرى قولان (7/146)
أحدهما أنها من الذكر فعلى هذا يكون المعنى أخلصناهم بذكر الآخرة فليس لهم ذكر غيرها قاله مجاهد وعطاء والسدي وكان الفضيل ابن عياض رحمة الله عليه يقول هو الخوف الدائم في القلب
والثاني أنها التذكير فالمعنى أنهم يدعون الناس إلى الآخرة وإلى عبادة الله تعالى قاله قتادة
وقرأ نافع بخالصة ذكرى الدار فأضاف خالصة إلى ذكرى الدار
قال أبو علي تحتمل قراءة من نون وجهين أحدهما أن تكون ذكرى بدلا من خالصة والتقدير أخلصناهم بذكر الدار والثاني أن يكون المعنى أخلصناهم بأن يذكروا الدار بالتأهب للآخرة والزهد في الدنيا ومن أضاف فالمعنى أخلصناهم باخلاصهم ذكرى الدار بالخوف منها وقال ابن زيد أخلصناهم بأفضل ما في الجنة
قوله تعالى وإنهم عندنا لمن المصطفين أي من الذين اتخذهم الله صفوة فصفاهم من الأدناس الأخيار الذين اختارهم
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل أي اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم واليسع نبي واسمه أعجمي معرب وقد ذكرناه في الأنعام 85 وشرحنا في سورة الأنبياء 85 قصة ذي الكفل وتكلمنا في البقرة 125 في اسم إسماعيل وزعم مقاتل أن إسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم (7/147)
قوله تعالى هذا ذكر أي شرف وثناء جميل يذكرون به أبدا وإن للمتقين لحسن مآب أي حسن مرجع يرجعون إليه في الآخرة
ثم بين ذلك المرجع فقال جنات مفتحة لهم الأبواب قال الفراء إنما رفعت الأبواب لأن المعنى مفتحة لهم أبوابها والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة فيقولون مررت على رجل حسن العين وقبيح الأنف والمعنى حسنة عينة قبيح أنفه ومنه قوله تعالى فان الجحيم هي المأوى النازعات 39 والمعنى مأواه وقال الزجاج المعنى مفتحة لهم الأبواب منها فالألف واللام للتعريف لا للبدل قال ابن جرير والفائدة في ذكر تفتيح الأبواب أن الله عز و جل أخبر عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها لها بيد ولكن بالأمر قال الحسن هي أبواب تكلم فتكلم انفتحي انغلقي
قوله تعالى وعندهم قاصرات الطرف قد مضى بيانه في الصافات 48 قال الزجاج والأتراب اللواتي أسنانهن واحدة وهن في غاية الشباب والحسن قوله تعالى هذا ما توعدون قرأ أبو عمرو وابن كثير بالياء والباقون بالتاء قوله تعالى ليوم الحساب اللام بمعنى في والنفاد الانقطاع قال السدي كلما أخذ من رزق الجنة شيء عاد مثله (7/148)
هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار
قوله تعالى هذا المعنى هذا الذي ذكرناه وإن للطاغين يعني الكافرين لشر مآب ثم بين ذلك بقوله جهنم والمهاد الفراش هذا فليذوقوه قال الفراء في الآية تقديم وتأخير تقديره هذا حميم وغساق فليذوقوه وإن شئت جعلت الحميم مستأنفا كأنك قلت هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم ومنه غساق كقول الشاعر ... حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود ...
فأما الحميم فهوالماء الحار وأما الغساق ففيه لغتان قرأ حمزة والكسائي (7/149)
وخلف وحفص بالتشديد وكذلك في عم يتساءلون 25 تابعهم لمفضل في عم يتساؤلون وقرأ الباقون بالتخفيف وفي الغساق أربعة أقوال
أحدها الزمهرير رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال مجاهد الغساق لا يستطيعون أن يذوقوه من برد
والثاني أنه ما يجري من صديد أهل النار رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال عطية وقتادة وابن زيد
والثالث أن الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غيرها فيستنقع فيؤتي بالآدمي فيغمس فيها غمسة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويجر لحمه جر الرجل ثوبه قاله كعب
والرابع أنه ما يسيل من دموعهم قاله السدي قال أبو عبيدة الغساق ما سال يقال غسقت العين والجرح وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال لم يكن أبو عبيدة يذهب إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب وكان يقول هو اتفاق يقع بين اللغتين وكان غيره يزعم أن الغساق البارد المنتن بلسان الترك وقيل فعال من غسق يغسق فعلى هذا يكون عربيا وقيل في معناه إنه الشديد البرد يحرق من برده وقيل هو ما يسيل من جلود أهل النار من الصديد
قوله تعالى وآخر قرأ أبو عمرو والمفضل وأخر بضم الهمزة من غير مد فجمعا لأجل نعته بالأزواج وهي جمع وقرأ الباقون بفتح الألف ومده على التوحيد واحتجوا بأن العرب تنعت الاسم إذا كان فعلا بالقليل (7/150)
والكثير قال الفراء تقول عذاب فلان ضروب شتى وضربان مختلفان وإن شئت جعلت الأزواج نعتا للحميم والغساق والآخر فهن ثلاثة والأشبه أن تجعله صفة لواحد وقال الزجاج من قرأ وآخر بالمد فالمعنى وعذاب آخر من شكله أي مثل الأول ومن قرأ وأخر فالمعنى وأنواع أخر لأن قوله أزواج بمعنى أنواع وقال ابن قتيبة من شكله أي من نحوه أزواج أي أصناف وقال ابن جرير من شكله أي من نحو الحميم قال ابن مسعود في قوله وآخر من شكله هو الزمهرير وقال الحسن لما ذكر الله تعالى العذاب الذي يكون في الدنيا قال وآخر من شكله أي وآخر لم ير في الدنيا
قوله تعالى هذا فوج هذا قول الزبانية للقادة المتقدمين في الكفر إذا جاؤوهم بالأتباع وقيل بل هو قول الملائكة لأهل النار كلما جاؤوهم بأمة بعد أمة والفوج الجماعة من الناس وجمعه أفواج والمقتحم الداخل في الشيء رميا بنفسه قال ابن السائب إنهم يضربون بالمقامع فيلقون أنفسهم في النار ويثبون فيها خوفا من تلك المقامع فلما قالت (7/151)
الملائكة ذلك لأهل النار قالوا لا مرحبا بهم فاتصل الكلام كأنه قول واحد وإنما الأول من قول الملائكة والثاني من قول أهل النار وقد بينا مثل هذا في قوله ليعلم إني لم أخنه بالغيب يوسف52 والمرحب والرحب السعة والمعنى لا اتسعت بهم مساكنهم قال أبو عبيدة تقول العرب للرجل لا مرحبا بك أي لا رحبت عليك الأرض وقال ابن قتيبة معنى قولهم مرحبا وأهلا أي اتيت رحبا أي سعة وأهلا أي أتيت أهلا لا غرباء فائنس ولا تستوحش وسهلا أي أتيت سهلا لا حزنا وهو في مذهب الدعاء كما تقول لقيت خيرا قال الزجاج ومرحبا منصوب بقوله رحبت بلادك مرحبا وصادفت مرحبا فأدخلت لا على ذلك المعنى
قوله تعالى إنهم صالوا النار أي داخلوها كما دخلناها ومقاسون حرها فأجابهم القوم ف قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا إن قلنا إن هذا قول الأتباع للرؤساء فالمعنى أنتم زينتم لنا الكفر وإن قلنا إنه قول الأمة المتأخرة للامة المتقدمة فالمعنى أنتم شرعتم لنا الكفر وبدأتم به قبلنا فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار أي بئس المستقر والمنزل
قالوا ربنا من قدم لنا هذا أي من سنة وشرعه فزده عذابا ضعفا في النار وقد شرحناه في الأعراف 38 وفي القائلين لهذا قولان أحدهما أنه قول جميع أهل النار قاله ابن السائب والثاني قول الأتباع قاله مقاتل
قوله تعالى وقالوا يعني أهل النار ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قال المفسرون إذا دخلوا النار نظروا فلم يروا من كان (7/152)
يخالفهم من المؤمنين فيقولون ذلك قال مجاهد يقول أبو جهل في النار أين صهيب أين عمار أين خباب أين بلال
قوله تعالى أتخذناهم سخريا قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي من الأشرار اتخذناهم بالوصل على الخبر أي إنا اتخذناهم وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة وقال الفراء وهذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والمعنى أنهم يوبخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين وسخريا يقرأ بضم السين وكسرها وقد شرحناها في آخر سورة المؤمنين 110 أم زاغت عنهم الأبصار أي وهم معنا في النار ولا نراهم وقال أبو عبيدة أم هاهنا بمعنى بل
قوله تعالى إن ذلك لحق قال الزجاج أي إن الذي وصفناه عنهم لحق ثم بين ما هو فقال هو تخاصم أهل النار وقرأ أبوالجوزاء وأبو الشعثاء وأبو عمران وابن أبي عبلة تخاصم برفع الصاد وفتح الميم وكسر اللام من أهل وقرأ أبو مجلز وأبو العالية وأبو المتوكل وابن السميفع تخاصم أهل بفتح الصاد والميم ورفع اللام
قل هو نبؤا عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (7/153)
فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فانك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين
قوله تعالى قل هو نبأ عظيم النبأ الخبر وفي المشار إليه قولان أحدهما أنه القرآن قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور والثاني أنه البعث بعد الموت قاله قتادة أنتم عنه معرضون أي لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي وأن ما جئت به من الأخبار عن قصص الماضين لم أعلمه إلا بوحي من الله ويدل على هذا المعنى قوله ما كان لي من علم بالملأ الأعلى يعني الملائكة إذ يختصمون في شأن آدم حين قال الله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة البقرة 30 والمعنى إني (7/154)
ما علمت هذا إلا بوحي إن يوحى إلي أي ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير أي إلا أني نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه
إذ قال ربك هذا متصل بقوله يختصمون وإنما اعترضت تلك الآية بينهما قال ابن عباس اختصموا حين شووروا في خلق آدم فقال الله لهم إني جاعل في الأرض خليفة وهذه الخصومة منهم إنما كانت مناظرة بينهم وفي مناظرتهم قولان
أحدهما أنه قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها البقرة 30 قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنهم قالوا لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه وأعلم قاله الحسن هذا قول الأكثر من المفسرين وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال رأيت ربي عز و جل فقال لي فيم يختصم الملأ الأعلى قلت أنت أعلم يارب قال في الكفارات والدرجات فأما الكفارات فاسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة وأما الدرجات فافشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام (7/155)
قوله تعالى أستكبرت أي أستكبرت بنفسك حين أبيت السجود أم كنت من العالين أي من قوم يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك من قوم يتكبرون
قوله تعالى فأنك رجيم أي مرجوم بالذم واللعن
قوله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم وهو وقت النفخة الأولى وهو حين موت الخلائق
وقوله فبعزتك يمين بمعنى فوعزتك وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في الأعراف 12 , الحجر 34 وغيرهما مما تقدم قوله تعالى قال فالحق والحق أقول قرأ عاصم إلا حسنون عن هبيرة وحمزة وخلف وزيد عن يعقوب فالحق بالرفع في الأول ونصب الثاني وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد قال ابن عباس في معناه (7/157)
فأنا الحق وأقول الحق وقال غيره خبر الحق محذوف تقديره الحق مني وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما قال الزجاج من رفعهما جميعا كان المعنى فأنا الحق والحق أقول وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي بالنصب فيهما قال الفراء وهو على معنى قولك حقا لآتينك ووجود الألف واللام وطرحهما سواء وهو بمنزلة قولك حمدا لله وقال مكي بن أبي طالب انتصب الحق الأول على الإغراء أي اتبعوا الحق واسمعوا والزموا الحق وقيل هو نصب على القسم كما تقول الله لأفعلن فتنصب حين حذفت الجار لأن تقديره فبالحق فأما الحق الثاني فيجوز أن يكون الأول وكرره توكيدا ويجوز أن يكون منصوبا ب أقول كأنه قال وأقول الحق وقرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو رجاء ومعاذ القارئ والأعمش فالحق بكسر القاف والحق بنصبها وقرأ أبو عمران الجوني بكسر القافين جميعا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو نهيك فالحق بالنصب والحق بالرفع
قوله تعالى لأملأن جهنم منك أي من نفسك وذريتك
قل ما أسألكم عليه من أجر أي على تبليغ الوحي وما أنا من المتكلفين أي لم أتكلف إتيانكم من قبل نفسي إنما أمرت أن آتيكم ولم أقل القرآن من تلقاء نفسي إنما أوحي إلي (7/158)
إن هو أي ماهو يعني القرآن إلا ذكر أي موعظة للعالمين
ولتعلمن يا معاشر الكفار نبأه أي خبر صدق القرآن بعد حين وفيه ثلاثة أقوال أحدها بعد الموت والثاني يوم القيامة رويا عن ابن عباس وبالأول يقول قتادة وبالثاني يقول عكرمة والثالث يوم بدر قاله السدي ومقاتل وقال ابن السائب من بقي إلى أن ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم علم ذلك ومن مات علمه بعد الموت وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ولا وجه لذلك (7/159)
سورة الزمر وتسمى سورة الغرف فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وجابر بن زيد وروي عن ابن عباس أنه قال فيها آيتان نزلتا بالمدينة قوله الله نزل أحسن الحديث الزمر 23 وقوله يا عبادي الذين أسرفوا الزمر 53 وقال مقاتل فيها من المدني قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية الزمر 53 وقوله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة الزمر 10 وفي رواية أخرى عنه قال فيها آيتان مدنيتان يا عبادي الذين أسرفوا الزمر 53 وقوله يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم الزمر 10 وقال بعض السلف فيها ثلاث آيات مدنيات قل يا عبادي الذين أسرفوا إلى قوله وأنتم تشعرون الزمر55 - 53 (7/160)
بسم الله الرحمن الرحيم
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ماهم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار
قوله تعالى تنزيل الكتاب قال الزجاج الكتاب هاهنا القرآن ورفع تنزيل من وجهين أحدهما الابتداء ويكون الخبر من الله فالمعنى نزل من عند الله والثاني على إضمار هذا تنزيل الكتاب و مخلصا منصوب على الحال فالمعنى فاعبد الله موحدا لا تشرك به شيئا
قوله تعالى ألا لله الدين الخالص يعني الخالص من الشرك وما سواه ليس بدين الله الذي أمر به وقيل المعنى لا يستحق الدين الخالص إلا لله
والذين اتخذوا من دونه أولياء يعنى آلهة ويدخل في هؤلاء اليهود حين قالوا عزير ابن الله والنصارى لقولهم المسيح ابن الله التوبة 30 وجميع عباد الأصنام ويدل عليه قوله بعد ذلك لو أراد الله أن يتخذ ولدا الزمر 4 (7/161)
قوله تعالى ما نعبدهم أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي إلا ليشفعوا لنا إلى الله والزلفى القربى وهو اسم أقيم مقام المصدر فكأنه قال إلا ليقربونا إلى الله تقريبا
إن الله يحكم بينهم أي بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ولا وجه لذلك
قوله تعالى إن الله لا يهدي أي لا يرشد من هو كاذب في قوله إن الآلهه تشفع كفار أي كافر باتخاذها آلهة وهذا إخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية
لو أراد الله أن يتخذ ولدا أي على ما يزعم من ينسب ذلك إلى الله لاصطفى أي لاختار مما يخلق قال مقاتل أي من الملائكة
خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار
قوله تعالى خلق السموات والأرض بالحق أي لم يخلقهما لغير شيء (7/162)
يكور الليل على النهار قال أبو عبيدة يدخل هذا على هذا قال ابن قتيبة وأصل التكوير اللف ومنه كور العمامة وقال غيره التكوير طرح الشيء بعضه على بعض
وسخر الشمس والقمر أي ذللهما للسير على ما أراد كل يجري لأجل مسمى أي إلى الأجل الذي وقت الله للدنيا وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة 129 ومعنى الغفار في طه 82
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون
قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة يعني آدم ثم جعل منها زوجها أي قبل خلقكم جعل منها زوجها لأن حواء خلقت قبل الذرية ومثله في الكلام أن تقول قد أعطيتك اليوم شيئا ثم الذي أعطيتك أمس أكثر هذا اختيار الفراء وقال غيره ثم أخبركم أنه خلق منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام أي خلق ثمانية أزواج وقد بيناها في سورة الأنعام 143
خلقا من بعد خلق أي نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظما ثم لحما ثم أنبت الشعر إلى غير ذلك من تقلب الأحوال إلى إخراج الأطفال هذا قول الجمهور وقال ابن زيد خلقا في البطون من بعد خلقكم في ظهر آدم
قوله تعالى في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة (7/163)
المشيمة قاله الجمهور وابن زيد معهم وقال أبو عبيدة إنها ظلمة صلب الأب وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم
قوله تعالى فأنى تصرفون أي من أين تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان إن تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعلمون إنه عليم بذات الصدور
إن تكفروا فإن الله غني عنكم أي عن إيمانكم وعبادتكم ولا يرضى لعباده الكفر فيه قولان أحدهما لا يرضاه للمؤمنين قاله ابن عباس والثاني لا يرضاه لأحد وإن وقع بإرادته وفرق بين الإرادة والرضى وقد أشرنا إلى هذا في البقرة 205 عند قوله والله لا يحب الفساد
وإن تشكروا يرضه لكم أي يرضى ذلك الشكر لكم إنه عليم بذات الصدور أي بما في القلوب
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (7/164)
قوله تعالى وإذا مس الإنسان ضر اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما في عتبة بن ربيعة قاله عطاء والثاني في أبي حذيفة بن المغيرة قاله مقاتل والضر البلاء والشدة
منيبا إليه أي راجعا إليه من شركه
ثم إذا خولة أي أعطاه وملكه نعمة منه بعد البلاء الذي أصابه كالصحة بعد المرض والغنى بعد الفقر نسي أي ترك ما كان يدعو إليه وفيه ثلاثة أقوال أحدها نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله تعالى والثاني نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والثالث نسي الله الذي كان يتضرع إليه قال الزجاج وقد تدل ما على الله عز و جل كقوله ولا أنتم عابدون ما أعبد الكافرون 3 وقال الفراء ترك ما كان يدعو إليه وقد سبق معنى الأنداد البقرة 22 ومعنى ليضل عن سبيل الله الحج 9
قوله تعالى قل تمتع بكفرك لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد ومثله فتمتعوا فسوف تعلمون النحل 55
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
قوله تعالى أمن هو قانت قرأ ابن كثير ونافع وحمزة وأبو جعفر (7/165)
والمفضل عن عاصم وزيد عن يعقوب أمن بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد فأما المشددة فمعناها أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت والأصل في أمن أم من فأدغمت الميم في الميم وأما المخففه ففي تقديرها ثلاثة أوجه
أحدها أنها بمعنى النداء قال الفراء فسرها الذين قرؤوا بها فقالوا يامن هو قانت وهو وجه حسن والعرب تدعو بالألف كما تدعوا بياء فيقولون يا زيد أقبل وأزيد أقبل فيكون المعنى أنه ذكر الناسي الكافر ثم قص قصة الصالح بالنداء كما تقول فلان لا يصوم ولا يصلي فيامن يصوم أبشر
والثاني أن تقديرها أمن هو قانت كمن ليس بقانت
والثالث أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا
وقد ذكرنا معنى القنوت في البقرة116 ومعنى آناء الليل في آل عمران 113
قوله تعالى ساجدا وقائما يعني في الصلاة وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال أحدها أنه أبو بكر الصديق رواه عطاء عن ابن عباس (7/166)
والثاني عثمان بن عفان قاله ابن عمر والثالث عمار بن ياسر قاله مقاتل والرابع ابن مسعود وعمار وصهيب وابو ذر قاله ابن السائب والخامس أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم حكاه يحيى بن سلام
قوله تعالى يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة وقد قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعروة وسعيد بن جبير وأبو رجاء وأبو عمران يحذر عذاب الآخرة بزيادة عذاب ويرجو رحمة ربه فيها قولان أحدهما أنها المغفرة قاله ابن السائب والثاني الجنة قاله مقاتل
قوله تعالى قل هل يستوي الذي يعلمون أن ما وعد الله من الثواب (7/167)
والعقاب حق والذين لا يعلمون وباقي الآية قد تقدم قي الرعد 19 وكذلك قوله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة قد تقدم في النحل 30
وفي قوله وأرض الله واسعة قولان أحدهما أنه حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون والثاني أنها أرض الجنة رغبهم فيها
إنما يوفى الصابرون الذين صبروا لأجل الله تعالى على مانالهم بغير حساب أي يعطون عطاء كثيرا أوسع من أن يحسب وأعظم من أن يحاط به لا على قدر أعمالهم
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ماشئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب
قوله تعالى قل إني أمرت قال مقاتل وذلك أن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما حملك على الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة آبائك (7/168)
فتأخذ بها فنزلت هذه الآية والمعنى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أي أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص السالم من الشرك وأمرت لأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة
قل إني أخاف إن عصيت ربي بالرجوع إلى دين آبائي عذاب يوم عظيم وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بينا في نظيرتها في الأنعام 15
قل الله أعبد مخلصا له ديني بالتوحيد فاعبدوا ماشئتم وهذا تهديد وبعضهم يقول هو منسوخ بآية السيف وهذا باطل لأنه لو كان أمرا كان منسوخا فأما أن يكون بمعنى الوعيد فلا وجه لنسخه
قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار و خسروا أهليهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم خسروا الحور العين اللواتي أعددن لهم في الجنة لو أطاعوا قاله الحسن وقتادة
والثاني خسروا الأهل في النار إذ لا أهل لهم فيها قاله مجاهد وابن زيد
والثالث خسروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا إذ صاروا إلى النار بكفرهم وصار أهلوههم إلى الجنة بإيمانهم قاله الماوردي
قوله تعالى لهم من فوقهم ظلل من النار وهي الأطباق من النار وإنما قال ومن تحتهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم ذلك الذي وصف الله من العذاب يخوف الله به عباده المؤمنين (7/169)
قوله تعالى والذين اجتنبوا الطاغوت روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله تعالى زيد ابن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضى الله عنهم قال أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي
وفي المراد بالطاغوت هاهنا ثلاثة أقوال أحدها الشياطين قاله مجاهد والثاني الكهنة قاله ابن السائب والثالث الأوثان قاله مقاتل فعلى قول مقاتل هذا إنما قال يعبدوها لأنها مؤنثة وقال الأخفش إنما قال يعبدوها لأن الطاغوت في معنى جماعة وإن شئت جعلته واحدا مؤنثا قوله تعالى وأنابوا إلى الله أي رجعوا إليه بالطاعة لهم البشرى بالجنة فبشر عبادي بباء وحرك الياء أبوعمرو
ثم نعتهم فقال الذين يستمعون القول وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن قاله الجمهور فعلى هذا في معنى فيتبعون أحسنه أقوال قد شرحناها في الأعراف 145 عند قوله وأمر قومك يأخذوا بأحسنها
والثاني أنه جميع الكلام ثم في المعنى قولان أحدهما أنه الرجل (7/170)
يجلس مع القوم فيسمع كلامهم فيعمل بالمحاسن ويحدث بها ويكف عن المساوئ ولايظهرها قاله ابن السائب والثاني أنه لما ادعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن وأتت الكهنة بالكلام المزخرف في الأباطيل فرق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله فاتبعوا كلام الله ورفضوا أباطيل أولئك قاله أبو سليمان الدمشقي
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله المعياد
قوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب قال ابن عباس سبق في علم الله أنه في النار
فان قيل كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب
قيل أما الفراء فانه يقول هذا مما يراد به استفهام واحد فسبق الاستفهام إلى غير موضعه فرد إلى موضعه الذي هو له فيكون المعنى أفأنت تنقذ من في النار من حقت عليه كلمة العذاب ومثله أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون المؤمنون 35 فرد أنكم مرتين والمعنى أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم ومثله لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ثم قال فلا تحسبنهم آل عمران 188 فرد تحسبن مرتين والمعنى لا تحسبن الذين يفرحون بمفازة من العذاب وقال الزجاج يجوز أن يكون في الكلام محذوف تقديره أفمن حق عليه كلمة العذاب فيتخلص منه أو ينجو أفأنت تنقذه قال المفسرون أفأنت (7/171)
تخلصه مما قدر له فتجعله مؤمنا والمعنى ما تقدر على ذلك قال عطاء يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه و سلم عن الإيمان
قوله تعالى لكن الذين اتقوا وقرأ أبو المتوكل وأبوجعفر لكن بتشديد النون وفتحها قال الزجاج والغرف هي المنازل الرفيعة في الجنة من فوقها غرف أي منازل أرفع منها
وعد الله منصوب على المصدر فالمعنى وعدهم الله غرفا وعدا ومن قرأ وعد الله بالرفع المعنى ذلك وعد الله
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب
قوله تعالى أنزل من السماء ماء قال الشعبي كل مافي الأرض فمن السماء ينزل فسلكه ينابيع قال ابن قتيبة أي أدخله فجعله ينابيع أي عيونا تنبع ثم يهيج أي ييبس قال الأصمعي يقال للثبت إذا تم جفافه قد هاج يهيج هيجا
فأما الحطام فقال أبو عبيدة هو ما يبس فتحات من النبات ومثله الرفات قال مقاتل هذا مثل ضرب الدنيا بينا ترى النبت أخضر إذ تغير فيبس ثم هلك وكذلك الدنيا وزينتها وقال غيره هذا البيان للدلالة على قدرة الله عز و جل (7/172)
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين
قوله تعالى أفمن شرح الله صدره قال الزجاج جوابه متروك لأن الكلام دال عليه تقديره أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد ويدل على هذا قوله فويل للقاسية قلوبهم وقد روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية فقلنا يا رسول الله وما هذا الشرح فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام الأنعام 125
قوله تعالى فهو على نور فيه أربعة أقوال أحدها اليقين قاله ابن عباس والثاني كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه قاله قتادة والثالث البيان قاله ابن السائب والرابع الهدى قاله مقاتل (7/173)
وفيمن نزلت هذه الآية فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبي بن خلف رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني في علي وحمزة وأبي لهب و ولده قاله عطاء
والثالث في رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي أبي جهل قاله مقاتل
قوله تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله قد بينا معنى القساوة في البقرة 74
فان قيل كيف يقسو القلب من ذكر الله عز و جل
فالجواب أنه كلما تلي عليهم ذكر الله الذي يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وذهب مقاتل في آخرين إلى أن من هاهنا بمعنى عن قال الفراء كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته وإنما قست قلوبهم من ذكر الله لأنهم جعلوه كذبا فأقسى قلوبهم ومن قال قست قلوبهم عنه أراد أعرضت عنه وقد قرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة وأبو عمران قلوبهم عن ذكر الله مكان قوله من
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (7/174)
قوله تعالى الله نزل أحسن الحديث يعني القرآن وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف
قوله تعالى كتابا متشابها فيه قولان
أحدهما أن بعضه يشبه بعضا في الآي والحروف فالآية تشبه الآية والكلمة تشبه الكلمة والحرف يشبه الحرف
والثاني أن بعضه يصدق بعضا فليس فيه اختلاف ولا تناقض
وإنما قيل له مثاني لأنه كررت فيه القصص والفرائض والحدود والثواب والعقاب
فان قيل ما الحكمة في تكرار القصص والواحدة قد كانت تكفي
فالجواب أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا لهم وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة مكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها إلى كل سمع فأما فائدة تكرار الكلام من جنس واحد كقوله فبأي آلاء ربكما تكذبان الرحمن وقوله لا أعبد ما تعبدون الكافرون وقوله أولى لك فأولى القيامة 34 35 وما أدراك ما يوم الدين الانفطار 17 18 فسنذكرها في سورة الرحمن عز و جل
قوله تعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم أي تأخذهم (7/175)
قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان من الوجل وروى العباس ابن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها تقشعر من وعيده وتلين عند وعده قاله السدي والثاني تقشعر من الخوف وتلين من الرجاء والثالث تقشعر الجلود لإعظامه وتلين عند تلاوته ذكرهما الماوردي
وقال بعض أهل المعاني مفعول الذكر في قوله إلى ذكر الله محذوف لأنه معلوم والمعنى تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله الجنة والثواب قال قتادة هذا نعت أولياء الله تقشعر جلودهم وتلين قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان وقد روى أبو حازم قال مر ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق فقال ما شأنه فقالوا إنه إذا قرئ عيه القرآن يصيبه هذا قال إنا لنخشى الله عز و جل وما نسقط وقال عامر بن عبد الله بن الزبير جئت أبي فقال لي أين كنت فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله عز و جل فيرعد واحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله عز و جل فقعدت معهم فقال لا تقعد معهم بعدها أبدا قال فرآني (7/176)
كأني لم يأخذ ذلك في فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا من خشية الله تعالى أفترى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر قال فرأيت ذلك كذلك وقال عكرمة سئلت أسماء بنت أبي بكر هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف قالت لا ولكنهم كانوا يبكون وقال عبد الله بن عروة بن الزبير قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن قالت كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم فقلت لها إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه فقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وكان جواب يرعد عند الذكر فقال له إبراهيم النخعي إن كنت تملكه فما أبالي أن لا أعتد بك وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك (7/177)
قوله تعالى ذلك هدى الله في المشار إليه قولان أحدهما أنه القرآن قاله مقاتل والثاني أنه ما ينزل بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد ولينها عند الوعد قاله ابن الأنباري
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون كذب الذين من قبلهم فأتهام العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون
قوله تعالى أفمن يتقي بوجه سوء العذاب أي شدته قال الزجاج جوابه محذوف تقديره كمن يدخل الجنة وجاء في التفسير أن الكافر يلقى في النار مغلولا ولا يتهيأ له أن يتقيها إلا بوجه
ثم أخبر عما يقول الخزنة للكفار بقوله وقيل للظالمين يعني الكافرين ذوقوا ما كنتم تكسبون أي جزاء كسبكم
قوله تعالى كذب الذين من قبلهم أي من قبل كفار مكة فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي وهم آمنون غافلون عن العذاب (7/178)
فأذاقهم الله الخزي يعني الهوان والعذاب ولعذاب الآخرة أكبر مما أصابهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ولكنهم لا يعلمون ذلك
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن أي وصفنا لهم من كل مثل أي من كل شبه يشبه أحوالهم
قوله تعالى قرآنا عربيا قال الزجاج عربيا منصوب على الحال المعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه فذكر قرآنا توكيدا كما تقول جاءني زيد رجلا صالحا وجاءني عمرو إنسانا عاقلا فذكر رجلا وإنسانا توكيدا
قوله تعالى غير ذي عوج روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال غير مخلوق وقال غيره مستقيم غير مختلف
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون
قوله تعالى ضرب الله مثلا ثم بينه فقال رجلا فيه شركاء متشاكسون قال ابن قتيبة أي مختلفون يتنازعون ويتشاحون فيه يقال رجل شكس وقال اليزيدي الشكس من الرجال الضيق الخلق
قال المفسرون وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فان الكافر يعبد (7/179)
آلهة شتى فمثله بعبد يملكه جماعة يتافسون في خدمته ولا يقدرون أن يلغ رضاهم أجمعين والمؤمن يعبد الله وحده فمثله بعبد لرجل واحد قد علم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاكس الخلطاء فيه فذلك قوله سالما لرجل قرأ ابن كثير وأبو عمرو إلا عبد الوارث في غير رواية القزاز وأبان عن عاصم ورجلا سلما بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما والمعنى ورجلا خالصا لرجل قد سلم له من غير منازع ورواه عبد الوارث إلا القزاز كذلك إلا أنه رفع الاسمين فقال ورجل سالم لرجل وقرأ ابن أبي عبلة سلم لرجل بكسر السين ورفع الميم وقرأ الباقون ورجلا سلما بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين والسلم بفتح السين واللام معناه الصلح والسلم بكسر السين مثله قال الزجاج من قرأ سلما وسلما فهما مصدران وصف بهما فالمعنى ورجلا ذا سلم لرجل وذا سلم لرجل فالمعنى ذا سلم والسلم الصلح والسلم بكسر السين مثله وقال ابن قتيبة من قرأ سلما لرجل أراد سلم إليه فهو سلم له وقال أبو عبيدة السلم والسلم الصلح
قوله تعالى هل يستويان مثلا هذا استفهام معناه الإنكار أي لا يستويان لأن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين وقيل لا يستويان في باب الراحة لأنه هذا قد عرف الطريق إلى رضى مالكه وذاك متحير بين الشركاء قال ثعلب وإنما قال هل يستويان مثلا ولم يقل مثلين لأنهما جميعا ضربا (7/180)
مثلا واحدا ومثله وجعلنا ابن مريم وأمه آية المؤمنون 50 ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد وتم الكلام هاهنا ثم قال الحمد لله أي له الحمد دون غيره من المعبودين بل أكثرهم لا يعلمون والمراد بالأكثر الكل
ثم أخبر نبيه بما بعد هذا الكلام أنه يموت وأن الذين يكذبونه يموتون وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عز و جل المحق والمبطل والمظلوم والظالم وقال ابن عمر نزلت هذه الآية وما ندري ما تفسيرها وما نرى أنها نزلت إلا فينا وفي أهل الكتابين حتى قتل عثمان فعرفت أنها فينا نزلت وفي لفظ آخر حتى وقعت الفتنة بين علي ومعاوية
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاؤا المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون (7/181)
قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله بأن دعا له ولدا وشريكا وكذب بالصدق إذ جاءه وهو التوحيد والقرآن أليس في جهنم مثوى للكافرين أي مقام للجاحدين وهذا استفهام بمعنى التقرير يعني إنه كذلك
قوله تعالى والذي جاء بالصدق فيه أربعة أقوال
أحدها أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله علي بن أبي طالب وابن عباس وقتادة وابن زيد ثم في الصدق الذي جاء به قولان أحدهما أنه لا إله إلا الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والثاني أنه القرآن قاله قتادة وفي الذي صدق به ثلاثة أقوال أحدها أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا هو جاء بالصدق وهو صدق به قاله ابن عباس والشعبي والثاني أنه أبو بكر قاله علي بن أبي طالب والثالث أنهم المؤمنون قاله قتادة والضحاك وابن زيد
والقول الثاني أن الذي جاء بالصدق أهل القرآن وهو الصدق الذي يجيبون به يوم القيامة وقد أدوا حقه فهم الذين صدقوا به قاله مجاهد
والثالث أن الذي جاء بالصدق الأنبياء قاله الربيع فعلى هذا يكون الذي صدق به المؤمنون
والرابع أن الذي جاء بالصدق جبريل وصدق به محمد قاله السدي (7/182)
قوله تعالى أولئك هم المتقون أي الذين اتقوا الشرك وإنما قيل هم لأن معنى الذي معنى الجمع كذلك قال اللغويون وأنشد أبو عبيدة والزجاج ... فان الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد ...
قوله تعالى ليكفر الله عنهم المعنى أعطاهم ماشاؤوا ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا أي ليستر ذلك بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بمحاسن أعمالهم لا بمساوئها
أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (7/183)
قوله تعالى أليس الله بكاف عبده ذكر المفسرون أن مشركي مكة قالوا يا محمد ما تزال تذكر آلهتنا وتعيبها فاتق أن تصيبك بسوء فنزلت هذه الآية والمراد بعبده هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم
وقرأ حمزة والكسائي عباده على الجمع وهم الأنبياء لأن الأمم قصدتهم بالسوء فالمعنى أنه كما كفى الأنبياء قبلك يكفيك وقرأ سعد بن أبي وقاص وأبو عمران الجوني بكافي مثبتة الياء عبده بكسر الدال والهاء من غير ألف وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية وأبو الجوزاء والشعبي مثله إلا أنهم أثبتوا الألف في عباده وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر وشيبة والأعمش بكاف بالتنوين عباده على الجمع وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء العطاردي يكافي بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء عباده على الجمع
ويخوفونك بالذين من دونه أي بالذين يعبدون من دونه وهم الأصنام
ثم أعلم بما بعد هذا أن الإضلال والهداية إليه تعالى وأنه منتقم ممن عصاه ثم أخبر أنهم مع عبادتهم يقرون أنه الخالق ثم أمر أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون لا يملك كشف ضر ولا جذب خير
وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم كاشفات ضره وممسكات رحمته منونا والباقون كاشفات ضره وممسكات رحمته على الإضافة (7/184)
قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل
قوله تعالى قل يا قوم اعملوا ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليا نسخت بآية السيف
قوله تعالى إنا أنزلنا عليك الكتاب يعني القرآن للناس أي لجمع الخلق بالحق ليس فيه باطل وتمام الآية مفسر في آخر يونس 108 وذكروا أنه مسنوخ بآية السيف
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها أي يقبض الأرواح حين موت أجسادها والتي لم تمت أي ويتوفى التي لم تمت في منامها
فيمسك أي عن الجسد والنفس التي قضى عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي قضي بضم القاف وفتح الياء الموت بالرفع ويرسل الأخرى إلى الجسد إلى أجل مسمى وهو انقضاء العمر إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون في أمر البعث وروى (7/185)
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتعارفون ويتساءلون ثم ترد ارواح الأحياء إلى أجسادها فلا يخطىء بشيء منها فذلك قوله إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وقال ابن عباس في رواية أخرى في ابن آدم نفس وروح فبالنفس العقل والتمييز وبالروح النفس والتحريك فاذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه وقال ابن جريج في الغنسان روح ونفس بينهما حاجز فهو تعالى يقبض النفس عند النوم يردها إلى الجسد عند الانتباه فاذا أراد إماتة العبد في نومه لم يرد النفس وقبض الروح
وقد اختلف العلماء هل بين النفس والروح فرق على قولين قد ذكرتهما في الوجوه والنظائر وزدت هذه الآية شرحا في باب التوفي في كتاب النظائر وذهب بعض العلماء إلى أن التوفي المذكور في حق النائم هو نومه وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري فعلى هذا يكون معنى توفي النائم قبض نفسه عن التصرف وإرسالها إطلاقها باليقظة للتصرف أم اتخذوا من دون الله قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون
قوله تعالى أم اتخذوا يعني كفار مكة (7/186)
وفي المراد بالشفعاء قولان أحدهما أنها أصنام زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم قاله الأكثرون والثاني الملائكة قاله مقاتل قل أولو كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة ولا يعقلون أنكم تعبدونهم وجواب هذا الإستفهام محذوف تقديره أولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم
قل لله الشفاعة جميعا أي لا يملكها أحد إلا بتمليكه ولا يشفع عنده أحد باذنه
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيآت ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فيه ثلاثة أقوال أحدها انقبضت عن التوحيد قاله ابن عباس ومجاهد والثاني استكبرت قاله قتادة والثالث نفرت قاله أبو عبيدة والزجاج
قوله تعالى وإذا ذكر الذين من دونه يعني الأصنام إذا هم يستبشرون يفرحون وما بعد هذا قد تقدم تفسيره الأنعام 14 73 البقرة 113 الرعد18 إلى قوله وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (7/187)
قال السدي ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات وقال غيره عملوا أعمالا ظنوا أنها تنفعهم فلم تنفع مع شركهم قال مقاتل ظهر لهم حين بعثوا مالم يحتسبوا أنه نازل بهم فهذا القول يحتمل وجهين
أحدهما أنهم كانوا يرجون القرب من الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون
والثاني أن البعث والجزاء لم يكن في حسابهم وروي عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت وقال أخشى هذه الآية أن يبدو لي مالا أحتسب
قوله تعالى وحاق بهم أي نزل بهم ما كانوا به يستهزؤن أي ما كانوا ينكرونه ويكذبون به
فاذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيآت ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيآت ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
قوله تعالى فاذا مس الإنسان ضر دعانا قال مقاتل هو أبو حذيفة ابن المغيرة وقد سبق في هذه السورة نظيرها الزمر 8 وإنما كنى عن النعمة بقوله أوتيته لأن المراد بالنعمة الإنعام
على علم عندي أي على خير علمه الله عندي وقيل على علم من الله بأني له أهل قال الله تعالى بل هي يعني النعمة التي أنعم الله عليه بها فتنة أي بلوى يبتلى بها العبد ليشكر أو يكفر (7/188)
ولكن اكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم وامتحان وقيل بل هي أي المقالة التي قالها فتنة
قد قالها يعني تلك الكلمة وهي قوله إنما أوتيتة على علم الذين من قبلهم وفيهم قولان أحدهما أنهم الأمم الماضية قاله السدي والثاني قارون قاله مقاتل
قوله تعالى فما أغنى عنهم أي ما
دفع عنهم العذاب ما كانوا يكسبون وفيه ثلاثة أقوال أحدها من الكفر والثاني من عبادة الأصنام والثالث من الأموال
فأصابهم سيئات ما كسبوا أي جزاء سيئاتهم وهو العذاب
ثم أوعد كفار مكة فقال والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أي إنهم لا يعجزون الله ولا يفوتونه
قال مقاتل ثم وعظهم ليعلموا وحدانيته حين مطروا بعد سبع سنين فقال أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك أي في بسط الرزق وتقتيره لآيات لقوم يؤمنون
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون
قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم في سبب نزولها أربعة أقوال (7/189)
أحدها أن ناسا من المشركين كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم عذبوا فافتتنوا فكان أصحاب رسول الله يقولون لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا قوم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هذه الآية فكتبها عمر إلى عياش والوليد وأولئك النفر فأسلموا وهاجروا وهذا قول ابن عمر
والثالث أنها نزلت في وحشي وهذا القول ذكرناه مشروحا في آخر الفرقان 68 عن ابن عباس
والرابع أن أهل مكة قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان (7/190)
وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد فعلنا ذلك فنزلت هذه الآية وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
ومعنى أسرفوا على أنفسهم ارتكبوا الكبائر والقنوط بمعنى اليأس وأنيبوا بمعنى ارجعوا إلى الله من الشرك والذنوب وأسلموا له أي أخلصوا له التوحيد وتنصرون بمعنى تمنعون
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم قد بيناه في قوله يأخذوا بأحسنها الأعراف 145
أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب اله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (7/191)
قوله تعالى أن تقول نفس قال المبرد المعنى بادروا قبل أن تقول نفس وحذرا من أن تقول نفس وقال الزجاج خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول ومعنى يا حسرتا يا ندامتا ويا حزنا والتحسر الاغتمام على ما فات والألف في يا حسرتا هي ياء المتكلم والمعنى يا حسرتي على الإضافة قال الفراء والعرب تحول الياء إلى الألف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدعاء وربما أدخلت العرب الهاء بعد هذه الألف فيخفضونها مرة ويرفعونها أخرى وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمران وأبو الجوزاء يا حسرتي بكسر التاء على الإضافة إلى النفس وقرأ معاذ القارئ وأبو جعفر يا حسرتاي بألف بعد التاء وياء مفتوحة قال الزجاج وزعم الفراء أنه يجوز يا حسرتاه على كذا بفتح الهاء ويا حسرتاه بالضم والكسر والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الهاء مع الوصل
قوله تعالى في جنب الله فيه خمسة أقوال أحدها في طاعة الله تعالى قاله الحسن والثاني في حق الله قاله سعيد بن جبير والثالث في أمر الله قاله مجاهد والزجاج والرابع في ذكر الله قاله عكرمة والضحاك والخامس في قرب الله روي عن الفراء أنه قال الجنب القرب أي في قرب الله وجواره يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في قربة وجواره فعلى هذا يكون المعنى على ما فرطت في طلب قرب الله تعالى وهو الجنة (7/192)
قوله تعالى وإن كنت لمن الساخرين أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدنيا
أو تقول لو أن الله هداني أي أرشدني إلى دينه لكنت من المتقين الشرك فيقال لهذا القائل بلى قد جاءتك آياتي قال الزجاج وبلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي غير أن معنى لو أن الله هداني ما هديت فقيل بلى قد جاءتك آياتي وروى ابن أبي سريج عن الكسائي جاءتك فكذبت واستكبرت وكنت بكسر التاء فيهن مخاطبة للنفس ومعنى استكبرت تكبرت عن الإيمان بها
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يسمهم السوء ولاهم يحزنون
قوله تعالى ويوم القايمة ترى الذين كذبوا على الله فزعموا أن له ولدا وشريكا وجوهم مسودة وقال الحسن هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل وباقي الآية قد ذكرناه آنفا الزمر 32
قوله تعالى وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم قال الفراء وهو كما تقول قد تبين أمر القوم وأمورهم وارتفع الصوت والأصوات والمعنى واحد وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال أحدها بفضائلهم قاله السدي والثاني بأعمالهم قاله ابن السائب ومقاتل والثالث بفوزهم من النار (7/193)
قال المبرد المفازة مفعلة من الفوز وإن جمع فحسن كقولك السعادة والسعادات والمعنى ينجيهم الله بفوزهم أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون
قوله تعالى له مقاليد السموات والأرض قال ابن قتيبة أي مفاتيحها وخزائنها لأن مالك المفاتيح مالك الخزائن واحدها إقليد وجمع على غير واحد كما قالوا مذاكير جمع ذكر ويقال هو فارسي معرب وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي الإقليد المفتاح فارسي معرب قال الراجز ... لم يؤذها الديك بصوت تغريد ... ولم تعالج غلقا باقليد ...
والمقليد لغة في الإقليد والجمع مقاليد
وللمفسرين في المقاليد قولان أحدهما المفاتيح قاله ابن عباس والثاني الخزائن قاله الضحاك وقال الزجاج تفسيره أن كل شيء في السموات والأرض فهو خالقه وفاتح بابه قال المفسرون مفاتيح السموات المطر ومفاتيح الأرض النبات
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (7/194)
قوله تعالى أفغير الله تأمروني أعبد قرأ نافع وابن عامر تأمروني أعبد مخففة غير أن نافعا فتح الياء ولم يفتحها ابن عامر وقرأ ابن كثير تأمروني بتشديد النون وفتح الياء وقرأ الباقون بسكون الياء وذلك حين دعوه إلى دين آبائه أيها الجاهلون أي فيما تأمرون
قوله تعالى ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك قال أبو عبيدة ومجازها مجاز الامرين اللذين يخبر عن أحدهما ويكف عن الآخر قال ابن عباس هذا أدب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم وتهديد لغيره لأن الله عز و جل قد عصمه من الشرك وقال غيره إنما خاطبه بذلك ليعرف من دونه أن الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها ولو وقع من نبي وقرأ أبو عمران وابن السميفع ويعقوب لنحبطن بالنون عملك بالنصب بل الله فاعبد أي وحد
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون
قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره سبب نزولها أن رجلا من أهل الكتاب أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أبا القاسم بلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والثرى على إصبع فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله (7/195)
ابن مسعود وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين نحوه في ابن مسعود وقد فسرنا أول هذه الآية في الأنعام 91 قال ابن عباس هذه الآية في الكفار فأما من آمن بأنه على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره
ثم ذكر عظمته بقوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمنه وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض وأخرجا من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوي الله عز و جل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون قال ابن عباس الأرض والسموات كلها بيمينه (7/196)
وقال سعيد بن جبير السموات قبضة والأرضون قبضة
ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ماعملت وهو أعلم بما يفعلون
قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق وقرأ ابن السميفع وابن يعمر والجحدري فصعق بضم الصاد من في السموات ومن في الأرض أي ماتوا من الفزع وشدة الصوت وقد بينا هذه الآية والخلاف في الذين استثنوا في سورة النمل 87
ثم نفخ فيه أخرى وهي نفخة البعث فاذا هم يعني الخلائق قيام ينظرون (7/197)
قوله تعالى وأشرقت الأرض بنور ربها أي أضاءت والمراد بالأرض عرصات القيامة
قوله تعالى ووضع الكتاب فيه قولان أحدهما كتاب الأعمال قاله قتادة ومقاتل والثاني الحساب قاله السدي وفي الشهداء قولان
أحدهما أنهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم قاله الجمهور ثم فيهم أربعة أقوال أحدها أنهم المرسلون من الأنبياء والثاني أمة محمد يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم رويا عن ابن عباس رضي الله عنه والثالث الحفظة قاله عطاء والرابع النبيون والملائكة وأمة محمد صلى الله عليه و سلم والجوارح قاله ابن زيد
والثاني أنهم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قاله قتادة والأول أصح
ووفيت كل نفس ما علمت أي جزاء عملها وهو أعلم بما يفعلون أي لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها (7/198)
وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبؤا من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
قوله تعالى وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا قال أبو عبيدة الزمر جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض واحدها زمرة
قوله تعالى رسل منكم أي من أنفسكم و كلمة العذاب هي قوله لأملأن جهنم الأعراف 18
قوله تعالى فتحت أبوابها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فتحت وفتحت مشددتين وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف
وفي هذه الواو ثلاثة أقوال
احدها أنها زائدة روي عن جماعة من اللغويين منهم الفراء
والثاني أنها واو الحال فالمعنى جاؤوها وقد فتحت أبوابها فدخلت (7/199)
الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتحة قبل مجيئهم وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه
أحدها أن أهل الجنة جاؤوها وقد فتحت أبوابها ليستعجلوا السرور والفرح إذا رأوا الأبواب مفتحة وأهل النار يأتونها وأبوابها مغلقة ليكون أشد لحرها ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا من أصحابنا
والثاني أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل فصين أهل الجنة عنه وجعل في حق أهل النار ذكره لي بعض مشايخنا
والثالث أنه لو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثر انتظار فتحه في كمال الكرم ومن كمال الكرم غلق باب النار إلى حين مجيء أهلها لأن الكريم يعجل المثوبة ويؤخر العقوبة وقد قال عز و جل ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم النساء 147 قال المصنف هذا وجه خطر لي
والقول الثالث أن الواو زيدت لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة والعرب تعطف في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم الكهف 22 حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي
واختلف العلماء أين جواب هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أن الجواب محذوف قاله أبو عبيدة والمبرد والزجاج في آخرين وفي تقدير هذا المحذوف قولان أحدهما أن تقديره حتى إذا جاؤوها إلى آخر الآية سعدوا قاله المبرد والثاني حتى إذا جاؤوها إلى قوله (7/200)
فادخلوها خالدين دخلوها وإنما حذف لأن في الكلام دليلا عليه وهذا اختيار الزجاج
والقول الثاني أن الجواب قال لهم خزنتها والواو زائدة ذكره الأخفش قال ومثله في الشعر ... فاذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلا كلمة حالم بخيال ...
أي فاذا ذلك
والثالث الجواب حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها والواو زائدة حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة
وفي قوله طبتم خمسة أقوال أحدها أنهم إذا انتهوا إلى باب الجنة وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما فلا يبقى في بطونهم أذى ولا قذى إلا خرج ويغتسلون من الأخرى فلا تغبر جلودهم ولا تشعث أشعارهم أبدا حتى إذا انتهوا إلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها سلام عليكم طبتم رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه وقد ذكرنا في الأعراف 44 نحوه عن ابن عباس والثاني طاب لكم (7/201)
المقام قاله ابن عباس والثالث طبتم بطاعة الله قاله مجاهد والرابع أنهم طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة واقتص من بعضهم لبعض فلما هذبوا قالت لهم الخزنة طبتم قاله قتادة والخامس كنتم طيبين في الدنيا قاله الزجاج
فلما دخلوها قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده بالجنة وأورثنا الأرض أي أرض الجنة نتبوأ منها حيث نشاء أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أمة محمد صلى الله عليه و سلم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون منها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيها فلذلك قالوا نتبوأ من الجنة حيث نشاء يقول الله عز و جل فنعم أجر العاملين أي نعم ثواب المطيعين في الدنيا الجنة
قوله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش أي محدقين به يقال حف القوم بفلان إذا أحدقوا به ودخلت من للتوكيد كقولك ما جاءني من أحد
يسبحون بحمد ربهم قال السدي ومقاتل بأمر ربهم وقال بعضهم يسبحون بالحمد له حيث دخل الموحدون الجنة وقال ابن جرير التسبيح هاهنا بمعنى الصلاة
قوله تعالى وقضي بينهم أي بين الخلائق بالحق أي بالعدل وقيل الحمد لله رب العالمين هذا قول أهل الجنة شكرا لله تعالى على إنعامه
قال المفسرون ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي (7/202)
خلق السموات والأرض الأنعام 1 وختم غاية الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم بالحمد لله بهذه الآية فنبه على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته (7/203)
سورة المؤمن
قال أبو سليمان الدمشقي ويقال لها سورة الطول وهي مكية قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة قوله الذين يجادلون في آيات الله والتي بعدها المؤمن 35 36 قال الزجاج وذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة قال ابن قتيبة يقال إن حم اسم من أسماء الله أضيفت هذه السورة إليه كأنه قيل سورة الله لشرفها وفضلها فقيل آل حاميم وإن كان القرأن كله سور الله وإن هذا كما يقال بيت الله وحرم الله وناقة الله قال الكميت ... وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقي ومعرب ...
وقد تجعل حمم اسما للسورة ويدخل الإعراب ولا يصرف ومن قال هذا في الجميع الحواميم كما يقال طس والطواسين وقال محمد بن القاسم الأنباري العرب تقول وقع في الحواميم وفي آل حميم أنشد أبو عبيدة ... حلفت بالسبع اللواتي طولت ... وبمئين بعدها قد أمئيت ... وبمثان ثنيت فكررت ... وبالطواسين اللواتي ثلثت (7/204)
وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل اللواتي فصلت ...
فمن قال وقع في آل حاميم جعل حاميم اسما لكلهن ومن قال وقع في الحواميم جعل حم كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال من الخطأ أن تقول قرأت الحواميم وليس من كلام العرب والصواب أن تقول قرأت آل حاميم وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات وقال الكميت وجدنا لكم في آل حاميم آية
بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
وفي حم أربعة أقوال
أحدها قسم أقسم الله به وهو من أسمائه عز و جل رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال أبو سليمان وقد قيل إن جواب القسم قوله إن الذين كفروا ينادون المؤمن 10 (7/205)
والثاني أنها حروف من أسماء الله عز و جل ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الر وحم ونون حروف الرحمن رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني أن الحاء مفتاح اسمه حميد والميم مفتاح اسمه مجيد قاله أبو العالية والثالث أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء مثل حكيم وحليم وحي والميم مفتاح كل اسم له ابتداؤه ميم مثل ملك ومتكبر ومجيد حكاه أبو سليمان الدمشقي وروي نحوه عن عطاء الخراساني
والثالث أن معنى حم قضي ما هو كائن رواه أبو صالح عن ابن عباس وروي عن الضحاك والكسائي مثل هذا كأنهما أرادا الإشارة إلى حم بضم الحاء وتشديد الميم قال الزجاج وقد قيل في حم حم الأمر
والرابع أن حم اسم من أسمء القرآن قاله قتادة وقرأ ابن كثير حم بفتح الحاء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرها واختلف عن الباقين قال الزجاج أما الميم فساكنة في قراءةالقراء كلهم إلا عيسى ابن عمر فانه فتحها وفتحها على ضربين أحدهما أن يجعل حم اسما للسورة فينصبه ولا ينونه لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل والثاني على معنى اتل حم والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسما للسورة ويكون حكاية حروف الهجاء
قوله تعالى تنزيل الكتاب أي هذا تنزيل الكتاب والتوب (7/206)
جمع توبة وجائز أن يكون مصدرا من تاب يتوب توبا والطول الفضل قال أبو عبيدة يقال فلان ذو طول على قومه أي ذو فضل وقال ابن قتيبة يقال طل علي يرحمك الله أي تفضل قال الخطابي ذو حرف النسبة والنسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه بالياء كقولهم أسدي وبكري والثاني على الجمع كقولهم المهالبة والمسامعة والأزارقة والثالث ب ذي وذات كقولهم رجل مال أي ذو مال وكبش صاف أي ذو صوف وناقة ضامر أي ذات ضمر فقوله ذو الطول معناه أهل الطول والفضل
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
قوله تعالى ما يجادل في آيات الله أي ما يخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل إلا الذين كفروا وباقي الآية في آل عمران 196 والمعنى إن عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة من قبلهم
قوله تعالى وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه فيه قولان أحدهما ليقتلوه قاله ابن عباس وقتادة والثاني ليحبسوه ويعذبوه ويقال للأسير أخيذ حكاه ابن قتيبة قال الأخفش وإنما قال ليأخذوه فجمع على الكل لأن الكل مذكر ومعناه معنى الجماعة وما بعد هذا مفسر في الكهف 56 إلى قوله فأخذتخم أي عاقبتهم وأهلكتهم (7/207)
فكيف كان عقاب استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم وكذلك أي مثل الذي حق على الأمم المكذبة حقت كلمة ربك بالعذاب وهي قوله لأملأن جهنم الأعراف 18على الذين كفروا من قومك وقرأ نافع وابن عامر حقت كلمات ربك أنهم قال الأخفش لأنهم أو بأنهم أصحاب النار
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيآت ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوزالعظيم
ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال الذين يحملون العرش وهم أربعة أملاك فاذا كان يوم القيامة جعلوا ثمانية ومن حوله قال وهب بن منبه حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ليس فيهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبحه الآخر وقال غيره الذين حول العرش هم الكروبيون وهم سادة الملائكة وقد ذكرنا في السورة المتقدمة معنى قوله يسبحون بحمد ربهم الزمر 75
قوله تعالى ربنا أي يقولون ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما قال الزجاج هو منصوب على التمييز وقال غيره المعنى وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فاغفر للذين تابوا من الشرك واتبعوا سبيلك (7/208)
وهو دين الإسلام وما بعد هذا ظاهر إلى قوله وقهم السيئات قال قتادة يعني العذاب
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير
قوله تعالى إن الذين كفروا ينادون لمقت الله قال المفسرون لما رأوا أعمالهم وأدخلوا النار مقتوا أنفسهم لسوء فعلهم فناداهم مناد لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم
ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وهذا مثل قوله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم البقرة 28 وقد فسرناه هنالك
قوله تعالى فهل إلى خروج أي من النار إلى الدنيا لنعمل بالطاعة من سبيل وفي الكلام اختصار تقديره فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك وقيل لهم ذلكم يعني العذاب الذي نزل بهم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم أي إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتم وإن جعل له شريكا شريك آمنتم فالحكم لله فهو الذي حكم على المشركين بالنار وقد بينا في سورة البقرة 255 معنى العلي وفي الرعد 9 معنى الكبير (7/209)
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب
هو الذي يريكم آياته أي مصنوعاته التي تدل على وحدانيته وقدرته والرزق هاهنا المطر سمي رزقا لأنه سبب الأرزاق ويتذكر بمعنى يتعظ وينيب بمعنى يرجع إلى الطاعة
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال فادعوا الله مخلصين له الدين أي موحدين
قوله تعالى رفيع الدرجات قال ابن عباس يعني رافع السموات وحكى الماوردي عن بعض المفسرين قال معناه عظيم الصفات
قوله تعالى ذو العرش أي خالقه ومالكه
قوله تعالى يلقي الروح فيه خمسة أقوال
أحدها أنه القرآن والثاني النبوة والقولان مرويان عن ابن عباس وبالأول قال ابن زيد وبالثاني قال السدي والثالث الوحي قاله قتادة وإنما سمي القرآن والوحي روحا لأن قوام الدين به كما أن قوام البدن بالروح والرابع جبريل قاله الضحاك والخامس الرحمة حكاه إبراهيم الحربي (7/210)
قوله تعالى من أمره فيه ثلاثة أقوال أحدها من قضائه قاله ابن عباس والثاني بأمره قاله مقاتل والثالث من قوله ذكره الثعلبي
قوله تعالى على من يشاء من عباده يعني الأنبياء
لينذر في المشار إليه قولان أحدهما أنه الله عز و جل والثاني النبي الذي يوحى إليه
والمراد ب يوم التلاق يوم القيامة وأثبت ياء التلاقي في الحالين ابن كثير ويعقوب وأبو جعفر وافقهما في الوصل والباقون بغير ياء في الحالين وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال
أحدها أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس
والثاني يلتقي فيه الأولون والآخرون روي عن ابن عباس أيضا
والثالث يلتقي فيه الخلق والخالق قاله قتادو ومقاتل
والرابع يلتقي المظلوم والظالم قاله ميمون بن مهران والخامس يلتقي المرء بعمله حكاه الثعلبي
قوله تعالى يوم هم بارزون أي ظاهرون من قبورهم لا يخفى على الله منهم شيء
فان قيل فهل يخفى عليه منهم اليوم شيء
فالجواب أن لا غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا يخفى عليه مما عملوا شيء قاله ابن عباس والثاني (7/211)
لا يستترون منه بجبل ولا مدر قاله قتادة والثالث أن المعنى أبرزهم جميعا لأنه لا يخفى عليه منهم شيء حكاه الماوردي
قوله تعالى لمن الملك اليوم اتفقوا على أن هذا يقوله الله عز و جل بعد فناء الخلائق واختلفوا في وقت قوله له على قولين
أحدهما أنه يقوله عند فناء الخلائق إذا لم يبق مجيب فيرد هو على نفسه فيقول لله الواحد القهار قاله الأكثرون
والثاني أنه يقوله يوم القيامة
وفيمن يجيبه حينئذ قولان أحدهما أنه يجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله قاله عطاء والثاني أن الخلائق كلهم يجيبونه فيقولون لله الواحد القهار قاله ابن جريج
وأنذرهم يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
قوله تعالى وأنذرهم يوم الآزفة فيه قولان
أحدهما أنه يوم القيامة قاله الجمهور قال ابن قتيبة وسميت القيامة بذلك لقربها يقال أزف شخوص فلان أي قرب
والثاني أنه يوم حضور المنية قاله قطرب (7/212)
قوله تعالى إذا القلوب لدى الحناجر وذلك أنها ترتقي إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعود هذا على القول الأول وعلى الثاني القلوب هي النفوس تبلغ الحناجر عند حضور المنية قال الزجاج و كاظمين منصوب على الحال والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا يقال لها كاظمين وإنما الكاظمون أصحاب القلوب فالمعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم قال المفسرون كاظمين أي مغمومين ممتلئين خوفا وحزنا والكاظم الممسك للشيء على ما فيه وقد أشرنا إلى هذا عند قوله والكاظمين الغيظ آل عمران 134
ما للظالمين يعني الكافرين من حميم أي قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته
يعلم خائنة الأعين قال ابن قتيبة الخائنة والخيانة واحد وللمفسرين فيها أربعة أقوال
أحدها أنه الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره فإذا رأى منهم غفلة لحظ إليها فان خاف أن يفطنوا له غض بصره قاله ابن عباس
والثاني أنه نظر العين إلى ما نهي عنه قاله مجاهد
والثالث الغمز بالعين قاله الضحاك والسدي قال قتادة هو الغمز بالعين فيما لا يحبه الله ولا يرضاه
والرابع النظرة بعد النظرة قاله ابن السائب
قوله تعالى وما تخفي الصدور فيه ثلاثة أقوال أحدها ما تضمره من الفعل أن لو قدرت على ما نظرت إليه قاله ابن عباس والثاني الوسوسة (7/213)
قاله السدي والثالث ما يسره القلب من أمانة أو خيانة حكاه المارودي
والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال
قوله تعالى والله يقضي بالحق أي يحكم به فيجزي بالحسنة والسيئة والذين يدعون من دونه من الآلهة وقرأ نافع وابن عامر تدعون بالتاء على معنى قل لهم لا يقضون بشيء أي لا يحكمون بشيء ولا يجازون به وقد نبه الله عز و جل بهذا على أنه حي لأنه إنما يأمر ويقضي من كان حيا وأيد ذلك بذكر السمع والبصر لأنهما إنما يثبتان لحي (7/214)
قاله أبو سليمان الدمشقي وما بعد هذا قد تقدم بعضه يوسف 109 وبعضه ظاهر إلى قوله كانوا هم أشد منهم قوة وقرأ ابن عامر أشد منكم بالكاف وكذلك هو في مصاحفهم وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب وما كان لهم من الله أي من عذاب الله من واق بقي العذاب عنهم
ذلك أي ذلك العذاب الذي نزل بهم بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات إلى آخر الآية
ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا وأراد بقوله اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه أعيدوا القتل عليهم كما كان أولا قاله ابن عباس وقال قتادة كان فرعون قد كف عن قتل الولدان فلما بعث الله موسى أعاد عليهم القتل ليصدهم بذلك عن متعابة موسى
قوله تعالى وما كيد الكافرين إلا في ضلال أي إنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز و جل
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى أني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم (7/215)
إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قولم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وإنما قال هذا لأنه كان في خاصة فرعون من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله فليمنعه من القتل إني أخاف أن يبدل دينكم أي عبادتكم إياي وأن يظهر في الأرض الفساد قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأن بغير ألف وقرأ عاصم وحمزة والكسائي أو أن بألف قبل الواو على معنى إن لم يبدل دينكم أوقع الفساد إلا أن نافعا وأبا عمرو قرآ يظهر بضم الياء الفساد بالنصب وقرأ الباقون يظهر بفتح الياء الفساد بالرفع والمعنى يظهر الفساد بتغيير أحكامنا فجعل ذلك فسادا بزعمه وقيل يقتل أبناءكم كما تفعلون بهم
فلما قال فرعون هذا استعاذ موسى بربه فقال إني عذت بربي وربكم قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر عذت مبينة الذال وأدغمها أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف من كل متكبر أي متعظم عن الإيمان فقصد فرعون قتل موسى فقال حينئذ رجل مؤمن من آل فرعون (7/216)
وفي الآل هاهنا قولان
أحدهما أنه بمعنى الأهل والنسب قال السدي ومقاتل كان ابن عم فرعون وهو المراد بقوله وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى القصص 20
والثاني أنه بمعنى القبيلة والعشيرة قال قتادة ومقاتل كان قبطيا وقال قوم كان إسرائيليا وإنما المعنى قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وفي اسمه خمسة أقوال
أحدها حزبيل قاله ابن عباس ومقاتل والثاني حبيب قاله كعب والثالث سمعون بالسين المهملة قاله شعيب الجبائي والرابع جبريل والخامس شمعان بالشين المعجمة رويا عن ابن إسحاق وكذلك حكى الزجاج شمعان بالشين وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضا والأكثرون على أنه آمن بموسى لما جاء وقال الحسن كان مؤمنا قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قال مقاتل كتم إيمانه من فرعون مائة سنة قوله تعالى أتقتلون رجلا أن يقول أي لأن يقول ربي الله وهذا استفهام إنكار وقد جاؤكم بالبينات أي بما يدل على صدقه وإن يك كاذبا فعليه كذبه أي لا يضركم ذلك وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب وفي بعض ثلاثة أقوال (7/217)
أحدها أنها بمعنى كل قاله أبو عبيدة وأنشد للبيد ... تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها ...
أراد كل النفوس
والثاني أنها صلة والمعنى يصبكم الذي يعدكم حكي عن الليث
والثالث أنها على أصلها ثم في ذلك قولان أحدهما أنه وعدهم النجاة إن آمنوا والهلاك إن كفروا فدخل ذكر البعض لأنهم على أحد الحالين والثاني أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة فصار هلاكهم في الدنيا بعض الوعد ذكرهما الماوردي
قال الزجاج هذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر وليس في هذا نفي إصابة الكل ومثله قول الشاعر ... قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون من المستعجل الزلل ...
وإنما ذكر البعض ليوجب الكل لأن البعض من الكل ولكن القائل إذا قال أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة وأقل ما يكون للمستعجل الزلل فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه فكأن المؤمن قال لهم أقل ما يكون في صدقة أن يصبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم قال وأما بيت لبيد فإنه أراد ببعض النفوس نفسه وحدها (7/218)
قوله تعالى إن الله لا يهدي أي لا يوفق للصواب من هو مسرف وفيه قولان أحدهما أنه المشرك قاله قتادة والثاني أنه السفاك للدم قاله مجاهد قوله تعالى ظاهرين في الأرض أي عالين في أرض مصر فمن ينصرنا أي من يمنعنا من بأس الله أي من عذابه والمعنى لا تتعرضوا للعذاب بالتكذيب وقتل النبي فقال فرعون عند ذلك ما أريكم من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي وما أهديكم أي أدعوكم إلا إلى طريق الهدى في تكذيب موسى والإيمان بي وهذا يدل على أنه انقطع عن جواب المؤمن
وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب قال الزجاج أي مثل يوم حزب حزب والمعنى أخاف أن تقيموا على كفركم فينزل بكم من العذاب مثل ما نزل بالأمم المكذبة رسلهم
قوله تعالى يوم التناد قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي التناد بغير ياء وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير ويعقوب وافقهم أبو جعفر في الوصل وقرأ أبو بكر الصديق وابن عباس وسعيد بن المسيب وابن جبير وأبو العالية والضحاك التناد بتشديد الذال قال الزجاج أما إثبات الياء فهو الأصل وحذفها حسن جميل (7/219)
لأن الكسرة تدل على الياء وهو رأس آية وأواخر هذه الآيات على الدال ومن قرأ بالتشديد فهو من قولهم ند فلان وند البعير إذا هرب على وجهه ويدل على هذا قوله يوم تولون مدبرين وقوله يوم يفر المرء من أخيه عبس 34 قال أبو علي معنى الكلام إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد قال الضحاك إذا سمع الناس زفير جهنم وشقيقها ندوا فرارا منها في الأرض فلا يتوجهون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا وقال غيره يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا عاصم لهم فأما قراءة التخفيف فهي من النداء وفيها للفسرين أربعة أقوال
أحدها أنه عند نفخة الفزع ينادي الناس بعضهم بعضا روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يأمر الله عز و جل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول أنفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله فتسير الجبال وترج الأرض وتذهل المراضع وتضع الحوامل ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو قوله يوم التناد (7/220)
والثاني أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضا كما ذكر في الأعراف 44 50 وهذا قول قتادة
والثالث أنه قولهم يا حسرتنا يا ويلتنا قاله ابن جريج
والرابع أنه ينادى فيه كل أناس بامامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء
قوله تعالى يوم تولون مدبرين فيه قولان أحدهما هربا من النار والثاني أنه انصرافهم إلى النار
قوله تعالى مالكم من الله من عاصم أي من مانع
قوله تعالى ولقد جاءكم يوسف وهو يوسف بن يعقوب ويقال إنه ليس به وليس بشيء
قوله تعالى من قبل أي من قبل موسى بالبينات وهي الدلالات على التوحيد كقوله أأرباب متفرقون خير الآية يوسف 39 وقال ابن السائب البينات تعبير الرؤيا وشق القميص وقيل بل بعثه الله تعالى بعد موت ملك مصر إلى القبط
قوله تعالى فما زلتم في شك مما جاءكم به أي من عبادة الله وحده حتى إذا هلك أي مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد الحجة عليكم كذلك (7/221)
أي مثل هذا الضلال يضل الله من هو مسرف أي مشرك مرتاب أي شاك في التوحيد وصدق الرسل
والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب
قوله تعالى الذين يجادلون قال الزجاج هذا تفسير المسرف المرتاب والمعنى هم الذين يجادلون في آيات الله قال المفسرون يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان أي بغير حجة أتتهم من الله
كبر مقتا أي كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا والمعنى يمقتهم الله ويمقتهم المؤمنون بذلك الجدال
كذلك أي كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا وجادلوا بالباطل يطبع على كل قلب متكبر عن عبادة الله وتوحيده وقد سبق بيان معنى الجبار (7/222)
في هود 59 وقرأ أبو عمرو على كل قلب بالتنوين وغيره من القراء السبعة يضيفه وقال ابوعلي المعنى يطبع على جملة القلب من المتكبر واختار قراءة الإضافة الزجاج قال لأن المتكبر هو الإنسان لا القلب
فان قيل لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدم القلب على الكل
فالجواب أن هذا جائز عند العرب قال الفراء تقدم هذا وتأخره واحد سمعت بعض العرب يقول هو يرجل شعره يوم كل جمعة يريد كل يوم جمعة والمعنى واحد وقد قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني على قلب كل متكبر بتقديم القلب
قال المفسرون فلما وعظ المؤمن فرعون وزجره عن قتل موسى قال فرعون لوزيره يا هامان ابن لي صرحا وقد ذكرناه في القصص 38
قوله تعالى لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات قال ابن عباس وقتادة يعني أبوابها وقال ابوصالح طرقها وقال غيره المعنى لعلي أبلغ الطرق من سماء الى سماء وقال الزجاج لعلي ما يؤديني إلى السموات وما بعد هذا المفسر في القصص 38 إلى قوله وكذلك أي ومثل ما وصفنا زين لفرعون سوء عمله وصد عن سبيل الهدى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وصد بضم الصاد والباقون بفتحها وما كيد فرعون في إبطال آيات موسى إلا في تباب أي في بطلان وخسران (7/223)
وقال الذين آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب
ثم عاد الكلام إلى نصيحة المؤمن لقومه وهو قوله اتبعون أهدكم سبيل الرشاد أي طريق الهدى يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع يعني الحياة في هذه الدار متاع يتمتع بها أياما ثم تنقطع وإن الآخرة هي دار القرار التي لازوال لها
من عمل سيئة فيها قولان أحدهما أنها الشرك ومثلها جهنم قاله الأكثرون والثاني المعاصي ومثلها العقوبة بمقدارها قاله ابو سليمان الدمشقي فعلى الأول العمل الصالح التوحيد وعلى الثاني هو على الإطلاق
قوله تعالى فأولئك يدخلون الجنة قرأ ابن كثير وأبو عمرو يدخلون بضم الياء وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بالفتح وعن عاصم كالقراءتين
وفي قوله بغير حساب قولان أحدهما أنهم لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة قاله مقاتل والثاني أنه يصب عليهم الرزق صبا بغير تقتير قاله أبو سليمان الدمشقي (7/224)
ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجوة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الأخرة وأن مردنا إلى الله وان المسرفين هم اصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيآت مامكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب
قوله تعالى ويا قوم مالي أدعوكم أي مالكم كما تقول ما لي أراك حزينا معناه مالك ومعنى الآية أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان وتدعونني إلى النار أي إلى الشرك الذي يوجب النار ثم فسر الدعوتين بما بعد هذا
ومعنى ليس لي به علم أي لا أعلم هذا الذي ادعوه شريكا له وقد سبق بيان ما بعد هذا البقرة 129 طه 82 إلى قوله ليس له دعوة وفيه قولان أحدهما ليس له استجابة دعوة قاله السدي والثاني ليس له شفاعة قاله ابن السائب
قوله تعالى وأن مردنا إلى الله أي مرجعنا والمعنى انه يجازينا بأعمالنا وفي المسرفين قولان قد ذكرناهما عند قوله مسرف كذاب غافر 28
قوله تعالى فستذكرون ما أقول لكم وقرأ ابن مسعود وأبو العالية (7/225)
وأبو عمران الجوني وأبو رجاء فستذكرون بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها وقرأ أبي بن كعب وأيوب السختياني بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعا أي إذا نزل العذاب بكم ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة
وأفوض أمري إلى الله أي أرده وذلك أنهم تواعدوه لمخالفته دينهم إن الله بصير بالعباد اي بأوليائه وأعدائه
ثم خرج المؤمن عنهم فطلبوه فلم يقدروا عليه ونجا مع موسى لما عبر البحر فذلك قوله فوقاه الله سيئات ما مكروا أي ما أرادوا به من الشر وحاق بآل فرعون لما لجوا في البحر سوء العذاب قال المفسرون هو الغرق
قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا قال ابن مسعود (7/226)
وابن عباس إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين فيقال يا آل فرعون هذه داركم ورورى ابن جرير قال حدثنا عبد الكريم بن ابي عمير قال حدثنا حماد بن محمد البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال رأينا طيورا تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله فاذا كان العشي رجع مثلها سودا قال وفطنتم إلى ذلك قال نعم إن تلك الطير في حواصلها ارواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء فينبت عليها من الليل رياش بيض وتتناثر السود ثم تغدو ويعرضون على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله عزوجل ادخلوا (7/228)
آل فرعون أشد العذاب وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وهذه الآية تدل على عذاب القبر لانه بين ما لهم في الآخرة فقال ويوم تقوم الساعة ادخلوا قرأ ابن كثير وابن عامر وابو عمرو وأبو بكر وأبان عن عاصم الساعة ادخلوا بالضم وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول والابتداء على قراءة هؤلاء بضم الألف وقرأ الباقون بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بادخالهم وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف
وإذا يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعوا ! الكافرين إلا في ضلال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار
قوله تعالى وإذ يتحاجون في النار المعنى واذكر لقومك يا محمد (7/229)
إذ يختصمون يعني أهل النار والآية مفسرة في سورة إبراهيم 21 والذين استكبروا هم القادة ومعنى إنا كل فيها أي نحن وأنتم إن الله قد حكم بين العباد أي قضى هذا علينا وعليكم ومعنى قول الخزنة لهم فادعوا أي نحن لا ندعو لكم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي إن ذلك يبطل ولا ينفع
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك باثبات حججهم والثاني باهلاك عدوهم والثالث بأن العاقبة تكون لهم وفصل الخطاب أن نصرهم حاصل لابد منه فتارة يكون باعلاء أمرهم كما أعطى داود وسليمان من الملك ما قهرا به كل كافر وأظهر محمدا صلى الله عليه و سلم على مكذبيه وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم بعد وفاة الرسل كتسليطه بختنصر على قتلة يحيى بن زكريا وأما نصرهم يوم يقوم الأشهاد فان الله منجيهم من العذاب وواحد الأشهاد شاهد كما أن واحد الأصحاب صاحب وفي الأشهاد ثلاثة أقوال
أحدها الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب قاله مجاهد والسدي قال مقاتل وهم الحفظة من الملائكة (7/230)
والثاني الملائكة والأنبياء قاله قتادة
والثالث أنهم أربعة الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح قاله ابن زيد
قوله تعالى يوم لا ينفع قرأ ابن كثير وأبو عمرو تنفع بالتاء والباقون بالياء لأن المعذرة والاعتذار بمعنى الظالمين معذرتهم أي لا يقبل منهم إن اعتذروا ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة وقد بينا في الرعد 25 أن لهم بمعنى عليهم وسوء الدار النار
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو (7/231)
فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلك الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذي يحي ويميت فاذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
ولقد آتينا موسى الهدى من الضلالة يعني التوراة وأورثنا بني إسرائيل الكتاب بعد موسى وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين وقال ابن السائب التوراة والإنجيل والزبور والذكرى بمعنى التذكير
فاصبر على أذاهم إن وعد الله حق في نصرك وهذه الآية في هذه السورة في موضعين غافر 55 77 وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف ومعنى سبح صل
وفي المراد بصلاة العشي والإبكار ثلاثة أقوال
أحدها أنها الصلوات الخمس قاله ابن عباس (7/232)
والثاني صلاة الغداة وصلاة العصر قاله قتادة
والثالث أنها صلاة كانت قبل أن تفرض الصلوات ركعتان غدوة وركعتان عشية قاله الحسن
وما بعد هذا قد تقدم آنفا المؤمن 4 إلى قوله إن في صدورهم إلا كبر الآية نزلت في قريش والمعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من التكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى مذلهم فاستعذ بالله من شرهم ثم نبه على قدرته بقوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس أي من إعادتهم (7/233)
وذلك لكثرة أجزائها وعظم جرمها فنبههم على قدرته على إعادة الخلق ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعني الكفار حين لا يستدلون بذلك على التوحيد وقال مقاتل عظمت اليهود الدجال وقالوا إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان فقال الله إن الذين يجادلون في آيات الله لأن الدجال من آياته بغير سلطان أي بغير حجة فاستعذ بالله من فتنة الدجال قال والمراد ب خلق الناس الدجال وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية والأول أصح
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله ادعوني أستجب لكم فيه قولان أحدهما وحدوني واعبدوني أثبكم قاله ابن عباس والثاني سلوني أعطكم قاله السدي إن الذين يستكبرون عن عبادتي فيه قولان أحدهما عن توحيدي والثاني عن دعائي ومسألتي سيدخلون جهنم قرأ ابن كثير وأبو بكر (7/234)
عن عاصم وعباس بن الفضل عن أبي عمرو سيدخلون بضم الياء والباقون بفتحها والداخر الصاغر
وما بعد هذا قد سبق في مواضع متقرفة يونس 67 القصص 73 الأنعام 95 النمل 61 الأعراف 54 29 الحج 5 إلى قوله ولتبلغوا أجلا مسمى وهو أجل الحياة إلى الموت ولعلكم تعقلون توحيد الله وقدرته
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فاما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فالينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم (7/235)
من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وكانوا أشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله يعني القرآن يقولون ليس من عند الله أنى يصرفون أي كيف صرفوا عن الحق إلى الباطل وفيهم قولان أحدهما أنهم المشركون قاله ابن عباس والثاني أنهم القدرية ذكره جماعة من المفسرين وكان ابن سيرين يقول إن لم تكن نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو رزين وأبو مجلز والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة والسلاسل يسحبون بفتح اللام والياء وقال ابن عباس إذا سحبوها كان أشد عليهم (7/236)
قوله تعالى يسجرون قال مجاهد توقد بهم النار فصاروا وقودها
قوله تعالى أين ما كمتم تشركون مفسر في الأعراف 190
وفي قوله لم نكن ندعو من قبل شيئا قولان
أحدهما أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئا لأنها لم تكن تضر ولا تنفع وهو قول الأكثرين
والثاني أنهم قالوه على وجه الجحود قاله أبو سليمان الدمشقي كذلك أي كما أضل الله هؤلاء يضل الكافرين
ذلكم العذاب الذي نزل بكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق أي بالباطل وبما كنتم تمرحون وقد شرحنا المرح في بني إسرائيل 37 وما بعد هذا قد تقدم بتمامه النحل 29 يونس 109 النساء 164 إلى قوله وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا باذن الله وذلك لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات فاذا جاء أمر الله وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم و المبطلون أصحاب الباطل
قوله تعالى ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم أي حوائجكم في البلاد
قوله تعالى فأي آيات الله تنكرون استفهام توبيخ
قوله تعالى فما أغنى عنهم في ما قولان أحدهما أنها للنفي (7/237)
والثاني أنها للاستفهام ذكرهما ابن جرير
قوله تعالى فرحوا بما عندهم من العلم في المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الأمم المكذبة قاله الجمهور ثم في معنى الكلام قولان أحدهما أنهم قالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نحاسب قاله مجاهد والثاني فرحوا بما كان عندهم أنه علم قاله السدي
والقول الثاني أنهم الرسل والمعنى فرح الرسل لما هلك المكذبون ونجوا بما عندهم من العلم بالله إذ جاء تصديقه حكاه أبو سليمان وغيره
قوله تعالى وحاق بهم يعني بالمكذبين العذاب الذي كانوا به يستهزؤون والبأس العذاب ومعنى سنة الله أنه سن هذه السنة في الأمم أي أن إيمانهم لا ينفعهم إذا رأوا العذاب وخسر هنالك الكافرون (7/238)
فان قيل كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك
فعنه جوابان أحدهما أن خسر بمعنى هلك قاله ابن عباس والثاني أنه إنما بين لهم خسرانهم عند نزول العذاب قاله الزجاج (7/239)
سورة السجدة مكية كلها باجماعهم ويقال لها سجدة المؤمن ويقال لها المصابيح بسم الله الرحمن الرحيم
حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
قوله تعالى تنزيل قال الفراء يجوز أن يرتفع تنزيل ب حم ويجوز أن يرتفع باضمار هذا وقال الزجاج تنزيل مبتدأ وخبره (7/240)
كتاب فصلت آياته هذا مذهب البصريين و قرآنا منصوب على الحال المعنى بينت آياته في حال جمعه لقوم يعلمون أي لمن يعلم
قوله تعالى فأعرض أكثرهم يعني أهل مكة فهم لا يسمعون تكبرا عنه وقالوا قلوبنا في أكنة أي في أغطية فلا نفقه قولك وقد سبق بيان الأكنة والوقر في الأنعام 25 ومعنى الكلام إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم ومن بيننا وبينك حجاب أي حاجز في النحلة والدين قال الأخفش ومن هاهنا للتوكيد
قوله تعالى فاعمل فيه قولان أحدهما اعمل في إبطال أمرنا إنا عاملون على إبطال أمرك والثاني اعمل على دينك إنا عاملون على ديننا قل إنما أنا بشر مثلكم أي لولا الوحي لما دعوتكم غنما أنا يشر مثلكم أي لولا الوحي لما دعوتكم
فاستقيموا إليه أي توجهوا إليه بالطاعة واستغفروه من الشرك
قوله تعالى الذين لا يؤتون الزكاة فيه خمسة أقوال
أحدها لا يشهدون أن لا إله إلا الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال عكرمة والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد
والثاني لا يؤمنون بالزكاة ولا يقرون بها قاله الحسن وقتادة (7/241)
والثالث لا يزكون أعمالهم قاله مجاهد والربيع
والرابع لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعات قاله الضحاك ومقاتل
والخامس لا يعطون زكاة أموالهم قال ابن السائب كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون
قوله تعالى غير ممنون أي غير مقطوع ولا منقوص
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء (7/242)
للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم
قوله تعالى خلق الأرض في يومين قال ابن عباس في يوم الأحد والاثنين وبه قال عبد الله بن سلام والسدي والأكثرون وقال مقاتل في يوم الثلاثاء والأربعاء وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فقال خلق الله عز و جل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وهذا الحديث يخالف ما تقدم وهو أصح (7/243)
قوله تعالى وتجعلون له أندادا قد شرحناه في البقرة 22 وذلك الذي فعل ما ذكر رب العالمين
وجعل فيها رواسي أي جبالا ثوابت من فوق الأرض وبارك فيها بالأشجار والثمار والحبوب والأنهار وقيل البركة فيها أن ينمي فيها الزرع فتخرج الحبة حبات والنواة نخلة وقدر فيها أقواتها قال أبو عبيدة هي جمع قوت وهي الأرزاق وما يحتاج إليه
وللمفسرين في هذا التقدير خمسة أقوال
أحدها أنه شقق الأنهار وغرس الأشجار قاله ابن عباس
والثاني أنه قسم أرزاق العباد والبهائم قاله الحسن
والثالث أقواتها من المطر قاله مجاهد
والرابع قدر لكل بلدة ما لم يجعله في الأخرى كما أن ثياب اليمن لا تصلح إلا ب اليمن والهروية ب هراة ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة قاله عكرمة والضحاك
والخامس قدر البر لأهل قطر والتمر لأهل قطر والذرة لأهل قطر قاله ابن السائب
قوله تعالى في أربعة أيام أي في تتمة أربعة أيام قال الأخفش ومثله أن تقول تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين وإحداهما التي تزوجتها أمس
قال المفسرون يعني الثلاثاء وهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام (7/244)
قوله تعالى سواء قرأ أبو جعفر سواء بالرفع وقرأ يعقوب وعبد الوارث سواء بالجر وقرأ الباقون من العشرة بالنصب قال الزجاج من قرأ بالخفض جعل سواء من صفة الأيام فالمعنى في أربعة أيام مستويات تامات ومن نصب فعلى المصدر فالمعنى استوت سواء واستواء ومن رفع فعلى معنى هي سواء
وفي قوله للسائلين وجهان أحدهما للسائلين القوت لأن كلا يطلب القوت ويسأله والثاني لمن يسأل في كم خلقت الأرض فيقال خلقت في أربعة أيام سواء لا زيادة ولا نقصان
قوله تعالى ثم استوى إلى السماء قد شرحناه في البقرة 29 وهي دخان وفيه قولان
أحدهما أنه لما خلق الماء أرسل عليه الريح فثار منه دخان فارتفع وسما فسماه سماء
والثاني أنه لما خلق الأرض أرسل عليها نارا فارتفع منها دخان فسما
قوله تعالى فقال لها وللأرض قال ابن عباس قال للسماء أظهري شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين قال الزجاج هو منصوب على الحال وإنما لم يقل طائعات لأنهن جرين مجرى ما يعقل ويميز كما قال في النجوم وكل في فلك يسبحون يس 40 قال وقد قيل أتينا نحن ومن فينا طائعين
فقضاهن أي خلقهن وصنعهن قال أبو ذئيب الهذلي (7/245)
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع ...
