الذبن آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام
قوله تعالى وقال الشيطان قال المفسرون يعني به إبليس لما قضي الأمر أي فرغ منه فدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فحينئذ يجتمع أهل النار باللوم على إبليس فيقوم فيما بينهم خطيبا ويقول إن الله وعدكم وعد الحق أي وعدكم كون هذا اليوم فصدقكم ووعدتكم أنه لا يكون فأخلفتكم الوعد وما كان لي عليكم من سلطان أي ما أظهرت لكم حجة على ما ادعيت وقال بعضهم ما كنت أملككم فأكرهكم إلا أن دعوتكم وهذا من الأستثناء المنقطع والمعنى لكن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم حيث أجبتموني من غير برهان ما أنا بمصرخكم أي بمغيثكم وما أنتم بمصرخي أي بمغيثي قرأ حمزة بمصر خي فحرك الياء إلى الكسر وحركها الباقون إلى الفتح قال قطرب هي لغة في بني يربوع يعني قراءة حمزة قال اللغويون يقال أستصرخني فلان فأصرخته أي أستغاثني فأغثته إني كفرت اليوم باشراككم إياي في الدنيا مع الله في الطاعة إن الظالمين يعني المشركين
قوله تعالى باذن ربهم أي بأمر ربهم وقوله تحيتهم فيها سلام قد ذكرناه في يونس 10
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون
قوله تعالى ألم تر كيف ضرب الله مثلا قال المفسرون ألم تر بعين (4/357)
قلبك فتعلم باعلامي إياك كيف ضرب الله مثلا أي بين شبها كلمة طيبة قال ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة أي طيبة الثمرة فترك ذكر الثمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال
أحدها أنها النخلة وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ص - وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود وأنس بن مالك ومجاهد وعكرمة والضحاك في آخرين
والثاني أنها شجرة في الجنة رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والثالث أنها المؤمن وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله السماء وقوله تؤتي أكلها كل حين فالمؤمن يذكر الله كل ساعة من النهار رواه عطية عن ابن عباس
قوله تعالى أصلها ثابت أي في الأرض وفرعها أعلاها عال في السماء أي نحو السماء وأكلها ثمرها وفي الحين ها هنا ستة أقوال (4/358)
أحدها أنه ثمانية أشهر قال علي عليه السلام
والثاني ستة أشهر رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه بكرة وعشية رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والرابع أنه السنة روي عن ابن عباس أيضا وبه قال مجاهد وابن زيد
والخامس أنه شهران قاله سعيد بن المسيب
والسادس أنه غدوة وعشية وكل ساعة قاله ابن جرير
فمن قال ثمانية أشهر أشار إلى مدة حملها باطنا وظاهرا ومن قال ستة أشهر فهي مدة حملها إلى حين صرامها ومن قال بكرة وعشية أشار إلى الأجتناء منها ومن قال سنة أشار إلى أنها لاتحمل في السنة إلا مرة ومن قال شهران فهو مدة صلاحها قال ابن المسيب لا يكون في النخلة أكلها إلا شهرين ومن قال كل ساعة أشار إلى أن ثمرتها تؤكل دائما قال قتادة تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف قال ابن جرير الطلع في الشتاء من أكلها والبلح والبسر والرطب والتمر في الصيف
فأما الحكمة في تمثيل الإيمان بالنخلة فمن أوجه
أحدها أنها شديدة الثبوت فشبه ثبات الإيمان في قلب المؤمن بثباتها
والثاني أنها شديدة الأرتفاع فشبه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها
والثالث أن ثمرتها تأتي كل حين فشبه ما يكسب المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها فالمؤمن كلما قال لا إله إلا الله صعدت إلى السماء ثم جاءه خيرها ومنفعتها (4/359)
والرابع أنها أشبه الشجر بالإنسان فان كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها إلا هي إذا قطع رأسها يبست ولأنها لاتحمل حتى تلقح ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يروى
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
قوله تعالى ومثل كلمة خبيثة قال ابن عباس هي الشرك
وقوله كشجرة خبيثة فيها خمسة أقوال
أحدها أنها الحنظلة رواه أنس بن مالك عن النبي ص - وبه قال أنس ومجاهد
والثاني أنها الكافر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروى العوفي عنه أنه قال الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد إلى الله تعالى فليس له أصل في الأرض ثابت ولا فرع في السماء
والثالث أنها الكشوثى رواه الضحاك عن ابن عباس
والرابع أنه مثل وليست بشجرة مخلوقة رواه أبوظبيان عن ابن عباس (4/360)
والخامس أنها الثوم روي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى اجتثت قال ابن قتيبة استؤصلت وقطعت قال الزجاج ومعنى اجتثت الشي في اللغة أخذت جثته بكمالها
وفي قوله مالها من قرار قولان
أحدهما مل لها من أصل لم تضرب في الأرض عرقا
والثاني ما لها من ثبات
ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ولا قول طيب ولا لقوله أصل ثابت يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا أي يثبتهم على الحق بالقول الثابت وهو شهادة أن لا إله إلا الله قوله تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيه قولان
أحدهما أن الحياة الدنيا زمان الحياة على وجه الأرض والآخرة زمان المساءلة في القبر وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب وفيه أحاديث تعضده
والثاني أن الحياة الدنيا زمن السؤال في القبر والآخرة السؤال في القيامة وإلى هذا المعنى ذهب طاووس وقتادة قال المفسرون هذه الآية وردت في فتنة القبر وسؤال الملكين وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال وتثبيته إياه على الحق ويضل الله الظالمين يعنى المشركين يضلهم عن هذه الكلمة ويفعل الله ما يشاء من هداية المؤمن وإضلال الكافر (4/361)
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار
قوله تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا في المشار إليهم سبعة أقوال
أحدها أنهم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب
والثاني أنهم منافقو قريش رواه أبو الطفيل عن علي
والثالث بنو أمية وبنو المغيرة ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إلى بدر رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أهل مكة رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والخامس المشركون من أهل بدر قاله جاهد وابن زيد
والسادس أنهم الذين قتلوا ببدر من كفار قريش قاله سعيد بن جبير وأبو مالك
والسابع أنها عامة في جميع المشركين قاله الحسن قال المفسرون وتبديلهم نعمة الله كفرا أن الله أنعم عليهم برسوله وأسكنهم حرمه فكفروا بالله وبرسوله ودعوا قومهم إلى الكفر به فذلك قوله وأحلوا قومهم دار البوار أي الهلاك ثم فسر الدار بقوله جهنم يصلونها أي يقاسون حرها وبئس القرار أي بئس المقر هي
وجعلوا الله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (4/362)
قوله تعالى وجعلوا لله أندادا قد بيناه في سورة البقرة 22 واللام في ليضلوا لام العاقبة وقد سبق شرحها يونس 88 ومن قرأ ليضلوا بضم الياء أراد ليضلوا الناس عن دين الله
قوله تعالى قل تمتعوا أي في حياتكم الدنيا وهذا وعيد لهم قال ابن عباس لو كان الكافر مريضا لا ينام جائعا لا يأكل ولا يشرب لكان هذا نعيما يتمتع به بالقياس إلى ما يصير إليه من العذاب ولو كان المؤمن في أنعم عيش لكان بؤسا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم اليل والنهار وآتيكم من كل ماسأ لتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم
قوله تعالى قل لعبادي الذين آمنوا أسكن ابن عامر وحمزة والكسائي ياء عبادي
قوله تعالى يقيموا الصلاة قاله ابن الأنباري معناه قل لعبادي (4/363)
أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا وينفقوا فحذف الأمران وترك الجوابان قال الشاعر ... فأي امرىء أنت أي امرىء ... إذا قيل في الحرب من يقدم ...
أراد إذا قيل من يقدم تقدم ويجوز أن يكون المعنى قل لعبادي أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا وينفقوا فحذف الأمران وترك الجوابان قال الشاعر ... فأي امرىء أنت أي امرىء ... إذا قيل في الحرب من يقدم ...