معناه عملهما وصنعهما
قوله تعالى في يومين قال ابن عباس وعبد الله بن سلام وهما يوم الخميس ويوم الجمعة وقال مقاتل الأحد والاثنين لأن مذهبه أنها خلقت قبل الأرض وقد بينا مقدار هذه الأيام في الأعراف 54
وأوحى في كل سماء أمرها فيه قولان أحدهما أوحى ما أراد وأمر بما شاء قاله مجاهد ومقاتل والثاني خلق في كل سماء خلقها قاله السدي
قوله تعالى وزينا السماء الدنيا أي القربى إلى الأرض بمصابيح وهي النجوم والمصابيح السرج فسمي الكوكب مصباحا لإضاءته وحفظا قال الزجاج معناه وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حفظا
فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فانا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب (7/246)
الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون
قوله تعالى فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان فقل أنذرتكم صاعقة الصاعقة المهلك من كل شيء والمعنى أنذرتكم عذابا مثل عذابهم وإنما خص القبيلتين لأن قريشا يمرون على قرى القوم في أسفارهم
إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم أي أتت آباءهم ومن كان قبلهم ومن خلفهم أي من خلف الآباء وهم الذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين ألا تعبدوا أي بأن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا أي لو أراد دعوة الخلق لأنزل ملائكة
قوله تعالى فاستكبروا أي تكبروا عن الإيمان وعملوا بغير الحق وكان هود قد تهددهم بالعذاب فقالوا نحن نقدر على دفعه بفضل قوتنا والآيات هاهنا الحجج
وفي الريح الصرصر أربعة أقوال
أحدها أنها الباردة قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وقال الفراء هي الريح الباردة تحرق كالنار وكذلك قال الزجاج هي الشديدة البرد جدا فالصرصر متكرر فيها البرد كما تقول أقللت الشيء وقلقلته فأقللته بمعنى رفعته وقلقلته كررت رفعه (7/247)
والثاني أنها الشديدة السموم قاله مجاهد
والثالث الشديدة الصوت قاله السدي وأبو عبيدة وابن قتيبة
والرابع الباردة الشديدة قاله مقاتل
قوله تعالى في أيام نحسات قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو نحسات باسكان الحاء وقرأ الباقون بكسرها قال الزجاج من كسر الحاء فواحدهن نحس ومن أسكنها فواحدهن نحس والمعنى مشؤومات
وفي أول هذه الأيام ثلاثة أقوال أحدها غداة يوم الأحد قاله السدي والثاني يوم الجمعة قاله الربيع بن أنس والثالث يوم الأربعاء قاله يحيى بن سلام والخزي الهوان
قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فيه ثلاثة أقوال أحدها بينا لهم قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقال قتادة بينا لهم سبيل الخير والشر والثاني دعوناهم قاله مجاهد والثالث دللناهم على مذهب الخير قاله الفراء (7/248)
قوله تعالى فاستحبوا العمى أي اختاروا الكفر على الإيمان فأخذتهم صاعقة العذاب الهون أي ذي الهوان وهو الذي يهينهم
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين
قوله تعالى ويوم يحشر أعداء الله وقرأ نافع نحشر بالنون أعداء بالنصب (7/249)
قوله تعالى فهم يوزعون أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا
حتى إذا ما جاؤوها يعني النار التي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال أحدها الأيدي والأرجل والثاني الفروج رويا عن ابن عباس والثالث أنه الجلود نفسها حكاه الماوردي وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك قال قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يارب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى قال فيقول لا أجيز علي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل
قوله تعالى قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أي مما نطق وهاهنا تم الكلام وما بعده ليس من جواب الجلود
قوله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه ثقفيان أو ثقفي وختناه قرشيان كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه (7/250)
فقال أحدهم أترون الله يسمع كلامنا هذا فقال الأخران إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإن لم نرفع لم يسمع وقال الآخر إن سمع منه شيئا سمعه كله فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم إلى قوله من الخاسرين ومعنى تستترون تستخفون أن يشهد أي من أن يشهد عليكم سمعكم لأنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ولا تظنون أنها تشهد ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون قال ابن عباس كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر وذلكم ظنكم أي أن الله لا يعلم ما تعملون أرداكم أهلككم
فان يصبروا أي على النار فهي مسكنهم وإن يستعتبوا أي يسألوا أن يرجع لهم إلى ما يحبون لم يرجع لهم لأنهم لا يستحقون (7/251)
ذلك يقال أعتبني فلان أي أرضاني بعد إسخاطه إياي واستعتبته أي طلبت منه أن يعتب أي يرضى
قوله تعالى وقيضنا لهم قرناء أي سببنا لهم قرناء من الشياطين فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم فيه ثلاثة أقوال أحدها ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير
والثاني ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة على عكس الأول
والثالث ما بين أيديهم ما فعلوه وما خلفهم ما عزموا على فعله وباقي الآية قد تقدم تفسيره الاسراء 16 الأعراف 38
وقال الذين كفروالا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعلمون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون
قوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن أي لا تسمعوه والغوا فيه أي عارضوه باللغو وهو الكلام الخالي عن فائدة وكان الكفار يوصي بعضهم بعضا إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبسوا عليهم قولهم وقال مجاهد والغوا فيه بالمكاء والصفير والتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرأ لعلكم تغلبون فيسكتون
قوله تعالى ذلك جزاء أعداء الله يعني العذاب المذكور وقوله النار بدل من الجزاء لهم فيها دار الخلد أي دار الإقامة قال الزجاج النار (7/252)
هي الدار ولكنه كما تقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها قال الشاعر ... أخور رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر ...
وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم
قوله تعالى وقال الذين كفروا لما دخلوا النار ربنا أرنا اللذين أضلانا وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم أرنا بسكون الراء قال المفسرون يعنون إبليس وقابيل لأنهما سنا المعصية نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين أي في الدرك الأسفل وهو أشد عذابا من غيره
ثم ذكر المؤمنين فقال إن الذين قالوا ربنا الله أي وحدوه ثم استقاموا فيه ثلاثة أقوال (7/253)
أحدها استقاموا على التوحيد قاله أبو بكر الصديق ومجاهد
والثاني على طاعة الله وأداء فرائضه قاله ابن عباس والحسن وقتادة
والثالث على الإخلاص والعمل إلى الموت قاله أبو العالية والسدي وروى عطاء عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله فلم يستقيموا وقالت اليهود ربنا الله وعزيز ابنه ومحمد ليس بنبي فلم يستقيموا وقالت النصارى ربنا الله والمسيح ابنه ومحمد ليس بنبي فلم يستقيموا وقال أبو بكر ربنا الله وحده ومحمد عبده ورسوله فاستقام
قوله تعالى تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا أي بأن لا تخافوا وفي وقت نزولها عليهم قولان
أحدهما عند الموت قاله ابن عباس ومجاهد فعلى هذا في معنى لا تخافوا قولان أحدهما لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم قاله مجاهد والثاني لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم قاله عكرمة والسدي
والقول الثاني تتنزل عليهم إذا قاموا من القبور قاله قتادة فيكون معنى لا تخافوا أنهم يبشرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة (7/254)
قوله تعالى نحن أولياؤكم قال المفسرون هذا قول الملائكة لهم والمعنى نحن الذين كنا نتولاكم في الدنيا لأن الملائكة تتولى المؤمنين وتحبهم لما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء وفي الآخرة أي ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وقال السدي هم الحفظة على ابن آدم فلذلك قالوا نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة وقيل هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح
قوله تعالى ولكم فيها أي في الجنة
نزلا قال الزجاج معناه أبشروا بالجنة تنزلونها نزلا وقال الأخفش لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي (7/255)
هي أحسن فاذا الذين بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هوالسميع العليم
قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله فيمن أريد بهذا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المؤذنون روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نزلت في المؤذنين وهذا قول عائشة ومجاهد وعكرمة (7/256)
والثاني أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله قاله ابن عباس والسدي وابن زيد
والثالث أنه المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه ودعا الناس إلى ذلك وعمل صالحا في إجابته قاله الحسن
وفي قوله وعمل صالحا ثلاثة أقوال أحدها صلى ركعتين بعد الأذان وهو قول عائشة ومجاهد وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله قال الأذان وعمل صالحا قال الصلاة بين الأذان والإقامة
والثاني أدى الفرائض وقام لله بالحقوق قاله عطاء
والثالث صام وصلى قاله عكرمة
قوله تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة قال الزجاج لا زائدة مؤكدة والمعنى ولا تستوي الحسنة والسيئة وللمفسرين فيهما ثلاثة أقوال
أحدها أن الحسنة الإيمان والسيئة الشرك قاله ابن عباس (7/257)
والثاني الحلم والفحش قاله الضحاك والثالث النفور والصبر حكاه الماوردي
قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن وذلك كدفع الغضب بالصبر والإساءة بالعفو فاذا فعلت ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصديق القريب وقال عطاء هو السلام على من تعاديه إذا لقيته قال المفسرون وهذه الآية منسوخة بآية السيف
قوله تعالى وما يلقاها أي ما يعطاها قال الزجاج ما يلقى هذه الفعلة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الخير وقال السدي إلا ذو جد وقال قتادة الحظ العظيم الجنة فالمعنى ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة
قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ قد فسرناه في الأعراف 200 (7/258)
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير
قوله تعالى فان استكبروا أي تكبروا عن التوحيد والعبادة فالذين عند ربك يعني الملائكة يسبحون أي يصلون ويسأمون بمعنى يملون
وفي موضع السجدة قولان
أحدهما أنه عند قوله يسأمون قاله ابن عباس ومسروق وقتادة واختاره القاضي أبو يعلى لأنه تمام الكلام
والثاني أنه عند قوله إن كنتم إياه تعبدون روي عن أصحاب عبد الله والحسن وأبي عبد الرحمن (7/259)
قوله تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة قال قتادة غبراء متهشمة قال الأزهري إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل خشعت
قوله تعالى اهتزت أي تحركت بالنبات وربت أي علت لأن النبت إذا أراد أن يظهر ارتفعت له الأرض وقد سبق بيان هذا الحج 5
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة إعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (7/260)
قوله تعالى إن الذين يلحدون في آياتنا قال مقاتل نزلت في أبي جهل وقد شرحنا معنى الإلحاد في النحل 103 وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال
أحدها أنه وضع الكلام على غير موضعه رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه المكاء والصفير عند تلاوة القرآن قاله مجاهد
والثالث أنه التكذيب بالآيات قاله قتادة
والرابع أنه المعاندة قاله السدي
والخامس أنه الميل عن الإيمان بالآيات قاله مقاتل
قوله تعالى لا يخفون علينا هذا وعيد بالجزاء أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة وهذا عام غير أن المفسرين ذكروا فيمن أريد به سبعة أقوال
أحدها أنه أبو جهل وأبو بكر الصديق رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أبو جهل وعمار بن ياسر قاله عكرمة والثالث أبو جهل ورسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن السائب ومقاتل والرابع أبو جهل وعثمان بن عفان حكاه الثعلبي والخامس أبوجهل وحمزة حكاه الواحدي والسادس أبو جهل وعمر بن الخطاب والسابع الكافر والمؤمن حكاهما الماوردي (7/261)
قوله تعالى اعملوا ما شئتم قال الزجاج لفظه لفظ الأمر ومعناه الوعيد والتهديد
قوله تعالى إن الذين كفروا بالذكر يعني القرآن ثم أخذ في وصف الذكر وترك جواب إن وفي جوابها هاهنا قولان أحدهما أنه أولئك ينادون من مكان بعيد ذكره الفراء
والثاني أنه متروك وفي تقديره قولان أحدهما إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به والثاني إن الذين كفروا يجازون بكفرهم
قوله تعالى وإنه لكتاب عزيز فيه أربعة أقوال أحدها منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا قاله السدي والثاني كريم على الله قاله ابن السائب والثالث منيع من الباطل قاله مقاتل والرابع يمتنع على الناس أن يقولوا مثله حكاه الماوردي
قوله تعالى لا يأتيه الباطل فيه ثلاثة أقوال أحدها التكذيب قاله سعيد بن جبير والثاني الشيطان والثالث التبديل رويا عن مجاهد قال قتادة لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقا ولا يزيد فيه باطلا وقال مجاهد لا يدخل فيه ماليس منه وفي قوله من بين يديه ولا من خلفه ثلاثة اقوال أحدها بين يدي تنزيله وبعد نزوله والثاني أنه ليس قبله كتاب يبطله ولا يأتي بعده كتاب يبطله والثالث لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى (7/262)
وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد
قوله تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك فيه قولان
أحدهما أنه قد قيل فيمن أرسل قبلك ساحر وكاهن ومجنون وكذبوا كما كذبت هذا قول الحسن وقتادة والجمهور
والثاني ما تخبر إلا بما أخبر الأنبياء قبلك من أن الله غفور وأنه ذو عقاب حكاه الماوردي
قوله تعالى ولو جعلناه يعني الكتاب الذي أنزل عليه قرآنا أعجميا أي بغير لغة العرب لقالوا لولا فصلت آياته أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمه أأعجمي وعربي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم آعجمي بهمزة ممدودة وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أأعجمي بهمزتين والمعنى أكتاب أعجمي ونبي عربي وهذا استفهام إنكار أي لو كان كذلك لكان أشد لتكذيبهم
قل هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى من الضلالة وشفاء للشكوك والأوجاع والوقر الصمم فهم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم
وهو عليهم عمى أي ذو عمى قال قتادة صموا عن القرآن وعموا عنه أولئك ينادون من مكان بعيد أي إنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي ينادي من بعيد
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (7/263)
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى كما آمن بكتابك قوم وكذب به قوم فكذلك كتاب موسى ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب إلى أجل مسمى وهو القيامة لقضي بينهم بالعذاب الواقع بالمكذبين وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب أي موقع لهم الريبة
إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركاءي قالوا آذناك مامنا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا مالهم من محيص
قوله تعالى إليه يرد علم الساعة سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا عن الساعة إن كنت رسولا كما تزعم قاله مقاتل ومعنى الآية لا يعلم قيامها إلا هو فاذا سئل عنها فعلمها مردود إليه
وما تخرج من ثمرة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (7/264)
وأبو بكر عن عاصم من ثمرة وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات على الجمع من أكمامها أي أوعيتها قال ابن قتيبة أي من المواضع التي كانت فيها مستترة وغلاف كل شيء كمه وإنما قيل كم القميص من هذا قال الزجاج الأكمام ما غطى وكل شجرة تخرج ماهو مكمم فهي ذات أكمام وأكمام النخلة ما غطى جمارها من السعف والليف والجذع وكل ما أخرجته النخلة فهو ذو أكمام فالطلعة كمها قشرها ومن هذا قيل للقلنسوة كمة لأنها تغطي الرأس ومن هذا كما القميص لأنهما يغطيان اليدين
قوله تعالى ويوم يناديهم أي ينادي الله تعالى المشركين أين شركائي الذين كنتم تزعمون قالوا آذناك قال الفراء وابن قتيبة أعلمناك وقال مقاتل أسمعناك ما منا من شهيد فيه قولان
أحدهما أنه من قول المشركين والمعنى ما منا من شهيد بأن لك شريكا فيتبرؤون يومئذ مما كانوا يقولون هذا قول مقاتل
والثاني أنه من قول الآلهة التي كانت تعبد والمعنى ما منا من شهيد لهم بما قالوا قاله الفراء وابن قتيبة
قوله تعالى وضل عنهم أي بطل عنهم في الآخرة ما كانوا يدعون أي يعبدون في الدنيا وظنوا أي أيقنوا ما لهم من محيص وقد شرحنا المحيص في سورة النساء 121 (7/265)
لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد
قوله تعالى لا يسأم الإنسان قال المفسرون المراد به الكافر فالمعنى لا يمل الكافر من دعاء الخير أي من دعائه بالخير وهو المال والعافية وإن مسه الشر وهو الفقر والشدة والمعنى إذا اختبر بذلك يئس من روح الله وقنط من رحمته وقال أبو عبيدة اليؤوس فعول من يأس والقنوط فعول من قنط
قوله تعالى لئن أذقناه رحمة منا أي خيرا وعافية وغنى ليقولن هذا لي أى هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به ثم يشك في البعث فيقول وما أظن الساعة قائمة أي لست على يقين من البعث ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى يعني الجنة أي كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة فلننبئن الذين كفروا أي لنخبرنهم بمساوئ أعمالهم وما بعده قد سبق إبراهيم 17 الإسراء 83 إلى قوله تعالى ونأى بجانبه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ونأى مثل نعى وقرأ ابن عامر وناء مفتوحة النون ممدودة والهمزة بعد الألف وقرأ (7/266)
حمزة نئى مكسورة النون والهمزة
فذو دعاء عريض قال الفراء وابن قتيبة معنى العريض الكثير وإن وصفته بالطول أو بالعرض جاز في الكلام
قل يامحمد لأهل مكة أرأيتم إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق أي خلاف للحق بعيد عنه وهو اسم والمعنى فلا أحد أضل منكم وقال ابن جرير معنى الآية ثم كفرتم به ألستم في شقاق للحق وبعد عن الصواب فجعل مكان هذا باقي الآية
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا أنه بكل شيء محيط
قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فيه خمسة أقوال
أحدها في الآفاق وقائع الله في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر قاله قتادة ومقاتل
والثالث أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلايا التي تكون في أجسادهم قاله ابن جريج
والرابع أنها في الآفاق آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم وفي أنفسهم (7/267)
حوادث الأرض قاله ابن زيد وحكي عن ابن زيد أن التي في أنفسهم سبيل الغائط والبول فان الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين
والخامس أنها في الأفاق آثار من مضى قبلهم من المكذبين وفي أنفسهم كونهم خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما إلى ان نقلوا إلى العقل والتمييز قاله الزجاج
قوله تعالى حتى يتبين لهم أنه الحق في هاء الكناية قولان أحدهما أنها ترجع إلى القرآن والثاني إلى جميع ما دعاهم إليه الرسول وقال ابن جرير معنى الآية حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو دينه على الأديان كلها
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد أي أولم يكف به أنه شاهد على كل شيء قال الزجاج المعنى أو لم يكفهم شهادة ربك (7/268)
ومعنى الكفاية هاهنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده وتثبيت رسله (7/269)
سورة حم عسق واسمها سورة الشورى
وهي مكية رواه العوفي وغيره عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا إلا أربع آيات نزلن بالمدينة أولها قل لا أسألكم عليه أجرا الشورى 23 وقال مقاتل فيها من المدني قوله ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا الشورى 23 إلى قوله بذات الصدور الشورى 24 وقوله والذين إذا أصابهم البغي الشورى 39 إلى قوله من سبيل الشورى 41
بسم الله الرحمن الرحيم حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور (7/270)
الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل
قوله تعالى حم قد سبق تفسيره المؤمن
قوله تعالى عسق فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه حروف من أسماء ثم فيه خمسة أقوال أحدها أن العين علم الله والسين سناؤه والقاف قدرته رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن والثاني أن العين فيها عذاب والسين فيها مسخ والقاف فيها قذف رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس والثالث أن الحاء من حرب والميم من تحويل ملك والعين من عدو مقهور والسين استئصال بسنين كسني يوسف والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض قاله عطاء والرابع أن العين من عالم والسين من قدوس والقاف من قاهر قاله سعيد بن جبير والخامس أن العين من العزيز والسين من السلام والقاف من القادر قاله السدي
والثالث أنه اسم من أسماء القرآن قاله قتادة
قوله تعالى كذلك يوحي إليك فيه أربعة أقوال (7/271)
أحدها أنه كما أوحيت حم عسق إلى كل نبي كذلك نوحيها إليك قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى من قبلك رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث أن حم عسق نزلت في أمر العذاب فقيل كذلك نوحي إليك أن العذاب نازل بمن كذبك كما أوحينا ذلك إلى من كان قبلك قاله مقاتل
والرابع أن المعنى هكذا نوحي إليك قاله ابن جرير
وقرأ ابن كثير يوحى بضم الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل من يوحي قيل الله وروى أبان عن عاصم نوحي بالنون وكسر الحاء
تكاد السموات يتفطرن قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة تكاد بالتاء يتفطرن بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء يتفطرن مثل قراءة ابن كثير وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم تكاد بالتاء ينفطرن بالنون وكسر الطاء وتخفيفها أي يتشققن من فوقهن أي من فوق الأرضين من عظمة الرحمن وقيل من قول المشركين اتخذ الله ولدا ونظيرها التي في مريم 90
والملائكة يسبحون بحمد ربهم قال بعضهم يصلون بأمر ربهم وقال بعضهم ينزهونه عما لا يجوز في صفته ويستغفرون لمن في الأرض فيه قولان
أحدهما أنه أراد المؤمنين قاله قتادة والسدي (7/272)
والثاني أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين فلما ابتلى هاروت وماروت استغفروا لمن في الأرض
ومعنى استغفارهم سؤالهم الرزق لهم قاله ابن السائب وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله ويستغفرون للذين آمنوا غافر 7 وليس بشيء لأنهم إنما يستغفرون للمؤمنين دون الكفار فلفظ هذه الآية عام ومعناها خاص ويدل على التخصيص قوله ويستغفرون للذين آمنوا غافر 7 لأن الكافر لا يستحق أن يستغفر له
قوله تعالى والذين اتخذوا من ندونه أولياء يعني كفار مكة اتخذوا آلهة فعبدوها من دونه الله حفيظ عليهم أي حافظ لأعمالهم ليجازيهم بها وما أنت عليهم بوكيل أي لم نوكلك بهم فتؤخذ بهم وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف ولا يصح
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير
قوله تعالى وكذلك أي ومثل ما ذكرنا أوحينا إليك قرآنا عربيا ليفهموا مافيه لتنذر أم القرى يعني مكة والمراد أهلها (7/273)
وتنذر يوم الجمع أي وتنذرهم يوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرضين لا ريب فيه أي لا شك في هذا الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون وهو قوله فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم ذكر سبب افتراقهم فقال ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة أي على دين واحد كقوله لجمعهم على الهدى الأنعام 35 ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي في دينه والظالمون وهم الكافرون مالهم من ولي يدفع عنهم العذاب ولا نصير يمنعهم منه أم اتخذوا من دونه اي بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء يعني آلهة يتولونهم فالله هو الولي أي ولي أوليائه فليتخذوه وليا دون الآلهة وقال ابن عباس وليك يا محمد وولي من اتبعك
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعمام أزواجا يذرؤكم فيه ليس (7/274)
كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب
قوله تعالى وما اختلفتم فيه من شيء أي من أمر الدين وقيل بل هو عام فحكمه إلى الله فيه قولان أحدهما علمه عند الله والثاني هو يحكم فيه قال مقاتل وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم فقال الله أنا الذي أحكم فيه ذلكم الله الذي يحكم بين المختلفين هو ربي عليه توكلت في مهماتي وإليه أنيب أي أرجع في المعاد
فاطر السموات قد سبق بيانه الأنعام 14 جعل لكم من أنفسكم أي من مثل خلقكم أزواجا نساء ومن الأنعام أزواجا أصنافا ذكورا وإناثا والمعنى أنه خلق لكم الذكر والأنثى من الحيوان كله يذرؤكم فيها ثلاثة أقوال أحدها يخلقكم قاله السدي والثاني يعيشكم قاله مقاتل والثالث يكثركم قاله الفراء وفي قوله فيه قولان
أحدهما أنها على أصلها قاله الأكثرون فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال (7/275)
أحدها أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج قاله زيد بن أسلم فعلى هذا يكون المعنى يخلقكم في بطون النساء وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة فقال يخلقكم في الرحم أو في الزوج وقال ابن جرير يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام
والثاني أنها ترجع إلى الأرض قاله ابن زيد فعلى هذا يكون المعنى يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض
والثالث أنها ترجع إلى الجعل المذكور ثم في معنى الكلام قولان أحدهما يعيشكم فيما جعل من الأنعام قاله مقاتل والثاني يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج قاله الواحدي
والقول الثاني أن فيه بمعنى به والمعنى يكثركم بما جعل لكم قاله الفراء والزجاج
قوله تعالى ليس كمثله شيء قال ابن قتيبة أي ليس كهو شيء والعرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلي لا يقال له هذا أي أنا لا يقال لي هذا وقال الزجاج الكاف مؤكدة والمعنى ليس مثله شيء وما بعد هذا قد سبق بيانه الزمر 63 الرعد 26 إلى قوله شرع لكم أي بين وأوضح من الدين ما وصى به نوحا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام قاله قتادة والثاني تحريم الأخوات والأمهات قاله الحكم والثالث التوحيد وترك الشرك
قوله تعالى والذي أوحينا إليك أي من القرآن وشرائع الإسلام قال الزجاج المعنى وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصى به إبراهيم (7/276)
وموسى وعيسى وقوله أن أقيموا الدين تفسير قوله ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى وجائز أن يكون تفسيرا لما وصى به نوحا ولقوله والذي أوحينا إليك ولقوله وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى فيكون المعنى شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين وترك الفرقة وشرع الاجتماع على اتباع الرسل وقال مقاتل أن أقيموا الدين يعني التوحيد ولا تتفرقوا فيه أي لا تختلفوا كبر على المشركين أي عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد
قوله تعالى الله يجتبي إليه أي يصطفي من عباده لدينه من يشاء ويهدي إلى دينه من ينيب أي يرجع إلى طاعته
ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاه بترك الفرقة فقال وما تفرقوا يعني أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم فيه ثلاثة أقوال
أحدها من بعد كثرة علمهم للبغي والثاني من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال والثالث من بعد ما جاءهم القرآن بغيا منهم على محمد صلى الله عليه و سلم (7/277)
ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير المكذبين من هذه الأمة إلى يوم القيامة لقضي بينهم بانزال العذاب على المكذبين وإن الذين أورثوا الكتاب يعني اليهود والنصارى من بعدهم أي من بعد أنبيائهم لفي شك منه أي من محمد صلى الله عليه و سلم
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
قوله تعالى فلذلك فادع قال الفراء المعنى فالى ذلك تقول دعوت إلى فلان ودعوت لفلان وذلك بمعنى هذا وللمفسرين
قولان أحدهما أنه القرآن قاله ابن السائب والثاني أنه التوحيد قاله مقاتل (7/278)
قوله تعالى ولا تتبع أهواءهم يعني أهل الكتاب لأنهم دعوه إلى دينهم
قوله تعالى وأمرت لأعدل بينكم قال بعض النحويين المعنى أمرت كي أعدل وقال غيره المعنى أمرت بالعدل وتقع أمرت على أن وعلى كي وعلى اللام يقال أمرت أن أعدل وكي أعدل ولأعدل
ثم في ما أمر أن يعدل فيه قولان أحدهما في الأحكام إذا ترافعوا إليه والثاني في تبليغ الرسالة
قوله تعالى الله ربنا وربكم أي هو آلهنا وإن اختلفنا فهو يجازينا بأعمالنا فذلك قوله لنا أعمالنا أي جزاؤها
لا حجة بيننا وبينكم قال مجاهد لا خصومة بيننا وبينكم فصل
وفي هذه الآية قولان
أحدهما أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار وذلك قبل القتال ثم نزلت آية السيف فنسختها قاله الأكثرون
والثاني أن معناها إن الكلام بعد ظهور الحجج والبراهين قد سقط بيننا فعلى هذا هي محكمة حكاه شيخنا علي بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين
قوله تعالى والذين يحاجون في الله أي يخاصمون في دينه قال قتادة هم اليهود قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم وعلى قول مجاهد هم المشركون طمعوا أن تعود الجاهلية (7/279)
قوله تعالى من بعد ما استجيب له أي من بعد إجابة الناس إلى الإسلام حجتهم داحضة أي خصومتهم باطلة
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
قوله تعالى الله الذي أنزل الكتاب يعني القرآن بالحق أي لم ينزله لغير شيء والميزان فيه قولان أحدهما أنه العدل قاله ابن عباس وقتادة والجمهور والثاني أنه الذي يوزن به حكي عن مجاهد ومعنى إنزاله إلهام الخلق أن يعملوا به وأمر الله عز و جل إياهم بالإنصاف وسمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق وتمام الآية مشروح في الأحزاب 63
قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها لأنهم لا يخافون ما فيها إذ لم يؤمنوا بكونها فهم يطلبون قيامها استبعادا واستهزاء والذين آمنوا مشفقون أي خائفون منها لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون ولا يدرون ما يكون منهم ويعلمون أنها الحق أي أنها كائنة لا محالة ألا إن الذين يمارون في الساعة أي يخاصمون في كونها لفي ضلال بعيد حين لم يتفكروا فيعلموا قدرة الله على إقامتها (7/280)
الله لطيف بعباده قد شرحنا معنى اسمه اللطيف في الأنعام 103 وفي عبادة هاهنا قولان أحدهما أنهم المؤمنون والثاني أنه عام في الكل ولطفه بالفاجر أنه لا يهلكه
يرزق من يشاء أي يوسع له الرزق
قوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة قال ابن قتيبة أي عمل الآخرة يقال فلان يحرث الدنيا أي يعمل لها ويجمع المال فالمعنى من أراد بعمله الآخرة نزد له في حرثه أي نضاعف له الحسنات
قال المفسرون من أراد العمل لله بما يرضيه أعانه الله على عبادته ومن أراد الدنيا مؤثرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة يؤته منها وهو الذي قسم له وما له في الآخرة من نصيب لأنه كافر بها لم يعمل لها فصل
اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى حرثه محكم واختلفوا في باقيها على قولين (7/281)
أحدهما أنه مسنوخ بقوله عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الإسراء 18 وهذا قول جماعة منهم مقاتل
والثاني أن الآيتين محكمتان متفقتان في المعنى لأنه لم يقل في هذه الآية نؤته مراده فعلم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد وهذا موافق لقوله لمن نريد ويحقق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر وذلك لا يدخله النسخ وهذا مذهب جماعة منهم قتادة
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور
قوله تعالى أم لهم شركاء يعني كفار مكة والمعنى ألهم آلهة شرعوا أي ابتدعوا لهم دينا لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل (7/282)
وهي القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة لقضي بينهم في الدنيا بنزول العذاب على المكذبين والظالمون في هذه الآية والتي تليها يراد بهم المشركون والاشفاق الخوف والذي كسبوا هو الكفر والتكذيب وهو واقع بهم يعني جزاؤه وما بعد هذا ظاهر إلى قوله ذلك يعني ما تقدم ذكره من الجنات الذي يبشر الله عباده قال أبو سلمان الدمشقي ذلك بمعنى هذا الذي أخبرتكم به بشرى يبشر الله بها عباده وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي يبشر بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين
قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني أنه لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله به وليس في يده سعة فاجمعوا له من أموالكم مالا يضركم ففعلوا ثم أتوه به فنزفت هذه الآية وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض أترون محمد يسأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت هذه الآية قاله قتادة (7/283)
والهاء في عليه كناية عما جاء به من الهدى
وفي الاستثناء هاهنا قولان
أحدهما أنه من الجنس فعلى هذا يكون سائلا أجرا وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى ثم قال نسخت هذه بقوله قل ما سألتكم من أجر فهو لكم الآية سبأ 47 وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل
والثاني أنه استثناء من غير الأول لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجرا وإنما المعنى لكني أذكركم المودة في القربى وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس منهم العوفي وهذا اختيار المحققين وهو الصحيح فلا يتوجه النسخ أصلا
وفي المراد بالقربى خمسة أقوال أحدها أن معنى الكلام إلا أن تودوني لقرابتي منكم قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد في الأكثرين قال ابن عباس ولم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة
والثاني إلا أن تودوا قرابتي قاله علي بن الحسين وسعيد بن جبير والسدي ثم في المراد بقرابته قولان أحدهما علي وفاطمة وولدها وقد رووه (7/284)
مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم والثاني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب
والثالث أن المعنى إلا أن توددوا إلى الله تعالى فيما يقربكم إليه من العمل الصالح قاله الحسن وقتادة
والرابع إلا أن تودوني كما تودون قرابتكم قاله ابن زيد
والخامس إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم حكاه الماوردي والأول أصح
قوله تعالى ومن يقترف أي من يكتسب حسنة نزد له فيها حسنا أي نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا وقرأ ابن السميفع وابن يعمر والجحدري يزد له بالياء إن الله غفور للذنوب شكور للقليل حتى يضاعفه
أم يقولون أي بل يقول كفار مكة افترى على الله كذبا حين زعم أن القرآن من عند الله فان يشأ الله يختم على قلبك فيه قولان (7/285)
أحدهما يختم على قلبك فينسيك القرآن قاله قتادة
والثاني يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يشق عليك قولهم إنك مفتر قاله مقاتل والزجاج
قوله تعالى ويمح الله الباطل قال الفراء ليس بمردود على يختم فيكون جزما وإنما هو مستأنف ومثله مما حذفت منه الواو ويدع الإنسان بالشر الاسراء 11 وقال الكسائي فيه تقديم وتأخير تقديره والله يمحو الباطل وقال الزجاج الوقف عليها ويمحوا بواو وألف والمعنى والله يمحو الباطل على كل حال غير أنها كتبت في المصاحف بغير واو لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين فكتبت على الوصل ولفظ الواو ثابت والمعنى ويمحو الله الشرك ويحق الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفوا عن السيآت ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير
قوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده قد ذكرناه في براءة 104
قوله تعالى ويعلم ما تفعلون أي من خير وشر قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وقرأ الباقون بالياء على الإخبار عن المشركين والتهديد لهم
ويستجيب بمعنى يجيب وفيه قولان (7/286)
أحدهما أن الفعل فيه لله والمعنى يجيبهم إذا سألوه وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي ويستجيب الذين آمنوا قال يشفعون في إخوانهم ويزيدهم من فضله قال يشفعون في إخوان إخوانهم
والثاني أنه للمؤمنين فالمعنى يجيبونه والأول أصح
قوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده قال خباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير فتمنيناها فنزلت هذه الآية ومعنى الآية لو أوسع الله الرزق لعباده لبطروا وعصوا وبغى بعضهم على بعض ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يصلح أمورهم ولا يطغيهم إنه بعباده خبير بصير فمنهم من لا يصلحه إلا الغنى ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر (7/287)
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفوا عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
وهو الذي ينزل الغيث يعني المطر وقت الحاجة من بعد ما قنطوا أي يئسوا وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله وينشر رحمته في الرحمة هاهنا قولان أحدهما المطر قاله مقاتل والثاني الشمس بعد المطر حكاه أبو سليمان الدمشقي وقد ذكرنا الولي في سورة النساء 45 والحميد في البقرة 267
قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة وهو ما يلحق المؤمن من مكروه فبما كسبت أيديكم من المعاصي وقرأ نافع وابن عامر بما كسبت أيديكم بغير فاء وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام ويعفوا عن كثير من السيئات فلا يعاقب بها وقيل لأبي سليمان الداراني ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم قال إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم وقرأ هذه الآية
قوله تعالى وما أنتم بمعجزين في الأرض إن أراد الله عقوبتكم وهذا يدخل فيه الكفار والعصاة كلهم ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل (7/288)
صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون
قوله تعالى ومن آياته الجواري في البحر والمراد بالجوار السفن قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل إلا أن ابن كثير يقف أيضا بياء وأبو عمرو بغير ياء ويعقوب يوافق ابن كثير والباقون بغير ياء في الوصل والوقف قال أبو علي والقياس ما ذهب إليه ابن كثير ومن حذف فقد كثر حذف مثل هذا في كلامهم كالأعلام قال ابن قتيبة كالجبال واحدها علم وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم
قوله تعالى إن يشأ يسكن الريح التي تجريها فيظللن يعني الجواري رواكد على ظهره أي سواكن على ظهر البحر لا يجرين
أو يوبقهن أي يهلكهن ويغرقهن والمراد أهل السفن ولذلك قال بما كسبوا أي من الذنوب ويعف عن كثير من ذنوبهم فينجيهم من الهلاك
ويعلم الذين يجادلون قرأ نافع وابن عامر ويعلم بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول وقرأ الباقون بالنصب قال الفراء هو مردود على الجزم إلا أنه صرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب
وللمفسرين في معنى الآية قولان (7/289)
أحدهما ويعلم الذين يخاصمون في آيات الله حين يؤخذون بالغرق أنه لا ملجأ لهم
والثاني أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب
قوله تعالى فما أوتيتم من شيء أي ما أعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتعون به ثم يزول سريعا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا لا للكافرين لأنه إنما أعد لهم في الآخرة العذاب
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
قوله تعالى والذين يجتنبون كبائر الإثم وقرأ حمزة والكسائي كبير الإثم على التوحيد من غير ألف والباقون بألف وقد شرحنا الكبائر في سورة النساء 31 وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان أحدهما الزنا والثاني موجبات الحدود
قوله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي يعفون عمن ظلمهم (7/290)
طلبا لثواب الله تعالى
والذين استجابوا لربهم أي أجابوه فيما دعاهم إليه
وأمرهم شورى بينهم قال ابن قتيبة أي يتشاورون فيه بينهم وقال الزجاج المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه
قوله تعالى والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون اختلفوا في هذا البغي على ثلاثة أقوال
أحدها أنه بغي الكفار على المسلمين قال عطاء هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ثم مكنهم الله منهم فانتصروا وقال زيد بن اسلم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين بمكة فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين وفرقة كانت تؤذى فتنتصر فأثنى الله عز و جل عليهم جميعا فقال في الذين لم ينتصروا وإذا ما غضبوا هم يغفرون وقال في المنتصرين وإذا أصابهم البغي هم ينتصرون أي من المشركين وقال ابن زيد ذكر المهاجرين وكانوا صنفين صنفا عفا وصنفا انتصر فقال وإذا ما غضبوا هم يغفرون فبدأ بهم وقال في المنتصرين والذين إذا أصابهم (7/291)
البغي هم ينتصرون أي من المشركين وقال والذين استجابوا لربهم إلى قوله ينفقون وهم الانصار ثم ذكر الصنف الثالث فقال
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون من المشركين
والثاني أنه بغي المسلمين على المسلمين خاصة
والثالث أنه عام في جميع البغاة سواء كانوا مسلمين أو كافرين فصل
واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى أنها منسوخة بآية السيف فكانهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين فلما جاز لنا أن نبدأهم بالقتال دل على أنها منسوخة وللقائلين بأنها في المسليمن قولان
أحدهما أنها منسوخة بقوله ولمن صبر وغفر الشورى 43 فكأنها نبهت على مدح المنتصر ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح فبان وجه النسخ
والثاني أنها محكمة لأن الصبر والغفران فضيلة والانتصار مباح فعلى هذا تكون محكمة وهو الأصح
فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية وظاهرها مدح المنتصر وبين آيات الحث على العفو فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه انتصار المسلمين من الكافرين وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء (7/292)
والثاني أن المنتصر لم يخرج عن فعل أبيح له وإن كان العفو أفضل ومن لم يخرج من الشرع بفعله حسن مدحه قال ابن زيد جعل الله المؤمنين صنفين صنف يعفو فبدأ بذكره وصنف ينتصر
والثالث أنه إذا بغي على المؤمن فاسق فلأن له اجتراء الفساق عليه وليس للمؤمن أن يذل نفسه فينبغي له أن يكسر شوكة العصاة لتكون العزة لأهل الدين قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق فاذا قدروا عفوا وقال القاضي أبو يعلى هذه الآية محمولة على من تعدى وأصر على ذلك وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادما
قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها قال مجاهد والسدي هو جواب القبيح إذا قال له كلمة اجابة بمثلها من غير أن يعتدي وقال مقاتل هذا في القصاص في الجراحات والدماء
فمن عفا فلم يقتص وأصلح العمل فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين يعني من بدأ بالظلم وإنما سمى المجازاة سيئة لما بينا عند قوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه البقرة 194 قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا
ولمن انتصر بعد ظلمه أي بعد ظلم الظالم إياه والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول ونظيره من دعاء الخير فصلت 49 و وبسؤال نعجتك ص 24 فأولئك يعني المنتصرين ما عليهم من سبيل أي من طريق إلى لوم ولا حد إنما السبيل على الذين يظلمون الناس أي يبتدؤون بالظلم ويبغون في الأرض بغير الحق أي يعملون فيها بالمعاصي (7/293)
قوله تعالى ولمن صبر فلم ينتصر وغفر إن ذلك الصبر والتجاوز لمن عزم الأمور وقد شرحناه في آل عمران 186
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل
قوله تعالى ومن يضلل الله فما له من ولي أي من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه
وترى الظالمين يعني المشركين لما رأوا العذاب في الآخرة يسألون الرجعة إلى الدنيا يقولون هل إلى مرد من سبيل
وتراهم يعرضون عليها أي على النار خاشعين أي خاضعين متواضعين من الذل ينظرون من طرف خفي وفيه أربعة أقوال
أحدها من طرف ذليل رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقال الأخفش ينظرون من عين ضعيفة وقال غيره من بمعنى الباء
والثاني يسارقون النظر قاله قتادة والسدي
والثالث ينظرون ببعض العين قاله أبو عبيدة
والرابع أنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم قد حشروا عميا فلم يروها بأعينهم حكاه الفراء والزجاج وما بعد هذا قد سبق بيانه الأنعام 12 هود 39 إلى قوله ينصرونهم من دون الله أي يمنعونهم من عذاب الله (7/294)
إستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فان أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الإنسان كفور لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير
قوله تعالى استجيبوا لربكم أي أجيبوه فقد دعاكم برسوله من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة لا مرد له من الله أي لا يقدر أحد على رده ودفعه مالكم من ملجأ تلجؤون إليه وما لكم من نكير قال مجاهد من ناصر ينصركم وقال غيره من قدرة على تغيير ما نزل بكم
فإن أعرضوا عن الإجابة فما أرسلناك عليهم حفيظا لحفظ أعمالهم إن عليك إلا البلاغ أي ما عليك إلا أن تبلغهم وهذا عند المفسرون منسوخ بآية السيف
قوله تعالى وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها قال المفسرون (7/295)
المراد به الكافر والرحمة الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك والسيئة المرض والفقر والقحط ونحو ذلك والإنسان هاهنا اسم جنس فلذلك قال وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم أي بما سلف من مخالفتهم فان الإنسان كفور بما سلف من النعم
لله ملك السموات والأرض أي له التصرف فيها بما يريد يهب لمن يشاء إناثا يعني البنات ليس فيهن ذكر كما وهب للوط صلى الله عليه و سلم فلم يولد له إلا البنات ويهب لمن يشاء الذكور يعني البنين ليس معهم أنثى كما وهب لإبراهيم عليه الصلاة و السلام فلم يولد له إلى الذكور
أو يزوجهم يعني الإناث والذكور قال الزجاج ومعنى يزوجهم يقرنهم وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان ويقال لكل واحد منهما زوج تقول عندي زوجان من الخفاف يعني اثنين
وفي معنى الكلام للمفسرين قولان أحدهما أنه وضع المرأة غلاما ثم جارية ثم غلاما ثم جارية قاله مجاهد والجمهور والثاني أنه وضع المرأة جارية وغلاما توأمين قاله ابن الحنفية قالوا وذلك كما جمع لمحمد صلى الله عليه و سلم فانه وهب له بنين وبنات ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما السلام وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا (7/296)
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور
قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا قال المفسرون سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلمه موسى ونظر إليه فقال لهم لم ينظر موسى إلى الله ونزلت هذه الآية والمراد بالوحي هاهنا الوحي في المنام
أو من وراء حجاب كما كلم موسى
أو يرسل قرأ نافع وابن عامر يرسل بالرفع فيوحي بسكون الياء وقرأ الباقون يرسل بنصب اللام فيوحي بتحريك الياء والمعنى أو يرسل رسولا كجبرائيل فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه باذنه ما يشاء قال مكي بن أبي طالب من قرأ أو يرسل بالنصب عطفه على معنى قوله إلا وحيا لأنه بمعنى إلا أن يوحي (7/297)
ومن قرأ بالرفع فعلى الابتداء كأنه قال أو هو يرسل قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في دار الدنيا
قوله تعالى وكذلك أي وكما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك وقيل الواو عطف على أول السورة فالمعنى كذلك نوحي إليك وإلى الذين من قبلك
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا قال ابن عباس هو القرآن وقال مقاتل وحيا بأمرنا
قوله تعالى ما كنت تدري ما الكتاب وذلك أنه لم يكن يعرف القرآن قبل الوحي ولا الإيمان فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه بمعنى الدعوة إلى الإيمان قاله أبو العالية
والثاني أن المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهي كلها إيمان وقد سمى الصلاة إيمانا بقوله وما كان الله ليضيع إيمانكم البقرة 143 هذا اختيار ابن قتيبة ومحمد بن إسحاق بن خزيمة
والثالث أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وإذ كان طفلا قبل البلوغ حكاه الواحدي والقول ما اختاره ابن قتيبة وابن خزيمة وقد اشتهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوة يوحد الله ويبغض اللات والعزى ويحج ويعتمر ويتبع شريعة إبراهيم عليه السلام قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على دين قومه فهو قول سوء أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب وقال ابن قتيبة قد جاء في الحديث (7/298)
أنه كان على دين قومه أربعين سنة ومعناه أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل من ذلك حج البيت والختان وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا وأن للزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين ودية النفس مائة من الإبل والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وكان عليه الصلاة و السلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج وكان لا يقرب الأوثان ويعيبها وكان لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه فذلك قوله ما كنت تدري ما الكتاب يعني القرآن ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له البيت مع شركهم
قوله تعالى ولكن جعلناه في هاء الكناية قولان أحدهما أنها ترجع إلى القرآن والثاني إلى الإيمان
نورا أي ضياء ودليلا على التوحيد نهدي به من نشاء من عبادنا إلى دين الحق (7/299)
وإنك لتهدي أي لتدعو إلى صراط مستقيم وهو الإسلام (7/300)
سورة الزخرف أو هي مكية باجماعهم
وقال مقاتل هي مكية إلا آية وهي قوله واسأل من أرسلنا الزخرف 45 بسم الله الرحمن الرحيم
حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (7/301)
قوله تعالى حم قد تقدم بيانه المؤمن
والكتاب المبين قسم بالقرآن
إنا جعلناه قال سعيد بن جبير أنزلناه وما بعد هذا تقدم بيانه النساء 82 يوسف 2 إلى قوله وإنه يعني القرآن في أم الكتاب قال الزجاج أي في أصل الكتاب وأصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله عز و جل في اللوح المحفوظ
قوله تعالى لدينا أي عندنا لعلى أي رفيع وفي معنى الحكيم قولان أحدهما محكم أي ممنوع من الباطل قاله مقاتل والثاني حاكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الكفر بالنار ذكره أبو سليمان الدمشقي والمعنى إن كذبتم به يا أهل مكة فانه عندنا شريف عظيم المحل
قوله تعالى أفنضرب عنكم الذكر صفحا قال ابن قتيبة أي نمسك عنكم فلا نذكركم صفحا أي إعراضا يقال صفحت عن فلان إذا أعرضت عنه والأصل في ذلك أن توليه صفحة عنقلك قال كثير يصف امرأة ... صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت ...
أي معرضة بوجهها يقال ضربت عن فلان كذا إذا أمسكته وأضربت عنه أن كنتم قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر أن كنتم بالنصب أي لأن كنتم قوما مسرفين وقرأ نافع وحمزة (7/302)
والكسائي إن كنتم بكسر الهمزة قال الزجاج وهذا على معنى الاستقبال أي إن تكونوا مسرفين نضرب عنكم الذكر
وفي المراد بالذكر قولان
أحدهما أنه ذكر العذاب فالمعنى أفنمسك عن عذابكم ونترككم على كفركم وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد والسدي
والثاني أنه القرآن فالمعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمنون به وهو معنى قول قتادة وابن زيد
وقال قتادة مسرفين بمعنى مشركين
ثم أعلم نبيه أني قد بعثت رسلا فكذبوا فأهلكت المكذبين بالآيات التي تلي هذه
قوله تعالى أشد منهم أي من قريش بطشا أي قوة ومضى مثل الأولين أي سبق وصف عقابهم فيما أنزل عليك وقيل سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب فستقع المشابهة بينهم في الإهلاك
ثم أخبر عن جهلهم حين أقروا بأنه خالق السموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه ثم التي تليها مفسرة في طه 53 إلى قوله لعلكم تهتدون أي لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون (7/303)
قوله تعالى والذي نزل من السماء ماء بقدر قال ابن عباس يريد انه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر فأغرقهم بل هو بقدر ليكون نافعا ومعنى أنشرنا أحيينا
قوله تعالى كذلك تخرجون قرأ حمزة والكسائي وابن عامر تخرجون بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء وما بعد هذا قد سبق يس 36 42 إلى قوله تعالى لتستووا على ظهوره قال أبو عبيدة هاء التذكير ل ما
ثم تذكروا نعمة ربكم إذ سخر لكم ذلك المركب في البر والبحر وما كنا له مقرنين قال ابن عباس ومجاهد أي مطيقين قال ابن قتيبة يقال أنا مقرن لك أي مطيق لك ويقال هو من قولهم أنا قرن لفلان إذا كنت مثله في الشدة فان قلت أنا قرن لفلان بفتح القاف فمعناه أن تكون مثله بالسن وقال أبو عبيدة مقرنين أي ضابطين يقال فلان مقرن لفلان أي ضابط له
قوله تعالى وإنا إلى ربنا لمنقللبون أي راجعون في الآخرة (7/304)
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين
قوله تعالى وجعلوا له من عباده جزءا أما الجعل هاهنا فمعناه الحكم بالشيء وهم الذين زعموا أن الملائكة بنات الله والمعنى جعلوا له نصيبا من الولد قال الزجاج وأنشدني بعض أهل اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناث ولا أدري البيت قديم أو مصنوع ... إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزي الحرة المذكار أحيانا ...
أي آنثت ولدت أنثى
قوله تعالى إن الإنسان يعني الكافر لكفور أي جحود لنعم الله عز و جل مبين أي ظاهر الكفر
ثم أنكر عليهم فقال أم اتخذ مما يخلق بنات وهذا استفهام توبيخ وإنكار وأصفاكم أي أخلصكم بالبنين
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا أي بما جعل لله شبها وذلك أن ولد كل شيء شبهه وجنسه والآية مفسرة في النحل 58 (7/305)
قوله تعالى أومن ينشأ قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص ينشأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون النون قال المبرد تقديره أو يجعلون من ينشأ في الحلية قال أبو عبيدة الحلية الحلى
قال المفسرون والمراد بذلك البنات فانهن ربين في الحلي والخصام بمعنى المخاصمة غير مبين حجة قال قتادة قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها
وقال بعضهم هي الأصنام
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أن آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين
قوله تعالى وجعلوا الملائكة قال الزجاج الجعل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء نقول قد جعلت زيدا أعلم الناس أي قد وصفته بذلك وحكمت به قال المفسرون وجعلهم الملائكة إناثا قولهم هن بنات الله (7/306)
قوله تعالى الذين هم عباد الرحمن قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب وأبان عن عاصم والشيزري عن الكسائي عند الرحمن بنون من غير ألف وقرأ الباقون عباد الرحمن ومعنى هذه القراءة جعلوا له من عباده بنات والقراءة الأولى موافقة لقوله إن الذين عند ربك الأعراف 206 وإذا كانوا في السماء كان أبعد للعلم بحالهم أشهدوا خلقهم قرأ نافع والمفضل عن عاصم أأشهدوا بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة وروى المسيبي عن نافع أو شهدوا ممدودة من أشهدت والباقون لا يمدون
أشهدوا من شهدت أي أحضروه فعرفوا أنهم إناث وهذا توبيخ لهم إذ قالوا فيما يعلم بالمشاهدة من غير مشاهدة ستكتب شهادتهم على الملائكة أنها بنات الله وقال مقاتل لما قال الله عز و جل أشهدوا خلقهم سئلوا عن ذلك فقالوا لا فقال النبي صلى الله عليه و سلم فما يدريكم أنها إناث فقالوا سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله ستكتب شهادتهم ويسألون عنها في الآخرة وقرأ أبو رزين ومجاهد سنكتب بنون مفتوحة شهادتهم بنصب التاء ووافقهم ابن أبي عبلة في سنكتب وقرأ شهاداتهم بألف
قوله تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم في المكني عنهم قولان أحدهما أنهم الملائكة قاله قتادة ومقاتل في آخرين والثاني الأوثان قاله مجاهد وإنما عنوا بهذا أنه لو لم يرض عبادتنا لها لعجل عقوبتنا فرد عليهم قولهم بقوله ما لهم بذلك من علم وبعض المفسرين يقول إنما أشار بقوله (7/307)
مالهم بذلك من علم إلى ادعائهم أن الملائكة إناث قال ولم يتعرض لقولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم لأنه قول صحيح والذي اعتمدنا عليه أصح لأن هذه الآية كقوله لو شاء الله ما أشركنا الانعام 148 وقوله أنطعم من لو يشاء الله أطعمه يس 470 وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك ويخرصون بمعنى يكذبون وإنما كذبهم لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر دينا
أم آتيناهم كتابا من قبله أي من قبل هذا القرآن أي بأن يعبدوا غير الله فهم به مستمسكون يأخذون بما فيه
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة أي على سنة وملة ودين وإنا على آثارهم مهتدون فجعلوا أنفسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول فقال وكذلك أي وكما قالوا قال مترفو القرى من قبلهم وإنا على آثارهم مقتدون بهم
قل أولو جئتكم وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم قال أولو جئتكم بألف قال أبو علي فاعل قال النذير المعنى فقال لهم النذير وقرأ أبو جعفر أولو جئناكم بألف ونون بأهدى أي بأصوب وأرشد (7/308)
قال الزجاج ومعنى الكلام قل أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئنكم بأهدى منه وفي هذه الآية إبطال القول بالتقليد قال مقاتل فردوا على النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ثم رجع إلى الأمم الخالية فقال فانتقمنا منهم الآية
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون
قوله تعالى إنني براء قال الزجاج البراء بمعنى البرئ والعرب تقول للواحد أنا البراء منك وكذلك للاثنين والجماعة وللذكر والأنثى يقولون نحن البراء منك والخلاء منك لا يقولون نحن البراءان منك ولا البراءون منك وأنما المعنى أنا ذو البراء منك ونحن ذو البراء منك (7/309)
كما يقال رجل عدل وامرأة عدل وقد بينا استثناء إبراهيم ربه عز و جل مما يعبدون عند قوله إلا رب العالمين الشعراء 77
قوله تعالى وجعلها يعني كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله كلمة باقية في عقبه أي فيمن يأتي بعده من ولده فلا يزال فيهم موحد لعلهم يرجعون إلى التوحيد كلهم إذا سمعوا أن أباهم تبرأ من الأصنام ووحد الله عز و جل
ثم ذكر نعمته على قريش فقال بل متعت هؤلاء وآباءهم والمعنى إني أجزلت لهم النعم ولم أعاجلهم بالعقوبة حتى جاءهم الحق وهو القرآن ورسول مبين وهو محمد صلى الله عليه و سلم فكان ينبغي لهم أن يقابلوا النعم بالطاعة للرسول فخالفوا
ولما جاءهم يعني قريشا في قول الأكثرين وقال قتادة هم اليهود و الحق القرآن
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (7/310)
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين
قوله تعالى وقالوا لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أما القريتان فمكة والطائف قاله ابن عباس والجماعة وأما عظيم مكة ففيه قولان
أحدهما الوليد بن المغيرة القرشي رواه العوفي وغيره عن ابن عباس وبه قال قتادة والسدي
والثاني عتبة بن ربيعة قاله مجاهد وفي عظيم الطائف خمسة أقوال
أحدها حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني مسعود بن عمرو بن عبيد الله رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي رواه ليث عن مجاهد وبه قال قتادة
والرابع أنه ابن عبد ياليل رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والخامس كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطائفي قاله السدي (7/311)
فقال الله عز و جل ردا عليهم وإنكارا أهم يقسمون رحمة ربك يعني النبوة فيضعونها حيث شاؤوا لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا نحن قسمنا بينهم معيشتهم المعنى أنه إذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهو دون النبوة فكيف تكون النبوة قال قتادة إنك لتلقى ضعيف الحيلة عيي اللسان قد بسط له الرزق وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه
قوله تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات فيه قولان أحدهما بالغنى والفقر والثاني بالحرية والرق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وقرأ ابن السميفع وابن محيصن سخريا بكسر السين ثم فيه قولان
أحدهما يستخدم الأغنياء بأموالهم فيلتئم قوام العالم وهذا على القول الأول
والثاني ليملك بعضهم بعضا بالأموال فيتخذونهم عبيدا وهذا على الثاني (7/312)
قوله تعالى ورحمة ربك فيها قولان أحدهما النبوة خير من أموالهم التي يجمعونها قاله ابن عباس والثاني الجنة خير مما يجمعون في الدنيا قاله السدي
قوله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة فيه قولان أحدهما لولا أن يجتمعوا على الكفر قاله ابن عباس والثاني على إيثار الدنيا على الدين قاله ابن زيد
قوله تعالى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة لهوان الدنيا عندنا قال الفراء إن شئت جعلت اللام في لبيوتهم مكررة كقوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 وإن شئت جعلتها بمعنى على كأنه قال جعلنا لهم على بيوتهم تقول للرجل جعلت لك لقومك الأعطية أي جعلتها من أجلك لهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سقفا على التوحيد وقرأ الباقون سقفا بضم السين والقاف جميعا
قال الزجاج والسقف واحد يدل على الجمع فالمعنى جعلنا لبيت كل واحد منهم سقفا من فضة ومعارج وهي الدرج والمعنى وجعلنا معارج (7/313)
من فضة وكذلك ولبيوتهم أبوابا أي من فضة وسررا أي من فضة
قوله تعالى عليها يظهرون قال ابن قتيبة أي يعلون يقال ظهرت على البيت إذا علوت سطحه
قوله تعالى وزخرفا وهو الذهب والمعنى ويجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا المعنى لمتاع الحياة الدنيا وما زائدة وقرأ عاصم وحمزة لما بالتشديد فجعلاه بمعنى إلا والمعنى إن ذلك يتمتع به قليلا ثم يزول والآخرة عند ربك للمتقين خاصة لهم
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب (7/314)
مشتركون أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين
قوله تعالى ومن يعش فيه ثلاثة أقوال أحدها يعرض قاله الضحاك عن ابن عباس وبه قال قتادة والفراء والزجاج والثاني يعم روي عن ابن عباس أيضا وبه قال عطاء وابن زيد والثالث أنه البصر الضعيف حكاه الماوردي وقال أبوعبيدة تظلم عينه عنه وقال الفراء من قرأ يعش فمعناه يعرض ومن نصب الشين أراد يعم عنه قال ابن قتيبة لا أرى القول إلا قول أبي عبيدة ولم نر أحدا يجيز عشوت عن الشيء أعرضت عنه إنما يقال تعاشيت عن كذا أي تغافلت عنه كأني لم أره ومثله تعاميت والعرب تقول عشوت إلى النار إذا استدللت إليها ببصر ضعيف قال الحطيئة ... متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد ...
ومنه حديث ابن المسيب أن إحدى عينيه ذهبت وهو يعشو بالأخرى أي يبصر بها بصرا ضعيفا قال المفسرون ومن يعش عن ذكر الرحمن فلم يخف عقابه ولم يلتفت إلى كلامه نقيض له أي نسبب له شيطانا فنجعل ذلك جزاءه فهو له قرين لا يفارقه (7/315)
وإنهم يعني الشياطين ليصدونهم يعني الكافرين أي يمنعونهم عن سبيل الهدى وإنما جمع لأن من في موضع جمع ويحسبون يعني كفار بني آدم أنهم على هدى
حتى إذا جاءنا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم جاءنا واحد يعني الكافر وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم جاءانا بألفين على التثنية يعنون الكافر وشيطانه وجاء في التفسير أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال الكافر للشيطان يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين أي بعدما بين المشرقين وفيهما قولان
أحدهما أنهما مشرق الشمس في أقصر يوم في السنة ومشرقها في أطول يوم قاله ابن السائب ومقاتل
والثاني أنه أراد المشرق والمغرب فغلب ذكر المشرق كما قالوا سنة العمرين يريدون أبا بكر وعمر وأنشدوا من ذلك اخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع ...
يريد الشمس والقمر وأنشدوا ... فبصرةالأزد منا والعراق لنا ... والموصلان ومنا مصر والحرم ...
يريد الجزيرة والموصل وهذا اختيار الفراء والزجاج (7/316)
قوله تعالى فبئس القرين أي أنت أيها الشيطان ويقول الله عز و جل يومئذ للكفار ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم اي أشركتم في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أي لن ينفعكم الشركة في العذاب لأن لكل واحد منه الحظ الأوفر قال المبرد منعوا روح التأسي لان التأسي يسهل المصيبة وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى ... ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ... وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي ...
وقرأ ابن عامر إنكم بكسر الألف
ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشقاوة بقوله أفأنت تسمع الصم الآية
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون
قوله تعالى فإما نذهبن بك قال أبو عبيدة معناها فإن نذهبن وقال الزجاج دخلت ما توكيدا للشرط ودخلت النون الثقيلة في نذهبن توكيدا أيضا والمعنى إنا ننتقم منهم إن توفيت أو نرينك ما وعدناهم ووعدناك فيهم من النصر قال ابن عباس ذلك يوم بدر وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله فاما نذهبن بك منسوخ بآية السيف ولا وجه له (7/317)
قوله تعالى وإنه يعني القرآن لذكر لك أي شرف لك بما أعطاك الله ولقومك في قومه ثلاثة أقوال أحدها العرب قاطبة والثاني قريش والثالث جميع من آمن به وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر من بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل قال لقريش وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية لشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا العرب والقرآن شرف لهم إذ أنزل بلغتهم قال ابن قتيبة إنما وضع الذكر موضع الشرف لأن الشريف يذكر وفي قوله وسوف تسألون قولان أحدهما عن شكر ما أعطيتم من ذلك والثاني عما لزمكم فيه من الحقوق وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون (7/318)
وملائه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين
قوله تعالى واسأل من أراسلنا من قبلك من رسلنا إن قيل كيف يسأل الرسل وقد ماتوا قبله فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه لما أسري به جمع له الأنبياء فصلى بهم ثم قال له جبريل سل من أرسلنا قبلك الآية فقال لا أسأل قد اكتفيت رواه عطاء عن ابن عباس وهذا قول سعيد بن جبير والزهري وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به فلقيهم وأمر أن يسألهم فما شك ولا سأل
والثاني أن المراد اسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إليهم الأنبياء روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في آخرين قال ابن الأنباري والمعنى سل أتباع من أرسلنا قبلك (7/319)
كما تقول السخاء حاتم أي سخاء حاتم والشعر زهير أي شعر زهير وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين وقال الزجاج هذا سؤال تقرير فاذا سأل جميع الأمم لم يأتوا بان في كتبهم أن اعبدوا غيري
والثالث أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه و سلم خطاب أمته فيكون المعنى سلوا قاله الزجاج وما بعد هذا ظاهر إلى قوله إذ هم منها يضحكون استهزاء بها وتكذيبا وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها يعني ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس فكانت كل آية أكبر من التي قبلها وهي العذاب المذكور في قوله وأخذناهم بالعذاب فكانت عذابا لهم ومعجزات لموسى عليه السلام
قوله تعالى وقالوا يا أيها الساحر في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أرادوا يا أيها العالم وكان الساحر فيهم عظيما رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم قالوه على جهة الاستهزاء قاله الحسن
والثالث أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر قاله الزجاج
قوله تعالى إننا لمهتدون أي مؤمنون بك فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف 135
قوله تعالى تجري من تحتي أي من تحت قصوري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي (7/320)
أم أنا خير قال أبو عبيدة أراد بل أنا خير وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا عطف أنا ب أم على أفلا تبصرون فكأنه قال أفلا تبصرون أم أنتم بصراء لانهم إذا قالوا أنت خير منه فقد صاروا عنده بصراء قال الزجاج والمهين القليل يقال شيء مهين أي قليل وقال مقاتل مهين بمعنى ذليل ضعيف
قوله تعالى ولا يكاد يبين أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه فكأنه عيره بشيء قد كان وزال ويدل على زواله قوله تعالى قد أوتيت سؤلك يا موسى طه 36 وكان في سؤاله واحلل عقدة من لساني طه 27 وقال بعض العلماء ولا يكاد يبين الحجة ولا يأتي ببيان يفهم
فلولا أي فهلا ألقي عليه أساورة من ذهب وقرأ حفص عن (7/321)
عاصم أسورة بغير ألف قال الفراء واحد الأساورة إسوار وقد تكون الأساورة جمع أسورة كما يقال في جمع الأسقية الأساقي وفي جمع الأكرع الاكارع وقال الزجاج يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع تقول أسورة وأساورة كما تقول أقوال وأقاويل ويجوز أن تكون جمع إسوار وإنما صرفت أساورة لأنك ضممت الهاء إلى أساور فصار اسما واحدا وصار له مثال في الواحد نحو علانية
قال المفسرون إنما قال فرعون هذا لأنهم كانوا إذا سودوا الرجل منهم سوروه بسوار
أو حاء معه الملائكة مقترنين فيه قولان أحدهما متتابعين قاله قتادة والثاني يمشون معه قاله الزجاج
قوله تعالى فاستخف قومه قال الفراء استفزهم وقال غيره استخف أحلامهم وحملهم على خفة الحلم بكيده وغروره فأعطوه في تكذيب موسى
فلما آسفونا قال ابن عباس أغضبونا قال ابن قتيبة الأسف الغضب يقال آسفت آسف أسفا أي غضبت
فجعلناهم سلفا أي قوما تقدموا وقرأها أبو هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد وحميد الأعرج سلفا بضم السين وفتح اللام كأن واحدته سلفة من الناس مثل القطعة يقال تقدمت سلفة من الناس أي قطعة منهم وقرأ حمزة والكسائي سلفا بضم السين واللام وهو (7/322)
جمع سلف كما قالوا خشب وخشب وثمر وثمر ويقال هو جمع سليف وكله من التقدم وقال الزجاج السليف جمع قد مضى والمعنى جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون
قوله تعالى ومثلا أي عبرة وعظة
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكمن ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون
قوله تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله الآية الأنبياء 98 وقد شرحنا القصة في سورة الأنبياء 101 والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم (7/323)
وشبههوه بها لأن تلك الآية إنما تضمنت ذكر الأصنام لأنها عبدت من دون الله فألزموه عيسى وضربوه مثلا لأصنامهم لأنه معبود النصارى والمراد بقومه المشركون
فأما يصدون فقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بضم الصاد وكسرها الباقون قال الزجاج ومعناهما جميعا يضجون ويجوز أن يكون معنى المضمومة يعرضون وقال أبو عبيدة من كسر الصاد فمجازها يضجون ومن ضمها فمجازها يعدلون
قوله تعالى وقالوا أآلهتنا خير أم هو المعنى ليست خيرا منه قال كان في النار لأنه عبد من دون الله فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته
ما ضربوه لك إلا جدلا أ ما ذكروا عيسى إلا ليجادلوك به لأنهم قد علموا أن المراد ب حصب جهنم ما اتخذوه من الموات بل هم قوم خصمون أي أصحاب خصومات
قوله تعالى وجعلناه مثلا أي آية وعبرة لبني إسرائيل يعرفون به قدرة الله على ما يريد إذ خلقه من غير أب (7/324)
ثم خاطب كفار مكة فقال ولو نشاء لجعلنا منكم فيه قولان
أحدهما أن المعنى لجعلنا بدلا منكم ملائكة ثم في معنى يخلفون ثلاثة أقوال أحدها يخلف بعضهم بعضا قاله ابن عباس والثاني يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم قاله مجاهد والثالث يخلفون الرسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم حكاه الماوردي
والقول الثاني أن المعنى ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة أي قلبنا الخلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم ذكره الماوردي
قوله تعالى وإنه لعلم للساعة في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى عيسى عليه السلام ثم في معنى الكلام قولان أحدهما نزول عيسى من اشراط الساعة يعلم به قربها وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثاني أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى قاله ابن إسحاق
والقول الثاني أنها ترجع إلى القرآن قاله الحسن وسعيد بن جبير وقرأ الجمهور لعلم بكسر العين وتسكين اللام وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما
قال ابن قتيبة من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة ومن فتح العين واللام فانه بمعنى العلامة والدليل (7/325)
قوله تعالى فلا تمترن بها أي فلا تشكن فيها واتبعون على التوحيد هذا الذي أنا عليه صراط مستقيم
ولما جاء عيسى بالبينات قد شرحنا هذا في البقرة 87
قال قد جئتكم بالحكمة وفيها قولان أحدهما النبوة قاله عطاء والسدي والثاني الإنجيل قاله مقاتل
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه أي من أمر دينكم وقال مجاهد بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة وقال ابن جرير من أحكام التوراة وقد ذهب قوم إلى أن البعض هاهنا بمعنى الكل وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن 28 قال الزجاج والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل وإنما بين لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه مما احتاجوا إليه وقد قال ابن جرير كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم فبين لهم أمر دينهم فقط وما بعد هذا قد سبق بيانه النساء 175 مريم 37 إلى قوله هل ينظروه يعني كفار مكة (7/326)
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهية الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كمتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون
قوله تعالى الأخلاء أي في الدنيا يومئذ أي في القيامة بعضهم لبعض عدو لأن الخلة إذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوة يوم القيامة وقال مقاتل نزلت في امية بن خلف وعقبة بن أبي معيط إلا المتقين يعني الموحدين فاذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عابد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس الكفار رؤوسهم (7/327)
قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يا عبادي باثبات الياء في الحالين وإسكانها وحذفها في الحالين ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم وخلف
وفي أزواجهم قولان أحدهما زوجاتهم والثاني قرناؤهم
وقد سبق معنى تحبرون الروم 15
قوله تعالى يطاف عليهم بصحاف قال الزجاج واحدها صحفة وهي القصعة والأكواب واحدها كوب وهو إناء مستدير لا عروة له قال الفراء الكوب الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له وقال عدي ... متكئا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب ...
وقال ابن قتيبة الأكواب الأباريق التي لا عرى لها وقال شيخنا أبو منصور اللغوي وإنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين شاء لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات
قوله تعالى وفيها ما تشتهي الأنفس وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم تشتهية بزيادة ها وحذف الهاء كاثباتها في المعنى
قوله تعالى وتلذ الأعين يقال لذذت الشيء واستلذذته والمعنى ما من شيء اشتهته نفس أو استلذته عين إلا وهو في الجنة وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين فانه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس أو العين وتمام النعيم الخلود لأنه لو انقطع لم تطب (7/328)
وتلك الجنة يعني التي ذكرها في قوله ادخلوا الجنة التي أورثتموها قد شرحنا هذا في الأعراف 43 عند قوله أورثتموها
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدين لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ما كثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ام أبرموا أمرا فانا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون
قوله تعالى إن المجرمين يعني الكافرين لا يفتر أي لا يخفف عنهم وهم فيه يعني في العذاب مبلسون قال ابن قتيبة آيسون من رحمة الله وقد شرحنا هذا في الأنعام 44 وما ظلمناهم أي ما عذبناهم على غير ذنب ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بما جنوا عليها قال الزجاج والبصريون يقولون هم هاهنا فصل كذلك يسمونها ويسميها الكوفيون العماد
قوله تعالى ونادوا يا مالك وقرأ علي بن أبي طالب رضى الله عنه وابن مسعود وابن يعمر يا مال بغير كاف مع كسر اللام قال الزجاج وهذا يسميه النحويون الترخيم ولكني أكرهها لمخالفة المصحف
قال المفسرون يدعون مالكا خازن النار فيقولون ليقض علينا ربك (7/329)
أي ليمتنا والمعنى أهم توسلوا به ليسأل اله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب فيسكت عن جوابهم مدة فيها أربعة أقوال أحدها أربعون عاما قاله عبد الله بن عمرو ومقاتل والثاني ثلاثون سنة قاله أنس والثالث ألف سنة قاهل ابن عباس والرابع مائة سنة قاله كعب
وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان أحدهما أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم قاله مقاتل والثاني لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل
قال الماوردي فرد عليهم مالك فقال إنكم ماكثون أي مقيمون في العذاب لقد جئناكم بالحق أي أرسلنا رسلنا بالتوحيد ولكن أكثركم قال ابن عباس يريد كلكم كارهون لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى أم ابرموا أمرا في أم قولان أحدهما أنها للاستفهام والثاني بمعنى بل والإبرام الإحكام وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال
أحدها المكر برسول الله صلى الله عليه و سلم ليقتلوه أو يخرجوه حين اجتمعوا في دار الندوة وقد سبق بيان القصة الأنفال 30 قاله الأكثرون
والثاني أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم قاله قتادة
والثالث أنه إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب قاله الفراء (7/330)
فانا مبرمون أي محكمون أمرا في مجازاتهم
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم وهو ما يسرونه من غيرهم ونجواهم ما يتناجون به بينهم بلى والمعنى إنا نسمع ذلك ورسلنا يعني من الحفظة لديهم يكتبون
قل إن كان للرحمن ولد في إن قولان أحدهما أنها بمعنى الشرط والمعنى إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فعلى هذا في قوله فأنا أول العابدين أربعة أقوال أحدها فأنا أول الجاحدين رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن أعرابيين اختصما إليه فقال أحدهما إن هذا كانت لي في يده أرض فعبدنيها فقال ابن عباس الله أكبر فأنا أول العبادين الجاحدين أن لله ولدا
والثاني فأنا أول من عبد الله مخالفا لقولكم هذا قول مجاهد وقال الزجاج معناه إن كنتم تزعمون للرحمن ولدا فأنا أول الموحدين
والثالث فأنا أول الآنفين لله مما قلتم قاله ابن السائب وأبو عبيدة قال ابن قتيبة يقال عبدت من كذا أعبد عبدا فأما عبد وعابد قال الفرزدق (7/331)
أولئك قوم إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن تهجى تميم بدارم ... أي آنف وأنشد ابو عبيدة ... وأعبد أن أسبهم بقومي ... وأوثر دارما وبني رزاح ...
والرابع أن معنى الآية كما أني لست أول عابد لله فكذلك ليس له ولد وهذا كما تقول إن كنت كاتبا فأنا حاسب أي لست كاتبا ولا أنا حاسب حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة
والقول الثاني أن إن بمعنى ما قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد فيكون المعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له وقال أبو عبيدة الفاء على هذا القول بمعنى الواو
قوله تعالى فذرهم يعني كفار مكة يخضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن محيصن وأبو جعفر حتى يلقوا بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف والمراد يلاقوا يوم القيامة وهذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السيف
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون (7/332)
من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولئن سالتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون
قوله تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله قال مجاهد وقتادة يعبد في السماء ويعبد في الأرض وقال الزجاج هو الموحد في السماء وفي الأرض وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وابن السميفع وابن يعمر والجحدري في السماء الله وفي الأرض الله بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما وما بعد هذا سبق بيانه الأعراف 54 لقمان 34 إلى قوله ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد فنزلت هذه الآية قاله مقاتل (7/333)
وفي معنى الآية قولان
أحدهما أنه أراد بالذين يدعون من دونه آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزير والملائكة فقال إلا من شهد بالحق وهو أن يهشد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وهذا مذهب الأكثرين منهم قتادة
والثاني أن المراد بالذين يدعون عيسى وعزير والملائكة الذين عبدهم المشركون بالله لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد إلا من شهد أي إلا لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهم يعلمون أن الله عز و جل خلق عيسى وعزير والملائكة وهذا مذهب قوم منهم مجاهد وفي الآية دليل على ان شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به
قوله تعالى وقيله يارب قال قتادة هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه وقال ابن عباس شكا إلى الله تخلف قومه عن الإيمان قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وقيله بنصب اللام وفيها ثلاثة أوجه أحدها أنه أضمر معها قولا كأنه قال وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه
والثاني أنه عطف على قوله أم يحسبون أنا لانسمع سرهم ونجواهم وقيله فالمعنى ونسمع قيله ذكر القولين الفراء والأخفش
والثالث أنه منصوب على معنى وعنده علم الساعة ويعلم قيله لأن معنى وعنده علم الساعة يعلم الساعة ويعلم قيله هذا اختيار الزجاج وقرأ عاصم وحمزة وقيله بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إلى الياء والمعنى وعنده علم الساعة وعلم قيله وقرأ أبو هريرة وأبو رزين (7/334)
وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام والمعنى ونداؤه هذه الكلمة يارب ذكر علة الخفض والرفع الفراء والزجاج
قوله تعالى فاصفح عنهم أي فأعرض عنهم وقل سلام فيه ثلاثة أقوال
أحدها قل خيرا بدلا من شرهم قاله السدي
والثاني اردد عليهم معروفا قاله مقاتل
والثالث قل ما تسلم به من شرهم حكاه الماوردي
فسوف يعلمون فيه ثلاثة أقوال أحدها يعلمون عاقبة كفرهم والثاني أنك صادق والثالث حلول العذاب بهم وهذا تهديد لهم فسوف يعلمون وقرأ نافع وابن عامر تعلمون بالتاء ومن قرأ بالياء فعلى الأمر للنبي صلى الله عليه و سلم بأن يخاطبهم بهذا قاله مقاتل فنسخت آية السيف الإعراض والسلام (7/335)
سورة الدخان وهي مكية كلها باجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين بل هم في شك يلعبون
قوله عز و جل حم والكتاب المبين قد تقدم بيانه المؤمن والزخرف وجواب القسم إنا أنزلناه والهاء كناية عن الكتاب وهو القرآن في ليلة مباركة وفيها قولان
أحدهما أنها ليلة القدر وهو قول الأكثرين وروى عكرمة عن ابن عباس قال أنزل القرآن من عند الرحمن ليلة القدر جملة واحدة (7/336)
فوضع في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما وقال مقاتل نزل القرآن كله في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا
والثاني أنها ليلة النصف من شعبان قاله عكرمة
قوله تعالى إنا كنا منذرين أي مخوفين عقابنا
فيها أي في تلك الليلة يفرق كل أي يفصل وقرأ أبو المتوكل وأبو نهيك ومعاذ القارئ يفرق بفتح الياء وكسر الراء (7/337)
كل بنصب اللام أمر حكيم أي محكم قال ابن عباس يكتب من ام الكتاب في ليلة القدر ماهو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحاج وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى وعلى ماروي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها فروي عن عكرمة أنه قال في ليلة القدر وعلى هذا المفسرون
قوله تعالى أمرا من عندنا قال الأخفش امرا ورحمة منصوبان على الحال المعنى إنا انزلناه آمرين أمرا وراحمين رحمة قال الزجاج ويجوز أن يكون منصوبا ب يفرق بمنزلة يفرق فرقا لأن أمرا بمعنى فرقا قال الفراء ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها فتكون الرحمة هي النبي صلى الله عليه و سلم وقال مقاتل مرسلين بمعنى منزلين هذا القرآن أنزلناه رحمة لمن آمن به وقال غيره أمرا من عندنا أي إنا نأمر بنسخ ما ينسخ من اللوح إنا كنا مرسلين الأنبياء رحمة منا بخلقنا رب السموات قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر رب بالرفع وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم رب بكسر الباء وما بعد هذا ظاهر إلى قوله بل هم يعني الكفار في شك مما جئناهم به يلعبون يهزؤون به (7/338)
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون
فارتقب أي فانتظر يوم تأتي السماء بدخان مبين اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال
أحدها أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة فروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام وروى عبد الله بن أبي مليكة قال غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت لم قال طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يطرق الدخان وهذا المعنى مروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة والحسن (7/339)
والثاني أن قريشا أصابهم جوع فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مسروق قال كنا عند عبد الله فدخل علينا رجل فقال جئتك من المسجد وتركت رجلا يقول في هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه و سلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (7/340)
فقال الله تعالى إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر فأخذوا يوم بدر فذلك قوله يوم نبطش البطشة الكبرى وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل
والثالث أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء بالغبرة حكاه الماوردي
قوله تعالى هذا عذاب أي يقولون هذا عذاب
ربنا اكشف عنا العذاب فيه قولان أحدهما الجوع والثاني الدخان إنا مؤمنون بمحمد صلى الله عليه و سلم والقرآن
أنى لهم الذكرى أي من أين لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول هذا البلاء و حالهم أنه قد جاءهم رسول مبين أي ظاهر الصدق
ثم تولوا عنه أي أعرضوا ولم يقبلوا قوله وقالوا معلم مجنون أي هو معلم يعلمه بشر مجنون بادعائه النبوة قال الله تعالى إنا كاشفوا العذاب قليلا أي زمانا يسيرا وفي العذاب قولان
أحدهما الضر الذي نزل بهم كشف بالخصب هذا على قول ابن مسعود قال مقاتل كشفه إلى يوم بدر
والثاني أنه الدخان قاله قتادة
قوله تعالى إنكم عائدون فيه قولان أحدهما إلى الشرك قاله ابن مسعود والثاني إلى عذاب الله قاله قتادة (7/341)
قوله تعالى يوم نبطش البطشة الكبرى وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو عمران يوم تبطش بتاء مرفوعة وفتح الطاء البطشة بالرفع قال الزجاج المعنى واذكر يوم نبطش ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله منتقمون لأن ما بعد إنا لا يجوز أن يعمل فيما قبلها
وفي هذا اليوم قولان
أحدهما يوم بدر قاله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضحاك
والثاني يوم القيامة قاله ابن عباس والحسن والبطش الأخذ بقوة
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فاسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين
قوله تعالى ولقد فتنا أي ابتلينا قبلهم أي قبل قومك قوم فرعون بارسال موسى إليهم وجاءهم رسول كريم وهو موسى بن عمران
وفي معنى كريم ثلاثة أقوال أحدها حسن الخلق قاله مقاتل (7/342)
والثاني كريم على ربه قاله الفراء والثالث شريف وسيط النسب قاله أبو سليمان
قوله تعالى أن أدوا أي بان أدوا إلى عباد الله وفيه قولان
أحدهما أدوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتباعي روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس فعلى هذا ينتصب عباد الله بالنداء قال الزجاج ويكون المعنى أن أدوا إلي ما آمركم به يا عباد الله
والثاني أرسلوا معي بني إسرائيل قاله مجاهد وقتادة والمعنى أطلقوهم من تسخيركم وسلموهم إلي
وأن لا تعلوا على الله فيه ثلاثة أقوال أحدها لا تفتروا عليه قاله ابن عباس والثاني لا تعتوا عليه قاله قتادة والثالث لا تعظموا عليه قاله ابن جريج إني آتيكم بسلطان مبين أي بحجة تدل على صدقي
فلما قال هذا تواعدوه بالقتل فقال وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وفيه قولان
أحدهما أنه رجم القول قاله ابن عباس فيكون المعنى أن يقولوا شاعر أو مجنون
والثاني القتل قاله السدي وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون أي فاتركوني لا معي ولا علي فكفروا ولم يؤمنوا فدعا ربه أن هؤلاء قال الزجاج من فتح أن فالمعنى بأن هؤلاء ومن كسر فالمعنى قال إن هؤلاء وإن بعد القول مكسورة وقال المفسرون المجرمون هاهنا المشركون (7/343)
فأجاب الله دعاءه وقال فأسر بعبادي ليلا يعني بالمؤمنين إنكم متبعون يتبعكم فرعون وقومه فأعلمهم أنهم يتبعونهم وأنه سيكون سببا لغرقهم
واترك البحر رهوا أي ساكنا على حاله بعد أن انفرق لك ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخله فرعون وجنوده والرهو مشي في سكون
قال قتادة لما قطع موسى عليه السلام البحر عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده فقيل له واترك البحر رهوا أي كما هو طريقا يابسا
قوله تعالى إنهم جند مغرقون أخبره الله عز و جل بغرقهم ليطمئن قلبه في ترك البحر على حاله
كم تركوا أي بعد غرقهم من جنات وقد فسرنا الآية في الشعراء 57 فأما النعمة فهو العيش اللين الرغد وما بعد هذا قد سبق بيانه يس 55 إلى قوله وأورثناها قوما آخرين يعني بني إسرائيل
فما بكت عليهم السماء أي على آل فرعون وفي معناه ثلاثة أقوال
أحدها أنه على الحقيقة روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من مسلم إلا وله في السماء بابان باب يصعد فيه عمله وباب ينزل منه (7/344)
رزقه فاذا مات بكيا عليه وتلا صلى الله عيه وسلم هذه الآية وقال علي رضي الله عنه إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلى ولا في السماء مصعد عمل فقال الله تعالى فما بكت عليهم السماء والأرض وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضحاك ومقاتل وقال ابن عباس الحمرة التي في السماء بكاؤها وقال مجاهد ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا فقيل له أو تبكي قال وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل
والثاني أن المراد أهل السماء وأهل الأرض قاله الحسن ونظير هذا قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها محمد 4 أي أهل الحرب
والثالث أن العرب تقول إذا أرادت تعظيم مهلك عظيم أظلمت الشمس له وكسف القمر لفقده وبكته الريح والبرق والسماء والأرض يريدون المبالغة في وصف المصيبة وليس ذلك بكذب منهم لأنهم جميعا (7/345)
متواطئون عليه والسامع له يعرف مذهب القائل فيه ونيتهم في قولهم أظلمت الشمس كادت تظلم وكسف القمر كاد يكسف ومعنى كاد هم أن يفعل ولم يفعل قال ابن مفرغ يرثي رجلا ... الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه ...
وقال الآخر ... الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا ...
أراد الشمس طالعة تبكي عليه وليست مع طلوعها كاسفة النجوم والقمر لأنها مظلمة وإنما تكسف بضوئها فنجوم الليل بادية بالنهار فيكون معنى الكلام إن الله لما أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باك ولم يجزع جازع ولم يوجد لهم فقد هذا كله كلام ابن قتيبة
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أهم خير أم قوم تبع والذين (7/346)
من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم
قوله تعالى من العذاب المهين يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون إنه كان عاليا أي جبارا
ولقد اخترناهم يعني بني إسرائيل على علم علمه الله فيهم على عالمي زمانهم وآتيناهم من الآيات كانفراق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك ما فيه بلاء مبين أي نعمة ظاهرة
ثم رجع إلى ذكر كفار مكة فقال إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى يعنون التي تكون في الدنيا وما نحن بمنشرين أي بمبعوثين فائتوا بآبائنا أي ابعثوهم لنا إن كنتم صادقين في البعث وهذا جهل منهم من وجهين
أحدهما أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة فليس لهم أن يتنطعوا
والثاني أن الإعادة للجزاء وذلك في الآخرة لا في الدنيا ثم خوفهم عذاب الأمم قبلهم فقال أهم خير أي أشد وأقوى أم قوم تبع أي ليسوا خيرا منهم روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ما أدري تبعا نبي أو غير نبي وقالت (7/347)
عائشة لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه وقال وهب أسلم تبع ولم يسلم قومه فلذلك ذكر قومه ولم يذكر وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه
فأما تسميته ب تبع فقال أبو عبيدة كل ملك من ملوك اليمن كان يسمى تبعا لأنه يتبع صاحبه فموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وقال مقاتل إنما سمي تبعا لكثرة أتباعه واسمه ملكيكرب وإنما ذكر قوم تبع لأنهم كانوا أقرب في الهلاك إلى كفار مكة من غيرهم وما بعد هذا قد تقدم الأنبياء 16 الحجر 85 إلى قوله تعالى إن يوم الفصل وهو يوم يفصل الله عز و جل بين العباد ميقاتهم أي ميعادهم أجمعين يأتيه الأولون والآخرون
يوم لايغني مولى عن مولى شيئا فيه قولان
أحدهما لا ينفع قريب قريبا قاله مقاتل وقال ابن قتبة لا يغني ولي عن وليه بالقرابة أو غيرها (7/348)
والثاني لا ينفع ابن عم ابن عمه قاله أبو عبيدة
ولا هم ينصرون أي لا يمنعون من عذاب الله إلا من رحم الله وهم المؤمنون فانه يشفع بعضهم في بعض
إن شجرت الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتفكرون فارتقب إنهم مرتقبون
إن شجرة الزقوم قد ذكرناها في الصافات 62 والأثيم الفاجر وقال مقاتل هو أبو جهل وقد ذكرنا معنى المهل في الكهف 29
قوله تعالى يغلي في البطون قرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم يغلي بالياء والباقون بالتاء فمن قرأ تغلي بالتاء فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء حمله على الطعام قال أبو علي الفارسي ولا يجوز ان يحمل الغلي على المهل لأن المهل ذكر للتشبيه في الذوب وإنما يغلي ما شبه به كغلي الحميم وهو الماء الحار إذا اشتد غليانه (7/349)
قوله تعالى خذوه أي يقال للزبانية خذوه فاعتلوه وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب بضم التاء وكسرها الباقون قال ابن قتيبة ومعناه قودوه بالعنف يقال جيء بفلان يعتل إلى السلطان وسواء الجحيم وسط النار قال مقاتل الآيات في أبي جهل يضربه الملك من خزان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقب عن دماغه فيجري دماغه على جسده ثم يصب الملك في النقب ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه ثم يقول له الملك ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم هذا توبيخ له بذلك وكان أبو جهل يقول أنا أعز قريش وأكرمها وقرأ الكسائي ذق أنك بفتح الهمزة والباقون بكسرها قال أبو علي من كسرها فالمعنى أنت العزيز في زعمك ومن فتح فالمعنى بأنك
فان قيل كيف سمي بالعزيز وليس به
فالجواب من ثلاثة أوجه
أحدها أنه قيل ذلك استهزاء به قاله سعيد بن جبير ومقاتل
والثاني أنت العزيز الكريم عند نفسك قاله قتادة
والثالث أنت العزيز في قومك الكريم على أهلك حكاه الماوردي
ويقول الخزان لأهل النار إن هذا ما كنتم به تمترون أي تشكون في كونه
ثم ذكر مستقر المتقين فقال إن المتقين في مقام أمين قرأ نافع وابن عامر في مقام بضم الميم والباقون بفتحها قال الفراء المقام بفتح الميم المكان وبضمها الإقامة
قوله تعالى أمين أي أمنوا فيه الغير والحوادث وقد ذكرنا (7/350)
الجنات في البقرة 25 وذكرنا معنى العيون ومعنى متقابلين في الحجر 45 47 وذكرنا السندس والإستبرق في الكهف 31
قوله تعالى كذلك أي الأمر كما وصفنا وزوجناهم بحور عين قال المفسرون المعنى قرناهم بهن وليس من عقد التزويج قال أبو عبيدة المعنى جعلنا ذكور أهل الجنة أزواجا بحور عين من النساء تقول للرجل زوج هذه النعل الفرد بالنعل الفرد أي اجعلهما زوجا والمعنى جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس العرب لا تقول تزوج بها إنما يقولون تزوجها ومعنى وزوجناهم بحور عين قرناهم وقال ابن قتيبة يقال زوجته امرأة وزوجته بامرأة وقال أبوعلي الفارسي والتنزيل على ما قال يونس وهو قوله تعالى زوجناكها الأحزاب 37 وما قال زوجناك بها
فأما الحور فقال مجاهد الحور النساء النقيات البياض وقال الفراء الحوراء البيضاء من الإبل قال وفي الحور العين لغتان حور عين وحير عين وأنشد ... أزمان عيناء سرور المسير ... وحوراء عيناء من العين الحير ...
وقال أبو عبيدة الحوراء الشديدة بياض بياض العين الشديدة سواد سوادها وقد بينا معنى العين في الصافات 48
قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فيه قولان أحدهما آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة والثاني آمنين من التخم والأسقام والآفات
قوله تعالى إلا الموتة الأولى فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها بمعنى سوى فتقدير الكلام لا يذوقون في الجنة الموت (7/351)
سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ومثله ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف النساء 22 وقوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك هود 107 أي سوى ما شاء لهم ربك من الزيادة على مقدار الدنيا هذا قول الفراء والزجاج
والثاني أن السعداء حين يموتون يصيرون إلى الروح والريحان وأسباب من الجنة يرون منازلهم منها وإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لا تصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها قاله ابن قتيبة
والثالث أن إلا بمعنى بعد كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله إلا ما قد سلف النساء 22 وهذا قول ابن جرير
قوله تعالى فضلا من ربك أي فعل الله ذلك بهم فضلا منه
فانما يسرناه أي سهلناه والكناية عن القرآن بلسانك أي بلغة العرب لعلهم يتذكرون أي لكي يتعظوا فيؤمنوا فارتقب (7/352)
أي انتظر بهم العذاب إنهم مرتقبون هلاكك وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف وليس بصحيح (7/353)
سورة الجاثية وتسمى سورة الشريعة
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور وقال مقاتل هي مكية كلها وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا هي مكية إلا آية وهي قوله قل للذين أمنوا يغفروا الجاثية 14
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها (7/354)
فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
قوله تعالى حم تنزيل الكتاب قد شرحناه في أول المؤمن
قوله تعالى وفي خلقكم أي من تراب ثم من نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان وما يبث من دابة أي وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخلق والصور آيات تدل على وحدانيته قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر آيات رفعا وتصريف الرياح آيات رفعا أيضا وقرأ حمزة والكسائي بالكسر فيهما والرزق هاهنا بمعنى المطر
قوله تعالى تلك آيات الله أي هذه حجج الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله أي بعد حديثه وآياته يؤمن هؤلاء المشركون
قوله تعالى ويل لكل أفاك أثيم روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث وقد بينا معناها في الشعراء 222 والآية التي تليها مفسرة في لقمان 7 (7/355)
قوله تعالى وإذا علم من آياتنا شيئا قال مقاتل معناه إذا سمع وقرأ ابن مسعود وإذا علم برفع العين وكسر اللام وتشديدها
قوله تعالى اتخذها هزوا أي سخر منها وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 43 44 فدعا بتمر وزبد وقال تزقموا فما يعدكم محمد إلا هذا وإنما قال أولئك لأنه رد الكلام إلى معنى كل
من ورائهم جهنم قد فسرناه في إبراهيم 16 ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا من الأموال ولا ما عبدوا من الآلهة
قوله تعالى هذا هدى يعني القرآن والذين كفروا به لهم عذاب من رجز أليم قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم أليم بالرفع على نعت العذاب وقرأ الباقون بالكسر على نعت الرجز والرجز بمعنى العذاب وقد شرحناه في الأعراف 134
قوله تعالى جميعا منه اي ذلك التسخير منه لا من غيره فهو من فضله وقرأ عبد الله بن عمرو وابن عباس وأبو مجلز وابن السميفع وابن محيصن والجحدري جميعا منه بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منونة وقرأ سعيد بن جبير منه بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ولقد آتينا (7/356)
بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذي اجترحوا السيآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون
قوله تعالى قل للذين آمنوا يغفروا الآية في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع فأرسل عبد الله بن أبي غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك قال غلام عمر ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه و سلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس (7/357)
والثاني أنها لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا البقرة 245 قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص احتاج رب محمد فلما سمع بذلك عمر اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلب عمر فلما جاء قال يا عمر ضع سيفك وتلا عليه الآية رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس
والثالث أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية قاله القرظي والسدي
والرابع أن رجلا من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب فهم عمر أن يبطش به فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
ومعنى الآية قل للذين آمنوا اغفروا ولكن شبه بالشرط والجزاء كقوله قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة إبراهيم 31 وقد مضى بيان هذا
وقوله للذين لا يرجون أي لا يخافون وقائع الله في الأمم الخالية لأنهم لا يؤمنون به فلا يخافون عقابه وقيل لا يدرون أنعم الله عليهم أم لا وقد سبق بيان معنى أيام الله في سورة إبراهيم 5 (7/358)
فصل
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة لأنها تضمنت الأمر بالإعراض عن المشركين واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال
أحدها أنه قوله فاقتلوا المشركين التوبة 5 رواه معمر عن قتادة
والثاني أنه قوله في الأنفال 57 فأما تثقفنهم في الحرب وقوله في براءة 36 وقاتلوا المشركين كافة رواه سعيد عن قتادة
والثالث أنه قوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الحج 39 قاله أبو صالح
قوله تعالى ليجزي قوما وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي لنجزي بالنون قوما يعني الكفار فكأنه قال لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن
وما بعد هذا قد سبق الإسراء 7 إلى قوله ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب يعني التوراة والحكم وهو الفهم في الكتاب ورزقناهم من الطيبات يعني المن والسلوى وفضلناهم على العالمين أي عالمي زمانهم
وآتيناهم بينات من الأمر فيه قولان
أحدهما بيان الحلال والحرام قاله السدي
والثاني العلم بمبعث النبي صلى الله عليه و سلم وشواهد نبوته ذكره الماوردي
وما بعد هذا قد تقدم بيانه آل عمران 19 إلى قوله (7/359)
ثم جعلناك على شريعة من الأمر سبب نزولها أن رؤساء قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ملة آبائه فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس
فأما قوله على شريعة فقال ابن قتيبة أي على ملة ومذهب ومنه يقال شرع فلان في كذا إذا أخذ فيه ومنه مشارع الماء وهي الفرض التي شرع فيها الوارد
قال المفسرين ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر أي من الدين فاتبعها و الذين لا يعلمون كفار قريش
إنهم لن يغنوا عنك أي لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتبعتهم وإن الظالمين يعني المشركين والله ولي المتقين الشرك والآية التي بعدها مفسرة في آخر الأعراف 203 (7/360)
أم حسب الذين اجترحوا السيئات سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثلما تعطون من الأجر قاله مقاتل والاستفهام هاهنا استفهام إنكار واجترحوا بمعنى اكتسبوا
سواء محياهم ومماتهم قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وزيد عن يعقوب سواء نصبا وقرا الباقون بالرفع فمن رفع فعلى الابتداء ومن نصب جعله مفعولا ثانيا على تقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء والمعنى إن هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون مؤمنين وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين وشتان ماهم في الحال والمآل ساء ما يحكمون أي بئس ما يقضون
ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق أي للحق والجزاء بالعدل لئلا يظن الكافر أنه لا يجزي بكفره (7/361)
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن اكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السموات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين واما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين
قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قد شرحناه في الفرقان 43 وقال مقاتل نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي
قوله تعالى وأضله الله على علم أي على علمه السابق فيه أنه (7/362)
لا يهتدي وختم على سمعه أي طبع عليه فلم يسمع الهدى و على قلبه فلم يعقل الهدى وقد ذكرنا الغشاوة والختم في البقرة7
فمن يهديه من بعد الله أي من بعد إضلاله إياه أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء وما بعد هذا مفسر في سورة المؤمنون 37 إلى قوله وما يهلكنا إلا الدهر أي اختلاف الليل والنهار وما لهم بذلك من علم أي ما قالوه عن علم إنما قالوه شاكين فيه ومن أجل هذا قال نبينا عليه الصلاة و السلام لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أي هو الذي يهلككم لا ماتتوهمونه من مرور الزمان وما بعد هذا ظاهر وقد تقدم بيانه البقرة 28 الشورى 7 إلى قوله يخسر المبطلون يعني المكذبين الكافرين أصحاب الأباطيل (7/363)
والمعنى يظهر خسرانهم يومئذ وترى كل أمة قال الفراء ترى أهل كل دين جاثية قال الزجاج أي جالسة على الركب يقال قد جثا فلان جثوا إذا جلس على ركبتيه ومثله جذا يجذو والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجذور أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه قال ابن قتيبة والمعنى أنها غير مطمئنة
قوله تعالى كل أمة تدعى إلى كتابها فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه حسابها قاله الشعبي والفراء وابن قتيبة
والثالث كتابها الذي أنزل على رسوله حكاه الماوردي
ويقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون
هذا كتابنا وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحفظة قاله ابن السائب والثاني اللوح المحفوظ قاله مقاتل والثالث القرآن والمعنى أنهم يقرؤنه فيدلهم ويذكرهم فكأنه ينطق عليهم قاله ابن قتيبة (7/364)
قوله تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون اي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وإثباتها وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقا ما يعملونه قالوا والاستنساخ لا يكون إلا من أصل قال الفراء يرفع الملكان العمل كله فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو وقال الزجاج نستنسخ ما تكتبه الحفظة ويثبت عند الله عز و جل
قوله تعالى في رحمته قال مقاتل في جنته
قوله تعالى أفلم تكن آياتي فيه إضمار تقديره فيقال لهم ألم تكن آياتي يعني آيات القرآن تتلى عليكم فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين قال ابن عباس كافرين
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيآت ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم (7/365)
قوله تعالى وإذا قيل إن وعد الله بالبعث حق أي كائن والساعة قرأ حمزة والساعة بالنصب لا ريب فيها أي كائنة بلا شك قلتم ما ندري ما الساعة أي أنكرتموها إن نظن إلا ظنا أي ما نعلم ذلك إلا ظنا وحدسا ولا نستيقن كونها
وما بعد هذا قد تقدم الزمر 48 إلى قوله وقيل اليوم ننساكم أي نترككم في النار كما نستم لقاء يومكم هذا أي كما تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم
ذلكم الذي فعلنا بكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا أي مهزوءا بها وغرتكم الحياة الدنيا حتى قلتم إنه لا بعث ولا حساب فاليوم لا يخرجون وقرأ حمزة والكسائي لا يخرجون بفتح الياء وضم الراء وقرأ الباقون لا يخرجون بضم الياء وفتح الراء منها أي من النار ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله عز و جل لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار
قوله تعالى وله الكبرياء فيه ثلاثة أقوال أحدها السلطان قاله مجاهد والثاني الشرف قاله ابن زيد والثالث العظمة (7/366)
قاله يحيى بن سلام والزجاج (7/367)
سورة الأحقاف بسم الله الرحمن الرحيم
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا فيها آية مدنية وهي قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله الأحقاف 10 وقال مقاتل نزلت بمكة غير آيتين قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله الأحقاف 10 وقوله فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الأحقاف 35 نزلتا بالمدينة وقد تقدم تفسير فاتحتها المؤمن الحجر 85 (7/368)
إلى قوله وأجل مسمى وهو أجل فناء السموات والأرض وهو يوم القيامة
قوله تعالى قل أرأيتم مفسر في فاطر 40 إلى قوله إيتوني بكتاب وفي الآية اختصار تقديره فان ادعوا أن شيئا من المخلوقات صنعة آلهتهم فقل لهم إيتوني بكتاب من قبل هذا أي من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من أن الأصنام شركاء الله أو أثارة من علم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشيء يثيره مستخرجه قاله الحسن
والثاني بقية من علم تؤثر عن الأولين قاله ابن قتيبة وإلى نحوه ذهب الفراء وأبو عبيدة
والثالث علامة من علم قاله الزجاج وقرأ ابن مسعود وأبو رزين وأيوب السختياني ويعقوب أثرة بفتح الثاء مثل شجرة ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال
أحدها أنه الخط قاله ابن عباس وقال هو خط كانت العرب تخطه في الأرض قال أبو بكر بن عياش الخط هو العيافة
والثاني أو علم تأثرونه عن غيركم قاله مجاهد
والثالث خاصة من علم قاله قتادة
وقرأ أبي بن كعب وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والضحاك وابن يعمر أثرة بسكون الثاء من غير ألف بوزن نظرة (7/369)
وقال الفراء قرئت أثارة وأثره وهي لغات ومعنى الكل بقية من علم ويقال أو شيء مأثور من كتب الأولين فمن قرأ أثارة فهو المصدر مثل قولك السماحة والشجاعة ومن قرأ أثرة فإنه بناه على الأثر كما قيل قترة ومن قرأ أثرة فكأنه أراد مثل قوله الخطفة الصافات 10 والرجفة الأعراف 78
وقال اليزيدي الأثارة البقية والأثرة مصدر أثره يأثره أي يذكره ويرويه ومنه حديث مأثور
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم
قوله تعالى من لا يستجيب له يعني الأصنام وهم عن دعائهم غافلون لأنها جماد لا تسمع فاذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداء لعابديها في الدنيا ثم ذكر بما بعد هذا أنهم يسمون القرآن سحرا وأن محمدا افتراه (7/370)
قوله تعالى فلا تملكون لي من الله شيئا أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه أي فكيف أفتري من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عني هو أعلم بما تفيضون فيه أي بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سحر كفى به شهيدا بيني وبينكم أن القرآن جاء من عند الله وهو الغفور الرحيم في تأخير العذاب عنكم وقال الزجاج إنما ذكر هاهنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فان الله تعالى غفور له رحيم به
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
قوله تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل اي ما أنا بأول رسول والبدع والبديع من كل شيء المبتدأ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وقرأ ابن يعمر وابن أبي عبلة ما يفعل بفتح الياء ثم فيه قولان (7/371)
أحدهما أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا ثم فيه قولان
أحدهما أنه لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى في المنام أنه هاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك لما يلقون من أذى المشركين ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا يا رسول الله متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فانزل الله تعالى وما أدري ما يفعل بي ولا بكم يعني لا أدري اخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا ثم قال إنما هو شيء رايته في منامي وما أبتع إلا ما يوحى إلي رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال عطية ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها
والثاني ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي أو أقتل كما قتلوا ولا أدري ما يفعل بكم أتعذبون أم تؤخرون أتصدقون أم تكذبون قاله الحسن
والقول الثاني أنه أراد ما يكون في الآخرة روى ابن أبي طلحة عن (7/372)
ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية نزل بعدها ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الفتح 2 وقال ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات الآية الفتح 5 فأعلم ما يفعل به وبالمؤمنين وقيل إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا ما أمرنا وأمر محمد إلا واحد ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فنزل قوله ليغفر لك الله الآية الفتح 2 فقال الصحابة هنيئا لك يا رسول الله فماذا يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات الآية الفتح 5 وممن ذهب إلى هذا القول أنس وعكرمة وقتادة وروي عن الحسن ذلك
قوله تعالى قل أرايتم إن كان من عند الله يعني القرآن وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وفيه قولان
أحدهما أنه عبد الله بن سلام رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد
والثاني أنه موسى بن عمران عليه السلام قاله الشعبي ومسروق
فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة فيكون المعنى وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه أي على أنه من عند الله فآمن الشاهد وهو ابن سلام واستكبرتم يا معشر اليهود
وعلى الثاني يكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن (7/373)
أنها من عند الله كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن
فان قيل أين جواب إن قيل هو مضمر وفي تقديره ستة أقوال أحدها أن جوابه فمن أضل منكم قاله الحسن والثاني أن تقدير الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن أتؤمنون قاله الزجاج والثالث أن تقديره أتأمنون عقوبة الله قاله أبو علي الفارسي والرابع أن تقديره أفما تهلكون ذكره الماوردي والخامس من المحق منا ومنكم ومن المبطل ذكره الثعلبي والسادس أن تقديره أليس قد ظلمتم ويدل على هذا المحذوف قوله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ذكره الواحدي
وقال الذي كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وان أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذي نتقبل عنهم أحسن ما عملوا (7/374)
ونتجاوز عن سيآتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون
قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا الآية في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن الكفار قالوا لو كان دين محمد خيرا ما سبقنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية قاله مسروق
والثاني أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه فنزلت هذه الآية قاله أبو الزناد
والثالث أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام فقالت قريش لو كان خيرا ما سبقونا إليه فنزلت هذه الآية قاله أبو المتوكل
والرابع أنه لما اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت قالت اسد وغطفان لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء الشاء يعنون مزينة وجهينة فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
والخامس أن اليهود قالوا لو كان دين محمد خيرا ما سبقتمونا إليه لأنه لا علم لكم بذلك ولو كان حقا لدخلنا فيه ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال هو قول من يقول إن الآية نزلت بالمدينة ومن قال هي مكية قال هو قول المشركين فقد خرج في الذين كفروا قولان أحدهما أنهم المشركون والثاني اليهود
وقوله لو كان خيرا أي لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه (7/375)
فمن قال هم المشركون قال أرادوا إنا أعز وأفضل ومن قال هم اليهود قال أرادوا لأنا أعلم
قوله تعالى وإذا لم يهتدوا به أي بالقرآن فسيقولون هذا إفك قديم أي كذب متقدم يعنون أساطير الأولين
ومن قبله كتاب موسى أي من قبل القرآن التوراة وفي الكلام محذوف تقديره فلم يهتدوا لأن المشركين لم يهتدوا بالتوارة إماما قال الزجاج هو منصوب على الحال ورحمة عطف عليه وهذا كتاب مصدق المعنى مصدق للتوراة لسانا عربيا منصوب على الحال المعنى مصدق لما بين يديه عربيا وذكر لسانا توكيدا كما تقول جاءني زيد رجلا صالحا تريد جاءني زيد صالحا
قوله تعالى لينذر الذين ظلموا قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي لينذر بالياء وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب لتنذر بالتاء وعن ابن كثير كالقراءتين والذين ظلموا المشركين وبشرى أي وهو بشرى للمحسنين وهم الموحدون يبشرهم بالجنة
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره فصلت 30 إلى قوله بوالديه حسنا وقرأ عاصم وحمزة والكسائي إحسانا بألف
حملته أمه كرها قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو كرها بفتح الكاف وقرأ الباقون بضمها قال الفراء والنحويون يستحبون الضم هاهنا ويكرهون الفتح للعلة التي بيناها عند قوله وهو كره لكم البقرة 216 قال الزجاج والمعنى حملته على مشقة ووضعته على مشقة (7/376)
وفصاله أي فطامه وقرأ يعقوب وفصله بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثلاثون شهرا قال ابن عباس ووضعته كرها يريد به شدة الطلق واعلم أن هذه المدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع فأما الأشد ففيه أقوال قد تقدمت واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شأنه وتمييزه وقال ابن قتيبة أشد الرجل غير أشد اليتيم لأن أشد الرجل الاكتهال والحنكة وأن يشتد رأيه وعقله وذلك ثلاثون سنة ويقال ثمان وثلاثون سنة وأشد الغلام أن يشتد خلقه ويتناهى نباته وقد ذكرنا بيان الأشد في الانعام 153 وفي يوسف 22 وهذا تحقيقه واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه و سلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد رسول الله صلى الله عليه و سلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له من الرجل الذي في ظل السدرة فقال ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (7/377)
فقال هذا والله نبي وما استظل تحتها أحد بعد عيسى إلا محمد نبي الله فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق فكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه و سلم في أسفاره وحضره فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الأكثرون قالوا فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا الله عز و جل بما ذكره في هذه الأية فاجابه الله فأسلم والداه و أولاده ذكورهم وإناثهم ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة
والقول الثاني أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد شرحنا قصته في سورة العنكبوت 8 وهذا مذهب الضحاك والسدي
والثالث أنها نزلت على العموم قاله الحسن وقد شرحنا في سورة النمل 19 معنى قوله أوزعني
قوله تعالى وأن أعمل صالحا ترضاه قال ابن عباس أجابه الله يعني أبا بكر فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله عز و جل ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه واستجاب له في ذريته فآمنوا إني تبت إليك أي رجعت إلى كل ما تحب (7/378)
قوله تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يتقبل ويتجاوز بالياء المضمومة فيهما وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف نتقبل ونتجاوز بالنون فيهما وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وأبو عمران الجوني يتقبل ويتجاوز بياء مفتوحة فيهما يعني أهل هذا القول والأحسن بمعنى الحسن
في أصحاب الجنة أي في جملة من يتجاوز عنهم وهم أصحاب الجنة وقيل في بمعنى مع
وعد الصدق قال الزجاج هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله أولئك الذين نتقبل عنهم بمعنى الوعد لأنه وعدهم القبول بقوله وعد الصدق يؤكد ذلك قوله الذين كانوا يوعدون أي على ألسنة الرسل في الدنيا
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن (7/379)
والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون
قوله تعالى والذي قال لوالديه أف لكما قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أف لكما بالخفض من غير تنوين وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء وقرأ نافع وحفص عن عاصم أف بالخفض والتنوين وقرأ ابن يعمر أف بتشديد الفاء مرفوعة منونة وقرأ حميد والجحدري أفا بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين وقرأ عمرو بن دينار أف بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين وقرأ أبو المتوكل وعكرمة وأبو رجاء أف لكما باسكان الفاء خفيفة وقرأ أبو العالية وأبو عمران أفي بتشديد الفاء والياء ساكنة ممالة وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى وعلى هذا جمهور المفسرين وقد روي عن عائشة أنها كانت تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن وتحلف على ذلك وتقول لوشئت لسميت الذي نزلت فيه قال الزجاج وقول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن باطل بقوله أولئك الذين حق عليهم القول فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون وعبد الرحمن مؤمن والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاق وروي عن مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر وعن (7/380)
الحسن أنها نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم
قوله تعالى وقد خلت القرون من قبلي فيه قولان أحدهما مضت القرون فلم يرجع منهم أحد قاله مقاتل والثاني مضت القرون مكذبة بهذا قاله أبو سليمان الدمشقي قوله تعالى وهما يستغيثان الله أي يدعوان الله له بالهدى ويقولان له ويلك آمن أي صدق بالبعث فيقول ما هذا الذي تقولان إلا أساطير الأولين وقد سبق شرحها الأنعام25 القول أي وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار في أمم أي مع أمم فذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه وعمل بوصية الله عز و جل ثم ذكر من لم يعمل بالوصية ولم يطع ربه ولا والديه إنهم كانوا خاسرين وقرأ ابن السميفع وأبو عمران أنهم بفتح الهمزة
ثم قال ولكل درجات مما عملوا أي منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة وأهل النار في (7/381)
العذاب وليوفيهم أعمالهم قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وليوفيهم بالياء وقرأ الباقون بالنون أي جزاء أعمالهم
قوله تعالى ويوم يعرض المعنى واذكر لهم يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم أي ويقال لهم أذهبتم قرأ ابن كثير آذهبتم بهمزة مطولة وقرأ ابن عامر أأذهبتم بهمزتين وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي أذهبتم على الخبر وهو توبيخ لهم قال الفراء والزجاج العرب توبخ بالألف وبغير الأف فتقول أذهبت وفعلت كذا وذهبت ففعلت قال المفسرون والمراد بطيباتهم ما كانوا فيه من اللذات مشتغلين بها عن الآخرة معرضين عن شكرها ولما وبخهم الله بذلك آثر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب نعيم العيش ولذته ليتكامل أجرهم ولئلا يلهيهم عن معادهم وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مضطجع على خصفة وبعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا فقال يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير فقال صلى الله عليه و سلم يا عمر إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع وإنا أخرت لنا طيباتنا وروى جابر بن عبد الله قال رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال ما هذا ياجابر فقلت اشتهيت لحما فاشتريته فقال أو كلما اشتهيت (7/382)
اشتريت يا جابر أما تخاف هذة الآية أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وروي عن عمر أنه قيل له لو أمرت أن نصنع لك طعاما ألين من هذا فقال إني سمعت الله عير أقواما فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا
قوله تعالى تستكبرون في الأرض أي تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين
قوله تعالى واذكر أخا عاد يعني هودا إذ أنذر قومه بالأحقاف قال الخليل الأحقاف الرمال العظام وقال ابن قتيبة واحد الأحقاف حقف وهو من الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى وقال ابن جرير هو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلا
واختلفوا في المكان الذي سمي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال
أحدها أنه جبل بالشام قاله ابن عباس والضحاك (7/383)
والثاني أنه واد ذكره عطية وقال مجاهد هي أرض وحكى ابن جرير أنه واد بين عمان ومهرة وقال ابن إسحاق كانوا ينزلون ما بين عمان وحضرموت واليمن كله
والثالث أن الأحقاف رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها الشحر قاله قتادة
قوله تعالى وقد خلت النذر أي قد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده بانذار أممها ألا تعبدوا إلا الله والمعنى لم يبعث رسول قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده وهذا كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه ثم عاد إلى كلام هود فقال إني أخاف عليكم
قوله تعالى لتأفكنا أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك
قوله تعالى إنما العلم عند الله أي هو يعلم متى يأتيكم العذاب
فلما رأوه يعني ما يوعدون في قوله بما تعدنا عارضنا أي سحاب يعرض من ناحية السماء قال ابن قتيبة العارض السحاب قال المفسرون كان المطر قد حبس عن عاد فساق الله إليهم سحابة سوداء فلما رأوها فرحوا و قالوا هذا عارض ممطرنا فقال لهم هود بل هو ما استعجلتم به ثم بين ما هو فقال ريح فيها عذاب أليم فنشأت الريح من تلك السحابة تدمر كل شيء أي تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال قال عمرو بن ميمون لقد كانت الريح تحتمل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة فأصبحوا يعني عادا لا يرى إلا مساكنهم (7/384)
قرأ عاصم وحمزة لا يرى برفع الياء إلا مساكنهم بدفع النون وقرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والجحدري لا ترى بتاء مضمومة وقرأ أبو عمران وابن السميفع لا ترى بتاء مفتوحة إلا مسكنهم على التوحيد وهذا لأن السكان هلكوا فقيل أصبحوا وقد غطتهم الريح بالرمل فلا يرون
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن ولقد اهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون
ثم خوف كفار مكة فقال عز و جل ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه في إن قولان
أحدهما أنها بمعنى لم فتقديره فيما لم نمكنكم فيه قاله ابن عباس وابن قتيبة وقال الفراء هي بمنزلة ما في الجحد فتقدير الكلام في الذي لم نمكنكم في
ه والثاني أنها زائدة والمعنى فيما مكناكم فيه وحكاه ابن قتيبة أيضا (7/385)
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم فلم يتدبروا بها ولم يتفكروا فيما يدلهم على التوحيد قال المفسرون والمراد بالأفئدة القلوب وهذه الآلات لم ترد عنهم عذاب الله
ثم زاد كفار مكة في التخويف فقال ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة وصرفنا الآيات أي بيناها لعلهم يعني أهل القرى يرجعون عن كفرهم وهاهنا محذوف تقديره فما رجعوا عن كفرهم
فلولا أي فهلا نصرهم أي منعهم من عذاب الله الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة يعني الأصنام التي تقربوا بعبادتها إلى الله على زعمهم وهذا استفهام إنكار معناه لم ينصروهم بل ضلوا عنهم أي لم ينفعوهم عند نزول العذاب وذلك يعني دعاءهم الآلهة إفكهم أي كذبهم وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن يعمر وأبو عمران وذلك أفكهم بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف وقرأ أبي بن كعب وابن عباس وأبو رزين والشعبي وأبو العالية والجحدري أفكهم بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها قال ابن جرير أي أضلهم وقال الزجاج معناها صرفهم عن الحق فجعلهم ضلالا وقرأ ابن مسعود (7/386)
وأبو المتوكل آفكهم بفتح الهمزة ومدها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف أي مضلهم
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين
قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن وبخ الله عز و جل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو ب نخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا (7/387)
القرآن تسمعوا له فقالوا هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد الجن 1 2 فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن الجن1 وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على الجن ولا رآهم وإنما أتوه وهو ب نخلة فسمعوا القرآن
والثاني أنهم صرفوا إليه لينذرهم وأمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة منهم قتادة وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال قلت لعبد الله من كان منكم مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة الجن فقال ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا اغتيل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو استطير فانطلقنا نطلبه في الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا يا رسول الله أين كنت لقد أشفقنا عليك وقلنا له بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك فقال إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني فاطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا فأتبعه عبد الله بن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه و سلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه و سلم فلما رجع قلت يا نبي الله ما اللغط (7/388)
الذي سمعت قال اجتمعوا إلى في قتيل كان بينهم فقضيت بينهم بالحق
والثالث أنهم مروا به وهو يقرأ فسمعوا القرآن فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام وقيل ليلتمس نصرهم وذلك بعد موت أبي طالب فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر فمر به نفر من أشراف جن نصيبين فاستمعوا القرآن فعلى هذا القول والقول الأول لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى وعلى القول الثاني علم بهم حين جاءوا وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم قولان أحدهما الحجون وقد ذكرناه عن ابن مسعود وبه قال قتادة والثاني بطن نخلة وقد ذكرناه عن ابن عباس وبه قال مجاهد
وأما النفر فقال ابن قتيبة يقال إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة وللمفسرين في عدد هؤلاء النفر ثلاثة أقوال
أحدها أنهم كانوا سبعة قاله ابن مسعود وزر بن حبيش ومجاهد ورواه عكرمة عن ابن عباس (7/389)
والثاني تسعة رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث اثني عشر ألفا روي عن عكرمة ولا يصح لأن النفر لا يطلق على الكثير
قوله تعالى فلما حضروه أي حضروا استماعه و قضي يعني فرغ من تلاوته ولوا إلى قومهم منذرين أي محذرين عذاب الله عز و جل إن لم يؤمنوا
وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم فيه قولان
قال عطاء كان دين أولئك الجن اليهودية فلذلك قالوا من بعد موسى
قوله تعالى أجيبوا داعي الله يعنون محمدا صلى الله عليه و سلم وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن والإنس
قوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم من هاهنا صلة (7/390)
قوله تعالى فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله تعالى وليس له من دونه أولياء أي أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أولئك الذين لا يجيبون الرسل في ضلال مبين أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون
ثم احتج على إحياء الموتى بقوله أولم يروا إلى آخر الآية والرؤية هاهنا بمعنى العلم
ولم يعي أي لم يعجز عن ذلك يقال عي فلان بأمره إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه قال الزجاج يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه وأعييت إذا تعبت (7/391)
قوله تعالى بقادر قال أبو عبيدة والأخفش الباء زائدة مؤكدة وقال الفراء العرب تدخل الباء مع الجحد مثل قولك ما أظنك بقائم وهذ قول الكسائي والزجاج وقرأ يعقوب يقدر بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف وما بعد هذا ظاهر إلى قوله كما صبر أولوا العزم أي ذوو الحزم والصبر وفيهم عشرة أقوال
أحدها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وابن السائب
والثاني نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهم وسلم قاله أبو العالية الرياحي
والثالث أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء قاله الحسن
والرابع أنهم العرب من الأنبياء قاله مجاهد والشعبي
والخامس أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي
والسادس أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم آدم ولا يونس ولا سليمان قاله ابن جريج
والسابع أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال قاله ابن السائب وحكي عن السدي
والثامن أنهم جميع الرسل فان الله لم يبعث رسولا إلا كان من أولي العزم قاله ابن زيد واختاره ابن الأنباري وقال من دخلت للتجنيس لا للتبعيض كما تقول قد رأيت الثياب من الخز والجباب من القز (7/392)
والتاسع أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام 83 86 قاله الحسين بن الفضل
والعاشر أنهم جميع الأنبياء إلا يونس حكاه الثعلبي
قوله تعالى ولا تستعجل لهم يعني العذاب قال بعض المفسرين كان النبي صلى الله عليه و سلم ضجر بعض الضجر وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر
قوله تعالى كأنهم يوم يرون ما يوعدون أي من العذاب لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا وقيل لأن مقدار مكثهم في الدنيا قليل في جنب مكثهم في عذاب الآخرة وهاهنا تم الكلام ثم قال بلاغ أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ عن الله إليكم
وفي معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان
أحدهما أن البلاغ بمعنى التبليغ
والثاني أن معناه الكفاية فيكون المعنى ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية وغنى
وذكر ابن جرير وجها آخر وهو أن المعنى لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ أي ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم ثم حذفت ذلك لبث اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام عليها (7/393)
وقرأ أبو العالية وأبو عمران بلغ بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف
قوله تعالى فهل يهلك وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وابن محيصن يهلك بفتح الياء وكسر اللام أي عند رؤية العذاب إلا القوم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز و جل (7/394)
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
وفيها قولان
أحدهما أنها مدنية قاله الأكثرون منهم مجاهد ومقاتل وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهي قوله وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك محمد 13
والثاني أنها مكية قاله الضحاك والسدي بسم الله الرحمن الرحيم
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيآتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتمهوهم (7/395)
فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منه ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم
قوله تعالى الذين كفروا أي بتوحيد الله وصدوا الناس عن الإيمان به وهم مشركو قريش أضل أعمالهم أي أبطلها ولم يجعل لها ثوابا فكأنها لم تكن وقد كانوا يطعمون الطعام ويصلون الأرحام ويتصدقون ويفعلون ما يعتقدونه قربة
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأمنوا بما نزل على محمد وقرأ ابن مسعود نزل بفتح النون والزاي وتشديدها وقرأ أبي بن كعب ومعاذ القارئ أنزل بهمزة مضمومة مكسورة الزاي وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران نزل بفتح النون والزاي وتخفيفها كفر عنهم سيئاتهم أي غفرها لهم وأصلح بالهم أي حالهم قاله قتادة والمبرد
قوله تعالى ذلك قال الزجاج معناه الأمر ذلك وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحق كذلك يضرب الله للناس أمثالهم أي كذلك يبين أمثلا حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين كهذا البيان
قوله تعالى فضرب الرقاب إغراء والمعنى فاقتلوهم لان الأغلب في موضع القتل ضرب العنق حتى إذا أثخنتموهم أي أكثرتم فيهم (7/396)
القتل فشدوا الوثاق يعني في الأسر وإنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل والوثاق اسم من الإيثاق تقول أوثقته إيثاقا ووثاقا إذا شددت أسره لئلا يفلت فإما منا بعد قال أبو عبيدة إما أن تمنوا وإما أن تفادوا ومثله سقيا ورعيا وإنما هو سقيت ورعيت وقال الزجاج إما مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منا وإما أطلقتموهم بفداء
فصل وهذه الآية محكمة عند عامة العلماء وممن ذهب إلى أن حكم المن والفداء باق لم ينسخ ابن عمر ومجاهد والحسن وابن سيرين وأحمد والشافعي وذهب قوم إلى نسخ المن والفداء بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وممن ذهب إلى هذا ابن جريج والسدي وأبو حنيفة وقد أشرنا إلى القولين في براءة 5
قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها قال ابن عباس حتى لا يبقى أحد من المشركين وقال مجاهد حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام وقال سعيد بن جبير حتى يخرج المسيح وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم وفي معنى الكلام قولان
أحدهما حتى يضع أهل الحرب سلاحهم قال الأعشى ... وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا (7/397)
وأصل الوزر ما حملته فسمي السلاح أوزارا لأنه يحمل هذا قول ابن قتيبة
والثاني حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ولا يعبدوا إلا الله ذكره الواحدي
قوله تعالى ذلك أي الأمر ذلك الذي ذكرنا ولو يشاء الله لانتصر منهم باهلاكهم أوتغذيتهم بما شاء ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة ويخزي الكافر بالقتل والعذاب
قوله تعالى والذين قتلوا قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم قتلوا بضم القاف وكسر التاء والباقون قاتلوا بألف
قوله تعالى سيهديهم فيه أربعة أقوال أحدها يهديهم إلى أرشد الأمور قاله ابن عباس والثاني يحقق لهم الهداية قاله الحسن والثالث إلى محاجة منكر ونكير والرابع إلى طريق الجنة حكاهما الماوردي
وفي قوله عرفها لهم قولان
أحدهما عرفهم منازلهم فيها فلا يستدلون عليها ولا يخطئونها هذا قول الجمهور منهم مجاهد وقتادة واختاره الفراء وأبو عبيدة
والثاني طيبها لهم رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن قتيبة وهو قول أصحاب اللغة يقال طعام معرف أي مطيب
وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن عرفها لهم بتخفيف الراء (7/398)
يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهوائهم
قوله تعالى إن تنصروا الله أي تنصروا دينه ورسوله ينصركم على عدوكم ويثبت أقدامكم عند القتال وروى المفضل عن عاصم ويثبت بالتخفيف والذين كفروا فتعسا لهم قال الفراء المعنى فأتعسهم الله والدعاء قد يجري مجرى الأمر والنهي قال ابن قتيبة هو من قولك تعست (7/399)
أي عثرت وسقطت وقال الزجاج التعس في اللغة الانحطاط والعثور وما بعد هذا قد سبق بيانه الكهف 105 يوسف 109 إلى قوله دمر الله عليهم أي أهلكم الله وللكافرين أمثالها أي أمثال تلك العاقبة
ذلك الذي فعله بالمؤمنين من النصر وبالكافرين من الدمار بأن الله مولى الذين آمنوا أي وليهم
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله ويأكلون كما تأكل الأنعام أي إن الأنعام تأكل وتشرب ولا تدري ما في غد فكذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة والمثوى المنزل
وكأين مشروح في آل عمران 146 والمراد بقريته مكة وأضاف القوة والإخراج إليها والمراد أهلها ولذلك قال أهلكناهم
قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه فيه قولان أحدهما أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله بو العالية والثاني أنه المؤمن قاله الحسن
وفي البينة قولان أحدهما القرآن قاله ابن زيد والثاني الدين قاله ابن السائب
كمن زين له سوء عمله يعني عبادة الأوثان وهو الكافر واتبعوا أهواءهم بعبادتها (7/400)
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع امعاؤهم
مثل الجنة التي وعد المتقون أي صفتها وقد شرحناه في الرعد 35 والمتقون عند المفسرين الذين يتقون الشرك والآسن المتغير الريح قاله أبو عبيدة والزجاج وقال ابن قتيبة هو المتغير الريح والطعم والآجن نحوه وقرأ ابن كثير غير أسن بغير مد وقد شرحنا قوله لذة للشاربين في الصافات 46
قوله تعالى من عسل مصفى أي من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا
قوله تعالى كمن هو خالد في النار قال الفراء أراد من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار
قوله تعالى ماء حميما أي حارا شديد الحرارة والأمعاء جميع ما في (7/401)
البطن من الحوايا ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتهم تقواهم فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم
قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك يعني المنافقين وفيما يستمعون قولان أحدهما أنه سماع خطبة رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة والثاني سماع قوله على عموم الأوقات فاما الذين أوتوا العلم فالمراد بهم علماء الصحابة
قوله تعالى ماذا قال آنفا قال الزجاج أي ماذا قال الساعة وهو من قولك استأنفت الشيء إذا ابتدأته وروضة أنف لمن ترع أي لها أول يرعى فالمعنى ماذا قال في أول وقت يقرب منا وحدثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال معنى آنفا مذ ساعة وقرأ ابن كثير في بعض الروايات عنه أنفا بالقصر وهذه قراءة عكرمة وحميد وابن محيصن قال أبو علي يجوز أن يكون ابن كثير توهم مثل حاذر وحذر وفاكه وفكه وفي استفهامهم قولان أحدهما لأنهم لم يعقلوا ما يقول ويدل عليه باقي الآية والثاني أنهم قالوه استهزاء
قوله تعالى والذين اهتدوا فيهم قولان أحدهما أنهم المسلمون (7/402)
قاله الجمهور والثاني قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه و سلم فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم آمنوا به قاله عكرمة
وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال أحدها أنه الله عز و جل والثاني قول الرسول والثالث استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى ذكرهن الزجاج وفي معنى الهدى قولان أحدهما أنه العلم والثاني البصيرة
وفي قوله وآتاهم تقواهم ثلاثة أقوال أحدها ثواب تقواهم في الآخرة قاله السدي والثاني اتقاء المنسوخ والعمل بالناسخ قاله عطية والثالث أعطاهم التقوى مع الهدى فاتقوا معصيته خوفا من عقوبته قاله أبو سليمان الدمشقي و
ينظرون بمعنى ينتظرون أن تأتيهم وقرأ أبي بن كعب وأبو الأشهب وحميد إن تأتهم بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء والأشراط العلامات قال أبو عبيدة الأشراط الأعلام وإنما سمي الشرط فيما ترى لأنهم أعلموا أنفسهم قال المفسرون ظهور النبي صلى الله عليه و سلم من أشراط الساعة وانشقاق القمر والدخان وغير ذلك (7/403)
فأنى لهم أي فمن أين لهم إذا جاءتهم الساعة ذكراهم قال قتادة أنى لهم أن يذكروا ويتوبوا إذا جاءت
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فاذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فاذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم
قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله قال بعضهم اثبت على علمك وقال قوم المراد بهذا الخطاب غيره وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب وقيل إنه كان يضيق صدره بما يقولون فقيل له اعلم انه لا كاشف لما بك إلا الله فأما قوله واستغفر لذنبك فانه كان يستغفر في اليوم مائة مرة وأمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب (7/404)
والله يعلم متقلبكم ومثواكم فيه ثلاثة أقوال
أحدها متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة وهو معنى قول ابن عباس
والثاني متقلبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ومقامكم في القبور قاله عكرمة
والثالث متقلبكم بالنهار ومثواكم أي مأواكم بالليل قاله مقاتل
قوله تعالى ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة قال المفسرون سألوا ربهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد فقالوا لولا أي هلا وكان أبو مالك الأشجعي يقول لا هاهنا صلة فالمعنى لو أنزلت سورة شوقا منهم إلى الزيادة في العلم ورغبة في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض
وفي معنى محكمة ثلاثة أقوال أحدها أنها التي يذكر فيها القتال قاله قتادة والثاني أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام والثالث التي لا منسوخ فيها حكاهما أبو سليمان الدمشقي
ومعنى قوله وذكر فيها القتال أي فرض فيها الجهاد
وفي المراد بالمرض قولان أحدهما النفاق قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور والثاني الشك قاله مقاتل (7/405)
قوله تعالى ينظرون إليك اي يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت لأنهم يكرهون القتال ويخافون إن قعدوا أن يتبين نفاقهم
فأولى لهم قال الأصمعي معنى قولهم في التهديد أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره وقال ابن قتيبة هذا وعيد وتهديد تقول للرجل إذا أردت به سوءا ففاتك أولى لك ثم ابتدأ فقال طاعة وقول معروف وقال سيبويه والخليل المعنى طاعة وقول معروف أمثل وقال الفراء الطاعة معروفة في كلام العرب إذا قيل لهم افعلوا كذلك قالوا سمع وطاعة فوصف الله قولهم قبل أن تنزل السورة أنهم يقولون سمع وطاعة فاذا نزل الأمر كرهوا وأخبروني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قال الله تعالى فأولى ثم قال لهم أي للذين آمنوا منهم طاعة فصارت أولى وعيدا لمن كرهها واستأنف الطاعة ب لهم والأول عندنا كلام العرب وهذا غير مردود يعني حديث أبي صالح وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله والمعنى فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفا بالإجابة
قوله تعالى فاذا عزم الأمر قال الحسن جد الأمر وقال غيره جد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه في الجهاد ولزم فرض القتال وصار الأمر معروفا عليه وجواب إذا محذوف تقديره فاذا عزم الأمر نكلوا يدل على المحذوف فلو صدقوا الله أي في إيمانهم وجهادهم لكان خيرا لهم من المعصية والكراهة (7/406)
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبراهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
قوله تعالى فهل عسيتم إن توليتم في المخاطب بهذا أربعة أقوال أحدها المنافقون وهو الظاهر والثاني منافقو اليهود قاله مقاتل والثالث الخوارج قاله بكر بن عبد الله المزني والرابع قريش حكاه جماعة منهم الماوردي
وفي قوله توليتم قولان
أحدهما أنه بمعنى الإعراض فالمعنى إن أعرضتم عن الإسلام أن تفسدوا في الأرض بأن تعودوا إلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضا ويغير بعضكم على بعض ذكره جماعة من المفسرين
والثاني أنه من الولاية لأمور الناس قاله القرظي فعلى هذا يكون معنى ان تفسدوا في الأرض بالجور والظلم
وقرأ يعقوب وتقطعوا بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف ثم ذم من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه (7/407)
وما بعد هذا قد سبق النساء 82 إلى قوله أم على قلوب أقفالها أم بمعنى بل وذكر الأقفال استعارة والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى قال مجاهد الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الإقفالوالاقفال أشد ذلك كله وقال خالد بن معدان مامن آدمي إلا وله أربع أعين عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب فاذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه وإذا أراد به غير ذلك طمس عليهما فذلك قوله أم على قلوب أقفالها قوله تعالى إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي رجعوا كفارا وفيهم قولان أحدهما أنهم المنافقون قاله ابن عباس والسدي وابن زيد والثاني أنهم اليهود قاله قتادة ومقاتل من بعد ما تبين لهم الهدى أي من بعد ما وضح لهم الحق ومن قال هم اليهود قال من بعد أن (7/408)
تبين لهم وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم ونعته في كتابهم و سول بمعنى زين وأملى لهم قرأ أبو عمرو وزيد عن يعقوب وأملي لهم بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة وقرا يعقوب إلا زيدا وأبان عن عاصم كذلك إلا أنهما أسكنا الياء وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام وقد سبق معنى الإملاء آل عمران 178 الأعراف 183
قوله تعالى ذلك قال الزجاج المعنى الأمر ذلك أي ذلك الإضلال بقولهم للذين كرهوا ما نزل الله وفي الكارهين قولان
أحدهما أنهم المنافقون فعلى هذا في معنى قوله سنطيعكم في بعض الأمر ثلاثة أقوال أحدها في القعود عن نصرة محمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي والثاني في الميل إليكم والمظاهرة على محمد صلى الله عليه و سلم والثالث في الارتداد بعد الإيمان حكاهما الماوردي
والثاني أنهم اليهود فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان أحدهما في أن لا يصدقوا شيئا من مقالة رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله الضحاك والثاني في كتم ما علموه من نبوته قاله ابن جريج
والله يعلم إسرارهم قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم والوليد عن يعقوب بكسر الألف على أنه مصدر أسررت وقرأ الباقون بفتحها على أنه جمع سر والمعنى أنه يعلم ما بين اليهود والمنافقين من السر (7/409)
قوله تعالى فكيف إذا توفتهم الملائكة أي فكيف يكون حالهم حينئذ وقد بينا في الأنفال 50 معنى قوله يضربون وجوهم وأدبارهم
قوله تعالى وكرهوا رضوانه أي كرهوا ما فيه الرضوان وهو الإيمان والطاعة
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم
قوله تعالى أم حسب الذين في قلوبهم مرض أي نفاق أن لن يخرج الله أضغانهم قال الفراء أي لن يبدي الله عداوتهم وبغضهم لمحمد صلى الله عليه و سلم وقال الزجاج أي لن يبدي عداوتهم لرسوله صلى الله عليه و سلم ويظهره على نفاقهم (7/410)
ولو نشاء لأريناكهم أي لعرفنا كهم تقول قد أريتك هذا الأمر أي قد عرفتك إياه المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السماء فلعرفتهم بسيماهم أي بتلك العلامة ولتعرفنهم في لحن القول أي في فحوى القول فدل بهذا على أن قول القائل وفعله يدل على نيته وقول الناس قد لحن فلان تأويله قد أخذ في ناحية عن الصواب وعدل عن الصواب إليها وقول الشاعر ... منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا ...
تأويله خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كل أحد إنما يعرف قولها في أنحاء قولها قال المفسرون ولتعرفنهم في فحوى الكلام ومعناه ومقصده فإنهم يتعرضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين قال ابن جرير ثم عرفه الله إياهم
قوله تعالى ولنبلونكم أي ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم العلم الذي هو علم وجود وبه يقع الجزاء وقد شرحنا هذا في العنكبوت 3
قوله تعالى ونبلو أخباركم أي نظهرها ونكشفها باباء من يأبى القتال ولا يصبر على الجهاد وقرأ أبو بكر عن عاصم وليبلونكم بالياء حتى يعلم بالياء ويبلو بالياء فيهن وقرأ معاذ القارئ (7/411)
وأيوب السختياني أخياركم بالياء جمع خير
قوله تعالى إن الذين كفروا الآية اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها في المطعمين يوم بدر قاله ابن عباس والثاني أنها نزلت في الحارث بن سويد ووحوح الأنصاري أسلما ثم ارتدا فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبى صاحبه أن يرجع حتى مات قاله السدي
والثالث أنها في اليهود قاله مقاتل
والرابع أنها في قريظة والنضير ذكره الواحدي
قوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال أحدها المعاصي والكبائر قاله الحسن والثاني الشك والنفاق قاله عطاء والثاث الرياء والسمعة قاله ابن السائب والرابع بالمن وذلك (7/412)
أن قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا أتيناك طائعين فلنا عليك حق فنزلت هذه الآية ونزل قوله يمنون عليك أن أسلموا الحجرات 17 هذا قول مقاتل قال القاضي أبو يعلى وهذا يدل على أن كل من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها وهذا على ظاهره في الحج فأما في الصلاة والصيام فهو على سبيل الاستحباب
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم إنما الحياةالدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
قوله تعالى فلا تهنوا أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى السلم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم إلى السلم بفتح السين وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر السين والمعنى لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءا وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين و دلالة على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدخل مكة صلحا لأنه نهاه عن الصلح (7/413)
قوله تعالى وأنتم الأعلون أي أنتم أعز منهم والحجة لكم وآخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات والله معكم بالعون والنصرة ولن يتركم قال ابن قتيبة أي لن ينقصكم ولن يظلمكم يقال وترتني حقي أي بخستنيه قال المفسرون المعنى لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا
قوله تعالى ولا يسألكم أموالكم أي لن يسألكموها كلها
قوله تعالى فيحفكم قال الفراء يجهدكم وقال ابن قتيبة يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم تبخلوا يقال أحفاني بالمسألة وألحف إذا ألح وقال السدي إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا
ويخرج أضغانكم وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن يعمر ويخرج بياء مرفوعه وفتح الراء أضغانكم بالرفع وقرأ أبي بن كعب وأبو رزين وعكرمة وابن السميفع وابن محيصن والجحدري وتخرج بتاء مفتوحة ورفع الراء أضغانكم بالرفع وقرأ ابن مسعود والوليد عن (7/414)
يعقوب ونخرج بنون مرفوعة وكسر الراء أضغانكم بنصب النون أي يظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ولكنه فرض عليكم يسيرا
وفيمن يضاف إليه هذا الإخراج وجهان
أحدهما إلى الله عز و جل والثاني البخل حكاهما الفراء وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة وليس بصحيح لأنا قد بينا أن معنى الآية إن يسألكم جميع أموالكم والزكاة لا تنافي ذلك
قوله تعالى ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله يعني ما فرض عليكم في أمولكم فمنكم من يبخل بما فرض عليه من الزكاة ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه أي على نفسه بما ينفعها في الآخرة والله الغني عنكم وعن أموالكم وأنتم الفقراء إليه إلى ما عنده من الخير والرحمة وإن تتولوا عن طاعته يستبدل قوما غيركم أطوع له منكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل خيرا منكم وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال
احدها أنهم العجم قاله الحسن وفيه حديث يرويه ابو هريرة قال لما نزلت وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إذا تولينا استبدلوا بنا فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على منكب سلمان فقال هذا وقومه والذي نفسي بيده لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس والثاني فارس والروم قاله (7/415)
عكرمة والثالث من يشاء من جميع الناس قاله مجاهد والرابع يأتي بخلق جديد غيركم وهو معنى قول قتادة والخامس كندة والنخع قاله ابن السائب والسادس أهل اليمن قاله راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير وشريح ابن عبيد والسابع الأنصار قاله مقاتل والثامن أنهم الملائكة حكاه الزجاج وقال فيه بعد لأنه لا يقال للملائكة قوم إنما يقال ذلك (7/416)
للآدميين قال وقد قيل إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة وهذا معنى ما ذكرنا عن مقاتل (7/417)
سورة الفتح وهي مدنية كلها باجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا
قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآية سبب نزولها أنه لما نزل قوله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الأحقاف 9 قال اليهود كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال
أحدها أنه كان يوم الحديبية قاله الأكثرون قال البراء بن عازب نحن نعد الفتح بيعة الرضوان وقال الشعبي هو فتح الحديبية غفر له (7/418)
ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام قال مجاهد يعني بالفتح ما قضى الله له من نحر الهدي (7/419)
بالحديبية وحلق رأسه وقال ابن قتيبة إنا فتحنا لك فتحا مبينا أي قضينا لك قضاء عظيما ويقال للقاضي الفتاح قال الفراء والفتح قد يكون صلحا ويكون أخذ الشيء عنوة ويكون بالقتال وقال غيره معنى الفتح في اللغة فتح المنغلق والصلح الذي جعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله تعالى
الإشارة إلى قصة الحديبية
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى في النوم كأن قائلا يقول له لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين فأصبح فحدث الناس برؤياه وأمرهم بالخروج للعمرة فذكر أهل العلم بالسير أنه خرج واستنفر أصحابه للعمرة وذلك في سنة ست ولم يخرج بسلاح إلا السيوف في القرب وساق هو وأصحابه البدن فصلى الظهر ب ذي الحليفة ثم دعا بالبدن فجللت ثم أشعرها وقلدها فعل ذلك أصحابه وأحرم ولبى فبلغ المشركين خروجه فاجمع رأيهم على صده عن المسجد الحرام (7/420)
وخرجوا حتى عسكروا ب بلدح وقدموا مائتي فارس إلى كراع الغميم وسار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دنا من الحديبية قال الزجاج وهي بئر فسمي المكان باسم البئر قالوا وبينها وبين مكة تسعة أميال فوقفت يدا راحلته فقال المسلمون حل حل يزجرونها فأبت فقالوا خلأت القصواء والخلاء في الناقة مثل الحران في الفرس فقال ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل أما والله لا يسألوني خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها ثم جرها فقامت فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليل الماء فانتزع سهما من كنانته فغرزه فيها فجاشت لهم بالرواء وجاءه بديل بن ورقاء في ركب فسلموا وقالوا جئناك من (7/421)
عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم يقسمون لا يخلون بنيك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم نأت لقتال أحد إنما جئنا لنطوف بهذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فرجع بديل فأخبر قريشا فبعثوا عروة بن مسعود فكلمه بنحو ذلك فأخبر قريشا فقالوا نرده من عامنا هذا ويرجع من قابل فيدخل مكة ويطوف بالبيت فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان قال اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد وإنما جئنا زوارا لهذا البيت معنا الهدي ننحره وننصرف فأتاهم فاخبرهم فقالوا لا كان هذا أبدا ولا يدخلها العام وبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن عثمان قد قتل فقال لا نبرح حتى نناجزهم فذاك حين دعا المسلمين إلى بيعة الرضوان فبايعهم تحت الشجرة
وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال
أحدها ألف وأربعمائة قاله البراء وسلمة بن الأكوع وجابر ومعقل بن يسار
والثاني ألف وخمسمائة روي عن جابر أيضا وبه قال قتادة
والثالث ألف وخمسمائة وخمس وعشرون رواه العوفي عن ابن عباس
والرابع ألف وثلاثمائة قاله عبد الله بن أبي أوفى قال وضرب يومئذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بشماله على يمينه لعثمان وقال إنه ذهب في حاجة الله ورسوله (7/422)
وجعلت الرسل تختلف بينهم فأجمعوا على الصلح فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة رجال فصالحه كما ذكرنا في براءة 7 فأقام بالحديبية بضعة عشر يوما ويقال عشرين ليلة ثم انصرف فلما كان ب ضجنان نزل عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا فقال جبريل يهنيك يا رسول الله وهنأه المسلمون
والقول الثاني أن هذا الفتح فتح مكة رواه مسروق عن عائشة وبه قال السدي وقال بعض من ذهب إلى هذا إنما وعد بفتح مكة بهذه الآية
والثالث أنه فتح خيبر قاله مجاهد والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين
والرابع أنه القضاء له بالإسلام قاله مقاتل وقال غيره حكمنا لك باظهار دينك والنصرة على عدوك
قوله تعالى ليغفر لك الله قال ثعلب اللام لام كي والمعنى لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث حسن معنى كي وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة قوله تعالى ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال ابن عباس والمعنى ما تقدم في الجاهلية وما تأخر ما لم تعلمه وهذا على سبيل التأكيد كما تقول فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه
قوله تعالى ويتم نعمته عليك فيه أربعة أقوال
أحدها أن ذلك في الجنة والثاني أنه بالنبوة والمغفرة رويا عن ابن عباس والثالث بفتح مكة والطائف وخيبر حكاه الماوردي والرابع باظهار دينك على سائر الأديان قاله أبو سليمان الدمشقي قوله تعالى ويهديك صراطا مستقيما أي ويثبتك عليه وقيل (7/423)
ويهدي بك وينصرك الله على عدوك نصرا عزيزا قال الزجاج أي نصرا ذا عز لا يقع معه ذل
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيآتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك (7/424)
شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه الله أجرا عظيما
قوله تعالى هو الذي أنزل السكينة أي السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين لئلا تنزعج قلوبهم لما يرد عليهم فسلموا لقضاء الله وكانوا قد اشتد عليهم صد المشركين لهم عن البيت حتى قال عمر علام نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ثم أوقع الله الرضى بما جرى في قلوب المسلمين فسلموا وأطاعوا
ليزدادوا إيمانا وذلك أنه كلما نزلت فريضة زاد إيمانهم
ولله جنود السموات والأرض يريد أن جميع أهل السموات والأرض ملك له لو أراد نصرة نبيه بغيركم لفعل ولكنه اختاركم لذلك فاشكروه
قوله تعالى ليدخل المؤمنين الآية سبب نزولها أنه لما نزل قوله إنا فتحنا لك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم هنيئا لك يا رسول الله بما أعطاك الله فما لنا فنزلت هذه الآية قاله أنس بن مالك قال مقاتل (7/425)
فلما سمع عبد الله بن أبي بذلك انطلق في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا ما لنا عند الله فنزلت ويعذب المنافقين الآية
قال ابن جرير كررت اللام في ليدخل على اللام في ليغفر فالمعنى إنا فتحنا لك ليغفر لك الله ليدخل المؤمنين ولذلك لم يدخل بينهما واو العطف والمعنى ليدخل وليعذب
قوله تعالى عليهم دائرة السوء قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بفتحها
قوله تعالى وكان ذلك أي ذلك الوعد بادخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله أي في حكمه فوزا عظيما والمعنى أنه حكم لهم بالفوز فلذلك وعدهم إدخال الجنة
قوله تعالى الظانين بالله ظن السوء فيه خمسة أقوال
أحدها أنهم ظنوا أن لله شريكا والثاني أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه والثالث أنهم ظنوا به حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أويهزم ولا يعود ظافرا والرابع أنهم ظنوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه و سلم بمنزلة واحدة عند الله والخامس ظنوا أن الله لا يبعث الموتى وقد بينا معنى دائرة السوء في براءة 98
وما بعد هذا قد سبق بيانه الفتح 4 الاحزاب 45 إلى قوله ليؤمنوا (7/426)
بالله ورسوله قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا بالياء ويعزروه ويوقروه ويسبحوه كلهن بالياء والباقون بالتاء على معنى قل لهم إنا أرسلناك لتؤمنوا وقرا علي بن أبي طالب وابن السميفع ويعززوه بزاءين وقد ذكرنا في الأعراف 157 معنى ويعزروه عند قوله وعزروه ونصرون
قوله تعالى ويوقروه أي يعظموه ويبجلوه واختار كثير من القراء الوقف هاهنا لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده
قوله تعالى ويسبحوه هذه الهاء ترجع إلى الله عز و جل والمراد بتسبيحه هاهنا الصلاة له قال المفسرون والمراد بصلاة البكرة الفجر وبصلاة الأصيل باقي الصلوات الخمس
قوله تعالى إن الذين يبايعونك يعني بيعة الرضوان بالحديبية وعلى ماذا بايعوه فيه قولان
أحدهما أنهم بايعوه على الموت قاله عبادة بن الصامت
والثاني على أن لا يفروا قاله جابر بن عبد الله ومعناهما متقارب لانه أراد على أن لا تفروا ولو متم وسميت بيعة لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة وكان العقد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنهم بايعوا الله عز و جل لأنه ضمن لهم الجنة بوفائهم
يد الله فوق أيديهم فيه أربعة أقوال
أحدها يد الله في الوفاء فوق أيديهم والثاني يد الله في الثواب فوق أيديهم والثالث يد الله عليهم في المنة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة ذكر هذه (7/427)
الأقوال الزجاج والرابع قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ذكره ابن جرير وابن كيسان
قوله تعالى فمن نكث أي نقض ما عقده من هذه البيعة فانما ينكث على نفسه أي يرجع ذلك النقض عليه ومن أوفى بما عاهد عليه الله من البيعة فسنؤتيه قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبان عن عاصم فسنؤتيه بالنون وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء أجرا عظيما وهو الجنة قال ابن السائب فلم ينكث العهد منهم غير رجل واحد يقال له الجد بن قيس وكان منافقا
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أوموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فانا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السموات (7/428)
والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى سيقول لك المخلفون من الأعراب قال ابن إسحاق لما أراد العمرة استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد فتثاقل عنه كثير منهم فهم الذين عنى الله بقوله سيقول لك المخلفون من الأعراب قال أبو صالح عن ابن عباس وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والديل وأسلم قال يونس النحوي الديل في عبد القيس ساكن الياء والدول من حنيفة ساكن الواو والدئل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي فأما المخلفون فانهم تخلفوا مخافة القتل شغلتنا أموالنا وأهلونا أي خفنا عليهم الضيعة فاستغفر لنا أي ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عليهم الضيعة فاستغفر لنا أي ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أي ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
قوله تعالى فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا قرأ حمزة والكسائي وخلف ضرا بضم الضاد والباقون بالفتح قال أبو علي الضر بالفتح خلاف النفع وبالضم سوء الحال ويجوز أن يكونا لغتين كالفقر والفقر وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم شيئا لم يقدر أحد على دفعه عنهم بل كان الله بما تعملون خبيرا من تخلفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون وذلك قوله بل ظننتم أي توهمتم أن (7/429)
لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أي لا يرجعون إلى المدينة لاستئصال العدو إياهم وزين ذلك في قلوبكم وذلك من تزيين الشيطان
قوله تعالى وكنتم قوما بورا قد ذكرناه في الفرقان 18
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله سيقول المخلفون الذين تخلفوا عن الحديبية إذا انطلقتم إلى مغانم وذلك أنهم لما انصرفوا عن الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر وخص بها من شهد الحديبية فانطلقوا إليها فقال هؤلاء المخلفون ذرونا نتبعكم قال الله تعالى يريون أن يبدلوا كلام الله وقرأ حمزة والكسائي وخلف أن يبدلوا كلم الله بكسر اللام وفي المعنى قولان
أحدهما أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة قاله ابن عباس والثاني أمر الله نبيه أن لا يسير معه منهم أحد وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلفين قاله مقاتل
وعلى القولين قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يخالف أمر الله فيكون تبديلا لأمره
قوله تعالى كذلكم قال الله من قبل فيه قولان (7/430)
أحدهما قال إن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية وهذا على القول الأول
والثاني قال لن تتبعونا وهذا قول مقاتل
فسيقولون بل تحسدوننا أي يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فان تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما
قوله تعالى ستدعون إلى قوم المعنى إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستدعون إلى جهاد قوم أولي بأس شديد وفي هؤلاء القوم ستة أقوال
أحدها أنهم فارس رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال عطاء ابن أبي رباح وعطاء الخراساني وابن أبي ليلى وابن جريج في آخرين والثاني فارس والروم قاله الحسن و رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد والثالث أنهم أهل الأوثان رواه ليث عن مجاهد والرابع أنهم الروم قاله كعب والخامس أنهم هوازن وغطفان وذلك يوم حنين قاله سعيد بن جبير وقتادة والسادس بنو حنيفة يوم اليمامة وهم أصحاب مسيلمة الكذاب قاله الزهري وابن السائب ومقاتل قال مقاتل خلافة أبي بكر في هذه بينة مؤكدة (7/431)
وقال رافع بن خديج كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم وقال بعض أهل العلم لا يجوز أن تكون هذه الآية إلا في العرب لقوله تقاتلونهم أو يسلمون وفارس والروم إنما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وقد استدل جماعة من العلماء على صحة إمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية لأنه إن أريد بها بنو حنيفة فأبو بكر دعا إلى قتالهم وإن أريد بها فارس والروم فعمر دعا إلى قتالهم والآية تلزمهم اتباع من يدعوهم وتتوعدهم على التخلف بالعقاب قال القاضي أبو يعلى وهذا يدل على صحة إمامتها إذا كان المتولي عن طاعتهما مستحقا للعقاب
قوله تعالى فان تطيعوا قال ابن جريج فان تطيعوا أبا بكر وعمر وإن تتولوا عن طاعتهما كما توليتم عن طاعة محمد صلى الله عليه و سلم في المسير إلى الحديبية وقال الزجاج المعنى إن تبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم يؤتكم الله أجرا حسنا وإن توليتم فأقمتم على نفاقكم وأعرضتم عن الإيمان والجهاد كما توليتم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يعذبكم عذابا أليما (7/432)
قوله تعالى ليس على الأعمى حرج قال المفسرون عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية
قوله تعالى يدخله جنات قرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبرا ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيدكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (7/433)
ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم وشهدوا بيعة الرضوان بقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وقد ذكرنا سبب هذه البيعة آنفا وإنما سميت بيعة الرضوان لقوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال بينما نحن قائلون زمن الحديبية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس قال فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه وقال عبد الله بن مغفل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة يبايع الناس وإني لأرفع أغصانها عن رأسه وقال بكير بن الأشج كانت الشجرة بفج نحو مكة قال نافع كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت
قوله تعالى فعلم ما في قلوبهم أي من الصدق والوفاء والمعنى علم أنهم مخلصون فأنزل السكينة عليهم يعني الطمأنينة والرضى حتى (7/434)
بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفروا وأثابهم أي عوضهم على الرضى بقضائه والصبر على أمره فتحا قريبا وهو خيبر ومغانم كثيرة يأخذونها أي من خيبر لأنها كانت ذات عقار وأموال فأما قوله بعد هذا وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فقال المفسرون هي الفتوح التي تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة
فعجل لكم هذه فيها قولان أحدهما أنها غنيمة خيبر قاله مجاهد وقتادة والجمهور والثاني أنه الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين قريش رواه العوفي عن ابن عباس
قوله تعالى وكف أيدي الناس عنكم فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود هموا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلفوهم في المدينة فكفهم الله عن ذلك قاله قتادة
والثاني أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا عنهم قاله مقاتل وقال الفراء كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر فقصدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصالحوه وخلوا بينه وبين خيبر وقال غيرهما بل همت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة فكفهم الله عن ذلك
والثالث أنهم أهل مكة كفهم الله بالصلح حكاهما الثعلبي وغيره (7/435)
ففي قوله عنكم قولان أحدهما أنه على أصله قاله الأكثرون والثاني عن عيالكم قاله ابن قتيبة وهو مقتضى قول قتادة
ولتكون آية للمؤمنين في المشار إليها قولان
احدهما أنها الفعلة التي فعلها بكم من كف أيديهم عنكم كانت آية اللمؤمنين فعلموا أن الله تعالى متولي حراستهم في مشهدهم ومغيبهم
والثاني أنها خيبر كان فتحها علامة للمؤمنين في تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما وعدهم به
قوله تعالى ويهديكم صراطا مستقيما فيه قولان
أحدهما طريق التوكل عليه والتفويض إليه وهذا على القول الأول
والثاني يزيدكم هدى بالتصديق بمحمد صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة
قوله تعالى وأخرى المعنى وعدكم الله مغانم أخرى وفيها أربعة أقوال
أحدها أنها ما فتح للمسلمين بعد ذلك روى سماك الحنفي عن ابن عباس وأخرى لم تقدروا عليها قال ما فتح لكم من هذه الفتوح وبه قال مجاهد
والثاني أنها خيبر رواه عطية والضحاك عن ابن عباس وبه قال ابن زيد
والثالث فارس والروم روي عن ابن عباس أيضا وبه قال الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى
والرابع مكة ذكره قتادة وابن قتيبة
قوله تعالى قد أحاط الله بها فيه قولان أحدهما أحاط بها علما (7/436)
أنها ستكون من فتوحكم والثاني حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها
قوله تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا هذا خطاب لأهل الحديبية قاله قتادة والذين كفروا مشركو قريش فعلى هذا يكون المعنى لو قاتلوكم يوم الحديبية لولوا الأدبار لما في قلوبهم من الرعب ثم لا يجدون وليا لأن لله قد خذلهم قال الزجاج المعنى لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليه لأن سنة الله النصرة لأوليائه وسنة الله منصوبة على المصدر لأن قوله لولوا الأدبار معناه سن الله عز و جل خذلانهم سنة وقد مر مثل هذا في قوله كتاب الله عليكم النساء 24 وقوله صنع الله النمل 88
قوله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهله مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فأخذهم سلما فاستحياهم وأنزل الله (7/437)
هذه الآية وروى عبد الله بن مغفل قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديبة في أصل الشجرة فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم هل جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أمانا قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم ونزلت هذه الآية وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث خيلا فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار فأرسلهم وقال مقاتل خرجوا يقاتلون رسول الله صلى الله عليه و سلم فهزمهم النبي صلى الله عليه و سلم بالطعن والنبل حتى أدخلهم بيوت مكة قال المفسرون ومعنى الآية أن الله تعالى ذكر منته إذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم وفي بطن مكة ثلاثة أقوال أحدها أنه الحديبية قاله أنس والثاني وادي مكة قاله السدي والثالث التنعيم حكاه أبو سليمان الدمشقي فأما مكة فقال الزجاج مكة لا تنصرف لأنها مؤنثة وهي معرفة ويصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة والميم تبدل من الباء يقال ضربة لازم ولازب ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم امتك الفصيل مافي ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى فيه شيئا فيكون سميت (7/438)
بذلك لشدة الازدحام فيها قال والقول الأول أحسن وقال قطرب مكة من تمككت المخ إذا أكلته وقال ابن فارس تمككت العظم إذا أخرجت مخه والتمكك الاستقصاء وفي الحديث لا تمككوا على غرمائكم
وفي تسمية مكة أربعة أقوال
أحدها لأنها مثابة يؤمها الخلق من كل فج وكأنها هي التي تجذبهم إليها وذلك من قول العرب امتك الفصيل ما في ضرع الناقة
والثاني أنها سميت مكة من قولك بككت الرجل إذا وضعت منه ورددت نخوته فكأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه وتنقصه وأنشدوا ... يا مكة الفاجر مكي مكا ... ولا تمكي مذحجا وعكا ...