أراد إذا قيل من يقدم تقدم ويجوز أن يكون المنهى قل لعبادي أقيموا الصلاة وأنفقوا فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر ويجوز أن يكون المعنى قل لهم ليقيموا الصلاة ولينفقوا فحذف لام الأمر لدلالة قل عليها قال ابن قتيبة والخلال مصدر خاللت فلانا خلالا ومخالة والاسم الخلة وهي الصداقة
قوله تعالى وسخر لكم الأنهار أي ذللها تجري حيث تريدون وتركبون فيها حيث تشاؤون وسخر لكم الشمس والقمر لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفتران ومعنى الدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه وسخر لكم الليل لتسكنوا فيه راحة لأبدانكم والنهار لتنتفعوا بمعاشكم وآتاكم من كل ما سألتموه وفيه خمسة أقوال
أحدها أن المعنى من كل الذي سألتموه قاله الحسن وعكرمة
والثاني من كل ما سألتموه لو سألتوه قاله الفراء
والثالث وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فأضمر الشيء كقوله وأوتيت من كل شيء النمل 23 أي من كل شيء في زمانها شيئا قاله الأخفش
والرابع من كل ما سألتموه وما لم تسألوه لأنكم لم تسألوا شمسا ولا قمرا (4/364)
ولا كثيرا من النعم التي ابتدأ كم بها فاكتفي بالأول من الثاني كقوله سرابيل تقيكم الحر النحل 81 قاله ابن الأنباري
الخامس على قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن وعكرمة وقتادة وأبان عن عاصم وأبي حاتم عن يعقوب من كل ما بالتنوين من غير إضافة فالمعنى آتاكم من كل ما لم تسألوه قاله قتادة والضحاك
قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله أي إنعامه لا تحصوها لا تطيقوا الإتيان على جميعها بالعد لكثرتها إن الإنسان قال ابن عباس يريد أبا جهل وقال الزجاج الإنسان اسم للجنس يقصد به الكافر خاصة
قوله تعالى لظلوم كفار الظلوم هاهنا الشاكر غير من أنعم عليه والكفار الجحود لنعم الله تعالى قوله تعالى اجعل هذا البلد آمنا قد سبق تفسيره في سورة البقرة 126
قوله تعالى واجنبني وبني أي جنبني وإياهم والمعنى ثبتني على اجتناب عبادتها رب إنهن أضللن كثيرا من الناس يعني الأصنام وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ولكنهم لما ضلوا بسببها كانت كأنها أضلتهم فمن تبعني عل ديني التوحيد فانه مني أي فهو على ملتي ومن عصاني فانك غفور رحيم فيه ثلاثة أقوال
أحدها ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم قاله السدي
والثاني ومن عصاني فيما دون الشرك قاله مقاتل بن حيان
والثالث ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى التوحيد قاله مقاتل بن سليمان وقال ابن الأنباري يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يعلمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه (4/365)
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
قوله تعالى ربنا إني أسكنت من ذريتي في من قولان
أحدهما أنها للتبعيض قاله الأخفش والفراء
والثاني أنها للتوكيد والمعنى أسكنت ذريتي ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى بواد غير ذي زرع يعني مكة ولم يكن فيها حرث ولا ماء عند بيتك المحرم إنما سمي محرما لأنه يحرم استحلال محرماته والاستخفاف بحقه فان قيل ما وجه قوله عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدة فالجواب من ثلاثة وجوه
أحدها أن الله تعالى حرم موضع البيت منذ خلق السموات والأرض قاله ابن السائب
والثاني عند بيتك الذي كان قبل أن يرفع أيام الطوفان
والثالث عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث ها هنا ذكرهما ابن جرير وكان أبو سليمان الدمشقي يقول ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إنما بعد أن بني البيت وصارت مكة بلدا والمفسرون على خلاف ما قال وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم العماليق خارجا من (4/366)
مكة والبيت يومئذ ربوة حمراء فقال إبراهيم لجبريل أها هنا أمرت أضعهما قال نعم فأنزلهما في مكان من الحجر وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ثم قال ربنا إني أسكنت من ذريتي الآية وفتح أهل الحجاز وأبو عمرو ياء إني أسكنت
قوله تعالى ربنا ليقيموا الصلاة في متعلق هذه اللام قولان
أحدهما أنها تتعلق بقوله واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فالمعنى جنبهم الأصنام ليقيموا الصلاة هذا قول مقاتل
والثاني أنها تتعلق بقوله أسكنت فالمعنى أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة لأن بيتك قبلة الصلوات ذكره الماوردي
قوله تعالى فاجعل أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس قال ابن الأنباري وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد ومجاورته قال امرؤ القيس ... رمتني بسهم أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل فلم أنتصر ...
وقال آخر ... كأن فؤادي كلما مر راكب ... جناح غراب رام نهضا إلى وكر ...
وقال آخر ... وإن فؤادا قادني لصبابة ... إليك على طول الهوى لصبور ...
يعنون بالفؤاد القلب
قوله تعالى تهوي إليهم قال ابن عباس تحن إليهم وقال قتادة (4/367)
تنزع إليهم وقال الفراء تريدهم كما تقول رأيت فلانا يهوي نحوك أي يريدك وقرأ يعضهم تهوى إليهم بمعنى تهواهم كقوله ردف لكم النمل 72 أي ردفكم وإلى توكيد للكلام وقال ابن الأنباري تهوي إليهم تنحط إليهم وتنحدر وفي معنى هذا الميل قولان
أحدهما أنه الميل إلى الحج قاله الأكثرون
والثاني أنه حب سكنى مكة رواه عطية عن ابن عباس وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال لو كان إبراهيم قال فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجة اليهود والنصارى ولكنه قال من الناس
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء
قوله تعالى ربنا إنك تعلم ما نخفي قال أبو صالح عن ابن عباس ما نخفي من الوجد بمفارقة إسماعيل وما نعلن من الحب له قال المفسرون إنما قال هذا لما نزل إسماعيل الحرم وأراد فراقه
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء
قوله تعالى الحمد لله الذي وهب لي على الكبر أي بعد الكبر إسماعيل وإسحاق قال ابن عباس ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتعسين وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة (4/368)
قوله تعالى ربنا وتقبل دعائي قرأ ابن كثير وأبو عمرة وحمزة وهبيرة عن حفص عن عاصم وتقبل دعائي بياء في الوصل وقال البزي عن ابن كثير يصل ويقف بياء وقال قنبل عن ابن كثير يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف الباقون دعاء بغير ياء في الحالين قال أبو علي الوقف والوصل بياء هو القياس والإشمام جائز لدلالة الكسرة على الياء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
قوله تعالى ربنا اغفر لي ولوالدي قال ابن الأنباري استغفر لأبويه وهما حيان طمعا في أن يهديا إلى الإسلام وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وقرأ ابن مسعود وأبي النخعي والزهري ولولدي يعني إسماعيل وإسحاق يدل عليه ذكرهما قبل ذلك وقرأ مجاهد ولوالدي علي التوحيد وقرأ عاصم الجحدري ولولدي بضم الواو وقرأ يحي بن يعمر والجوني ولولدي بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد يوم يقوم الحساب أي يظهر الجزاء على الأعمال وقيل معناه يوم يقوم الناس للحساب فاكتفي بذكر الحساب من ذكر الناس إذ كان المعنى مفهوما
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
قوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون قال ابن عباس هذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم (4/369)
قوله تعالى إنما يؤخرهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين وقتادة نؤخرهم بالنون أي يؤخر جزاءهم ليوم تشخص فيه الأبصار أي تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض قوله تعالى مهطعين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الإهطاع النظر من غير أن يطرف الناظر رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد والضحاك وأبو الضحى
والثاني أنه الإسراع قاله الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وأبو عبيدة وقال ابن قتيبة يقال أهطع البعير في سيرة واستهطع إذا أسرع
وفي ما أسرعوا إليه قولان أحدهما إلى الداعي قاله قتادة والثاني إلى النار قاله مقاتل
والثالث أن المهطع الذي لا يرفع رأسه قاله ابن زيد وفي قوله مقنعي رؤوسهم قولان
أحدهما رافعي رؤوسهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وأبو عبيدة وأنشد أبو عبيدة ... أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطعما ...
وقال ابن قتيبة المقنع رأسه الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه وقال الزجاج رافعي رؤوسهم ملتصقة بأعناقهم ومهطعين مقنعي رؤوسهم نصب على الحال المعنى ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين (4/370)
والثاني ناكسي رؤوسهم حكاه الماوردي عن المؤرج
قوله تعالى لا يرتد إليهم طرفهم أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة قال ابن قتيبة والمعنى أن نظرهم إلى شيء واحد قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد
قوله تعالى وأفئدتهم هواء الأفئدة مساكن القلوب وفي معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر رواه عطاء عن ابن عباس وقال قتادة خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم فأفئدتهم هواء ليس فيها شيء
والثاني وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث وأفئدتهم منخرقة لا تعى شيئا قاله مرة بن شراحبيل وقال الزجاج متخرقة لا تعي شيئا من الخوف
والرابع وأفئدتهم جوف لا عقول لها قاله أبو عبيدة وأنشد لحسان ... ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء ...
فعلى هذا يكون المعنى أن قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الهول والعرب تسمي كل أجوف خاو هواء قال ابن قتيبة ويقال أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن (4/371)
وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال
قوله تعالى وأنذر الناس أي خوفهم يوم يأتيهم العذاب يعني به يوم القيامة وإنما خصه بذكر العذاب وإن كان فيه ثواب لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعصاة قال ابن عباس يريد بالناس هاهنا أهل مكة
قوله تعالى فيقول الذين ظلموا أي أشركوا ربنا أخرنا إلى أجل قريب أي أمهلنا مدة يسيرة وقال مقاتل سألوا الرجوع إلى الدنيا لأن الخروج من الدنيا قريب نجب دعوتك يعني التوحيد فيقال لهم أولم تكونوا أقسمتم من قبل أي حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال
قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم أي نزلتم في أماكنهم وقراهم كالحجر ومدين والقرى التي عذب أهلها ومعنى ظلموا أنفسهم أي ضروها بالكفر والمعصية وتبين لكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل الناجي وتبين بضم التاء كيف فعلنا بهم يعني كيف عذبناهم يقول فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتبارا بمساكنهم بعدما علمتم فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال قال ابن عباس يريد الأمثال التي في القرآن (4/372)