والثالث أنها سميت بذلك لجهد أهلها
والرابع لقلة الماء بها
وهل مكة وبكة واحد قد ذكرناه في آل عمران 96
قوله تعالى من بعد أن أظفركم عليهم أي بهم يقال ظفرت بفلان وظفرت عليه
قوله تعالى وكان الله بما تعلمون بصيرا قرأ أبو عمرو يعملون بالياء والباقون بالتاء (7/439)
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما
قوله تعالى هم الذين كفروا يعني أهل مكة وصدوهم عن المسجد الحرام أن تطوفوا به وتحلوا من عمرتكم والهدي قال الزجاج أي وصدوا الهدي معكوفا أي محبوسا أن يبلغ أي عن أن يبلغ محله قال المفسرون محله منحره وهو حيث يحل نحره ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات وهم المستضعفون بمكة لم تعلموهم أي لم تعرفوهم أن تطؤوهم بالقتل ومعنى الآية لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بالقتل وتوقعوا بهم ولا تعرفونهم فتصيبكم منهم معرة وفيها أربعة أقوال أحدهما إثم قاله ابن زيد والثاني غرم الدية قاله ابن إسحاق والثالث كفارة قتل الخطأ قاله ابن السائب والرابع عيب بقتل من هو على دينكم حكاه جماعة من المفسرين وفي الآية محذوف تقديره لادخلتكم من عامكم هذا وإنما حلت بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته أي في دينه من يشاء من أهل مكة وهم الذين أسلموا بعد الصلح لو تزيلوا قال ابن عباس لو تفرقوا وقال ابن قتيبة والزجاج لو تميزوا (7/440)
قال المفسرون لو انماز المؤمنون من المشركين لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي بأيديكم وقال قوم لو تزيل المؤمنون من أصلاب الكفار لعذبنا الكفار وقال بعضهم قوله لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لولا رجال والثاني لو تزيلوا وقوله اذ جعل من صلة قوله لعذبنا والحمية الانفعة والجبرية قال المفسرون وانما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم دخول مكة فقالوا يدخلون علينا وقد قتلوا ابناءنا واخواننا فتتحدث العرب بذلك والله لا يكون ذلك فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فلم يدخلهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم وقيل الحمية ما تداخل سهيل بن عمرو من الانفة ان يكتب في كتاب الصلح ذكر الرحمن الرحيم وذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى وألزمهم كلمة التقوى فيه خمسة أقوال
أحدهما لا اله الا الله قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد في آخرين وقد روي مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم فعلى هذا يكون معنى الزمهم حكم لهم بها وهي التي تنفي الشرك (7/441)
والثاني لا إله إلا الله والله أكبر قاله ابن عمر وعن علي بن أبي طالب كالقولين
والثالث لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قاله عطاء بن أبي رباح
والرابع لا إله إلا الله محمد رسول الله قاله عطاء الخرساني
والخامس بسم الله الرحمن الرحيم قاله الزهري
فعلى هذا يكون المعنى أنه لما أبى المشركون أن يكتبوا هذا في كتاب الصلح ألزمه الله المؤمنين وكانوا أحق بها من المشركين و كانوا أهلها في علم الله تعالى
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق قال المفسرون سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلا يقول له لتدخلن المسجد الحرام إلى قوله لا تخافون ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك فلما رجعوا (7/442)
ولم يدخلوا قال المنافقون أين رؤياه التي رأى فنزلت هذه الآية فدخلوا في العام المقبل
وفي قوله إن شاء الله ستة أقوال
أحدها أن إن بمعنى إذ قاله أبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني أنه استثناء من الله وقد علمه والخلق يستثنون فيما لا يعلمون قاله ثعلب فعلى هذا يكون المعنى أنه علم أنهم سيدخلونه ولكن استثنى على ما أمر الخلق به من الاستثناء
والثالث أن المعنى لتدخلن المسجد الحرام إن أمركم الله به قاله الزجاج
والرابع أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم لأنه علم أن بعضهم يموت حكاه الماوردي
والخامس أنه على وجه الحكاية لما رآه النبي صلى الله عليه و سلم في المنام أن قائلا يقول لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين حكاه القاضي أبو يعلى (7/443)
والسادس أنه يعود إلى الأمن والخوف فأما الدخول فلا شك فيه حكاه الثعلبي
قوله تعالى آمنين من العدو محلقين رؤوسكم ومقصرين من الشعر لا تخافون عدوا
فعلم ما لم تعلموا فيه ثلاثة أقوال
أحدها علم أن الصلاح في الصلح والثاني أن في تأخير الدخول صلاحا والثالث فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك
قوله تعالى فجعل من دون ذلك فتحا قريبا فيه قولان
أحدهما فتح خيبر قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عطاء وابن زيد ومقاتل
والثاني صلح الحديبية قاله مجاهد والزهري وابن إسحاق وقد بينا كيف كان فتحا في أول السورة
وما بعد هذا مفسر في براءة 33 وكفى بالله شهيدا وفيه قولان (7/444)
أحدهما أنه شهد له على نفسه يظهره على الدين كله قاله الحسن
والثاني كفى به شيهدا أن محمدا رسوله قاله مقاتل
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما
قوله تعالى محمد رسول الله وقرأ الشعبي وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدري محمدا رسول الله بالنصب فيهما قال ابن عباس شهد له بالرسالة
قوله تعالى والذين معه يعني أصحابه والأشداء جمع شديد قال الزجاج والأصل أشدداء نحو نصيب وأنصباء ولكن الدالين تحركتا فأدغمت الأولى في الثانية ومثله من يرتد منكم المائدة 54
قوله تعالى رحماء بينهم الرحماء جمع رحيم والمعنى أنهم يغلظون على الكفار ويتوادون بينهم تراهم ركعا سجدا يصف كثرة (7/445)
صلاتهم يبتغون فضلا من الله وهو الجنة ورضوانا وهو رضى الله عنهم وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله ورضوانا طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة
قوله تعالى سيماهم أي علامتهم في وجوههم وهل هذه العلامة في الدنيا أم في الآخرة فيه قولان
أحدهما في الدنيا ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها السمت الحسن قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة وقال في رواية مجاهد أما إنه ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه وكذلك قال مجاهد ليس بندب التراب في الوجه ولكنه الخشوع والوقار والتواضع
والثاني أنه ندى الطهور وثرى الأرض قاله سعيد بن جبير وقال أبو العالية لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب وقال الأوزاعي بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض (7/446)
والثالث أنه السهوم فاذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارا قال الحسن البصري سيماهم في وجوههم الصفرة وقال سعيد بن جبير أثر السهر وقال شمر بن عطية هو تهيج في الوجه من سهر الليل
والقول الثاني أنها في الآخرة ثم فيه قولان
أحدهما أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضا يوم القيامة قاله عطية العوفي وإلى نحو هذا ذهب الحسن والزهري وروى العوفي عن ابن عباس قال صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة
والثاني أنهم يبعثون غرا محجلين من أثر الطهور ذكره الزجاج
قوله تعالى ذلك مثلهم أي صفتهم والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه في التوراة هذا
فأما قوله ومثلهم في الإنجيل ففيه ثلاثة أقوال (7/447)
أحدها أن هذا المثل المذكور أنه في التوراة هو مثلهم في الإنجيل قال مجاهد مثلهم في التوراة والإنجيل واحد
والثاني أن المتقدم مثلهم في التوراة فأما مثلهم في الإنجيل فهو قوله كزرع وهذا قول الضحاك وابن زيد
والثالث أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى أخرج شطأه وقرأ ابن كثير وابن عامر شطأه بفتح الطاء والهمزة وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي شطأة بسكون الطاء وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية وابن أبي عبلة شطاءه بفتح الطاء وبالمد والهمزة وبألف قال أبو عبيدة أي فراخه يقال أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ فآزره أي ساواه وصار مثل الأم وقرأ ابن عامر فأزره مقصورة الهمزة مثل فعله وقال ابن قتيبة آزره أعانه وقواه فاستغلظ أي غلظ فاستوى على سوقه وهي جمع ساق وهذا مثل ضربه الله عز و جل للنبي صلى الله عليه و سلم إذ خرج وحده فأيده بأصحابه كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كبرت وغلظت واستحكمت وقرأ ابن كثير على سؤقه مهموزة والباقون بلا همزة وقال قتادة في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع (7/448)
وفيمن أريد بهذا المثل قولان
أحدهما أن أصل الزرع عبد المطلب أخرج شطأه أخرج محمدا صلى الله عليه و سلم فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى بعثمان على سوقه علي بن أبي طالب رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أن المراد بالزرع محمد صلى الله عليه و سلم أخرج شطاه أبو بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي يعجب الزراع يعني المؤمنين ليغيظ بهم الكفار وهو قول عمر لأهل مكة لا يعبد الله سرا بعد اليوم رواه الضحاك عن ابن عباس ومبارك عن الحسن
قوله تعالى ليغيظ بهم الكفار أي إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار وقال مالك بن أنس من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد أصابته هذه الآية وقال ابن إدريس لا آمن ان يكونوا قد ضاعوا الكفار يعني الرافضة لأن الله تعالى يقول ليغيظ بهم الكفار (7/449)
قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما قال الزجاج في من قولان
أحدهما أن يكون تخليصا للجنس من غيره كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 30 ومثله أن تقول أنفق من الدراهم أي اجعل نفقتك من هذا الجنس قال ابن الأنباري معنى الآية وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس أي من جنس الصحابة
والثاني أن يكون هذا الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح (7/450)
سورة الحجرات وهي مدنية باجماعهم
روى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراه وأعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضلني ربي بالمفصل أما السبع الطول فقد ذكرناها عند قوله (7/451)
ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 وأما المئون فقال ابن قتيبة هي ماولي الطول وإنما سميت بالمئين لأن كل سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها والمثاني ما ولي المئين من السور التي دون المائة كأن المئين مباد وهذه مثان وأما المفصل فهو ما يلي المثاني من قصار السور وإنما سميت مفصلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر بسم الله الرحمن الرحيم
وقد ذكر الماوردي في أول تفسيره في المفصل ثلاثة أقوال أحدها أنه من أول سورة محمد إلى آخر القرآن قاله الأكثرون والثاني من سورة قاف إلى آخره حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة والثالث من الضحى إلى آخره قاله ابن عباس (7/452)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر (7/453)
بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي وقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتها فنزل قوله يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله إلى قوله ولو أنهم صبروا فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه رواه عبد الله بن الزبير
والثاني أن قوما ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم النحر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعيدوا الذبح فنزلت الآية قاله الحسن (7/454)
والثالث أنها نزلت في قوم كانوا يقولون لو أنزل الله في كذا وكذا فكره الله ذلك وقدم فيه قاله قتادة
والرابع أنها نزلت في عمرو بن أمية الضمري وكان قد قتل رجلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن السائب وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وروى العوفي عنه قال نهو أن يتكلموا بين يدي كلامه وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم ومعنى الآية على جميع الأقوال لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أو يفعل قال ابن قتيبة يقال فلان يقدم بين يدي الإمام وبين يدي أبيه أي يعجل بالأمر والنهي دونه
فأما تقدموا فقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو رزين وعائشة وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وابن سيرين وقتادة وابن يعمر ويعقوب بفتح التاء والدال وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الدال قال الفراء (7/455)
كلاهما صواب يقال قدمت وتقدمت وقال الزجاج كلاهما واحد فأما بين يدي الله ورسوله فهو عبارة عن الأمام لأن ما بين يدي الإنسان أمامه فالمعنى لا تقدموا قدام الأمير
قوله تعالى لا ترفعوا أصواتكم في سبب نزولها قولان
أحدهما أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفا في حديث ابن الزبير وهذا قول ابن أبي مليكة
والثاني أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت فربما كان إذا تكلم تأذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بصوته قاله مقاتل (7/456)
قوله تعالى ولا تجهر له بالقول فيه قولان
أحدهما أن الجهر بالصوت في المخاطبة قاله الأكثرون
والثاني لا تدعوه باسمه يا محمد كما يدعو بعضكم بعضا ولكن قولوا يا رسول الله ويا نبي الله وهو معنى قول سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل
قوله تعالى أن تحبط قال ابن قتيبة لئلا تحبط وقال الأخفش مخافة أن تحبط قال أبو سليمان الدمشقي وقد قيل معنى الإحباط هاهنا نقص المنزلة لا إسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر
قوله تعالى إن الذين يغضون أصواتهم قال ابن عباس لما نزل قوله لا ترفعوا أصواتكم تألى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا كأخي السرار فأنزل الله في أبي بكر إن الذين يغضون أصواتهم والغض النقص كما بينا عند قوله قل للمؤمنين يغضوا النور 30 (7/457)
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم قال ابن عباس أخلصها للتقوى من المعصية وقال الزجاج اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين كما تقول قد امتحنت هذا الذهب والفضة أي اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا فعلمت حقيقة كل واحد منهما وقال ابن جرير اختبرها بامتحانه إياها فاصطفاها وأخلصها للتقوى
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم
قوله تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادوا على الباب يا محمد اخرج إلينا فان مدحنا زين وإن ذمنا شين فخرج وهو يقول إنما ذلكم الله فقالوا ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا فقال الزبرقان بن بدر لشاب منهم قم فاذكر فضلك وفضل قومك فقام فذكر ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابت بن قيس فأجابه وقام شاعرهم فأجابه حسان فقال الأقرع بن حابس والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر ثم دنا فأسلم فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وكساهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين وقال ابن اسحاق نزلت في جفاة بني تميم وكان فيهم الأقرع (7/458)
ابن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم المنقري وخالد بن مالك وسويد بن هشام وهما نهشليان والقعقاع بن معبد وعطاء ابن حابس ووكيع بن وكيع
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا بذلك هربوا وتركوا عليالهم فسباهم عيينة فجاء رجالهم يفدون الذاراري فقدموا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائل فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثالث أن ناسا من العرب قال بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فان يكن نبيا نكن أسعد الناس به وإن يكن ملكا نعش في جناجه فجاؤوا فجعلوا ينادون يا محمد يا محمد فنزلت هذه الآية قاله زيد بن أرقم
فأما الحجرات فقرأ أبي بن كعب وعائشة وأبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو العالية وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة بفتح الجيم وأسكنها أبو رزين وسعيد بن المسيب وابن أبي عبلة وضمها الباقون قال الفراء وجه (7/459)
الكلام أن تضم الحاء والجيم وبعض العرب يقول الحجرات والركبات وربما خففوا فقالوا الحجرات والتخفيف في تميم والتثقيل في أهل الحجاز وقال ابن قتيبة واحد الحجرات حجرة مثل ظلمة وظلمات قال المفسرون وإنما نادوا من وراء الحجرات لأنهم لم يعلموا في أي الحجر رسول الله
قوله تعالى ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم قال الزجاج أي لكان الصبر خيرا لهم وفي وجه كونه خيرا لهم قولان
أحدهما لكان خيرا لهم فيما قدموا له من فداء ذراريهم فلو صبروا خلى سبيلهم بغير فداء قاله مقاتل
والثاني لكان أحسن لآدابهم في طاعة الله ورسوله ذكره الماوردي
قوله تعالى والله غفور رحيم أي لمن تاب منهم
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلان من الله ونعمة والله عليم حكيم
قول تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فسار بعض الطريق ثم خاف فرجع فقال إنهم قد منعوا (7/460)
الصدقة وأرادوا قتلي فصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم البعث إليهم فنزلت هذه الآية وقد ذكرت القصد في كتاب المغني وفي الحدائق مستوفاة وذكرت معنى فتبينوا في سورة النساء 94 والنبأ الخبر وأن بمعنى لئلا والجهالة هاهنا أن يجهل حال القوم فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتهم بالخطأ نادمين
ثم خوفهم فقال واعلموا أن فيكم رسول الله أي إن كذبتموه أخبره الله فافتضحتم ثم قال لو يطيعكم في كثير من الأمر أي مما تخبرونه فيه بالباطل لعنتم أي لوقعتم في عنت قال ابن قتيبة وهو الضرر والفساد وقال غيره هو الإثم والهلاك وذلك أن المسلمين لم سمعوا أن أولئك القوم قد كفروا قالوا ابعث إليهم يا رسول الله واغزهم واقتلهم ثم خاطب المؤمنين فقال ولكن الله حبب إليكم الإيمان إلى قوله والعصيان ثم عاد إلى الخبر عنهم فقال أولئك هم الراشدون (7/461)
أي المهتدون إلى محاسن الأمور فضلا من الله قال الزجاج المعنى ففعل بكم ذلك فضلا أي للفضل والنعمة
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون
قوله تعالى وإن طائفتان الآية في سبب نزولها قولان
أحدهما ما روي البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم لو أتيت عبد الله بن أبي فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون فلما أتاه النبي صلى الله عليه و سلم قال إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنه أنزلت فيهم وإن طائفتان الآية وقد أخرجا جميعا من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج يعود سعد بن عبادة فمر بمجلس فيهم عبد الله بن أبي وعبد الله بن رواحة فخمر ابن أبي وجهه بردائه وقال لا تغبروا علينا فذكر الحديث وأن (7/462)
المسلمين والمشركين واليهود استبوا وقد ذكرت الحديث بطوله في المغني والحدائق وقال مقاتل وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأنصار وهو على حمار له فبال الحمار فقال عبد الله بن أبي أف وأمسك على أنفه فقال عبد الله بن رواحة والله لهو أطيب ريحا منك فكان بين قوم ابن أبي وابن رواحة والله لهو أطيب ريحا منك فكان بين قوم ابن أبي وابن رواحة ضرب بالنعال والأيدي والسعف ونزلت هذه الآية
والقول الثاني أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما فقال أحدهما لآخذن حقي عنوة وذلك لكثرة عشيرته ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال قاله قتادة وقال مجاهد المراد بالطائفتين الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصي بينهم وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود وأبو عمران الجوني اقتتلا على فعل اثنين مذكرين وقرأ أبو المتوكل الناجي وأبو الجون وابن أبي عبلة اقتتلتا بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين وقال الحسن وقتادة والسدي فأصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله عز و جل والرضى بما فيه لهما وعليها فان بغت إحداهما طلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء أي ترجع إلى أمر الله أي إلى طاعته في الصلح الذي أمر به (7/463)
قوله تعالى وأقسطوا أي اعدلوا في الإصلاح بينهما
قوله تعالى إنما المؤمنون إخوة قال الزجاج إذا كانوا متفقين في دينهم رجعوا باتفاقهم إلى أصل النسب لأنهم لآدم وحواء فاذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب
قوله تعالى فأصلحوا بين أخويكم قرأ الأكثرون بين أخويكم بياء على التثنية وقرأ أبي بن كعب ومعاوية وسعيد بن المسيب وابن جبير وقتادة وأبو العالية وابن يعمر وابن أبي عبلة ويعقوب بين إخوتكم بتاء مع كسر الهمزة على الجمع وقرأ علي بن أبي طالب وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن والشعبي وابن سيرين بين إخوانكم بالنون وألف قبلها قال قتادة ويعني بذلك الأوس والخزرج (7/464)
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى لا يسخر قوم من قوم هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب فأما أولها إلى قوله تعالى خيرا منهم فنزلت على سبب وفيه قولان أحدهما أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوما يريد الدنو من رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان به صمم فقال لرجل بين يديه افسح فقال له الرجل قد أصبت مجلسا فجلس مغضبا ثم قال للرجل من أنت قال أنا فلان فقال ثابت أنت ابن فلانة فذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فأغضى الرجل ونكس رأسه ونزل قوله تعالى لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رأوا من رثاثة حالهم فنزلت هذه الآية قاله الضحاك ومقاتل
وأما قوله تعالى ولا نساء من نساء فنزلت على سبب وفيه ثلاثة أقوال (7/465)
أحدها أن نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم عيرن أم سلمة بالقصر فنزلت هذه الآية قاله أنس بن مالك وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قصر أم سلمة
والثاني أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم سخرتا من أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حقوها وأرخت الطرف الآخر خلفها ولا تعلم فقالت إحداهما للأخرى انظري ما خلف أم سلمة كأنه لسان كلب قال أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
وأما قوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب فنزلت على سبب وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة ولهم ألقاب يدعون بها فجعل الرجل يدعو الرجل بلقبه فقيل له يا رسول الله إنهم يكرهون هذا فنزل (7/466)
قوله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب قاله أبو جبيرة بن الضحاك
والثاني أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة فقال له الرجل يا ابن اليهودية فنزلت ولا تنابزوا بالألقاب قاله الحسن
والثالث أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام فقال له يا أعرابي فقال له عبد الله يا يهودي فنزلت فيهما ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب قاله مقاتل
وأما التفسير فقوله تعالى لا يسخر قوم من قوم أي لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر عليه ولا ذو حسب بلئيم الحسب وأشباه ذلك مما ينقصه به عسى أن يكون عند الله خيرا منه وقد بينا في البقرة 54 أن القوم اسم الرجال دون النساء ولذلك قال ولا نساء من نساء وتلمزوا بمعنى تعيبوا وقد سبق بيانه التوبة 58 والمراد بالأنفس هاهنا الإخوان والمعنى لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم والتنابز التفاعل من النبز وهو مصدر والنبز الاسم والألقاب جمع لقب وهو اسم يدعى به الإنسان سوى الإسم الذي سمي به قال ابن قتيبة ولا تنابزوا بالألقاب أي لا تتداعوا بها والألقاب والأنباز واحد ومنه (7/467)
الحديث نبزهم الرافضة أي لقبهم وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال
أحدها تعيير التائب بسيئات قد كان عملها رواه عطية العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام كقوله لليهودي إذا أسلم يا يهودي وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني والقرظي
والثالث أنه قول الرجل للرجل يا كافر يا منافق قاله عكرمة
والرابع أنه تسميته بالأعمال السيئة كقوله يا زاني يا سارق يا فاسق قاله ابن زيد قال أهل العلم والمراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يعد ذما له فأما الألقاب التي تكسب حمدا وتكون صدقا فلا تكره كما قيل لأبي بكر عتيق ولعمر فاروق ولعثمان ذو النورين ولعلي أبو تراب (7/468)
ولخالد سيف الله ونحو ذلك وقوله بئس الاسم الفسوق أي تسميته فاسقا أو كافرا وقد آمن ومن لم يتب من التنابز فأولئك هم الظالمون وفيه قولان
أحدهما الضارون لأنفسهم بمعصيتهم قاله ابن عباس والثاني هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك قاله ابن زيد
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهمتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم
قوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن قال ابن عباس نهى الله تعالى المؤمن أن يظن بالمؤمن شرا وقال سعيد بن جبير هو الرجل يسمع من أخيه كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءا وقال الزجاج هو أن يظن بأهل الخير سوءا فأما أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم قال القاضي أبو يعلى هذه الآية تدل على أنه لم ينه عن جميع الظن والظن على أربعة أضرب محظور ومأمور به ومباح ومندوب إليه فأما المحظور فهو سوء الظن بالله تعالى والواجب حسن الظن بالله وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور وأما الظن المأمور به فهو ما لم ينصب عليه (7/469)
دليل يوصل إلى العلم به وقد تعبدنا بتنفيذ الحكم فيه والاقتصار على غالب الظن وإجراء الحكم عليه واجب وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول وتحري القبلة وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف فهذا وما كان من نظائره قد تعبدنا فيه بأحكام غالب الظنون فأما الظن المباح فكالشاك في الصلاة إذا كان إماما أمره النبي صلى الله عليه و سلم بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه وإن فعله كان مباحا وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ظننتم فلا تحققوا وهذا من الظن الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة فلا ينبغي له أن يحققه وأما الظن المندوب إليه فهو إحسان الظن بالأخ المسلم يندب إليه ويثاب عليه فأما ما روي في الحديث احترسوا من الناس بسوء الظن فالمراد الإحتراس بحفظ المال مثل أن يقول إن تركت بابي مفتوحا خشيت السراق (7/470)
قوله تعالى إن بعض الظن إثم قال المفسرون هو ما تكلم به مما ظنه من السوء بأخيه المسلم فإن لم يتكلم به فلا بأس وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإن لم ينطق به
قوله تعالى ولا تجسسوا وقرأ أبو رزين والحسن والضحاك وابن سيرين وأبو رجاء وابن يعمر بالحاء قال أبو عبيدة التجسس والتحسس واحد وهو التبحث ومنه الجاسوس وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء الاستماع لحديث القوم قال المفسرون التجسس البحث عن عيب المسليمن وعوراتهم فالمعنى لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذ ستره الله وقيل لابن مسعود هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا فقال إنا نهينا عن التجسس فان يظهر لنا شيء نأخذه به
قوله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا أي لا يتناول بعضكم بعضا ليظهر الغيب بما يسوؤه وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره قال أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته (7/471)
ثم ضرب الله للغيبة مثلا فقال أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا وقرأ نافع ميتا بالتشديد قال الزجاج وبيانه أن ذكرك بسوء من لم يحضر بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك قال القاضي أبو يعلى وهذا تأكيد لتحريم الغيبة لأن أكل لحم المسلم محظور ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة
قوله تعالى فكرهتموه وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري فكرهتموه برفع الكاف وتشديد الراء قال الفراء أي فقد بغض إليكم والمعنى واحد قال الزجاج والمعنى كما تكرهون أكل لحمه ميتا فكذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائبا
قوله تعالى واتقوا الله أي في الغيبة إن الله تواب على من تاب رحيم به
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (7/472)
قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها نزلت في ثابت بن قيس وقوله في الرجل الذي لم يفسح له أنت ابن فلانة وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله لا يسخر قوم من قوم الحجرات 11
والثاني أنه لما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذن وأراد أن يذل المشركين بذلك فلما أذن قال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أسيدا قبل اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئا يغيره وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا فاني إن قلت شيئا لتشهدن علي السماء ولتخبرن عني الأرض فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
والثالث أن عبدا أسود مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قبض فتولى غسله وتكفينه ودفنه فأثر ذلك عند الصحابة فنزلت هذه الآية قاله يزيد بن شجرة فأما المراد بالذكر والأنثى فآدم وحواء والمعنى إنكم تتساوون في النسب وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب فأما الشعوب فهي جمع شعب وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة والقبائل دونها كبكر من ربيعة وتميم من (7/473)
مضر هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد بالشعوب الموالي وبالقبائل العرب وقال أبو رزين الشعوب أهل الجبال الذين لا يعتزون لأحد والقبائل قبائل العرب وقال أبو سليمان الدمشقي وقد قيل إن القبائل هي الأصول والشعوب هي البطون التي تتشعب منها وهذا ضد القول الأول
قوله تعالى لتعارفوا أي ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده قال الزجاج المعنى جعلناكم كذلك لتعارفوا لا لتفاخروا ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والضحاك وابن يعمر وأبان عن عاصم لتعرفوا باسكان العين وكسر الراء من غير ألف وقرأ مجاهد وأبو المتوكل وابن محيصن لتعارفوا بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة وقرأ أبو نهيك والأعمش لتتعرفوا بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غير ألف
قوله تعالى إن أكرمكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو الجوزاء أن بفتح الهمزة قال الفراء من فتح أن فكأنه قال لتعارفوا أن الكريم التقي ولو كان كذلك لكانت لتعرفوا غير أنه يجوز لتعارفوا على معنى ليعرف بعضكم بعضا أن أكرمكم عند الله أتقاكم (7/474)
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون
قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قال مجاهد نزلت في أعراب بني أسد ابن خزيمة ووصف غيره حالهم فقال قدموا المدينة في سنة مجدبة فأظهروا (7/475)
الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك فنزلت فيهم هذه الآية وقال السدي نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح وكانوا يقولون آمنا بالله ليأمنوا على أنفسهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت فيهم هذه الآية وقال مقاتل كانت منازلهم بين مكة والمدينة فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا آمنا ليأمنوا على دمائهم وأموالهم فلما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية استنفرهم فلم ينفروا معه
قوله تعالى قل لم تؤمنوا أي لم تصدقوا ولكن قولوا أسلمنا قال ابن قتيبة أي استسلمنا من خوف السيف وانقدنا قال الزجاج الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وبذلك يحقن الدم فان كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان فأخرج الله هؤلاء من الإيمان بقوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذا من القتل وقال مقاتل ولما بمعنى ولم يدخل التصديق في قلوبكم (7/476)
قوله تعالى وإن تطيعوا الله ورسوله قال ابن عباس إن تخلصوا الإيمان لا يألتكم قرأ أبو عمرو يألتكم بالف وهمز وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة وقرأ الباقون يلتكم بغير ألف ولا همز فقراءة أبي عمرو من ألت يألت وقراءة الباقين من لات يليت قال الفراء وهما لغتان قال الزجاج معناهما واحد والمعنى لا ينقصكم وقال أبو عبيدة فيها ثلاث لغات ألت يألت تقديرها أفك يأفك وألات يليت تقديرها أقال يقيل ولات يليت قال رؤبة ... وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت ...
قوله تعالى من أعمالكم أي من ثوابها ثم نعت الصادقين في إيمانهم بالآية التي تلي هذه ومعنى يرتابوا يشكوا وإنما ذكر الجهاد لأن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فرضا في ذلك الوقت أولئك هم الصادقون في إيمانهم فلما نزلت هاتان الآيتان أتو رسول الله صلى الله عليه و سلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون فنزلت هذه الآية
قوله تعالى قل أتعلمون الله بدينكم وعلم بمعنى أعلم ولذلك دخلت الباء في قوله بدينكم والمعنى أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه (7/477)
أي هو عالم بذلك لا يحتاج إلى أخباركم وفيهم نزل قوله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قالوا أسلمنا ولم نقاتلك والله أعلم (7/478)
سورة ق ويقال لها سورة الباسقات
روى العوفي وغيره عن ابن عباس أنها مكية وكذلك قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آية مدنية وهي قوله تعالى ولقد خلقنا السموات والأرض الآية ق 38 بسم الله الرحمن الرحيم ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج
قوله تعالى ق قرأ الجمهور باسكان الفاء وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (8/3)
وأبو المتوكل وأبو رجاء وأبو الجوزاء قاف بنصب الفاء وقرأ أبو رزين وقتادة قاف برفع الفاء وقرأ الحسن وأبو عمران قاف بكسر الفاء وفي ق خمسة أقوال
أحدها أنه قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه جبل من زبر جدة خضراء قاله أبو صالح عن ابن عباس وروى عكرمة عن ابن بعاس قال خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله عز و جل أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية وقال مجاهد هو جبل محيط بالأرض وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء وعليه كنفا السماء وخضرة السماء منه
والثالث أنه جبل من نار في النار قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس
والرابع أنه اسم من أسماء القرآن قاله قتادة
والخامس أنه حرف من كلمة ثم فيه خمسة أقوال أحدها أنه افتتاح اسمه قدير قاله أبو العالية والثاني أنه افتتاح أسمائه القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك قاله القرظي والثالث أنه افتتاح قضي الأمر وأنشدوا ... قلنا لها قفي فقالت قاف ...
معناه أقف فاكتفت بالقاف من أقف حكاه جماعة منهم الزجاج والرابع (8/4)
قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما قاله أبو بكر الوراق والخامس قل يا محمد حكاه الثعلبي
قوله تعالى والقرآن المجيد قال ابن عباس وابن جبير المجيد الكريم وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال
أحدها أنه مضمر تقديره ليبعثن بعد الموت قاله الفراء وابن قتيبة ويدل عليه قول الكفار هذا هذا شيء عجيب
والثاني أنه قوله قد علمنا ما تنقص الأرض منهم فيكون المعنى قاف والقرآن المجيد لقد علمنا فحذفت اللام لأن ما قبلها عوض منها كقوله والشمس وضحاها قد أفلح أي لقد أفلح أجاز هذا القول الزجاج (8/5)
والثالث أنه قوله ما يلفظ من قول حكي عن الأخفش
والرابع أنه في سورة أخرى حكاه أبو سليمان الدمشقي ولم يبين في أي سورة
قوله تعالى بل عجبوا مفسر في ص 4 إلى قوله شيء عجيب أي معجب
أئا متنا قال الأخفش هذا الكلام على جواب كأنه قيل لهم إنكم ترجعون فقالوا أئذا متنا وكنا ترابا وقال غيره تقدير الكلام ق والقرآن ليبعثن فقال أئذا متنا وكنا ترابا والمعنى أنبعث إذا كنا كذلك وقال ابن جرير لما تعجبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه و سلم الله عليه وسلم فقالوا هذا شيء عجيب كان كأنه قال لهم ستعلمون إذا بعثتم ما يكون حالكم في تكذيبكم محمدا فقالوا أئذا متنا وكنا ترابا
قوله تعالى ذلك رجع أي رد إلى الحياة بعيد قال ابن قتيبة أي لا يكون
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم أي ما تأكل من لحومهم ودمائهم واشعارهم إذا ماتوا يعني أن ذلك لا يعزب عن علمه وعندنا مع علمنا بذلك كتاب حفيظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون
بل كذبوا بالحق وهو القرآن والمريج المختلط قال ابن قتيبة يقال مرج أمر الناس ومرج الدين وأصل هذا أن يقلق الشيء ولا يستقر يقال مرج الخاتم في يدي إذا قلق للهزال قال المفسرون ومعنى اختلاط أمرهم أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم مرة ساحر ومرة شاعر (8/6)
ومرة معلم يوقولون للقرآن مرة سحر ومرة مفترى ومرة رجز فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم
أفلم ينظروا إلى المساء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ولما لها من فروج والأرض مددناها والقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد
ثم دلهم على قدرته على البعث بقوله أفلم ينظروا إلى المساء فوقهم كيف بنيناها بغير عمد وزيناها بالكواكب وما لها من فروج أي من صدوع وشقو والزوج الجنس والبهيج الحسن قاله أبو عبيدة وقال ابن قتيبة البهيج الذي يبتهج به
قوله تعالى تبصرة وذكرى لكل عبد منيب قال الزجاج أي فعلنا ذلك لنبصر وندل على القدرة والمنيب الذي يرجع إلى الله ويفكر في قدرته
قوله تعالى ونزلنا من السماء ماء وهو المطر مباركا أي كثير (8/7)
الخير فيه حياة كل شيء فأنبتتا به جنات وهي البساتين وحب الحصيد أراد الحب الحصيد فأضافه إلى نفسه كقوله لهو حق اليقين الواقعة 95 وقوله من حبل الوريد ق 16 فالحبل هو الوريد وكما يقال صلاة الأولى يراد الصلاة الأولى ويقال مسجد الجامع يراد المسجد الجامع وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها وهذا قول الفراء وابن قتيبة وقال غيرهما أراد حب النبت الحصيد والنخل أي وأنبتنا النخل باسقات وبسوقها طولها قال ابن قتيبة يقال بسق الشيء يبسق بسوقا إذا طال والنضيد المنضود بعضه فوق بعض وذلك قبل أن يتفتح فاذا انشق جف طلعه وتفرق لبس بنضيد
قوله تعالى زرقا للعباد أي أنبتنا هذه الأشياء للرزق وأحيينا به أي بالمطر بلدة ميتا كذلك الخروج من القبور
ثم ذكر الأمم المكذبة بما بعد هذا وقد سبق بيانه إلى قوله فحق وعيد أي وجب عليهم عذابي
أفعيينا بالخلق الأول هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا عن ابتداء الخلق وهو الخلق الأول فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني وهذا تقرير لهم لأنهم اعرتفوا أنه الخالق وأنكروا البعث بل هم في لبس أي في شك من خلق جديد وهو البعث
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ (8/8)
في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
ولقد خلقنا الإنسان يعني ابن آدم ونعلم ما توسوس به نفسه أي ما تحدثه به نفسه وقال الزجاج نعلم ما يكنه في نفسه
قوله تعالى ونحن أقرب إليه أي بالعلم من حبل الوريد الحبل هو الوريد وإنما أضافه إلى نفسه لما شرحناه آنفا في قوله وحب الحصيد ق 9 قال العراء والوريد عرق بين الحلقوم والعباوين وعنه أيضا قال عرق بين اللبة والعلباوين وقال الزجاج الوريد عرق في باطن العنق وهما وريدان والعلباوان العصبتان الصفراوان في متن العنق واللبتان مجرى القرط في العنق وقال ابن الأنباري اللبة حيث يتذبذب القرط مما يقرب من شحمة الأذن وحكى بعض العلماء أن الوريد عرق متفرق في البدن مخالط لجميع الأعضاء فلما كانت أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضها أعلم أن علمه لا يحجبه شيء والمعنى ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان وهما الملكان الموكلان بابن آدم يتلقيان علمه وقوله إذا يتلقى المتلقيان (8/9)
أي يأخذان ذلك ويثبتانه عن اليمين كاتب الحسنان وعن الشمال كاتب السيئات قال الزجاج والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فدل أحدهما على ا لآخر فحذف المدلول عليه قال الشاعر ... نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف ...
وقال آخر ... رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوى رماني ...
المعنى كنت منه بريئا وقال ابن قتيبة القعيد بمعنى قاعد كما يقال قدير بمعنى قادر ويكون القعيد بمعنى مقاعد كالأكيل والشريب بمنزلة المؤاكل والمشارب
قوله تعالى ما يلفظ يعني الانسان أي ما يتلكم من كلام فيلفظه أي يرميه من فمه إلا لديه رقيب أي حافظ وهو الملك الموكل به إما صاحب اليمين وإما صاحب الشمال عتيد قال الزجاج العتيد (8/10)
الثابت اللازم وقال غيره العتيد الحاضر معه أينما كان وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة وقال ابن عباس جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار واختلوا هل يكتبان جميع أفعاله وأقواله على قولين
أحدهما أنهما يكتبانا عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه قاله مجاهد
والثاني أنهما لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يوزر قاله عكرمة فأما مجلسهما فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة وقد روى علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما (8/11)
لا يعنيك وروي عنا لحسن والضحاك قالا مجلسهما تحت الشعر على الحنك
قوله تعالى وجاءت سكرة الموت وهي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله وتدله على أنه ميت بالحق وفيه وجهان
أحدهما أن معناه جاءت بحقيقة الموت
والثاني بالحق من أمر الآخرة فأبانت للإنسان ما لم يكن بينا له من أمر الآخرة ذكر الوجهين الفراء وابن جرير
وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجاءت سكرة الحق بالموت قال ابن جرير ولهذه القراءة وجهان
أحدهما أن يكون الحق هو الله تعالى فيكون المعنى وجاءت سكرة الله بالموت
والثاني أن تكون السكرة هي الموت أضيفت إلى نفسها كقوله إن هذا لهو حق اليقين الواقعة 95 فيكون المعنى وجاءت السكرة الحق بالموت بتقديم الحق وقرأ ابن مسعود وأبو عمران وجاءت سكرات على الجمع الحق بالموت بتقديم الحق وقرأ ابي ابن كعب وسعيد بن جبير وجاءت سكرات الموت على الجمع بالحق بتأخير الحق (8/12)
قوله تعالى ذلك أي فيقال للإنسان حينئذ ذلك أي ذلك الموت ما كنت منه تحيد أي تهرب وتفر وقال ابن عباس تكره
قوله تعالى ونفخ في الصور يعني نفخة البعث ذلك اليوم يوم الوعيد أي يوم وقوع الوعيد
قوله تعالى معها سائق فيه قولان
أحدهما أن السائق ملك يسوقها إلى محشرها قاله أبو هريرة
والثاني أنه قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها
وفي الشهيد ثلاثة أقوال
أحدها أنه ملك يشهد عليها بعملها قاله عثمان بن عفان والحسن وقال مجاهد الملكان سائق وشهيد وقال ابن السائب السائق الذي كان يكتب عليه السيئات والشهيد الذي كان يكتب الحسنات
والثاني أنه العمل يشهد على الإنسان قاله أبو هريرة
والثالث الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله قاله الضحاك
وهل هذه الآيات عامة أم خاصة فيها قولان أحدهما أنها عامة قاله الجمهور الثاني خاصة في ا لكافر قاله الضحاك ومقاتل
قوله تعالى لقد كنت أي ويقال له لقد كنت في غفلة من هذا اليوم وفي المخاطب بهذه الآيات ثلاثة أقوال
أحدها أنه الكافر قاله ابن عباس وصالح بن كيسان في آخرين (8/13)
والثاني أنه عام في البر والفجر قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس واختاره ابن جرير
والثالث أنه النبي صلى الله عليه و سلم وهذا قول ابن زيد فعلى القول الأول يكون المعنى لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به وعلى الثاني كنت غافلا عن أهوال القيامة فكشفنا عنك غطاءك الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك وقيل معناه أريناك ما كان مستورا عنك وعلى الثالث لقد كنت قبل الوحي في غفلة عما أوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك بالوحي فبصرك اليوم حديد وفي المراد بالبصر قولان
أحدهما البصر المعروف قاله الضحاك والثاني العلم قاله الزجاج
وفي قوله اليوم قولان
أحدهما أنه يوم القيامة قاله الأكثرون والثاني أنه في الدنيا وهذا على قول ابن زيد فأما قوله حديد فقال ابن قتيبة الحديد بمعنى الحاد أي فأنت ثاقب البصر ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها فبصرك حديد إلى لسان الميزان حين توزن حسناتك وسيئاتك قاله مجاهد والثاني أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة قاله مقاتل والثالث أنه العلم النافذ قاله الزجاج (8/14)
وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لاتختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد
قوله تعالى وقال قريبنه قال مقاتل هو ملكه الذي كان يكتب عمله السيء في دار الدنيا يقول لربه قد كتبت ما وكلتني به فهذا عندي معد حاضر من عمله الخبيث فقد أتيتك به وبعمله وفي ما قولان أحدهما أنها بمعنى من قاله مجاهد
والثاني أنها بمعنى الشيء فتقديره هذا شيء لدي عتيد قاله الزجاج وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السورة ق 18 فيقول الله تعالى ألقيا في جهنم وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال
أحدها أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين قال الفراء والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين فيقولون للرجل ويلك ارحلاها وازجراها سمعتها من العرب وأنشدني بعضهم ... فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجتز شيحا ...
وأنشدني أبو ثروان (8/15)
فان تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا ...
ونرى أن كل منهم لأن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة فجرى الكلام على صاحبيه ألا ترىالشعر أكثر شيء قيلا يا صاحبي ويا خليلي قال المرؤ القيس ... خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب ...
ثم قال ... ألم تر أني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب ... فرجع إلى الواحد وأول كلامه اثنان وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقال ألقيا خطاب للخازن يعني خازن النار
والثاني أنه فعل ثني توكيدا كأنه لما قال ألقيا ناب عن ألق ألق وكذلك قفا نبك معناه قف قف فلما ناب عن فعلين ثني قاله المبرد
والثالث أنه أمر للملكين يعني السائق والشهيد وهذا اختيار الزجاج (8/16)
فأما الكفار فهو أشد مبالغة من الكافر والعنيد قد فسرناه في هود 59
قوله تعالى مناع للخير في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها الزكاة المفروضة قاله قتادة
والثاني أنه الإسلام يمنع الناس من الدخول فيه قاله الضحاك ومقاتل وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة منع بني أخيه عن الإسلام
والثالث أنه عام في كل خير من قول أو فعل حكاه الماوردي
قوله تعالى معتد أي ظالم لا يقر بالتوحيد مريب أي شاك في الحق من قولهم أراب الرجل إذا صار ذا ريب
قوله تعالى قال قرينه فيه قولان
أحدهما شيطانه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وفي الكلام اختصار تقديره إن الإنسان ادعى على قرينه من الشياطين أنه أضله (8/17)
فقال ربنا ما أطغيته أي لم يكن لي قوة على إضلاله بالإكراه وإنما طغى هو بضلاله
والثاني أنه الملك الذي كان يكتب السيئات
ثم فيما يدعيه الكافر على الملك قولان
أحدهما أنه يقول زاد علي فيما كتب فيقول الملك ما أطغيته أي ما زدت عليه قاله سعيد بن جبير
والثاني أنه يقول كان يعجلني عن التوبة فيقول ربنا ما أطغيته هذا قول الفراء
قوله تعالى ولكن كان في ضلال بعيد أي بعيد من الهدى فيقول الله تعالى لا تختصموا لدي في هذا الخصام قولان أحدهما أنه اعتذارهم بغير عذر قاله ابن عباس
والثاني أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أ غووهم قاله أبو العالية فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا فلا يجوز أن يهمل لأنه يوم التناصف
قوله تعالى وقد قدمت إليكم بالوعيد أي قد أخبرتكم على ألسن الرسل بعذابي في الآخرة لمن كفر
ما يبدل القول لدي فيه قولان
أحدهما ما يبدل القول فيما وعدته من ثواب وعقاب قاله الأكثرون
والثاني ما يكذب عندي ولا يغير القول عن جهته لأني أعلم الغيب وأعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة ويدل عليه أنه قال تعالى ما يبدل القول لدي ومل يقل (8/18)
ما يبدل قولي وما أنا بظلام للعبيد فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود
يوم نقول لجهنم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي يوم نقول بالنون المفتوحة وضم القاف وقرأ نافع وابو بكر والمفضل عن عاصم يوم يقول بالياء المفتوحة وضم القاف وقرأ أبي بن كعب والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو يوم يقال بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف قال الزجاج وانتصاب يوم على وجهين أحدهما على معنى ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم والثاني على معنى وأنذرهم يوم نقول لجهنم
فأما فائدة سؤاله إياها وقد علم هل امتلأت أم لا فإنه توبيخ لمن أدخلها وزيادة في مكروهه ودليل على تصديق قوله لأملأن جهنم
وفي قولها هل من مزيد قولان عند أهل اللغة (8/19)
أحدهما أنها تقول ذلك بعد امتلائها فالمعنى هل بقي في موضع لم يمتلئ أي قد امتلأت
والثاني أنها تقول تغيظا على من عصى الله تعالى وجعل الله فيها أن تميز وتخاطب كما جعل في النملة أن قالت أدخلوا مساكنكم وفي المخلوقات أن تسبح بحمده
قوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين أي قربت للمتقين الشرك غير بعيد أي جعلت عن يمين العرش حيث يراها أهل الموقف ويقال لهم هذا ا لذي ترونه ما توعدون وقرأ عثمان بن عفان وابن عمر ومجاهد وعكرمة وابن محيصن يوعدون بالياء لكل أواب وفيه أقوال قد ذكرناها في بني إسرائيل 25 وفي حفيظ قولان
أحدهما الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها قاله ابن عباس
والثاني الحافظ لأمر الله تعالى قاله مقاتل
قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب قد بيناه في الأنبياء 9 وجاء بقلب منيب أي راجع إلى طاعة الله عن معصيته
أدخلوها أي يقال لهم أدخلوا الجنة بسلام وذلك أنهم سلموا من عذاب الله وسلموا فيها من الغموم والتغير والزوال وسلم الله وملائكته عليهم ذلك يوم الخلود في الجنة لأنه لا موت فيها ولا زوال
لهم ما يشاؤون فيها وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسائلهم (8/20)
فيعطون ما شاؤوا ثم يزيدهم ما لم يسألوا فذلك قوله ولدينا مزيد وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال
أحدها أنه النظر إلى الله عزل وجل روى علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله ولدينا مزيد قال يتجلى لهم وقال أنس بن مالك في قوله ولدينا مزيد يتجلى لهم الرب تعالى في كل جمعة
والثاني أن السحاب يمر بأهل الجنة فيمطرهم الحور فتقول الحور نحن اللواتي قال الله عزل وجل ولدينا مزيد حكاه الزجاج والثالث أن الزيادة على ما تمنوه وسألوا مما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ذكره أبول سليمان الدمشقي
ثم خوف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله فنقبوا في البلاد قرأ الجمهور فنقبوا بفتح النون والقاف مع تشديدها وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والحسن وابن السميفع ويحيى بن يعمر كذلك إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهددا وقرأ عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وابن أبي عبلة وعبيد عن أبي عمر فنقبوا بفتح القاف وتخفيفها قال الفراء ومعنى فنقبوا ساروا في البلاد فهل كان لهم من الموت من محيص فأضمرت كان ها هنا كقوله أهلكناهم فلا ناصر لهم أي فلم يكن لهم ناصر ومن قرأ فنقبوا بكسر القاف فإنه (8/21)
كالوعيد والمعنى اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت من محيص وقال الزجاج نقبوا طوقوا وفتشوا فلم تروا محيصا من الموت قال امرؤ القيس ... لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة ...
فأما المحيص فهو المعدل وقد استوفينا شرحه في سورة النساء 121
قوله تعالى إن في ذلك يعني الذي ذكره من إهلاك القرى لذكرى أي تذكرة وعظة لمن كان له قلب قال ابن عباس أي عقل قال الفراء وهذا جائز في اللغة أن تقول ما لك قلب وما معك قلبك تريد العقل وقال ابن قتيبة لما كان القلب موضعا للعقل كنى به عنه وقال الزجاج المعنى لمن صرف قلبه إلى التفهم أو ألقى السمع أي استمع مني وهو شهيد أي وقلبه فيما يسمع وقال الفراء وهو شهيد أي شاهد ليس بغائب
قوله تعالى ولقد خلقنا السموات والأرض ذكر المفسرون أن اليهود قالت خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت فلذلك لا نعمل فيه شيئا فنزلت هذه الآيات فأكذبهم الله عز و جل بقوله وما مسنا من لغوب قال الزجاج واللغوب التعب والإعياء (8/22)
قوله تعالى فاصبر على ما يقولون أي من بهتهم وكذبهم قال المفسرون ونسخ معنى قوله فاصبر بآية السيف وسبح بحمد ربك أي صل بالثناء على ربك والتنزيه له مما يقول المبطلون قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر وقبل الغروب فيها قولان
أحدهما صلاة الظهر والعصر قاله ابن عباس
والثاني صلاة العصر قالة قتادة وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا وقرأ فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب
قوله تعالى ومن الليل فسبحه فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها صلاة الليل كله أي وقت صلى منه قاله مجاهد
والثاني صلاة العشاء قاله ابن زيد
والثالث صلاة المغرب والعشاء قاله مقاتل
قوله تعالى وأدبار السجود قرأ ابن كثير ونافع وحمزة وخلف (8/23)
بكسر الهمزة وقرأ الباقون بفتحها قال الزجاج من فتح ألف أدبار فهو جمع دبر ومن كسرها فهو مصدر أدبر يدبر إدبارا
وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال
أحدها أنه الركعتان بعد صلاة المغرب روي عن عمر وعلي والحسن بن علي رضي الله عنهم وأبي هريرة والحسن ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة في آخرين وهو رواية العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه النوافل بعد المفروضات قاله ابن زيد
والثالث أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات رواه مجاهد عن ابن عباس وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا ا لمصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد
قوله تعالى واستمع يوم ينادي المنادي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ينادي المنادي بياء في الوصل ووقف ابن كثير بياء ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياء ووقف الباقون ووصلوا بياء قال أبو سليمان الدمشقي المعنى واستمع حديث يوم ينادي المنادي قال المفسرون والمنادي إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي يا أيها الناس هلموا إلى الحساب إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء وهذه هي النفخة (8/24)
الأخيرة والمكان القريب صخرة بيت المقدس قال كعب ومقاتل هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقال ابن السائب باثني عشر ميلا قال الزجاج ويقال إن تلك الصخرة في وسط الأرض
قوله تعالى يوم يسمعون الصيحة وهي هذه النفخة الثانية بالحق أي بالبعث الذي لا شك فيه ذلك يوم الخروج من القبور
إنا نحن نحيي ونميت أي نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث وهو قوله يوم تشقق الأرض عنهم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تشقق بتشديد الشين وقرأ الباقون بتخفيفها سراعا أي فيخرجون منها سراعا ذلك حشر علينا يسير أي هين
ثم عزى نبيه فقال نحن أعلم بما يقولون في تكذيبك يعني كفار مكة وما أنت عليهم بجبار قال ابن عباس لم تبعث لتجبرهم على الاسلام إنما بعثت مذكرا وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم وأنكر الفراء هذا القول فقال العرب لا تقول فعال من أفعلت لا يقولون خراج يريدون مخرج ولا دخال يريدون مدخل إنما يقولون فعال من فعلت وإنما الجبار هنا في موضع السلطان من الجبرية وقد قالت العرب في حرف واحد دراك من أدركت وهو شاذ فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه وقال ابن قتيبة بجبار أي بمسلط والجبار الملك سمي بذلك لتجبره يقول لست عليهم بملك مسلط (8/25)
قال اليزيدي لست بمسلط فتقهرهم على الإسلام وقال مقاتل لتقتلهم وذكر المفسرون أن قوله وما أنت عليهم بجبار منسوخ بآية السيف
قوله تعالى فذكر بالقرآن أي فعظ به من يخاف وعيد وقرأ يعقوب وعيدي بياء في الحالين أي ما أوعدت من عصاني من العذاب (8/26)
سورة الذاريات
مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسئلون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
قوله تعالى والذاريات ذروا يعني الرياح يقال ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا فرقته قال الزجاج يقال ذرت فهي ذارية وأذرت فهي مذرية بمعنى واحد
والذاريات مجرورة على القسم المعنى أحلف بالذاريات وهذه الأشياء والجواب إنما توعدون لصادق قال قوم المعنى ورب الذاريات ورب الجاريات (8/27)
قوله تعالى فالحاملات وقرا يعني السحاب التي تحمل وقرها من الماء
فالجاريات يسرا يعني السفن تجري ميسرة في الماء جريا سهلا
فالمقسمات أمرا يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمر الله به قال ابن السائب والمقسمات أربعة جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح وعزرائيل وهو قابض الأرواح وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته
ثم ذكر المقسم عليه فقال إنما توعدون أي من الثواب والعقاب يوم القيامة لصادق أي لحق
وإن الدين فيه قولان
أحدهما الحساب والثاني الجزاء لواقع أي لكائن
ثم ذكر قسما آخر فقال والسماء ذات الحبك وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين الحبك بكسر الحاء والباء جميعا وقرأ عثمان بن عفان والشعبي وأبو العالية وأبو حيوة الحبك بكسر الحاء وإسكان الباء وقرأ أبي ابن كعب وابن عباس وأبو رجاء وابن أبي عبلة ا لحبك برفع الحاء وإسكان الباء وقرأ ابن مسعود وعكرمة الحبك بفتح الحاء والباء جميعا (8/28)
وقرأ أبو الدرداء وأبو الجوزاء وأبو المتوكل وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري الحبك بفتح الحاء وكسر الباء
ثم في معنى الحبك أربعة أقوال أحدها ذات الخلق الحسن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة والثاني البنيان المتقن قاله مجاهد والثالث ذات الزينة قاله سعيد بن جبير وقال الحسن حبكها نجومها والرابع ذات الطرائق قاله الضحاك واللغويون وقال الفراء الحبك تكسر لكل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت به الريح والشعرة الجعدة تكسرها حبك وواحد الحبك حباك وحبيكة وقال الزجاج أهل اللغة يقولون الحبك الطرائق الحسنة والمحبوك في اللغة ما أجيد عمله وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا اصابته الريح فهو حبك وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال هذه هي السماء السابعة
ثم ذكر جواب القسم الثاني قال إنكم يعني أهل مكة لفي قول مختلف في أمر محمد صلى الله عليه و سلم بعضكم يقول شاعر وبعضكم يقول مجنون وفي القرآن بعضكم يقول سحر وبعضكم يقول كهانة ورجز إلى غير ذلك
يؤفك عنه من أفك أي يصرف عن الإيمان به من صرف فحرمه والهاء في عنه عائدة إلى القرآن وقيل يصرف عن هذا (8/29)
القول أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف وقرأ قتادة من أفك بفتح الألف والفاء وقرأ عمرو بن دينار من أفك بفتح الأف وكسر الفاء
قتل الخراصون قال الفراء يعني لعن الكذابون الذين قالوا إن النبي صلى الله عليه و سلم ساحر وكذاب وشاعر خرصوا ما لا علم لهم به وفي رواية العوفي عن ابن عباس أنهم الكهنة وقال ابن الأنباري والقتل إذ أخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك
قوله تعالى الذين هم في غمرة أي في عمى وجهالة بأمر الآخرة ساهون أي غافلون والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه
يسألون أيان يوم الدين أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء تكذيبا منهم واستهزاءا
ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال يوم هم على النار قال الزجاج اليوم منصوب على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون أي يحرقون ويعذبون ومن ذلك يقال للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت بالنار الفتين
قوله تعالى ذوقوا المعنى يقال لهم ذوقوا فتنتكم وفيها قولان
أحدهما تكذيبكم قاله ابن باس والثاني حريقكم قاله مجاهد قال أبو عبيدة ها هنا تم الكلام ثم ائتنف فقال هذا الذي كنتم به تستعجلون قال المفسرون يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءا ثم ذكر ما وعد الله لأهل الجنة فقال إن المتقين في جنات وعيون وقد سبق شرح هذا البقرة 25 الحجر 45
قوله تعالى آخذين قال الزجاج هو منصوب على الحال فالمعنى (8/30)
في جنات وعيون في حال أخذ ما آتاهم ربهم قال المفسرون أي ما أعطاهم الله من الكرامة إنهم كانوا قبل ذلك محسنين في أعمالهم وفي الآية وجه آخر آخذين ما آتاهم ربهم أي عاملين بما أمرهم به من الفرائض إنهم كانوا قبل أن تفرض الفرائض عليهم محسنين أي مطيعين وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين
ثم ذكر إحسانهم فقال كانوا قليلا من الليل ما يهجعون والهجوع النوم بالليل دون النهار
وفي ما قولان أحدهما النفي ثم في المعنى قولان أحدهما كانوا يسهرون قليلا من الليل قال أنس بن مالك وأبو العالية هو ما بين المغرب والعشاء
والثاني كانوا ما ينامون قليلا من الليل واختار قوم الوقف على قوله قليلا على معنى كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ فقال من الليل ما يهجعون على معنى نفي النوم عنهم البتة وهذا مذهب الضحاك ومقاتل (8/31)
والقول الثاني أن ما بمعنى الذي فاللمعنى كانوا قليلا من الليل الذي يهجعونه وهذا مذهب الحسن والأحنف بن قيس والزهري وعلى هذا يحتمل أن تكون ما زائدة
قوله تعالى وبالأسحار هم يستغفرون وقد شرحناه في آل عمران 17
قوله تعالى وفي أموالهم حق أي نصيب وفيه قولان
أحدهما أنه ما يصلون به رحما أو يقرون به ضيفا أو يحملون به كلا أو يعينون به محروما وليس بالزكاة قاله ابن عباس
والثاني أنه الزكاة قاله قتادة وابن سيرين
قوله تعالى للسائل وهو الطالب
وفي المحروم ثمانية أقوال
أحدها أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين وهو المحارف قاله ابن عباس وقال إبراهيم هو الذي لا سهم له في الغنيمة
والثاني أنه الذي لا ينمى له شيء قاله مجاهد وكذلك قال عطاء هو المحروم في الرزق والتجارة
والثالث أنه المسلم الفقير قاله محمد بن علي
والرابع أنه المتعفف الذي لا يسأل شيئا قاله قتادة والزهري
والخامس أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم قاله الحسن ابن محمد بن الحنفية (8/32)
والسادس أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته قاله ابن زيد
والسابع أنه المملوك حكاه الماوردي
والثامن أنه الكلب روي عن عمر بن عبد العزيز وكان الشعبي يقول أعياني أن أعلم ما المحروم وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل ثم يتحفظ بالتعفف من ظهور أثر الفاقة عليه فيكون محروما من قبل نفسه حين لم يسأل ومن قبل الناس حي لا يعطونه وإنما يفطن له متيقظ وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ولا يصح
قوله تعالى وفي الأرض آيات كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك للموقنين بالله عز و جل الذين يعرفونه بصنعه
وفي أنفسكم آيات إذ كنتم نطفا ثم عظاما ثم علقا ثم مضغا إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ثم اختلاف الصور والألوان والطبائع وتقويم الأدوات والسمع والبصر والعقل وتسهيل سبيل الحدث إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم وتم الكلام عند قوله وفي أنفسكم ثم قال أفلا تبصرون قال مقاتل أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث
قوله تعالى وفي السماء رزقكم وقرأ أبي بن كعب وحميد (8/33)
وأبو حصين الأسدي أرزاقكم براء ساكنة وبألف بين الزاي والقاف وقرأ ابن معسود والضحاك وأبو نهيك رازقكم بفتح الراء وكسر الزاي وبألف بينهما وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين وفيه قولان
أحدهما أنه المطر رواه أبو صالح عن ابن عباس وليث عن مجاهد وهو قول الجمهور
والثاني الجنة رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
وفي قوله ما توعدون قولان
أحدهما أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء قاله أبو صالح عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن مجاهد
والثاني الجنة رواه ليث عن مجاهد قال أبو عبيدة في هذه الآية مضمر مجازه عند من في السماء رزقكم وعنده ما توعدون والعرب تضمر قال نابغة ذبيان ... كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
أراد كأنك جمل من جمال بني أقيش
قوله تعالى إنه لحق قال الزجاج يعني ما ذكره من أمر الآيات والرزق وما توعدون وأمر النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما أنكم تنطقون قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم مثل برفع اللام وقرأ البقاون بنصب اللام قال الزجاج فمن رفع مثل فهي من صفة الحق والمعنى إنه لحق مثل نطقكم ومن نصب فعلى ضربين (8/34)
أحدهما أن يكون في موضع رفع إلا أنه لما أضيف إلى أن فتح
والثاني أن يكون منصوبا على التأكيد على معنى إنه لحق حقا مثل نطقكم وهذا الكلام كما تقول إنه لحق كما أنك تتكلم هل أتك حديث ضيف إبرهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم
قوله تعالى هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين هل بمعى قد في قول ابن عباس ومقاتل فيكون المعنى قد أتاك فاستمع نقصصه عليك وضيفه هم الذين جاؤوا بالبشرى وقد ذكرنا عددهم في هود 70 وذكرنا هناك معنى الضيف
وفي معنى المكرمين أربعة أقوال
أحدهما لأنه أكرمهم بالعجل قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثاني بأن خدمهم هو وامرأته بأنفسهما قاله السدي
والثالث أنهم مكرمون عند الله قاله عبد العزيز بن يحيى
والرابع لأنهم أضياف والأضياف مكرمون قاله أبو بكر الوراق (8/35)
قوله تعالى فقالوا سلاما قد ذكرناه في هود 70
قوله تعالى قوم منكرون قال الزجاج ارتفع على معنى أنتم قوم منكرون
وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال
أحدها لأنه لم يعرفهم قاله ابن عباس
والثاني لأنهم سلموا عليه فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض قاله أبو العالية
والثالث لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان
والرابع لأنه رأى فيم صورة البشر وصورة الملائكة
قوله تعالى فراغ إلى أهله قال ابن قتيبة أي عدل إليهم في خفية ولا يكون الرواغ إلى أن تخفي ذهابك ومجيئك
قوله تعالى فجاء بعجل سمين وكان مشويا فقربه إليهم قال الزجاج والمعنى فقربه إليهم ليأكلوا منه فلم يأكلوا فقال ألا تأكلون على النكير أي أمركم في ترك الأكل مما أنكره (8/36)
قوله تعالى فأوجس منهم خيفة قد شحرناه في هود 70 وذكرنا معنى غلام عليم في الحجر 54
فأقبلت امرأته وهي سارة قال الفراء وابن قتيبة لم تقبل من موضع إلى موضع وإنما هو كقولك أقبل يشتمني وأقبل يصيح ويتكلم أي أخذ في ذلك والصرة الصيحة وقال أبو عبيدة الصرة شدة الصوت
وفيما قالت في صيحتها قولان
أحدهما أنها تأوهت قال قتادة
والثاني أنها قالت يا ويلتا ذكره الفراء
قوله تعالى فصكت وجهها فيه قولان
أحدهما لطمت وجهها قاله ابن عباس
والثاني ضربت جبينها تعجبا قاله مجاهد ومعن الصك ضرب الشيء بالشيء العريض
وقالت عجوز قال الفراء هذا مرفوع بإضمار أتلد عجوز وقال الزجاج المعنى أنا عجوز عقيم فكيف ألد وقد ذكرنا معنى العقيم في هود 72
قالوا كذلك قال ربك أنك ستلدين غلاما والمعنى إنما نخبرك (8/37)
عن الله عز و جل وهو حكيم عليم يقدر أن يجعل العقيم ولودا فعلم حينئذ إبراهيم أنهم ملائكة
قال فما خطبكم مفسر في الحجر 57
قوله تعالى حجارة من طين قال ابن عباس هو الآجر
قوله تعالى مسومة عند ربك قد شرحناه في هود 83 قوله تعالى للمسرفين قال ابن عباس للمشركين
قوله تعالى فأخرجنا 4من كان فيها أي من قرى لوط من المؤمنين وذلك قوله تعالى فأسر بأهلك الآية هود 82
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وهو لوط وابنتاه وصفهم الله عز و جل بالإيمان والإسلام لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم
وتركنا فيها آية أي علامة للخائفين من عذاب الله تدلهم على أن الله أهلكهم وقد شرحنا هذا في العنكبوت 35 وبينا المكني عنها وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوا فاسقين والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (8/38)
قوله تعالى وفي موسى أي وفيه أيضا آية إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة فتولى أي أعرض بركنه قال مجاهد بأصحابه وقال أبو عبيدة بركنه وبجانبه سواء إنما هي ناحيته وقال ساحر أي وقال لموسى هذا ساحر أو مجنون وكان أبو عبيدة يقول أو بمعنى الواو فأما اليم فقد ذكرناه في الأعراف 136 ومليم في الصافات 142
قوله تعالى وفي عاد أي في إهلاكهم آية أيضا إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم وهي التي لا خير فيها ولا بركة لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا وإنما هي للإهلاك وقال سعيد بن المسيب هي الجنوب
ما تذر من شيء أتت عليه أي من أنفسهم وأوالهم إلا جعلته كالرميم أي كالشيء الهالك البالي قال الفراء الرميم نبات الأرض إذا يبس وديس وقال الزجاج الرميم الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم
وفي ثمود آية أيضا إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فيه قولان
أحدهما أنه قيل لهم تمتعوا في الدنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهددا لهم
والثاني أن صالحا قال لهم بعد عقر الناقة تمتعوا ثلاثة أيام فكان الحين وقت فناء آجالهم فعتوا عن أمر ربهم قال مقاتل عصوا أمره فأخذتهم الصاعقة يعني العذاب وهو الموت من صيحة جبريل (8/39)
وقرأ الكسائي وحده الصعقة بسكون العين من غير ألف وهي الصوت الذي يكون عن الصاعقة
قوله تعالى وهم ينظرون فيه قولان
أحدهما يرون ذلك عيانا والثاني وهم ينتظرون العذاب فأتاهم صيحة يوم السبت
قوله تعالى فما استطاعوا من قيام فيه قولان
أحدهما ما استطاعوا نهوضا من تلك الصرعة
والثاني ما أطاقوا ثبوتا لعذاب الله وما كانوا منتصرين أي ممتنعين من العذاب قوله تعالى وقوم نوح من قبل قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث وحمزة والكسائي بخفض الميم وروى عبد الوارث رفع الميم والباقون بنصبها قال الزجاج من خفض القوم فالمعنى وفي قوم نوح آية ومن نصب فهو عطف على معنى قوله فأخذتهم الصاعقة فإن معناه أهلكناهم فيكون المعنى وأهلكنا قوم نوح والأحسن والله أعلم أن يكون محمولا على قوله فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم لأن المعنى أغرقناه وأغرقنا قوم نوح
والسماء بنيناها المعنى وبنينا السماء بنيناها بأيد أي بقوة وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر المفسرين واللغويين بأيد أي بقوة
وفي قوله وإنا لموسعون خمسة أقوال (8/40)
أحدها لموسعون الرزق بالمطر قاله الحسن والثاني لموسعون السماء قاله ابن زيد والثالث لقادرون قاله ابن قتيبة والرابع لموسعون ما بين السماء والأرض قاله الزجاج والخامس لذو سعة لا يضيق عما يريد حكاه الماوردي
قوله تعالى والأرض فرشناها فنعم الماهدون قال الزجاج هذا عطف على ما قبله منصوب بفعل مضمر محذوف يدل عليه قوله فرشناها فالمعنى فرشنا الأرض فرشناها فنعم الماهدون أي فنعم الماهدون نحن قال مقاتل فرشناها أي بسطناها مسيرة خمسمائة عام وهذا بعيد وقد قال قتادة الأرض عشرون ألف فرسخ والله تعالى أعلم
قوله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين أي صنفين ونوعين كالذكر والأنثى والبر والبحر والليل والنهار والحلو والمر والنور والظلمة وأشباه ذلك لعلكم تذكرون فتعلموا أن خالق الأزواج واحد
ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم والمعنى اهربوا مما يوجب العقاب من الكفر والعصيان إلى ما يوجب الثواب من الطاعة والإيمان كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنبوا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (8/41)
قوله تعالى كذلك أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كانوا من قبلك يقولون للأنبياء
قوله تعالى أتواصوا به أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وهذا استفهام توبيخ وقال أبو عبيدة أتواطؤوا عليه فأخذه بعضهم من بعض
قوله تعالى بل هم قوم طاغون أي يحملهم الطغيان فيا أعطوا من الدنيا على التكذيب والمشار إليهم أهل مكة
فتول عنهم فقد بلغتهم فما أنت عليهم بملوم لأنك قد أديت الرسالة ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان
أحدهما أنه قوله وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين والثاني آية السيف وفي قوله وذكر قولان أحدهما عظ قاله مقاتل والثاني ذكرهم بأيام الله وعذابه ورحمته قاله الزجاج
قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أثبت الياء في يعبدون ويطعمون ولا يستعجلون في الحالين يعقوب واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال
أحدها إلا لآمرهم أن يعبدوني قاله علي بن أبي طالب واختاره الزجاج
والثاني إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها قاله ابن عباس وبيان هذا قوله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الزخرف 87
والثالث أنه خاص في حق المؤمنين قال سعيد بن المسيب ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة هذا خاص لأهل طاعته وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال معنى هذا الخصوص لا العموم لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب وإن كانوا (8/42)
من الإنس فكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الأعراف 179 فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة
والرابع إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ومعنى العبادة في اللغة الذل والانقياد وكل الخلق خاضع ذليل لقضاء الله عز و جل لا يملك خروجا عما قضاه الله عز و جل هذا مذهب جماعة من أهل المعاني
قوله تعالى ما أريد منهم من رزق أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم وما أريد أن يطعمون أي أن يطعموا أحدا من خلقي لأني أنا الرزاق وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه وقد جاء في اللحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يقول الله عز و جل يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني أي لم تطعم عبدي
فأما الرزاق فقرأ الضحاك وابن محيصن الرازق بوزن العالم قال الخطابي هو المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها (8/43)
من قوتها والمتين الشديد القوة الذي لا تنقطع قوته ولا يلحقه في أفعاله مشقة وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ المتين بكسر النون وكذا قرأ أبو رزين وقتادة وأبو العالية والأعمش قال الزجاج ذو القوة المتين أي ذو الاقتدار الشديد ومن رفع المتين فهو صفة الله عز و جل ومن خفضه جعله صفة للقوة لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة فهو كقوله فمن جاءه موعظة من ربه البقرة 275
قوله تعالى فإن للذين ظلموا يعني مشركي مكة ذنوبا أي نصيبا من العذاب مثل ذنوب أصحابهم الذين أهلكوا كقوم نوح وعاد وثمود قال الفراء الذنوب في كلام العرب الدلو العظيمة ولكن العرب تذهب بها إلى النصيب والحظ قال الشاعر ... لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلما القليب ...
والذنوب يذكر ويؤنث وقال ابن قتيبة أصل الذنوب الدلو العظيمة وكانوا يستقون فيكون لكل واحد ذنوب فجعل الذنوب مكان الحظ والنصيب قوله تعالى فلا يستعجلون أي بالعذاب إن أخروا إلى يوم القيامة وهو يومهم الذي يوعدون ويقال هو يوم بدر (8/44)
سورة الطور
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون إصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون
قوله تعالى والطور هذا قسم بالجبل الذي كلم الله عز و جل عليه موسى عليه السلام و هو بأرض مدين واسمه زبير
وكتاب مسطور أي مكتوب وفي أربعة أقوال
أحدها أنه اللوح المحفوظ قاله أبو صالح عن ابن عباس (8/45)
والثاني كتب أعمال بني آدم قاله مقاتل والزجاج
والثالث التوراة
والرابع القرآن حكاهما الماوردي
قوله تعالى في رق قال أبو عبيدة الرق الورق فأما المنشور فهو المبسوط
قوله تعالى والبيت المعمور فيه قولان
أحدهما أنه بيت في السماء وفي أي سماء هو فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه في السماء السابعة رواه أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم وحديث مالك بن صعصعة الذي أخرج في الصحيحين يدل عليه
والثاني أنه في السماء السادس قاله علي رضي الله عنه (8/46)
والثالث أنه في السماء الدنيا روا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن عباس هو حيال الكعبة يحجه كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة يسمى الضراح وقال الربيع بن أنس كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم فلما كان زمن نوح أمر الناس بحجه فعصوه فلما طغى الماء رفع فجعل بحذاء البيت في السماء الدنيا
والثاني أنه البيت الحرام قاله الحسن وقال أبو عبيدة ومعنى المعمور الكثير الغاشية
قوله تعالى والسقف المرفوع فيه قولان
أحدهما أنه السماء قاله علي رضي الله عنه والجمهور
والثاني العرض قاله الربيع
قوله تعالى والبحر فيه قولان
أحدهما أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبوهم قاله علي رضي الله عنه
والثاني أنه بحر الأرض ذكره الماوردي
وفي المسجور أربعة أقوال
أحدها المملوء قاله الحسن وأبو صالح وابن السائب وجميع اللغويين (8/47)
والثاني أنه الموقد قاله مجاهد وابن زيد وقال شمر بن عطية هو بمنزلة التنور المسجور
والثالث أنه اليابس الذي قد ذهبل ماؤه ونضب قاله أبو العالية وروي عن الحسن قال تسجر يعني البحار حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلها نارا فتزاد في نار جهنم
والرابع أن المسجور المختلط عذبه بملحه قاله الربيع بن أنس فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق فعال إن عذاب ربك لواقع أي لكائن في الآخرة ثم بين متى يقع فقال يوم تمور السماء مورا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها تدور دورا رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج
والثاني تحرك تحركا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة وقال أبو عبيدة تمور أي تكفأ وقال الأعشى ... كأن مشيتها من بيت جارتها ... مرو السحابة لا ريث ولا عجل ...
والثالث يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى قاله الضحاك وما بعد هذا قد سبق بيانه النمل 88 إلى قوله الذين هم في خوض يلعبون (8/48)
أي يخوضون في حديث محمد صلى الله عليه و سلم بالتكذيب والاستهزاء ويلهون بذكره فالويل لهم
ويوم يدعون قال ابن قتيبة أي يدفعون يقال دععته أدعه أي دفعته ومنه قوله يدع اليتيم الماعون 2 قال ابن عباس يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار وقال مقاتل تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون إلى جهنم على وجوههم حتى إذا دنوا منها قالت لهم خزنتها هذه النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا فأسحر هذا العذاب الي ترون فإنكم زعمتم أن الرسل سحرة أم أنتم لا تبصرون النار فلما ألقوا فيها قال لهم خزنتها إصلوها وقال غيره لما نسبوا محمد صلى الله عليه و سلم إلى أنه ساحر يغطي على الأبصار بالسحر وبخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ وقيل إصلوها أي قاسوا شدتها فاصبوا على العذاب أو لا تصبروا سواء عليكم الصبر والجزع إنما تجزون جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين
ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا وقوله فاكهين قرئت بألف وبغير ألف وقد شرحناها في يس 55 ووقاهم أي صرف عنهم والجحيم مذكور في البقرة 119
كلوا أي يقال لهم كلوا واشربوا هنيئا تأمنون حدوث المرض (8/49)
عنه قال الزجاج المعنى ليهنكم ما صرتم إليه وقد شرحنا هذا في سورة النساء 4 ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم فقال متكئين على سرر وقال ابن جرير فيه محذوف تقديره على نمارق على سرر وهي جمع سرير مصفوفة قد وضع بعضها إلى جنب بعض وباقي الآية مفسر في سورة الدخان 54 والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقنا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم
قوله تعالى وأتبعناهم ذرياتهم قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي واتبعتهم بالتاء ذريتهم واحدة بهم ذريتهم واحدة أيضا وقرأ نافع واتبعتهم ذريتهم واحد بهم ذرياتهم جمعا وقرأ ابن عامر وأتبعناهم ذرياتهم بهم ذرياتهم جمعا في الموضعين واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال
أحدها أن معناها واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم من المؤمنين في الجنة وإن كانوا لم يبلغوا أعمال آبائهم تكرمة من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس (8/50)
والثاني واتبعتهم ذريتهم بإيمان أي بلغت أن آمنت ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس وبه قال الضحاك ومعنى هذا القول أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء لأن الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده
والثالث وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء فأدخلناهم الجنة وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى وما ألتناهم قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وما ألتناهم بالهمزة وفتح اللام وقرأ ابن كثير وما ألتناهم بكسر اللام وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه ومالتناهم بإسقاط الهمزة مع كسر اللام وقرأ أبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ باسقاط الهمزة مع فتح اللام وقرأ ابن السميفع وما آلتناهم بمد الهمزة وفتحها وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري وما ولتناهم بواو مفتوحة من غير همة وبنصب اللام وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل وما ألتهم مثل جعلتهم وقد ذكرنا هذه الكلمة في الحجرات 140 والمعنى ما نقصنا الآباء بما أعطينا الذرية
كل امريء بما كسب رهين أي مرتهن بعمله لا يؤاخذ أحد بذنب أحد وقيل هذا الكلام يختص بصفة أهل النار وذلك الكلام قد تم
قوله تعالى وأمددناهم قال ابن عباس هي الزيادة على الذي كان لهم (8/51)
قوله تعالى يتنازعون قال أبو عبيدة أي يتعاطون ويتداولون وأنشد الأخطل ... نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري ...
قال الزجاج يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا فأما الكأس فقد شرحناها في الصافات 45
قوله تعالى لا لغو فيها ولا تأثيم قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا لغو فيها ولا تأثيم نصبا وقرأ الباقون لا لغو فيها ولا تأثيم رفعا منونا قال ابن قتيبة أي لا تذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا فيأثموا كما يكون ذلك في خمر الدنيا وقال غيره التأثيم تفعيل من الإثم يقال آثمه إذا جعله ذا إثم والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين
ويطوف عليهم للخدمة غلمان لهم كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مكنون أي مصون لم تمسه الأيدي وسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم فقال إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
وقوله تعالى وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال ابن عباس (8/52)
يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب وهو قوله قالوا إنا كنا قبل في أهلنا أي في دار الدنيا مشفقين أي خائفين من العذاب فمن الله علينا بالمغفرة ووقانا عذاب السموم أي عذاب النار وقال الحسن السموم من أسماء جهنم وقال غيره سموم جهنم وهو ما يوجد من نفحها وحرها إنا كنا من قبل ندعوه أي نوحده ونخلص له إنه هو البر وقرأ نافع والكسائي أنه بفتح الهمزة وفي معنى البر ثلاثة أقوال
أحدها الصادق فيما وعد رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني اللطيف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم ببره جميع خلقه قاله أبو سليمان الخطابي فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين
قوله تعالى فذكر أي فعظ بالقرآن فما أنت بنعمة ربك أي بإنعامه عليك بالنبوة بكاهن وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر عما في غد من غير وحي والمعنى إنما تنطق بالوحي لا كما يقول فيك كفار مكة
أم يقولون شاعر أي هو شاعر وقال أبو عبيدة أم بمعنى بل قال الأخطل (8/53)
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا ...
لم يستفهم إنما أوجب أنه رأى
قوله تعالى نتربص به ريب المنون فيه قولان
أحدهما أنه الموت قاله ابن عباس
والثاني حوادث الدهر قاله مجاهد قال ابن قتيبة حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه والمنون الدهر قال أبو ذؤيب ... أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع ...
هكذا أنشدناه أصحاب الأصمعي عنه وكان يذهب إلى أن المنون الدهر قال وقوله والدهر ليس بمعتب يدل على ذلك كأنه قال أمن الدهر وريبه تتوجع قال الكسائي العرب تقول لا أكلمك آخر المنون أي آخر الدهر
قوله تعالى قل تربصوا أي انتظروا بي ذلك فإني معكم من المتربصين أي من المنتظرين عذابكم فعذبوا يوم بدر بالسيف وبعض المفسرين يقول هذا منسوخ بآية السيف ولا يصح إذ لا تضاد بين الآيتين
قوله تعالى أم تأمرهم أحلامهم بهذا قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام وهي العقول فأزرى الله بحلومهم إذ لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل وقيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا (8/54)
وقد وصفهم الله تعالى بالعقول فقال تلك عقول كادها بارئها أي لم يصحبها التوفيق
وفي قوله أم تأمرهم وقوله أم هم قولان
أحدهما أنهما بمعنى بل قاله أبو عبيدة
والثاني بمعنى ألف الاستفهام قاله الزجاج قال والمعنى أتأمرهم أحلامهم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدلائل أم يكفرون طغيانا وقد ظهر لهم الحق وقال ابن قتيبة المعنى أم تدلهم عقولهم على هذا لأن الحلم يكون بالعقل فكنى عنه به
قوله تعالى أم يقولون تقوله أي افتعل القرآن من تلقاء نفسه والتقول تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب بل أي ليس الأمر كما زعموا لا يؤمنون بالقرآن استكبارا
فليأتوا بحديث مثله في نظمه وحسن بيانه وقرأ أبو رجاء وأبو نهيك ومورق العجلي وعاصم الجحدري بحديث مثله بغير تنوين إن كانوا صادقين أن محمدا تقوله أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم الميكدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون
قوله تعالى أم خلقوا من غير شيء فيه أربعة أقوال (8/55)
أحدها أم خلقوا من غير رب خالق
والثاني أم خلقوا من غير آباء ولا أمهات فهم كالجماد لا يعقلون
والثالث أم خلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض أي إنهم ليبسوا بأشد خلقا من السماوات والأرض لأنها خلقت من غير شيء وهم خلقوا من آدم وآدم من تراب
والرابع أم خلقوا لغير شيء فتكون من بمعنى اللام والمعنى ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون ولا ينهون
قوله تعالى أم هم الخالقون فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون لأن الخالق لا يؤمر ولا ينهى
قوله تعالى بل لا يوقنون بالحق وهو توحيد الله وقدرته على البعث قوله تعالى أم عندهم خزائن ربك فيه ثلاثة أقوال أحدها المطر والرزق قاله ابن عباس والثاني النبوة قاله عكرمة والثالث علم ما يكون من الغيب ذكره العثلبي وقال الزجاج المعنى أعندهم ما في خرائن ربك من العلم وقيل من الرزق فهم معرضون عن ربهم لاستغنائهم
قوله تعالى أم هم المصيطرون قرأ ابن كثير المسيطرون بالسين وقال ابن عباس المسلطون قال أبو عبيدة المصيطرون الأرباب يقال تسيطرت علي أي اتخذتني خولا قال ولم يأت في كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة أسماء مهيمن ومجيمر ومسيطر ومبيطر ومبيقر فالمهيمن الله الناظر المحصي الذي لا يفوته (8/56)
شيء ومجيمر جبل والمسيطر المسلط ومبيطر بيطار والمبيقر الذي يخرج من أرض إلى أرض يقال بيقر إذا خرج من بلد إلى بلد قال امرؤ القيس ... ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ...