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام
قوله تعالى وقد مكروا مكرهم في المشار إليهم أربعة أقوال
أحدها أنه نمرود الذي حاج إبراهيم في ربه قال لا أنتهي حتى أنظر إلى السماء فأمر بفرخي نسر فربيا حتى سمنا واستعلجا ثم أمر بتابوت فنحت ثم جعل في وسطه خشبه وجعل على رأس الخشبه لحما شديد الحمرة ثم جوعهما وربط أرجلهما بأوتار إلى قوائم التابوت ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه ثم أرسلهما فجعلا يريدان اللحم فصعدا في السماء ما شاء الله ثم قال لصاحبه افتح وانظر ماذا ترى ففتح فقال أرى الأرض كأنها الدخان فقال له أغلق ثم صعد ما شاء الله ثم قال افتح فانظر ففتح فقال ما أرى إلا السماء وما نزداد منه إلا بعدا قال فصوب خشبتك فصوبها فا نقضت النسور تريد اللحم فسمعت الجبال هدتها فكادت تزول عن مراتبها هذا قول علي ابن أبي طالب وفي رواية عنه كانت النسور أربعة وروى السدي عن أشياخه أنه مازال يصعد إلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر فكأنها فلكة في ماء ثم صعد حتى وقع في ظلمة فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ففزع فصوب اللحم فانقضت النسور فلما نزل أخذ في بناء الصرح ثم صعد منه مع النسور فلما لم يقدر على السماء اتخذه حصنا فأتى الله بنيانه من القواعد وقال عكرمة كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرم بسهم فعاد إليه ملطخا بالدم فقال كفيت إله السماء وذلك من دم سمكة في بحر معلق في الهواء فلما هاله الأرتفاع (4/373)
قال لصاحبه صوب الخشبة فصوبها فانحطت النسور فظنت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت عن مواضعها وقال غيره لما رأت الجبال ذلك ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وأبو مالك
والقول الثاني أنه بختنصر وأن هذه القصة له جرت وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم إلى حيث شاء الله نودي يا أيها الطاغية أين تريد ففرق ثم سمع الصوت فوقه فنزل فلما رأت الجبال ذلك ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول وهذا قول مجاهد
والثالث أن المشار إليهم الأمم المتقدمة قال ابن عباس وعكرمة مكرهم شركهم
والرابع أنهم الذين مكروا برسول الله ص - حين هموا بقتله وإخراجه
وفي قوله وعند الله مكرهم قولان
أحدهما أنه محفوظ عنده حتى يجازيهم به قاله الحسن وقتادة
والثاني وعند الله جزاء مكركم
قوله تعالى وإن كان مكرهم وقرأ ابو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي وابن عباس وعكرمة وأبو العالية وإن كان مكرهم بالدال لتزول منه الجبال وقرأ الأكثرون لتزول بكسر اللام الأولى من لتزول وفتح الثانية أراد وما كان مكرهم لتزول من الجبال أي هو أضعف وأوهن كذلك فسرها الحسن البصري وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام الأولىوضم الثانية أراد قد كادت الجبال تزول من مكرهم كذلك فسرها ابن الأنباري
وفي المراد بالجبال قولان
أحدهما أنها الجبال المعروفة قاله الجمهور
والثاني أنها ضربت مثلا لأمر النبي ص - وثبوت دينه كثبوت الجبال (4/374)
الراسية والمعنى لو بلغ كيدهم إلى إزالة الجبال لما زال أمر الأسلام قاله الزجاج
قال أبو علي ويدل على صحة هذا قوله فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله أي فقد وعدك الظهور عليهم قال ابن عباس يريد بوعده النصر والفتح والنصر وإظهار الدين إن الله عزيز أي منيع ذو انتقام من الكافرين وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار
قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض وروى أبان يوم نبدل بالنون وكسر الدال الأرض بالنصب والسموات بخفض التاء ولا خلاف في نصب غير
وفي معنى تبديل الأرض قولان
أحدهما أنها تلك الأرض وإنما يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وقد روى أبو هريرة عن النبي ص - يوم تبدل الأرض غير الأرض قال ببسطها ويمدها مد الأديم (4/375)
والثاني أنها تبدل بغيرها ثم فيه أربعة أقوال أحدها أنها تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وعطاء عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثاني أنها تبدل نارا قاله أبي بن كعب
والثالث أنها تبدل بأرض من فضة قاله أنس بن مالك
والرابع تبدل بخبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه قاله أبوهريرة وسعيد بن جبير والقرظي وقال غيرهم يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغ من حسابهم
فأما تبديل السموات فيه ستة أقوال
أحدها أنها تجعل من ذهب قاله علي عليه السلام
والثاني أنها تصير جنانا قاله أبي بن كعب
والثالث أن تبديلها تكوير شمسها وتناثر نجومها قاله ابن عباس
والرابع أن تبديلها اختلاف أحوالها فمرة كالمهل ومرة تكون كالدهان قاله ابن الأنباري
والخامس أن تبديلها أن تطوى كطي السجل للكتاب
والسادس أن تنشق فلا تظل ذكرهما الماوردي
قوله تعالى وبرزوا لله الواحد القهار أي خرجوا من القبور
وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب
قوله تعالى وترى المجرمين يعني الكفار مقرنين يقال قرنت الشيء إلى الشيء إذا وصلته به (4/376)
وفي معنى مقرنين ثلاثة أقواال
أحدها أنهم يقرنون مع الشياطين قاله ابن العباس
والثاني أن أيديهم وأرجلهم قرنت إلى رقابهم قاله ابن زيد
والثالث يقرن بعضهم إلى بعض قاله ابن قتيبة
وفي الأصفاد ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأغلال قاله ابن عباس وابن زيد وأبو عبيدة وابن قتيبة وابن الأنباري
والثاني القيود والأغلال قاله قتادة
والثالث القيود قاله أبو سليمان الدمشقي
فأما السرابيل فقال أبو عبيدة هي القمص واحدها سربال وقال الزجاج السربال كل ما لبس وفي القطران ثلاث لغات فتح القاف وكسر الطاء وفتح القاف مع تسكين الطاء وفي معناه قولان
أحدهما أنه النحاس المذاب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه قطران الإبل قاله الحسن وهو شيء يتحلب من شجر تهنأ به الأبل قال الزجاج وإنما جعل لهم القطران لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله تعالى المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم ما يعرفون حقيقته وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو مجاز وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة وأبو حاتم عن يعقوب من قطر بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين آن بقطع الهمزة وفتحها ومدها والقطر النحاس وآن قد انتهت حره (4/377)
قوله تعالى وتغشى وجوهم النار أي تعلوها واللام في ليجزي متعلقة بقوله وبرزوا
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب
قوله تعالى هذا بلاغ للناس في المشار إليه قولان
أحدهما أنه القرآن والثاني الإنذار والبلاغ الكفاية قال مقاتل والمراد بالناس أهل مكة
قوله تعالى ولينذروا به أي أنزل لينذروا به وليعلموا بما فيه من الحجج أنما هو إله واحد وليذكر أي وليتعظ أولو الألباب (4/378)
سورة الحجر وهي مكية كلها من غير خلاف نعلمه
بسم الله الرحمن الرحيم
آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين
قوله تعالى آلر تلك آيات الكتاب قد سبق بيانه يونس 1
قوله تعالى وقرآن مبين فيه قولان
أحدهما ان القرآن هو الكتاب جمع له بين الأسمين
والثاني أن الكتاب هو التوراة والإنجيل والقرآن كتابنا وقد ذكرنا في أول يوسف معنى المبين
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين
قوله تعالى ربما وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ربما مشددة وقرأ نافع وعاصم وعبد الوارث ربما بالتخفيف قال الفراء أسد وتميم يقولون ربما بالتشديد وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون ربما بالتخفيف وتيم الرباب يقولون ربما بفتح الراء وقيل إنما قرئت بالتخفيف لما فيها من التضعيف والحروف (4/379)
المضاعفة قد تحذف نحو إن ولكن فانهم قد خففوها قال الزجاج يقولون رب رجل جاءني ورب رجل جاءني وأنشد ... أزهير إن يشب القذال فانني ... رب هيضل مرس لففت بهيضل ...
هذا البيت لأبي كبير الهذلي وفي ديوانه ... رب هيضل لجب لففت بهيضل ... والهيضل جمع هيضلة وهي الجماعة يغزى بهم يقول لففتهم بأعدائهم في القتال ورب كلمة موضوعة للتقليل كما أن كم للتكثير وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وقال الأخفش أدخل مع رب ما ليتكلم بالفعل بعدها وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء فكأنك قلت رب شيء أي رب ود يوده الذين كفروا وقال أبو سليمان الدمشقي ما ها هنا بمعنى حين فالمعنى رب حين يودون فيه
واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار على قولين
أحدهما أنه في الآخرة ومتى يكون ذلك فيه أربعة أقوال
أحدها أنه إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك الكفار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا رواه أبو موسى الأشعري عن النبي ص (4/380)
وذهب إليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم
والثاني أنه ما يزال الله يرحم ويشفع حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فذلك حين يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين رواه مجاهد عن ابن عباس
والثالث أن الكفار إذا عاينوا القيامة ودوا لو كانوا مسلمين ذكره الزجاج
والرابع أنه كلما رأى أهل الكفر حالا من أحوال القيامة يعذب فيها الكافر ويسلم من مكروهها المؤمن ودوا ذلك ذكره ابن الأنباري
والقول الثاني أنه في الدنيا إذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم ودوا ذلك قاله الضحاك
فان قيل إذا قلتم إن رب للتقليل وهذه الآية خارجه مخرج الوعيد فانما يناسب الوعيد تكثير ما يتواعد به فعنه ثلاثة أجوبة ذكرهما ابن الأنباري
أحدهن أن ربما تقع على التقليل والتكثير كما يقع الناهل على العطشان والريان والجون على الأسود والأبيض
والثاني أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثر عليهم فاذا عادت إليهم عقولهم ودوا ذلك (4/381)
والثالث أن هذا الذي خوفوا به لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب أو كان الإنسان يخاف الندم إذا حصل فيه ولا يتيقنه لوجب عليه اجتنابه
فان قيل كيف جاء بعد ربما مستقبل وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي تقول ربما لقيت عبدالله فالجواب أن ما وعد الله حق فمستقبله بمنزلة الماضي يدل عليه قوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم المائدة 116 وقوله ونادى أصحاب الجنة الأعراف ولو ترى إذا فزعوا فلا فوت سبأ 51 على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون ربما يندم فلان قال الشاعر ... ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال ...