قال الزجاج المسيطرون الأرباب المسلطون يقال قد تسيطر علينا وتصيطر بالسين والصاد والأصل السين وكل سين بعدها طاء فيجوز أن تقلب صادا تقول سطر وصطر وسطا علينا وصطا قال المفسرون معنى الكلام أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى
قوله تعالى أم لهم سلم أي مرقى ومصعد إلى السماء يستمعون فيه أي عليه الوحي كقوله في جذوع النخل طه 71 فالمعنى يستمعون الوحي فيعلمون أن ما هم عليه حق فليات مستمعهم إن ادعى ذلك بسلطان مبين أي بحجة واضحة كما أتى محمد بحجة على قوله
أم له البنات ولكم البنون هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله البنات
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أي هل سألتهم أجرا على ما جئت به فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الاسلام والمغرم بمعنى الغرم وقد شرحناه في براءة 98
قوله تعالى أم عندهم الغيب هذا جواب لقولهم نتربص به ريب المنون والمعنى أعندهم الغيب وفيه قولان
أحدهما أنه اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس قاله ابن عباس (8/57)
والثاني أعندهم علم الغيب فيعلمون أن محمدا يموت قبلم فهم يكتبون أي يحكمون فيقولون سنقهرك والكتاب الحكم ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم سأقضي بينكما بكتاب الله أي بحكم الله عز و جل وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة
قوله تعالى أم يريدون كيدا وهو ما كانوا عزموا عليه في دار الندوة وقد شرحنا ذلك في قوله وإذ يمكر بك الذين كفروا الأنفال 30 ومعنى هم المكيدون هم المجزيون بكيدهم لأن ضرر ذلك عاد عليهم فقتلوا ببدر وغيرها
أم لهم إله غير الله أي ألهم إله يرزقهم ويحفظهم غير الله والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة لأنها لا تنفع ولا تدفع ثم نزه نفسه عن شركهم بباقي الآية وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (8/58)
وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم
ثم ذكر عنادهم فقال وإن يروا كسفا من السماء ساقطا والمعنى لو سقط بعض السماء عليهم لما انتهوا عن كفرهم ولقالوا هذه قطعة من السحاب قدركم بعضه على بعض
فذرهم أي خل عنهم حتى يلاقوا قرأ أبو جعفر يلقوا بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف يومهم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم موتهم والثاني يوم القيامة والثالث يوم النفخة الأولى
قوله تعالى يصعقون قرأ عاصم وابن عامر يصعقون برفع الياء من أصعقهم غيرهم والباقون بفتحها من صعقوهم
وفي قوله يصعقون قولان
أحدهما يموتون والثاني يغشى عليهم كقوله وخر موسى صعقا الأعراض 143 وهذا يخرج على قول من قال هو يوم القيام فإنهم يغشى عليهم من الأهوال وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ولا يصح لأن معنى الآية الوعيد
قوله تعالى يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا هذا اليوم الأول والمعنى لا ينفعهم مركهم ولا يدفع عنهم العذاب ولا هم ينصرون أي يمنعون من العذاب
قوله تعالى وإن للذين ظلموا أي أشركوا عذابا دون ذلك أي قبل ذلك اليوم وفيه أربعة أقوال (8/59)
أحدها أنه عذاب القبر قاله البراء وابن عباس والثاني عذاب القتل يوم بدر وروي عن ابن عباس أيضا وبه قال مقاتل والثالث مصائبهم في الدنيا قاله الحسن وابن زيد والرابع عذاب الجوع قاله مجاهد
قوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون أي لا يعلمون ما هو نازل بهم
واصبر لحكم ربك أي لما يحكم به عليك فإنك بأعيننا قال الزجاج فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إلى مكروهك وذكر المفسرون أن معنى الصبر نسخ بآية السيف ولا يصح لأنه لا تضاد
وسبح بحمد ربك حين تقوم فيه ستة أقوال
أحدها صل لله حين تقوم من منامك قاله ابن عباس
والثاني قل سبحانك اللهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك قاله عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين
والثالث قل سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك حين تقوم في الصلاة قاله الضحاك
والرابع سبح الله إذا قمت من نومك قاله حسان بن عطية
والخامس صل صلاة الظهر إذا قمت من نوم القائلة قاله زيد بن أسلم
والسادس اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة قاله ابن السائب
قوله تعالى ومن الليل فسبحه قال مقاتل صل المغرب وصل العشاء وإدبار النجوم قرأ زيد عن يعقوب وهارون عن أبي عمرو والجعفي (8/60)
عن أبي بكر وأدبار النجوم بفتح الهمزة وقرأ الباقون بكسرها وقد شرحناها في ق40 والمعنى صل له في إدبار النجوم أي حين تدبر أي تغيب بضوء الصبح وفي هذه الصلاة قولان
أحدهما أنها الركعتان قبل صلاة الفجر رواه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول الجمهور
والثاني أنها صلاة الغداة قاله الضحاك وابن زيد (8/61)
سورة النجم
وهي مكية بإجماعهم
إلا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا إلا آية منها وهي الذين يجتنبون كبائر الإثم النجم 32 وكذلك قال مقاتل قال وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة
بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذى هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
قوله تعالى والنجم إذا هوى هذا قسم وفي المراد بالنجم خمسة أقوال
أحدها أنه الثريا رواه العوفي عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن مجاهد قال ابن قتيبة والعرب تسمي الثريا وهي ستة أنجم نجما وقال غيره هي سبعة فستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن به الناس أبصارهم
والثاني الرجوم من النجوم يعني ما يرمى به الشياطين رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنه القرآن نزل نجوما متفرقة قاله عطاء عن ابن عباس (8/62)
والأعمش عن مجاهد وقال مجاهد كان ينزل نجوما ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك
والرابع نجوم السماء كلها وهو مروي عن مجاهد أيضا والخامس أنها الزهرة قاله السدي
فعلى قول من قال النجم الثريا يكون هوى بمعنى غاب ومن قال هو الرجوم يكون هويها في رمي الشياطين ومن قال القرآن يكون معنى هوى نزل ومن قال نجوم السماء كلها ففيه قولان
أحدهما أن هويها أن تغيب والثاني أن تنتثر يوم القيامة
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آياتها وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر وقرأ حمزة والكسائي ذلك كله بالإمالة
قوله تعالى ما ضل صاحبكم هذا جواب القسم والمعنى ما ضل عن طريق الهدى والمراد به رسول الله صلى الله عليه و سلم
وما ينطق عن الهوى أي ما يتكلم بالباطل وقال أبو عبيدة عن بمعنى الباء وذلك أنهم قالوا إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه
إن هو أي ما القرآن إلا وحي من الله يوحى وهذا مما يحتج به من لا يجيز للنبي أن يجتهد وليس كما ظنوا لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي جاز أن ينسب إلى الوحي علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة (8/63)
المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى
قوله تعالى علمه شديد القوى وهو جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن قتيبة وأصل هذا من قوى الحبل وهي طاقاته الواحدة قوة ذو مرة أي ذو قوة وأصل المرة الفتل قال المفسرون وكان من قوته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها وصاح بثمود فأصبحوا خامدين
قوله تعالى فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان
أحدهما فاستوى جبريل وهو يعني النبي صلى الله عليه و سلم والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم قاله الفراء (8/64)
والثاني فاستوى جبريل وهو يعني جبريل بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل وأحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق فيكون المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته هذا قول الزجاج قال مجاهد والأفق الأعلى هو مطلع الشمس وقال غيره إنما قيل له الأعلى لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء
قوله تعال ثم دنا فتدلى قال الفراء المعنى ثم تدلى فدنا ولكنه جائز أن تقدم أي الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا فتقول قد دنا فقرب وقرب فدنا وشتم فأساء وأساء فشتم ومنه قوله اقتربت الساعة وانشق القمر المر 1 المعنى والله أعلم انشق القمر واقتربت الساعة قال ابن قتيبة المعنى تدلى فدنا لأنه تدلى للدنو ودنا بالتدلي وقال الزجاج دنا بمعنى قرب وتدلى زاد في القرب ومعنى اللفظتين واحد وقال غيرهم أصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب
وفي المشار إليه بقوله ثم دنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه الله عز و جل روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وروى أبو سلمة عن ابن عباس ثم دنا (8/65)
قال دنا ربه فتدلى وهذا اختيار مقاتل قال دنا الرب من محمد ليلة أسري به فكان منه قاب قوسين أو أدنى وقد كشفت هذا الوجه في كتاب المغني وبينت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة لأن ذلك يختص بالأجسام والله منزه عن ذلك
والثاني أنه محمد دنا من ربه قاله ابن عباس والقرظي
والثالث أنه جبريل ثم في الكلام قولان
أحدهما دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله الحسن وقتادة والثاني دنا جبريل من ربه عز و جل فكان منه قاب قوسين أو أدنى قاله مجاهد
قوله تعالى فكان قاب قوسين أو أدنى وقرأ ابن مسعود وأبو رزين فكان قاد قوسين بالدال قوال أبو عبيدة القاب والقاد القدر وقال (8/66)
ابن فارس القاب القدر ويقال بل القاب ما بين المقبض والسية ولكل قوس قابان وقال ابن قتيبة سية القوس ما عطف من طرفيها
وفي المراد بالقوسين قولان
أحدهما أنها القوس التي يرمى بها قاله ابن عباس واختاره ابن قتيبة فقال قدر قوسين وقال الكسائي اراد بالقوسين قوسا واحد
والثاني أن القوس الذراع فالمعنى كان بينهما قدر ذراعين حكاه ابن قتيبة وهو قول ابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي قال ابن مسعود دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين
قوله تعالى أو أدنى في قولان
أحدهما أنها بمعنى بل قاله مقاتل والثاني أنهم خوطبوا على لغتهم والمعنى كان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل هذا اختيار الزجاج
قوله تعالى فأوحى إلى عبده ما أوحى فيه ثلاثة أقوال
أحدها أوحى الله إلى محمد كفاحا بلا واسطة وهذا على قول من يقول إنه كان في ليلة المعراج
والثاني أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما أوحى الله إليه رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث أوحى الله إلى جبريل ما يوحيه روي عن عائشة رضي الله عنها والحسن وقتادة (8/67)
قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى قرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر وأبان عن عاصم ما كذب بتشديد الذال وقرأ الباقون بالتخفيف فمن شدد أراد ما أنكر فؤاده ما رأته عينه ومن خفف أراد ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير بل صدق الفؤاد رؤيته
وفي الذي رأى قولان
أحدهما أنه رأى ربه عز و جل قاله ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة
والثاني أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها قاله ابن مسعود وعائشة
قوله تعالى أفتمارونه وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف ويعقوب أفتمرونه قال ابن قتيبة معنى أفتمارونه أفتجادلونه من المراء ومعنى أفتمرونه أفتجحدونه
قوله تعالى ولد رآه نزلة أخرى قال الزجاج أي رآه مرة أخرى قال ابن عباس رأى محمد ربه وبيان هذا أنه تردد لأجل الصلوات مرارا فرأى ربه في بعض تلك المرات مرة أخرى قال كعب إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين وقد (8/68)
روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضا رآه على صورته التي خلق عليها
فأما سدرة المنتهى فالسدرة شجرة النبق وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة وفي مكانها قولان
أحدهما أنها فوق السماء السابعة وهذا مذكور في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة قال مقاتل وهي عن يمين العرش
والثاني أنها في السماء السادسة أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك قال المفسرون وإنما سميت سدرة المنتهى لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها وإليها ينتهي علم جميع الملائكة
قوله تعالى عندها وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك عنده بهاء مرفوعة على ضمير مذكر جنة المأوى قال ابن عباس هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة وقال الحسن هي التي يصير إليها أهل الجنة وقال مقاتل هي جنة إليها تأوي أرواح الشهداء وقرأ سعيد بن المسيب والشعبي وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو العالية جنة المأوى بهاء (8/69)
صحيحة مرفوعة قال ثعلب يريدون أجنه وهي شاذة وقيل معنى عندها أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى إن يغشى السدرة ما يغشى روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال غشيها فراش من ذهب وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها وقال الحسن ومقاتل تغشاها الملائكة أمثلا الغربان حين يقعن على الشجرة وقال الضحاك غشيها نور رب العالمين
قوله تعالى ما زاغ البصر أي ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه و سلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي ما زاد ولا جاوز ما رأى وهذا وصف أدبه صلى الله عليه و سلم في ذلك المقام
لقد رأى من آيات ربه الكبرى فيه قولان أحدهما لقد رأى من آيات ربه العظام والثاني لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى (8/70)
وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال
أحدها أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق قاله ابن مسعود
والثاني أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات قاله ابن زيد
والثالث أنه رأى من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى قاله ابن جرير أفرأيتم اللات والعزى ومنوة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
قال الزجاج فلما قص الله تعالى هذه الأقاصيص قال أفرأيتم اللات والعزى المعنى أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء
فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفف التاء وهو اسم صنم كان لثقيف اتخذوه من دون الله وكانوا يشتقون لأصنامهم من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى قال أبو سليمان الخطابي كان (8/71)
المشركون يتعاطون الله اسما لبعض أصنامهم فصرفه الله إلى اللات صيانة لهذا الاسم وذبا عنه وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وابن السميفع ومجاهد وابن يعمر والأعمش وورش عن يعقوب اللات بتشديد التاء ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلا كان يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره فعبدون وقال الزجاج زعموا أن رجلا كا يلت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم فسمي الصنم اللات وكان الكسائي يقف عليه بالهاء فيقول اللاه وهذا قياس والأجود الوقوف بالتاء لاتباع المصحف
وأما العزى ففيها قولان
أحدهما أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها قاله مجاهد
والثاني صنم لهم قاله الضحاك قال وأما مناة فهو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة وقال قتادة بل كانت للأنصار وقال أبو عبيدة كانت اللات والعزى ومناة أصناما من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها وقرأ ابن كثر ومناءة ممدودة مهموزة
فأما قوله الثالثة فإنه نعت ل مناة هي ثالثة الصنمين في الذكر والأخرى نعت لها قال الثعلبي العرب لا تقول للثالثة الأخرى وإنما الأخرى نعت للثانية فيكون في المعنى وجهان
أحدهما أن ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله مآرب أخرى طه 18 ولم يقل أخر قاله الخليل (8/72)
والثاني أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة قاله الحسين بن الفضل
قوله تعالى ألكم الذكر قال ابن السائب إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة بنات الله وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره فقال الله تعالى منكرا عليهم ألكم الذكر وله الأنثى يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها
تلك إذا قسمة ضيزى قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ضيزى بكسر الضاد من غير همز وافقهم ابن كثير في كسر الضاد لكنه همز وقرأ أبي بن كعب ومعاذ القارئ ضيزى بفتح الضاد من غير همز قال الزجاج الضيزى في كلام العرب الناقصة الجائرة يقال ضازه يضيزه إذا نقصه حقه ويقال ضأزه يضأزه بالهمز وأجمع النحويون أن أصل ضيزى ضوزى وحجتهم أنها نقلت من فعلى من ضوزى إلى ضيزى لتسلم الياء كما قالوا أبيض وبيض وأصله بوض فنقلت الضمة إلى الكسرة وقرأت على بعض العلماء باللغة في ضيزى لغات يقال ضيزى وضوزى وضؤزى وضأزى على فعلى مفتوحة ولا يجوز في القرآن إلا ضيزى بياء غير مهموزة وإنما لم يقل النحويون إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام فعلى صفة إنما يعرفون الصفات على فعلى بالفتح نحو سكرى وغضبى أو بالضم نحو حبلى وفضلى
قوله تعالى إن هي يعني الأوثان إلا أسماء والمعنى إن هذه الأوثان (8/73)
التي سموها بهذه الأسامي لا معنى تحتها لأنها لا تضر ولا تنفع فهي تسميات ألقيت على جمادات ما أنزل الله بها من سلطان أي لم ينزل كتابا فيه حجة بما يقولون إنها آلهة ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال إن يتبعون في أنها آلهة إلا الظن وما تهوى الأنفس وهو ما زين لهم الشيطان ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو البيان بالكتاب والرسول وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان
ثم أنكر عليهم تمنيهم شفاعتها فقال أم للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام فلله الآخرة والأولى أي لا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه ثم أكد هذا بقوله وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا فجمع في الكناية لأن معنى الكلام الجمع إلا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة لمن يشاء ويرضى والمعنى أنهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنهم إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملئكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى
قوله تعالى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي بالبعث ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وذلك ين زعموا أنها بنات الله وما لهم بذلك من علم أي ما يستيقنون أنها إناث إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا أي لا يقوم مقام العلم فالحق ها هنا بمعنى العلم (8/74)
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا يعني القرآن وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف
قوله تعالى ذلك مبلغهم من العلم قال الزجاج إنما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم وقد نبذوا أمر الآخرة
قوله تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله الآية والمعنى أنه عالم بالفريقين فيجازيهم
ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يتجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى
قوله تعالى ولله ما في السموات وما في الأرض هذا إخبرا عن قدرته وسعة ملكه وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله ليجزي الذين أساؤوا لأن اللام في ليجزي متعلقة بمعنى الآية الأولى لأنه إذا كان أعلم بهما جازى كلا بما يستحقه وهذه لام العاقبة وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك فلذلك أخبر به في قوله ولله ما في السموات وما في الأرض قال المفسرون وأساؤوا بمعنى أشركوا وأحسنوا بمعنى وحدوا والحسنى الجنة والكبائر مذكورة في سورة النساء 31 وقيل كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار والفواحش كل ذنب فيه الحد وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف يجتنبون كبير الإثم واللمم في كلام العرب المقاربة للشيء وفي المراد به ها هنا ستة أقوال (8/75)
أحدها ما ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية فإنه يغفر في الإسلام قاله زيد بن ثابت
والثاني أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود قاله ابن عباس والحسن والسدي
والثالث أنه صغار الذنوب كالنظرة والقبلة وما كان دون الزنا قاله ابن مسعود وأبو هريرة والشعبي ومسروع ويؤيد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تشتهي وتتمنى ويصدق ذلك ويكذبه الفرج فإن تقدم بفرجه كان الزنا وإلا فهو اللمم
والرابع أنه ما يهم به الإنسان قاله محمد بن الحنفية
والخامس أنه ألم بالقلب أي خطر قاله سعيد بن المسيب
والسادس أنه النظر من غير تعمد قاله الحسين بن الفضل فعلى القولين الأولين يكون الاستثناء من الجنس وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس
قوله تعالى إن ربك واسع المغفرة قال ابن عباس لمن فعل ذلك ثم تاب وها هنا تم الكلام ثم قال هو أعلم بكم يعني قبل خلقكم إذ أنشأكم من الأرض يعني آدم عليه ا لسلام وإذ أنتم أجنة جمع جنين والمعنى أنه علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون فلا تزكوا أنفسكم أي لا تشهدوا لها أنها زكية بريئة من المعاصي وقيل لا تمدحوها بحسن أعمالها وفي سبب نزول هذه الآية قولان (8/76)
أحدهما أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبي قالوا صديق فنزلت هذه الآية هذا قول عائشة رضي الله عنها
والثاني أن ناسا من المسلمين قالوا قد صلينا وصمنا وفعلنا يزكون أنفسهم فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
قوله تعالى وهو أعلم بمن اتقى فيه ثلاثة أقوال
أحدها عمل حسنة و أرعوى عن معصية قاله علي رضي الله عنه
والثاني أخلص العمل لله قاله الحسن والثالث اتقى الشرك فآمن قاله الثعلبي
أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبرهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى
قوله تعالى أفرأيت الذي تولى اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنه الوليد بن المغيرة وكان قد تبع رسول الله صلى الله عليه و سلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال تركت دين الأشياخ وضللتهم قال إني خشيت عذاب الله فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عز و جل ففعل فأعطاه بعض الذي ضمن له ثم بخل ومنعه فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وابن زيد (8/77)
والثاني أنه النضر بن الحارث أعطى بعض الفقراء المسلمين خمس قلائص حتى ارتد عن إسلامه وضمن له أن يحمل عنه إثمه قاله الضحاك
والثالث أنه أبو جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق قاله محمد بن كعب القرظي
والرابع أنه العاص بن وائل السهمي وكان ربما وافق رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأمور قاله السدي
ومعنى تولى أعرض عن الإيمان وأعطى قليلا فيه أربعة أقوال
أحدها أطاع قليلا ثم عصى قاله ابن عباس والثاني أعطى قليلا من نفسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع قاله مجاهد والثالث أعطى قليلا من ماله ثم منع قاله الضحاك والرابع أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع قاله مقاتل قال ابن قتيبة ومعنى أكدى قطع وهو من كدية الركية وهي الصلابة فيها وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها فقطع الحفر فقيل لكل من طلب شيئا فلم يبلغ آخره أو أعطى ولم يتم أكدى
قوله تعالى أعنده علم الغيب فهو يرى فيه قولان
أحدهما فهو يرى حاله في الآخرة قاله الفراء والثاني فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها قاله ابن قتيبة
قوله تعالى أم لم ينبأ بما في صحف موسى يعني التوراة وإبراهيم أي وصحف إبراهيم وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى أنزل (8/78)
على إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف
قوله تعالى الذي وفى قرأ سعيد بن جبير وأبو عمران الجوني وابن السميفع اليماني وفي بتخفيف الفاء قال الزجاج قوله وفى أبلغ من وفى لأن الذي امتحن به من أعظم المحن وللمفسرين في الذي وفي عشرة أقوال
أحدها أنه وفى عمل يومه بأربع ركعات في أول النهار رواه أبوأمامة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني أنه وفي في كلمات كان يقولها روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الروم 17 وختم الآية (8/79)
والثالث أنه وفى الطاعة فيما فعل بابنه رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال القرظي
والرابع أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس
والخامس أنه وفى ما أمر به من تبليغ الرسالة روي عن ابن عباس أيضا
والسادس أنه عمل بما أمر به قاله الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وقال مجاهد وفى ما فرض عليه
والسابع أنه وفى بتبليغ هذه الآيات وهي ألا تزر وازرة وزر أخرى وما بعدها وهذا مروى عن عكرمة ومجاهد والنخعي
والثامن وفي شأن المناسك قاله الضحاك
والتاسع أنه عاهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا فلما قذف في النار قال له جبريل ألك حاجة فقال أما إليك فلا فوفى بما عاهد ذكره عطاء بن السائب
والعاشر أنه أدى الأمانة قاله سفيان بن عيينة
ثم بين ما في صحفهما فقال ألا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى والمعنى لا تؤخذ بإثم غيرها
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى قال الزجاج هذا في صحفهما أيضا ومعناه ليس للإنسان إلا جزاء سعيه إن عمل خيرا جزي عليه خيرا وإن عمل شرا جزي شرا واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال (8/80)
أحدها أنها منسوخة بقوله وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الطور 21 فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء قاله ابن عباس ولا يصح لأن لفظ الآيتين لفظ خبر والأخبار لا تنسخ
والثاني أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم قاله عكرمة واستدل بقول النبي صلى الله عليه و سلم للمرأة التي سألته إن أبي مات ولم يحج فقال حجي عنه
والثالث أن المراد بالإنسان ها هنا الكافر فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له قاله الربيع بن أنس
والرابع أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله عز و جل ما يشاء قاله الحسين بن الفضل
والخامس أن معنى ما سعى ما نوى قاله أبو بكر الوراق
والسادس ليس للكافر من الخير إلى ما عمله في الدنيا فيثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير ذكره الثعلبي
والسابع أن اللام بمعنى على فتقديره ليس على الإنسان إلا ما سعى
والثامن أنه ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفة فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق وتارة يسعى في خدمة الدين (8/81)
والعبادة فيكتسب محبة أهل الدين فيكون ذلك سببا حصل بسعيه حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني
قوله تعالى وأن سعيه سوف يرى فيه قولان
أحدهما سوف يعلم قاله ابن قتيبة
والثاني سوف يرى العبد سعيه يوم القيامة أي يرى عمله في ميزانه قاله الزجاج
قوله تعالى يجزاه الهاء عائدة على السعي الجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم
وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى
وأن إلى ربك المنتهى أي منتهى العباد ومرجعهم قال الزجاج هذا كله في صحف إبراهيم وموسى
قوله تعالى وأنه هو أضحك وأبكى قالت عائشة مرة رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوم يضحكون فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية فرجع إليهم فقال (8/82)
ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال إئت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول وأنه هو أضحك وأبكى وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبكاء وقال مجاهد أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار وقال الضحاك أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر
قوله تعالى وأنه هو أمات في الدنيا وأحيا للبعث
وأنه خلق الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى من جميع الحيوانات من نطفة إذا تمنى فيه قولان
أحدهما إذا تراق في الرحم قاله ابن السائب
والثاني إذا تخلق وتقدر وأن عليه النشأة الأخرى وهي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة
وأنه هو أغنى فيه أربعة أقوال
أحدها أغنى بالكفاية قاله ابن عباس والثاني بالمعيشة قاله الضحاك والثالث بالأموال قاله أبو صالح والرابع بالقناعة قاله سفيان
وفي قوله أقنى ثلاثة أقوال
أحدها أرضى بما أعطى قاله ابن عباس
والثاني أخدم قاله الحسن وقتادة وعن مجاهد كالقولين
والثالث جعل للإنسان قنية وهو أصل مال قاله أبو عبيدة (8/83)
قوله تعالى وأنه هو رب الشعرى قال ابن قتيبة هو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء وكان ناس من العرب يعبدونها
قوله تعالى وأنه أهلك عادا الأولى قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي عادا الأولى منونة وقرأ نافع وأبو عمرو عادا لولى موصولة مدغمة ثم فيهم قولان
أحدهما أنهم قوم هود وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى هذا قول الجمهور
والثاني أن قوم هود هم عاد الأخرى وهم من أولاد عاد الأولى قاله كعب الأحبار وقال الزجاج وفي الأولى لغات أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة ومن العرب من يقول لولى يريد الأولى فتطرح الهمزة لتحرك اللام
قوله تعالى وقوم نوح من قبل أي من قبل عاد وثمود إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم
والمؤتفكة قرى قوم لوط أهوى أي أسقط وكان الذي تولى ذلك جبريل بعد أن رفعها وأتبعهم الله بالحجارة فذلك قوله فغشاها أي ألبسها ما غشى يعني الحجارة فبأي آلاء ربك تتمارى هذا خطاب للإنسان لما عدد الله ما فعله مما يدل على وحدانيته قال فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك وقال ابن عباس فبأي آلاء ربك تكذب يا وليد يعني الوليد بن المغيرة (8/84)
هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا
قوله تعالى هذا نذير فيه قولان
أحدهما أنه القرآن نذير بما أنذرت الكتب المتقدمة قاله قتادة
والثاني أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم نذير بما أنذرت به الأنبياء قاله ابن جريج
قوله تعالى أزفت الآزفة أي دنت القيامة ليس لها من دون الله كاشفة فيه قولان
أحدهما إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد ولم يردها قاله عطاء وقتادة والضحاك
والثاني ليس لعلمها كاشف دون الله أي لا يعلم علمها إلا الله قاله الفراء قال وتأنيث كاشفة كقوله هل ترى لهم من باقية الحاقة 8 يريد من بقاء والعافية والباقية والناهية كله في معنى المصدر وقال غيره تأنيث كاشفة على تقدير نفس كاشفة
قوله تعالى أفمن هذا الحديث قال مقاتل يعني القرآن تعجبون تكذيبا به وتضحكون استهزاء ولا تبكون مما فيه من الوعيد ويعني بهذا كفار مكة وأنتم سامدون فيه خمسة أقوال (8/85)
أحدها لاهون رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الفراء والزجاج قال أبو عبيدة يقال دع عنك سمودك أي لهوك
والثاني معرضون قاله مجاهد
والثالث أنه الغناء وهي لغة يمانية يقولون اسمد لنا أي تغن لنا رواه عكرمة عن ابن عباس وقال عكرمة هو الغناء بالحميرية
والرابع غافلون قاله قتادة
والخامس أشرون بطرون قاله الضحاك
قوله تعالى فاسجدوا لله فيه قولان
أحدهما أنه سجود التلاوة قاله ابن مسعود
والثاني سجود الفرض في الصلاة
قال مقاتل يعني بقوله فاسجدوا الصلوات الخمس
وفي قوله واعبدوا قولان
أحدهما أنه التوحيد والثاني العبادة (8/86)
سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر
وهي مكية بإجماعهم وقال مقاتل مكية غير آية سيهزم الجمع القمر 45 وحكي عنه أنه قال إلا ثلاث آيات أولها أم يقولون نحن جميع منتصر إلى قوله وأمر القمر 44 46 قال ابن عباس اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن كت صادقا فشق لنا القمر فرقتين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إن فعلت تؤمنون قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه أن يعطيه ما قالوا فانشق القمر فرقتين ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا وذلك بمكة قبل الهجرة وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم (8/87)
اشهدوا وقد روى حديث الانشقاق جماعة منهم عبد الله بن عمر وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عباس وأنس بن مالك وعلى هذا جميع المفسرين إلا أن قوما شذوا فقالوا سينشق يوم القيامة وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع ولأن قوله وانشق لفظ ماض وحمل لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل وليس ذلك موجودا وفي قوله وإن يروا آية يعرضوا دليل على أنه قد كان ذلك ومعنى اقتربت دنت والساعة القيامة وقال الفراء فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وقال مجاهد انشق القمر فصار فرقتين فثبتت فرقة وذهبت فرقة وراء الجبل وقال ابن زيد لما انشق القمر كان يرى نصفه على قعيقعان والنصف الآخر على أبي قبيس قال ابن مسعود لما انشق القمر قالت قريش سحركم ابن أبي كبشة فاسألوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله عز و جل اقتربت الساعة وانشق القمر (8/88)
قوله تعالى وإن يروا آية أي آية تدلهم على صدق الرسول والمراد بها ها هنا انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق ويقولوا سحر مستمر فيه ثلاثة أقوال
أحدها ذاهب من قولهم مر الشيء واستمر إذا ذهب قاله مجاهد وقتادة والكسائي والفراء فعلى هذا يكون المعنى هذا سحر والسحر يذهب ولا يثبت
والثاني شديد قوي قاله أبو العالية والضحاك وابن قتيبة قال وهو مأخوذ من المرة والمرة الفتل والثالث دائم حكاه الزجاج
قوله تعالى وكذبوا يعني كذبوا النبي صلى الله عليه و سلم وما عاينوا من قدرة الله تعالى واتبعوا أهواءهم ما زين لهم الشيطان وكل أمر مستقر فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن كل أمر مستقر بأهله فالخير يستقر بأهل الخير والشر يستقر بأهل الشر قاله قتادة
والثاني لكل حديث منتهى وحقيقة قاله مقاتل
والثالث أن قرار تكذيبهم مستقر وقرار تصديق المصدقين مستقر حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب قاله الفراء
قوله تعالى ولقد جاءهم يعني أهل مكة من الأنباء أي من أخبار الأمم المكذبة في القرآن ما فيه مزدجر قال ابن قتيبة أي متعظ ومنتهى
قوله تعالى حكمة بالغة قال الزجاج هي مرفوعة لأنها بدل من (8/89)
ما فالمعنى ولقد جاءهم حكمة بالغة وإن شئت رفعتهما بإضمار هو حكمة بالغة وما في قوله فما تغن النذر جائز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ فيكون المعنى أي شيء تغني النذر وجائز أن يكون نفيا على معنى فليست تغني النذر قال المفسرون والمعنى جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية فما تغني النذر إذا لم يؤمنوا فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر
فتول عنهم قال الزجاج هذا وقف التمام ويوم منصوب بقوله يخرجون من الأجداث وقال مقاتل فتول عنهم إلى يوم يدع الداعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب وافقه أبو جعفر وأبو عمرو في الوصل وحذفها الأكثرون في الحالين والداعي إسرافيل ينفخ النفخة الثانية إلى شيء نكر وقرأ ابن كثير نكر خفيفة أي إلى أمر فظيع وقال مقاتل النكر بمعنى المنكر وهو القيامة وإنما ينكرونه إعظاما له والتولي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف
قوله تعالى خشعا أبصارهم قرأ أهل الحجاز وابن عامر وعاصم خشعا بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي خاشعا بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين قال الزجاج المعنى يخرجون خشعا وخاشعا منصوب على الحال وقرأ ابن مسعود خاشعة ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والتأنيث (8/90)
والجمع تقول مررت بشبان حسن أوجههم وحسان أوجههم وحسنة أوجههم قال الشاعر ... وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد ...
قال المفسرون والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب والأجداث القبور وإنما شبههم بالجراد المنتشر لأن الجراد لا جهة له يقصدها فهو أبدا مختلف بعضه في بعض فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها والداعي إسرافيل وقد أثبت ياء الداعي في الحالين ابن كثير ويعقوب تابعهما في الوصل نافع وأبو عمرو والباقون بحذفها في الحالين وقد بينا معنى مهطعين في سورة إبراهيم 43 والعسر الصعب الشديد
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازد جر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (8/91)
قوله تعالى كذبت قبلهم أي قبل أهل مكة قوم نوح فكذبوا عبدنا نوحا وقالوا مجنون وازدجر قال أبو عبيدة افتعل من زجر قال المفسرون زجروه عن مقالته فدعا عليهم نوح ربه ب أني مغلوب فانتصر أي فانتقم لي ممن كذبني قال الزجاج وقرأ عيسى بن عمر النحوي إني بكسر الألف وفسرها سيبويه فقال هذا على إرادة القول فالمعنى قال إني مغلوب ومن فتح وهو الوجه فالمعنى دعا ربه أني مغلوب
قوله تعالى ففتحنا أبواب المساء قرأ ابن عامر ففتحنا بالتشديد فأما المنهمر فقال ابن قتيبة هو الكثير السريع الانصباب ومنه يقال همر الرجل إذا أكثر من الكلام وأسرع وروى علي رضي الله عنه أن أبواب السماء فتحت بالماء من المجرة وهي شرج السماء وعلى ما ذكرنا من القصة في هود 44 أن المطر جاءهم يكون هو المراد بقوله ففتحنا أبواب السماء قال المفسرون جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوما وفجرت الأرض من تحتهم عيونا أربعين يوما
فالتقى الماء وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري المآءان بهمزة وألف ونون مكسورة وقرأ ابن مسعود المايان بياء وألف ونون مكسورة من غير همز وقرأ الحسن وأبو عمران الماوان بواو وألف وكسر النون قال الزجاج يعني بالماء ماء السماء وماء الأرض ويجوز الماءان لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء
قوله تعالى على أمر قد قدر فيه قولان
أحدهما كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض قاله مقاتل (8/92)
والثاني قد قدر في اللوح المحفوظ قاله الزجاج فيكون المعنى على أمر قد قضي عليهم وهو الغرق قوله تعالى وحملناه يعني نوحا على ذات ألواح ودسر قال الزجاج أي على سفينة ذات ألواح قال المفسرون ألواحها خشباتها العريضة التي منها جمعت وفي الدسر أربعة أقوال
أحدها أنها المسامير رواه الوالبي عن ابن عباس وبه قال قتادة والقرظي وابن زيد وقال الزجاج الدسر المسامير والشرط التي تشد بها الألواح وكل شيء نحو السمر أو إدخال شيء في شيء بقوة وشدة قهر فهو دسر يقال دسرت المسمار أدسره وأدسره والدسر واحدها دسار نحو حمار وحمر
والثاني أنه صدر السفينة سمي بذلك لأنه يدسر الماء أي يدفعه رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر أي دفعه
والثالث أن الدسر أضلاع السفينة قاله مجاهد
والرابع أن الدسر طرفاها وأصلها والألواح جانباها قاله الضحاك
قوله تعالى تجري بأعيننا أي بمنظر ومرأى منا جزاء قال الفراء فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به
وفي المراد ب من ثلاثة أقوال
أحدها أنه الله عز و جل وهو مذهب مجاهد فيكون المعنى عوقبوا لله ولكفرهم به (8/93)
والثاني أنه نوح كفر به وجحد أمره قاله الفراء
والثالث أن من بمعنى ما فالمعنى جزاء لما كان كفر من نعم الله عند الذين أغرقهم حكاه ابن جرير وقرأ قتادة لمن كان كفر بفتح الكاف والفاء
قوله تعالى ولقد تركناها في المشار إليها قولان
أحدهما أنها السفينة قال قتادة أبقاها الله على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة
والثاني أنها الفعلة فالمعنى تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة نوح آية أي علامة ليعتبر بها فهل من مدكر وأصله مدتكر فأبدلت التاء دالا على ما بينا في قوله وادكر بعد أمة يوسف 45 قال ابن قتيبة أصله مذتكر فأدغمت التاء في الذال ثم قلبت دالا مشددة قال المفسرون والمعنى هل من متذكر يعتبر بذلك فكيف كان عذابي ونذر وفي هذه السورة ونذر ستة مواضع أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب تابعه في الوصل ورش والباقون بحذفها في الحالين وقوله فكيف كان عذابي استفهام عن تلك الحالة ومعناه التعظيم لذلك العذاب قال ابن قتيبة والنذر ها هنا جمع نذير وهو بمعنى الإنذار ومثله النكير بمعنى الإنكار قال المفسرون وهذا تخويف لمشركي مكة
ولقد يسرنا القرآن أي سهلناه للذكر أي للحفظ والقراءة فهل من مدكر أي من ذاكر يذكره ويقرؤه والمعنى هو الحث على (8/94)
قراءته وتعلمه قال سعيد بن جبير ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن وأما الريح الصرصر فقد ذكرناها في حم السجدة 160
قوله تعالى في يوم نحس مستمر قرأ الحسن في يوم بالتنوين على أن اليوم منعوت بالنحس والمستمر الدائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه وقال ابن عباس كانوا يتشاءمون بذلك اليوم وقيل إنه كان يوم أربعاء في آخر الشهر
تنزع الناس أي تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد ف كأنهم أعجاز نخل وقرأ أبي بن كعب وابن السميفع أعجز نخل برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم وقرأ ابن مسعود وأبو مجلز وأبو عمران كأنهم عجز نخل بضم العين والجيم ومعنى الكلام كأنهم أصول نخل منقعر أي منقلع وقال الفراء المنقعر المنصرع من النخل قال ابن قتيبة يقال قعرته فانقعر أي قلته فسقط قال أبو عبيدة والنخل يذكر ويؤنث فهذه الآية على لغة من ذكر وقوله أعجاز نخل خاوية الحاقة 8 على (8/95)
لغة من أنث وقال مقاتل شبههم حين وقعوا من شدة العذاب بالنخل الساقطة التي لا رؤوس لها وإنما شبههم بالنخل لطولهم وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا
كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
قوله تعالى كذبت ثمود بالنذر فيه قولان
أحدهما أنه جمع نذير وقد بينا أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل
والثاني أن النذر بمعنى الإنذار كما بينا في قوله فكيف كان عذابي ونذر فكأنهم كذبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح قالوا أبشرا منا قال الزجاج هو منصوب بفعل مضمر والذي ظهر تفسيره المعنى أنتبع بشرا منا واحدا قال المفسرون قالوا هو آدمي مثلنا وهو واحد فلا نكون له تبعا إنا إذا إن فعلنا ذلك لفي ضلال أي خطأ وذهاب عن الصواب وسعر قال ابن عباس أي جنون قال ابن قتيبة هو من تسعرت النار إذا التهبت يقال ناقة مسعورة أي كأنها مجنونة من النشاط وقال غيره لفي شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته (8/96)
ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا أألقي الذكر أي أنزل الوحي عليه من بيننا أي كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي بل هو كذاب أشر وفيه قولان
أحدهما أنه المرح المتكبر قاله ابن قتيبة
والثاني البطر قاله الزجاج
قوله تعالى سيعلمون غدا قرأ ابن عامر وحمزة ستعلمون بالتاء غدا فيه قولان
أحدهما يوم القيام قاله ابن السائب
والثاني عند نزول العذاب بهم قاله مقاتل
قوله تعالى إنا مرسلو الناقة وذلك أنهم سألوا صالحا أن يظهر لهم ناقة من صخرة فقال الله تعالى إنا مرسلو الناقة أي مخرجوها كما أرادوا فتنة لهم أي محنة واختبارا فارتقبهم أي فانتظر ما هم صانعون واصطبر على ما يصيبك من الأذى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم أي بين ثمود وبين الناقة يوم لها ويوم لهم فذلك قوله كل شرب محتضر يحضره صاحبه ويستحقه
قوله تعالى فنادوا صاحبهم واسمه قدار بن سالف فتعاطى قال ابن قتيبة تعاطى عقر الناقة فعقر أي قتل وقد بينا هذا في الأعراف 77
قوله تعالى إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة وذلك أن جبريل عليه (8/97)
السلام صاح بهم وقد أشرنا إلى قصتهم في هود 61 فكانوا كهشيم المحتظر قال ابن عباس هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم وقد بينا معنى الهشيم في الكهف 45 وقال الزجاج الهشيم ما يبس من الورق وتكسر وتحطم والمعنى كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف فهو يجمع ليوقد وقرأ الحسن المحتظر بفتح الظاء وهو اسم الحظيرة والمعنى كهشيم المكان الذي يحتظر فيه الهشيم من الحطب وقال سعيد بن جبير هو التراب الي يتناثر من الحيطان وقال قتادة كالعظام النخرة المحترقة والمراد من جميع ذلك أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطم
كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
قوله تعالى إنا أرسلنا عليهم حاصبا قال المفسرون هي الحجارة التي قذفوا بها إلا آل لوط يعني لوط وابنتيه نجيناهم من ذلك العذاب بسحر قال الفراء سحر ها هنا يجري لأنه نكرة كقوله نجيناهم بليل فإذا ألقت العرب منه الباء لم يجر لأن لفظهم به بالألف واللام يقولون ما زال عندنا منذ السحر لا يكادون يقولون غيره فإذا حذفت منه الألف واللام لم يصرف وقال الزجاج إذا كان السحر نكرة يراد به سحر من الأسحار انصرف فإذا أردت سحر يومك لم ينصرف (8/98)
قوله تعالى كذلك نجزي من شكر قال مقاتل من وحد الله تعالى لم يعذب مع المشركين
قوله تعالى ولقد راودوه عن ضيفه أي طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة فطمسنا أعينهم وهو أن جبريل ضرب أعينهم بجناحه فأذهبا وقد ذكرنا القصة في سورة هود 81 وتم الكلام ها هنا ثم قال فذوقوا أي فقلنا لقوط لوط لما جاءهم العذاب ذوقوا عذابي ونذر أي ما أنذركم به لوط ولقد صبحهم بكرة أي أتاهم صباحا عذاب مستقر أي نازل بهم قال مقاتل استقر بهم العذاب بكرة قال الفراء والعرب تجري غدوة وبكرة ولا تجريهما وأكثر الكلام في غدوة ترك الإجراء وأكثر في بكرة أن تجري فمن لم يجرها جعلها معرفة لأنها اسم يكون أبدا في وقت واحد بمنزلة أمس وغد وأكثر ما تجري العرب غدوة إذا قرنت بعشية يقولون إني لآتيهم غدوة وعشية وبعضهم يقول غدوة فلا يجريها وعشية فيجريها ومنهم من لا يجري عشية لكثرة ما صحبت غدوة وقال الزجاج الغدوة والبكرة إذا كانتا نكرتين نونتا وصرفتا فإذا أردت بهما بكرة يومك وغداة يومك لم تصرفهما والبكرة ها هنا نكرة فالصرف أجود لأنه لم يثبت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا
ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (8/99)
قوله تعالى ولقد جاء آل فرعون يعني القبط النذر فيهم قولان
أحدهما أنه جمع نذير وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى
والثاني أن النذر بمعنى الإنذار وقد بيناه آنفا فأخذناهم بالعذاب أخذ عزيز أي غالب في انتقامه مقتدر قادر على هلاكهم
ثم خوف أهل مكة فقال أكفاركم يا معشر العرب خير أي أشد وأقوى من أولئكم وهذا استفهام معناه الإنكار والمعنى ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود وقد أهلكناهم أم لكم براءة من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم في الزبر أي في الكتب المتقدمة أم يقولون نحن جميع منتصر المعنى أيقولون نحن يد واحدة على من خالفنا فننتصر منهم وإنما وحد المنتصر للفظ الجميع فإنه على لفظ واحد وإن كان اسما للجماعة سيهزم الجمع وروى أبو حاتم بن يعقوب سنهزم بالنون الجمع بالنصب وتولون بالتاء ويعني بالجمع جمع كفار مكة ويولون الدبر ولم يقل الأدبار وكلاهما جائز قال الفراء مثله أن يقول إن فلانا لكثير الدينار والدرهم وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب فكانت الهزيمة يوم بدر
قوله تعالى والساعة أدهى قال مقاتل هي أفظع وأمر من القتل قال الزجاج ومعنى الداهية الأمر الشديد الذي لا يهتدى لدوائه ومعنى أمر أشد مرارة من القتل والأسر
إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (8/100)
قوله تعالى إن المجرمين في ضلال وسعر في سبب نزولها قولان
أحدهما أن مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يخاصمون في القدر فنزلت هذه الآية إلى قوله خلقناه بقدر انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة وروى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن هذه الآية نزلت في القدرية
والثاني أن أسقف نجران جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم الله عليه وسلم فقال يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر وليس كذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنتم خصماء الله فنزلت إن المجرمين إلى قوله بقدر قاله عطاء
قوله تعالى وسعر فيه ثلاثة أقوال
أحدها الجنون والثاني العناء وقد ذكرناهما في صدر السورة
والثالث أنه نار تستعر عليهم قاله الضحاك
فأما سقر فقال الزجاج هي اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنها معرفة وهي مؤنثة وقرأت على شيخنا أبي منصور قال سقر اسم لنار الأخرة أعجمي ويقال بل هو عربي من قولهم سقرته الشمس إذا أذابته سميت بذلك لأنها تذيب الأجسام وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا (8/101)
فنادى نداء يسمعه الأولون والآخرون أين خصماء الله فتقوم القدرية فيؤمر بهم إلى النار يقول الله تعالى ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وإنما قيل لهم خصماء الله لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها وروى هشام بن حسان عن الحسن قال والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل ثم صلى حتى يصير كالوتر ثم أخذ ظلما وزورا حتى ذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس وقال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خدك وقال الزجاج معنى بقدر أي كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ونصب كل شيء بفعل مضمر المعنى إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر
قوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة قال الفراء أي إلا مرة واحدة وكذلك قال مقاتل مرة واحدة لا مثنوية لها وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد إن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر وقال ابن السائب المعنى وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كلمح البصر ومعنى اللمح بالبصر النظر بسرعة
ولقد أهلكنا أشياعكم أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية فهل من مدكر أي متعظ وكل شيء فعلوه يعني الأمم (8/102)
وفي الزبر قولان
أحدهما أنه كتب الحفظة والثاني اللوح المحفوظ
وكل صغير وكبير أي من الأعمال المتقدمة مستطر أي مكتوب قال ابن قتيبة هو مفتعل من سطرت إذا كتبت وهو مثل مسطور
قوله تعالى في جنات ونهر قال الزجاج المعنى في جنات وأنهار والاسم الواحد يدل على الجميع فيجتزأ به من الجميع أنشد سيبويه والخليل ... بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ...
يريد وأما جلودها ومثله ... في حلقكم عظم وقد شجينا ...
ومثله ... كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ...
وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وحد لأنه رأس آية فقابل بالتوحيد رؤوس الآي قال ويقال النهر الضياء والسعة من قولك أنهرت الطعنة إذا وسعتها قال قيس بن الخطيم يصف طعنة ... ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها (8/103)
أي أوسعت فتقها قلت وهذا قول الضحاك وقرأ الأعمش ونهر
قوله تعالى في مقعد صدق أي مجلس حسن وقد نبهنا على هذا المعنى في قوله أن لهم قدم صدق يونس 2 فأما المليك فقال الخطابي المليك هو المالك وبناء فعيل للمبالغة في الوصف ويكون المليك بمعنى الملك ومنه هذه الآية والمقتدر مشروح في الكهف 45 (8/104)
سورة الرحمن
وفي نزولها قولان
أحدهما أنها مكية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور إلا أن ابن عباس قال سوى آية وهي قوله يسأله من في السموات والأرض الرحمن 29
والثاني أنها مدنية رواه عطية عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى الرحمن علم القرآن قال مقاتل لما نزل قوله اسجدوا للرحمن الفرقان 60 قال كفار مكة وما الرحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن (8/105)
وفي قوله علم القرآن قولان أحدهما علمه محمدا وعلم محمد أمته قاله ابن السائب والثاني يسر القرآن قاله الزجاج
قوله تعالى خلق الإنسان فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه اسم جنس فالمعنى خلق الناس جميعا قاله الأكثرون فعلى هذا في البيان ستة أقوال أحدها النطق والتمييز قاله الحسن والثاني الحلال والحرام قاله قتادة والثالث ما يقول وما يقال له قاله محمد بن كعب والرابع الخير والشر قاله الضحاك والخامس طرق الهدى قاله ابن جريج والسادس الكتابة والخط قاله يمان
والثاني أنه آدم قاله ابن عباس وقتادة فعلى هذا في البيان ثلاثة أقوال أحدها أسماء كل شيء والثاني بيان كل شيء والثالث اللغات
والقول الثالث أنه محمد صلى الله عليه و سلم علمه بيان ما كان وما يكون قاله ابن كيسان قوله تعالى الشمس والقمر بحسبان أي بحساب ومنازل لا يعدوانها وقد كشفنا هذا المعنى في الأنعام 96 قال الأخفش أضمر الخبر وأظنه والله أعلم أراد يجريان بحسبان (8/106)
قوله تعالى والنجم والشجر يسجدان في النجم قولان أحدهما أنه كل نبت ليس له ساق وهو مذهب ابن عباس والسدي ومقاتل واللغويين والثاني أنه نجم السماء والمراد به جميع النجوم قاله مجاهد فأما الشجر فكل ما له ساق قال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذ أشرقت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء وقد أشرت في النحل 49 إلى معنى سجود ما لا يعقل قال أبو عبيدة وإنما ثني فعلهما على لفظهما
قوله تعالى والسماء رفعها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتد الأنفاس وأجرى الريح بينها وبين الأرض كيما يتروح الخلق ولولا ذلك لماتت الخلائق كربا
قوله تعالى ووضع الميزان فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه العدل قاله الأكثرون منهم مجاهد والسدي واللغويون قال الزجاج وهذا لأن المعادلة موازنة الأشياء والثاني أنه الميزان المعروف ليتناصف الناس في الحقوق قاله الحسن وقتادة والضحاك والثالث أنه القرآن قاله الحسين بن الفضل
قوله تعالى ألا تطغوا ذكر الزجاج في أن وجهين أحدهما أنها بمعنى اللام والمعنى لئلا تطغوا والثاني أنها للتفسير فتكون لا للنهي والمعنى أي لا تطغوا أي لا تجاوزوا العدل قوله تعالى ولا تخسروا الميزان قال ابن قتيبة أي لا تنقصوا الوزن
فأما الأنام ففيهم ثلاثة أقوال أحدها أنهم الناس رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني كل ذي روح رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال (8/107)
مجاهد والشعبي وقتادة والسدي والفراء والثالث الإنس والجن قاله الحسن والزجاج
قوله تعالى فيها فاكهة أي ما يتفكه به من ألوان الثمار والنخل ذات الأكمام والأكمام الأوعية والغلف وقد استوفينا شرح هذا في حم السجدة 47
قوله تعالى والحب يريد جميع الحبوب كالبر والشعير وغير ذلك وقرأ ابن عامر والحب بنصب الباء ذا العصف بالألف والريحان بنصب النون وقرأ حمزة والكسائي إلا ابن أبي سريج وخلف والحب و العصف والريحان بخفض النون وقرأ الباقون بضم النون
وفي العصف قولان أحدهما أنه تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح قاله ابن عباس وكذلك قال مجاهد هو ورق الزرع قال ابن قتيبة العصف ورق الزرع ثم يصير إذا جف ويبس وديس تبنا والثاني أن العصف المأكول من الحب حكاه الفراء
وفي الريحان أربعة أقوال
أحدها أنه الرزق رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي قال الفراء الريحان في كلام العرب الرزق تقول خرجنا نطلب ريحان الله وأنشد الزجاج للنمر بن تولب ... سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر (8/108)
والثاني أنه خضرة الزرع رواه الوالبي عن ابن عباس قال أبو سليمان الدمشقي فعلى هذا سمي ريحانا لاستراحة النفس بالنظر إليه
والثالث أنه ريحانكم هذا الذي يشم روى العوفي عن ابن عباس قال الريحان ما أنبتت الأرض من الريحان وهذا مذهب الحسن والضحاك وابن زيد
والرابع أنه ما لم يؤكل من الحب والعصف المأكول منه حكاه الفراء
قوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن قيل كيف خاطب اثنين وإنما ذكر الإنسان وحده فعنه جوابان ذكرهما الفراء أحدهما أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بينا في قوله ألقيا في جهنم ق24 والثاني أن الذكر أريد به الإنسان والجان فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها قال الزجاج لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض خاطب الجن والإنس قال فبأي ألاء ربكما تكذبان أي فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم وقال ابن قتيبة الآلاء النعم واحدها ألا مثل قفا وإلا مثل معى
خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان (8/109)
فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى خلق الإنسان يعني آدم من صلصال قد ذكرنا في الحجر 26 27 الصلصال والجان فأما قوله كالفخار فقال أبو عبيدة خلق من طين يابس لم يطبخ فله صوت إذا نقر فهو من يبسه كالفخار والفخار ما طبخ بالنار
فأما المارج فقال ابن عباس هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت وقال مجاهد هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت وقال مقاتل هو لهب النار الصافي من غير دخان وقال أبو عبيدة المارج خلط من النار وقال ابن قتيبة المارج لهب النار من قولك قد مرج الشيء إذا اضطرب ولم يستقر وقال الزجاج هو اللهب المختلط بسواد النار
فإن قيل قد أخبر الله تعالى عن خلق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة فتارة يقول خلقه من تراب آل عمران 59 وتارة من صلصال وتارة من طين لازب الصافات 11 وتارة كالفخار الرحمن 14 وتارة من حمأ مسنون الحجر 29 فالجواب أن الأصل التراب فجعل طينا ثم صار كالحمإ المسنون ثم صار صلصالا كالفخار هذه أخبار عن حالات أصله فإن قيل ما الفائدة في تكرار قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النعم وتأكيد التذكير بها قال ابن قتيبة من مذاهب العرب التكرار للتوكيد (8/110)
والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز لأن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فن واحد يقول القائل منهم والله لا أفعله ثم والله لا أفعله إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله كما يقول والله أفعله بإضمار لا إذا أراد الاختصار ويقول القائل المستعجل اعجل اعجل وللرامي ارم ارم قال الشاعر ... كم نعمة كانت له وكم وكم ...
وقال الآخر ... هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولوا أين أينا ...
وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفا ثم أتبعوها الأولى كقولهم عطشان نطشان وشيطان ليطان وحسن بسن قال ابن دريد ومن الإتباع جائع نائع ومليح قريح وقبيح شقيح وشحيح نحيح وخبيث نبيث وكثير بثير وسيغ ليغ وسائغ لائغ وحقير نقير وضئيل بئيل وخضر مضر وعفريت نفريت وثقة نقة وكن إن وواحد فاحد وحائر بائر وسمح لمح قال ابن قتيبة فلما عدد الله تعالى في هذه السورة نعماءه (8/111)
وأذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم ويقررهم بها كقولك للرجل ألم أبوئك منزلا وكنت طريدا أفتنكر هذا ألم أحج بك وأنت صرورة أفتنكر هذا وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال مالي أراكم سكوتا للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فباي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد
قوله تعالى رب المشرقين قرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة رب المشرقين ورب المغربين بالخفض وهما مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء للشمس والقمر جميعا
قوله تعالى مرج البحرين أي أرسل العذب والملح وخلاهما وجعلهما يلتقيان بينهما برزخ أي حاجز من قدرة الله تعالى لا يبغيان أي لا يختلطان فيبغي أحدهما على الآخر وقال ابن عباس بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام قال الحسن مرج البحرين يعني بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقد سبق بيان هذا في الفرقان 53 (8/112)
قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان قال الزجاج إنما يخرج من البحر الملح وإنما جمعهما لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أخرج منهما ومثله وجعل القمر فيهن نورا نوح 16 قال أبو علي الفارسي أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقال ابن جرير إنما قال منهما لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء
فأما اللؤلؤ والمرجان ففيهما قولان
أحدهما أن المرجان ما صغر من اللؤلؤ واللؤلؤ العظام قاله الأكثرون منهم ابن عباس وقتادة والضحاك والفراء وقال الزجاج اللؤلؤ اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر والمرجان صغاره
والثاني أن اللؤلؤ الصغار والمرجان الكبار قاله مجاهد والسدي ومقاتل قال ابن عباس إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ قال ابن جرير حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة وقرات على شيخنا أبي منصور اللغوي قال ذكر بعض أهل اللغة أن المرجان أعجمي معرب قال أبو بكر يعني ابن دريد ولم أسمع فيه بفعل منصرف وأحر به أن يكون كذلك قال ابن مسعود المرجان الخرز الأحمر وقال الزجاج المرجان أبيض شديد البياض وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان
قوله تعالى وله الجوار يعني السفن المنشآت قال مجاهد هو ما قد رفع قلعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه قال ابن قتيبة هن اللواتي أنشئن أي ابتدئ بهن في البحر وقرأ حمزة المنشئات فجعلهن (8/113)
اللواتي ابتدأن يقال أنشأت السحابة تمطر إذا ابتدأت وأنشأ الشاعر يقول والأعلام الجبال وقد سبق هذا الشورى 32
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك و الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسئله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى كل من عليها فان أي على الأرض وهي كناية عن غير المذكور فان أي هالك
ويبقى وجه ربك أي ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام قال أبو سليمان الخطابي الجلال مصدر الجليل يقال جليل بين الجلالة والجلال والإكرام مصدر أكرم يكرم إكراما والمعنى أن الله تعالى مستحق أن يجل ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به وقد يحتمل أن يكون المعنى أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافا إلى الله تعالى بمعنى الصفة له والآخر مضافا إلى العبد بمعنى الفعل منه كقوله تعالى هو أهل التقوى وأهل المغفرة المدثر 56 فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة والآخر إلى العباد وهو التقوى
قوله تعالى يسأله من في السموات والأرض لا المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غني عنهم كل يوم هو في شأن مثل أن يحيي ويميت ويعز ويذل ويشفي مريضا ويعطي سائلا إلى غير ذلك من أفعاله وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت قال مقاتل وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئا فنزلت كل يوم هو في شأن (8/114)
سنفرغ لكم أيه الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى سنفرغ لكم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر سنفرغ بنون مفتوحة وقرأ ابن مسعود وعكرمة والأعمش وحمزة والكسائي وعبد الوارث سيفرغ بياء مفتوحة وقرأ ابن السميفع وابن يعمر وابن أبي عبلة وعاصم الجحدري عن عبد الوارث سيفرغ بضم الياء وفتح الراء قال الفراء هذا وعيد من الله تعالى لأنه لا يشغله شيء عن شيء تقول للرجل الذي لا شغل له قد فرغت لي قد فرغت تشتمني أي قد أخذت في هذا وأقبلت عليه قال الزجاج الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من شغل والآخر القصد للشيء تقول قد فرغت مما كنت فيه أي قد زال شغلي به وتقول سأتفرغ لفلان أي سأجعله قصدي ومعنى الآية سنقصد لحسابكم فأما الثقلان فهما الجن والإنس سميا بذلك لأنهما ثقل الأرض
قوله تعالى أن تنفذوا أي تخرجوا يقال نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية والأقطار النواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا قاله ابن عباس (8/115)
والثاني إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها والمراد أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين
والثالث إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة ذكره ابن جرير
قوله تعالى لا تنفذون إلا بسلطان فيه ثلاثة أقوال أحدها لا تنفذون إلا في سلطان الله وملكه لأنه مالك كل شيء قاله ابن عباس والثاني لا تنفذون إلا بحجة قاله مجاهد والثالث لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك قاله قتادة
قوله تعالى يرسل عليكما فثنى على اللفظ وقد جمع في قوله إن استطعتم على المعنى
فأما الشواظ ففيه ففيه ثلاثة أقوال أحدها أنه لهب النار قاله ابن عباس وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار والثاني الدخان قاله سعيد بن جبير والثالث النار المحضة قاله الفراء وقال أبو عبيدة هي النار التي تأجج لا دخان فيها ويقال شواظ وشواظ وقرأ ابن كثير بكسر الشين وقرأ أيضا هو وأهل البصرة ونحاس بالخفض والباقون برفعهما
وفي النحاس قولان
أحدهما أنه دخان النار رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والفراء وابو عبيدة وابن قتيبة والزجاج ومنه قول الجعدي يذكر امرأة (8/116)
تضيء كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا
وذكر الفراء في السليط ثلاثة أقوال أحدها أنه دهن السنام وليس له دخان إذا استصبح به والثاني أنه دهن السمسم والثالث الزيت
والثاني أنه الصفر المذاب يصب على رؤوسهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة قال مقاتل والمراد بالآية كفار الجن والإنس يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصفر الذائب وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار نهار الدنيا فلا تنتصران أي فلا تمتنعان من ذلك
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيؤمئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيمهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى فإذا انشقت السماء أي انفرجت من المجرة لنزول من فيها يوم القيامة فكانت وردة وفيها قولان
أحدهما كلون الفرس الوردة قاله أبو صالح والضحاك وقال الفراء الفرس الوردة تكون في الربيع وردة إلى الصفرة فإذا اشتد الحر (8/117)
كانت وردة حمراء فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل وكذلك قال الزجاج فكانت وردة أي كلون فرس وردة والكميت الورد يتلون فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء فالسماء تتلون من الفزع الأكبر وقال ابن قتيبة المعنى فكانت حمراء في لون الفرس الورد
والثاني أنها وردة النبات وقد تختلف ألوانها إلا أن الأغلب عليها الحمرة ذكره الماوردي
وفي الدهان قولان أحدهما أنه واحد وهو الأديم الأحمر قاله ابن عباس والثاني أنه جمع دهن والدهن تختلف ألوانه بخضرة وحمرة وصفرة حكاه اليزيدي وإلى نحوه ذهب مجاهد وقال الفراء شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن
قوله تعالى فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا يسألون ليعلم حالهم لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك
والثاني لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه روي القولان عن ابن عباس
والثالث لا يسألون عن ذنوبهم لأنهم يعرفون بسيماهم فالكافر أسود الوجه والمؤمن أغر محجل من أثر وضوئه قاله الفراء قال الزجاج لا يسأل أحد عن ذنبه ليستفهم ولكنه يسأل سؤال توبيخ
قوله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم قال الحسن بسواد الوجوه وزرق الأعين فيؤخذ بالنواصي والأقدام فيه قولان أحدهما أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم (8/118)
في النار قاله مقاتل والثاني يؤخذ بالنواصي والأقدام فيسحبون إلى النار ذكره الثعلبي وروى مردويه الصائغ قال صلى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة الرحمن ومعنا علي بن الفضيل بن عياض فلما قرأ يعرف المجرمون بسيماهم خر علي مغشيا عليه حتى فرغنا من الصلاة فلما كان بعد ذلك قلنا له أما سمعت الإمام يقرأ حور مقصورات في الخيام قال شغلني عنها يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام قوله تعالى هذه جهنم أي يقال لهم هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يعني المشركين يطوفون بينها وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني يطوفون بياء مضمومة مع تشديد الواو وقرأ الأعمش مثله إلا أنه بالتاء
قوله تعالى وبين حميم آن قال ابن قتيبة الحميم الماء الحار والآني الذي قد انتهت شدة حره قال المفسرون المعنى أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة
ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان
قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فيه قولان أحدهما قيامه بين يدي ربه عز و جل يوم الجزاء والثاني قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب وجاء في التفسير أن العبد يهم بمعصية فيتركها خوفا من الله عز (8/119)
وجل فله جنتان وهما بستانان
ذواتا أفنان فيه قولان
أحدهما أنها الأغصان وهي جمع فنن وهو الغصن المستقيم طولا وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطية والفراء والزجاج
والثاني أنها الألوان والضروب من كل شيء وهي جمع فنن وهذا قول سعيد بن جبير وقال الضحاك ذواتا ألوان من الفاكهة
وجمع عطاء بين القولين فال في كل غصن فنون من الفاكهة
قوله تعالى فيهما عينان تجريان قال ابن عباس تجريان بالماء الزلال إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم وقال عطية إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر وقال أبو بكر الوراق فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان من البكاء
قوله تعالى فيهما من كل فاكهة زوجان أي صنفان ونوعان قال المفسرون فيهما من كل ما يتفكه به نوعان رطب ويابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله
متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي (8/120)
آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان
متكئين هذا حال المذكورين على فرش جمع فراش بطائنها جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة وقال أبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقال ابن عباس إنما ترك وصف الظواهر لأنه ليس أحد يعلم ما هي وقال قتادة البطائن هي الظواهر بلغة قوم وكان الفراء يقول قد تكون البطانة ظاهرة والظاهرة بطانة لأن كل واحد منهما قد يكون وجها والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها وهو الذي نراه وقال ابن الزبير يعيب قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا منهم من نجا تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا فجعلوا ظهور الكواكب بطونا وذلك جائز في العربية وأنكر هذا القول ابن قتيبة جدا وقال إنما أراد الله أن يعرفنا من حيث نفهم فضل هذه الفرش وأن ما ولي الأرض منها إستبرق وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف وهل يجوز لأحد أن يقول لوجه مصل هذا بطانته ولما ولي الأرض منه هذا ظهارته وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساوين تقول لما وليك من الحائط هذا ظهر الحائط ويقول جارك لما وليه هذا ظهر الحائط وكذلك السماء ما ولينا منها ظهر وهي لمن فوقها بطن وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف 31 (8/121)
قوله تعالى وجنى الجنتين دان قال أبو عبيدة أي ما يجتنى قريب لا يعني الجاني
قوله تعالى فيهن قاصرات الطرف قد شرحناه في الصافات 48
وفي قوله فيهن قولان
أحدهما أنها تعود إلى الجنتين وغيرهما مما أعد لصاحب هذه القصة قاله الزجاج والثاني أنها تعود إلى الفرش ذكره علي بن أحمد النيسابوري قوله تعالى لم يطمثهن قرأ الكسائي بضم الميم والباقون بكسرها وهما لغتنان يطمث ويطمث مثل يعكف ويعكف وفي معناه قولان
أحدهما لم يقتضضهن والطمث النكاح بالتدمية ومنه قيل للحائض طامث قاله الفراء
والثاني لم يمسسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه قاله أبو عبيدة قال مقاتل وذلك لأنهن خلقن من الجنة فعلى قوله هذا صفة الحور وقال الشعبي هن من نساء الدنيا لم يمسسهن مذ أنشئن خلق وفي الآية دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي
قوله تعالى كأنهن الياقوت والمرجان قال قتادة هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان والمرجان صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضا وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال الياقوت فارسي (8/122)
معرب والجمع اليواقيت وقد تكلمت به العرب قال مالك بن نويرة اليربوعي ... لن يذهب اللؤم تاج قد حبيت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب ...
قوله تعالى هل جزاء الإحسان إلا الإحسان قال الزجاج أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا ان يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم إلى الجنة وروى أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية وقال هل تدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن ربكم يقول هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة
ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء (8/123)
ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
قوله تعالى ومن دونهما جنتان قال الزجاج المعنى ولمن خاف مقام ربه جنتان وله من دونهما جنتان
وفي قوله ومن دونهما قولان
أحدهما دونهما في الدرج قاله ابن عباس
والثاني دونهما في الفضل كما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال جنتان من ذهب وجنتان من فضة وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد ومقاتل
قوله تعالى مدهامتان قال ابن عباس وابن الزبير خضراوان من الري وقال أبو عبيدة من خضرتهما قد اسودتا قال الزجاج يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتهما إلى السواد وكل نبت أخضر فتمام خضرته وريه أن يضرب إلى السواد
قوله تعالى نضاختان قال أبو عبيدة فوارتان وقال ابن قتيبة تفوران والنضخ أكثر من النضح وفيما يفوران به أربعة أقوال
أحدها بالمسك والكافور قاله ابن مسعود والثاني بالماء قاله ابن عباس والثالث بالخير والبركة قاله الحسن والرابع بأنواع الفاكهة قاله سعيد بن جبير
قوله تعالى ونخل ورمان قال ابن عباس نخل الجنة جذوعها (8/124)
زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وقال سعيد بن جبير نخل الجنة جذوعها من ذهب وعروقها من ذهب وكرانيفها من زمرد ورطبها كالدلاء أشد بياضا من اللبن وألين من الزبد و أحلى من العسل ليس له عجم قال أبو عبيدة الكرانيف أصول السعف الغلاظ الواحدة كرنافة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان وقد دخلا في الفاكهة لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله وملائكته ورسله وجبريل وميكال البقرة 98 هذا قول جمهور المفسرين واللغويين وحكى الفراء والزجاج أن قوما قالوا ليسا من الفاكهة قال الفراء وقد ذهبوا مذهبا ولكن العرب تجعلهما فاكهة قال الأزهري ما علمت أحدا من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها إنها ليست من الفاكهة وإنما قال من قال لقلة علمه بكلام العرب فالعرب تذكر أشياء جملة ثم تخص شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه كقوله وجبريل وميكال البقرة 98 فمن قال ليسا من الملائكة كفر ومن قال ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة جهل
قوله تعالى فيهن يعني في الجنان الأربع خيرات يعني الحور وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري وابو نهيك خيرات بتشديد الياء قال اللغويون أصله خيرات بالتشديد فخفف كما (8/125)
قيل هين لين وهين لين وروت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه
قوله تعالى حور مقصورات قد بينا في سورة الدخان 54 معنى الحور
وفي المقصورات قولان
أحدهما المحبوسات في الحجال قاله ابن عباس وهو مذهب الحسن وأبي العالية والقرظي والضحاك وابي صالح
والثاني المقصورات الطرف على أزواجهن فلا يرفعن طرفا إلى غيرهم قاله الربيع وعن مجاهد كالقولين والأول أصح فإن العرب تقول امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة إذا كانت ملازمة خدرها قال كثير ... لعمري لقد حببت كل قصيرة ... إلي وما تدري بذاك القصائر ... عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر ...
وبعضهم ينشده قصورة وقصورات والبحاتر القصار
وفي الخيام قولان
أحدهما أنها البيوت
والثاني خيام تضاف إلى القصور وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون (8/126)
يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا وقال عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس الخيام در مجوف وقال ابن عباس الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب
قوله تعالى متكئين على رفرف وقرأ عثمان بن عفان وعاصم الجحدري وابن محيصن على رفارف جمع غير مصروف وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران الجوني مثلهم إلا أنهم صرفوا رفارف قال ثعلب إنما لم يقل أخضر لأن الرفرف جمع واحدته رفرفة كقوله الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا يس 80 ولم يقل الخضر لأن الشجر جمع تقول هذا حصى أبيض وحصى أسود قال الشاعر ... أحقا عباد الله أن لست ماشيا ... بهرجاب ما دام الأراك به خضرا ...
واختلف المفسرون في المراد بالرفرف على ثلاثة أقوال
أحدها أنها فضول المحابس والبسط رواه العوفي عن ابن عباس وقال أبو عبيدة هي الفرش والبسط وحكى الفراء وابن قتيبة أنها المحابس وقال النقاش الرفرف المحابس الخضر فوق الفرش
والثاني أنها رياض الجنة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
والثالث أنها الوسائد قاله الحسن (8/127)
قوله تعالى وعبقري حسان فيه قولان
أحدهما أنها الزرابي قاله ابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك وابن زيد وكذلك قال ابن قتيبة العبقري الطنافس الثخان قال أبو عبيدة يقال لكل شيء من البسط عبقري
والثاني أنه الديباج الغليظ قاله مجاهد قال الزجاج أصل العبقري في اللغة أنه صفة لكل ما بولغ في وصفه وأصله أن عبقر بلد كان يوشى فيه البسط وغيرها فنسب كل شيء جيد إليه قال زهير ... بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا ...
وقرأ عثمان بن عفان وعاصم الجحدري وابن محيصن وعباقري بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنويه قال الزجاج ولا وجه لهذه القراءة في العربية لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان نحو مساجد ومفاتح لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري كان جمعه عباقرة كما أنك لو جمعت مهلبي كان جمعه مهالبة ولم تقل مهالبي قال فإن قيل عبقري واحد وحسان جمع فكيف جاز هذا فالأصل أن واحد هذا عبقرية والجمع عبقري كما تقول تمرة وتمر ولوزة ولوز ويكون أيضا عبقري اسما للجنس
وقرأ الضحاك وابو العالية وأبو عمران وعباقري بألف مع التنوين (8/128)
قوله تعالى تبارك اسم ربك فيه قولان
أحدهما أن ذكر الاسم صلة والمعنى تبارك ربك
والثاني أنه أصل قال ابن الأنباري المعنى تفاعل من البركة أي البركة تنال وتكتسب بذكر اسمه وقد بينا معنى تبارك في الأعراف 54 وذكرنا في هذه السورة معنى ذي الجلال والإكرام الرحمن 27 وكان ابن عامر يقرأ ذو الجلال وكذلك هي في مصاحف أهل الشام والباقون ذي الجلال وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق وهم متفقون على الموضوع الأول أنه ذو (8/129)
سورة الواقعة
وفيها قولان
أحدهما أنها مكية قاله الأكثرون منهم ابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وقتادة وجابر ومقاتل وحكي عن ابن عباس أن فيها آية مدنية وهي قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الواقعة 83
والثاني أنها مدنية رواه عطية عن ابن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم
قوله تعالى إذا وقعت الواقعة قال أبو سليمان الدمشقي لما قال المشركون متى هذا الوعد متى هذا الفتح نزل قوله إذا وقعت الواقعة فالمعنى يكون إذا وقعت الواقعة قال المفسرون والواقعة القيامة وكل آت يتوقع يقال له إذا كان قد وقع والمراد بها ها هنا النفخة في الصور لقيام الساعة (8/130)
ليس لوقعتها أي لظهورها ومجيئها كاذبة أي كذب كقوله لا تسمع فيها لاغية الغاشية 11 أي لغوا قال الزجاج وكاذبة مصدر كقولك عافاه الله عافية وكذب كاذبة فهذه أسماء في موضع المصدر وفي معنى الكلام قولان
أحدهما لا رجعة لها ولا ارتداد قاله قتادة والثاني ليس الإخبار عن وقوعها كذبا حكاه المواردي
قوله تعالى خافضة أي هي خافضة رافعة وقرأ أبو رزين وابو عبد الرحمن وأبو العالية والحسن وابن أبي عبلة وأبو حيوة واليزيدي في اختياره خافضة رافعة بالنصب فيهما وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أنها خفضت فأسمعت القريب ورفعت فأسمعت البعيد رواه العوفي عن ابن عباس وهذا يدل على أن المراد بالواقعة صيحة القيامة
والثاني أنها خفضت ناسا ورفعت آخرين رواه عكرمة عن ابن عباس قال المفسرون تخفض أقواما إلى أسفل السافلين في النار وترفع أقواما إلى عليين في الجنة
قوله تعالى إذا رجت الأرض رجا أي حركة حركة شديدة وزلزلت وذلك أنها ترتج حتى ينهدم ما عليها من بناء ويتفتت ما عليها من جبل وفي ارتجاجها قولان
أحدهما أنه لإماتة من عليها من الأحياء والثاني لإخراج من في بطنها من الموتى
قوله تعالى وبست الجبال بسا فيه قولان (8/131)
أحدهما فتتت فتا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد قال ابن قتيبة فتتت حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس
والثاني لتت قاله قتادة وقال الزجاج خلطت ولتت قال الشاعر ... لا تخبزوا خبزا وبسا بسا ...
وفي الهباء أقوال قد ذكرناها في الفرقان 23 وذكر ابن قتيبة أن الهباء المنبث ما سطع من سنابك الخيل وهو من الهبوة والهبوة الغبار والمعنى كانت ترابا منتشرا
قوله تعالى وكنتم أزواجا أي أصنافا ثلاثة
فأصحاب الميمنة فيهم ثمانية أقوال
أحده أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت ذريته من صلبه قاله ابن عباس
والثاني أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم قاله الضحاك والقرظي
والثالث أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم أي مباركين قاله الحسن والربيع
والرابع أنهم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن قاله زيد بن أسلم
والخامس أنهم الذين منزلتهم علن اليمين قاله ميمون بن مهران
والسادس أنهم أهل الجنة قاله السدي
والسابع أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة قاله الزجاج (8/132)
والثامن أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ذكره علي بن أحمد النيسابوري
قوله تعالى ما أصحاب الميمنة قال الفراء عجب نبيه صلى الله عليه و سلم منهم والمعنى أي شيء هم قال الزجاج وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب ومجراه من الله عز و جل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم ومثله ما الحاقة الحاقة 2 ما القارعة القارعة 2 قال ابن قتيبة ومثله أن يقول زيد ما زيد أي أي رجل هو واصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة أي أصحاب الشمال والعرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى والجانب الأيسر الأشأم ومنه قيل اليمن والشؤم فاليمن كأنه ما جاء عن اليمين والشؤم ما جاء عن الشمال ومنه سميت اليمن والشأم لأنها عن يمين الكعبة وشمالها قال المفسرون أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين ويعطون كتبهم بأيمانهم وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسر أصحاب الميمنة سواء والمعنى أي قوم هم ماذا أعد لهم من العذاب
قوله تعالى والسابقون السابقون فيهم خمسة أقوال
أحدها أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أمة قاله الحسن وقتادة والثاني أنهم الذين صلوا إلى القبلتين قاله ابن سيرين والثالث أهل القرآن قاله كعب والرابع الأنبياء قاله محمد بن كعب والخامس السابقون إلىالمساجد وإلى الخروج في سبيل الله قاله عثمان بن أبي سودة
وفي إعادة ذكرهم قولان (8/133)
أحدهما أن ذلك للتوكيد
والثاني أن المعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله ذكرهما الزجاج
قوله تعالى أولئك المقربون قال أبو سليمان الدمشقي يعني عند الله في ظل عرشه وجواره
ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
قوله تعالى ثلة من الأولين الثلة الجماعة غير محصورة العدد
وفي الأولين والآخرين ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها أن الأولين الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبينا صلى الله عليه و سلم والآخرون هذه الأمة
والثاني أن الأولين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والآخرين التابعون
والثالث أن الأولين والآخرين من أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه و سلم
فعلى الأول يكون المعنى إن الأولين السابقين جماعة من الأمم المتقدمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا وقليل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين نبينا وصدق به (8/134)
وعلى الثاني أن السابقين جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم الأولون من المهاجرين والأنصار وقليل من التابعين وهم الذين اتبعوهم باحسان
وعلى الثالث أن السابقين الأولون من المهاجرين والأنصار وقليل ممن جاء بعدهم لعجز المتأخرين أن يلحقوا الأولين فقليل منهم من يقاربهم في السبق
وأما الموضونة فقال ابن قتيبة هي المنسوجة كأن بعضها أدخل في بعض أو نضد بعضها على بعض ومنه قيل للدرع موضونة ومنه قيل وضين الناقة وهو بطان من سيور يدخل بعضه في بعض قال الفراء سمعت بعض العرب يقول الآجر موضون بعضه على بعض أي مشرج
وللمفسرين في معنى موضونة قولان
أحدهما مرمولة بالذهب رواه مجاهد عن ابن عباس وقال عكرمة مشبكة بالدر والياقوت وهذا معنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة وبه قال الأكثرون
والثاني مصفوفة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
وما بعد هذا قد تقدم بيانه الكهف 30 إلى قوله ولدان مخلدون الولدان الغلمان وقال الحسن البصري هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها ولا سيئات فيعاقبون عليها فوضعوا بهذا الموضع
وفي المخلدين قولان
أحدهما أنه من الخلد والمعنى أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيرون وهم على سن واحد قال الفراء والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط أو لم تذهب أسنانه عن الكبر إنه لمخلد هذا قول الجمهور (8/135)
والثاني أنهم المقرطون ويقال المسورون ذكره الفراء وابن قتيبة وانشدوا في ذلك ... ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان ...
قوله تعالى بأكواب وأباريق الكوب إناء لا عروة له ولا خرطوم وقد ذكرناه في الزخرف 72 والأباريق آنية لها عرى وخراطيم وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال الإبريق فارسي معرب وترجمته من الفارسية أحد شيئين إما أن يكون طريق الماء أو صب الماء على هينة وقد تكلمت به العرب قديما قال عدي بن زيد ... ودعا بالصبوح ويوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق ...
وباقي الآيات في الصافات 46
قوله تعالى لا يصدعون عنها ولا ينزفون فيه قولان
أحدهما لا يلحقهم الصداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا وعنها كفاية عن الكأس المذكور والمراد بها الخمر وهذا قول الجمهور
والثاني لا يتفرقون عنها من قولك صدعته فانصدع حكاه ابن قتيبة ولا ينزفون مفسر في الصافات 47 (8/136)
قوله تعالى مما يتخيرون أي يختارون تقول تخيرت الشيء إذا أخذت خيره
قوله تعالى ولحم طير قال ابن عباس يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى وقال مغيث بن سمي تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البخت فإذا اشتهى الرجل طيرا دعاه فيجيء حتى يقع على خوانه فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر شواء ثم يعود طيرا فيطير فيذهب
قوله تعالى وحور عين قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحور عين بالرفع فيهما وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم بالخفض فيهما وقرأ أبي بن كعب وعائشة وأبو العالية وعاصم الجحدري وحورا عينا بالنصب فيهما قال الزجاج والذين رفعوا كرهوا الخفض لأنه معطوف على قوله يطوف عليهم قالوا والحور ليس مما يطاف به ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن المعنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها وكذلك ينعمون بلحم طير فكذلك ينعمون بحور عين والرفع أحسن والمعنى ولهم حور عين ومن قرأ وحورا عينا حمله على المعنى لأن المعنى يعطون هذه الأشياء ويعطون حورا عينا إلا أنها تخالف المصحف فتكره ومعنى كأمثال اللؤلؤ أي صفاؤهن وتلألؤهن كصفاء اللؤلؤ وتلألئه والمكنون الذي لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال فهن كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه (8/137)
جزاء منصوب مفعول له والمعنى يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون يجازون جزاء بأعمالهم وأكثر النحويين على هذا الوجه
وقوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا قد فسرنا معنى اللغو والسلام في سورة مريم 62 ومعنى التأثيم في الطور 23 ومعنى ما أصحاب اليمين في اول هذه السورة الواقعة 9
فإن قيل التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع
فالجواب أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر فيقولون أكلت خبزا ولبنا واللبن لا يؤكل إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل قال الفراء أنشدني بعض العرب ... إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا ...
قال والعين لا تزجج إنما تكحل فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف وأنشدني آخر ... ولقيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا ...
وأنشدني آخر ... علفتها تبنا وماء باردا ...
والماء لا يعلف وإنما يشرب فجعله تابعا للتبن قال الفراء وهذا هو (8/138)
وجه قراءة من قرأ وحور عين بالخفض لإتباع آخر الكلام أوله وهو وجه العربية
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين
وقد شرحنا معنى قوله واصحاب اليمين في قوله فأصحاب الميمنة الواقعة 9 وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال أصحاب اليمين أطفال المؤمنين
قوله تعالى في سدر مخضود سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية والضحاك
وفي المخضود ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذي لا شوك فيه رواه أبو طلحة عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقسامة بن زهير قال ابن قتيبة كأنه خضد شوكه أي قلع ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة لا يخضد شوكها (8/139)
والثاني أنه الموقر حملا رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد والضحاك
والثالث أنه الموقر الذي لاشوك فيه ذكره قتادة
وفي الطلح قولان
أحدهما أنه الموز قاله علي وابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري والحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة
والثاني أنه شجر عظام كبار الشوك قال أبو عبيدة هذا هو الطلح عند العرب قال الحادي ... بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والجبالا ...
فإن قيل ما الفائدة في الطلح
فالجواب أن له نورا وريحا طيبة فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا وقال مجاهد كانوا يعجبون ب وج وظلاله من طلحه وسدره فأما المنضود فقال ابن قتيبة هو الذي قد نضد بالحمل أو بالورق والحمل من أوله إلىآخره فليس له ساق بارزة وقال مسروق شجر الجنة نضيد من أسفلها إلى أعلاها
قوله تعالى وظل ممدود أي دائم لا تنسخه الشمس
وماء مسكوب أي جار غير منقطع (8/140)
قوله تعالى لا مقطوعة ولا ممنوعة فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا مقطوعة في حين دون حين ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير إنما هي مطلقة لمن أرادها هذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ولخصه بعضهم فقال لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان
والثاني لا تنقطع إذا جنيت ولا تمنع من أحد إذا أريدت روي عن ابن عباس
والثالث لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة بالفساد ذكره الماوردي
قوله تعالى وفرش مرفوعة فيها قولان
أحدهما أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم وفي رفعها قولان أحدهما أنها مرفوعة فوق السرر والثاني أن رفعها زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها
والثاني أن المراد بالفراش النساء والعرب تسمي المرأة فراشا وإزارا ولباسا وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال أحدها أنهن رفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا والثاني رفعن عن الأدناس والثالث في القلوب لشدة الميل إليهن
قوله تعالى إنا أنشأناهن إنشاء يعني النساء قال ابن قتيبة اكتفى بذكر الفرش لأنها محل النساء عن ذكرهن وفي المشار إليهن قولان
أحدهما أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات ثم في إنشائهن قولان أحدهما أنه إنشاؤهن من القبور قاله ابن عباس والثاني إعادتهن بعد الشمط والكبر أبكارا صغارا قاله الضحاك (8/141)
والثاني أنهن الحور العين وإنشاؤهن إيجادهن عن غير ولادة قاله الزجاج والصواب أن يقال إن الإنشاء عمهن كلهن فالحور أنشئن ابتداء والمؤمنات أنشئن بالإعادة وتغيير الصفات وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا
قوله تعالى جعلناهن أبكارا أي عذارى وقال ابن عباس لا يأتيها زوجها إلا وجدها بكرا
قوله تعالى عربا قرأ الجمهور بضم الراء وقرأ حمزة وخلف بإسكان الراء قال ابن جرير هي لغة تميم وبكر
وللمفسرين في معنى عربا خمسة أقوال
أحدها أنهن المتحببات إلى أزواجهن رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وابن قتيبة والزجاج
والثاني أنهن العواشق رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة ومقاتل والمبرد وعن مجاهد كالقولين
والثالث الحسنة التبعل رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال أبو عبيدة
والرابع الغنجات قاله عكرمة (8/142)
والخامسة الحسنة الكلام قاله ابن زيد
فأما الأتراب فقد ذكرناهن في ص 52
قوله تعال ثلة من الأولين وثلة من الآخرين هذا من نعت أصحاب اليمين وفي الأولين والآخرين خلاف وقد سبق شرحه الواقعة 13 وقد زعم مقاتل أنه لما نزلت الآية الأولى وهي قوله وقليل من الآخرين وجد المؤمنون من ذلك وجدا شديدا حتى أنزلت وثلة من الآخرين فنسختها وروي عن عروة بن رويم نحو هذا المعنى
قلت وادعاء النسخ ها هنا لا وجه له لثلاثة أوجه
أحدها أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا
والثاني أن الكلام في الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ فهو ها هنا لا وجه له
والثالث أن الثلة بمعنى الفرقة والفئة قال الزجاج اشتقاقهما من القطعة والثل الكسر والقطع فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثلة في معنى القليل
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالؤن منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين (8/143)
قوله تعالى ما أصحاب الشمال قد بينا أنه بمعنى التعجب من حالهم والمعنى ما لهم وما أعد لهم من الشر ثم بين لهم سوء منقلبهم فقال في سموم قال ابن قتيبة هو حر النار
قوله تعالى وظل من يحموم قال ابن عباس ظل من دخان قال الفراء اليحموم الدخان الأسود لا بارد ولا كريم فوجه الكلام الخفض تبعا لما قبله ومثله زيتونة لا شرقية ولا غربية النور 35 وكذلك قوله وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ولو رفعت ما بعد لا كان صوابا والعرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا ينوي به الذم فتقول ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة وما هذا بسمين ولا كريم قال ابن عباس لا بارد المدخل ولا كريم المنظر
قوله تعالى إنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا مترفين أي متنعمين في ترك أمر الله فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبد
وكانوا يصرون أي يقيمون على الحنث وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه الشرك قاله ابن عباس والحسن والضحاك وابن زيد
والثاني الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه قاله مجاهد وعن قتادة كالقولين
والثالث أنه اليمين الغموس قاله الشعبي
والرابع الشرك والكفر بالبعث قاله الزجاج
قوله تعالى أو آباؤنا الأولون قال أبو عبيدة الواو متحركة لأنها ليست بواو أو إنما هي وآباؤنا فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة وقرأ أهل المدينة وابن عامر أو آباؤنا بإسكان الواو (8/144)
وقد سبق بيان ما لم يذكر ها هنا هود 1903 الصافات 62 الأنعام 70 إلى قوله فشاربون شرب الهيم قرأ أهل المدينة وعاصم وحمزة شرب بضم الشين والباقون بفتحها قال الفراء والعرب تقوم شربته شربا وأكثر أهل نجد يقولون شربا بالفتح أنشدني عامتهم ... تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر ...
وزعم الكسائي أن قوما من بني سعسد بن تميم يقولون شرب الهيم بالكسر وقال الزجاج الشرب المصدر والشرب بالضم الاسم قال وقد قيل إنه مصدر أيضا
وفي الهيم قولان
أحدهما الإبل العطاش رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة قال ابن قتيبة هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء يقال بعير أهيم وناقة هيماء
والثاني أنها الأرض الرملة التي لا تروى من الماء وهو مروي عن ابن عباس أيضا قال أبو عبيدة الهيم ما لا يروى من رمل أو بعير
قوله تعالى هذا نزلهم أي رزقهم ورواه عباس عن أبي عمرو (8/145)
نزلهم بسكون الزاى أي رزقهم و طعامهم و فى الدين قولان قد ذكرناهما فى الفاتحة
نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
قوله تعالى نحن خلقناكم أي أوجدناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تقرون بهذا فلولا أي فهلا تصدقون بالبعث
ثم احتج على بعثهم بالقدرة على ابتدائهم فقال أفرأيتم ما تمنون قال الزجاج أي ما يكون منكم من المني يقال أمنى الرجل يمنى ومنى يمني فيجوز على هذا تمنون بفتح التاء إن ثبتت به رواية
قوله تعالى أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أي تخلقون ما تمنون بشرا وفيه تنبيه على شيئين
أحدهما الامتنان إذا خلق من الماء المهين بشرا سويا
والثاني أن من قدر على خلق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدر على خلق ما غاب عنكم من إعادتكم
قوله تعالى نحن قدرنا بينكم الموت وقرأ ابن كثير قدرنا بتخفيف الدال وفي معنى الكلام قولان
أحدهما قضينا عليكم بالموت
والثاني سوينا بينكم في الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم قال الزجاج المعنى إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا (8/146)
سابق ولا يفوتنا ذلك وقال ابن قتيبة لسنا مغلوبين على أن نستبدل بكم أمثالكم
قوله تعالى وننشئكم في ما لا تعلمون وفيه أربعة أقوال
أحدها نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم قاله الحسن
والثاني ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب برهوت كأنها الخطاطيف قاله سعيد بن المسيب
والثالث نخلقكم في أي خلق شئنا قاله مجاهد
والرابع نخلقكم في سوى خلقكم قاله السدي قال قاتل نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصور
قوله تعالى ولد علمتم النشأة الأولى وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة فلولا تذكرون أي فهلا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقروا بالبعث
أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزراعون لم نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم
أفرأيتم ما تحرثون أي ما تعملون في الأرض من إثارتها وإلقاء (8/147)
البذور فيه أأنتم تزرعونه أي تنبتونه وقد نبه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى ومنها الامتنان بإخراج القوت ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد
قوله تعالى لجعلناه يعني الزرع حطاما قال عطاء تبنا لا قمح فيه وقال الزجاج أبطلناه حتى يكون محتطما لا حنطة فيه ولا شيء
قوله تعالى فظلتم وقرأ الشعبي وابو العالية وابن أبي عبلة فظلتم بكسر الظاء وقد بيناه في قوله ظلت عليه عاكفا طه 97
قول تعالى تفكهون وقرأ أبي بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد وعروة تفكنون بالنون وفي المعنى أربعة أقوال
أحدها تعحبون قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل قال الفراء تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم
والثاني تندمون قاله الحسن والزجاج وعن قتادة كالقولين قال ابن قتيبة يقال تفكهون تندمون ومثلها تفكنون وهي لغة لعكل
والثالث تتلاومون قاله عكرمة
والرابع تتفجعون قاله ابن زيد
قوله تعالى إنا لمغرمون قال الزجاج أي تقولون قد غرمنا وذهب زرعنا وقال ابن قتيبة لمغرمون أي لمعذبون (8/148)
قوله تعالى بل نحن محرومون أي حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع وقد نبه بهذا على أمرين
أحدهما إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما
والثاني قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع فأما المزن فهي السحاب واحدته مزنة
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تورون قال أبو عبيدة تستخرجون من أوريت وأكثر ما يقال وريت وقال ابن قتيبة التي تستخرجون من الزنود قال الزجاج تورون أي تقدحون تقول أوريت النار إذا قدحتها
قوله تعالى أأنتم أنشأتم شجرتها في المراد بشجرتها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الحديد رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها الشجرة التي تتخذ منها الزنود وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار هذا قول ابن قتيبة والزجاج
والثالث أن شجرتها أصلها ذكره الماوردي
قوله تعالى نحن جعلناها تذكرة قال المفسرون إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم وما يخاف من عذابها فاستجار بالله منها ومتاعا أي منفعة للمقوين وفيهم أربعة أقوال
أحدها أنهم المسافرون قاله ابن عباس وقتادة والضحاك قال ابن قتيبة سموا بذلك لنزلهم القوى وهو القفر وقال بعض العلماء المسافرون أكثر حاجة إليها من المقيمين لأنهم إذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال (8/149)
والثاني أنهم المسافرون والحاضرون قاله مجاهد
والثالث أنهم الجائعون قال ابن زيد المقوي الجائع في كلام العرب
والرابع أنهم الذين لا زاد معهم ولا مرد لهم قاله أبو عبيدة
قوله تعالى فسبح باسم ربك العظيم قال الزجاج لما ذكر ما يدل على توحيده وقدرته وإنعامه قال فسبح أي برء الله ونزهه عما يقولون في وصفه وقال الضحاك معناه فصل باسم ربك أي استفتح الصلاة بالتكبير وقال ابن جرير سبح بذكر ربك وتسميته وقيل الباء زائدة والاسم يكون بمعنى الذات والمعنى فسبح ربك
فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلى المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله تعالى فلا أقسم في لا قولان
أحدهما أنها دخلت توكيدا والمعنى فأقسم ومثله لئلا يعلم أهل الكتاب الحشر 29 قال الزجاج وهو مذهب سعيد بن جبير
والثاني أنها على أصلها ثم في معناها قولان
أحدهما أنها ترجع إلى ما تقدم ومعناها النهي تقدير الكلام فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج قاله الماوردي (8/150)
والثاني أن لا رد لما يقوله الكفار في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم قاله علي بن أحمد النيسابوري وقرأ الحسن فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة
قوله تعالى بمواقع وقرأ حمزة والكسائي بموقع على التوحيد قال أبو علي مواقعها مساقطها ومن أفرد فلأنه اسم جنس ومن جمع فلاختلاف ذلك وفي النجوم قولان
أحدهما نجوم السماء قاله الأكثرون فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال
أحدها انكدارها وانتثارها يوم القيامة قاله الحسن
والثاني منازلها قاله عطاء وقتادة
والثالث مغيبها في المغرب قاله أبو عبيدة
والثاني أنها نجوم القرآن رواه ابن جبير عن ابن عباس فعلى هذا سميت نجوما لنزولها متفرقة ومواقعها نزولها وإن لقسم الهاء كناية عن القسم وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى إنه لقرآن كريم والكريم اسم جامع لما يحمد وذلك أن فيه البيان والهدى والحكمة وهو معظم عند الله عز و جل
قوله تعالى في كتاب فيه قولان
أحدهما أنه اللوح المحفوظ قاله ابن عباس والثاني أنه المصحف الذي بأيدينا قاله مجاهد وقتادة
وفي المكنون قولان
أحدهما مستور عن الخلق قاله مقاتل وهذا على القول الأول
والثاني مصون قاله الزجاج (8/151)
قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون من قال إنه اللوح المحفوظ فالمطهرون عنده الملائكة وهذا قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير فعلى هذا يكون الكلام خبرا ومن قال هو المصحف ففي المطهرين أربعة أقوال
أحدها أنهم المطهرون من الأحداث قاله الجمهور فيكون ظاهر الكلام النفي ومعناه النهي
والثاني المطهرون من الشرك قاله ابن السائب
والثالث المطهرون من الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس
والرابع أن معنى الكلام لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به حكاه الفراء (8/152)
قوله تعالى تنزيل أي هو تنزيل والمعنى هو منزل فسمي المنزل تنزيلا في اتساع اللغة كما تقول للمقدور قدر وللمخلوق خلق
قوله تعالى أفبهذا الحديث يعني القرآن أنتم مدهنون فيه قولان
أحدهما مكذبون قاله ابن بعاس والضحاك والفراء
والثاني ممالئون الكفار على الكفر به قاله مجاهد قال أبو عبيدة المدهن المداهن وكذلك قال ابن قتيبة مدهنون أي مداهنون يقال أدهن في دينه وداهن وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة وضعها الله حيث شاء وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ أنكم تكذبون وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما المؤمن فقال مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب (8/153)
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أن الرزق ها هنا بمعنى الشكر روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال وتجعلون رزقكم قال شكركم وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وكان علي يقرأ وتجعلون شكركم
والثاني أن المعنى وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم قاله الأكثرون وذلك أنهم كانوا يمطرون فيقولون مطرنا بنوء كذا
والثالث أن الرزق بمعنى الحظ فالمعنى وتعجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون ذكره الثعلبي وقرأ أبي بن كعب والمفضل عن عاصم تكذبون بفتح التاء وإسكان الكاف مخففة الذال
فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن (8/154)
كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
قوله تعالى فلولا أي فهلا إذا بلغت الحلقوم يعني النفس فترك ذكرها لدلالة الكلام وأنشدوا من ذلك ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ...
قوله تعالى وأنتم يعني أهل الميت تنظرون إلى سلطان الله وأمره والثاني تنظرون إلى الإنسان في تلك الحالة ولا تملكون له شيئا ونحن أقرب إليه منكم فيه قولان
أحدهما ملك الموت أدنى إليه من أهله ولكن لا تبصرون الملائكة رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية ولكن لا تبصرون أي لا تعلمون والخطاب للكفار ذكره الواحدي
قوله تعالى غير مدينين فيه خمسة أقوال
أحدها محاسبين رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال الحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة والثاني موقنين قاله مجاهد والثالث (8/155)
مبعوثين قاله قتادة والرابع مجزيين ومنه يقال دنته وكما تدين تدان قاله أبو عبيدة والخامس مملوكين أذلاء من قولك دنت له بالطاعة قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ترجعونها أي تردون النفس والمعنى إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلا تردون هذه النفس فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر لغيركم
قال الفراء وقوله تعالى ترجعونا هو جواب لقوله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم ولقوله تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين فإنهما أجيبتا بجواب واحد ومثله قوله تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم البقرة 38 ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال تعالى فأما إن كان يعني الذي بلغت نفسه الحلقوم من المقربين عند الله قال أبو العالية هم السابقون فروح أي فله روح والجمهور يفتحون الراء وفي معناها ستة أقوال
أحدها الفرح رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني الراحة رواه أبو طلحة عن ابن عباس والثالث المغفرة والرحمة رواه العوفي عن ابن عباس والرابع الجنة قاله مجاهد والخامس روح من الغم الذي كانوا فيه قاله محمد بن كعب والسادس روح في القبر أي طيب نسيم قاله ابن قتيبة وقرأ أبو بكر الصديق وابو رزين والحسن وعكرمة (8/156)
وابن يعمر وقتادة ورويس عن يعقوب وابن أبي سريج عن الكسائي فروح برفع الراء وفي معنى هذه القراءة قولان
أحدهما أن معناها فرحمة قاله قتادة
والثاني فحياة وبقاء قاله ابن قتيبة وقال الزجاج معناه فحياة دائمة لا موت معها وفي الريحان أربعة أقوال
أحدها أنه الرزق رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنه المستراح رواه ابن أبي طلحة عن ابن بعاس
والثالث أنه الجنة قاله مجاهد وقتادة
والرابع أنه الريحان المشموم وقال أبو العالية لا يخرج أحد من (8/157)
المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض فيه روحه وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقال أبو عمران الجوني بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة فتجعل روحه فيه
قوله تعالى فسلام لك من أصحاب اليمين فيه ثلاثة أقوال
أحدها فسلامة لك من العذاب قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين قاله عطاء والثالث أن المعنى أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء قاله الزجاج
قوله تعالى وأما إن كان من المكذبين أي بالبعث الضالين عن الهدى فنزل وقد بيناه في هذه السورة الواقعة 56
قوله تعالى إن هذا يعني ما ذكر في هذه السورة لهو حق اليقين أي هو اليقين حقا فأضافه إلى نفسه كقولك صلاة الأولى وصلاة العصر ومثله ولدار الآخرة يوسف 109 وقد سبق هذا المعنى وقال قوم معناه وإنه للمتقين حقا وقيل للحق اليقين (8/158)
قوله تعالى فسبح باسم ربك قد ذكرناه في هذه السورة الواقعة 74 (8/159)
سورة الحديد
وفيها قولان
أحدهما أنها مدنية رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل
والثاني أنها مكية قاله ابن السائب
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور
قوله تعالى سبح لله ما في السموات والأرض أما تسبيح ما يعقل فمعلوم وتسبيح ما لا يعقل قد ذكرنا معناه في قوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده الإسراء 44 (8/160)
قوله تعالى هو الأول قال أبو سليمان الخطابي هو السابق للأشياء والآخر الباقي بعد فناء الخلق والظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة وشواهده الدالة على صحة وحدانيته ويكون الظاهر فوق كل شيء بقدرته وقد يكون الظهور بمعنى العلو ويكون بمعنى الغلبة والباطن هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية وقد يكون معنى الظهور والبطون احتجابه عن أبصار الناظرين وتجليه لبصائر المتفكرين ويكون معناه العالم بما ظهر من الأمور والمطلع على ما بطن من الغيوب هو الذي خلق السموات والأرض مفسر في الأعراف 54 إلى قوله تعالى يعلم ما يلج في الأرض وهو مفسر في سبأ 2 إلى قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم أي بعلمه وقدرته وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى آمنوا بالله ورسوله (8/161)
قال المفسرون هذا الخطاب لكفار قريش وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه يعني المال الذي كان بأيدي غيرهم فأهلكهم الله وأعطى قريشا ذلك المال فكانوا فيه خلفاء من مضى
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات و الأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم
قوله تعالى وما لكم لا تؤمنون بالله هذا استفهام إنكار والمعنى أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وقد أخذ ميثاقكم قرأ أبو عمرو أخذ بالرفع وقرأ الباقون أخذ بفتح الخاء ميثاقكم بالفتح (8/162)
والمراد به حين أخرجتم من ظهر آدم إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل
قوله تعالى هو الذي ينزل على عبده يعني محمدا صلى الله عليه و سلم آيات بينات يعني القرآن ليخرجكم من الظلمات يعني الشرك إلى نور الإيمان وإن الله بكم لرؤوف رحيم حين بعث الرسول ونصب الأدلة ثم حثهم على الإنفاق فقال وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات و الأرض أي أي شيء لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز و جل وأنتم ميتون تاركون أموالكم ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وفيه قولان
أحدهما أنه فتح مكة قاله ابن عباس والجمهور
والثاني أنه فتح الحديبية قاله الشعبي والمعنى لا يستوي من أنفق قبل ذلك وقاتل ومن فعل ذلك بعد الفتح قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق أولئك أعظم درجة قال ابن عباس أعظم (8/163)
منزلة عند الله قال عطاء درجات الجنة تتفاضل فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها قال الزجاج لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ ونالهم من المشقة أكثر وكلا وعد الله الحسنى أي وكلا الفرقين وعده الله الجنة وقرأ ابن عامر وكل بالرفع
قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له قرأ ابن كثير وابن عامر فيضعفه مشددة بغير ألف إلا أن ابن كثير يضم الفاء وابن عامر يفتحها وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي فيضاعفه بالألف وضم الفاء وافقهم عاصم إلا أنه فتح الفاء قال أبو علي يضاعف ويضعف بمعنى واحد إلا أن الرفع في يضاعف هو الوجه لأنه محمول على يقرض أو على الانقطاع من الأول كأنه قال فهو يضاعف ويحمل قول الذي نصب على المعنى لأنه إذا قال من ذا الذي يقرض الله معناه أيقرض الله أحد قرضا فيضاعفه والآية مفسرة في البقرة 245 والأجر الكريم الجنة (8/164)
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأوكم النار هي مولكم وبئس المصير
قوله تعالى يسعى نورهم قال المفسرون يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم قال ابن مسعود منهم من نوره مثل الجبل وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة ويتقد أخرى وفي قوله تعالى وبأيمانهم قولان
أحدهما أنه كتبهم يعطونها بأيمانهم قاله الضحاك
والثاني أنه نورهم يسعى أي يمضي بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم والباء بمعنى في وفي بمعنى عن هذا قول الفراء
قوله تعالى بشراكم اليوم هذا قول الملائكة لهم
قوله تعالى انظرونا نقتبس وقرأ حمزة أنظرونا بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء قال المفسرون يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة فيعطى المؤمنون النور فيمشي المنافقون في نور المؤمنين فإذا سبقهم المؤمنون قالوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم في القائل قولان
أحدهما أنهم المؤمنون قاله ابن عباس (8/165)
والثاني الملائكة قاله مقاتل وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور فيرجعون فلا يرون شيئا
والثاني ارجعوا فاعملوا عملا يجعله الله لكم نورا
والثالث أن المعنى لا نور لكم عندنا فضرب بينهم بسور قال ابن عباس هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار باطنه فيه الرحمة وهي الجنة وظاهره يعني من وراء السور من قبله العذاب وهو جهنم وقد ذهب قوم إلى أن هذا السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى وادي جهنم وبين الباب الذي يسمى باب الرحمة وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وكعب
قوله تعالى ينادونهم أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور الم نكن معكم أي على دينكم نصلي بصلاتكم ونغزو معكم فيقول لهم المؤمنون بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم قال الزجاج استعملتموها في الفتنة وقال غيره آثمتموها بالنفاق وتربصتم فيه قولان (8/166)
أحدهما تربصتم بالتوبة
والثاني تربصتم بمحمد الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح وارتبتم شككتم في الحق وغرتكم الأماني يعني ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حتى جاء أمر الله وفيه قولان
أحدهما أنه الموت
والثاني إلقاؤهم في النار وغركم بالله الغرور أي غركم الشطيان بحكم الله وإمهاله فاليوم لا يؤخذ منكم فدية وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب لا تؤخذ بالتاء أي بدل وعوض عن عذابكم وهذا خطاب للمنافقين ولهذا قال تعالى ولا من الذين كفروا
قوله تعالى هي مولاكم قال أبو عبيدة أي أولى بكم
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلبوهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون
قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهم أنها نزلت في المؤمنين قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا
والثاني أنها نزلت في المنافقين قاله أبو صالح عن ابن عباس قال (8/167)
مقاتل سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية وقال الزجاج نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع فأما من كان وصفه الله عز و جل بالخشوع والرقة فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء فعلى الأول يكون الإيمان حقيقة وعلى الثاني يكون المعنى ألم يأن للذين آمنوا بألسنتهم قال ابن قتيبة المعنى ألم يحن تقول أنى الشيء إذا حان
قوله تعالى أن تخشع قلوبهم أي ترق وتلين لذكر الله المعنى أنه يجب أن يورثهم الذكر خشوعا وما نزل من الحق قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وما نزل بفتح النون والزاي مع تشديد الزاي وقرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم نزل بفتح النون وتخفيف الزاي وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن يعمر ويونس بن حبيب عن أبي عمرو وأبان عن عاصم نزل برفع النون وكسر الزاي مع تشديدها وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء وما أنزل بهمزة مفتوحة وفتح الزاي وقرأ أبو مجلز وعمرو بن دينار مثله إلا أنه بضم الهمزة وكسر الزاي والحق القرآن ولا يكونوا قرأ رويس عن يعقوب لا تكونوا بالتاء كالذين أوتوا الكتاب يعني اليهود والنصارى (8/168)
فطال عليهم الأمد وهو الزمان وقال ابن قتيبة الأمد الغاية والمعنى أنه بعد عهدهم بالأنبياء والصالحين فقست قلبوهم وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السلام إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها أي يخرج منها النبات بعد يبسها فكذلك يقدر على إحياء الأموات قد بينا لكم الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته لعلكم تعقلون أي لكي تتأملوا إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
قوله تعالى إن المصدقين والمصدقات قرأ ابن كثير وعاصم إلا حفصا بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصدقة (8/169)
قوله تعالى أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم اختلفوا في نظم الآية على قولين
أحدهما أن تمام الكلام عند قوله تعالى أولئك هم الصديقون ثم ابتدأ فقال تعالى والشهداء عند ربهم هذا قول ابن عباس ومسروق والفراء في آخرين
والثاني أنها على نظمها والواو في والشهداء واو النسق ثم في معناها قولان
أحدهما أن كل مؤمن صديق شهيد قاله ابن مسعود ومجاهد
والثاني أنها نزلت في قوم مخصوصين وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة بن عبد المطلب وطلحة والزبير وسعد وزيد قاله الضحاك وفي الشهداء قولان
أحدهما أنه جمع شاهد ثم فيهم قولان أحدهما أنهم الأنبياء خاصة (8/170)
قاله ابن عباس والثاني أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان لله قاله مجاهد
والقول الثاني أنه جمع شهيد قاله الضحاك ومقاتل
إعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى إعلموا أنما الحياة الدنيا يعني الحياة في هذه الدار لعب ولهو أي غرور ينقضي عن قليل وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه لأن حياته تنقضي على لهو ولعب وتزين الدنيا ويفاخر قرناءه وجيرانه ويكاثرهم بالأموال والأولاد فيجمع من غير حله ويتطاول على أولياء الله بماله وخدمه وولده فيفنى عمره في هذه الأشياء ولا يتلفت إلى العمل للآخرة ثم بين لهذه الحياة شبها فقال كمثل غيث يعني مطرا أعجب الكفار وهم الزراع وسموا كفارا لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره أي غطاه نباته أي ما نبت من ذلك الغيث ثم يهيج أي ييبس فتراه مصفرا بعد خضرته وريه ثم يكون حطاما أي ينحطم وينكسر بعد يبسه وشرح هذا المثل قد تقدم في يونس عند قوله تعالى (8/171)
إنما مثل الحياة الدنيا آية 24 وفي الكهف عند قوله تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا آية 45
قوله تعالى وفي الآخرة عذاب شديد أي لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته وما بعد هذا مذكور في آل عمران 185 إلى قوله ذلك فضل الله فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (8/172)
قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض يعني قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار ولا في أنفسكم من الأمراض وفقد الأولاد إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ من قبل أن نبراها أن نخلقها يعني الأنفس إن ذلك على الله يسير أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز و جل لكيلا تأسوا أي تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم وقرأ أبو عمرو الا اختيار اليزيدي بالقصر على معنى جاءكم من الدنيا وقرأ الباقون بالمد على معنى أعطاكم الله منها وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بد أن يصيبه قل حزنه وفرحه وقد روى قتيبة بن سعيد قال دخلت بعض أحياء العرب فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلها قد مات فسألت عجوزا لمن كانت هذه الإبل فأشارت إلى شيخ على تل يغزل الوف فقلت له يا شيخ ألك كانت هذه الإبل قال كانت باسمي قلت فما أصابها قال ارتجعها الذي أعطاها قلت فهل قلت في ذلك شيئا قال نعم قلت ... لا والذي أنا عبد في عبادته ... والمرء في الدهر نصب الرزء والحزن ... ما سرني أن إبلي في مباركها ... وما جرى في قضا رب الورى يكن ...
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء 37 والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل ها هنا إلى قوله ومن يتول أي عن الإيمان فإن الله هو الغني عن عباده الحميد إلى أوليائه وقد سبق معنى الاسمين في البقرة 267 (8/173)
وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني الحميد ليس فيها هو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعمل الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
قوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات أي بالآيات والحجج وأنزلنا معهم الكتاب ببيان الشرائع والأحكام وفي الميزان قولان
أحدهما أنه العدل قاله ابن عباس وقتادة
والثاني أنه الذي يوزن به قاله ابن زيد ومقاتل فعلى القول الأول يكون المعنى وأمرنا بالعدل وعلى الثاني ووضعنا الميزان أي أمرنا به ليقوم الناس بالقسط أي لكي يقوموا بالعدل
قوله تعالى وأنزلنا الحديد فيه قولان
أحدهما أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان والكلبتين والمطرقة قاله ابن عباس
والثاني أن معنى أنزلنا أنشأنا وخلقنا كقوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج الزمر 6
قوله تعالى فيه بأس شديد قال الزجاج وذلك أنه يمتنع به ويحارب به ومنافع للناس في أدواتهم وما ينتفعون به من آنية وغيرها (8/174)
قوله تعالى وليعلم الله هذا معطوف على قوله تعالى ليقوم الناس والمعنى ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله من ينصره بالقتال في سبيله ونصرة دينه وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك وقد سبق معنى قوله تعالى وليعلم الله في مواضع وقوله تعالى بالغيب أي ولم يرى الله ولا أحكام الآخرة وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون
قوله تعالى وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب يعني الكتب فمنهم يعني من الذرية مهتد وكثير منهم فاسقون فيه قولان
أحدهما كافرون قاله ابن عباس والثاني عاصون قاله مقاتل
قوله تعالى ثم قفينا على آثارهم أي أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم وذريتهما بعيسى وكان آخر أنبياء بني إسرائيل وجعلنا في قلوب الذين (8/175)
اتبعوه يعني الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه رأفة وقد سبق بيانها النور 2 متوادين كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه الصلاة و السلام فقال تعالى رحماء بينهم الفتح 29
قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها ليس هذا معطوفا على ما قبله وإنما انتصب بفعل مضمر يدل عليه ما بعده تقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم وهي غلوهم في العبادة وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ما كتبناها عليهم أي ما فرضناها عليهم وفي قوله تعالى إلا ابتغاء رضوان الله قولان
أحدهما أنه يرجع إلى قوله تعالى ابتدعوها وتقديره ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم
والثاني أنه راجع إلى قوله تعالى ما كتبناها ثم في معنى الكلام قولان أحدهما ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعا إلا ابتغاء رضوان الله قال الحسن تطوعوا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم وقال الزجاج لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إتمامه كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه لزمه أن يتمه قال القاض ابو يعلى والابتداع قد يكون بالقول (8/176)
وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه وقد يكون بالفعل بالدخول فيه وعموم الآية تتضمن الأمرين فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها والثاني أن المعنى ما أمرناهم منها إلا بما يرضي الله عز و جل لا غير ذلك قاله ابن قتيبة
قوله تعالى فما رعوها حق رعايتها في المشار إليم قولان
أحدهما أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية قاله الجمهور ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها أنهم ما رعوها لتبديل ديدنهم وتغييرهم له قاله عطية العوفي والثاني لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم والثالث لكفرهم برسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث ذكر القولين الزجاج
والثاني أنهم الذين ابتعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم ما رعوها بسلوك طريق أوليهم روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس
قوله تعالى فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم فيهم ثلاثة أقوال
أحدها الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا به
والثاني أن الذين آمنوا المؤمنون بعيسى والفاسقون المشركون
والثالث أن الذين آمنوا مبتدعو الرهبانية والفاسقون متبعوهم على غير القانون الصحيح (8/177)
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه و سلم يؤتكم كفلين أي نصيبين وحظين من رحمته قال الزجاج الكفل كساء يمنع الراكب أن يسقط فالمعنى يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي وقد بينا معنى الكفل في سورة النساء 85 وفي المراد بالكفلين ها هنا قولان
أحدهما لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس
والثاني أن أحدهما أجر الدنيا والثاني أجر الآخرة قاله ابن زيد
قوله تعالى ويجعل لكم نورا فيه أربعة أقوال (8/178)
أحدها القرآن رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني نورا تمشون به على الصراط رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث الهدى قاله مجاهد والرابع الإيمان قاله ابن السائب
قوله تعالى لئلا يعلم لا زائدة قاله الفراء والعرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد فهذا مما جعل في آخره جحد والمعنى ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد ألا يقدرون أي أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله والمعنى أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فآتاه المؤمنين هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمة أهل الكتاب الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله تعالى أولئك يؤتون أجرهم مرتين القصص 52 54 افتخروا على المسلمين بزيادة الآجر فشق ذلك على المسلمين فنزلت هاتان الآيتان وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس وبه قال قاتل فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين ويكون المعنى يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم فإنه فضلكم على جميع الخلائق وقال قتادة لما نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله الآية حسد أهل الكتاب المسلمين علهيا فأنزل الله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب الآية (8/179)
سورة المجادلة
وهي مدنية في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والجمهور وروي عن عطاء أنه قال العشر الأول منها مدني والباقي مكي وعن ابن السائب أنها مدنية سوى آية وهي قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة
بسم الله الرحمن الرحيم
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير
قوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها أما سبب نزولها فروي عن عائشة أنها قالت تبارك الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها وتقول يا رسول الله أبلى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك قالت فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات (8/180)
فأما تفسيرها فقوله تعالى قد سمع الله قال الزجاج إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان وإظهار الدال جائز لأنه وإن قرب من مخرج السين فله حيز على حدة ومن موضع الدال الطاء والتاء فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد والسين والزاي والصاد من موضع واحد وهي تسمى حروف الصغير وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال
أحدها خولة بنت ثعلبة رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي
والثاني خولة بنت خويلد رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث خولة بنت الصامت رواه العوفي عن ابن عباس
والرابع خولة بنت الدليج قاله أبو العالية واسم زوجها أوس بن الصامت وكانا من الأنصار
قال ابن عباس كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ثم ندم وقال لامرأته انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسليه فأتته فنزلت هذه الآيات فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان كلما قال لها قد حرمت عليه تقول والله ما ذكر طلاقا فقال ما أوحي إلي في هذا شيء فجعلت تشتكي إلى الله وتشتكي بمعنى تشكو يقال اشتكيت ما بي وشكوته وقالت إن لي (8/181)
صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فأما التحاور فهو مراجعة الكلام قال عنترة في فرسه ... لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي ...
الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لم قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعا ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم
قوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو يظهرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء وقرأ عاصم يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف وقرأ ابن مسعود يتظاهرون بياء وتاء وألف وقرأ أبي بن كعب يتظهرون بياء وتاء وتخفيف الياء وتشديد الهاء من غير ألف وقرأ الحسن وقتادة والضحاك يظهرون بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة والمعنى تقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا ما هن أمهاتهم قرأ الأكثرون بكسر التاء وروى المفضل عن عاصم رفعها والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات له إن أمهاتهم (8/182)
أي ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم قال الفراء وانتصاب الأمهات ها هنا بإلقاء الباء وهي قراءة عبد الله ما هن بأمهاتهم ومثله ما هذا بشرا يوسف 31 المعنى ما هذا ببشر فلما ألقيت الباء أبقي أثرها وهو النصب وعلى هذا كلام أهل الحجاز فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا وقالوا ما هن أمهاتهم وما هذا بشر أنشدني بعض العرب ... ركاب حسيل آخر الصيف بدن ... وناقة عمرو ما يحل لها رحل ... ويزعم حسل أنه فرع قومه ... وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل ...
قوله تعالى وإنهم يعني المظاهرين ليقولون منكرا من القول لتشبيههم الزوجات بالأمهات والأمهات محرمات على التأبيد بخلاف الزوجات وزورا أي كذبا وإن الله لعفو غفور إذ شرع الكفارة لذلك
قوله تعالى ثم يعودون لما قالوا اللام في لما بمعنى إلى والمعنى ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء قال الفراء معنى الآية يرجعون عما قالوا وفي نقض ما قالوا وقال سعيد بن جبير المعنى يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرموه على (8/183)
أنفسهم وقال الحسن وطاووس والزهري العود هو الوطء وهذا يرجع إلى ما قلناه وقال الشافعي هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها فإذا وجد هذا استقرت عليه الكفارة لأنه قصد بالظهار تحريمها فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه وان سكت عن الطلاق فقد ندم على ما ابتدأ به فهو عود إلى ما كان عليه فحينئذ تجب الكفارة وقال داود هو إعادة اللفظ ثانيا لأن ظاهر قوله تعالى يعودون يدل على تكرير اللفظ قال الزجاج وهذا قول من لا يدري اللغة وقال أبو علي الفارسي ليس في هذا كما ادعوا لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل وسميت الآخرة معادا ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليه قال الهذلي ... وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئا واستراح العواذل ...
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى وإلى الله ترجع الأمور البقرة 210 قال ابن قتيبة من توهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية فليس بشيء لأن الناس قد أجمعوا ان الظهار يقع بلفظ واحد وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطلقوا بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في (8/184)
الجاهلية وأنزل قوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم يريد في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا في الإسلام أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام فتحرير رقبة قال المفسرون المعنى فعليهم أو فكفارتهم تحرر رقبة أي عتقها وهل يشترط أن تكون مؤمنة فيه عن أحمد روايتان
قوله تعالى من قبل أن يتماسا وهو كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة وعن أحمد روايتان وقال أبو الحسن الأخفش تقدير الآية والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم (8/185)
فصل
إذا وطئ المظاهر قبل أن يكفر أثم واستقرت الكفارة وقال أبو حنيفة يسقط الظهار والكفارة واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك فقال الحسن وسعيد بن المسيب وطاووس ومجاهد وإبراهيم وابن سيرين عليه كفارة واحدة وقال الزهري وقتادة في آخرين عليه كفارتان فإن قال أنت علي كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضي اليوم هذا قول أصحابنا وابي حنيفة والثوري والشافعي وقال ابن أبي ليلى ومالك والحسن بن صالح هو مظاهر أبدا
واختلفوا في الظهار من الأمة فقال ابن عباس ليس من أمة ظهار وبه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وابو حنيفة والشافعي وقال سعيد بن جبير وطاووس وعطاء والأوزاعي والثوري ومالك هو ظهار ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال لا يكون مظاهرا من أمته ولكن تلزمه كفارة الظهار كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة وتلزمها كفارة الظهار
واختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال أبو حنيفة و الشافعي إن كان في مجالس فكفارات وإن كان في مجلس واحد فكفارة قال القاضي أبو يعلى وعلى قول أصحابنا يلزمه كفارة واحدة سواء كان في مجلس أو في مجالس ما لم يكفر وهذا قول مالك
قوله تعالى ذلكم توعظون به قال الزجاج ذلكم التغليظ توعظون به والمعنى أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار (8/186)
قوله تعالى فمن لم يجد يعني الرقبة فصيام شهرين أي فعليه صيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع الصيام ف كفارته إطعام ستين مسكينا ذلك أي الفرض ذلك الذي وصفنا لتؤمنوا بالله ورسوله أي تصدقوا بأن الله أمر بذلك وتصدقوا بما أتى به الرسول وتلك حدود الله يعني ما وصفه الله من الكفارات في الظهار وللكافرين عذاب أليم قال ابن عباس لمن جحد هذا وكذب به
إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلى هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم
قوله تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله قد ذكرنا معنى المحادة في التوبة 63 ومعنى كبتوا في آل عمران عند قوله تعالى أو يكبتهم آية 127 وقال ابن عباس أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل
قوله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا أي من قبورهم فينبئهم بما عملوا من معاصيه وتضييع فرائضه أحصاه الله أي حفظه الله عليهم ونسوه والله على كل شيء من أعمالهم في السر والعلانية شهيد ألم تر أي ألم تعلم
قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة وقرأ أبو جعفر ما تكون بالتاء قال ابن قتيبة النجوى السرار وقال الزجاج ما يكون من خلوة (8/187)
ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به إلا هو رابعهم أي عالم به ونجوى مشتق من النجوة وهو ما ارتفع وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع وقال الضحاك إلا هو معهم أي علمه معهم
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى ألم ترى إلى الذين نهوا عن النجوى في سبب نزولها قولان
أحدهما نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة فيقع ذلك في قلبوهم ويحزنهم فلا يزالون كذلك حتى تقدم أصحابهم فلما طال ذلك وكثر شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني نزلت في اليهود قاله مجاهد قال مقاتل وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم فيظن (8/188)
المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها فنزلت هذه الآية وقال ابن السائب نزلت في المنافقين والنجوى بمعنى المناجاة ثم يعودون إلى المناجاة التي نهوا عنها ويتناجون قرأ حمزة ويعقوب إلا زيدا وروحا ويتنجون وقرأ الباقون ويتناجون بألف وفي معنى تناجيهم بالإثم والعدوان وجهان
أحدهما يتناجون بما يسوء المسلمين فذلك الإثم والعدوان ويوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول
والثاني يتناجون بعد نهي الرسول ذلك هو الاثم والعدوان ومعصية الرسول
قوله تعالى وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما نزلت في اليهود قالت عائشة رضي الله عنها جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقلت السام عليكم وفعل الله بكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش فقلت يا رسول الله ترى ما يقولون فقا ألست تريني أرد عليهم ما يقولون وأقول وعليكم قالت فنزلت هذه الآية في ذلك قال الزجاج والسام الموت (8/189)
والثاني أنها نزلت في المنافقين رواه عطية عن ابن عباس
قال المفسرون ومعنى حيوك سلموا عليك بغير سلام الله عليك وكانوا يقولون سام عليك فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم أو يقول بعضهم لبعض لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فيها قولان
أحدهما نزلت في المنافقين فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بزعمهم وهذا قول عطاء ومقاتل
والثاني أنها في المؤمنين والمعنى أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود وهذا مذهب جماعة منهم الزجاج
قوله تعالى تتناجوا هكذا قرأ الجماعة بألف وقرأ يعقوب وحده فلا تتنجوا فأما البر فقال مقاتل هو الطاعة والتقوى ترك المعصية وقال أبو سليمان الدمشقي البر الصدق والتقوى ترك الكذب ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون من الشطيان فقال تعالى إنما النجوى من الشيطان أي من تزيينه والمعنى إنما يزين لهم ذلك ليحزن الذين آمنوا وقد بينا اتقاء ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وليس بضارهم شيئا أي وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئا إلا بإذن الله أي بإرادته وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي فليكلوا أمورهم إليه (8/190)
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير
قوله تعالى إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس وقرأ عاصم في المجالس على الجمع وذلك لأن كل جالس له مجلس فالمعنى ليفسح كل رجل منكم في مجلسه قال المفسرون نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة لم يجدوا موضعا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه فبينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم جمعة جالس في صفة ضيقة في المسجد جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس فسلموا وانتظروا أن يوسعوا لهم فأوسعوا لبعضهم وبقي بعضهم فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قم يا فلان قم يا فلان حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجوه من أقامهم الكراهة وتكلم المناقون في ذلك وقالوا والله ما عدل فنزلت هذه الآية وقال قتادة كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أقبل مقبل ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض قال المفسرون ومعنى تفسحوا توسعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متضايقين حول رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده فأمرهم أن يوسعوا لغيرهم ليتساوي الناس في الحظ منه ويظهر فضلة المقربين إليه من أهل بدر وغيرهم
وفي المراد بالمجلس ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم في (8/191)
الصف فيقول لهم توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي
والثاني أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد وقال قتادة كان هذا للنبي صلى الله عليه و سلم ومن حوله خاصة
والثالث مجالس الذكر كلها روي عن قتادة أيضا وقرأ علي ابن أبي طالب وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش تفسحوا في المجالس بألف على الجمع
قوله تعالى يفسح الله لكم أي يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيا وإذا قيل انشزوا قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم انشزوا فانشزوا برفع الشين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الشين فيهما ومعنى انشزوا قوموا قال الفراء وهما لغتنان وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال
أحدها أنه القيام إلى الصلاة وكان رجال يتثاقلون عنها فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا هذا قول عكرمة والضحاك
والثاني أنه القيام إلى قتال العدو قاله الحسن
والثالث أنه القيام إلى كل خير من قتال أو أمر بمعروف ونحو ذلك قاله مجاهد (8/192)
والرابع أنه الخروج من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهدا به فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا قاله ابن زيد
والخامس أن المعنى قوموا وتحركوا وتوسعوا لإخوانكم قاله الثعلبي
قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم أي يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من الإيمان و يرفع الذين أوتوا العلم على من ليس بعالم وهل هذا الرفع في الدنيا ام في الآخرة فيه وجهان
أحدهما أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة والثاني أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم وكان (8/193)
ابن مسعود يقول أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأظهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجوكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون
قوله تعالى إذا ناجيتم الرسول في سبب نزولها قولان
أحدهما أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآية قاله ابن عباس (8/194)
والثاني أنها نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله ص - ذلك فنزلت هذه الآية فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما أهل الميسرة فبخلوا واشتد ذلك على اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت الرخصة قاله مقاتل بن حيان وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان إلا أنه قال فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقدم أحد من أهل الميسرة صدقة غير علي بن أبي طالب
وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولن يعمل بها أحد بعدي آية النجوى كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه و سلم قدمت درهما فنسختها الآية الأخرى أأشفقتم أن تقدموا الآية
قوله تعالى ذلك خير لكم وأظهر أي تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم لما فيه من طاعة الله وأطهر لذنوبكم فإن لم تجدوا يعني الفقراء فإن الله غفور رحيم إذ عفا عمن لا يجد
قوله تعالى أأشفقتم أي خفتم بالصدقة الفاقة وتاب الله عليكم أي فتجاوز عنكم وخفف بنسخ إيجاب الصدقة قال مقاتل بن حيان إنما كان ذلك عشر ليال قال قتادة ما كان إلا ساعة من نهار
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون إتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء (8/195)
ألا إنهم هم الكاذبون إستحوذ عليهم الشيطان فأنسهم ذكر الله أولئك حزب الشطيان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
قوله تعالى ألم ترى إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم نزلت في المنافين الذين تولوا اليهود ونقولوا إليهم أسرار المؤمنين وقال السدي ومقاتل نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وذلك أنه كان يجالس رسول الله ص - ويرفع حديثه إلى اليهود فدخل عليه يوما وكان أزرق فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له النبي صلى الله عليه و سلم فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآيات وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال علام تشتمني أنت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه فأنزل الله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون الآية
فأما التفسير الذين تولوا هم المنافقون والمغضوب عليهم هم اليهود ما هم منكم يعني المنافين ليسوا من المسلمين ولا من اليهود ويحلفون على الكذب وهو ما ذكرنا في سبب نزولها وقال بعضهم حلفوا أنهم ما سبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تولوا اليهود وهم يعلمون انهم كذبة اتخذوا أيمانهم (8/196)
جنة أي سترة يتقون بها القتل قال ابن قتيبة المعنى استتروا بالحلف فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين فصدوا عن سبيل الله فيه قولان
أحدهما صدوا الناس عن دين الإسلام قاله السدي
والثاني صدوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم
قوله تعالى فيحلفون له قال مقاتل وقتادة يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ويحسبون أنهم على شيء من أيمانهم الكاذبة ألا إنهم هم الكاذبون في قولهم وأيمانهم
قوله تعالى استحوذ عليهم الشيطان قال أبو عبيدة غلب عليهم وحاذهم وقد بينا هذا في سورة النساء عند قوله تعالى نستحوذ عليكم آية 141 وما بعد هذا ظاهرا إلى قوله تعالى أولئك في الأذلين أي في المغلوبين فلهم في الدنيا ذل وفي الآخرة خزي إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ألولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون
قوله تعالى كتب الله أي قضى الله لأغلبن أنا ورسلي وفتح الياء نافع وابن عامر (8/197)
قال المفسرون من بعث من الرسل بالحرب فعاقبة الأمر له ومن لم يبعث بالحرب فهو غالب بالحجة إن الله قوي عزيز أي مانع حزبه من أن يذل
قوله تعالى لا تجد قوما الآية اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال يا رسول الله دعني أكون في الرعلة الأولى فقال متعنا بنفسك يا أبا بكر وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن حمنة يوم أحد وفي عمرو قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر قاله ابن مسعود
والثاني أنها نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فصكه ابو بكر الصديق صكة شديدة سقط منها ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أو فعلته قال نعم قال فلا تعد إليه فقال أبو بكر والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته فنزلت هذه الآية قاله ابن جريج (8/198)
والثالث نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله فشرب رسول الله ماء فقال عبد الله يا رسول الله أبق فضلة من شرابك قال وما تصنع بها قال أسقيها أبي لعل الله سبحانه يطهر قلبه ففعل فأتى بها أباه فقال ما هذا قال فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها لعل الله يطهر قلبك فقا لهلا جئتني ببول أمك فرجع لى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله ائذن لي في قتل أبي قال فال رسول الله صلى الله عليه و سلم ارفق به وأحسن إليه فنزلت هذه الآية قاله السدي
والرابع أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عزم على قصدهم قاله مقاتل واختاره الفراء والزجاج
وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان وأن من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته
قوله تعالى أولئك الذين يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله كتب في قلوبهم الإيمان وقرأ المفضل عن عاصم كتب برفع الكاف والنون من الإيمان وفي معنى كتب خمسة أقوال
أحدها أثبت في قلوبهم الإيمان قاله الربيع بن أنس
والثاني جعل قاله مقاتل
والثالث كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان حكاه الماوردي والرابع حكم لهم بالإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضع الإيمان ذكره الثعلبي (8/199)
والخامس جمع في قلوبهم الإيمان حى استكملوه قاله الواحدي
قوله تعالى وأيدهم أي قواهم بروح منه وفي المراد بالروح ها ها خمسة أقوال
أحدها أنه النصر قاله ابن عباس والحسن فعلى هذا سمي النصر روحا لأن أمرهم يحيا به والثاني الإيمان قاله السدي والثالث القرآن قاله الربيع والرابع الرحمة قاله مقاتل والخامس جبريل عليه السلام أيدهم به يوم بدر ذكره الماوردي فأما حزب الله فقال الزجاج هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم وارتضاهم وألا كلمة تنبيه وتوكيد للقصة (8/200)
سورة الحشر
وهي مدنية كلها بإجماعهم
وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير وكان ابن عباس يسمي هذه السورة سورة بني النضير وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى مسجد قباء ومعه نفر من أصحابه فصلى فيه ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم فقالوا نفعل وهموا بالغدر به وقال عمرو بن جحاش أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتهم به وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر فنهض سريعا فتوجه إلى المدينة فلحقه أصحابه فقالوا قمت ولم نشعر فقال همت يهود بالغدر فأخبرني الله بذلك فقمت وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة أن اخرجوا من بلدتي (8/201)
فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به وقد أجلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه فمكثوا أياما يتجهزون فأرسل إليهم ابن أبي لا تخرجوا فإن معي ألفين من قومي وغيرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان وطمع حيي فيما قال ابن أبي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا لا نخرج فاصنع ما بدا لك فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكبر المسلمون لتكبيره وقال حاربت يهود ثم سار إليهم في أصحابه فلما رأوه قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة فاعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله فأخبر الله رسوله بذلك فبعث محمد بن مسلمة فاغتره فقتله وحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم فقالوا نحن نخرج عن بلادك فأجلاهم عن المدينة فمضى بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى خيبر وقبض سلاحهم وأموالهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا
فأما التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السورة في الحديد 1 (8/202)
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (8/203)
قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب يعني يهود بني النضير من ديارهم أي من منازلهم لأول الحشر فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم أول من حشر وأخرج من داره قاله ابن عباس وقال ابن السائب هم أول من نفي من أهل الكتاب
والثاني أن هذا كان أول حشرهم والحشر الثاني إلى أرض المحشر يوم القيامة قاله الحسن قال عكرمة من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم يومئذ اخرجوا فقالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر
والثالث أن هذا كان أول حشرهم والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب قاله قتادة
والرابع أن هذا كان أول حشرهم من المدينة والحشر الثاني من خيبر (8/204)
وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب قاله مرة الهمداني
قوله تعالى ما ظننتم يخاطب المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم لعزهم ومنعتهم وحصونهم وظنوا يعني بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وذلك أنه أمر نبيه بقتالهم وإجلائهم ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون ولا يحسبونه وقذف في قلوبهم الرعب لخوفهم من رسول الله وقيل ص - لقتل سيدهم كعب بن الأشرف يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين قرأ أبو عمرو يخربون بالتشديد وقرأ البقاون يخربون وهل بينهما فرق أم لا فيه قولان
أحدهما أن المشددة معناها النقض والهدم والمخففة معناها يخرجون منها ويتركونها خرابا معطلة حكاه ابن جرير روي عن أبي عمرو أنه قال إنما اخترت التشديد لأن بني النضير نقضوا منازلهم ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة
والثاني أن القراءتين بمعنى واحد والتخريب والإخراب لغتنان بمعنى حكاه ابن جرير عن أهل اللغة وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال
أحدها أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتسع (8/205)
لهم مكان القتال وكانوا هم ينقبون دورهم فيخرجون إلى ما يليها قاله ابن عباس
والثاني أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون قاله الضحاك
والثالث أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم أو العمود أو الباب فيستحسنونه فيهدمون البيوت وينزعون ذلك منها ويحملونه معهم ويخرب المؤمنون باقيها قاله الزهري
والرابع أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغيا قاله ابن زيد
قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها والأبصار العقول والمعنى تدبروا ما نزل بهم ولولا أن كتب الله أي قضى عليهم الجلاء وهو خروجهم من أوطانهم وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين
أحدهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد
والثاني أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة والمعنى لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما فعل بقريظة ولهم في الآخرة مع ما حل بهم في الدنيا عذاب النار ذلك الذي أصابهم بأنهم شاقوا الله وقد سبق بيان الآية الأنفال 13 ومحمد 32 قال القاضي أبو يعلى فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق (8/206)
ولا جزية ولا دخول في ذمة وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وإنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة فيجوز له حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم صالحهم على أرضهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلت الإبل وذلك مجهول
قوله تعالى ما قطعتم من لينة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير وقطع فنزلت هذه الآية أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصنوا في حصونهم فأمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض فشق ذلك على رسول الله ص - ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم واختلف المسلمون فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعها فنزلت هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى
وفي المراد باللينة ستة أقوال
أحدها أنه النخل كله ما خلا العجوة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة والفراء (8/207)
والثاني أنه النخل والشجر رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث أنه ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية قاله الزهري وأبو عبيدة وابن قتيبة وقال الزجاج أهل المدينة يسمون جميع النخيل الألوان ما خلا البرني والعجوة وأصل لينة لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها
والرابع أنها النخل كله قاله مجاهد وعطية وابن زيد قال ابن جرير معنى الآية ما قطعتم من ألوان النخيل
والخامس أنها كرام النخل قاله سفيان والسادس أنها ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهي شديد الصفرة ترى نواه من خارخ وكان أعجب ثمرهم إليهم قاله مقاتل وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات قاله الضحاك والثاني أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة قاله ابن إسحاق والثالث قطعوا أربع نخلات قاله مقاتل
قوله تعالى فبإذن الله قال يزيد بن رومان ومقاتل بأمر الله
قوله تعالى وليخزي الفاسقين يعني اليهود وخزيهم أن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا والمعنى وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ودل على المحذوف قوله فبإذن الله (8/208)
وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
قوله تعالى وما أفاء الله على رسوله أي ما رد عليهم منهم يعني من بني النضير فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب قال أبو عبيدة الإيجاف الإيضاع والركاب الإبل قال ابن قتيبة يقال وجف الفرس والبعير وأوجفته ومثله الإيضاع وهو الإسراع في السير وقال الزجاج معنى الآية أنه لا شيء لكم في هذا إنما هو لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة
قال المفسرون طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخمس أموال بني النضير لما أجلوا فنزلت هذه الآية تبين أنها فيئ لم تحصل لهم بمحاربتهم وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو له خاصة يفعل فيه ما يشاء فقسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة نفر كانت (8/209)
بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ثم ذكر حكم الفيء فقال تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي من أموال كفار أهل القرى فلله أي يأمركم فيه بما أحب ولرسوله بتحليل الله إياه وقد ذكرنا ذوي القرى واليتامى في الأنفال 41 وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة
فصل
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب قوم أن المراد بالفيء ها هنا الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وكانت في بدو الإسلام للذين سماهم الله ها هنا دون الغالبين الموجفين عليها ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال 41 واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية هذا قول قتادة ويزيد بن رومان وذهب قوم إلى أن هذا الفيئ ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب كالصلح والجزية والعشور ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسة أخماس فأربعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل بها ما يشاء والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله ص - بعد موته على ما بينا في الأنفال 41 فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيء والتي في الأنفال 41 مثبتة لحكم الغنيمة فلا يتوجه النسخ (8/210)
قوله تعالى كي لا يكون يعني الفيء دولة وهو اسم للشيء يتداوله القوم والمعنى لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه قال الزجاج الدولة اسم الشيء يتداول والدولة بالفتح الفعل والانتقال من حال إلى حال وما آتاكم الرسول من الفيئ فخذوه وما نهاكم عن أخذه فانتهوا وهذا نزل في أمر الفيئ وهو عام في كل ما أمر به ونهى عنه قال الزجاج ثم بين من المساكين الذي لهم الحق فقال تعالى للفقراء (8/211)
المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم قال المفسرون يعني بهم المهاجرين يبتغون فضلا من الله أي رزقا يأتيهم ورضوانا رضي ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أولئك هم الصادقون في إيمانهم ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء فقال تعالى والذين تبوؤا الدار يعني دار الهجرة وهي المدينة والإيمان من قبلهم فيها تقديم وتأخير تقديره والذين تبوؤوا الدار من قبلهم أي من قبل المهاجرين والإيمان عطف على الدار في الظاهر لا في المعنى لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ وإنما تقديره وآثروا الإيمان وإسلام المهاجرين قبل الأنصار وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين وقيل الكلام على ظاهره والمعنى تبوؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة يحبون من هاجر إليهم وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم وأموالهم ولا يجدون في صدورهم حاجة أي حسدا وغيظا مما أوتي المهاجرون
وفيما أوتوه قولان
أحدهما مال الفيء قاله الحسن وقد ذكرنا آنفا أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر (8/212)
والثاني الفضل والتقدم ذكره الماوردي
قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ولو كان بهم خصاصة أي فقر وحاجة فبين الله عز و جل أن إيثارهم لم يكن عن غنى وفي سبب نزول هذا الكلام قولان
أحدهما أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أصابه الجهد فقال يا رسول الله إني جائع فأطعمني فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أزواجه هل عندكن شيء فكلهن قلن والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء فقال ما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يطعمك هذه الليلة ثم قال من يضيف هذا هذه الليلة يC فقام رجل فقال أنا يا رسول الله فأتى به منزله فقال لأهله هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا فقالت ما عندنا إلا قوت الصبية فقال قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا ثم أصبحي سراجك فإذا أخذ الضيف ليأكل فقومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله (8/213)
صلى الله عليه و سلم حتى يشبع ففعلت ذلك وظن الضيف أنهما يأكلان معه فشبع هو وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نظر إليهما تبسم ثم قال ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة الآية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة أن الضيف كان من أهل الصفة والمضيف كان من الأنصار وأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقد عجب من فعالكما أهل السماء
والثاني أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدي له رأس شاة فقال إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك (8/214)
قال أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهودا فوجه به إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأول فنزلت هذه الآية قوله تعالى ومن يوق شح نفسه وقرأ ابن السميفع وأبو رجاء ومن يوق بتشديد القاف قال المفسرون هو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه والمعنى أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيئ للمهاجرين
فصل
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل هل بينهما فرق أم لا فقال ابن جرير الشح في كلام العرب هو منع الفضل من المال وقال أبو سليمان الخطابي الشح أبلغ في المنع من البخل وإنما الشح بمنزلةالجنس والبخل بمنزلة النوع وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء والشح عام فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال البخل أن يضن بماله والشح أن يبخل بماله ومعروفه وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال أسمع الله يقول ومن يوق (8/215)
شح نفسه وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما إنما ذلك البخل وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة
قوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم يعني التابعين إلى يوم القيامة قال الزجاج والمعنى ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ودليل هذا قوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم أي الذين جاؤوا في حال قولهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ من فيئ المسلمين ومن شتمهم ولم يترحم عليهم وكان في قلبه غل لهم فما جعل الله له حقا في شيء من فيئ المسلمين بنص الكتاب وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال من تنقص اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيئ المسلمين ثم تلا هذه الآيات (8/216)
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليؤولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين
قوله تعالى ألم تر إلى الذين نافقوا يعني عبد الله بن أبي وأصحابه يقولون لإخوانهم في الدين لأنهم كفار مثلهم وهم اليهود لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أي في خذلانكم أحدا أبدا فكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله والله يشهد إنهم لكاذبون ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون وقوتلوا فلم ينصورهم ومعنى ولئن نصروهم لئن قدر وجود نصرهم لأن الله نفى نصرهم فلا يجوز وجوده وقوله تعالى ثم لا ينصرون يعني بني النضير
قوله تعالى لأنتم أشد يعني المؤمنين أشد رهبة في صدورهم وفيهم قولان (8/217)
أحدهما أنهم المنافقون قاله مقاتل والثاني بنو النضير قاله الفراء
قوله تعالى لا يقاتلونكم جميعا فيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله الأكثرون
والثاني اليهود والمنافقون قاله أبو سليمان الدمشقي والمعنى أنهم لا يبرزون لحربكم إنما يقاتلون متحصنين في قرى محصنة أو من وراء جدر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبان جدار بألف وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي جدر بضم الجيم والدال وقرأ أبو بكر الصديق وابن أبي عبلة جدر بفتح الجيم والدال جميعا وقرأ عمر بن الخطاب ومعاوية وعاصم الجحدري جدر بفتح الجيم وسكون الدال وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والحسن وابن سيرين وابن يعمر جدر بضم الجيم وإسكان الدال بأسهم بينهم شديد فيما وراء الحصون شديد وإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله
قوله تعالى تحسبهم جميعا فيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود والمنافقون قاله مقاتل
والثاني بنو النضير قاله الفراء
قوله تعالى وقلوبهم شتى قال الزجاج أي هم مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بنيات مجتمعة لأن الله تعالى ناصر حزبه وخاذل أعدائه
قوله تعالى ذلك يعني ذلك الاختلاف بأنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم ثم ضرب لليهود مثلا فقال تعالى كمثل الذين من قبلهم قريبا وفيه ثلاثة أقوال (8/218)
أحدها بنو قينقاع وكانوا وادعوا رسول الله ثم غدروا فحصروهم ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم ولهم النساء والذرية فالمعنى مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم
والثاني أنهم كفار قريش يوم بدر قاله مجاهد والمعنى مثل هؤلاء اليهود كمثل المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر والثالث أنهم بنو قريظة فالمعنى مثل بني النضير كبني قريظة ذاقوا وبال أمرهم بأن قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم في الآخرة ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال تعالى كمثل الشيطان والمعنى مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وقولهم لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولئن قوتلتم لننصرنكم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وفيه قولان
أحدهما أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان وهو عام في جميع الناس قاله مجاهد
والثاني أنه مثل ضربه الله لشخص معين وعلى هذا جمهور المفسرين وهذا شرح قصته
ذكر أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له برصيصا تعبد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان فجمع إبليس يوما مردة الشياطين فقال ألا أحد منكم يكفيني برصيصا فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء أنا أكفيكه فانطلق على صفة الرهبان وأتى صومعته فناداه فلم (8/219)
يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة فناداه ما حاجتك فقال إني أحببت أن أكون معك أقتبس من عملك وأتأدب بأدبك ونجتمع على العبادة فقال برصيصا إني لفي شغل عنك ثم أقبل على صلاته وأقبل الأبيض يصلي فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما ثم انفتل فرآه يصلي فلما رأى شدة اجتهاده قال ما حاجتك فأعاد عليه القول فأذن له فصعد إليه فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما وربما زاد على ذلك فلما رأى برصيصا اجتهاده أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق عنك فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى فاشتد ذلك على برصيصا وكره مفارقته فلما ودعه قال له الأبيض إن عندي دعوات أعلمكها يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلي فقال برصيصا إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا فأخاف أن يعلم الناس بهذا فيشغلوني عن العبادة فلم يزل به حتى علمه إياها ثم انطلق إلى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا فأعالجه قالوا نعم فقال لهم إني لا أقوى على جنيه ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى فقالوا له دلنا قال انطلقوا إلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم فانطلقوا إليه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنهم الشيطان وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك ثم يرشدهم إلى برصيصا فيعافون فلما طال ذلك (8/220)
عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل لها ثلاثة إخوة فخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال أعالجها قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها قالوا ومن هو قال بريصصا قالوا فكيف لنا أن يقبلها منا وهو أعظم شأنا من ذلك قال إن قبلها والا فضعوها في صومعته وقولوا له هي أمانة عندك فانطلقوا إليه فأبى عليهم فوضعوها عنده وفي بعض الروايات أنه قال ضعوها في ذلك الغار وهو غار إلى جنب صومعته فوضعوها فجاء الشيطان فقال له انزل إليها فامسحها بيدك تعافى وتنصرف إلى أهلها فنزل فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها فإذا هي تركض فسقطت عنها ثيابها فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا فلم يتمالك أن وقع عليها وضرب على أذنه فجعل يختلف إليها إلى أن حملت فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتل هذه وتتوب فإن سألوك عنها فقل جاء شيطانها فذهب بها فلم يزل بها حتى قتلها ودفنها ثم رجع إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا وفي بعض الروايات أنه قال دعوت لها فعافاها الله ورجعت إليكم فتفرقوا ينظرون لها أثرا فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا فقال هذا حلم وبرصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال ولا يكترث فانطلق إلى الأوسط كذلك ثم إلى الأصغر مثل ذلك فقال الأصغر لإخوته لقد رأيت كذا وكذا فقال (8/221)
الأوسط وأنا والله فقال الأكبر وأنا والله فأتوا برصيصا فسألوه عنها فقال قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني قالوا لا والله واستحيوا وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن إزارها لخارج من التراب فانطلقوا فحفروا عنها فرأوها فقالوا يا عدو الله لم قتلتها اهبط فهدموا صومعته ثم أوثقوه وجعلوا في عنقه حبلا ثم قادوه إلى الملك فأقر على نفسه وذلك أن الشطيان عرض له فقال تقتلها ثم تكابر فاعترف فأمر الملك بقتله وصلبه فعرض له الأبيض فقال أتعرفني قال لا قال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها أما استحييت من الله ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس فإن مت على هذه الحالة لم تفلح ولا أحد من نظرائك قال فكيف أصع قال تطيعني في خصلة حتى أنجيك وآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال ما هي قال تسجد لي فسجد له فقال هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت إني بريء منك ثم قتل فضرب الله هذا المثل لليهود حين غرهم المنافقون ثم أسلموهم (8/222)
قوله تعالى إني أخاف الله ونصب ابن كثير ونافع وأبو عمرو ياء إني وأسكنها الباقون وقد بينا المعنى في الأنفال 48 فكان عاقبتهما يعني الشيطان وذلك الكافر (8/223)
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون
قوله تعالى ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي لينظر أحدكم أي شيء قدم أعملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي تركوا أمره فأنساهم أنفسه أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يعملوا بالطاعة ولم يقدموا خيرا قال ابن عباس يريد قريظة والنضير وبني قينقاع
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم
قوله تعالى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن وأنه لو جعل في جبل على قساوته وصلابته تمييزا كما جعل في بني آدم ثم أنزل عليه القرآن لتشقق من خشية الله وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن والخاشع المتطاطىء الخاضع والمتصدع المتشقق وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل ويدلك على هذا المثل قوله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس ثم أخبر بعظمته وربوبيته فقال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو قال الزجاج قوله (8/224)
تعالى هو الله رد على قوله تعالى في أول السورة سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم
فأما هذه الأسماء فقد سبق ذكر الله والرحمن والرحيم في الفاتحة وذكرنا معنى عالم الغيب والشهادة في الأنعام 73 والملك في سورة المؤمنين 116
فأما القدوس فقرأ أبو الأشهب وأبو نهيك ومعاذ القارىء بفتح القاف قال أبو سليمان الخطابي القدوس الطاهر من العيوب المنزه عن الأنداد والأولاد والقدس الطهارة ومنه سمي بيت المقدس ومعناه المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب وقيل للجنة حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا والقدس السطل الذي يتطهر فيه ولم يأت من الأسماء على فعول بضم الفاء إلا قدوس وسبوح وقد يقال أيضا قدوس وسبوح بالفتح فيهما وهو القياس في الأسماء كقولهم سفود وكلوب
فأما السلام فقال ابن قتيبة سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء وقال الخطابي معناه ذو السلام والسلام في صفة الله سبحانه هو الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين قال وقد قيل هو الذي سلم الخلق من ظلمه
فأما المؤمن ففيه ستة أقوال
أحدها أنه الذي أمن الناس ظلمه وأمن من آمن به عذابه قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنه المجير قاله القرظي (8/225)
والثالث الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه قاله ابن زيد
والرابع أنه الذي وحد نفسه لقوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو آل عمران 18 ذكره الزجاج
والخامس أنه الذي يصدق عباده وعده قاله ابن قتيبة
والسادس أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين ولا يخيب آمالهم كقول النبي عليه الصلاة و السلام فيما يحكيه عن ربه عز و جل أنا عند ظن عبدي بي حكاه الخطابي
فأما المهيمن ففيه أربعة أقوال
أحدها أنه الشهيد قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي قال الخطابي ومنه قوله تعالى ومهيمنا عليه المائدة 48 فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل
والثاني أنه الأمين قاله الضحاك قال الخطابي وأصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة ولم يأت مفيعل في غير التصغير إلا في ثلاثة أحرف مسيطر ومبيطر ومهيمن وقد ذكرنا في سورة الطور 37 عن أبي عبيدة أنها خمسة أحرف
والثالث المصدق فيما أخبر قاله ابن زيد
والرابع أنه الرقيب على الشيء والحافظ له قاله الخليل قال الخطابي وقال بعض أهل اللغة الهيمنة القيام على الشيء والرعاية له وأنشد ... ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر (8/226)
يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم وقد زدنا هذا شرحا في المائدة 48 وبينا معنى العزيز في البقرة 129
فأما الجبار ففيه أربعة أقوال
أحدها أنه العظيم قاله ابن عباس
والثاني أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد قاله القرظي والسدي وقال قتادة جبر خلقه على ما شاء وحكى الخطابي أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه يقال جبره السلطان وأجبره
والثالث أنه الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق
والرابع أنه العالي فوق خلقه من قولهم تجبر النبات إذا طال وعلا ذكر القولين الخطابي
فأما المتكبر ففيه خمسة أقوال
أحدها أنه الذي تكبر عن كل سوء قاله قتادة
والثاني أنه الذي تكبر عن ظلم عباده قاله الزجاج (8/227)
والثالث أنه ذو الكبرياء وهو الملك قاله ابن الأنباري
والرابع أنه المتعالي عن صفات الخلق
والخامس أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فقصمهم ذكرهما الخطباي قال والتاء في المتكبر تاء التفرد والتخصص لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل وقيل إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق
وأما الخالق فقال الخطابي هو المتبدىء للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق كقول زهير ... ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري ...
يقول إذا قدرت شيئا قطعته وغيرك يقدر ما لا يقطعه أي يتمنى ما لا يبلغه والبارئ الخالق يقال برأ الله الخلق يبرؤهم والمصور (8/228)
الذي أنشأ خلته على صور مختلفة ليتعارفوا بها ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل وقرأ الحسن وأبو الجوزاء وأبو عمران وابن السميفع البارئ المصور بفتح الواو والراء جميعا يعني آدم عليه السلام وما بعد هذا قد تقدم بيانه الأعراف 180 والإسراء 110 إلى آخر السورة (8/229)
سورة الممتحنة
وهي مدينة كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير
قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء أهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يتجهز لفتح مكة فقال لها أمسلمة جئت قالت لا قال فما جاء بك قالت أنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت إليكم لتعطوني قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأين أنت من شباب أهل مكة وكانت مغنية فقالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر (8/230)
فحث رسول الله صلى الله عليه و سلم بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة فكتب معها كتابا إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت به سارة ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بما فعل حاطب فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها فقالوا لها أين الكتاب فحلفت بالله ما معها من كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئا فهموا بالرجوع فقال علي والله ما كذبنا ولا كذبنا وسل سيفه وقل أخرجي الكتاب وإلا ضربت عنقك فلما رأت الجد أخرجته من فؤابتها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا فيهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وكتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله (8/231)
صلى الله عليه و سلم وعذره ونزلت هذه السورة تنهى حاطبا عما فعل وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقد أخرج هذا الحديث في الصحيحين مختصرا وفيه ذكر علي وابن الزبير وأبي مرثد فقط
قوله تعالى تلقون إليهم بالمودة وفيه قولان
أحدهما أن الباء زائدة والمعنى تلقون إليهم المودة ومثله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الحج 25 هذا قول الفراء وأبي عبيدة وابن قتيبة والجمهور
والثاني تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه و سلم وسره بالمودة التي بينكم وبينه قاله الزجاج (8/232)
قوله تعالى وقد كفروا الواو للحال وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق وهو القرآن يخرجون الرسول وإياكم من مكة أن تؤمنوا بالله إن كنتم خرجتم هذا شرط جوابه متقدم وفي الكلام تقديم وتأخير قال الزجاج معنى الآية إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
قوله تعالى تسرون إليهم بالمودة الباء في المودة حكمها حكم الأولى قال المفسرون والمعنى تسرون إليهم النصيحة وأنا أعلم بما أخفيتم من المودة للكفار وما أعلنتم أي أظهرتم بألسنتكم وقال ابن قتيبة المعنى كيف تستسرون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون
قوله تعالى ومن يفعله منكم يعني الإسرار والإلقاء إليهم فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ طريق الهدى ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى إن يثقفوكم أي يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء لا موالين ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسوء وهو الشتم وودوا لو تكفرون فترجعون إلى دينهم والمعنى أنه لا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى لن تنفعكم أرحامكم أي قراباتكم والمعنى ذوو أرحامكم أراد لن ينفعكم الذين عصيتم الله لأجلهم يوم القيامة يفصل بينكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو يفصل برفع الياء وتسكين الفاء ونصب الصاد وقرأ ابن عامر يفصل بينكم برفع الياء والتشديد وفتح الصاد وافقه حمزة والكسائي وخلف إلا أنهم كسروا الصاد وقرأ عاصم غير المفضل ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد وتخفيفها وقرأ أبي بن كعب (8/233)
وابن عباس وأبو العالية نفصل بنون مرفوعة وفتح الفاء مكسورة الصاد مشددة وقرأ أبو رزين وعكرمة والضحاك نفصل بنون مفتوحة ساكنة الفاء مكسورة الصاد خفيفة أي نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده قال القاضي أبو يعلى في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح في الخوف على النفس ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقية وإنما قال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل
قد كانت لكم أسوة حنسة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (8/234)
قوله تعالى قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم وقرأ عاصم أسوة بضم الألف وهما لغتان أي اقتداء حسن به وبمن معه وفيهم قولان
أحدهما أنهم الأنبياء
والثاني المؤمنون إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم قال الفراء يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم
قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه قال المفسرون والمعنى تأسوا بإبراهيم الا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسوا به في ذلك فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وما أملك لك من الله من شيء أي ما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه ربنا عليك توكلنا إلى قوله تعالى العزيز الحكيم قال الفراء قولوا أنتم ربنا عليك توكلنا وقد بينا معنى قوله تعالى لا تجعلنا فتنة للذين كفروا في يونس آية 85 ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة فقال تعالى لقد كان لكم فيهم أي في إبراهيم ومن معه وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله وقوله تعالى لمن كان يرجو الله بدل من قوله تعالى لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخشى عقاب الآخرة
قوله تعالى ومن يتول أي يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فإن الله هو الغني عن خلقه الحميد إلى أوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادوا أقرباءهم فأنزل الله تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم أي من كفار مكة مودة ففعل ذلك بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح وتزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فانكسر أبو سفيان (8/235)
عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام والله قدير على جعل المودة والله غفور لهم رحيم بهم بعدما أسلموا
قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال
أحدها أنها في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها قاله عبد الله بن الزبير والثاني أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا قاله ابن عباس وروي عن الحسن (8/236)
البصري أنها نزلت في خزاعة وبني الحارث بن عبد مناف وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فداموا على الوفاء به
والثالث نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس قاله عطية العوفي ومرة والرابع أنها عامة في جميع الكفار وهي منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5 قاله قتادة
والخامس نزلت في النساء والصبيان حكاه الزجاج
قال المفسرون وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم وإن كانت الموالاة منقطعة منهم
قوله تعالى ولم يخرجوكم من دياركم أي من مكة أن تبروهم وتقسطوا إليهم أي تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم
قوله تعالى وظاهروا على أخراجكم أي عاونوا على ذلك أن تولوهم والمعنى إنما ينهاكم عن أن تولوا هؤلاء لأن مكاتبتهم بإظهار ما اسره رسول الله صلى الله عليه و سلم موالاة وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف قال ابن جرير لا وجه لادعاء النسخ لأن بر المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام ويدل على ذلك حديث أسماء وأمها الذي سبق
ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم (8/237)
حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن قال ابن عباس إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم وكتبوا بذلك الكتاب وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحديبية فأقبل زوجها وكان كافرا فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت هذه الآية وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي (8/238)
معيط وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدمت المدينة في هدنة الحديبية فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة فقالا يا محمد أوف لنا بشرطنا وقالت أم كلثوم يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي فنقض الله عز و جل العهد في النساء وأنزل فيهن المحنة وحكم فيهن بحكم رضوه كلهم ونزل في أم كلثوم فامتحنوهن فامتحنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وامتحن النساء بعدها يقول والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله وما خرجتن لزوج ولا مال فإذا قلن ذلك تركن فلم يرددن إلى أهليهن
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أنها سبيعة وقد ذكرناه عن ابن عباس والثاني أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم وهو المشهور
والثالث أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف ذكره أبو نعيم الأصبهاني قال الماوردي وقد اختلف أهل العلم هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما (8/239)
فقالت طائفة قد كان شرط ردهن في لفظ الهدنة لفظا صريحا فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاها في الرجال على ما كان وقالت طائفة لم يشرط ردهن في العقد صريحا وإنما أطلق العقد وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال فبين الله عز و جل خروجهن عن عمومه وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين
أحدهما أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم
والثاني أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم وقال القاضي أبو يعلى وإنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل وإن لم يقع الفعل
قال المفسرون والمراد بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه و سلم قال ابن زيد وإنما أمرنا بامتحانهن لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة قال لألحقن بمحمد وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال (8/240)
أحدها أنه كان يمتحنهن ب شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه كان يستحلف المرأة بالله ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فمن أقرت بهذا الشرط قالت قد بايعتك هذا قول عائشة
قوله تعالى الله أعلم بإيمانهن أي إن هذا الامتحان لكم والله أعلم بهن فإن علمتموهن مؤمنات وذلك يعلم بإقرارهن فحينئذ لا يحل ردهن إلى الكفار لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وآتوهم يعني أزواجهن الكفار ما أنفقوا يعني المهر قال مقاتل هذا إذا تزوجها مسلم فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وهي المهور (8/241)
فصل
عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها وقعت الفرقة على انقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين
قوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي تمسكوا بضم التاء والتخفيف وقرأ أبو عمرو ويعقوب تمسكوا بضم التاء وبالتشديد وقرأ ابن عباس وعكرمة والحسن وابن يعمر وابو حيوة تمسكوا بفتح التاء والميم والسين مشددة والكوافر جمع كافرة والمعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكافر وأمرهم بفراقهن وقال الزجاج المعنى أنها إذا كفرت فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن أي قد انبت عقد النكاح وأصل العصمة الحبل وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه
قوله تعالى واسألوا ما أنفقتم أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وليسألوا ما أنفقوا يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر والمعنى عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم (8/242)
قال أهل السير وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة
قوله تعالى ذلكم حكم الله يعني ما ذكر في هذه الآية
فصل
وذكر بعضهم في قوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب المائدة 5 وهذا تخصيص لا نسخ
قوله تعالى وإن فاتكم شيء من أزواجدكم إلى الكفار فعاقبتم قال الزجاج أي أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم وقرأ ابن مسعود والأزهري والنخعي فعقبتم بغير ألف وبفتح العين والقاف وبتخفيفها وقرأ ابن عباس وعائشة وحميد والأعمش مثل ذلك إلا أن القاف مشددة قال الزجاج المعنى في التشديد والتخفيف واحد فكانت العقبى لكم بأن غلبتم وقرأ أبي بن كعب وعكرمة ومجاهد فأعقبتم بهمزة ساكنة العين مفتوحة القاف خفيفة وقرأ معاذ القارئ وأبو عمران الجوني فعقبتم بفتح العين وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا أي أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم كانت زوجته (8/243)
مسلمة وهي أم الحكم بنت أبي سفيان فارتدت فلحقت بمكة فأمر الله المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر ثم نسخ ذلك بقوله تعالى براءة من الله ورسوله التوبة 1 إلى رأس الخمس
قال القاضي أبو يعلى وهذه الأحكام في أداء المهر وأخذه من الكفار وتعويض الزوج من الغنيمة أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب منسوخة عند جماعة من أهل العلم وقد نص أحمد على هذا قلت وكذا قال مقاتل كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف
يا أيها ا لنبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم
قوله تعالى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك قال المفسرون لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة جاءته النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية فبايعهن وهو على الصفا فلما قال ولا يزنين قالت هند أوتزني الحرة فقال ولا يقتلن أولادهن فقال ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم (8/244)
لم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام وقد سمينا من أحصينا من (8/245)
المبايعات في كتاب التلقيح على حروف المعجم وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة والله الموفق
قوله تعالى ولا يقتلن أولادهن قال المفسرون هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله
قوله تعالى ولا يتأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم قاله ابن عباس والجمهور وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى وإنما قال بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها وقيل معنى يفترينه بين أيديهن يأخذنه لقيطا وارجلهن ما ولدنه من زنى
السحر
والثالث المشي بالنميمة والسعي في الفساد ذكرهما الماوردي
قوله تعالى ولا يعصينك في معروف فيه ثلاثة أقوال (8/246)
أحدها أنه النوح قاله ابن عباس وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني أنه لا يدعين ويلا ولا يخدشن وجها ولا ينشرن شعرا ولا يشققن ثوبا قاله زيد بن أسلم
والثالث جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه و سلم من شرائع الإسلام وآدابه قاله أبو سليمان الدمشقي وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المباح دون المحظور
قوله تعالى فبايعهن المعنى إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن
يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوا غضب الله عليهم اليهود وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتقربون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم فنزلت هذه الآية (8/247)
قوله تعالى قد يئسوا من الآخرة وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمدا وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير والمعنى قد يئسوا من ثواب الآخرة هذا قول الجمهور وهو الصحيح وقال قتادة قد يئسوا أن يبعثوا كما يئس الكفار فيه قولان
أحدهما كما يئس الكفار من بعث من في القبور قاله ابن عباس
والثاني كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة لأنهم أيقنوا بالعذاب قاله مجاهد (8/248)
سورة الصف
ويقال لها سورة الحواريين
وفيها قولان
أحدهما مدنية قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور
والثاني مكية قاله ابن يسار
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص
قوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام قال قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز و جل عملناه فأنزل الله سبح لله ما في السموات إلى آخر السورة (8/249)
والثاني أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيقول فعلت كذا وكذا وما فعل فنزلت لم تقولون ما لا تفعلون رواه عكرمة عن ابن عباس وكذلك قال الضحاك كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وصبرت ولم يصبر فنزلت هذه الآية
والثالث أن ناسا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه فلما نزل الجهاد كرهه ناس من المؤمنين فنزلت هذه الآية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أن صهيبا قتل رجلا يوم بدر فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه فقال صهيب أنا قتلته يا رسول الله فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب ونزلت هذه الآية رواه سعيد بن المسيب عن صهيب
والخامس أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه لو قد خرجتم خرجنا معكم ونصرناكم فلما خرج النبي صلى الله عليه و سلم نكصوا عنه فنزلت هذه الآية قاله ابن زيد (8/250)
قول تعالى كبر مقتا عند الله قال الزجاج مقتا منصوب على التمييز والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله ثم أعلم عز و جل ما الذي يحبه فقال تعالى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أي بنيان لاصق بعضه ببعض فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص وللمفسرين في المراد ب المرصوص قولان
أحدهما أنه الملتصق بعضه ببعض فلا يرى فيه خلل لإحكامه قاله الأكثرون
والثاني أنه المبني بالرصاص وإلى نحو هذا ذهب الفراء وكان أبو بحرية (8/251)
يقول كانوا يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لهذه الآية اسم أبي بحرية عبد الله بن قيس الترغمي يروي عن معاذ وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفون في الغالب إنما يصطف الرجالة
وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (8/252)
قوله تعالى وإذ قال موسى المعنى اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى وقد ذكرنا ما آذوا به موسى في الأحزاب 69
قوله تعالى فلما زاغوا أي مالوا عن الحق أزاغ الله قلبوهم أي أمالها عن الحق جزاء لما ارتكبوه وما بعد هذا ظاهر إلى قول تعالى يأتي من بعدي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم من بعدي اسمه بفتح الياء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من بعدي اسمه بإسكان الياء ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وفيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله مقاتل
والثاني النصارى حين قالوا عيسى ابن الله قاله أبو سليمان الدمشقي وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري وطلحة بن مصرف يدعي إلى الإسلام بفتح الياء والدال وتشديدها وبكسر العين وما بعد هذا في براءة 32 إلى قوله تعالى متم نوره قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف متم نوره مضاف وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم متم رفع منون (8/253)
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
قوله تعالى هل أدلكم على تجارة قال المفسرون نزلت هذه الآية حين قالوا لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبدا فدلهم الله على ذلك وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه
قوله تعالى تنجيكم قرأ ابن عامر تنجيكم بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ثم بين التجارة فقال تعالى تؤمنون بالله إلى قوله تعالى يغفر لكم قال الزجاج وقوله يغفر لكم جواب قوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا يغفر لكم أي إن فعلتم ذلك يغفر لكم وقد غلط بعض النحويين فقال هذا جواب هل وهذا غلط بين لأنه ليس إذا دلهم على ما ينفعهم غفر لهم إنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك ومن قرأ يغفر لهم بإدغام الراء في اللام فغير جائز عند سيبويه (8/254)
والخليل لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم وقد رويت عن ابي عمرو بن العلاء وهو إمام عظيم ولا أحسبه قرأها إلا وقد سمعها من العرب وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين ما خلا أبا عمرو أن اللام تدغم في الراء وأن الراء لا تدغم في اللام وحجتهم أن الراء حرف مكرر قوي فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى وأخرى تحبونها قال الفراء والمعنى ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبونها ثم فسرها فقال تعالى نصر من الله وفتح قريب وفيه قولان
أحدهما أنه فتح مكة قاله ابن عباس
والثاني فتح فارس والروم قاله عطاء
قوله تعالى وبشر المؤمنين أي بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر دينه بقوله تعالى كونوا أنصار الله قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو كونوا أنصارا لله منونة وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أنصار الله ومعنى الآية دوموا على ما أنتم عليه وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله وحرك نافع ياء من أنصاري إلى الله وقد سبق تفسير هذا الكلام آل عمران 52 فآمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى وكفرت طائفة فأيدنا الذين (8/255)
آمنوا بعيسى على عدوهم وهم مخالفو عيسى كذلك قال ابن عباس ومجاهد والجمهور وقال مقاتل تم الكلام عند قوله تعالى وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا بمحمد على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بمحمد على الأديان وقال إبراهيم النخعي أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه و سلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة قال ابن قتيبة فأصبحوا ظاهرين أي غالبين عليهم بمحمد من قولك ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه (8/256)
سورة الجمعة
وهي مدنية كلها بإجماعهم
وقد سبق شرح فاتحتها وقرأ أبو الدرداء وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والنخعي والوليد عن يعقوب الملك القدوس العزيز الحكيم بالرفع فيهن
فإن قيل فما الفائدة في إعادته ذكر التسبيح في هذه السورة
فالجواب أن ذلك لاستفتاح السور بتعظيم الله عز و جل كما تستفتح ب بسم الله الرحمن الرحيم وإذا جل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به
بسم الله الرحمن الرحيم
يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى هو الذي بعث في الأميين يعني العرب وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة 78 رسولا يعني محمدا صلى الله عليه و سلم منهم أي من جنسهم ونسبهم (8/257)
فإن قيل فما وجه الامتنان في أنه بعث نبيا أميا
فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها لموافقة ما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء
والثاني لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم
والثالث لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله وما بعد هذا في سورة البقرة 129 إلى قوله تعالى وإن كانوا من قبل أي وما كانوا قبل بعثته إلا في ضلال مبين بين وهو الشرك (8/258)
قوله تعالى وآخرين منهم فيه قولان
أحدهما وبعث محمدا في آخرين منهم أي من الأميين
والثاني ويعلم آخرين منهم ويزكيهم وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال
أحدها أنهم العجم قاله ابن عمر وسعيد بن جبير وهي رواية ليث عن مجاهد فعلى هذا إنما قال منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم إذ المسلمون يد واحدة وملة واحدة
والثاني أنهم التابعون قاله عكرمة ومقاتل
والثالث جميع من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة قاله ابن زيد وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد (8/259)
والرابع أنهم الأطفال حكاه الماوردي
قوله تعالى لما يلحقوا بهم أي لم يلحقوا بهم
قوله تعالى ذلك فضل الله يعني الإسلام والهدى والله ذو الفضل العظيم بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوارة مثلا فقال تعالى مثل الذين حملوا التوراة أي كلفوا العمل بما فيها ثم لم يحملوها أي لم يعملوا بموجبها ولم يؤدوا حقها كمثل الحمار يحمل أسفارا وهي جمع سفر والسفر الكتاب فشبههم بالحمار لا يعقل ما يحمل إذ لم ينتفعوا بما في التوارة وهي دالة على الإيمان بمحمد وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه بئس مثل القوم ذم مثلهم والمراد ذمهم واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوارة حين لم يؤمنوا بمحمد والله لا يهدي القوم الظالمين أنفسهم بتكذيب الأنبياء (8/260)
قوله تعالى إن زعمتم أنكم أولياء لله وذلك أن اليهود قالوا نحن ولد إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله ونحن أولى بالله عز و جل من سائر الناس وإنما تكون النبوة فينا فقال الله عز و جل لنبيه عليه الصلاة و السلام قل لهم إن كنتم أولياء لله فتمنوا الموت لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا وقد بينا هذا وما بعده في البقرة 94 إلى قوله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدا وكانوا يكرهون الموت فقيل لهم لابد من نزوله بكم بقوله تعالى فإنه ملاقيكم قال الفراء العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل مثل من و الذي فمن فمن أدخل الفاء ها هنا ذهب بالذي إلى تأويل الجزاء وفي قراءة عبد الله إن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم وهذا على القياس لأنك تقول إن أخاك قائم ولا تقول فقائم ولو قلت إن ضاربك فظالم لجاز لأن تأويله إن من يضربك فظالم وقال الزجاج إنما جاز دخول الفاء لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى تفرون منه كأنه قيل إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره فإنه ملاقيكم وتكون فإنه اسئنافا بعد الخبر الأول
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
قوله تعالى إذا نودي للصلاة وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر ولم يكن في عهد رسول الله نداء سواه كان إذا (8/261)
جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد وكذلك كان على عهد أبي بكر وعمر فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دار له بالسوق يقال لها الزوراء وكان إذا جلس أذن أيضا
قوله تعالى للصلاة أي لوقت الصلاة وفي الجمعة ثلاث لغات ضم الجيم والميم وهي قراءة الجمهور وضم الجيم مع إسكان الميم وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رجاء وعكرمة والزهري وابن أبي ليلى وابن أبي عبلة والأعمش وبضم الجيم مع فتح الميم وبها قرأ ابو مجلز وأبو العالية والنخعي وعدي بن الفضل عن أبي عمرو قال الزجاج من قرأ بتسكين الميم فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين وأما فتح الميم فمعناها الذي يجمع الناس كما تقول رجل لعنة يكثر لعنة الناس وضحكة يكثر الضحك (8/262)
وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال
أحدها لأن فيه جمع آدم روى سلمان قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدري ما الجمعة قلت لا قال فيه جمع أبوك يعني تمام خلقه في يوم (8/263)
والثاني لاجتماع الناس فيه للصلاة
والثالث لاجتماع المخلوقات فيه لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء
وفي أول من سماها بالجمعة قولان
أحدهما أنه كعب بن لؤي سماها بذلك وكان يقال ليوم الجمعة العروبة قاله أبو سلمة وقيل إنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه
والثاني أول من سماها بذلك الأنصار قاله ابن سيرين
قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وفي هذا السعي ثلاثة أقوال
أحدها أنه المشي قاله ابن عباس وكان ابن سمعود يقرؤها فامضوا ويقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يقسط ردائي وقال عطاء هو الذهاب والمشي إلى الصلاة (8/264)
والثاني أن المراد بالسعي العمل قاله عكرمة والقرظي والضحاك فيكون المعنى فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له والاشتغال بالطهارة ونحوها
والثالث أنه النية بالقلب قاله الحسن وقال ابن قبيبة هو المبادرة بالنية والجد
وفي المراد بذكر الله قولان
أحدهما أنه الصلاة قاله الأكثرون والثاني موعظة الإمام قاله سعيد بن المسيب
قوله تعالى وذروا البيع أي دعوا التجارة في ذلك الوقت وعندنا أنه لا يجوز البيع في وقت النداء ويقع البيع باطلا في حق من يلزمه فرض (8/265)
الجمعة وبه قال مالك فلافا للأكثرين
فصل
تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر إذا كان المؤذن صيتا والريح سانكة وقد حده مالك بفرسخ ولم يحده الشافعي وعن أحمد في التحديد نحوهما وتجب الجمعة على أهل القرى وقال أبو حنيفة لا تجب إلا على أهل الأمصار ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافا للشافعي ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين وعن أحمد أقله خمسون وعنه أقله ثلاثة وقال أبو حنيفة تنعقد بثلاثة والإمام والعدد شرط في (8/266)
الجمعة وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين يصح أن يخطب منفردا وهل تجب الجمعة على العبيد فيه عن أحمد روايتان وعندنا تجب على الأعمى إذا وجد قائدا خلافا لأبي حنيفة ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين خلافا لأبي حنيفة وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إذن سلطان فيه عن أحمد روايتان وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة وقال مالك والشافعي وأبو يوسف لا تجوز إلا في موضع واحد وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافا لأكثرهم وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة وبه قال الشعبي والنخعي خلافا للأكثرين والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة وقال أبو حنيفة يكره ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال وقال أبو حنيفة يجوز وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر فيه عن أحمد روايتان ونقل عن أحمد أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد وقال أبو حنيفة يجوز لكل سفر وقال الشافعي لا يجوز أصلا
والخطبة شرط في الجمعة وقال داود هي مستحبة والطهارة لا تشترط في الخطبة خلافا للشافعي في أحد قوليه والقيام ليس بشرط في الخطبة خلافا للشافعي ولا تجب القعدة بين الخطبتين خلافا له أيضا (8/267)
ومن شرط الخطبة التحميد والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم وقراءة آية والموعظة وقال أبو حنيفة يجوز أن يخطب بتسبيحة
والخطبتان واجبتان وأما القراءة في الخطبة الثانية فهي شرط خلافا للشافعي
والسنة للإمام إذا صعد المنبر واستقبل الناس أن يسلم خلافا لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة فيه عن أحمد روايتان ويحرم على المستمع دون الخاطب خلافا للأكثرين ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة وبعد الفراغ منها خلافا لأبي حنيفة
ويستحب له أن يصلي تحية المسجد والإمام يخطب خلافا لأبي حنيفة ومالك
وهل يجوز أن يخطب واحد ويصلي آخر فيه عن أحمد روايتان
قوله تعالى ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون أي إن كان لكم علم بالأصلح فإذا قضيت الصلاة أي فرغتم منها فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحة وابتغوا من فضل الله إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى وذروا البيع وقال الحسن وابن جبير هو طلب العلم (8/268)
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين
قوله تعالى وإذا رأوا تجارة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير قد قدمت فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلا فنزلت هذه الآية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قاله الحسن وذلك أنهم أصابهم جوع وغلاء سعر فلما سمعوا بها خرجوا إليها فقال النبي صلى الله عليه و سلم لو اتبع آخرهم أولهم التهب عليهم الوادي نارا قال المفسرون كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي قال مقاتل وذلك قبل أن يسلم قالوا قدم بها من الشام وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومها وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير قال جابر بن عبد الله كانت التجارة طعاما وقال أبو مالك كانت زيتا والمراد باللهو ضرب الطبل وانفضوا بمعنى تفرقوا عنك فذهبوا إليها والضمير للتجارة وإنما خصت برد الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم هذا قول الفراء والمبرد وقال الزجاج المعنى وإذا رأوا (8/269)
تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف خبر أحدهما لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة انفضوا إليهما على التثنية وعن ابن مسعود وابن أبي عبلة انفضوا إليه على ضمير مذكر وتركوك قائما وهذا القيام كان في الخطبة قل ما عند الله من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده ومن يكفر به ويجحده فهو يعطي من سأل ويبتدئ من لا يسأل وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقبل على خدمته (8/270)
سورة المنافقون
وهي مدنية بإجماعهم
وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه وكان السبب أن عبد الله خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة لا للرغبة في الجهاد لأن السفر قريب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوه أقبل رجل من جهينة يقال له سنان وهو حليف لعبد الله بن أبي ورجل من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد وهو أجير لعمر بن الخطاب لاستقاء الماء فدار بينهما كلام فرفع الغفاري يده فلطم الجهني فأدماه فنادى الجهني يا آل الخزرج فأقبلوا ونادى الغفاري يا آل قريش فأقبلوا فأصلح الأمر قوم من المهاجرين فبلغ الخبر عبد الله ابن أبي فقال وعنده جماعة من المنافقين والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرهط من قريش إلا مثل ما قال الأول سمن كلبك يأكلك ولكن هذا فعلكم بأنفسكم آويتموهم في منازلكم وأنفقتم عليهم أموالكم فقووا وضعفتم وايم الله لو أمسكتم أيديكم لتفرقت عن هذا جموعه ولئن ردجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وكان في القوم زيد بن أرقم وهو غلام يومئذ لا يؤبه له فقال لعبد الله أنت والله الذليل القليل فقال إنما كنت ألعب فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال دعني أضرب عنقه فقال إذن ترعد له آنف كبيرة قال فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتله فقال إذن يتحدث (8/271)
الناس أن محمدا يقتل أصحابه فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام فقال والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكذاب فقال من حضر لا يصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم فعذره رسول الله صلى الله عليه و سلم وفشت الملامة من الأنصار لزيد وكذبوه وقال له عمه ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون ومقتوك فاستحيا زيد وجلس في بيته فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك راسه فإني أخشى أن يقتله غيري فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بل تحسن صحبته ما بقي معنا وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأها عليه فقال إن الله قد صدقك ولما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة جاء ابنه فقال ما وراءك قال مالك ويلك قال والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليعلم اليوم من الأعز ومن الأذل فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما صنع فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن خل عنه حتى يدخل فلما نزلت السورة وبان كذبه قيل له يا أبا حباب إنه قد نزلت فيك آيات شداد فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك فلوى به راسه فذلك قوله تعالى لووا رؤوسهم وقيل الذي قال له هذا (8/272)
عبادة بن الصامت
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكذابون إتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (8/273)
قوله تعالى إذا جاءك المنافقون يعني عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا نشهد إنك لرسول الله وها هنا تم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وإنما جعلهم كاذبين لأنهم أضمروا غير ما أظهروا قال الفراء إنما كذب ضميرهم اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله قد ذكرناه في المجادلة 16 قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية تدل على أن قول القائل أشهد يمين لأنهم قالوا نشهد فجعله يمينا بقوله تعالى اتخذوا أيمانهم جنة وقد قال أحمد والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة أشهد وأقسم وأعزم وأحلف كلها أيمان وقال الشافعي أقسم ليس بيمين وإنما قوله أقسم بالله يمين إذا أراد اليمين
قوله تعالى ذلك أي ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان ثم كفروا في السر فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الإيمان والقرآن وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم يعني أن لهم أجساما ومناظر قال ابن عباس كان (8/274)
عبد الله بن أبي جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه و سلم قوله وقال غيره المعنى تصغي إلى قولهم فتحسب أنه حق كأنهم خشب قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة خشب بضم الخاء والشين جميعا وهو جمع خشبة مثل ثمرة وثمر وقرأ الكسائي بضم الخاء وتسكين الشين مثل بدنة وبدن وأكمة وأكم وعن ابن كثير وأبي عمرو مثله وقرأ أبو بكر الصديق وعروة وابن سيرين خشب بفتح الخاء والشين جميعا وقرأ أبو نهيك وأبو المتوكل وأبو عمران بفتح الخاء وتسكين الشين فوصفهم الله بحسن الصورة وإبانة المنطق ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب والمسندة الممالة إلى الجدار والمراد أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي بل خشب مسندة إلى حائط ثم عابهم بالجبن فقال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم أي لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم وهذه مبالغة في الجبن وأنشدوا في هذا المعنى ... ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما ...