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون
قوله تعالى ذرهم يأكلوا أي دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ويلههم الأمل أي ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإيمان والطاعة فسوف يعلمون إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا وهذا وعيد وتهديد وهذه الآية عند المفسرين منسوخه بآية السيف
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون
قوله تعالى وما أهلكنا من قرية أي ما عذبنا من أهل قرية إلا (4/382)
ولها كتاب معلوم أي أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر عنه ما تسبق من أمة أجلها من صلة والمعنى ما تتقدم وقتها الذي قدر لها بلوغه ولا تستأخر عنه قال الفراء إنما قال أجلها لأن الأمة لفظها مؤنث وإنما قال يستأخرون إخراجا له على معنى الرجال
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين
قوله تعالى وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر قال مقاتل نزلت في عبد الله بن أبي أمية والنضر بن الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة قال ابن عباس والذكر القرآن وإنما قالوا هذا استهزاء لو أيقنوا أنه نزل عليه الذكر ما قالوا إنك لمجنون قال أبو علي الفارس وجواب هه الآية في سورة أخرى في قوله ما أنت بنعمة ربك بمجنون القلم 2
قوله تعالى لو ما تأتينا قال الفراء لوما ولولا لغتان معناهما هلا وكذلك قال أبو عبيدة هما بمعنى واحد وأنشد لابن مقبل ... لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
قال المفسرون إنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه وأن الله أرسله فأجابهم الله تعالى بقوله ماتنزل الملائكة إلا بالحق قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ما تنزل بالتاء المفتوحة الملائكة بالرفع وروى أبو بكر (4/383)
عن عاصم ما تنزل بضم التاء على ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ما ننزل بالنون والزاي المشددة الملائكة نصبا
وفي المراد بالحق أربعة أقوال
أحدها أنه العذاب إن لم يؤمنوا قاله الحسن
والثاني الرساله قاله مجاهد
والثالث قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب
والرابع أنه القرآن حكاه الماوردي
قوله تعالى وما كانوا يعني المشركين إذا منظرين أي عند نزول الملائكة إذا نزلت
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر من عادة الملوك إذا فعلوا شيئا قال أحدهم نحن فعلنا يريد نفسه وأتباعه ثم صار هذا عادة للملك في خطابه وإن انفرد بفعل الشيء فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها والذكر القرآن في قول جميع المفسرين
وفي هاء له قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الذكر قاله الأكثرون قال قتادة أنزله الله ثم حفظه فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولاينقص منه حقا
والثاني أنها ترجع إلى النبي ص - فالمعنى وإنا له لحافظون من الشياطين والأعداء لقولهم إنك لمجنون هذا قول ابن السائب ومقاتل
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين
قوله تعالى ولقد أرسلنا من قبلك يعني رسلا فحذف المفعول (4/384)
لدلالة الإرسال عليه والشيع الفرق وحكي عن الفراء أنه قال الشيعة الأمة المتابعة بعضها بعضا فيما يجتمعون عليه من أمر
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن هذا تعزية للنبي ص - والمعنى إن كل نبي قبلك كان مبتلى بقومه كما ابتليت
كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين
قوله تعالى كذلك نسلكه في المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن زيد
والثاني أنه الأستهزاء قاله قتادة
والثالث التكذيب قاله ابن جريج والفراء
ومعنى الآية كما سلكنا في قلوب شيع الأولين ندخل في قلوب هؤلاء التكذيب فلا يؤمنوا ثم أخبر عن هؤلاء المشركين فقال لايؤمنون به وفي المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الرسول
والثاني القرآن والثالث العذاب
قوله تعالى وقد خلت سنة الأولين فيه قولان
أحدهما مضت سنة الله في إهلاك المكذبين
والثاني مضت سنتهم بتكذيب الأنبياء
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فطلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (4/385)
قوله تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء يعني كفار مكة فظلوا فيه يعرجون أي يصعدون يقال ظل يفعل كذا إذا فعله بالنهار
وفي المشار إليهم بهذا الصعود قولان
أحدهما أنهم الملائكة قاله ابن عباس والضحاك فالمعنى لو كشف عن أبصار هؤلاء فرأوا بابا مفتوحا في السماء والملائكة تصعد فيه لما آمنوا به
والثاني أنهم المشركون قاله الحسن وقتادة فيكون المعنى لو وصلناهم إلى صعود السماء لم يستشعروا إلا الكفر لعنادهم
قوله تعالى لقالوا إنما سكرت أبصارنا قرأ الأكثرون بتشديد الكاف وقرأ ابن كثير وعبد الوارث بتخفيفها قال الفراء ومعنى القراءتين متقارب والمعنى حبست من قولهم سكرت الريح إذا سكنت وركدت وقال أبو عمرو بن العلاء معنى سكرت بالتخفيف مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل مايقع بالرجل السكران من تغير العقل قال ابن الأنباري إذا كان هذا كان معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة وقال أبو عبيد سكرت بالتشديد من السكور التي تمنع الماء الجرية فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري وقال الزجاج سكرت بالتشديد فسروها أغشيت وسكرت بالتخفيف تحيرت وسكنت عن أن تنظر والعرب تقول سكرت الريح تسكر إذا سكنت وروى العوفي عن ابن عباس إنما سكرت أبصارنا قال أخذ بأبصارنا وشبه علينا وإنما سحرنا وقال مجاهد سكرت سدت بالسحر فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى (4/386)
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين
قوله تعالى ولقد جعلنا في السماء بروجا في البروج ثلاثة أقوال
أحدها أنها بروج الشمس والقمر أي منازلها قاله ابن عباس وأبوعبيدة في آخرين قال ابن قتيبة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت
والثاني أنها قصور روي عن ابن عباس أيضا وقال عطية هي قصور في السماء فيها الحرس وقال ابن قتيبة أصل البروج الحصون
والثالث أنها الكواكب قاله مجاهد وقتادة ومقاتل قال أبو صالح هي النجوم العظام قال قتادة سميت بروجا لظهورها
قوله تعالى وزيناها أي حسناها بالكواكب
وفي المراد بالناظرين قولان أحدهما أنهم المبصرون والثاني المعتبرون
قوله تعالى وحفظناها من كل شيطان رجيم أي حفطناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئا إلا استراقا ثم يتبعه الشهاب والرجيم مشروح في آل عمران
واختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه و سلم أم لا على قولين
أحدهما أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه و سلم وهذا المعنى مذكور في رواية (4/387)
سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أخرج في الصحيحين من حديث سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال انطلق رسول الله ص - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك قال الزجاج ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله ص - أن شعراء العرب الذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضة فلما حدثت بعد مولد نبينا ص - استعملت الشعراء ذكرها فقال ذو الرمة ... كذا كوكب في إثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب ...
والثاني أنه قد كان ذلك قبل نبينا ص - فروى مسلم في صحيحه (4/388)
من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال بينما النبي ص - جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ثم يستخبر أهل كل سماء أهل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن ويرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت لا تحجب عن السموات فلما ولد عيسى منعت من ثلاث سموات فلما ولد رسول الله ص - منعوا من السموات كلها وقال الزهري قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله ولكنها غلظت حين بعث ص - وهذا مذهب ابن قتيبة قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن أبي خازم وهو جاهلي ... والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب ...
وقال أوس بن حجر وهو جاهلي (4/389)
فانقض كالدريء يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا ...
قوله تعالى إلا من استرق السمع أي اختطف ما سمعه من كلام الملائكة قال ابن فارس استرق السمع إذا سمع مستخفيا فأتبعه أي لحقه شهاب مبين قال ابن قتيبة كوكب مضيء وقيل مبين بمعنى ظاهر يراه أهل الأرض وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض فأما وحي الله عز و جل فقد صانه عنهم
واختلفوا هل يقتل الشهاب أم لا على قولين
أحدهما أنه يحرق ويخبل ولا يقتل قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنه يقتل قاله الحسن فعلى هذا القول هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع فيه قولان
أحدهما أنه يقتل قبل ذلك فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء قال ابن عباس ولذلك انقطعت الكهانة
والثاني أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجن ولذلك يعودون إلى الاستراق ولو لم يصل لقطعوا الاستراق
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين
قوله تعالى والأرض مددناها أي بسطناها على وجه الماء وألقينا فيها رواسي وهي الجبال الثوابت وأنبتنا فيها في المشار إليه قولان
أحدهما أنها الأرض قاله الأكثرون
والثاني الجبال قاله الفراء (4/390)
وفي قوله ومن كل شيء موزون قولان
أحدهما أن الموزون المعلوم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد ابن جبير والضحاك وقال مجاهد وعكرمة في آخرين الموزون المقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر كأنه قد وزن لأن أهل الدنيا لما كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القدر عنده بأنه موزون وقال الزجاج المعنى أنه جرى على وزن من قدر الله تعالى لا يجاوز ما قدره الله تعالى عليه ولا يستطيع خلق زيادة فيه ولا نقصانا
والثاني أنه عنى به الشيء الذي يوزن كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو ذلك وهذا المعنى مروي عن الحسن وعكرمة وابن زيد وابن السائب واختاره الفراء
قوله تعالى وجعلنا لكم فيها معايش في المشار إليهما قولان
أحدهما أنها الأرض
والثاني أنها الأشياء التي أنبتت والمعايش جمع معيشة والمعنى جعلنا لكم فيها أرزاقا تعيشون بها
وفي قوله تعالى ومن لستم له برازقين أربعة أقوال
أحدها أنه الدواب والأنعام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والثاني الوحوش رواه منصور عن مجاهد وقال ابن قتيبة الوحش والطير والسباع وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم
والثالث العبيد والإماء قاله الفراء
والرابع العبيد والأنعام والدواب قاله الزجاج قال الفراء ومن (4/391)
في موضع نصب فالمعنى جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء ويقال إنها في موضع خفض فالمعنى جعلنا لكم فيها معايش ولمن لمستم له برازقين
وقال الزجاج المعنى جعلنا لكم الدواب والعبيد وكفيتم مؤونة أرزاقها
فان قيل كيف قلتم إن من ها هنا للوحوش والدواب وإنما تكون لمن يعقل فالجواب أنه لما وصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس فيقال للآدمي معاش ولا يقال للفرس معاش جرت مجرى الناس كما قال يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم النمل 18 وقال رأيتهم لي ساجدين يوسف 4 وقال كل في فلك يسبحون الأنبياء وإن قلنا أريد به العبيد والوحوش فانه إذا اجتمع الناس وغيرهم غلب الناس على غيرهم لفضيلة العقل والتمييز
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
قوله تعالى وإن من شيء أي وما من شيء إلا عندنا خزائنه وهذا الكلام عام في كل شيء وذهب قوم من المفسرين إلى أن المراد به المطر خاصة فالمعنى عندهم وما من شيء من المطر إلا عندنا خزائنه أي في حكمنا وتدبيرنا ومما ننزله كل عام إلا بقدر معلوم لايزيد ولا ينقص فما من عام أكثر مطرا من عام غير أن الله تعالى يصرفه إلى من يشاء ويمنعه من يشاء
وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون (4/392)
قوله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح وقرأ حمزة وخلف الريح وكان أبو عبيدة يذهب إلى أن لواقح بمعنى ملاقح فسقطت الميم منه قال الشاعر ... ليبك يزيد بائس لضراعة ... وأشعث ممن طوحته الطوائح ...
أراد المطاوح فحذف الميم فمعنى الآية عنده وأرسلنا الرياح ملقحة فيكون ها هنا فاعل بمعنى مفعل كما أتى فاعل بمعنى مفعول كقوله ماء دافق الطارق 6 أي مدفوق و عيشة راضية الحاقة 21 والقارعة 7 أي مرضية وكقولهم ليل نائم أي منوم فيه ويقولون أبقل النبت فهو باقل أي مبقل قال ابن قتيبة يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشجر وتلقح السحاب كأنها تنتجه ولست أدري ما أضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياح لواقح والريح لاقحا قال الطرماح وذكر بردا مده على أصحابه في الشمس يستظلون به ... قلق لأفنان الرياح ... للاقح منها وحائل ...
فاللاقح الجنوب والحائل الشمال ويسمون الشمال أيضا عقيما والعقيم التي لا تحمل كما سموا الجنوب لا قحا قال كثير ... ومر بسفاسف التراب عقيمها ... يعني الشمال وإنما جعلوا الريح لاقحا أي حاملا لأنها تحمل السحاب (4/393)
وتقلبه وتصرفه ثم تحله فينزل فهي على هذا حامل ويدل على هذا قوله حتى إذا أقلت سحابا الأعراف أي حملت قال ابن الأنباري شبه ما تحمله الريح من الماء وغيره بالولد التي تشتمل عليه الناقة وكذلك يقولون حرب لاقح لما تشتمل عليه من الشر فعلى قول أبو عبيدة يكون معنى لواقح أنها ملقحة لغيرها وعلى قول ابن قتيبة أنها لاقحة نفسها وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول قال عبد الله ابن مسعود يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه ثم تمريه فيدر كما تدر اللقحة وقال الضحاك يبعث الله الرياح على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء قال النخعي تلقح السحاب ولا تلقح الشجر وقال الحسن في آخرين تلقح السحاب والشجر الشجر يعنون أنها تلقح السحاب حتى يمطر والشجر حتى يثمر
قوله تعالى فأنزلنا من السماء يعني السحاب ماء يعني المطر فأسقيناكموه أي جعلناه سقيا لكم قال الفراء العرب مجتمعون على أن يقولوا سقيت الرجل فأنا أسقيه إذا سقيته لشفته فاذا أجروا للرجل نهرا قالوا أسقيته وسقيته وكذلك السقيا من الغيث قالوا فيها سقيت وأسقيت وقال أبو عبيدة كل ما كان من السماء ففيه لغتان أسقاه الله وسقاه الله قال لبيد (4/394)
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال ...
فجاء باللغتين وتقول سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغيره وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف إذا كان في الشفه وإذا جعلت له شربا فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله ولا يكون غير هذا وكذلك إذا استسقيت له كقول ذي الرمة ... وقفت على رسم لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه ...
... وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه ...
فاذا وهبت له إهابا ليجعله سقاء فقد أسقيته إياه
قوله تعالى وما أنتم له يعني الماء المنزل بخازنين وفيه قولان
أحدهما بحافظين أي ليست خزائنه بأيديكم قاله مقاتل
والثاني بمانعين قاله سفيان الثوري
قوله تعالى ونحن الوارثون يعني أنه الباقي بعد فناء الخلق ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشركم إنه حكيم عليم
قوله تعالى ولقد علمنا المستقدمين منكم يقال استقدم الرجل بمعنى تقدم واستأخر بمعنى تأخر
وفي سبب نزولها قولان (4/395)
أحدهما أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله ص - فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أول صف لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف فاذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت هذه الآية رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني أن النبي ص - حرض على الصف الأول فازدحموا عليه وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة لنبيعن دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المتقدم فنزلت هذه الأية ومعناها إنما تجزون على النيات فاطمأنوا وسكنوا رواه أبو صالح عن ابن عباس
وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخرين ثمانية أقوال
أحدها التقدم في الصف الأول والتأخر عنه وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها فعلى الأول هو التقدم للتقوى والتأخر للخيانة بالنظر وعلى الثاني هو التقدم لطلب الفضيلة والتأخر للعذر
والثاني أن المستقدمين من مات والمستأخرين من هو حي لم يمت رواه العوفي عن ابن عباس وخصيف عن مجاهد وبه قال عطاء والضحاك والقرظي
والثالث أن المستقدمين من خرج من الخلق وكان والمستأخرين الذين في أصلاب الرجال رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال عكرمة (4/396)
والرابع أن المستقدمين من مضى من الأمم والمستأخرين أمة محمد ص - رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والخامس أن المستقدمين المتقدمون في الخير والمستأخرون المثبطون عنه قاله الحسن وقتادة
والسادس أن المستقدمين في صفوف القتال والمستأخرين عنها قاله الضحاك
والسابع أن المستقدمين من قتل في الجهاد والمستأخرين من لم يقتل قاله القرظي
والثامن أن المستقدمين أول الخلق والمستأخرين آخر الخلق قاله الشعبي
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان يعني آدم من صلصال وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الطين اليابس الذي لم تصبه النار فاذا نقرته صل فسمعت له صلصلة قاله ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني أنه الطين المنتن قاله مجاهد والكسائي وأبو عبيد ويقال صل اللحم إذا تغيرت رائحته
والثالث أنه طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره قاله الفراء فأما الحمأ فقال أبو عبيدة هو جمع حمأة وهو الطين المتغير وقال ابن الأنباري لا خلاف أن الحمأ الطين الأسود المتغير الريح وروى السدي عن أشياخه قال بل التراب حتى صار طينا ثم ترك حتى أنتن وتغير (4/397)
وفي المسنون أربعة أقوال
أحدها المنتن أيضا رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة في آخرين قال ابن قتيبة المسنون المتغير الرائحة
والثاني أنه الطين الرطب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنه المصبوب قاله أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيد
والرابع أنه المحكوك ذكره ابن الأنباري قال فمن قال المسنون المنتن قال هو من قولهم قد تسنى الشيء إذا أنتن ومنه قوله تعالى لم يتسنه البقرة 259 وإنما قيل له مسنون لتقادم السنين عليه ومن قال الطين الرطب قال سمي مسنونا لأنه يسيل وينبسط فيكون كالماء المسنون المصبوب ومن قال المصبوب احتج بقول العرب قد سننت علي الماء إذا صببته ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال من قوله رأيت سنة وجهه أي صورة وجهه قال الشاعر ... تريك سنة وجهه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب ...
ومن قال المحكوك احتج بقول العرب سننت الحجر على الحجر إذا حككته عليه وسمي المسن مسنا لأن الحديد يحك عليه قال وإنما كررت من لأن الأولى المتعلقة ب خلقنا والثانية متعلقة بالصلصال تقديره ولقد خلقنا الإنسان من الصلصال الذي هو من حمأ مسنون
قوله تعالى والجان فيه ثلاثة أقوال (4/398)
أحدها أنه مسيخ الجن كما أن القردة والخنازير مسيخ الإنس رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني أنه أبو الجن قاله أبو صالح عن ابن عباس وروى عنه الضحاك أنه قال الجان أبو الجن وليسوا بشياطين والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون ومنهم المؤمن ومنهم الكافر
والثالث أنه إبليس قاله الحسن وعطاء وقتادة ومقاتل
فان قيل أليس أبو الجن هو إبليس فعنه جوابان
أحدهما أنه هو فيكون هذا القول هو الذي قبله
والثاني أن الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين فبينهما إذا فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس قال العلماء وإنما سمي جانا لتواريه عن العيون
قوله تعالى من قبل يعني قبل خلق آدم من نار السموم (4/399)
وقال ابن مسعود من نار الريح الحارة وهي جزء من سبعين جزءا من نار جهنم والسموم في اللغة الريح الحارة وفيها نار قال ابن السائب وهي نار لا دخان لها فسجد الملئكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم
قوله تعالى فإذا سويته أي عدلت صورته وأتممت خلقته ونفخت فيه من روحي هذه الروح هي التي يحيا بها الإنسان ولا تعلم ما هيتها وإنما أضافها إليه تشريفا لآدم وهذه إضافة ملك وإنما سمي إجراء الروح فيه نفخا لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه
قوله تعالى فقعوا أمر من الوقوع وقوله كلهم أجمعون قال فيه سيبويه والخليل هو توكيد بعد توكيد وقال المبرد أجمعون يدل على اجتماعهم في السجود فالمعنى سجدوا كلهم في حالة واحدة قال ابن الأنباري (4/400)
وهذا لأن كلا تدل على اجتماع القوم في الفعل ولا تدل على اجتماعهم في الزمان قال الزجاج وقول سيبويه أجود لأن أجمعين معرفة ولا تكون حالا
قوله تعالى وإن عليك اللعنة قال المفسرون معناه يلعنك أهل السماء والأرض إلى يوم الحساب قال ابن الأنباري وإنما قال إلى يوم الدين لأنه يوم له أول وليس له آخر فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى والمعنى عليك اللعنة أبدا
قوله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم يعني المعلوم بموت الخلائق فيه فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم
قوله تعالى لأزينن لهم في الأرض مفعول التزيين محذوف والمعنى لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه ولأغوينهم أي ولأضلنهم والمخلصون الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإخلاص وما أخللنا به من الكلمات هاهنا فقد سبق تفسيرها في الأعراف 16 وغيرها
قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم اختلوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يعني بقوله هذا الإخلاص فالمعنى إن الإخلاص طريق إلي مستقيم و علي بمعنى إلي
والثاني هذا طريق علي جوازه لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج الوعيد كما تقول للرجل تخاصمه طريقك علي فهو كقوله إن ربك لبالمرصاد الفجر 14
والثالث هذا صراط علي استقامته أي أنا ضامن لاستقامته بالبيان (4/401)
والبرهان وقرأ قتادة ويعقوب هذا صراط علي بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها أي رفيع إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم
قوله تعالى إن عبادي فيهم أربعة أقوال
أحدها أنهم المؤمنون والثاني المعصومون رويا عن قتادة والثالث المخلصون قاله مقاتل والرابع المطيعون قاله ابن جرير فعلى هذه الأقوال تكون الآية من العام الذي أريد به الخاص
وفي المراد بالسلطان قولان
أحدهما أنه الحجة قاله ابن جرير فيكون المعنى ليس لك حجة في إغوائهم
والثاني أنه القهر والغلبة إنما له أن يغر ويزين قاله أبو سليمان الدمشقي وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي عنه
قوله تعالى وإن جهنم لموعدهم أجمعين يعني الذين اتبعوه
قوله تعالى لها سبعة أبواب وهي دركاتها بعضها فوق بعض قال علي عليه السلام أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض ووصف الراوي عنه بيده وفتح أصابعه قال ابن جرير لها سبعة أبواب أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم (4/402)
الجحيم ثم الهاوية وقال الضحاك هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون والثاني فيه النصارى والثالث فيه اليهود والرابع فيه الصائبون والخامس فيه المجوس والسادس فيه مشركو العرب والسابع فيه المنافقون قال ابن الأنباري لما اتصل العذاب بالباب وكان الباب من سببه سمي باسمه للمجاورة كتسميتهم الحدث غائطا