أي لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين
قوله تعالى هم العدو فاحذرهم أي لا تأمنهم على سرك لأنهم (8/275)
عيون لأعدائك من الكفار قاتلهم الله أنى يؤفكون مفسر في براءة 30
وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون
قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله قد بينا سببه في نزول الصورة لووا رؤوسهم وقرأ نافع والمفضل عن عاصم ويعقوب لووا بالتخفيف واختار أبو عبيدة التشديد وقال لأنهم فعلوا ذلك مرة بعد مرة قال مجاهد لما قيل لعبد الله بن أبي تعال يستغفر لك رسول الله لوى رأسه قال ماذا قلت وقال مقاتل عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وقال الفراء حركوها استهزاء بالنبي وبدعائه
قوله تعالى ورأيتهم يصدون أي يعرضون عن الاستغفار وهم مستكبرون أي متكبرون عن ذلك ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم بقوله تعالى سواء عليهم أستغفرت لهم وقرأ أبو جعفر آستغفرت بالمد
قوله تعالى هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله قد بينا أنه قول ابن أبي وينفضوا بمعنى يتفرقوا ولله خزائن السموات والأرض قال المفسرون خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات والمعنى أنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين لا أولئك ولكن المنافقين (8/276)
لا يفقهون أي لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أبي ليخرجن الأعز يعني نفسه وعنى ب الأذل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقرأ الحسن لنخرجن بالنون مضمومة وكسر الراء الأعز بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناء على جواز تعريف الحال أو زيادة أل فيه أو بتقدير مثل المعنى لنخرجنه ذليلا على أي حال ذل والكل نصبوا الأذل فرد الله عز و جل عليه فقال ولله العزة وهي المنعة والقوة ولرسوله وللمؤمنين بإعزاز الله ونصره إياهم ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك
يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون
قوله تعالى لا تلهكم أي لا تشغلكم وفي المراد بذكر الله ها هنا أربعة أقوال
أحدها طاعة الله في الجهاد قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الصلاة المكتوبة قاله عطاء ومقاتل
والثالث الفرائض من الصلاة وغيرها قاله الضحاك
والرابع أنه على إطلاقه قال الزجاج حضهم بهذا على إدامة الذكر
قوله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم في هذه النفقة ثلاثة أقوال
أحدها أنه زكاة الأموال قاله ابن عباس
والثاني أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال كالزكاة والحج ونحو ذلك وهذا المعنى مروي عن الضحاك (8/277)
والثالث أنه صدقة التطوع ذكره الماوردي فعلى هذا يكون الأمر ندبا وعلى ما قبله يكون أمر وجوب
قوله تعالى من قبل أن يأتي أحدكم الموت قال الزجاج أي من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت
قوله تعالى لولا أخرتني أي هلا أخرتني إلى أجل قريب يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدق ويزكي وهو قوله تعالى فأصدق قال أبو عبيدة فأصدق نصب لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب تقول من عندك فآتيك هلا فعلت كذا فأفعل كذا ثم تبعتها وأكن من الصالحين بغير واو وقال أبو عمرو إنما هي وأكون فذهبت الواو من الخط كما يكتب أبو جاد أبجد هجاء وهكذا يقرؤها أبو عمرو وأكون بالواو ونصب النون والباقون يقرؤون وأكن بغير واو قال الزجاج من قرأ وأكون فهو على لفظ فأصدق ومن جزم أكن فهو على موضع فأصدق لأن المعنى إن أخرتني أصدق وأكن وروى أبو صالح عن ابن عباس فأصدق أي أزكي مالي وأكن من الصالحين أي أحج مع المؤمنين وقال في قوله تعالى والله خبير بما تعملون والمعنى بما تعملون من التكذيب بالصدقة قال مقاتل يعني المنافقين وروى الضحاك عن ابن عباس ما من أحد يموت وقد كان له مال لم يزكه وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الله الرجعة عند الموت فقالوا له إنما يسأل الرجعة الكفار فقال أنا أتلو عليكم به قرآنا ثم قرأ هذه الآية (8/278)
سورة التغابن
وفيها قولان
أحدهما أنها مدنية قاله الجمهور منهم ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة
والثاني أنها مكية قاله الضحاك وقال عطاء بن يسار هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدنية قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم واللتان بعدها
بسم الله الرحمن
الرحيم يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبؤ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا واستغنى الله والله غني حميد
وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله تعالى فمنكم كافر ومنكم مؤمن وفيه قولان
أحدهما أن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا رواه الوالبي عن ابن عباس (8/279)
والأحاديث تعضد هذ القول كقوله عليه الصلاة و السلام خلق فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وقوله فيؤمر الملك بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد
والثاني أن تمام الكلام عند قوله تعالى خلقكم ثم وصفهم فقال تعالى فمنكم كافر ومنكم مؤمن واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال
أحدها فمنكم كافر يؤمن ومنكم مؤمن يكفر قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة قاله أبو سعيد الخدري
والثالث فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر (8/280)
بالكواكب قاله عطاء بن أبي رباح وعنى بذلك شأن الأنواء
والرابع فمنكم كافر بالله خلقه ومؤمن بالله خلقه حكاه الزجاج والكفر بالخلق مذهب الدهرية وأهل الطبائع وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى وصوركم فأحسن صوركم قال الزجاج أي خلقكم أحسن الحيوان كله وقرأ الأعمش صوركم بكسر الصاد ويقال في جمع صورة صور وصور كما يقال في جمع لحية لحى ولحى وذكر ابن السائب أن معنى فأحسن صوركم أحكمها وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى ويعلم ما تسرون وروى المفضل عن عاصم يسرون ويعلنون بالياء فيهما ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفار قبلهم فذلك قوله تعالى فذاقوا وبال أمرهم أي جزاء أعمالهم وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة ذلك الذي اصباهم بأنه كانت تاتيهم رسلهم بالبينات فينكرون ذلك ويقولون أبشر أي ناس مثلنا يهدوننا والبشر اسم جنس معناه الجمع وإن كان لفظه واحد فكفروا وتولوا أي أعرضوا عن الإيمان واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما علمتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما ت عملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيآته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين (8/281)
فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم
قوله تعالى زعم الذين كفروا كان ابن عمر يقول زعموا كناية الكذب وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل زعم فلان
قوله تعالى وذلك على الله يسير يعني البعث والنور هو القرآن وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء
قوله تعالى يوم يجمعكم هو منصوب بقوله تعالى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم يوم يجمعكم ليوم الجمع وهو يوم القيامة وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس وأهل السموات وأهل الأرض ذلك يوم التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال
أحدها أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة فيرث ذلك المؤمن فيغبن حينئذ الكافر ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس (8/282)
والثاني غبن أهل الجنة أهل النار قاله مجاهد والقرظي والثالث أنه يوم غبن المظلوم الظالم لأن المظلوم كان في الدنيا مغبونا فصار في الآخرة غابنا ذكره الماوردي
والرابع أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ذكره الثعلبي قال الزجاج وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء كقوله تعالى فما ربحت تجارتهم البقرة 16 وقوله تعالى هل أدلكم على تجارة الصف 10 وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى يكفر عنه سيئاته قرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم نكفر وندخله بالنون فيهما والباقون بالياء ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله قال ابن عباس بعلمه وقضائه ومن يؤمن بالله يهد قلبه فيه ستة أقوال
أحدها يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من قبل الله تعالى فيسلم ويرضى
والثاني يهد قلبه للاسترجاع وهو أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون قاله مقاتل
والثالث أنه إذا ابتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر قاله ابن السائب وابن قتيبة
والرابع يهد قلبه أي يجعله مهتديا قاله الزجاج والخامس يهد وليه بالصبر والرضى قاله أبو بكر الوراق والسادس يهد قلبه لاتباع السنة إذا صح إيمانه قاله أبو عثمان الحيري وقرأ أبو بكر الصديق وعاصم الجحدري وابو نهيك يهد بياء مفتوحة (8/283)
ونصب الدال قلبه بالرفع قال الزجاج هذا من هدأ يهدأ إذا سكن فالمعنى إذا سلم لأمر الله سكن قلبه وقرأ عثمان بن عفان والضحاك وطلحة بن مصرف والأزرق عن حمزة نهد بالنون وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن يهد بضم الياء وفتح الدال قلبه بالرفع وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم سبب نزولها أن الرجل كان يسلم فإذا أراد الهجرة منعه أهله وولده وقالوا ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال فمنهم من يرق لهم ويقيم فلا يهاجر فنزلت هذه الآية فلما هاجر أولئك ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أهلهم الذين منعوهم فأنزل الله تعالى وإن تعفوا وتصفحوا إلى آخر الآية هذا قول ابن عباس وقال الزجاج لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم وأولادهم قد صبرنا لكم على مفارقة الدين ولا نصبر لكم على مفارقتكم ومفراقة الأموال والمساكن فأعلم الله عز و جل أن من كان بهذه الصورة فهو عدو وإن كان ولدا أو كانت زوجة وقال مجاهد كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه وقال قتادة كان من أزواجهم وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام ويثبطهم عنه فخرج في قوله تعالى عدوا لكم ثلاثة أقوال (8/284)
أحدها بمنعه من الهجرة وهذا على قول ابن عباس والثاني بكونهم سببا للمعاصي وعلى هذا قول مجاهد والثالث بنهيهم عن الإسلام وهذا على قول قتادة
قوله تعالى فاحذروهم قال الفراء لا تطيعوهم في التخلف
قوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله وقال ابن قتيبة أي إغرام يقال فتن فلان بالمرأة وشغف بها أي أغرم بها وقال الفراء قال أهل المعاني إنما دخل من في قوله تعالى إن من أزواجكم لأنه ليس كل الأزواج والأولاد أعداء ولم يذكر من في قوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنها لا تخلو من الفتنة واشتغال القلب بها وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله عز و جل إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما
قوله تعالى والله عنده أجر عظيم أي ثواب جزيل وهو الجنة (8/285)
والمعنى لا تعصوه بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فاتقوا الله ما استطعتم أي ما أطقتم واسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم وفي هذه النفقة ثلاثة أ قوال
أحدها الصدقة قاله ابن عباس
والثاني نفقة المؤمن على نفسه قاله الحسن
والثالث النفقة في الجهاد قاله الضحاك ومن يوق شح نفسه حتى يعطي حق الله في ماله وقد تقدم بيان هذا في الحشر 9 وما بعده قد سبق بيانه إلى آخر السورة البقرة 254 والحديد 11 18 والحشر 23 24 (8/286)
سورة الطلاق
وتسمى سورة النساء القصرى وهي مدنية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء قال الزجاج هذا خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنون داخلون معه فيه ومعناه إذا أردتم طلاق النساء كقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة المائدة 6 وفي سبب نزول هذه الآية قولان
أحدهما أنها نزلت حين طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حفصة وقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من إحدى زوجاتك في الجنة قاله أنس بن مالك
والثاني أنها نزلت في عبد الله بن عمر وذلك أنه طلق امرأته حائضا (8/287)
فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر قاله السدي
قوله تعالى لعدتهن أي لزمان عدتهن وهو الطهر وهذا للمدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها
والطلاق على ضربين سني وبدعي
فالسني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه وذلك هو الطلاق للعدة لأنها تعتد بذلك الطهر من عدة وتقع في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة
والطلاق البدعي أن يقع في حال الحيض أو في طهر قد جامعها فيه فهو واقع وصاحبه آثم وإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد فالمنصور من مذهبنا أنه بدعة
قوله تعالى وأحصوا العدة أي زمان العدة وفي إحصائها فوائد منها مراعاة زمان الرجعة وأوان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الإقرار إذا أراد أن يطلق ثلاثا وليعلم أنها قد بانت فيتزوج بأختها وأربع سواها (8/288)
قوله تعالى واتقوا الله ربكم أي فلا تعصوه فيما أمرمكم به ولا تخرجوهن من بيوتهن فيه دليل على وجوب السكنى ونسب البيوت إليهن لسكناهن قبل الطلاق فيهن ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت إلا أن يأتين بفاحشة وفيها أربعة أقوال
أحدها المعنى إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة فخروجهن هو الفاحشة المبينة وهذا قول عبد الله بن عمر والسدي وابن السائب
والثاني أن الفاحشة الزنا رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك فعلى هذا يكون المعنى إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن
والثالث الفاحشة أن تبذؤ على أهلها فيحل لهم إخراجها رواه محمد ابن إبراهيم عن ابن عباس
والرابع أنها إصابة حد فتخرج لإقامة الحد عليها قاله سعيد ابن المسيب
قوله تعالى وتلك حدود الله يعني ما ذكر من الأحكام ومن يتعد (8/289)
حدود الله التي بينها وأمر بها فقد ظلم نفسه أي أثم فيما بينه وبين الله تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أي يوقع في قلب الزوج المحبة لرجعتها بعد الطلقة و الطلقتين وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه وأن لا يجمع الثلاث
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا
قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن أي قاربن انقضاء العدة فأمسكوهن بمعروف وهذا مبين في البقرة 231 وأشهدوا ذوي عدل منكم قال المفسرون أشهدوا على الطلاق أو المراجعة واختلف العلماء هل الإشهاد على المراجعة واجب أم مستحب وفيه عن أحمد روايتان وعن الشافعي قولان ثم قال للشهداء وأقيموا الشهادة لله أي اشهدوا بالحق وأدوها على الصحة طلبا لمرضاة الله وقياما بوصيته وما بعده قد سبق بيانه البقرة 232 إلى قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا فذكر أكثر (8/290)
المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم وشكا إليه الفاقة فقال اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت هذه الآية وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال
أحدها ومن يتق الله ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة قاله ابن عباس
والثاني بأن مخرجه علمه بأن ما أصابه من عطاء أو منع من قبل الله وهو معنى قول ابن مسعود
والثالث ومن يتق الله فيطلق للسنة ويراجع للسنة يجعل له مخرجا قاله السدي
والرابع ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة قاله ابن السائب
والخامس يجعل له مخرجا من الحرام إلى الحلال قاله الزجاج والصحيح أن هذا عام فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه ومن لا يتقي يقع في كل شدة قال الربيع بن خثيم يجعل له مخرجا من كل ما يضيق (8/291)
على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من حيث لا يأمل ولا يرجو قال الزجاج ويجوز أن يكون إذا اتقى الله في طلاقه وجرى في ذلك على السنة رزقه الله أهلا بدل أهله ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي من وثق به فيما نابه كفاه الله ما أهمه إن الله بالغ أمره وروى حفص والمفضل عن عاصم بالغ أمره مضاف والمعنى يقضي ما يريد قد جعل الله لكل شيء قدرا أي أجلا ومنتهى ينتهي إليه قدر الله ذلك كله فلا يقدم ولا يؤخر قال مقاتل قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدرا فقدر متى يكون هذا الغني فقيرا وهذا الفقير غنيا
واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا
قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض في سبب نزولها قولان (8/292)
أحدهما أنها لما نزلت عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها في البقرة 227 232 قال أبي بن كعب يا رسول الله إن نساء من أهل المدينة يقلن قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء قال وما هو قال الصغار والكبار وذوات الحمل فنزلت هذه الآية قاله عمرو بن سالم
والثاني أنه لما نزل قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية البقرة 228 قال خلاد بن النعمان الأنصاري يا رسول الله فما عدة التي لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدة الحبلى فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ومعنى الآية إن ارتبتم أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن كذلك
فصل
قال القاضي أبو يعلى والمراد بالارتياب ها هنا ارتياب المخاطبين في مقدار عدة الآيسة والصغيرة كما هو وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية ولأنه لو أريد (8/293)
بذلك النساء لتوجه الخطاب إليهن فقيل إن ارتبتن أو ارتبن لأن الحيض إنما يعلم من جهتهن
وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل وهو تسعة أشهر ثم ثلاثة والعدة هي الثلاثة التي بعد التسعة فإن حاضت قبل السنة بيوم استأنفت ثلاث حيض وإن تمت السنة من غير حيض حلت وبه قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد تمكث أبدا حتى يعلم براءة رحمها قطعا وهي أن تصير في حد لا يحيض مثلها فتعتد بعد ذلك ثلاثة اشهر
قوله تعالى واللائي لم يحضن يعني عدتهن ثلاثة أشهر أيضا لأنه كلام لا يستقل بنفسه فلابد له من ضمير وضميره تقدم ذكره مظهرا وهو العدة بالشهور وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض أنها تعتد ثلاثة أشهر فأما من أتى عليها زمان الحيض ولم تحض فإنها تعتد سنة
قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وهذا قول عمر وابن عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار وقد روي عن ابن عباس أنه قال تعتد آخر الأجلين ويدل على قولنا عموم الآية وقول ابن مسعود من شاء لاعنته ما نزلت وأولات الأحمال إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها (8/294)
وقول أم سلمة إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجا بأيام فأمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تتزوج
قوله تعالى ومن يتق الله أي فيما أمر به يجعل له من أمره يسرا يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة وهذا قول الأكثرين وقال الضحاك ومن يتق الله في طلاق السنة يجعل الله له من أمره يسرا في الرجعة ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله بطاعته يكفر عنه سيآته أي يمح عنه خطاياه ويعظم له أجرا في الآخرة
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتها سيجعل الله بعد عسر يسرا
أسكنوهن من حيث سكنتم ومن صلة قوله من وجدكم (8/295)
قرأ الجمهور بضم الواو وقرأ أبو هريرة وأبو عبد الرحمن وأبو رزين وقتادة وروح عن يعقوب بكسر الواو وقرأ ابن يعمر وابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو قال ابن قتيبة أي بقدر وسعكم والوجد المقدرة والغنى يقال افتقر فلان بعد وجد قال الفراء يقول على ما يجد فإن كان موسعا عليه وسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان مقترا عليه فعلى قدر ذلك
قوله تعالى ولا تضاروهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة وأنتم تجدون سعة قال القاضي أبو يعلى المراد بهذا الملطقة الرجعية دون المبتوتة بدليل قوله تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا الطلاق 1 وقوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف الطلاق 2 فدل ذلك على أنه أراد الرجعية
وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة هل لها سكنى ونفقة في مدة العدة أم لا فالمشهور عند أصحابنا أنه لا سكنى لها ولا نفقة وهو قول ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة لها السكنى والنفقة وقال مالك والشافعي لها السكنى دون النفقة وقد رواه الكوسج عن أحمد ويدل على الأول حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة فإذا لم يكن له عليها فلا نفقة ولا سكنى ومن حيث المعنى إن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها (8/296)
واختلفوا في الحامل والمتوفى عنها زوجها فقال ابن مسعود وابن عمر وأبو العالية والشعبي وشريح وإبراهيم نفقتها من جميع المال وبه قال مالك وابن ابي ليلى والثوري وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء نفقتها في مال نفسها وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد كالقولين
قوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن يعني أجرة الرضاع وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله لم يكن للأب أن يسترضع غيرها وأتمروا بينكم بمعروف أي لا تشتط المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع ولا يقصر الزوج عن المقدار المستحق وإن تعاسرتم في الأجرة ولم يتراض الوالدان على شيء فسترضع له أخرى لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي
لينفق ذو سعة من سعته أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم وقرأ ابن السميفع لينفق بفتح القاف ومن قدر عليه رزقه أي ضيق عليه من المطلقين وقرأ ابي بن كعب وحميد قدر بضم القاف وتشديد الدال وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة قدرة بفتح القاف وتشديد الدال رزقه بنصب القاف فلينفق مما آتاه الله على قدر ما أعطاه لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها أي على قدر ما أعطاها من المال سيجعل الله بعد عسر يسرا أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة وكان الغالب عليهم حنيئذ الفقر فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد لك (8/297)
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذاب نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا
قوله تعالى وكأين أي وكم من قرية عتت عن أمر ربها ورسله أي عن أمر رسله والمعنى عتا أهلها قال ابن زيد عتت أي كفرت وتركت أمر بها فلم تقبله وفي باقي الآية قولان
أحدهما أن فيها تقديما وتأخيرا والمعنى عذبناها عذاب نكرا في الدنيا بالجوع والسيف والبلايا وحسبناها حسابا شديدا في الآخرة قاله ابن عباس والفراء في آخرين
والثاني أهنا على نظمها والمعنى حاسبناها بعملها في الدنيا فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها فذلك قوله تعالى وعذبناها فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة والحساب الشديد الذي لا عفو فيه والنكر المنكر فذاقت وبال أمرها أي جزاء ذنبها وكان عاقبة أمرها خسرا في الدنيا والآخرة وقال ابن قتيبة الخسر الهلكة
قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكرا أي قرآنا رسولا أي وبعثه رسولا قاله مقاتل وإلى نحوه ذهب السدي وقال ابن السائب الرسول ها هنا جبرائيل فعلى هذا يكون الذكر والرسول جميعا منزلين وقال ثعلب الرسول هو الذكر وقال غيره معنى الذكر ها هنا الشرف (8/298)
وما بعده قد تقدم البقرة 257 والأحزاب 43 والتغابن 9 إلى قوله تعالى قد أحسن الله له رزقا يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها
الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
قوله ومن الأرض مثلهن أي وخلق الأرض بعددهن وجاء في الحديث كثافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام وما بينها وبين الأخرى كذلك وكثفاة كل أرض خمسمائة عام وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك وقد (8/299)
روى أبو الضحى عن ابن عباس قال في كل أرض آدم مثل آدمكم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وعيسى كعيسى فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس وتارة يوقف على أبي الضحى وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي قال سمعت أن معناه إن في كل أرض خلقا من خلق الله لهم سادة يقوم كبيرهم ومتقدمهم في الخلق مقام آدم فينا وتقوم ذريته في السن والقدم كمقام نوح وعلى هذا المثال سائرهم وقال كعب ساكن الأرض الثانية البحر العقيم وفي الثالثة حجارة جهنم والرابعة كبريت جهنم والخامسة حيات جهنم والسادسة عقارب جهنم والسابعة فيها إبليس
قوله تعالى يتنزل الأمر بينهن في الأمر قولان
أحدهما قضاء الله وقدره قاله الأكثرون قال قتادة في كل أرض (8/300)
من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه
والثاني أنه الوحي قاله مقاتل
قوله تعالى لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما أعلمكم بهذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء (8/301)
سورة التحريم
وهي مدنية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو موله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا
قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك في سبب نزولها قولان
أحدهما أن حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدث عنده فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى جاريته فظلت معه في بيت حفصة وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة (8/302)
فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة فلما دخلت حفصة قالت قد رأيت من كان عندك والله لقد سؤتني فقال النبي صلى الله عليه و سلم والله لأرضينك وإني مسر إليك سرا فاحفظيه قالت وما هو قال إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضى لك وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه و سلم فانطلقت حفصة إلى عائشة فقالت لها أبشري إن النبي صلى الله عليه و سلم قد حرم عليه فتاته فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى وقال فيه فقالت حفصة كيف تحرمها عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فقال لها لا تذكريه لأحد فذكرته لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فنزلت هذه الآية وقال الضحاك قال لها لا تذكري لعائشة ما رأيت فذكرته فغضبت عائشة ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها فنزلت هذه الآية وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومسروق ومقاتل والأكثرون (8/303)
والثاني ما روى عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه فدخل على حفصة بنت عمر واحتبس عندها فسألت عن ذلك فقيل أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أما والله لنحتالن له فقلت لسودة إنه سيدنوا منك إذا دخل عليك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي جرست نحلة العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له يا رسول الله أسقيك منه قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله والله لقد حرمناه قلت لها اسكتي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وفي رواية ابن ابي ملكية عن ابن عباس (8/304)
أن التي شرب عندها العسل سودة فقالت له عائشة إني لأجد منك ريحا ثم دخل على حفصة فقالت إني أجد منك ريحا فقال إني أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فنزلت هذه الآية وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة ان التي شرب عندها العسل زيتب بنت جحش فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول قال أبو عبيد المغافير شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة وخرج الناس يتمغفرون إذا خرجوا يجتنونه ويقال المغاثير بالثاء مثل جدث وجدف وقال الزجاج المغافير صمغ متغير الرائحة فخرج في المراد بالذي أحل الله له قولان (8/305)
أحدهما أنه جاريته والثاني العسل
قوله تعالى تبتغي مرضات أزواجك أي تطلب رضاهن بتحريم ذلك والله غفور رحيم غفر الله لك التحريم قد فرض الله لكم قال مقاتل قد بين الله لكم تحلة أيمانكم أي كفارة أيمانكم وذلك البيان في المائدة 89 قال المفسرون وأصل تحلة تحلله على وزن تفعلة فأدغمت والمعنى قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفارة فأمره الله أن يكفر يمينه فأعتق رقبة (8/306)
واختلفوا هل حرم مارية على نفسه بيمين أم لا على قولين
أحدهما حرمها من غير ذكر يمين فكان التحريم موجبا لكفارة اليمين قاله ابن عباس
والثاني أنه حلف يمينا حرمها بها قاله الحسن والشعبي وقتادة والله مولاكم أي وليكم وناصركم
قوله تعالى وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا يعني حفصة من غير خلاف علمناه
وفي هذا السر ثلاثة أقوال
أحدها أنه قال لها إني مسر إليك سرا فاحفظيه سريتي هذه علي حرام رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال عطاء والشعبي والضحاك وقتادة وزيد بن أسلم وابنه والسدي (8/307)
والثاني أنه قال لها أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي فإياك أن تخبري أحدا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي قاله ميمون بن مهران (8/308)
قوله تعالى فلما نبأت به أي أخبرت به عائشة وأظهره الله عليه أي أطلع الله نبيه على قوله حفصة لعائشة فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم غضبا شديدا لأنه استكتم حفصة ذلك ثم دعاها فأخبرها ببعض ما قالت فذلك قوله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض وفي الذي عرفها إياه قولان
أحدهما أنه حدثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر وسكت عما أخبرت عائشة من تحريم مارية لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن الذي عرف تحريم مارية والذي أعرض عنه ذكر الخلافة لئلا ينتشر قاله الضحاك وهذا اختيار الزجاج قال ومعنى عرف بعضه عرف حفصة بعضه وقرأ الكسائي عرف بالتخفيف قال الزجاج على هذه القراءة قد عرف كل ما أسره غير أن المعنى جاري على بعضه كقوله تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله البقرة 179 أي يعلمه ويجاز عليه وكذلك فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الزلزلة 7 أي ير جزاءه فقيل إن النبي صلى الله عليه و سلم طلق حفصة تطليقة فكان ذلك جزاءها عنده فأمره الله أن يراجعها وقال مقاتل بن حيان لم يطلقها وإنما هم بطلاقها فقال له جبريل لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وقال الحسن ما استقصى كريم قط ثم قرأ عرف (8/309)
بعضه وأعرض عن بعض وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وابن السميفع عراف برفع العين وتشديد الراء وبألف بعضه بالخفض
قوله تعالى فلما نبأها به أي أخبر حفصة بإفشائها السر قالت من أنبأك هذا أي من أخبرك بأني أفشيت سرك قال نبأني العليم الخبير ثم خاطب عائشة وحفصة فقال إن تتوبا إلى الله أي من التعاون على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالإيذاء فقد صغت قلبوكما قال ابن عباس زاغت وأثمت قال الزجاج عدلت وزاغت عن الحق قال مجاهد كنا نرى قوله تعالى فقد صغت قلوبكما شيئا هينا حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود فقد زاغت قلبوكما وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة وقد أشرنا إلى هذا في قوله تعالى فإن كان له إخوة النساء 11 وقوله تعالى إذ تسوروا المحراب ص11 قال المفسرون وذلك أنهما أحبا ما كره رسول الله صلى الله عليه و سلم من اجتاب جاريته وإن تظاهرا وقرأ ابن مسعود وأبو عبدالرحمن ومجاهد والأعمش تظاهرا بتخفيف الظاء أي تعاونا على النبي صلى الله عليه و سلم بالإيذاء فإن الله هو مولاه أي وليه في العون والنصرة وجبريل وليه وصالح المؤمنين وفي المراد بصالح المؤمنين ستة اقوال
أحدها أنهم أبو بكر وعمر قاله ابن مسعود وعكرمة والضحاك
والثاني أبو بكر رواه مكحول عن أبي أمامة
والثالث عمر قاله ابن جبير ومجاهد
والرابع خيار المؤمنين قاله الربيع بن أنس (8/310)
والخامس أنهم الأنبياء قاله قتادة والعلاء بن زياد العدوي وسفيان
والسادس أنه علي رضي الله عنه حكاه الماوردي قاله الفراء وصالح المؤمنين موحد في مذهب جميع كما تقول لا يأتيني إلا سائس الحرب فمن كان ذا ساسة للحرب فقد أمر بالمجيء ومثله قوله تعالى والسارق السارقة المائدة 38 وقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم النساء 16 وقوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا المعارج 19 في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع
قوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير أي ظهرا وهذا مما لفظه لفظ الواحد ومعناه الجميع ومثله يخرجكم طفلا غافر 67 وقد شرحناه هناك ثم خوف نساءه فقال تعالى عسى ربه إن طلقكن وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال بلغني بعض ما آذى به رسول الله نسؤاه فدخلت عليهن فجعلت أستقرئهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية والمعنى واجب من الله إن طلقكن رسوله أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات أي خاضعات لله بالطاعة مؤمنات مصدقات بتوحيد الله قانتات أي طائعات سائحات فيه قولان (8/311)
أحدهما صائمات قاله ابن عباس والجمهور وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى السائحون التوبة 112
والثاني مهاجرات قاله زيد بن أسلم وابنه والثيبات جمع ثيب وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت إلى بيت أبويها فعادت كما كانت غير ذات زوج والأبكار العذارى
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملئكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما ؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آموا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربمنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير
قوله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقاية النفس بامتثال الأوامر واجتاب النواهي ووقاية الأهل بأن يؤمروا بالطاعة وينهوا عن المعصية وقال علي رضي الله عنه علموهم وأدبوهم وقودها الناس والحجارة وقد (8/312)
ذكرناه في البقرة 24 عليها ملائكة غلاظ على أهل النار شداد عليهم وقيل غلاظ القلوب شداد الأبدان وروى أبو صالح عن ابن عباس قال خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وقوته أن يضرب بالمقمعة فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفا فيهوون في قعر جهنم لا يعصون الله ما أمرهم أي لا يخافون فيما يأمر ويفعون ما يؤمرون فيه قولان
أحدهما لا يتجاوزون ما يؤمرون والثاني يفعلونه في وقته لا يؤخرونه ولا يقدمونه ويقال لأهل النار يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم
قوله تعالى توبوا إلى الله توبة نصوحا قرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع نصوحا بضم النون والبقاون بفتحها قال الزجاج فمن فتح فعلى صفة التوبة ومعناه توبة بالغة في النصح وفعول من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف تقول رجل صبور وشكور ومن قرأ بالضم فمعناه ينصحون فيها نصوحا يقال نصحت له نصحا ونصاحة ونصوحا وقال غيره من ضم أراد توبة نصح لأنفسكم وقال (8/313)
عمر بن الخطاب التوبة النصوح أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدث نفسه أنه لا يعود وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح فقال دم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود وقال ابن مسعود التوبة النصوح تكفر كل سيئة ثم قرأ هذه الآية
قوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي قد بينا معنى الخزي في آل عمران 192 وبينا معنى قوله تعالى نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في الحديد 12 يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة قال ابن عباس ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأوهم جنهم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
قوله تعالى جاهد الكفار والمنافين قد شرحناه في براءة 73
قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح قال المفسرون منهم مقال هذا المثل يتضمن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن عصيا ربهما لم يغن (8/314)
رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهما شيئا قال مقاتل اسم امرأة نوح والهة وامرأة لوط والغة
قوله تعالى كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين يعني نوحا ولوطا عليهما السلام فخانتاهما قال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف فإذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف وقال السدي كانت خيانتهما كفرهما وقال الضحاك نميمتهما وقال ابن السائب نفاقهما
قوله تعالى فلم يغنيا عنهما من الله شيئا أي فلم يدفعا عنهما من عذاب الله شيئا وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره ثم أخبر أن معصية الغير لا تضر المطيع بقوله تعالى وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها وقال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة وكانت آسية قد آمنت بموسى قال أبو هريرة ضرب فرعون لامرأته أوتادا في يديها ورجليها وكانوا إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة فقالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها ونجني من فرعون وعمله فيه قولان (8/315)
أحدهما أن عمله جماعه والثاني أنه دينه رويا عن ابن عباس ونجني من القوم الظالمين يعني أهل دين المشركين
قوله تعالى والتي أحصنت فرجها قد ذكرنا فيه قولين في سورة الأنبياء 92 فمن قال هو فرج ثوبها قال الهاء في قوله تعالى فنفخنا فيه يرجع إليه وذلك أن جبريل مد جيب درعها فدخل فيه ومن قال هو مخرج الولد قال الهاء كناية عن غير مذكور لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها
قوله تعالى وصدقت بكلمات ربها وفيه قولان
أحدهما أنها قول جبريل إنما أنا رسول ربك مريم 19
والثاني أن الكلمات هي التي تضمنتها كتب الله المنزلة وقرأ أبي ابن كعب وأبو مجلز وعاصم الجحدري بكلمة ربها على التوحيد وكتبه قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم وكتابه على التوحيد وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع وكتبه (8/316)
جماعة وهي التي أنزلت على الأنبياء ومن قرأ وكتابه فهو اسم جنس على ما بينا في خاتمة البقرة 285 وقد بينا فيها القنوت مشروحا البقرة 116 ومعنى الآية وكانت من القانتين ولذلك لم يقل من القانتات (8/317)
سورة الملك
وهي مكية بإجماعهم
قال ابن مسعود هي المانعة من عذاب القبر
بسم الله الرحمن الرحيم
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم عابا جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير (8/318)
قوله تعالى تبارك قد شرحناه في الأعراف 54
قوله تعالى الذي بيده الملك قال ابن عباس يعني السلطان يعز ويذل
قوله تعالى الذي خلق الموت والحياة قال الحسن خلق الموت المزيل للحياة والحياة التي هي ضد الموت ليبلوكم أيكم أحسن عملا قد شرحناه في هود 7 قال الزجاج والمعلق ب أيكم مضمر تقديره ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا وهذا علم وقوع وارتفعت أي بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام ومثله أي الحزبين أحصى الكهف 12 والمعنى خلق الحياة ليختبركم فيها وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم وقال غيره اللام في ليبلوكم متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت لأن الابتلاء بالحياة الذي خلق سبع سموات طباقا أي خلقهن مطابقات أي بعضها فوق بعض ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من تفاوت قرأ حمزة والكسائي من تفوت بتشديد الواو من غير ألف وقرأ الباقون بألف قال الفراء وهما بمنزلة واحدة كما تقول تعاهدت الشيء وتعهدته والتفاوت الاختلاف وقال ابن قتيبة التفاوت الاضطراب والاختلاف وأصله من الفوت وهو أن يفوت شيء شيئا فيقع الخلل ولكنه متصل بعضه ببعض
قوله تعالى فارجع البصر أي كرر البصر هل ترى من فطور (8/319)
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي هل ترى بإدغام اللام في التاء أي هل ترى فيها فروجا وصدوعا
قوله تعالى ثم ارجع البصر كرتين أي مرة بعد مرة ينقلب إليك البصر خاسئا قال ابن قتيبة أي مبعدا من قولك خسأت الكلب إذا باعدته وهو حسير أي كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه وقال الزجاج قد أعيا من قبل أن يرى في المساء خللا
قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقد شرناه في حم السجد 12 وجعلناها رجوما للشياطين أي يرجم بها مسترقوا السمع وقد سبق بيان هذا المعنى الحجر 18 وأعتدنا لهم أي في الآخرة عذاب السعير وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى سمعوا لها شهيقا أي صوتا مثل صوت الحمار وقد بينا معنى الشهيق في هود 106 وهي تفور أي تغلي بهم كغلي المرجل تكاد تميز أي تتقطع من تغيظها عليهم كلما ألقي فيها فوج أي جماعة منهم سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير وهذا سؤال توبيخ
قوله تعالى إن أنتم أي قلنا للرسل إن أنتم إلا في ضلال أي في ذهاب عن الحق بعيد قال الزجاج ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا لو كنا نسمع أي سماع من يعي ويفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار فسحقا أي بعدا وهو منصوب على المصدر المعنى أسحقهم الله سحقا أي باعدهم الله من رحمته مباعدة والسحيق البعيد وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فسحقا أي بعدا وقال سعيد بن جبير وأبو صالح السحق واد في جهنم يقال له سحق (8/320)
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير واسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور
قوله تعالى إن الذين يخشون ربهم بالغيب قد شرحناه في سورة الأنبياء 49 لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة ثم عاد إلى خطاب الكفار فقال تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به قال ابن عباس نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيخبره جبرائيل بما قالوا فيقول بعضهم أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد
قوله تعالى ألا يعلم من خلق أي ألا يعلم ما في الصدور خالقها واللطيف مشروح في الأنعام 103 والخبير في البقرة 234
قوله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا أي مذللة سهلة لم يجعلها ممتنعة بالحزونة والغلظ
قوله تعالى فامشوا في مناكبها فيه ثلاثة اقوال
أحدها طرقاتها رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثاني جبالها رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة واختاره الزجاج قال لأن المعنى سهل لكم السلوك فيها فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ في التذليل (8/321)
والثالث في جوانبها قاله مقاتل والفراء وأبو عبيدة واختاره ابن قتيبة قال ومنكبا الرجل جانباه
قوله تعالى وإليه النشور أي إليه تبعثون من قبوركم
ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير
ثم خوف الكفار فقال أأمتم قرأ ابن كثير وإليه النشور وأمنتم وقرأ نافع وأبو عمرو النشرو آمنتم بهمزة ممدودة وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أأمنتم بهمزتين من في السماء قال ابن عباس أمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز و جل وتمور بمعنى تدور قال مقاتل والمعنى تدور بكم إلى الأرض السفلى
قوله تعالى أن يرسل عليكم حاصبا وهي الحجارة كما أرسل على قوم لوط فستعلمون كيف نذير أي كيف كانت عاقبة إنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب ولقد كذب الذين من قبلهم يعني كفار الأمم فكيف كان نكير أي إنكاري عليهم بالعذاب
أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات أي تصف أجنحتها في الهواء وتقبض أجنحتها بعد البسط وهذا معنى الطيران وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ما يمسكهن أن يقعن إلا الرحمن (8/322)
أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأض وإليه تحشرون ويقولون متى هذ الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون
قوله تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم هذا استفهام إنكار ولفظ الجند موحد فلذلك قال تعالى هذا الذي هو والمعنى لا جند لكم ينصركم أي يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم إن الكافرون إلا في غرور وذلك أن الشيطان يغرهم فيقول إن العذاب لا ينزل بكم أمن هذا الذي يرزقكم المطر وغيره إن أمسك الله ذلك عنكم بل لجوا في عتوا أي تماد في كفر ونفور عن الإيمان
ثم ضرب مثلا فقال تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه قال ابن قتيبة أي لا يبصر يمينا ولا شمالا ولا من بين يديه يقال أكب فلان على وجهه بالأف وكبه الله لوجهه وأراد الأعمى قال المفسرون هذا مثل للمؤمن والكافر والسوي المعتدل أي الذي يبصر الطريق وقال قتادة هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه والمؤمن يمشي سويا
قوله تعالى قليلا ما تشكرون فيه قولان (8/323)
أحدهما أنهم لا يشكرون قاله مقاتل والثاني يشركون قليلا قاله أبو عبيد
قوله تعالى ذرأكم أي خلقكم ويقولون متى هذا الوعد يعنون بالوعد العذاب فلما رأوه زلفة أي رأوا العذاب قريبا منهم سيئت وجوه الذين كفروا قال الزجاج أي تبين فيها السوء وقال غيره قبحت بالسواد وقيل هذا الذي كنتم به تدعون فيه قولان
أحدهما أن تدعون بالتشديد بمعنى تدعون بالتخفيف وهو تفتعلون من الدعاء يقال دعوت وادعيت كما يقال خبرت واختبرت ومثله يدكرون ويدكرون هذا قول الفراء وابن قتيبة
والثاني أن المعنى هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب تدعون أنكم إذا متم لا تبعثون وهذا اختيار الزجاج وقرأ أبو رزين والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وابن أبي عبلة ويعقوب تدعون بتخفيف الدال وسكونها بمعنى تفعلون من الدعاء وقال قتادة كانوا يدعون بالعذاب
قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين
قوله تعالى قل ارأيتم إن أهلكني الله بعذابه ومن معي من المؤمنين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم معي بفتح الياء وقرأ أبو بكر عن عاصم والكسائي معي بالإسكان أو رحمنا فلم يعذبنا فمن يجير الكافرين أي يمنعهم ويؤمنهم من (8/324)
عذاب أليم ومعنى الآية إنا مع إيماننا بين الخوف الرجاء فمن يجيبركم مع كفركم من العذاب أي لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين قل هو الرحمن الذي نعبد فستعلمون وقرأ الكسائي فسيعلمون بالياء عند معاينة العذاب من الضال نحن أم أنتم
قوله تعالى إن أصبح ماؤكم غورا قد بيناه في الكهف 41 فمن يأتيكم بماء معين أي بماء ظاهر تراه العيون وتناله الأرشية (8/325)
سورة القلم
وهي مكية كلها بإجماعهم
إلا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله تعالى إنا بلوناهم إلى قوله تعالى لو كانوا يعلمون
بسم الله الرحم الرحيم
ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هوأعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
قوله تعالى ن قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص ن والقلم النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عندالواو وهذا اختيار الفراء وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يبين النون من نون وبها قرأ الكسائي وخلف ويعقوب وهو اختيار الزجاج وقرأ ابن عباس وأبو رزين وقتادة والأعمش نون والقلم بكسر النون وقرأ الحسن وأبو عمران وأبو نهيك ن والقلم برفع النون
وفي معنى نون سبعة أقوال
أحدها أنها الدواة روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال (8/326)
أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وبه قال الحسن وقتادة
والثاني أنه آخر حروف الرحمن رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنه الحوت الذي على ظهر الأرض وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس وهو مذهب مجاهد والسدي وابن السائب ومقاتل
والرابع أنه لوح من نور قاله معاوية بن قرة
والخامس أنه افتتاح اسمه نصير وناصر قاله عطاء
والسادس أنه قسم بنصرة الله للمؤمنين قاله القرظي
والسابع أنه نهر في الجنة قاله جعفر الصادق (8/327)
وفي القلظم قولان
أحدهما أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ
والثاني أنه الذي يكتب به الناس وإنما أقسم به الأن كتبه إنما تكتب ويسطرون بمعنى يكتبون وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الملائكة وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان أحدهما أنه الذكر قاله مجاهد والسدي والثاني أعمال بني آدم قاله مقاتل
والقول الثاني أنهم جميع الكتبة حكاه الثعلبي ما أنت بنعمة ربك بمجنون أي ما أنت بإنعام ربك عليكم بالإيمان والنبوة بمجنون قال الزجاج هذا جواب قولهم إنك لمجنون وتأويله فارقك الجنون بنعمة الله
قوله تعالى وإن لك بصبرك على افترائهم عليك ونسبتهم إياك إلى الجنون لأجرا غير ممنون أي غير مقطوع ولا منقوص وإنك لعلى خلق عظيم فيه ثلاثة اقوال
أحدها دين الإسلام قاله ابن عباس
والثاني أدب القرآن قاله الحسن
والثالث الطبع الكريم وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب فسمي خلقا لأنه يصير كالخلقة في صاحبه فأما ما طبع عليه فيسمى الخيم فيكون الخيم الطبع الغريزي والخلق الطبع المتكلف هذا قول الماوردي وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم (8/328)
فقالت كان خلقه القرآن تعني كان على ما أمره الله به في القرآن
قوله تعالى فستبصر ويبصرون يعني أهل مكة وهذا وعيد لهم بالعذاب والمعنى سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون وفيه أربعة أقوال
أحدها الضال قاله الحسن والثاني الشيطان قاله مجاهد والثالث المجنون قاله الضحاك والمعنى الذي قد فتن بالجنون والرابع المعذب حكاه الماوردي
وفي الباء قولان
أحدهما أنها زائدة قاله أبو عبيدة وابن قتيبة وأنشدوا ... نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (8/329)
والثاني أنها أصلية وهذا قول الفراء والزجاج قال الزجاج ليس كونها لغوا بجائز في العربية في قول أحد من اهلها
وفي الكلام قولان للنحويين
أحدهما أن المفتون ها هنا الفتون والمصادر تجيئ على المفعول تقول العرب ليس هذا معقود رأي أي عقد رأي وتقول دعه إلى ميسوره أي يسره والمعنى بأيكم الجنون
والثاني بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها أم بفرقة الكفار فيكون المعنى في أي الفرقتين المجنون وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج وقد قرأ أبي بن كعب وأبو عمران وابن أبي عبلة في أي المفتون ثم أخبر أنه عالم بالفريقين بما بعد هذا
فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم
قوله تعالى فلا تطع المكذبين وذلك أن رؤساء أهل مكة دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم ودوا لو تدهن فيدهنون فيه سبعة أقوال
أحدها لو ترخص فيرخصون قاله ابن عباس
والثاني لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم قاله الحسن (8/330)
والثالث لو تكفر فيكفرون قاله عطية والضحاك ومقاتل
والرابع لو تلين فيلينون لك قاله ابن السائب
والخامس لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون قاله زيد بن أسلم
والسادس ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا الله مدة قاله ابن قتيبة وقال أبو عبيدة هو من المداهنة
والسابع لو تقاربهم فيقاربونك قاله ابن كيسان
قوله تعالى ولا تطع كل كلاف وهو كثير الحلف بالباطل مهين وهو الحقير الدنيء وروى العوفي عن ابن عباس قال المهين الكذاب
واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال
أحدها أنه الوليد بن الغيرة قاله ابن عباس ومقاتل والثاني الأخنس بن شريق قاله عطاء واسلدي والثالث الأسود بن عبد يغوث قاله مجاهد (8/331)
قوله تعالى هماز قال ابن عباس هو المغتاب وقال ابن قتيبة هو العياب
قوله تعالى مشاء بنميم أي يمشي بين الناس بالنميمة وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم مناع للخير فيه قولان
أحدهما أنه منع ولده وعشيرته الإسلام قاله ابن عباس
والثاني مناع للحقوق في ماله ذكره الماوردي
قوله تعالى معتد أي ظلوم أثيم فاجر عتل بعد ذلك أي مع ما وصفناه به وفي العتل سبعة أقوال
أحدها أنه العاتي الشديد المنافق قاله ابن عباس والثاني أنه المتوفر الجسم قاله الحسن والثالث الشديد الأشر قاله مجاهد والرابع القوي في كفره قاله عكرمة والخامس الأكول الشروب القوي الشديد قاله عبيد بن عمير والسادس الشديد الخصومة بالباطل قاله الفراء والسابع أنه الغليظ الجافي قاله ابن قتيبة (8/332)
وفي الزنيم أربعة أقوال
أحدها أنه الدعي في قريش وليس منهم رواه عطاء عن ابن عباس وهذا معروف في اللغة أن الزنيم هوالملتصق في القوم وليس منهم وبه قال الفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة قال حسان ... وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد ...
والثاني أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث أنه الذي له زنمة مثل زنمة الشاة وقال ابن عباس نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد لأنه وصفه بالحلف والمهانة والعيب للناس والمشي بالنميمة والبخل والظلم والإثم والجفاء والدعوة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة والزنمتان المعلقتان عند حلوق المعزى وقال ابن فارس يعني التي تتعلق من أذنها
والرابع أنه الظلوم رواه الوالبي عن ابن عباس
قوله تعالى أن كان ذا مال وبنين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وحفص عن عاصم أن كان على الخبر أي لأن كان والمعنى لا تطعه لماله وبنيه وقرأ ابن عباس بهمزتين الأولى مخففة والثانية ملينة وفصل بينهما بألف أبو جعفر وقرأ حمزة أأن كان بهمزتين مخففتين على الاستفهام وله وجهان (8/333)
أحدهما لأن كان ذا مال تطيعه
والثاني ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا يكفر بها فيقول أساطير الأولين ذكر القولين الفراء وقرأ ابن مسعود أن كان بهمزة واحدة مقصورة ثم أوعده فقال تعالى سنسمه علىالخرطوم الخرطوم الأنف وفي هذه السمة ثلاثة أقوال
أحدها سنسمه بالسيف فنجعل ذلك علامة على أنفه ما عاش فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف قاله ابن عباس
والثاني سنلحق به شيئا لا يفارقه قاله قتادة واختاره ابن قتيبة
والثالث أن المعنى سنسود وجهه قال الفراء والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن البعض وقال الزجاج سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم وجائز والله أعلم أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه و سلم يتبين بها عن غيره
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فاقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (8/334)
إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسملمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيمة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين
قوله تعالى إنا بلوناهم يعني أهل مكة أي ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنة حين هلكت جنتهم
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل التفسر أن رجلا كان بناحية اليمن له بستان وكان مؤمنا وذلك بعد عيسى بن مريم عليهما السلام وكان يأخذ منه قدر قوته وكان يتصدق بالباقي وقيل كان يترك للمساكين ما تعداه المنجل وما يسقط من رؤوس النخل وما ينتثر عند الدراس فكان يجتمع من هذا شيء كثير فمات الرجل عن ثلاث بنين فقالوا والله إن المال لقليل وإن العيال لكثير وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كان المال كثيرا والعيال قليلا وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا فعزموا على حرمان المساكين وتحالفوا بينهم ليغدن قبل خروج الناس فليصرمن نخلهم فذلك قوله تعالى إذ أقسموا أي حلفوا ليصرمنها أي ليقطعن نخلهم مصبحين أي في أول الصباح وقد بقيت من الليل ظلمة لئلا يبقى للمساكين شيء
وفي قوله تعالى ولا يستثنون قولان
أحدهما لا يقولون إن شاء الله قاله الأكثرون (8/335)
والثاني لا يستثنون حق المساكين قاله عكرمة فطاف عليها طائف من ربك أي من أمر ربك قال الفراء الطائف لا يكون إلا بالليل قال المفسرون بعث الله عليها نارا بالليل فاحترقت فصارت سوداء فذلك قوله تعالى فأصبحت كالصريم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها كالرماد الأسود قاله ابن عباس
والثاني كالليل المسود قاله الفراء وكذلك قال ابن قتيبة أصبحت سوداء كالليل محترقة والليل هو الصريم والصبح أيضا صريم لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه
والثالث أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر فكأنه قد صرم أي قطع وجذ حكاه ابن قتيبة أيضا
قوله تعالى فتنادوا مصبحين أي نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا ان اغدوا على حرثكم يعني الثمار والزروع والأعناب إن كنتم صارمين أي قاطعين للنخل فانطلقوا أي ذهبوا إلى جنتهم وهم يتخافتون قال ابن قتيبة يتساررون ب أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد فيه ثمانية أقوال
أحدهما على قدرة قاله ابن عباس
والثاني على فاقة قاله الحسن في رواية
والثالث على جد قاله الحسن في رواية وقتادة وأبو العالية والفراء ومقاتل
والرابع على أمر مجمع قد أسسوه بينهم قاله مجاهد وعكرمة
والخامس أن الحرد اسم الجنة قاله السدي (8/336)
والسادس أنه الحنق والغضب على المساكين قاله الشعبي وسفيان وأنشد أبو عبيدة ... أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود ...
والسابع أه المنع مأخوذ من حاردت السنة فليس فيها مطر وحاردت الناقة فليس لها لبن قاله أبو عبيدة وابن قتيبة
والثامن أنه القصد يقال حردت حردك أي قصدت قصدك حكاه الفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة وأنشدوا ... قد جاء سيل كان من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة ...
أي يقصد قصدها قال ابن قتيبة وفيها لغتان حرد وحرد كما يقال الدرك والدرك (8/337)
وفي قوله تعالى قادرين ثلاثة أقوال
أحدها قادرين على جنتهم عند أنفسهم قاله قتادة
والثاني قادرين على المساكين قاله الشعبي 3والثالث أن المعنى منعوا وهم قادرون أي واجدون قاله ابن قتيبة قالوا فلما رأوها محترقة قالوا إنا لضالون أي قد ضللنا طريق جنتنا فليست هذه ثم علموا أنها عقوبة فقالوا بل نحن محرومون أي حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المسكين قال أوسطهم أي أعدلهم وأفضلهم لولا أي هلا تسبحون وفيه ثلاثة أقوال
أحدها هلا تستثنون عند قولكم ليصرمنها مصبحين قاله ابن جريج والجمهور والمعنى هلا قلتم إن شاء الله قال الزجاج وإنما قيل للاستثناء تسبيح لأن التسبيح في اللغة تنزيه الله عز و جل عن السوء والاستثناء تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئة الله
والثاني أنه كان استثناؤهم قول سبحان الله قاله أبو صالح
والثالث هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم حكاه الثعلبي وقوله تعالى قالوا سبحان ربنا فنزهوه أن يكون ظالما فيما صنع وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا إنا كنا ظالمين بمنعنا المساكين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون أي يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم يقول هذا (8/338)
لهذا أنت أشرت علينا ويقول الآخر أنت فعلت ثم نادوا على أنفسهم بالويل فقالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين حين لم نصنع ما صنع آباؤنا ثم رجعوا إلى الله تعالى فسألوه أن يبدلهم خيرا منها فذلك قوله عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها وقرأ قوم يبدلنا بالتخفيف وهما لغتنان وفرق قوم بينهما فقالوا التبديل تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية والإبدال إزالة الشيء ووضع غيره مكانه ونقل أن القوم أخلصوا فبدلهم الله جنة العنقود منها وقر بغل
قوله تعالى كذلك العذاب ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وها هنا انتهت قصة أهل الجنة ثم قال تعالى ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني المشركين ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا فقال المشركون إنا لنعطى في الآخرة أفضل مما تعطون فقال تعالى مكذبا لهم فأنجعل المسلمين كالمجرمين قال الزجاج هذه ألف الاستفهام مجازها ها هنا مجاز التوبيخ والتقرير
قوله تعالى كيف تحكمون أي كيف تقضون بالجور أم لكم كتاب أنزل من عند الله فيه هذا تدرسون أي تقرؤون ما فيه إن لكم في ذلك الكتاب لما تخيرون أي ما تختارون وتشتهون وقرأ أبو الجوزاء وعاصم الجحدري وأبو عمران أن لكم بفتح الهمزة وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ما يتمنون من الباطل سلهم أيهم بذلك زعيم أم لكم أيمان علينا بالغة أي ألكم عهود على الله تعالى حلف لك على ما تدعون بأيمان بالغة أي مؤكدة وكل شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ ويجوز أن يكون المعنى بالغة إلى يوم القيامة أي تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها إن لكم لما تحكمون لأنفسكم به من الخير والكرامة عند (8/339)
الله تعالى قال الفراء والقراء على رفع بالغة إلا الحسن فإنه نصبها على مذهب المصدر كقوله تعالى حقا الروم 47 ومعنى الآية هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون فلما كانت اللام في جواب إن كسرتها
قوله تعالى سلهم أيهم بذلك زعيم فيه قولان
أحدهما أنه الكفيل قاله ابن عباس وقتادة والمعنى أيهم كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير
والثاني أنه الرسول قاله الحسن
قوله تعالى أم لهم شركاء يعني الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى والمعنى ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا وقيل يشهدون لهم بصدق ما ادعوا فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في أنها شركاء الله وإنما أضيف الشركاء إليهم لادعائهم أنهم شركاء الله
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون
يوم يكشف المعنى فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق قرأ الجمهور يكشف بضم الياء وفتح الشين وقرأ ابن أبي عبلة وعاصم الجحدري وأبو الجوزاء بفتح الياء وبكسر الشين وقرأ أبي بن كعب وابن عباس تكشف بتاء مفتوحة وكسر الشين وقرأ ابن مسعود وأبو مجلز وابن يعمر والضحاك نكشف بنون (8/340)
مفتوحة مع كسر الشين وهذا اليوم هو يوم القيامة وقد روى عكرمة عن ابن عباس يوم يكشف عن ساق قال يكشف عن شدة وأنشد ... وقامت الحرب بنا على ساق ...
وهذا قول مجاهد وقتادة
قال ابن قتيبة وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه شمر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة هذا قول الفراء وأبي عبيدة واللغويين وقد أضيف هذا الأمر إلى الله تعالى فروي في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه يكشف عن ساقه وهذا إضافة إليه لأن الكل له وفعله وقال أبو عمر الزاهد يراد بها النفس ومنه قول علي رضي الله عنه أقاتلهم ولو تلفت ساقي أي نفسي فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم
قوله تعالى ويدعون إلى السجود يعني المنافقين فلا يستطيعون كأن في ظهورهم سفافيد الحديد قال النقاش وليس ذلك بتكليف لهم أن (8/341)
يسجدوا وهم عجزة ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود خاشعة أبصارهم أي خاضعة ترهقهم ذلة أي تغشاهم وقد كانوا يدعون إلى السجود يعني بالأذان في دار الدنيا ويؤمرون بالصلاة المكتوبة وهم سالمون أي معافون ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة وكان كعب يقول والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات فذرني ومن يكذب بهذا الحديث يعني القرآن والمعنى خل بيني وبينه قال الزجاج أي لا تشغل قلبك به كله إلي فأنا أكفيك أمره وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله الحديث منسوخ بآية السيف وما بعد هذا مفسر في الأعراف 182 183 إلى قوله تعالى أم تسألهم أجرا فإنها مفسرة والتي قبلها في الطور 39 40
فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتبه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين
قوله تعالى فاصبر لحكم ربك أي اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت وقيل معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف
قوله تعالى ولا تكن كصاحب الحوت وهو يونس وفيماذا نهي أن يكون مثله قولان
أحدهما أنه العجلة والغضب قاله قتادة
والثاني الضعف عن تبليغ الرسالة قاله ابن جرير
قال ابن الأنباري وهذا لا يخرج يونس من أولي العزم لأنها خطيئة (8/342)
ولو قلنا إن كل مخطئ من النبياء ليس من أولي العزم خرجوا كلهم إلا يحيى ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر فقال تعالى إذ نادى وهو مكظوم قال الزجاج مملوء غما وكربا
قوله تعالى لولا أن تداركه وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة لولا أن تداركته بتاء خفيفة وبتاء ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال وقرأ أبو هريرة وأبو المتوكل تداركه بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال وقرأ أبي بن كعب تتداركه بتاءين خفيفتين نعمة من ربه فرحمه بها وتاب عليه من معاصيه لنبذ بالعراء وهو مذموم وقد بينا معنى العراء في الصافات 145 ومعنى الآية أنه نبذ غير مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة وقال ابن جريج نبذ بالعراء وهي أرض المحشر فالمعنى أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فاجتباه ربه أي استخلصه واصطفاه وخلصه مم الذم فجعله من الصالحين فرد عليه الوحي وشفعه في قومه ونفسه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم قرأ الأكثرون بضم الياء من أزلقته وقرأ أهل المدينة وأبان بفتحها من زلقته أزلقه وهما لغتنان مشهورتان في العرب قال الزجاج يقال زلق الرجل رأسه وأزلقه إذا حلقه وفي معنى الآية للمفسرين قولان
أحدهما أن الكفار قصدوا ان يصيبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعين وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به النعم فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها عدة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعين فعصم الله نبيه وأنزل هذه الآية هذا قول الكلبي وتابعه قوم من المفسرين (8/343)
تلقفوا ذلك من تفسيره منهم الفراء
والثاني أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقه من شدته أي يلقيه إلى الأرض وهذا مستعمل في كلام العرب يقول القائل نظر إلي فلان نظرا كاد يصرعني وأنشدوا ... يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزيل مواطن الأقدام ...
أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالعداوة يكاد يزيل الأقدام وإلى هذا ذهب المحققون منهم ابن قتيبة والزجاج ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله تعالى لما سمعوا الذكر والقوم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون النظر إليه بالبغضاء وإصابة العين إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان لا مع البغض فلا يظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية وما هو يعني القرآن إلا ذكر أي موعظة (8/344)
سورة الحاقة
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية
الحاقة القيامة قال الفراء إنما قيل لها حاقة لأن فيها حواق الأمور وقال الزجاج إنما سميت الحاقة لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشر
قوله تعالى ما الحاقة هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما تقول زيد وما زيد على التعظيم لشأنه ثم زاد في التهويل بأمرها فقال تعالى وما أدراك ما الحاقة أي لأنك لم تعاينها ولم تدر ما فيها من الأهوال ثم أخبر عن المكذبين بها فقال تعالى كذبت ثمود وعاد بالقارعة قال ابن عباس القارعة اسم من أسماء يوم القيامة قال مقاتل وإنما سميت (8/345)
بالقارعة لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب وقال ابن قتيبة القارعة القيامة لأنها تقرع يقال أصابتهم قوارع الدهر وقال الزجاج لأنها تقرع بالأهوال وقال غيرهم لأنها تقرع القلوب بالفزع فأما الطاغية ففيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها طغيانهم وكفرهم قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبو عبيدة وابن قتيبة قال الزجاج ومعنى الطاغية عند أهل اللغة طغيانهم وفاعلة قد يأتي بمعنى المصادر نحو عاقبة وعافية
والثاني بالصيحة الطاغية قاله قتادة وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح فأهلكتهم
والثالث أن الطاغية عاقر الناقة قاله ابن زيد والريح الصرصر قد فسرناها في حم السجد 16 والعاتية التي جاوزت المقدار وجاء في التفسير أنها عتت على خزانها يومئذ فلم يكن لهم عليها سبيل
قوله تعالى سخرها عليهم أرسلها وسلطها والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار وفي قوله تعالى حسوما ثلاثة أقوال
أحدها تباعا قاله ابن عباس قال الفراء الحسوم التباع يقال في الشيء إذا تتابع فلم ينقطع أوله عن آخره حسوم وإنما أخذ والله أعلم من حسم الداء إذا كوي صاحبه لأنه يحمى ثم يكوى ثم يتابع الكي عليه
والثاني كاملة قاله الضحاك فيكون المعنى أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها علىالكمال لأنها ظهرت مع طلوع الشمس وذهبت مع غروبها قال مقاتل هاجت الريح غدوة وسكنت بالعشي في اليوم الثامن (8/346)
وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم ثم بعث الله طيرا أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر
والثالث أنها حسمتهم فلم تبق منهم أحدا أي أذهبتهم وأفنتهم هذا قول ابن زيد
قوله تعالى فترى القوم فيها أي في تلك الليالي والأيام صرعى وهو جمع صريع لأنهم صرعوا بموتهم كأنهم أعجاز نخل أي أصول نخل خاوية أي بالية وقد بينا هذا في سورة القمر 20
قوله تعالى فهل ترى لهم من باقية فيه ثلاثة اقوال
أحدها من بقاء قاله الفراء
والثاني من بقية قاله أبو عبيدة قال وهو مصدر كالطاغية
والثالث هل ترى لهم من أثر قاله ابن قتيبة وجاء فرعون ومن قبله قرأ أبو عمرو ويعقوب والكسائي وابان بكسر القاف وفتح الباء والباقون بفتح القاف وإسكان الباء فمن كسر القاف أراد من يليه ويحف به من جنوده وأتباعه ومن فتحها أراد من كان قبله من الأمم الكافرة وفي المؤتفكات ثلاثة أقوال
أحدها قرى قوم لوط والمعنى وأهل المؤتفكات قاله الأكثرون
والثاني أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم أي هلكوا بالذنوب التي معظمها الإفك وهو الكذب قاله الزجاج
والثالث أنه قارون وقومه حكاه الماوردي
قوله تعالى بالخاطئة قال ابن قتيبة أي بالذنوب وقال الزجاج (8/347)
الخاطئة الخطأ العظيم فعصوا رسول ربهم أي كذبوا رسلهم فأخذهم أخذة رابية أي زائدة على الأحداث إنا لما طغى الماء أي تجاوز حده حتى علا على كل شيء في زمن نوح حملناكم يعني حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم في الجارية وهي السفينة التي تجري في الماء لنجعلها أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه تذكرة أي عبرة وموعظة وتعيها أذن واعية أي أذن تحفظ ما سمعت وتعمل به وقال الفراء لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعده
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيؤمئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يؤمئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يؤمئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الححيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فيلس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون
قوله تعالى فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وفيها قولان
أحدهما أنها النفخة الأولى قاله عطاء
والثاني الأخيرة قاله ابن السائب ومقاتل وحملت الأرض (8/348)
والجبال أي حملت الأض والجبال وما فيها فدكتا دكة واحدة أي كسرتا ودقتا دقة واحدة لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيء فتصير كالأديم الممدود وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الأعراف عند قوله تعالى جعله دكا آية 143 قال الفراء وإنما قال فدكتا ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد كقوله تعالى أن السموات والأرض كانتا رتقا الأنبياء 30 وانشدوا ... هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يسرت غنماهما ...
والعرب تقول قد يسرت الغنم إذا ولدت أو تهيأت للولادة
قوله تعالى فيومئذ وقعت الواقعة أي قامت القيامة وانشقت السماء لنزول من فيها من الملائكة فهي يومئذ واهية فيه قولان
أحدهما أن وهيها ضعفها وتمزقها من الخوف قاله مقاتل
والثاني أنه تشققها قاله الفراء والملك عني الملائكة فهو اسم جنس على أرجائها أي على جوانبها قال الزجاج ورجاء كل شيء ناحيته مقصور والتثنية رجوان والجمع أرجاء وأكثر المفسرين على أن (8/349)
المشار إليها السماء قال الضحاك إذ انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون إلى الأرض فيحيطون بها ومن عليها وروي عن سعيد بن جبير أنه قال على أرجاء الدنيا
قوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها فوق رؤوسهم أي العرش على رؤوس الحملة قاله مقاتل
والثاني فوق الذين على أرجائها أي أن حملة العرش فوق الملائكة الذيي هم على أرجائها
والثالث أنهم فوق أهل القيامة حكاهما الماوردي يومئذ أي يوم القيامة ثمانية فيه ثلاثة أقوال
أحدها ثمانية أملاك وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين هذا قول الجمهور
والثاني ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عزل وجل قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة (8/350)
والثالث ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله قاله مقاتل وقد روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام
قوله تعالى يومئذ تعرضون على الله لحسابكم لا تخفى عليه قرأ حمزة والكسائي لا يخفى بالياء وقرأ الباقون بالتاء والمعنى لا يخفى عليه منكم خافية أي نفس خافية أو فعلة خافية وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعندها تتطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وكان عمر بن الخطاب يقول حاسبوا أنفسكم قل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ لا تخفى منكم خافية فيقول هاؤم قال الزجاج هاؤم أمر من الجماعة بمنزلة هاكم تقول للواحد ها يا رجل وثلاثين هاؤما يا رجلان وللثلاثة هاؤم يا رجال (8/351)
قال المفسرون إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسرورا بنجاته وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد
قوله تعالى إني ظننت أي علمت وأيقنت في الدنيا أني ملاق حسابيه أي أبعث وأحساب في الآخرة فهو في عيشة أي حالة من العيش راضية قال الفراء أي فيها الرضى وقال الزجاج أي ذات رضى يرضاها من يعيش فيها وقال أبو عبيدة مجازها مجاز مرضية في جنة عالية أي عالية المنازل قطوفها أي ثمارها جانية أي قريبة ممن يتناولها وهي جمع قطف والقطف ما يقطف من الثمار قال البراء بن عازب يتناول الثمرة وهو نائم
قوله تعالى كلوا أي يقال لهم كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم أي قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الخالية الماضية وهي أيام الدنيا وأما من أوتي كتابه بشماله قال مقاتل نزلت في الأسود بن عبد الأسود قتله حمزة ببدر وهو أخو أبي سلمة وقيل نزلت في أبي جهل
قوله تعالى يا ليتني لم أوت كتابيه وذلك لما يرى فيه من القباحج ولم أدر ما حسابيه لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب إنما كله عليه وكان ابن مسعود وقتادة ويعقوب يحذفون الهاء من كتابيه وحاسبيه في الوصل قال الزجاج والوجه أن يوقف على هذه الهاآت ولا توصل لأنها أدخلت للوقف وقد حذفها قوم في الوصل ولا أحب مخالفة المصحف وكذلك قوله تعالى وما أدراك ما هيه القارعة 10
قوله تعالى يا ليتها يعني الموتة التي ماتها في الدنيا كانت القاضية (8/352)
أي القاطعة للحياة فكأنه تمنى دوام الموت وانه لم يبعث للحساب هلك عني سلطانيه فيه قولان
أحدهما ضلت عني حجتي قاله مجاهد وعكرمة والضحاك والسدي
والثاني زال عني ملكي قاله ابن زيد
قوله تعالى خذوه أي يقول الله تعالى خذوه فغلوه أي اجمعوا يده إلى عنقه ثم الجحيم صلوه أي أدخلوه النار وقال الزجاج اجعلوه يصلى النار ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة ذرعها سبعون ذراعا قال ابن عباس بذراع الملك وقال نوف الشامي كل ذراع سبعون باعا الباع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان كل ذراع سبعون ذراعا وقال مقاتل ذرعها سبعون ذراعا بالذراع الأول ويقال إن جميع أهل النار في تلك السلسلة
قوله تعالى فاسلكوه أي أدخلوه قال الفراء وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه فذلك سلكه فيها والمعنى ثم اسكلوا فيه السلسلة ولكن العرب تقول أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي ويقال الخاتم لا يدخل في يدي وإنما اليد تدخل في الخاتم وإنما استجازوا ذلك لأن معناه معروف
قوله تعالى إنه كان لا يؤمن بالله العظيم أي لا يصدق بوحدانيته وعظمته ولا يحض على طعام المسكين أي لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه (8/353)
فليس له اليوم ها هنا حميم أي قريب ينفعه أي يشفع له ولا طعام إلا من غسلين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه صديد أهل النار قاله ابن عباس قال مقاتل إذا سال القيح والدم بادروا أكله قبل أن تأكله النار
والثاني شجر يأكله أهل النار قاله الضحاك والربيع
والثالث أنه غسالة أجوافهم قاله يحيى بن سلام قال ابن قتيبة وهو فعلين من غسلت كأنه غسالة
وقوله تعالى إلا الخاطئون يعني الكافرين
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين
قوله تعالى فلا أقسم لا رد لكلام المشركين كأنه قيل ليس الأمر كما يقول المشركون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون وقال قوم لا زائدة مؤكدة والمعنى أقسم بما ترون وما لا ترون فأراد جميع الموجودات وقيل الأجسام والأرواح إنه يعني القرآن لقول رسول كريم فيه قولان
أحدهما محمد صلى الله عليه و سلم قاله الأكثرون
والثاني جبريل قاله ابن السائب ومقاتل قال ابن قتيبة لم يرد أنه قول الرسول وإنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى وفي الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به من أن يقول عن الله وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (8/354)
وقرأ ابن كثير يؤمنون ويذكرون بالياء فيهما قال الزجاج ما مؤكدة وهي لغو في باب الإعراب والمعنى قليلا تؤمنون وقال غيره أراد نفي إيمانهم أصلا وقد بينا معنى الكاهن في الطور 29 قال الزجاج وقوله تعالى تنزيل مرفوع ب هو مضمرة يدل عليها قوله تعالى وما هو بقول شاعر هو تنزيل
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
قوله تعالى ولو تقول علينا أي لو تكلف محمد أن يقول علينا ما لم نقله لأخذنا منه باليمين أي لأخذناه بالقوة والقدرة قاله الفراء والمبرد والزجاج قال ابن قتيبة إنما أقام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في ميامنه
قوله تعالى ثم لقطعنا منه الوتين وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه قال أبو عبيدة الوتين نياط القلب وأنشد الشماخ ... إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين ...
وقال الزجاج الوتين عرق أبيض غليظ كأنه قصبة (8/355)
قوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه وإنما قال تعالى حاجزين لأن أحدا يقع على الجمع كقوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله البقرة 285 هذا قول الفراء وابي عبيدة والزجاج ومعنى الكلام أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه وإنه يعني القرآن لحسرة على الكافرين في يوم القيامة يندمون إذ لم يؤمنوا به وإنه لحق اليقين إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين كقوله تعالى ولدار الأخرة يوسف 109 وقال الزجاج المعنى وإنه لليقين حق اليقين وقد شرحنا هذا المعنى وما بعده في الواقعة 95 96 (8/356)
سورة المعارج
سورة سأل سائل ويقال لها سورة المعارج ويقال لها سورة الواقع وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسئل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى
قوله تعالى سأل سائل قال المفسرون نزلت في النضر بن الحارث حين قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الأنفال 32 وهذا مذهب الجمهور منهم ابن عباس ومجاهد وقال الربيع بن أنس هو أبو جهل قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر (8/357)
سال بغير همز والباقون بالهمز فمن قرأ سأل بالهمز ففيه ثلاثة أقوال
أحدها دعا داع على نفسه بعذاب واقع
والثاني سأل سائل عن عذاب واقع لمن هو وعلى من ينزل ومتي يكون وذلك على سبيل الاستهزاء فتكون الباء بمعنى عن وأنشدوا ... فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب ...
والثالث سأل سائل عذابا واقعا والباء زائدة
ومن قرأ بلا همز ففيه قولان
أحدهما أنه من السؤال أيضا وإنما لين الهمزة يقال سأل وسال وأنشد الفراء ... تعالوا فسالوا يعلم الناس أينا ... لصاحبه في أول الدهر تابع ...
والثاني المعنى سال واد في جهنم بالعذاب للكافرين وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وكان ابن عباس في آخرين يقرؤون سال سيل بفتح السين وسكون الياء من غير ألف ولا همز (8/358)
وإذا قلنا إنه من السؤال فقوله تعالى للكافرين جواب للسؤال كأنه لما سأل لمن هذا العذاب قيل للكافرين والواقع الكائن والمعنى أن العذاب للذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة للكافرين ليس له دافع من الله قال الزجاج المعنى ذلك العذاب واقع من الله للكافرين
قوله تعالى ذي المعارج فيه قولان
أحدهما أنها السموات قاله ابن عباس وقال مجاهد هي معارج الملائكة قال ابن قتيبة واصل المعارج الدرج وهي من عرج إذا صعد قال الفراء لما كانت الملائكة تعرج إليه وصف نفسه بذلك قال الخطابي المعارج الدرج واحداه معرج وهو المصعد فهو الذي يصعد إليه بأعمال العباد وبأرواح المؤمنين فالمعارج الطرائق التي يصعد فيها
والثاني أن المعارج الفواضل والنعم قاله قتادة
قوله تعالى تعرج الملائكة قرأ الكسائي يعرج بالياء
والروح في الروح قولان
أحدهما جبريل قاله الأكثرون
والثاني روح الميت حين تقبض قاله قبيصة بن ذؤيب
قوله تعالى إليه أي إلى الله عز و جل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيه قولان
أحدهما أنه يوم القيامة قاله ابن عباس والحسن وقتادة والقرظي وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق وفي (8/359)
الحديث إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة وقيل بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عز و جل لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة والحق يفرغ منه في ساعة من نهار وقال عطاء يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا فعلى هذا يكون المعنى ليس دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وقيل المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير
والثاني أن مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعده غيرهم قطعه في خسين ألف سنة وهذا معنى قول مجاهد
قوله تعالى فاصبر أي اصبر على تكذيبهم إياك صبرا جميلا لا جزع فيه وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم ثم نسخ بآية السيف إنهم يرونه يعني العذاب بعيدا غير كائن ونراه قريبا كائنا لأن كل ما هو آت قريب ثم أخبر متى يكون فقال تعالى يوم تكون السماء كالمهل وقد شرحناه في الكهف 29 وتكون الجبال كالعهن أي كالصوف فشبهها في ضعفها ولينها بالصوف وقيل شبهها به في خفتها وسيرها لأنه قد نقل أنها تسير على صورها وهي كالهباء قال الزجاج العهن الصوف واحدته عهنة ويقال عهنة وعهن مثل صوفة وصوف وقال ابن قتيبة العهن الصوف المصبوغ (8/360)
وقوله تعالى ولا يسأل حميم حميما قرأ الأكثرون سأل بفتح الياء والمعنى لا يسأل قريب عن قرابته لاشتغاله بنفسه وقال مقاتل لا يسأل الرجل قرابته ولا يكلمه من شدة الأهوال وقرأ معاوية وأبو رزين والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وابن محيصن وابن أبي عبلة وأبو جعفر بضم الياء والمعنى لا يقال للحميم أين حميمك
قوله تعالى يبصرونهم أي يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه ولا يكلمه اشتغالا بنفسه يقال بصرت زيدا كذا إذا عرفته إياه قال ابن قتيبة معنى الآية لا يسأل ذو قرابة عن قرابته ولكنهم يبصرونهم أي يعرفونهم وقرأ قتادة وأبو المتوكل وأبو عمران يبصرونهم بإسكان الباء وتخفيف الصاد وكسرها
قوله تعالى يود المجرم يعني يتمنى المشرك لو قبل منه الفداء يومئذ ببنيه وصاحبته وهي الزوجة وفصيلته قال ابن قتيبة أي عشيرته وقال الزجاج هي أدنى قبيلته منه ومعنى تؤويه تضمه فيود أن يفتدي بهذه المذكورات ثم ينجيه ذلك الفداء كلا لا ينجيه ذلك إنها لظى قال الفراء هو اسم من أسماء جهنم فلذلك لم يجر وقال غيره معناها في اللغة اللهب الخالص وقال ابن الانباري سميت لظى لشدة توقدها وتلهبها يقال هو يتلظى أي يتلهب ويتوقد وكذلك النار تتلظى يراد بها هذا المعنى وأنشدوا ... جحيما تلظى لا تفتر ساعة ... ولا الحر منها غابر الدهر يبرد ...
نزاعة للشوى قرأ الجمهور نزاعة للشوى بالرفع على معنى هي نزاعة (8/361)
وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن أبي عبلة وحفص عن عاصم نزاعة بالنصب قال الزجاج وهذا على أنها حال مؤكدة كما قال تعالى هو الحق مصدقا فاطر 31 ويجوز أن ينصب على معنى إنها تتلظى نزاعة
وفي المراد ب الشوى أربعة أقوال
أحدها جلدة الرأس قاله مجاهد والثاني محاسن الوجه قاله الحسن وابو العالية والثالث العصب والعقب قاله ابن جبير والرابع الأطراف اليدان والرجلان والرأس قاله الفراء والزجاج
قوله تعالى تدعو من أدبر عن الإيمان وتولى عن الحق قال المفسرون تقول إلي يا مشرك إلي يا منافق وجمع فأوعى قال الفراء أي جمع المال في وعاء فلم يؤد منه زكاة ولم يصل منه رحما
إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم (8/362)
يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون
قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا قال مقاتل عنى به أمية بن خلف الجمحي وفي الهلوع سبعة أقوال
أحدها أنه الموصوف بما يلي هذه الآية رواه عطية عن ابن عباس وبه قال أبو عبيدة والزجاج
والثاني أنه الحريص على ما لا يحل له رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث البخيل قاله الحسن والضحاك
والرابع الشحيح قاله ابن جبير
والخامس الشره قاله مجاهد
والسادس الضجور قاله عكرمه وقتادة ومقاتل والفراء
والسابع الشديد الجزع قاله ابن قتيبة
قوله تعالى إذا مسه الشر أي اصابه الفقر جزوعا لا يصبر ولا يحتسب وإذا مسه الخير أصابه المال منوعا بمنعه من حق الله عز و جل إلا المصلين وهم أهل الإيمان بالله وإنما استثنى الجمع من الإنسان لأنه اسم جنس الذين هم على صلاتهم دائمون وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الذين يحافظون على المكتوبات وهو معنى قول ابن مسعود
والثاني أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة قاله عقبة بن عامر واختاره الزجاج قال ويكون اشتقاقه من الدائم وهو الساكن كما جاء (8/363)
في الحديث أنه نهى عن البول في الماء الدائم
والثالث أنهم الذين يكثرون فعل التطوع قاله ابن جريج والذين في أموالهم حق معلوم قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في الذاريات 19 وبينا معنى يوم الدين في الفاتحة وما بعد هذا قد شرحناه في المؤمنين 7 8 إلى قوله تعالى لأماناتهم قرأ ابن كثير وحده لأمانتهم والذين هم بشهاداتهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم بشهادتهم على التوحيد وقرأ حفص عن عاصم بشهاداتهم جمعا قائمون أي يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها فمال الذين كفروا قبلك مهطعين نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلى الله عليه و سلم يستهزؤون بالقرآن ويكذبون به قال الزجاج والمهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله وكانوا ينظرون إلى النبي نظر عداوة وقد سبق الخلاف في قوله تعالى مهطعين إبراهيم 43 والقمر 8
قوله عن اليمين وعن الشمال عزين قال الفراء العزون الحلق الجماعات واحدتها عزة وكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه و سلم فيقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه و سلم فلندخلنها قبلهم فنزل قوله تعالى أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم وقرأ ابن مسعود والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش والمفضل عن عاصم أن يدخل بفتح الياء وضم الخاء وقال أبو عبيدة عزين جمع عزة مثل ثبة وثبين فهي (8/364)
جماعات في تفرقة
قوله تعالى كلا أي لا يكون ذلك إنا خلقناهم مما يعلمون فيه قولان
أحدهما من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة فالمعنى لا يستوجب الجنة أحد بما يدعيه من الشرف على غيره إذ الأصل واحد وإنما يستوجبها بالطاعة
والثاني إنا خلقناهم من أقذار فبماذا يستحقون الجنة ولم يؤمنوا وقد روى بشر بن جحاش عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه تلا هذه الآية إنا خلقناهم ما يعلمون ثم بزق قال يقول الله عز و جل أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك (8/365)
وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة
قوله تعالى فلا أقسم قد تكلمنا عليه في الحاقة 38 والمراد بالمشارق والمغارب شرق كل يوم ومغربه إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم أي نخلق أمثل منهم وأطوع لله حين عصوا وما نحن بمسبوقين مفسر في الواقعة 60 فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا أي يلهوا في دنياهم حتى يلاقوا وقرأ ابن محيصن يلقوا يومهم الذي يوعدون وهو يوم القيامة وهذا لفظ أمر معناه الوعيد وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف وإذا قلنا إنه وعيد بلقاء يوم القيامة فلا وجه للنسخ يوم يخرجون من الأجداث سراعا أي يخرجون بسرعة كأنهم يستبقون
قوله تعالى كأنهم إلى نصب قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد وقال ابن جرير وهو واحد الأنصاب وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها فعلى هذا يكون المعنى كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يسرعون وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الصاد وهي في معنى القراءة الأولى إلا أنه مصدر كقول القائل نصبت الشيء أنصبه نصبا قال قتادة معناه كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون وقال ابن جرير تأويله كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون وقرأ ابن عباس (8/366)
وأبو مجلز والنخعي نصب برفع النوه وإسكان الصاد وقرأ الحسن وأبو عثمان النهدي وعاصم الجحدري إلى نصب بفتح النون والصاد جميعا قال ابن قتيبة النصب حجر ينصب أو صنم يقال نصب ونصب ونصب وقال الفراء النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع الأنصاب وقال الزجاج النصب والنصب العلم المنصوب قال الفراء والإيفاض الإسراع
قوله تعالى ترهقهم ذلة قرا أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعمرو ابن دينار ذلة ذلك اليوم بغير تنوين وبخفض الميم وباقي السورة قد تقدم بيانه المعارج 42 (8/367)
سورة نوح
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون
قوله تعالى أن أنذر قومك أي بأن أنذر قومك والعذاب الأليم الغرق
قوله تعالى أن اعبدوا الله قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وعلي بن نصر عن أبي عمرو أن اعبدوا الله بضم النون وقرأ عاصم وحمزة وعبد الوارث عن ابي عمرو أن اعبدوا الله بكسر النون قال أبو علي من ضم كره الكسر
قوله تعالى وأطيعون أثبت الياء في الحالين يعقوب
قوله تعالى من ذنوبكم من ها هنا صلة والمعنى يغفر لكم ذنوبكم قاله السدي ومقاتل وقال الزجاج إنما دخلت من ها هنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء ولم تدخل لتبعيض الذنوب ومثله فاجتنبوا الرجس من (8/368)
الأوثان الحج 30 وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض والمعنى يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان ويؤخركم أي عن العذاب إلى أجل مسمى وهو منتهى آجالهم والمعنى فتموتوا عند منتهى آجالكم غير ميتة المعذبين إن أجل الله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه أجل الموت قاله مجاهد فيكون المعنى إن أجل الله الذي أجلكم إليه لا يؤخر إذا جاء فلا يمكنكم حينئذ الإيمان
والثاني أنه أجل البعث قاله الحسن
والثالث أجل العذاب قاله السدي ومقاتل
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهار ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (8/369)
قوله تعالى فلم يزدهم دعائي إلا فرارا أي تباعدا من الإيمان وإني كلما دعوتهم إلى الإيمان والطاعة جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا صوتي واستغشوا ثيابهم أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني وأصروا على كفرهم واستكبروا عن الإيمان بك واتباعي ثم إني دعوتهم جهارا أي معلنا لهم بالدعاء قال ابن عباس بأعلى صوتي ثم إني أعلنت لهم أي كررت الدعاء معلنا وأسررت لهم إسرارا قال ابن عباس يريد أكلم الرجل بعد الرجل في السر وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك فقلت استغفروا ربكم قال المفسرون منع الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فقال لهم نوح استغفروا ربكم من الشرك أي استدعوا مغفرته بالتوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا قد شرحناه في أول الأنعام 6 ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة
قوله تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا فيه أربعة أقوال
أحدها لا ترون لله عظمة قال الفراء وابن قتيبة
والثاني لا تخافون عظمة الله قاله الفراء وابن قتيبة
والثالث لا ترون لله طاعة قاله ابن زيد
والرابع لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد قاله الزجاج (8/370)
وقد خلقكم أطوارا أي وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة ثم من علقة شيئا بعد شيء إلى آخر الخلق قال ابن الأنباري الطور الحال وجمعه أطوار وقال ابن فارس الطور التارة طورا بعد طور أي تارة بعد تارة وقيل أراد بالأطوار اختلاف المناظر والأخلاق من طويل وقصير وغير ذلك ثم قررهم فقال تعالى ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة طباق بتنوين القاف وكسرها من غير ألف وقد بينا هذا في سورة الملك 3
قوله تعالى وجعل القمر فيهن نورا فيه قولان
أحدهما أن وجه القمر قبل السموات وظهره قبل الأرض يضيء لأهل السموات كما يضيء لأهل الأرض وكذلك الشمس هذا قول عبد الله ابن عمرو
والثاني أن القمر في السماء الدنيا وإنما قال فيهن لأنهن كالشيء الواحد ذكره الأخفش والزجاج وغيرهما وهذا كما تقول أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم وكركبت السفن وجعل الشمس سراجا يستضيء بها العالم والله أنبتكم من الأرض يعني أن مبتدأ خلقكم من الأرض هو (8/371)
آدم نباتا قال الخليل معناه فنبتم نباتا وقال الزجاج نباتا محمول في المصدر على المعنى لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتا قال ابن قتيبة هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر لأنه جاء في نبت ومثله وتبتل إليه تبتيلا المزمل 8 فجاء على بتل
قال الشاعر ... وخير الأمر ما استقبلت من ... ه وليس بأن تتبعه اتباعا ...
فجاء على اتبعت
وقال الآخر ... وإن شئتم تعاودنا عوادا ...
فجاء على عوادنا وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها واحدة في المعنى
قوله تعالى سبلا فجاجا قال الفراء هي الطرق الواسعة
قوله تعالى واتبعوا من لم يزده ماله وولده قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم وولده بفتح اللام والواو وقرأ الباقون ولده بضم الواو (8/372)
وسكون اللام قال الزجاج وهما بمعنى واحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم وقرأ الحسن وأبو العالية وابن يعمر والجحدري وولده بكسر الواو وإسكان اللام قال المفسرون المعنى ان الأتباع والفقراء اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء
قوله تعالى ومكروا مكرا كبارا قرأ أبو رجاء وأبو عمران كبارا برفع الكاف وتخفيف الباء وقرأ ابن يعمر وأبو الجوزاء وابن محيصن كبارا بكسر الكاف مع تخفيف الباء والمعنى كبيرا يقال كبير وكبار وقد شرحنا هذا في أول ص ومعنى المكر السعي في الفساد وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان بنوح وقالوا لا تذرن آلهتكم أي لا تدعن عبادتها ولا تذرن ودا قرأ أبو جعفر ونافع بضم الواو والباقون بفتحها وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق للعبادة ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمين بهذه الأسماء وقيل إنما هي أسماء لأولاد آدم مات منهم واحد فجاء الشيطان فقال هل لكم أن أصور لكم صورته فتذكرونه بها فصورها ثم مات آخر فصور لهم صورته إلى أن صور صورا خمسة ثم طال الزمان وتركوا عبادة الله فقال لهم الشيطان ما لكم لا تعبدون شيئا فقالوا لمن نعبد قال هذه آلهتكم وآلهة آبائكم ألا ترونها مصورة في مصلاكم فعبدوها (8/373)
وقال الزجاج هذه الأصنام كانت لقوم نوح ثم صارت إلى العرب فكان ود لكلب و سواع لهمدان و يغوث لبني غطيف وهم حي من مراد وقيل لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمها التراب فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين قال الواقدي كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد و يعوق على صورة فرس و نسر على صورة النسر من الطير
قوله تعالى وقد أضلوا كثيرا فيه قولان
أحدهما وقد أضلت الأصنام كثيرا من الناس أي ضلوا بسببها
والثاني وقد أضل الكبراء كثيرا من الناس ولا تزد الظالمين يعني الكافرين إلا ضلالا وهذا دعاء من نوح عليهم لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا
قوله تعالى مما خطيآتهم ما صلة والمعنى من خطيآتهم أي من أجلها وسببها وقرأ أبو عمرو مما خطاياهم وقرأ أبو الجوزاء والجحدري خطيأتهم من غير ألف أغرقوا فأدخلوا نارا قال ابن السائب المعنى سيدخلون في الآخرة نارا فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال لأن الوعد حق هذا قول الأكثرين وقال الضحاك فأدخلوا نارا في الدنيا وذلك أنهم كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب (8/374)
قوله تعالى فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله
قوله تعالى ديارا قال ابن قتيبة أي أحدا يقال ما بالمنازل ديار أي ما بها أحد وهو من الدار أي ليس بها نازل دارا وقال الزجاج أصلها ديوار فيعال فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى وإنما دعا عليهم نوح لأن الله تعالى أوحى إليه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن هود 36
قوله تعالى يضلوا عبادك وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح فيحذره تصديقه
وقوله تعالى ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا قال المفسرون إن الله تعالى أخبر نوحا أنهم لا يلدون مؤمنا فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة
قوله تعالى رب اغفر لي ولوالدي قال الحسن وذلك أنهما كانا مؤمنين وقرأ أبو بكر الصديق وسعيد بن المسيب وابن جبير والجحدري والجوني ولوالدي ساكنة الياء على التوحيد وقرأ ابن مسعود وأبو العالية وابن يعمر والزهري والنخعي ولولدي من غير ألف على التثنية ولمن دخل بيتي وقرا حفص عن عاصم بيتي بفتح الياء وفيه ثلاثة اقوال
أحدها منزله قاله ابن عباس والثاني مسجده قاله الضحاك والثالث سفينته حكاه الثعلبي
قوله تعالى وللمؤمنين والمؤمنات هذا عام في كل من آمن ولا تزد الظالمين يعني الكافرين إلا تبارا أي هلاكا ومنه قوله تعالى تبرنا تتبيرا الفرقان 39 (8/375)
سورة الجن
كلها مكية بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (8/376)
قوله تعالى قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في الأحقاف 29 وبينا هنالك سبب استماعهم ومعنى النفر وعددهم فأما قوله تعالى قرآنا عجبا فمعناه بليغا يعجب منه لبلاغته يهدي إلى الرشد أي يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان ولن نشرك بربنا أي لن نعدل بربنا أحدا من خلقه وقيل عنوا إبليس أي لا نطيعه في الشرك بالله
قوله تعالى وأنه تعالى جد ربنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة وهي وأنه تعالى وأنه كان يقول وأنا ظننا وأنه كان رجال وأنهم ظنوا وأنا لمسنا وأنا كنا وأنا لا ندري وأنا منا وأنا ظننا أن لن نعجز الله وأنا لما سمعنا وأنا منا ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع و أنه تعالى وأنه كان يقول وأنه كان رجال وكسر الباقيات وقرأ الباقون بكسرهن وقال الزجاج والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه أن بالفتح وما كان من قول الجن قيل إن بالكسر معطوف على قوله تعالى إنا سمعنا قرآنا عجبا وعلى هذا يكون المعنى وقالوا إنه تعالى جد ربنا وقالوا إنه كان يقول سفيهنا فأما من فتح فذكر بعض النحويين يعني الفراء أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا وكذلك ما بعد هذا وهذا رديء في القياس لا يعطف على الهاء المتمكنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض ولكن وجهه (8/377)
أن يكون محمولا على معنى أمنا به فيكون المعنى وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وللمفسرين في معنى تعالى جد ربنا سبعة أقوال
أحدها قدرة ربنا قاله ابن عباس والثاني غنى ربنا قاله الحسن والثالث جلال ربنا قاله مجاهد وعكرمة والرابع عظمة ربنا قاله قتادة والخامس أمر ربنا قاله السدي والسادس ارتفاع ذكره وعظمته قاله مقاتل والسابع ملك ربنا وثناؤه وسلطانه قاله أبو عبيدة وأنه كان يقول سفيهنا فيه قولان
أحدهما أنه إبليس قاله مجاهد وقتادة
والثاني أنه كفارهم قاله مقاتل والشطط الجور والكذب وهو وصفه بالشريك والولد ثم قالت الجن وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وقرأ يعقوب أن لن تقول بفتح القاف وتشديد الواو والمعنى ظنناهم صادقين في قولهم لله صاحبة وولد وما ظنناهم يكذبون حتى سمعنا القرآن يقول الله عز و جل وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوار منهم حتى يصبح ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فنادى يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه (8/378)
يا سرحان أرسله فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة فأنزل الله على رسوله ص - وأنه كان رجال من الإنس الآية
وفي قوله تعالى فزادوهم رهقا قولان
أحدهما أن الإنس زادوا الجن رهقا لتعوذهم بهم قاله مقاتل والمعنى أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة قد سدنا الجن والإنس
والثاني أن الجن زادوا الإنس رهقا ذكره الزجاج قال أبو عبيدة زادوهم سفها وطغيانا وقال ابن قتيبة زادوهم ضلالا واصل الرهق العيب ومنه يقال فلان يرهق في دينه
قوله تعالى وأنهم ظنوا يقول الله عز و جل ظن الجن كما ظننتم (8/379)
أيها الإنس المشركون أنه لا بعث وقالت الجن وأنا لمسنا السماء أي أتيناها فوجناها ملئت حرسا شديدا وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع وشهبا جمع شهاب وهو النجم المضيء وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع أي كنا نستمع فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد ص - رمينا بالشهب ومعنى رصدا قد أرصد له المرمى به وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم فيكذبونه فيهلكون أم أراد بهم ربهم رشدا وهو أن يؤمنوا فيهتدوا قاله مقاتل والثاني أنه قول كفرة الجن والمعنى لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب أم صلاح قاله الفراء ثم أخبروا عن حالهم فقالوا وأنا منا الصالحون وهم المؤمنون المخلصون ومنا دون ذلك فيه قولان
أحدهما أنهم المشركون
والثاني أنهم أهل الشر دون الشرك كنا طرائق قددا قال الفراء أي فرقا مختلفة أهواؤنا وقال أبو عبيدة واحد الطرائق طريقة وواحد القدد قدة أي ضروبا وأجناسا ومللا قال الحسن والسدي الجن مثلكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة
قوله تعالى وأنا ظننا أي أيقنا أن لن نعجز الله في الأرض أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا ولن نعجزه هربا أي أنه يدركنا حيث كنا وأنا لما سمعنا الهدى وهو القرآن الذي أتى به محمد ص - آمنا به أي صدقنا أنه من عند الله عز و جل فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا أي نقصا من الثواب ولا رهقا أي ولا ظلما ومكروها يغشاه وأنا منا المسلمون قال مقاتل المخلصون لله ومنا القاسطون وهم المردة قال (8/380)
ابن قتيبة القاسطون الجائرون يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل قال المفسرون هم الكافرون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا أي توخوه وأموه ثم انقطع كلام الجن قال مقاتل ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة يعني طريقة الهدى وهذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وقتادة والسدي واختاره الزجاج قال لأن الطريقة ها هنا بالألف واللام معرفة فالأوجب أن تكون طريقة الهدى وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر قاله محمد بن كعب والربيع والفراء وابن قتيبة وابن كيسان فعلى القول الأول يكون المعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم لنفتنهم أي لنختبرهم فيه فننظر كيف شكرهم والماء الغدق الكثير وإنما ذكر الماء مثلا لأن الخير كله يكون بالمطر فأقيم مقامه إذ كان سببه وعلى الثاني يكون المعنى لو استقاموا على الكفر فكانوا كفارا كلهم لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدارجا ثم نعذبهم على ذلك وقيل لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم كقوم نوح ومن يعرض عن ذكر ربه يعني القرآن يسلكه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر نسلكه بالنون وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء عذابا صعدا قال ابن قتيبة أي عذابا شاقا يقال تصعدني الأمر إذا شق علي ومنه قول عمر ما تصعدني شيء ما تصعدني خطبة النكاح ونرى أصل هذا كله من الصعود لأنه شاق فكني به عن المشقات وجاء في التفسير أنه جبل في النار يكلف صعوده وسنذكره عند قوله تعالى سأرهقه (8/381)
صعودا المدثر 17 إن شاء الله تعالى
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا واقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا
قوله تعالى وأن المساجد لله فيها أربعة أقوال
أحدها أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات قاله ابن عباس قال قتادة كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا فأمر الله عز و جل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم
والثاني الأعضاء التي يسجد عليها العبد قاله سعيد بن جبير وابن الأنباري وذكره الفراء فيكون المعنى لا تسجدوا عليها لغيره (8/382)
والثالث أن المراد بالمساجد ها هنا البقاع كلها قاله الحسن فيكون المعنى أن الأرض كلها مواضع للسجود فلا تسجدوا عليها لغير خالقها
والرابع أن المساجد السجود فإنه جمع مسجد يقال سجدت سجودا ومسجدا كما يقال ضربت في الأرض ضربا ومضربا ثم يجمع فيقال المساجد والمضارب قال ابن قتيبة فعلى هذا يكون واحدها مسجدا بفتح الجيم والمعنى أخلصوا له ولا تسجدا لغيره ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى وأنه لما قام عبد الله يعني محمدا ص - يدعوه أي يعبده وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف 29 كادوا يكونون عليه لبدا قرأ الأكثرون لبدا بكسر اللام وفتح الباء وقرأ هشام عن ابن عامر وابن محيصن لبدا بضم اللام وفتح الباء مع تخفيفها قال الفراء ومعنى القراءتين واحد يقال لبدة ولبدة قال الزجاج والمعنى كاد يركب بعضهم بعضا ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لدبته وقرأ قوم منهم الحسن والجحدري لبدا بضم اللام مع تشديد الباء قال الفراء فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال كقولك ركعا وركوعا وسجدا وسجودا قال الزجاج هو جمع لابد مثل راكع وركع وفي معنى الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم والمعنى أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن رواه عطية عن ابن عباس
والثاني أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وائتمامهم به في الركوع والسجود فكأنهم قالوا (8/383)
لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبدا وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس
والثالث أن المعنى لما قام رسول الله ص - بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به قاله الحسن وقتادة وابن زيد
قوله تعالى قل إنما أدعو ربي قرأ عاصم وحمزة قل إنما أدعو ربي بغير ألف وقرأ الباقون قال على الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال مقاتل إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه فنزلت هذه الآية
قوله تعالى قل لا أملك لكم ضرا أي لا أدفعه عنكم ولا أسوق إليكم رشدا أي خيرا أي إن الله تعالى يملك ذلك لا أنا قل إني لن يجيرني من الله أحد أي إن عصيته لم يمنعني منه أحد وذلك أنهم قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك ولن أجد من دونه ملتحدا وقد بيناه في الكهف 27 إلا بلاغا من الله فيه وجهان ذكرهما الفراء
أحدهما أنه استثناء من قوله تعالى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا أن أبلغكم
والثاني لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالته وبالأول قال ابن السائب (8/384)
وبالثاني قال مقاتل وقال بعضهم المعنى لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت فذلك البلاغ هو الذي يجيرني ومن يعص الله ورسوله بترك الإيمان والتوحيد
قوله تعالى حتى إذا رأوا يعني الكفار ما يوعدون من العذاب في الدنيا وهو القتل وفي الآخرة فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا أي جندا ونصرا أهم أم المؤمنون قل إن أدري أي ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب أم يجعل له ربي أمدا أي غاية وبعدا وذلك لأن علم الغيب لله وحده فلا يظهر أي فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحدا من الناس إلا من ارتضى من رسول لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب والمعنى أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى فإنه يسلك من بين يديه أي (8/385)
من بين يدي الرسول ومن خلفه رصدا أي يجعل له حفظة من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة فيتكلون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه و سلم الناس وقال الزجاج يسلك من بين يدي الملك ومن خلفه رصدا وقيل يسلك من بين يدي الوحي فالرصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي
قوله تعالى ليعلم فيه خمسة أقوال
أحدها ليعلم محمد صلى الله عليه و سلم أن جبرائيل قد بلغ إليه قاله ابن جبير
والثاني ليعلم محمد صلى الله عليه و سلم أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن الله قد حفظها فدفع عنها قاله قتادة
والثالث ليعلم مكذبوا الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم قاله مجاهد
والرابع ليعلم الله عز و جل ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب فهو كقوله تعالى ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم آل عمران 142 قاله ابن قتيبة
والخامس ليعلم النبي أن الرسل قد أتته ولم تصل إلى غيره ذكره الزجاج وقرأ رويس عن يعقوب ليعلم بضم الياء على ما لم يسم فاعله وقال ابن قتيبة ويقرأ لتعلم بالتاء يريد لتعلم الجن أن الرسل قد بلغت عن آلههم بما رجوا من استراق السمع وأحاط بما لديهم أي علم الله ما عند الرسل وأحصى كل شيء عددا فلم يفته شيء حتى الذر والخردل (8/386)
سورة المزمل
وهي مكية كلها بإجماعهم
إلا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال سوى آيتين منها قوله تعالى واصبر على ما يقولون والتي بعدها المزمل 10 1 وقال ابن يسار ومقاتل فيها آية مدنية وهي قوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم المزمل 20 بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا (8/387)
قوله تعالى يا أيها المزمل وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية وأبو مجلز وأبو عمران والأعمش المتزمل بإظهار التاء وقرأ عكرمة وابن يعمر المزمل بحذف التاء وتخفيف الزاي قال اللغويون المزمل المتلف في ثيابه واصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي فثقلت وكل من التف بثوبه فقد تزمل قال الزجاج وإنما أدغمت فيها لقربها منها قال المفسرون وكان النبي صلى الله عليه و سلم يتزمل في ثياه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به وقال السدي كان قد تزمل للنوم وقال مقاتل خرج من البيت وقد لبس ثياه فناداه جبريل يا أيها المزمل وقيل أريد به متزمل النبوة قال عكرمة في معنى هذه الآية زملت هذا الأمر فقم به وقيل إنما لم يخاطب بالنبي والرسول ها هنا لأنه لم يكن قد بلغ وإنما كان في بدء الوحي
قوله تعالى قم الليل أي للصلاة وكان قيام الليل فرضا عليه إلا قليلا نصفه هذا بدل من الليل كا تقول ضربت زيدا رأسه فإنا ذكرت زيدا لتوكيد الكلام لأنه أوكد من قولك ضربت رأس زيد والمعنى قم من الليل النصف إلا قليلا أو انقص منه قليلا أي من النصف أو زد عليه أي على النصف قال المفسرون انقص من النصف إلى الثلث أو زد عليه إلى الثلثين فجعل له سعة في مدة قيامه إذ لم تكن محدودة فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشق ذلك عليه وعليهم فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل الآية هذا مذهب جماعة من المفسرين وقالوا ليس في القرآن (8/388)
سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه السورة وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك الإسراء 79 ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل نسخ عن الأمة وبقي عليه فرضه أبدا وقيل إنما كان مفروضا عليه دونهم وفي مدة فرضه قولان
أحدهما سنة قال ابن عباس كان بين أول المزمل وآخرها سنة
والثاني ستة عشر شهرا حكاه الماوردي
قوله تعالى ورتل القرآن قد ذكرنا الترتيل في الفرقان 32
قوله تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وهو القرآن وفي معنى ثقله ستة أقوال
أحدها أنه كان يثقل عليه إذا أوحي إليه وهذا قول عائشة قالت ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه يعني يتخلص عنه (8/389)
وإن جبينه ليتفصد عرقا
والثاني أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه قاله الحسن وقتادة
والثالث أنه يثقل في الميزان يوم القيامة قاله ابن زيد
والرابع أنه المهيب كما يقال للرجل العاقل هو رزين راجح قاله عبد العزيز بن يحيى
والخامس أنه ليس بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام الرب عز و جل قاله الفراء
والسادس أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول وزن إذا استجدته ذكره الزجاج
قوله تعالى إن ناشئة الليل قال ابن مسعود وابن عباس هي قيام الليل بلسان الحبشة وهل هي في وقت مخصوص من الليل أم في جميعه فيه قولان
أحدهما أنها في جميع الليل وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال الليل كله ناشئة وإلى هذا ذهب اللغويون قال ابن قتيبة ناشئة الليل (8/390)
ساعاته الناشئة من نشأت إذا ابتدأت وقال الزجاج ناشئة الليل ساعات الليل كل ما نشأ منه أي كل ما حدث وقال أبو علي الفارسي كأن المعنى إن صلاة ناشئة أو عمل ناشئة الليل
والثاني أنها في وقت مخصوص من الليل ثم فيه خمسة أقوال
أحدها أنها ما بين المغرب والعشاء قاله أنس بن مالك
والثاني أنها القيام بعد النوم وهذا قول عائشة وابن الأعرابي وقد نص عليه أحمد في رواية المرودي
والثالث أنها ما بعد العشاء قاله الحسن ومجاهد وقتادة وأبو مجلز
والرابع أنها بدء الليل قاله عطاء وعكرمة
والخامس أنها القيام من آخر الليل قاله يمان وابن كيسان
قوله تعالى هي أشد وطا قرأ ابن عامر وأبو عمرو وطاء بكسر الواو مع المد وهو مصدر واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء واراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم للقرآن والإحكام لتأويله ومنه قوله تعالى ليواطئوا عدة ما حرم الله التوبة 37 وقرأ الباقون وطأ بفتح الواو مع القصر والمعنى إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار من قول العرب اشتدت على القوم وطأة السلطان إذا ثقل عليهم ما يلزمهم ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم اللهم اشدد وطأتك على مضر ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة وقرأ ابن محيصن أشد وطاء بفتح الواو والطاء وبالمد (8/391)
قوله تعالى وأقوم قيلا أي أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة ويفرغ القلب لفهم التلاوة فلا يكون دون سمعه وتفهمه حائل
قوله تعالى إن لك في النهار سبحا طويلا أي فراغا لنومك وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك قاله ابن عباس وعطاء وقرأ علي وابن مسعود وابو عمران وابن أبي عبلة سبخا بالخاء المعجمة قال الزجاج ومعناها في اللغة صحيح يقال قد سبخت القطن بمعنى نفشته ومعنى نفشته وسعته فيكون المعنى إن لك في النهار توسعا طويلا
قوله تعالى واذكر اسم ربك أي بالنهار أيضا وتبتل إليه تبتيلا قال مجاهد أخلص له إخلاصا وقال ابن قتيبة انقطع إليه من قولك بثلت الشيء إذا قطعته وقال الزجاج انقطع إليه في العبادة ومنه قيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة وكذلك صدقة بتلة منقطعة من مال المصدق والأصل في مصدر تبتل تبتلا وإنما قوله تعالى تبتيلا محمول على معنى تبتل رب المشرق قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم رب بالرفع وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم بالكسر وما بعد هذا قد سبق الشعراء 28 إلى قوله تعالى واصبر على ما يقولون من التكذيب لك والأذى واهجرهم هجرا جميلا لا جزع فيه وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف وذرني والمكذبين أي لا تهتم بهم فأنا أكفيكهم أولي النعمة يعني التنعم وفيمن عني بهذا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المطعمون ببدر قاله مقاتل بن حيان (8/392)
والثاني أنهم بنو المغيرة بن عبد الله قاله مقاتل بن سليمان
والثالث أنهم المستهزئون وهم صناديد قريش حكاه الثعلبي
قوله تعالى ومهلهم قليلا قالت عائشة فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بصحيح
قوله تعالى إن لدينا أنكالا وهي القيود واحدها نكل وقد شرحنا معنى الجحيم في البقرة 119 وطعاما ذا غصة وهو الذي لا يسوغ في الحلق وفيه للمفسرين أربعة أقوال
أحدها أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج قاله ابن عباس وعكرمة والثاني الزقوم قاله مقاتل والثالث الضريع قاله الزجاج والرابع الزقوم والغسلين والضريع حكاه الثعلبي
قوله تعالى يوم ترجف الأرض قال الزجاج هو منصوب بقوله تعالى إن لدينا أنكالا والمعنى ينكل الكافرين ويعذبهم يوم ترجف الأرض أي تزلزل وتحرك أغلظ حركة
قوله تعالى وكانت الجبال قال مقاتل المعنى وصارت بعد الشدة والقوة كثيبا قال الفراء الكثيب الرمل والمهيل الذي ترحك أسفله فينهال عليكم من أعلاه والعرب تقول مهيل ومهيول ومكيل ومكيول وقال الزجاج الكثيب جمعه كثبان وهي القطع العظام من الرمل والمهيل السائل
قوله تعالى إنا أرسلنا إليكم يعني أهل مكة رسولا يعني محمدا صلى الله عليه و سلم (8/393)
شاهدا عليكم بالتبليغ وإيمان من آمن وكفر من كفر كما أرسلنا إلى فرعون رسولا وهو موسى عليه السلام والوبيل الشديد قال ابن قتيبة هو من قولك استوبلت المكان إذا استوخمته ويقال كلأ مستوبل أي لا يستمرأ قال الزجاج الوبيل الثقيل الغليظ جدا ومنه قيل للمطر العظيم وابل قال مقاتل والمراد بهذا الأخذ الوبيل الغرق وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم كما نزل بفرعون
قوله تعالى فكيف تتقون إن كفرتم يوما أي عذاب ويوم قال الزجاج المعنى بأي شيء تتحصنون من عذاب يوم من هوله يشيب الصغير من غير كبر وقرأ أبي بن كعب وأبو عمران نجعل الولدان بالنون
قوله تعالى السماء منفطر به قال الفراء السماء تذكر وتؤنث وهي ها هنا في وجه التذكير قال الشاعر ... فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب ...
قال الزجاج وتذكير السماء على ضربين
أحدهما على أن معنى السماء معنى السقف
والثاني على قولهم امرأة مرضع على جهة النسب فالمعنى السماء ذات انفطار كما أن المرضع ذات الرضاع وقال ابن قتيبة ومعنى الآية السماء منشق به أي فيه يعني في ذلك اليوم (8/394)
قوله تعالى كان وعده مفعولا وذلك أنه وعد بالبعث فهو كائن لا محالة
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
إن هذه يعني آيات القرآن تذكرة أي تذكير وموعظة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان والطاعة
قوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى أي أقل من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء والباقون بكسرهما
قوله تعالى وطائفة من الذين معك يعني المؤمنين والله يقدر الليل والنهار يعلم مقاديرهما فيعلم القدر الذي تقومون به من الليل علم أن لن تحصوه وفيه قولان
أحدهما لن تطيقوا قيام ثلثي الليل ولا ثلث الليل ولا نصف الليل قاله مقاتل (8/395)
والثاني لن تحفظوا مواقيت الليل قاله الفراء فتاب عليكم أي عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف فاقرؤوا ما تيسر عليكم من القرآن يعني في الصلاة من غير أن يوقت وقتا وقال الحسن هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء ثم ذكر أعذارهم فقال تعالى علم أن سيكون منكم مرضى فلا يطيقون قيام الليل وآخرون يضربون في الأرض وهم المسافرون للتجارة يبتغون من فضل الله أي من رزقه فلا يطيقون قيام الليل وآخرون يقاتلون في سبيل الله وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام الليل وفاقرؤوا ما تيسر من القرآن وذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس فذلك قوله تعالى وأقيموا الصلاة أي الصلوات الخمس في أوقاتها وأقرضوا الله قرضا حسنا وقد سبق بيانه الحديد 18 قال ابن عباس يريد سوى الزكاة في صلة الرحم وقرى الضيف وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله أي تجدوا ثوابه في الآخرة هو خيرا قال أبو عبيدة المعنى تجدوه خيرا قال الزجاج ودخلت هو فصلا وقال المفسرون ومعنى خيرا أي (8/396)
أفضل مما أعطيتم وأعظم أجرا من الذي تؤخرونه إلى وقت الوصية عند الموت (8/397)
سورة المدثر
وهي مكية بإجماعهم
وقال مقاتل فيها من المدني آية وهي قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة المدثر 31
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدرك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملئكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من (8/398)
يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر
فأما سبب نزولها فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو في الهواء يعني جبريل عليه السلام فأقبلت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني فأنزل الله عز و جل يا أيها المدثر قم فأنذر قال المفسرون فلما رأى جبريل وقع مغشيا عليه فلما أفاق دخل إلى خديجة ودعا بماء فصبه عليه وقال دثروني فدثروه بقطيفة فأتاه جبريل فقال يا أيها المدثر وقرأ أبي بن كعب وابو عمران والأعمش المتدثر بإظهار التاء وقرأ أبو رجاء وعكرمة وابن يعمر المدثر بحذف التاء وتخفيف الدال قال اللغويون وأصل المدثر المتدثر فأدغمت التاء كما ذكرنا في المتزمل وهذا في قول الجمهور من التدثير بالثياب وقيل المعنى يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قال عكرمة دثرت هذا الأمر فقم به (8/399)
قوله تعالى قم فأنذر كفار مكة العذاب إن لم يوحدوا وربك فكبر أي عظمه عما يقول عبدة الأوثان وثيابك فطهر فيه ثمانية أقوال
أحدها لا تلبسها على معصية ولا على غدر قال غيلان بن سلمة الثقفي ... وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع ...
روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس
والثاني لا تكن ثيابك من مكسب غير طاهر روي عن ابن عباس أيضا
والثالث طهر نفسك من الذنب قاله مجاهد وقتادة ويشهد له قول عنترة ... فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم ...
أي نفسه وهذا مذهب ابن قتيبة قال المعنى طهر نفسك من الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه قالت ليلى الأخيلية وذكرت إبلا ... رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا ...
أي ركبوها فرموها بأنفسهم والعرب تقول للعفاف إزار لأن العفيف كأنه استتر لما عف (8/400)
والرابع وعملك فأصلح قاله الضحاك
والخامس خلقك فحسن قاله الحسن والقرظي
والسادس وثيابك فقصر وشمر قاله طاووس
والسابع قلبك فطهر قاله سعيد بن جبير ويشهد له قول امرئ القيس ... فإن يك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ...
أي قلبي من قلبك
والثامن اغسل ثيابك بالماء ونقها قاله ابن سيرين وابن زيد
قوله تعالى والرجز فاهجر قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم إلا أبا بكر ويعقوب وابن محصين وابن السميفع والرجز بضم الراء والبقاون بكسرها ولم يختلفوا في غير هذا الموضع قال الزجاج ومعنى القراءتين واحد وقال أبو علي قراءة الحسن بالضم وقال هو اسم صنم وقال قتادة صنمان إساف ونائلة ومن كسر فالوجز العذاب فالمعنى ذو العذاب فاهجر
وفي معنى الرجز للمفسرين ستة أقوال
أحدها أنه الأصنام والأوثان قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والزهري والسدي وابن زيد (8/401)
والثاني أنه الإثم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث الشرك قاله ابن جبير والضحاك
والرابع الذنب قاله الحسن
والخامس العذاب قاله ابن السائب قال الزجاج الرجز في اللغة العذاب ومعنى الآية اهجر ما يؤدي إلى عذاب الله
والسادس الشيطان قاله ابن كيسان ولا تمنن تستكثر فيه أربعة أقوال
أحدها لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة قال المفسرون معناه أعط لربك وأرد به الله فأدبه بأشرف الآداب ومعنى لا تمنن لا تعط شيئا من مالك لتعطى أكثر منه وهذا الأدب للنبي صلى الله عليه و سلم خاصة وليس على أحد من أمته إثم أن يهدي هدية يرجو بها ثوابا أكثر منها
والثاني لا تمنن بعملك تستكثره على ربك قاله الحسن
والثالث لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه قاله مجاهد
والرابع لا تمنن على الناس بالنبوة لتأخذ عليها منهم أجرا قاله ابن زيد (8/402)
ولربك فيه أربعة أقوال
أحدها لأجل ربك والثاني لثواب ربك والثالث لأمر ربك والرابع لوعد ربك فاصبر فيه قولان
أحدهما على طاعته وفرائضه والثاني على الأذى والتكذيب
قوله تعالى فإذا نقر في الناقور أي نفخ في الصور وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية فيه قولان فذلك يومئذ يوم عسير أي يعسر الأمر فيه على الكافرين غير يسير غير هين ذرني قد شرحناه في المزمل 11 ومن خلقت أي ومن خلقته وحيدا فيه قولان
أحدهما خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد قاله مجاهد
والثاني خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد قاله الزجاج قال ابن عباس جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله فقال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني فوالله ما يشبهها الذي يقول والله إن لقوله حلاوة وإن عليه طلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوا ولا يعلى قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال فدعني حتى أفكر فيه فقال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ذرني ومن خلقت وحيدا الآيات كلها وقال مجاهد قال الوليد لقريش إن لي إليكم (8/403)
حاجة فاجتمعوا في دار الندوة فقال إنكم ذوو أحساب وأحلام وإن العرب يأتونكم وينطلقون من عندكم على أمر مختلف فأجمعوا على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل قالوا نقول إنه شاعر فعبس عندها وقال قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر فقالوا نقول إنه كاهن قال إذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة قالوا نقول إنه مجنون قال إذن يأتونه فلا يجدونه مجنونا فقالوا نقول إنه ساحر قال وما الساحر قالوا بشر يحببون بين المتباغضين ويبغضون بين المتحابين قال فهو ساحر فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلا قال يا ساحر فاشتد ذلك عليه فأنزل الله عز و جل يا أيها المدثر إلى قوله تعالى إن هذا إلا سحر يؤثر وذكر بعض المفسرين أن قوله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا منسوخ بآية السيف ولا يصح
قوله تعالى وجعلت له مالا ممدودا في معنى الممدود ثلاثة أقوال
أحدها كثيرا قاله أبو عبيدة والثاني دائما قاله ابن قتيبة والثالث غير منقطع قاله الزجاج
وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال
أحدها غلة شهر بشهر قاله عمر بن الخطاب
والثاني ألف دينار قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير قال الفراء (8/404)
نرى أن الممدود جعل غاية للعدد لأن ألف غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف
والثالث أربعة آلاف قاله قتادة
والرابع أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا قاله قاتل
قوله تعالى وبنين شهودا أي حضروا معه لا يحتاجون إلى التصرف والسفر فيغيبوا عنه وفي عددهم أربعة أقوال
أحدها عشرة قاله مجاهد وقتادة والثاني ثلاثة عشر قاله ابن جبير والثالث اثنا عشر قاله السدي والرابع سبعة قاله مقاتل ومهدت له تمهيدا أي بسطت له العيش وطول العمر ثم يطمع أن أزيد فيه قولان أحدهما يطمع أن أدخله الجنة قاله الحسن والثاني أن أزيده من المال والولد قاله مقاتل
قوله تعالى كلا أي لا أفعل فمنعه الله المال والولد حتى مات فقيرا إنه كان لآياتنا عنيدا أي معاندا
وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن قاله ابن جبير والثاني الحق قاله مجاهد والثالث رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله السدي
وقوله تعالى سأرهقه صعودا قال الزجاج سأحمله على مشقة من العذاب وقال غيره سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له منها وقال ابن قتيبة الصعود (8/405)
العقبة الشاقة وكذلك الكؤود وفي حديث أبي سعيد عن نبي الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى سأرهقه صعودا قال جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع رجله عليها ذابت فإذا رفعها عادت يصعد سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا وذكر ابن السائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها فذلك دأبه أبدا يجذب من أمامه سلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين سنة
قوله تعالى إنه فكر أي تفكر ماذا يقول في القرآن وقدر القول في نفسه فقتل أي لعن كيف قدر ثم قتل كيف قدر أي لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام وقيل كيف ها هنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ وإنما كرر تأكيدا ثم نظر في طلب ما يدفع به القرآن ويرده ثم عبس وبسر قال اللغويون أي كره وجهه وقطب يقال بسر الرجل وجهه أي قبضه وأنشدوا لتوبة (8/406)
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها ...
قال المفسرون كره وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في الشيء ثم أدبر عن الإيمان واستكبر أي تكبر حين دعي إليه فقال إن هذا أي ما هذا القرآن إلا سحر يؤثر أي يروى عن السحرة إن هذا إلا قول البشر أي من كلام الإنس وليس من كلام الله تعالى فقال الله تعالى سأصليه سقر أي سأدخله النار وقد ذكر سقر في سورة القمر 48 وما أدراك ما سقر لعظم شأنها لا تبقي ولا تذر أي لا تبقي لهم لحما إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا خلقا جديدا لواحة أي مغيرة يقال لاحته الشمس أي غيرته وأنشدوا ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر ...
ابن مسعود وابن السميفع وابن أبي عبلة لواحة بالنصب وفي البشر قولان
أحدهما أنه جمع بشرة وهي جلدة الإنسان الظاهرة وهذا قول مجاهد والفراء والزجاج
والثاني أنهم الإنس من أهل النار قاله الأخفش وابن قتيبة في آخرين
قوله تعالى عليها تسعة عشر وهم خزانها مالك ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين (8/407)
منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر قد نزعت منهم الرحمة فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل يخوفكم محمد بتسعة عشر أما له من الجنود إلا هؤلاء أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم ثم يخرجون من النار فقال أبو الأشدين قال مقاتل اسمه أسيد بن كلدة وقال غيره كلدة بن خلف الجمحي يا معشر قريش أنا أمشي بين أيديكم فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر فندخل الجنة فأنزل الله تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة لا أدميين فمن يطيقهم ومن يغلبهم وما جعلنا عدتهم في هذه القلة إلا فتنة أي ضلالة للذين كفروا حتى قالوا ما قالوا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمد حق لأن عدتهم في التوارة تسعة عشر ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا أي تصديقا بمحمد صلى الله عليه و سلم إذ وجدوا ما يخبرهم موافقا لما في كتابهم ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي ولا يشك هؤلاء في عدد الخزنة وليقول الذين في قلوبهم مرض وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه النفاق ذكره الأكثرون
والثاني أنه الشك قاله مقاتل وزعم أنهم يهود أهل المدينة وعنده أن هذه الآية مدنية (8/408)
والثالث أنه الخلاف قاله الحسين بن الفضل وقال لم يكن بمكة نفاق وهذه مكية فأما الكافرون فهم مشركو العرب ماذا أراد الله أي أي شيء أراد الله بهذا الحديث والخبر مثلا والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه ومعنى الكلام يقولون ما هذا من الحديث كذلك أي كما أضل من انكر عدد الخزنة وهدى من صدق يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وأنزل في قول ابي جهل أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر وما يعلم جنود ربك إلا هو يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر قولا محتملا فقال التسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل وأقل الكثير لأن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل ثم رجع إلى ذكر النار فقال تعالى وما هي إلا ذكرى أي ما النار في الدنيا إلا مذكرة لنار الآخرة كلا أي حقا والقمر والليل إذ أدبر قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم إذا أدبر وقرأ نافع وحمزة وحفص والفضل عن عاصم ويعقوب إذ بسكون الذال من غير ألف بعدها أدبر بسكون الدال وبهمزة قبلها وهل عنى القراءتين واحد أم لا فيه قولان
أحدهما أنهما لغتان بمعنى واحد يقال دبر الليل وأدبر ودبر الصيف وأدبر هذا قول الفراء والأخفش وثعلب (8/409)
والثاني أن دبر بمعنى خلف وأدبر بمعنى ولى يقال دبرني فلان جاء خلفي وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة
قوله تعالى إذا أسفر أي أضاء وتبين إنها يعني سقر لإحدى الكبر قال ابن قتيبة الكبر جمع كبرى مثل الأول والأولى والصغر والصغرى وهذا كما يقال إنها لإحدى العظائم قال الحسن والله ما أنذر الله بشيء أوهى منها
وقال ابن السائب ومقاتل أراد بالكبر دركات جهنم السبعة
قوله تعالى نذيرا للبشر قال الزجاج نصب نذيرا على الحال والمعنى إنها لكبيرة في حالة الإنذار وذكر النذير لأن معناه معنى العذاب ويجوز أن يكون نذيرا منصوبا متعلقا بأول السورة على معنى قم نذيرا للبشر
قوله تعالى لمن شاء منكم بدل من قوله تعالى للبشر أن يتقدم أو يتأخر فيه أربعة أقوال
أحدها أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عن معصيته قاله ابن جريج
والثاني أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة قاله السدي
والثالث أن يتقدم في الخير أو يتأخر إلى الشر قاله يحيى بن سلام
والرابع أن يتقدم في الإيمان أو يتأخر عنه والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر (8/410)
كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتنا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة
قوله تعالى كل نفس بما كسبت رهينة فيه ثلاثة أقوال
أحدها كل نفس بالغة مرتهنة بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم قاله علي واختاره الفراء
والثاني كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنون فإنهم في الجنة قاله الضحاك
والثالث كل نفس مرتهنة بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين فإنهم لا يحاسبون قاله ابن جريج
قوله تعالى يتساءلون عن المجرمين قال مقاتل إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار ما سلككم في سقر قال المفسرون سلككم بمعنى أدخلكم وقال مقاتل ما حبسكم فيها قالوا لم نك من المصلين لله في دار الدنيا ولم نك نطعم المسكين أي لم نتصدق لله وكنا نخوض مع الخائضين أهل الباطل والتكذيب وكنا نكذب بيوم الدين أي بيوم الجزاء والحساب حتى أتانا اليقين وهو الموت يقول الله تعالى فما تننعهم (8/411)
شفاعة الشافعين وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين وهذا يدل على نفع الشفاعة لمن آمن فما لهم عن التذكرة معرضين يعني كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه والمعنى لا شيء لهم في الآخرة إذ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به ثم شبههم في نفورهم عنه بالحمر فقال تعالى كأنهم حمر مستنفرة قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم بفتح الفاء والباقون بكسرها قال أبو عبيدة وابن قتيبة من قرأ بفتح الفاء أراد مذعورة استنفرت فنفرت ومن قرأ بكسر الفاء أراد نافرة قال الفراء أهل الحجاز يقولون حمر مستنفرة وناس من العرب يكسرون الفاء والفتح أكثر في كلام العرب وقراءتنا بالكسر أنشدني الكسائي ... احبس حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرة عمدن لغرب ...
وغرب موضع
وفي القسورة سبعة أقوال
أحدها أنه الأسد رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس وبه قال أبو هريرة وزيد بن أسلم وابنه قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه و سلم هربوا منه (8/412)
وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والزجاج قال ابن قتيبة كأنه من القسر والقهر فالأسد يقهر السباع
والثاني أن القسورة الرماة رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال أبو موسى الأشعري ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل وابن كيسان
والثالث أن القسروة حبال الصيادين رواه عكرمة عن ابن عباس
والرابع أنهم عصب الرجال رواه أبو همزة عن ابن عباس واسم ابي حمزة نصر بن عمران الضبعي
والخامس أنه ركز الناس وهذا في رواية عطاء أيضا عن ابن عباس وركز الناس حسهم وأصواتهم
والسادس أنه الظلمة والليل قاله عكرمة
والسابع أنه النبل قاله قتادة
قوله تعالى يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إن سرك أن نتبعك فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتباعك قاله الجمهور
والثاني أنهم أرادوا براءة من النار أن لا يعذبوا بها قاله أبو صالح
والثالث أنهم قالوا كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجده مكتوبا إذا أصبح في رقعة فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت هذه الآية قاله الفراء فقال الله تعالى كلا أي لا يؤتون الصحف بل لا يخافون الآخرة أي لا يخشون عذابها والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام (8/413)
الدلالة كلا أي حقا وقيل معنى كلا ليس الأمر كما يريدون ويقولون إنه تذكرة أي تذكير وموعظة فمن شاء ذكره الهاء عائدة على القرآن فالمعنى فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه ذكره ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال تعالى وما يذكرون إلا أن يشاء الله أي إلا أن يريد لهم الهدى هو أهل التقوى أي أهل أن يتقى وأهل المغفرة أي أهل أن يغفر لمن تاب روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه تلا هذه الآية فقال قال ربكم عز و جل أنا أهل أن أتقى فلا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له (8/414)
سورة القيامة
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيمة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسئل أيان يوم القيمة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنساني يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره
قوله تعالى لا أقسم اتفقوا على أن المعنى أقسم واختلفوا في لا فجعلها بعضهم زائدة كقوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب الحديد 29 وجعلها بعضهم ردا على منكري البعث ويدل عليه أنه أقسم على كون البعث قال ابن قتيبة زيدت لا على نية الرد على المكذبين كما تقول لا والله ما ذاك ولو حذفت جاز ولكنه أبلغ في الرد وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح لأقسم بغير ألف بعد اللام فجعلت لاما دخلت على أقسم وهي قراءة ابن عباس وأبي عبد الرحمن والحسن ومجاهد وعكرمة (8/415)
وابن محيصن قال الزجاج من قرأ لأقسم فاللام لام القسم والتوكيد وهذه القراءة بعيدة في العربية لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون تقول لأضربن زيدا ولا يجوز لأضرب زيدا
قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال الحسن أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية وقال قتادة حكمها حكم الأولى
وفي النفس اللوامة ثلاثة اقوال
أحدها أنها المذمومة قاله ابن عباس فعلى هذا هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم
والثاني أنها النفس المؤمنة قاله الحسن قال لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال
والثالث أنها جميع النفوس قال الفراء ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قال هلا زدت وإن كانت عملت سوءا قال ليتني لم أفعل
قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه المراد بالإنسان ها هنا الكافر وقال ابن عباس يريد أبا جهل وقال مقاتل عدي بن ربيعة وذلك أنه قال أيجمع الله هذه العظام فقال النبي صلى الله عليه و سلم له نعم فاستهزأ (8/416)
منه فنزلت هذه الآية قال ابن الأنباري وجواب القسم محذوف كأنه لتبعثن لتحاسبن فدل قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه على الجواب فحذف
قوله تعالى بلى وقف حسن ثم يبتدأ قادرين على معنى بلى نجمعها قادرين ويصلح نصب قادرين على التكرير بل فليحسبنا قادرين على أن نسوي بنانه وفيه قولان
أحدهما أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحد كخف البعير وحافر الحمار فيعدم الاتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة هذا قول الجمهور (8/417)
والثاني نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت وإن صغرت عظامها ومن قدر على جمع صغار العظام كان على جمع كبارها أقدر هذا قول ابن قتيبة والزجاج وقد بينا معنى البنان في الأنفال 12
قوله تعالى بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فيه قولان
أحدهما يكذب بما أمامه من البعث والحساب قاله ابن عباس
والثاني يقدم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب قاله سعيد بن جبير فعلى هذا يكون المراد بالإنسان المسلم وعلى الأول الكافر
قوله تعالى يسأل أيان يوم القيامة أي متى هو تكذيبا به وهذا هو الكافر فإذا برق البصر قرأ أهل المدينة وأبان عن عاصم برق بفتح الراء والباقون بكسرها قال الفراء العرب تقول برق البصر يبرق وبرق يبرق إذا رأى هولا يفزع منه وبرق أكثر وأجود قال الشاعر ... فنفسك فانع ولا تنعنى ... وداو الكلوم ولا تبرق (8/418)
بالفتح يقول لا تفزع من هول الجراح التي بك قال المفسرون يشخص بصر الكافر يوم القيامة فلا يطرف لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا وقال مجاهد برق البصر عند الموت
قوله تعالى وخسف القمر قال أبو عبيدة كسف وخسف بمعنى واحد أي ذهب ضوؤه
قوله تعالى وجمع الشمس والقمر إنما قال جمع لتذكير القمر هذا قول أبي عبيدة وقال الفراء إنما لم يقل جمعت لأن المعنى جمع بينهما وفي معنى الآية قولان
أحدهما جمع بين ذاتيهما وقال ابن مسعود جمعا كالبعيرين القرينين وقال عطاء بن يسار يجمعان ثم يقذفان في البحر وقيل يقذفان في النار وقيل يجمعان فيطلعان من المغرب
والثاني جمع بينهما في ذهاب نورهما قاله الفراء والزجاج
قوله تعالى يقول الإنسان يعني المكذب بيوم القيامة أين المفر قرأ الجمهور بفتح الميم والفاء وقرأ ابن عباس ومعاوية وأبو رزين وأبو عبد الرحمن والحسن وعكرمة والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة (8/419)
بكسر الفاء قال الزجاج فمن فتح فالمعنى أين الفرار ومن كسر فالمعنى أين مكان الفرار تقول جلست مجلسا بالفتح يعني جلوسا فإذا قلت مجلسا بالكسر فأنت تريد المكان
قوله تعالى كلا لا وزر قال ابن قتيبة لا ملجأ واصل الوزر الجبل الذي يمتنع فيه إلى ربك يومئذ المستقر أي المنتهى والمرجع
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر فيه ستة أقوال
أحدها بما قدم قبل موته وما سن من شيء فعمل به بعد موته قاله ابن مسعود وابن عباس
والثاني ينبأ بأول عمله وآخره قاله مجاهد
والثالث بما قدم من الشر وأخر من الخير قاله عكرمة
والرابع بما قدم من فرض وأخر من فرض قاله الضحاك
والخامس بما قدم من معصية وأخر من طاعة
والسادس بما قدم من أمواله وما خلف للورثة قاله زيد بن أسلم
قوله تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة قال الفراء المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة أي رقباء يشهدون عليه بعمله وهي الجوارح قال ابن قتيبة فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه وقال أبو عبيدة جاءت الهاء في بصيرة في صفة الذكر كما جاءت في رجل راوية و طاغية وعلامة
قوله تعالى ولو ألقى معاذيره في المعاذير قولان
أحدهما أنه جمع عذر فالمعنى لو اعتذر وجادل عن نفسه فعليه من يكذب عذره وهي الجوارح وهذا قول الأكثرين (8/420)
والثاني أن المعاذير جمع معذار وهو الستر والمعاذير الستور فالمعنى ولو أرخى ستوره هذا قول الضحاك والسدي والزجاج فيخرج في معنى ألقى قولان
أحدهما قال ومنه فألقوا إليهم القول النحل 36 وهذا على القول الأول
والثاني أرخى وهذا على القول الثاني
لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة
قوله تعالى لا تحرك به لسانك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان النبي ص - يعالج من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي مخافة أن لا يحفظه فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه إن علينا جمعه وقرآنه قال ابن قتيبة أي ضمه وجمعه في صدرك فإذا قرأناه أي جمعناه فاتبع قرآنه أي جمعه قال المفسرون (8/421)
يعني اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته قال ابن عباس فاتبع قرآنه أي اعمل به وقال قتادة فاتبع حلاله وحرامه ثم إن علينا بيانه فيه أربعة أقوال
أحدها نبينه بلسانك فتقرؤه كما أقرأك جبريل وكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله قاله ابن عباس
والثاني إن علينا أن نجزي به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد قاله الحسن
والثالث إن علينا بيان ما فيه من الأحكام والحلال والحرام قاله قتادة
والرابع علينا أن ننزله قرآنا عربيا فيه بيان للناس قاله الزجاج
قوله تعالى كلا قال عطاء أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه وقال ابن جرير المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تبعثون ولكن دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للعاجلة
قوله تعالى بل تحبون العاجلة قرأ ابن كثير وأبو عمرو بل يحبون العاجلة ويذرون بالياء فيهما وقرأ الباقون بالتاء فيهما والمراد كفار مكة يحبونها ويعملون لها ويذرون الآخرة أي يتركون العمل لها إيثارا للدنيا عليها
قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة أي مشرقة بالنعيم إلي ربها ناظرة روى عطاء عن ابن عباس قال إلى الله ناظرة قال الحسن حق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق وهذا مذهب عكرمة ورؤية الله عز و جل (8/422)
حق لا شك فيها والأحاديث فيها صحاح قد ذكرت جملة منها في المغنى والحدائق
قوله تعالى ووجوه يومئذ باسرة قال ابن قتيبة أي عابسة مقطبة
قوله تعالى تظن قال الفراء أي تعلم والفاقرة الداهية قال ابن قتيبة إنه من فقارة الظهر كأنها تكسره يقال فقرت الرجل إذا كسرت فقاره كما يقال رأسته إذا ضربت رأسه وبطنته إذا ضربت بطنه قال ابن زيد والفاقرة دخول النار قال ابن السائب هي أن تحجب عن ربها فلا تنظر إليه
كلا إذ بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى الم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى
قوله تعالى كلا قال الزجاج كلا ردع وتنبيه المعنى ارتدعوا (8/423)
عما يؤدي إلى العذاب وقال غيره معنى كلا لا يؤمن الكافر بهذا
قوله تعالى إذا بلغت يعني النفس وهذه كناية عن غير مذكور والتراقي العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال وواحدة التراقي ترقوة ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت وقيل من راق فيه قولان
أحدهما أنه قول الملائكة بعضهم لبعض من يرقى روحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس وبه قال أبو العالية ومقاتل
والثاني أنه قول أهله هل من راق يرقيه بالرقى وهو مروي عن ابن عباس أيضا وبه قال عكرمة والضحاك وابو قلابة وقتادة وابن زيد وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج
قوله تعالى وظن أي ايقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق للدنيا والتفت الساق بالساق فيه خمسة أقوال
أحدها أمر الدنيا بأمر الآخرة رواه الوالبي عن ابن عباس وبه قال مقاتل
والثاني اجتمع فيه الحياة والموت قاله الحسن وعن مجاهد كالقولين
والثالث التفت ساقاه في الكفن قاله سعيد بن المسيب
والرابع التفت ساقاه عند الموت قاله الشعبي (8/424)
والخامس الشدة بالشدة قاله قتادة قال الزجاج آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة
قوله تعالى إلى ربك يومئذ المساق أي إلى الله المنتهى فلا صدق ولا صلى قال أبو عبيدة لا ها هنا في موضع لم قال المفسرون هو أبو جهل ولكن كذب وتولى عن الإيمان ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي رجع إليهم يتبختر ويختال قال الفراء يتمطى أي يتبختر لأن الظهر هو المطا فيلوي ظهره متبخترا وقال ابن قتيبة أصله يتمطط فقلبت الطاء فيه ياء كما قيل يتظنى واصله يتظنن ومنه المشية المطيطاء واصل الطاء في هذا كله دال إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر يقال مططت ومددت بمعنى
قوله تعالى أولى لك فأولى قال ابن قتيبة هو تهديد ووعيد وقال الزجاج العرب تقول أولى لفلان إذا دعت عليه بالمكروه ومعناه وليك المكروه يا أبا جهل
قوله تعالى أيحسب الإنسان يعني أبا جهل أن يترك سدى قال ابن قتيبة أي يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب يقال أسديت الشيء أي أهملته ثم دل على البعث بقوله تعالى ألم يك نطفة من مني يمنى قرأ أبن كثير ونافع وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم تمنى بالتاء وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب يمنى بالياء وعن (8/425)
أبو عمرو كالقراءتين وقد شرحنا هذا في النجم 24 ثم كان علقة بعد النطفة فخلق فيه الروح وسوى خلقه فجعل منه أي خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا اليس ذلك الذي فعل هذا بقادر وقرأ أبو بكر الصديق وأبو رجاء وعاصم الجحدري يقدر على أن يحيي الموتى وهذا تقرير لهم أي إن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة قال ابن عباس إذا قرأ أحدكم هذه الآية فليقل اللهم بلى (8/426)
سورة الدهر
سورة هل أتى ويقال لها سورة الإنسان
وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها مدنية كلها قاله الجمهور منهم مجاهد وقتادة
والثاني مكية قاله ابن يسار ومقاتل وحكي عن ابن عباس
والثالث أن فيها مكيا ومدنيا ثم في ذلك قولان
أحدهما أن المكي منها آية وهو قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا وباقيها جميعه مدني قاله الحسن وعكرمة
والثاني أن أولها مدني إلى قوله تعالى إنا نحن نزلنا عليك القرآن الإنسان 24 ومن هذه الآية إلى آخرها مكي حكاه الماوردي
بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
قوله تعالى هل أتى قال الفراء معناه قد أتى وهل تكون خبرا وتكون جحدا فهذا من الخبر لأنك تقول هل وعظتك هل (8/427)
أعطيتك فتقرره بأنك قد فعلت ذلك والجحد أن تقول وهل يقدر أحد على مثل هذا وهذا قول المفسرين وأهل اللغة وفي هذا الإنسان قولان
أحدهما أنه آدم عليه السلام والحين الذي أتى عليه أربعون سنة وكان مصورا من طين لم ينفخ فيه الروح هذا قول الجمهور
والثاني أنه جميع الناس روي عن ابن عباس وابن جريج فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس ويكون الحين زمان كونه نطفة وعلقة ومضغة
قوله تعالى لم يكن شيئا مذكورا المعنى أنه كان شيئا غير أنه لم يكن مذكورا
قوله تعالى إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم من نطفة أمشاج قال ابن قتيبة أي أخلاط يقال مشجته فهو مشيج يريد اختلاط ماء المرأة بماء الرجل
قوله تعالى نبتليه قال الفراء هذا مقدم ومعناه التأخير لأن المعنى خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه قال الزجاج المعنى جعلناه كذلك لنختبره وقوله تعالى إنا هديناه السبيل أي بينا له سبيل الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسول إما شاكرا أي خلقناه إما شاكرا وإما كفورا قال (8/428)
الفراء بينا له الطريق إن شكر أو كفر
إنا اعتدنا للكافرين سلاسل واغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقهم الله شر ذلك اليوم ولقهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الآرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدورها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا (8/429)
أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما
قوله تعالى إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة سلاسل بغير تنوين ووقفوا بألف ووقف أبو عمرو بألف قال مكي بن أبي طالب النحوي سلاسل و قوارير أصله ان لا ينصرف ومن صرفه من القراء فإنها لغة لبعض العرب وقيل إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف فصرفه لاتباع خط المصحف قال مقاتل السلاسل في أعناقهم والأغلال في أيديهم وقد شرحنا معنى السعير في النساء 10
قوله تعالى إن الأبرار واحدهم بر وبار وهم الصادقون وقيل المطيعون وقال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر يشربون من كأس أي من إناء فيه شراب كان مزاجها يعني مزاج الكأس كافورا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الكافور المعروف قاله مجاهد ومقاتل فعلى هذا في المراد بالكافور ثلاثة أقوال أحدها برده قاله الحسن والثاني ريحه قاله قتادة والثالث طعمه قاله السدي
والثاني أنه اسم عين في الجنة قاله عطاء وابن السائب
والثالث أن المعنى مزاجها كالكافور لطيب ريحه أجازه الفراء والزجاج
قوله تعالى عينا قال الفراء هي المفسرة للكافور وقال الأخفش هي منصوبة على معنى أعني عينا وقال الزجاج الأجود أن يكون المعنى من عين يشرب بها فيه ثلاثة أقوال (8/430)
أحدها يشرب منها والثاني يشربها والباء صلة والثالث يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها وفي هذه العين قولان
أحدهما أنها الكافور الذي سبق ذكره
والثاني التسنيم و عباد الله ها هنا أولياؤه يفجرونها تفجيرا قال مجاهد يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة قال الفراء حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرها لنفسه
قوله تعالى يوفون بالنذر قال الفراء فيه إضمار كانوا يوفون بالنذر وفيه قولان
أحدهما يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله قاله مجاهد وعكرمة
والثاني يوفون بما فرض الله عليهم قاله قتادة ومعنى النذر في اللغة الإيجاب فالمعنى يوفون بالواجب عليهم ويخافون يوما كان شره مستطيرا قال ابن عباس فاشيا وقال ابن قتيبة فاشيا منتشرا يقال استطار الحريق إذا انتشر واستطار الفجر إذا انتشر الضوء وانشدوا للأعشى ... فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا (8/431)
وقال مقاتل كان شره فاشيا في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس والقمر في الأرض ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل وبناء وفشا شر يوم القيامة فيها
قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما نزلت في علي بن أبي طالب آجر نفسه ليسقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى اصبح فلما قبض الشعير طحن ثلثه واصلحوا منه شيئا يأكلونه فلما استوى أتى مسكين فأخرجوه إليه ثم عمل الثلث الثاني فلما تم أتى يتيم فأطعموه ثم عمل الثلث الباقي فلما استوى جاء أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك فنزلت هذه الآيات رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوما فلما أراد أن يفطر جاء مسكين ويتيم وأسير فأطعمهم ثلاثة أرغفة وبقي له ولأهله رغيف واحد فنزلت فيهم هذه الآية قاله مقاتل (8/432)
وفي هاء الكناية في قوله تعالى على حبه قولان
أحدهما ترجع إلى الطعام فكأنهم كانوا يؤثرون وهم محتاجون إليه وهذا قول ابن عباس ومجاهد والزجاج والجمهور
والثاني ترجع إلى الله تعالى قاله الداراني وقد سبق معنى المسكين واليتيم البقرة 83 وفي السير أربعة أقوال
أحدها أنه المسجون من أهل القبلة قاله عطاء ومجاهد وابن جبير والثاني أنه الأسير المشرك قاله الحسن وقتادة والثالث المرأة قاله (8/433)
أبو حمزة الثمالي والرابع العبد ذكره الماوردي
فصل
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك قال وهذا منسوخ بآية السيف وليس هذا القول لبشيء فإن في إطعام الأسير المشرك ثوابا وهذا محمول على صدقة التطوع فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفار ذكره القاضي أبو يعلى
قوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله أي لطلب ثواب الله قال مجاهد وابن جبير أما إنهم ما تكلموا بهذا ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب
قوله تعال لا نريد منكم جزاء أي بالفعل ولا شكورا بالقول إنا نخاف من ربنا يوما أي ما في يوم عبوسا قال ابن قتيبة أي تعبس فيه الوجوه فجعله من صفة اليوم كقوله تعالى في يوم عاصف ابراهيم أراد عاصف الريح فأما القمطرير فروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه الطويل وروى عنه العوفي أنه قال هو الذي يقبض فيه الرجل ما بين عينيه فعلى هذا يكون اليوم موصوفا بما يجري فيه كما قلنا في العبوس لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين وقال مجاهد وقتادة (8/434)
القمطرير الذي يقلص الوجوه ويقبض الحياة وما بين العين من شدته وقال الفراء هو الشديد يقال يوم قمطرير ويوم قماطر وأنشدني بعضهم ... بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر ...
وقال أبو عبيدة العبوس والمقطرير والقماطر والعصيب والعصبصب أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء
قوله تعالى فوقاهم الله شر ذلك اليوم بطاعتهم في الدنيا ولقاهم نضرة أي حسنا وبياضا في الوجوه وسرورا لا انقطاع له وقال الحسن النضرة في الوجوه والسرور في القلوب وجزاهم بما صبروا على طاعته وعن معصيته جنة وحريرا وهو لباس أهل الجنة متكئين فيها قال الزجاج هو منصوب على الحال أي جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها وقد شرحنا هذا في الكهف 31
قوله تعالى لا يرون فيها شمسا فيؤذيهم حرها ولا زمهريرا وهو البرد الشديد والمعنى لا يجدون فيها الحر والبرد وحكي عن ثعلب أنه قال الزمهرير القمر وأنشد ... وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر ...
أي لم يطلع القمر (8/435)
قوله تعالى ودانية قال الفراء المعنى وجزاهم جنة ودانية عليهم ظلالها أي قريبة منهم ظلال أشجارها وذللت قطوفها تذليلا قال ابن عباس إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول ما يريد وقال غيره قربت إليهم مذللة كيف شاؤوا فهم يتناولونها قياما وقعودا ومضطجعين فهو كقوله تعالى قطوفها دانية الحاقة 23 فأما الأكواب فقد شرحناها في الزخرف 71 كانت قواريرا أي تلك الأكواب هي قوارير ولكنها من فضة قال ابن عباس لو ضربت فضة الدنيا حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة وقال الفراء وابن قتيبة هذا على التشبيه المعنى كأنها من فضة أي لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير وكان نافع والكسائي وابو بكر عن عاصم يقرؤون قواريرا قواريرا فيصلونهما جميعا بالتنوين ويقفون عليهما بالألف وكان ابن عامر وحمزة يصلانهما جميعا بغير تنوين ويقفان عليهما بغير ألف وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين ويقف عليه بالألف ويصل الثاني بغير تنوين ويقف بغير ألف وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ سلاسل و قوارير قوارير يصل الثلاثة بغير تنوين ويقف على الثلاثة بالألف وكان أبو عمرو يقرأ الأول قواريرا فيقف عليه بالألف ويصل بغير تنوين وقال الزجاج الاختيار عند النحويين أن لا يصرف قوارير لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف ومن قرأ قواريرا يصرف الأول علامة رأس آية وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية ومن صرف الثاني أتبع اللفظ اللفظ لأن العرب ربما قلبت إعراب (8/436)
الشيء لتتبع اللفظ اللفظ كما قالوا جحر ضب خرب وإنما الخرب من نعت الجحر
قوله تعالى قدروها تقديرا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو عمران والجحدري وابن يعمر قدروها برفع القاف وكسر الدال وتشديدها وقرأ حميد وعمرو بن دينار قدروها بفتح القاف والدال وتخفيفها
ثم في معنى الآية قولان
أحدهما قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروا قاله الحسن وقال الزجاج جعل الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم
والثاني قدروها على مقدار لا يزيد ولا ينقص قاله مجاهد وقال غيره قدر الكأس على قدر ريهم لا يزيد عن ريهم فيثقل الكف ولا ينقص منه فيطلب الزيادة وهذا ألذ الشراب فعلى هذا القول يكون الضمير في قدروا للسقاة والخدم وعلى الأول للشاربين
قوله تعالى ويسقون فيها يعني في الجنة كأسا كان مزاجها زنجبيلا والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين قال المسيب بن علس يصف فم امرأة ... فكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر (8/437)
وقال آخر ... كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأريا مشارا ...
العسل والمشار المستخرج من بيوت النحل قال مجاهد والزنجبيل اسم العين التي منها شراب الأبرار وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال الزنجبيل معرب وقال الدينوري ينبت في أرياف عمان وهي عروق تسري في الأرض وليس بشجرة تؤكل رطبا وأجود ما يحمل من بلاد الصين قال الزجاج وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور وقيل شراب الجنة عل برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك
قوله تعالى عينا فيها قال الزجاج يسقون عينا وسلسبيل اسم العين إلا أنه صرف لأنه رأس آية وهو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة فكأن العين وصفت وسميت بصفتها وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال قوله تعالى تسمى سلسبيلا قيل هو اسم أعجمي نكرة فلذلك انصرف وقيل هو اسم معرفة إلا أنه أجري لأنه رأس آية وعن مجاهد قال حديدة الجرية وقيل سلسبيل سلس ماؤها مستقيد لهم وقال ابن الأنباري السلسبيل صفة للماء لسلسه وسهولة مدخله في الحلق يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وحكى الماوردي أن عليا قال المعنى سل سبيلا إليها ولا يصح (8/438)
قوله تعالى ويطوف عليهم ولدان مخلدون قد سبق بيانه الواقعة 17 إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا أي في بياض اللؤلؤ وحسنه واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظرا وإنما شبهوا باللؤلؤ المنثور لانتشارهم في الخدمة ولو كانوا صفا لشبهوه بالمنظوم وإذا رأيت ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا أي عظيما واسعا لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه ولا يدخل عليهم ملك إلا باستئذان
قوله تعالى عاليهم قرأ أهل المدينة وحمزة والمفضل عن عاصم بإسكان الياء وكسر الهاء وقرأ الباقون بفتح الياء إلا أن الجعفي عن أبي بكر قرأ عاليتهم بزيادة تاء مضمومة وقرأ أنس بن مالك ومجاهد وقتادة عليهم بفتح اللام وإسكان الياء من غير تاء ولا ألف
قال الزجاج فأما تفسير إعراب عاليهم بإسكان الياء فيكون رفعه بالابتداء ويكون الخبر ثياب سندس وأما عاليهم بفتح الياء فنصبه على الحال من شيئين أحدهما من الهاء والميم والمعنى يطوف على الأبرار ولدان مخلدون عاليا للأبرار ثياب سندس لأنه وصف احوالهم في الجنة فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء ويجوز أن يكون حالا من الولدان المعنى إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب وأما عاليتهم فقد قرئت بالرفع وبالنصب وهما وجهان جيدان في العربية إلا أنهما يخالفان المصحف فلا أرى القراءة بهما وتفسيرها كتفسير عاليهم
قوله تعالى ثياب سندس خضر قرأ ابن عامر وأبو عمرو خضر رفعا وإستبرق خفضا وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم خضر (8/439)
خفضا وإستبرق رفعا وقرأ نافع وحفص عن عاصم خضر وإستبرق كلاهما بالرفع وقرأ حمزة والكسائي خضر وإستبرق كلاهما بالخفض قال الزجاج من قرأ خضر بالرفع فهو نعت الثياب ولفظ الثياب لفظ الجمع ومن قرأ خضر فهو من نعت السندس والسندس في المعنى راجع إلى الثياب ومن قرأ واستبرق فهو نسق على ثياب المعنى وعليهم إستبرق ومن خفض عطفه على السندس فيكون المعنى عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بينا في الكهف 31 معنى السندس والإستبرق والأساور
قوله تعالى وسقاهم ربهم شرابا طهورا فيه قولان
أحدهما لا يحدثون ولا يبولون عن شرب خمر الجنة قاله عطية
والثاني لأن خمر الجنة طاهرة وليست بنجسة كخمر الدنيا قاله الفراء وقال أبو قلابة يؤتون بعد الطعام بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بذلك بطونهم ويفيض من جلودهم عرق مثل ريح المسك
قوله تعالى إن هذا يعني ما وصف من نعيم الجنة كان لكم جزاء بأعمالكم وكان سعيكم أي عملكم في الدنيا بطاعته مشكورا قال عطاء يريد شكرتكم عليه وأثبتكم أفضل الثواب إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا أي فصلناه في الإنزال فلم ننزله جملة واحدة فاصبر لحكم ربك وقد سبق بيانه في مواضع الطور 48 والقلم 48 والمفسرون يقولون هذا منسوخ بآية السيف ولا يصح ولا تطع منهم أي من مشركي أهل مكة آثما أو كفورا أو بمعنى الواو كقوله تعالى أو الحوايا الأنعام 146 وقد سبق هذا وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال (8/440)
أحدها أنهما صفتان لأبي جهل والثاني أن الآثم عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة والثالث الآثم الوليد والكفور عتبة وذلك أنهما قالا له ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج واذكر اسم ربك أي اذكره بالتوحيد في الصلاة بكرة يعني الفجر وأصيلا يعني العصر وبعضهم يقول صلاة الظهر والعصر ومن الليل فاسجد له يعني المغرب والعشاء وسبحه ليلا طويلا وهي صلاة الليل كانت فريضة عليه وهي لأمته تطوع إن هؤلاء يعني كفار مكة يحبون العاجلة أي الدار العاجلة وهي الدنيا ويذرون وراءهم أي أمامهم يوما ثقيلا أي عسيرا شديدا والمعنى أنهم يتركون الإيمان به والعمل له ثم ذكر قدرته فقال تعالى نحن خلقناهم وشددنا أسرهم أي خلقهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والفراء وابن قتيبة والزجاج قال ابن قتيبة يقال امرأة حسنة الأسر أي حسنة الخلق كأنها أسرت أي شدت واصل هذا من الإسار وهو القد الذي تشد به الأقتاب يقال ما أحسن ما أسر قتبه أي ما أحسن ما شده بالقد وروي عن أبي هريرة قال مفاصلهم وعن الحسن قال أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وإذا شئنا بدلنا أمثالهم أي إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم إن هذه تذكرة قد شرحنا الآية في المزمل 19
قوله تعالى وما تشاؤون إيجاد السبيل إلا أن يشاء الله ذلك لكم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وما يشاؤون بالياء (8/441)
قوله تعالى يدخل من يشاء في رحمته قال المفسرون الرحمة ها هنا الجنة والظالمين المشركون قال أبو عبيدة نصب الظالمين بالجوار المعنى ولا يدخل الظالمين في رحمته وقال الزجاج إنما نصب الظالمين لأن قبله منصوبا المعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ويكون قوله تعالى أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر وقرأ أبو العالية وابو الجوزاء وابن أبي عبلة والظالمون رفعا (8/442)
سورة المرسلات
مكية كلها في قول الجمهور
وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي قوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون المرسلات 48
بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدرك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات واسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن (8/443)
لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فيكدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون
قوله تعالى والمرسلات عرفا فيه أربعة أقوال
أحدها أنها الرياح يتبع بعضها بعضا رواه أبو العبيدين عن ابن مسعود والعوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة
والثاني أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه رواه مسروق عن ابن مسعود وبه قال أبو هريرة ومقاتل وقال الفراء هي الملائكة
فأما قوله تعالى عرفا فيقال أرسلت بالمعروف ويقال تتابعت كعرف الفرس والعرب تقول يركب الناس إلى فلان عرفا واحدا إذا توجهوا إليه فأكثروا قال ابن قتيبة يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسل به وأصله من عرف الفرس لأنه سطر مستو بعضه في إثر بعض فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا (8/444)
والثالث أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات وهذا معنى قول أبي صالح ذكره الزجاج
والرابع الملائكة والريح قاله أبو عبيدة قال ومعنى عرفا يتبع بعضها بعضا يقال جاؤوني عرفا وفي العاصفات قولان
أحدهما أنها الرياح الشديدة الهبوب قاله الجمهور
والثاني الملائكة قاله مسلم بن صبيح قال الزجاج تعصف بروح الكافر وفي الناشرات خمسة أقوال
أحدها أنها الرياح تنشر السحاب قاله ابن مسعود والجمهور
والثاني الملائكة تنشر الكتب قاله أبو صالح
والثالث الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد قاله الضحاك
والرابع البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح قاله الربيع
والخامس المطر ينشر النبات حكاه الماوردي (8/445)
وفي الفارقات أربعة أقوال
أحدها الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل قاله الأكثرون
والثاني آي القرآن فرقت بين الحلال والحرام قاله الحسن وقتادة وابن كيسان
والثالث الريح تفرق بين السحاب فتبدده قاله مجاهد
والرابع الرسل حكاه الزجاج
فالملقيات ذكرا قولان
أخدهما الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء وهذا مذهب ابن عباس وقتادة والجمهور
والثاني الرسل يلقون ما أنزل عليهم إلى الأمم قاله قطرب
قوله تعالى عذرا أو نذرا قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم عذرا خفيفا أو نذرا مثقلا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص وخلف عذرا أو نذرا خفيفتان قال الفراء وهو مصدر مثقلا كان أو مخففا ونصبه على معنى أرسلت بما أرسلت به إعذارا من الله وإنذارا وقال الزجاج المعنى فالملقيات عذرا أو نذرا ويجوز أن يكون المعنى فالملقيات ذكرا للإعذار والإنذار وهذه المذكورات مجرورات بالقسم وجواب القسم إنما توعدون لواقع قال المفسرون (8/446)
إن ما توعدون به من أمر الساعة والبعث والجزاء لواقع أي لكائن ثم ذكر متى يقع فقال تعالى فإذا النجوم طمست أي محي نورها وإذا السماء فرجت أي شقت وإذا الجبال نسفت قال الزجاج أي ذهب بها كلها بسرعة يقال انتسفت الشيء إذا أخذته بسرعة
قوله تعالى وإذا الرسل أقتت قرأ أبو عمر وقتت بواو مع تشديد القاف ووافقه أبو جعفر إلا أنه خفف القاف وقرأ الباقون أقتت بألف مكان الواو مع تشديد القاف قال الزجاج وقتت وأقتت بمعنى واحد فمن قرأ أقتت بالهمز فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن تبدل منها همزة وقال الفراء الواو إذا كانت أول حرف وضمت همزت تقول صلى القوم أحدانا وهذه اجوه حسان ومعنى أقتت جمعت لوقتها يوم القيامة وقال ابن قتيبة جمعت لوقت وهو يوم القيامة وقال الزجاج جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة
قوله تعالى لأي يوم أجلت أي أخرت وضرب الأجل لجمعهم يعجب العباد من هول ذلك اليوم ثم بينه فقال تعالى ليوم الفصل وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ثم عظم ذلك اليوم بقوله وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين بالبعث ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذبة فقال ألم نهلك الأولين يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم ثم نتبعهم الآخرين والقراء على رفع العين في نتبعهم وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين قال الفراء نتبعهم مرفوعة ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود وسنتبعهم الآخرين ولو جزمت (8/447)
على معنى ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجها جيدا وقال الزجاج الجزم عطف على نهلك ويكون المعنى لمن أهلك أولا وآخرا والرفع على معنى ثم نتبع الأول الآخر من كل مجرم وقال مقاتل ثم نتبعهم الآخرين يعني كفار مكة حين كذبوا بالنبي صلى الله عليه و سلم وقال ابن جرير الأولون قوم نوح وعاد وثمود والآخرون قوم إبراهيم ولوط ومدين
قوله تعالى كذلك أي مثل ذلك نفعل بالمجرمين يعني المكذبين
فإن قيل ما الفائدة في تكرار قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين
فالجواب أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى لأنه كلما ذكر شيئا قال ويل يومئذ للمكذبين بهذا
قوله تعالى ألم نخلقكم قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف وقرأ الباقون بإدغامها
قوله تعالى من ماء مهين أي ضعيف فجعلناه في قرار مكين يعني الرحم إلى قدر معلوم وهو مدة الحمل فقدرنا قرأ أهل المدينة والكسائي فقدرنا بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهل بينهما فرق
فيه قولان
أحدهما أنهما لغتنان بمعنى واحد قال الفراء تقول العرب قدر عليه وقدر عليه وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال لو كانت مشددة لقال فنعم المقدرون فأجاب الفراء فقال قد تجمع العرب بين اللغتين كقوله تعالى فمهل الكافرين أمهلهم رويدا الطارق 17 قال الشاعر (8/448)
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا ...
يقول ما أنكرت إلا ما يكون في الناس
والثاني أن المخففة من القدرة والملك والمشددة من التقدير والقضاء ثم بين لهم صنعه ليعتبروا فيوجدوه فقال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا قال اللغويون الكفت في اللغة الضم والمعنى أنها تضم أهلها أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها قال ابن قتيبة يقال اكفت هذا إليك أي ضمه وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة يضم الموتى
وفي قوله تعالى أحياء وأمواتا قولان
أحدهما أن المعنى تكفتهم أحياء وأمواتا قاله الجمهور قال الفراء وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم كأنك قلت ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات فإذا نونت نصب تكما يقرأ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما البلد 14 وقال الأخفش انتصب على الحال
والقول الثاني أن المعنى ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات والعمارة وأمواتا بالخراب واليبس هذا قول مجاهد وأبي عبيدة
قوله تعالى وجعلنا فيها رواسي قد سبق بيان شامخات أي عاليات وأسقيناكم قد سبق معنى أسقينا الحجر 22 والجن 16 ومعنى الفرات الفرقان 53 وفاطر 12 والمعنى إن هذه الأشياء اعجب من البعث ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون في الدنيا وهو النار انطلقوا إلى ظل قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر وقرأ أبي بن كعب (8/449)
وابي عمران ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي قال ابن قتيبة والظل ها هنا ظل من دخان نار جهنم سطع ثم افترق ثلاث فرق وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار لا ظليل أي لا يظلكم من حر هذا اليوم بل يدنيكم من لعب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس قال مجاهد تكون شعبة فوق الإنسان وشعبة عن يمينه وشعبة عن شماله فتحيط به وقال الضحاك الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار
قوله تعالى ولا يغني من اللهب أي لا يدفع عنكم لهب جهنم ثم وصف النار فقال تعالى إنها ترمي بشرر وهو جمع شررة وهو ما يتطاير من النار متفرقا كالقصر قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنية وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهو قول الجمهور وقرأ ابن عباس وأبو رزين ومجاهد وأبو الجوزاء كالقصر بفتح الصاد وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء فنسميه القصر قال ابن قتيبة من فتح الصاد أراد أصول النخل المقطوعة المقلوعة قال الزجاج أراد أعناق الإبل وقرأ سعد ابن أبي وقاص وعائشة وعكرمة وأبو مجلز وأبو المتوكل وابن يعمر كالقصر بفتح القاف وكسر الصاد وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة والنخعي كالقصر برفع القاف والصاد جميعا وقرأ أبو الدرداء وسعيد بن (8/450)
جبير كالقصر بكسر القاف وفتح الصاد وقرأ ابو العالية وأبو عمران وأبو نهيك ومعاذ القارئ كالقصر بضم القاف وإسكان الصاد
قوله تعالى كأنه جمالات قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم جمالات بألف وكسر الجيم وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم جمالة على التوحيد وقرأ رويس عن يعقوب جمالات بضم الجيم وقرأ أبو رزين وحميد وابو حيوة جمالة برفع الجيم على التوحيد قال الزجاج من قرأ جمالات بالكسر فهو جمع جمال كما تقول بيوت وبيوتات وهو جمع الجمع فالمعنى كأن الشرارات كالجمالات ومن قرأ جمالات بالضم فهو جمع جمالة ومن قرأ جمالة فهو جمع جمل وجمالة كما قيل حجر وحجارة وذكر وذكارة وقرئت جمالة على ما فسرناه في جمالات بالضم والصفر ها هنا السود يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة إبل صفر وقال الفراء الصفر سود الإبل لا يرى الأسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة فلذلك سمت العرب سود الإبل صفرا كما سموا الظباء أدما لما يعلوها من الظلمة في بياضها
قوله تعالى هذا يوم لا ينطقون قال المفسرون هذا في بعض مواقف القيامة قال عكرمة تكلموا واختصموا ثم ختم على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم فحينئذ لا ينطقون بحجة تنفعهم وقرأ ابو رجاء والقاسم ابن محمد والأعمش وابن أبي عبلة هذا يوم لا ينطقون بنصب الميم
قوله تعالى هذا يوم الفصل أي بين أهل الجنة وأهل النار جمعناكم يعني مكذبي هذه الأمة والأولين من المذكبين الذين كذبوا أنبياءهم (8/451)
فإن كان لكم كيد فكيدون أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب أي إن قدرتم على حيلة فاحتالوا لأنفسكم ثم ذكر ما للمؤمنين فقال تعالى إن المتقين في ظلال يعني ظلال الشجر وظلال أكنان القصور وعيون الماء وهذا قد تقدم بيانه إلى قوله تعالى كلوا أي ويقال لهم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله ثم قال لكفار مكة كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا إلى منتهى آجالكم إنكم مجرمون أي مشركون بالله
قوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا فيه قولان
أحدهما أنه حين يدعون إلى السجود يوم القيامة رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم اركعوا أي صلوا لا يركعون أي لا يصلون وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين وهو الأصح وقيل نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصلاة فقالوا لا نحني فإنها مسبة علينا فقال لا خير في دين ليس فيه ركوع
قوله تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون أي إن لم يصدقوا بهذا القرآن فبأي كتاب بعده يصدقون ولا كتاب بعده تم بعون الله تعالى وتوفيقه الجزء الثامن من كتاب زاد المسير في علم التفسير للإمام ابن الجوزي ويليه 444الجزء التاسع وأوله تفسير سورة النبأ (8/452)