قوله تعالى لكل باب منهم أي من أتباع إبليس جزء مقسوم والجزء بعض الشيء إن المتقين في جناب وعيون أدخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين
قوله تعالى إن المتقين في جنات وعيون قد شرحنا في سورة البقرة 2 و 25 معنى التقوى والجنات فأما العيون فهي عيون الماء والخمر والسلسبيل والتسنيم وغير ذلك مما ذكر أنه من شراب الجنة
قوله تعالى ادخلوها بسلام المعنى يقال لهم ادخلوها بسلام وفيه ثلاثة أقوال
أحدها بسلامة من النار والثاني بسلامة من كل آفة والثالث بتحية من الله
وفي قوله آمنين أربعة أقوال
أحدها آمنين من عذاب الله والثاني من الخروج والثالث من الموت والرابع من الخوف والمرض
قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل قد ذكرنا تفسيرها في سورة (4/403)
الأعراف 43 فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول
قوله تعالى إخوانا منصوب على الحال والمعنى أنهم متوادون
فإن قيل كيف نصب إخوانا على الحال فأوجب ذلك أن التآخي وقع مع نزع الغل وقد كان التآخي بينهم في الدنيا
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال ما مضى من التآخي قد كان تشويه ضغائن وشحناء وهذا التآخي بينهم الموجود عند نزع الغل هو تآخي المصافاة والإخلاص ويجوز أن ينتصب على المدح المعنى اذكر إخوانا فأما السرور فجمع سرير قال ابن عباس على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله
قوله تعالى لايمسهم فيها نصب أي لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم
قوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم سبب نزولها ما روى ابن المبارك باسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال طلع علينا رسول الله من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال إني لما (4/404)
خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد يقول الله تعالى لم تقنط عبادي نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتحريك ياء عبادي وياء أني أنا واسكنها الباقون
قوله تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم قد شرحنا القصة في هود 69 وبينا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم وذكرنا معنى الوجل في الأنفال 2
قوله تعالى بغلام عليم أي إنه يبلغ ويعلم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ألا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ألا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل وابع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (4/405)
قوله تعالى قال أبشرتموني أي بالولد على أن مسني الكبر أي على حالة الكبر والهرم فبم تبشرون قرأ أبو عمر وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي تبشرون بفتح النون وقرأ نافع بكسر النون ووافقه ابن كثير في كسرها لكنه شددها وهذا استفهام تعجب كأنه عجب من الولد على كبره قالوا بشرناك بالحق أي بما قضى الله أنه كائن فلا تكن من القانطين يعني الآيسين قال ومن يقنط قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة ومن يقنط بفتح النون في جميع القرآن وقرأ أبو عمرو والكسائي يقنط بكسر النون وكلهم قرؤوا من بعد ما قنطوا الشورى 28 بفتح النون وروى خارجة عن أبي عمرو ومن يقنط بضم النون قال الزجاج يقال قنط يقنط وقنط يقنط والقنوط بمعنى اليأس ولم يكن إبراهيم قانطا ولكنه استبعد وجود الولد قال فما خطبكم أي ما أمركم قالوا إنا أرسلنا أي بالعذاب وقوله إلا آل لوط استثناء ليس من الأول فأما آل لوط فهم اتباعه المؤمنون
قوله تعالى إنا لمنجوهم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر لمنجوهم مشددة الجيم وقرأ حمزة والكسائي لمنجوهم خفيفة
قوله تعالى إلا امرأته المعنى أنا لمنجوهم إلا امرأته قدرنا وروى أبو بكر عن عاصم قدرنا بالتخفيف والمعنى واحد يقال قدرت وقدرت والمعنى قضينا إنها لمن الغابرين يعني الباقين في العذاب
قوله تعالى إنكم قوم منكرون يعني لا أعرفكم قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون يعنون العذاب كانوا يشكون في نزوله وأتيناك بالحق أي بالأمر الذي لا شك فيه من عذاب قومك (4/406)
قوله تعالى واتبع أدبارهم أي سر خلفهم وامضواحيث تؤمرون أي حيث يأمركم جبريل
وفي المكان الذي أمروا بالمضي إليه قولان
أحدهما أنه الشام قاله ابن عباس والثاني قرية من قرى قوم لوط قاله ابن السائب
قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أي أوحينا إليه ذلك الأمر أي الأمر بهلاك قومه قال الزجاج فسر ما الأمر بباقي الآية والمعنى وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين فأما الدابر فقد سبق تفسره الأنعام 45 والمعنى إن آخر من يبقى منكم يهلك وقت الصبح وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين
قوله تعالى وجاء أهل المدينة وهم قوم لوط واسمها سدوم يستبشرون بأضياف لوط طمعا في ركوب الفاحشة فقال لهم لوط إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون أي بقصدكم إياهم بالسوء يقال فضحه يفضحه إذا أبان من أمره ما يلزمه به العار وقد أثبت يعقوب ياء تفضحون ولا تخزون في الوصل والوقف
قوله تعالى أولم ننهك عن العالمين أي عن ضيافة العالمين
قوله تعالى بناتي إن كنتم حرك ياء بناتي نافع وأبو جعفر (4/407)
لعمرك إنهم لفي سكرتهم بعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين
قوله تعالى لعمرك فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه وحياتك يا محمد رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني لعيشك رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الأخفش وهو يرجع إلى معنى الأول
والثالث أن معناه وحقك على أمتك تقول العرب لعمر الله لا أقوم يعنون وحق الله ذكره ابن الأنباري قال وفي العمر ثلاث لغات عمر وعمر و عمر وهو عند العرب البقاء وحكى الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا العمر والعمر في معنى واحد فإذا استعمل في القسم فتح لا غير وإنما آثروا الفتح في القسم لأن الفتح أخف عليهم وهم يؤكدون القسم ب لعمري و لعمرك فلما كثر استعمالهم إياه لزموا الأخف عليهم قال وقال النحويون ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي ولعمرك ما أقسم به وحذف الخبر لأن في الكلام دليلا عليه المعنى أقسم إنهم لفي سكرتهم يعمهون
وفي المراد بهذه السكرة قولان
أحدهما أنها بمعنى الضلالة قاله قتادة
والثاني بمعنى الغفلة قاله الأعمش وقد شرحنا معنى العمة في سورة (4/408)
البقرة 15 وفي المشار إليهم بهذا قولان أحدهما أنهم قوم لوط قاله الأكثرون والثاني قوم نبينا صلى الله عليه و سلم قاله عطاء
قوله تعالى فأخذتهم الصيحة يعني صيحة العذاب وهي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين قال الزجاج يقال أشرقنا فنحن مشرقون إذا صادفوا شروق الشمس وهو طلوعها كما يقال أصبحنا إذا صادفوا الصبح يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت هذا أكثر اللغة وقد قيل شرقت وأشرقت في معنى واحد إلا أن مشرقين في معنى مصادفين لطلوع الشمس
قوله تعالى فجعلنا عاليها سافلها قد فسرنا الآية في سورة هود 82
وفي المتوسمين أربعة أقوال
أحدها أنهم المتفرسون روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اتقوا فراسه المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال المتفرسين وبهذا قال مجاهد وابن قتيبة قال ابن قتيبة يقال توسمت في فلان الخير أي تبينته وقال الزجاج المتوسمون في اللغة النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء يقال (4/409)
توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك فيه وقال غيره المتوسم الناظر في السمة الدالة على الشيء والثاني المعتبرون قاله قتادة والثالث الناظرون قاله الضحاك والرابع المتفكرون قاله ابن زيد والفراء
قوله تعالى وإنها يعني قرية قوم لوط لبسبيل مقيم فيه قولان
أحدهما لبطريق واضح رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس وبه قال قتادة والزجاج وقال ابن زيد لبطريق متبين
والثاني لبهلاك رواه أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس والمعنى إنها بحال هلاكها لم تعمر حتى الآن فالاعتبار بها ممكن وهي على طريق قريش إذا سافروا إلى الشام وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين
قوله تعالى وإن كان أصحاب الأيكة الظالمين قال الزجاج معنى إن واللام التوكيد والأيك الشجر الملتف فالفصل بين واحده وجمعه الهاء فالمعنى أصحاب الشجرة قال المفسرون هم قوم شعيب كان مكانهم ذا شجر فكذبوا شعيبا فأهلكوا بالحر كما بينا في سورة هود 87
قوله تعالى وإنهما في المكنى عنهما قولان أحدهما أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط قاله الأكثرون والثاني لوط وشعيب ذكره ابن الأنباري
وفي قوله لبامام مبين قولان
أحدهما لبطريق ظاهر قاله ابن عباس قال ابن قتيبة وقيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده (4/410)
والثاني لفي كتاب مستبين قاله السدي قال ابن الأنباري وإنهما يعني لوطا وشعيبا بطريق من الحق يؤتم به ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين
قوله تعالى ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين يعني بهم ثمود قال ابن عباس كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام
وفي الحجر قولان أحدهما أنه اسم الوادي الذي كانوا به قاله قتادة والزجاج والثاني اسم مدينتهم قاله الزهري ومقاتل
قال المفسرون والمراد بالمرسلين صالح وحده لأن من كذب نبيا فقد كذب الكل
والمراد بالآيات الناقة قال ابن عباس كان في آيات خروجها من الصخرة ودنو نتاجها عند خروجها وعظم خلقها فلم تشبهها ناقة وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا فكانوا عنها معرضين لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا الحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم
قوله تعالى وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا قد شرحناه في الأعراف 74
وفي قوله آمنين ثلاثة أقوال (4/411)
أحدها آمنين ان تقع عليهم والثاني آمنين من خرابها والثالث من عذاب اللة عز و جل وفي قولة تعالي ماكانوا يكسبون قولان احدهما ما كانوا يعملون من نحت الجبال والثاني ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام قولة تعالي إلا بالحق أي للحق ولإظهار الحق وهو ثواب المصدق وعقاب المكذب وإن الساعة لآتية أي وإن القيامة لتأتي فيجازى المشركون بأعمالهم فأصفح الصفح الجميل عنهم وهو الإعراض الخالي من جزع وفحش قال المفسرون وهذا منسوخ بآية السيف فأما الخلاق فهو خالق كل شيئ و العليم قد سبق شرحة البقرة 29 ولقد اتيناك سبعا من المثاني والقران العظيم لاتمدن عينيك إلى ما متعنا بة ازواجا منهم ولاتحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني انا النذير المبين قولة تعالى ولقد اتيناك سبعا من المثانى سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ققال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله هذه الآية وقال أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله لا تمدن عينيك الآية قاله الحسين بن الفضل (4/412)
وفي المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال
أحدها أنها فاتحة الكتاب قاله عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود في رواية وابن عباس في رواية الأكثرين عنه وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير في رواية ومجاهد في رواية وعطاء وقتادة في آخرين فعلى هذا إنما سميت بالسبع لأنها سبع آيات
وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال أحدها لأن الله استثناها لأمة محمد صلى الله عليه و سلم فلم يعطها أمة قبلهم رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني لأنها تثنى في كل ركعة رواه أبو صالح عن ابن عباس قال ابن الأنباري والمعنى آتيناك السبع الآيات التي تثنى في كل ركعة وإنما دخلت من للتوكيد كقوله ولهم فيها من كل الثمرات محمد 15 وقال ابن قتيبة سمي الحمد مثاني لأنها تثنى في كل صلاة والثالث لأنها ما أثنى به على الله تعالى لأن فيها حمد الله وتوحيده وذكر مملكته ذكره الزجاج والرابع لأن فيها الرحمن الرحيم مرتين ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين وهذا على قول من يرى التسمية منها والخامس لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده ويدل عليه حديث أبي هريرة قسمت الصلاة بيني وبين عبدي والسادس (4/413)
لأنها نزلت مرتين ذكره الحسين بن الفضل والسابع لأن كلماتها مثناه مثل الرحمن الرحيم إياك إياك الصراط صراط عليهم عليهم غير غير ذكره بعض المفسرين ومن أعظم فضائلها أن الله تعالى جعلها في حيز والقرآن كله في حيز وامتن عليه بها امتن عليه بالقرآن كله
والقول الثاني أنها السبع الطول قاله ابن مسعود في رواية وابن عباس في رواية وسعيد بن جبير في رواية ومجاهد في رواية والضحاك فالسبع الطول هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف وفي السابعة ثلاثة أقوال أحدها أنها يونس قاله سعيد بن جبير والثاني براءة قاله أبو مالك والثالث الأنفال و براءة جميعا رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم قال ابن قتيبة وكانوا يرون الأنفال و براءة سورة واحدة ولذلك لم يفصلوا بينهما قال شيخنا أبو منصور اللغوي هي الطول ولا تقلها بالكسر فعلى هذا في تسميتها بالمثاني قولان أحدهما لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها قاله ابن عباس والثاني لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية ذكره الماوردي
والقول الثالث أن السبع المثاني سبع معان أنزلت في القرآن أمر ونهي وبشارة وإنذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم قاله زياد بن أبي مريم
والقول الرابع أن المثاني القرآن كله قاله طاووس والضحاك وأبو مالك فعلى هذا في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال (4/414)
أحدها لأن بعض الآيات يتلو بعضا فتثنى الآخرة على الأولى ولها مقاطع تفصل الآية بعدالآية حتى تنقضي السورة قاله أبو عبيدة
والثاني أنه سمي بالمثاني لما يتردد فيه من الثناء على الله عز و جل
والثالث لما يتردد فيه من ذكر الجنة والنار والثواب والعقاب
والرابع لأن الأقاصيص والأخبار والمواعظ والآداب ثنيت فيه ذكرهن ابن الأنباري وقال ابن قتيبة قد يكون المثاني سور القرآن كله قصارها وطوالها وإنما سمي مثاني لأن الأنباء والقصص تثنى فيه فعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن ويكون في الكلام إضمار تقديره وهي القرآن العظيم
فأما قوله في المثاني ففي من قولان
أحدهما أنها للتبعيض فيكون المعنى آتيناك سبعا من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن
والثاني أنها للصفة فيكون السبع هي المثاني ومنه قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 30 لا أن بعضها رجس ذكر الوجهين الزجاج وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريبا من هذا المعنى
قوله تعالى والقرآن العظيم يعني العظيم القدر لأنه كلام الله تعالى ووحيه
وفي المراد به هاهنا قولان
أحدهما أنه جميع القرآن قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك و الثاني أنه الفاتحة أيضا قاله أبو هريرة وقد روينا فيه حديثا في أول (4/415)
تفسير الفاتحة قال ابن الأنباري فعلى القول الأول يكون قد نسق الكل على بعض كما يقول العربي رأيت جدار الدار والدار وإنما يصلح هذا لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبه بها ما يغاير الأول فجوز ذلك عطفه عليه وعلى القول الثاني نسق الشيء على نفسه لما زيد عليه معنى المدح والثناء كما قالوا روي ذلك عن عمر وابن الخطاب يريدون ابن الخطاب الفاضل العالم الرفيع المنزلة فلما دخلته زيادة أشبه ما يغاير الأول فعطف عليه
ولما ذكر الله تعالى منته عليه بالقرآن نهاه عن النظر إلى الدنيا ليستغني بما آتاه من القرآن عن الدنيا فقال لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أي أصنافا من اليهود والمشركين والمعنى أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا
وفي قوله ولا تحزن عليهم قولان
أحدهما لا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا والثاني لا تحزن بما أنعمت عليهم في الدنيا
قوله تعالى واخفض جناحك للمؤمنين أي ألن جانبك لهم وخفض الجناح عبارة عن السكون وترك التصعب والإباء قال ابن عباس ارفق بهم ولا تغلظ عليهم
قوله تعالى وقل إني أنا النذير المبين حرك ياء إني ابن كثير وأبو عمرو ونافع وذكر بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السيف كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون
قوله تعالى كما أنزلنا على المقتسمين في هذه الكاف قولان (4/416)
أحدهما أنها متعلقة بقوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني ثم في معنى الكلام قولان أحدهما أن المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني كما أنزلنا الكتب على المقتسمين قاله مقاتل والثاني أن المعنى ولقد شرفناك وكرمناك بالسبع المثاني كما شرفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب والكاف بمعنى مثل و ما بمعنى الذي ذكره ابن الأنباري
والثاني أنهامتعلقة بقوله إني أنا النذير والمعنى إني أنا النذير أنذرتكم مثل الذي أنزل على المقتسمين من العذاب وهذا معنى قول الفراء فخرج في معنى أنزلنا قولان أحدهما أنزلنا االكتب على قول مقاتل والثاني المذاب على قول الفراء
وفي المقتسمين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود والنصارى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال أحدها أنهم آمنواببعض القرآن وكفروا ببعضه رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني أنهم اقتسموا القرآن فقال بعضهم هذه السورة لي وقال آخر هذه السورة لي استهزاء به قاله عكرمة والثالث أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها وآمن آخرون بما كفر به غيرهم قاله مجاهد
والثاني أنهم مشركو قريش قاله قتادة وابن السائب فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين قولان أحدهما أن أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين منهم الأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة وعدي بن قيس السهمي والعاص (4/417)
ابن وائل قاله قتادة والثاني أنهم اقتسموا على عقاب مكة قال ابن السائب هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عقاب مكة حين حضر الموسم قال لهم الوليد ابن المغيرة انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عنه يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم فليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاو فإذا انتهوا إلي صدقتكم ومنهم حنظلة ابن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص ابن هشام وابو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أبي أمية وهلال ابن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة
والثالث أنهم قوم صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله النمل 49 فكفاه الله شرهم قاله عبد الرحمن بن زيد فعلى هذا هو من القسم لا من القسمة
قوله تعالى الذين جعلوا القرآن عضين في المراد بالقرآن قولان
أحدهما أنه كتابنا وهو الأظهر وعليه الجمهور والثاني أن المراد به كتب المتقدمين قبلنا
وفي عضين قولان
أحدهما أنه مأخوذ من الأعضاء قال الكسائي وأبو عبيدة اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاء ثم في ما فعلوا فيه قولان
أحدهما أنهم عضوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه والمعضي المفرق والتعضية تجزئة الذبيحة أعضاء قال علي عليه السلام لا تعضية في ميراث أراد تفريق ما يوجب تفريقه ضررا على الورثة كالسيف ونحوه وقال رؤبة (4/418)
وليس دين الله بالمعضى ...
وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنهم عضوا القول فيه أي فرقوا فقالوا شعر وقالوا سحر وقالوا كهانة وقالوا أساطير الأولين وهذا المعنى في رواية ابن جريج عن مجاهد وبه قال قتادة وابن زيد
والثاني أنه مأخوذ من العضه والعضه بلسان قريش السحر ويقولون للساحرة عاضهة وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن العاضهة والمستعضهة فيكون المعنى جعلوه سحرا وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس وبه قال عكرمة والفراء
قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجميعن عما كانوا يعملون هذا سؤال توبيخ يسألون عما عملوا في ما أمروا به من التوحيد والإيمان فيقال لهم لم عصيتهم وتركتم الإيمان فتظهر فضيحتهم عند تعذر الجواب قال أبو العالية يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا المرسلين
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان الرحمن 39 فعنه جوابان (4/419)
أحدهما أنه لا يسألهم هل عملتم كذا لأنه أعلم وإنما يقول لم عملتم كذا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنهم يسألون في بعض مواطن القيامة ولا يسألون في بعضها رواه عكرمة عن ابن عباس فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين
قوله تعالى فاصدع بما تؤمر فيه ثلاثة أقوال
أحدها فامض لما تؤمر قاله ابن عباس
والثاني أظهر أمرك رواه ليث عن مجاهد قال ابن قتيبة فاصدع بما تؤمر أي أظهر ذلك وأصله الفرق والفتح يريد اصدع الباطل بحقك وقال الزجاج اظهر بما تؤمر به أخذ ذلك من الصديع وهو الصبح قال الشاعر ... كأن بياض غرته صديع ...
وقال الفراء إنما لم يقل بما تؤمر به لأنه أراد فاصدع بالأمر وذكر ابن الأنباري أن به مضمرة كما تقول مررت بالذي مررت
والثالث أن المراد به الجهر بالقرآن في الصلاة رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال موسى بن عبيدة ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه
وفي قوله وأعرض عن المشركين ثلاثة أقوال
أحدها اكفف عن حربهم (4/420)
والثاني لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار أمرك
والثالث أعرض عن الاهتمام باستهزائهم وأكثر المفسرين على أن هذا القدر من الآية منسوخ بآية السيف إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين المعنى فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئن وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن وفي عددهم قولان
أحدهما أنهم كانوا خمسة الوليد بن المغيرة وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث والعاص بن وائل والحارث بن قيس قاله ابن عباس واسم أبي زمعة الأسود بن المطلب وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير إلا أنه قال مكان الحارث بن قيس الحارث بن غيطلة قال الزهري غيطلة امه وقيس أبوه فهو واحد وإنما ذكرت ذلك لئلا يظن أنه غيره وقد ذكرت في كتاب التلقيح من ينسب إلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وسميت آباءهم ليعرفوا إلى أي الأبوين نسبوا وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث ابن قيس عدي بن قيس
والثاني أنهم كانوا سبعة قاله الشعبي وابن أبي بزة وعدهم ابن أبي بزة فقال العاص بن وائل والوليد بن المغيرة والحارث بن عدي والأسود ابن المطلب والأسود بن عبد يغوث وأصرم وبعكك ابنا عبدالحارث بن السباق (4/421)
وكذلك عدهم مقاتل إلا أنه قال مكان الحارث بن عدي الحارث بن قيس السهمي وقال أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السباق
ذكر ما أهلكهم الله به وكفى رسوله صلى الله عليه و سلم أمرهم
قال المفسرون أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم والمستهزئون يطوفون بالبيت فمر الوليد بن المغيرة فقال جبريل يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبد الله قال قد كفيت وأومأ إلى ساق الوليد فمر الوليد برجل يريش نبلا له فتعلقت شظية من نبل بازاره فمنعه الكبر أن يطامن لينزعها وجعلت تضرب ساقه فمرض ومات وقيل تعلق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات ومر العاص بن وائل فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد فقال بئس عبد الله فأشار إلى أخمص رجله وقال قد كفيت فدخلت شوكة في أخمصه فانتخفت رجله ومات ومر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا قال عبد سوء فأشار بيده إلى عينيه فعمي وهلك وقيل جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه فقال لا أرى أحدا يصنع بك هذا غير نفسك فمات وهو يقول قتلني رب محمد ومر الأسود بن عبد يغوث فقال جبريل كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فقال قد كفيت واشار إلى بطنه فسقى بطنه فمات وقيل أصاب عينه شوك فسالت حدقتاه وقيل خرج عن أهله فأصابه السموم فاسود حتى عاد حبشيا فلما أتى أهله لم يعرفوه فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات (4/422)
ومر به الحارث بن قيس فقال كيف تجد هذا قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال قد كفيت فانتفخ رأسه فمات وقيل أصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انقد بطنه وأما أصرم وبعكك فقال مقاتل أخذت أحدهما الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا جميعا قال عكرمة هلك المستهزئون قبل بدر وقال ابن السائب أهلكوا جميعا في يوم وليلة
قوله تعالى ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فيه قولان
أحدهما أنه التكذيب والثاني الاستهزاء
قوله تعالى فسبح بحمد ربك فيه قولان
أحدهما قل سبحان الله وبحمده قاله الضحاك والثاني فصل بأمر ربك قاله مقاتل
وفي قوله وكن من الساجدين قولان
أحدهما من المصلين والثاني من المتواضعين رويا عن ابن عباس
قوله تعالى حتى يأتيك اليقين فيه قولان أحدهما أنه الموت قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور وسمي يقينا لأنه موقن به وقال الزجاج معنى الآية اعبد ربك أبدا ولو قيل اعبد ربك بغير توقيت لاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا فلما قال حتى يأتيك اليقين أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيا (4/423)
والثاني أنه الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك حكاه الماوردي (4/424)
سورة النحل
فصل في نزولها
روىمجاهد وعطية وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وكذلك روي عن الحسن وعكرمة وعطاء أنهامكية كلها وقال ابن عباس في رواية إنه نزل منها بعد قتل حمزة وإن عاقتبم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به النحل 126 وقال في رواية هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة وهي قوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله يعملون النحل 9597 وقال الشعبي كلها مكية إلى قوله وإن عاقبتم إلى آخر الآيات النحل 126 128 وقال قتادة هي مكية إلاخمس آيات ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الآيتين النحل 9596 ومن قوله وإن عاقبتم إلى آخرها النحل 126 وقال ابن السائب هي مكية إلا خمس آيات والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا الآية النحل 41 وقوله ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا الآية النحل 110 وقوله وإن عاقبتم إلى آخرها النحل 126 وقال مقاتل مكية إلا سبع آيات قوله ثم إن ربك للذين هاجروا الآية النحل 110 وقوله من كفر بالله من بعد إيمانه الآية النحل 106 وقوله والذين هاجروا في الله الآية النحل 41 وقوله وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة الآية النحل 112 وقوله (4/425)
وإن عاقبتم إلى آخرها النحل 126 قال جابر بن زيد أنزل من أول النحل أربعون آية بمكة وبقيتها بالمدينة وروى حماد عن علي بن زيد قال كان يقال لسورة النحل سورة النعم يريد لكثرة تعداد النعم فيها بسم الله الرحمن الرحيم أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون
قوله تعالى أتى أمر الله قرأ حمزة والكسائي بالإمالة
سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى اقتربت الساعة القمر 1 فقال الكفار بعضهم لبعض إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا فأنزل الله تعالى اقترب للناس حسابهم الأنبياء 1 فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فأنزل الله تعالى أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورفع الناس رؤوسهم فنزل فلا تستعجلوه فاطمأنوا قاله ابن عباس (4/426)
وفي قوله أتى ثلاثة أقوال
أحدها أتى بمعنى يأتي كما يقال أتاك الخير فأبشر أي سيأتيك قاله ابن قتيبة وشاهده ونادى أصحاب الجنة الأعراف 44 وإذ قال الله يا عيسى المائدة 116 ونحو ذلك
والثاني أتى بمعنى قرب قال الزجاج أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى
والثالث أن أتى للماضي والمعنى أتى بعض عذاب الله وهو الجدب الذي نزل بهم والجوع فلا تستعجلوه فينزل بكم مستقبلا كما نزل ماضيا قاله ابن الأنباري
وفي المراد ب أمر الله خمسة أقوال
أحدها أنها الساعة وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه وبه قال ابن قتيبة والثاني خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه الضحاك عن ابن عباس يعني أن خروجه من أمارات الساعة
وقال ابن الأنباري أتى أمر الله من أشراط الساعة فلا تستعجلوا قيام الساعة والثالث أنه الأحكام والفرائض قاله الضحاك والرابع عذاب الله ذكره ابن الأنباري والخامس وعيد المشركين ذكره الماوردي
قوله تعالى فلا تستعجلوه أي لا تطلبوه قبل حينه سبحانه أي تنزيه له وبراءة من السوء عما يشركون به من الأصنام
قوله تعالى ينزل الملائكة قرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل (4/427)
باسكان النون وتخفيف الزاي وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ينزل بالتشديد وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم تنزل بالتاء مضمومة وفتح الزاي مشددة الملائكة رفع قال ابن عباس يريد بالملائكة جبريل عليه السلام وحده
وفي المراد بالروح ستة أقوال
أحدها الوحي رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه النبوة رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أن المعنى تنزل الملائكة بأمره رواه العوفي عن ابن عباس فعلى هذا يكون المعنى أن أمر الله كله روح قال الزجاج الروح ما كان فيه من أمر الله حياة النفوس بالإرشاد
والرابع أنه الرحمة قاله الحسن وقتادة
والخامس أن أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح قاله مجاهد
والسادس أنه القرآن قاله ابن زيد فعلى هذا سماه روحا لأن الدين يحيا به كما أن الروح تحيي البدن وقال بعضهم الباء في قوله بالروح بمعنى مع فالتقدير مع الروح من أمره أي بأمره على من يشاء من عباده يعني الأنبياء أن أنذروا قال الزجاج والمعنى أنذروا أهل الكفر والمعاصي أنه لا إله إلا أنا أي مروهم بتوحيدي وقال غيره أنذروا بأنه لا اله إلا أنا أي مروهم بالتوحيد مع تخويفهم إن لم يقروا خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين
قوله تعالى خلق الإنسان من نطفة قال المفسرون أخذ أبي بن خلف (4/428)
عظما رميما فجعل يفته ويقول يامحمد كيف يبعت الله هذا بعدما رم
فنزلت فيه هذه الآية والخصيم المخاصم والمبين الظاهر الخصومه
والمعنى أنه مخلوق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث أفلا يستدل بأولة على آخرة وأن من قدر على إيجادة أولا يقدر على إعادتة ثانية وفية تنبية علي إنعام اللة علية حين نقلة من حال ضعف النطفة إلى القوة التي أمكنة معها الخصام والأنعام خلقها لكم فيها دف ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلي بلد لم تكونوا بالغية إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم قولة تعالي والأنعام خلقها لكم الأنعام الإبل والبقر والغنم
قوله تعالى لكم فيها دفء فيه قولان
أحدهما أنه ما استدفئ به من أوبارها تتخذ ثيابا وأخبية وغير ذلك روى العوفي عن ابن عباس أنه قال يعني بالدفء اللباس وإلى هذا المعنى ذهب الأكثرون
والثاني أنه نسلها روى عكرمة عن ابن عباس فيها دفء قال الدفء (4/429)
نسل كل دابة وذكر ابن السائب قال يقال الدفء أولادها ومن لا يحمل من الصغار وحكى ابن فارس اللغوي عن الأموي قال الدفء عند العرب نتاج الإبل وألبانها
قوله تعالى ومنافع أي سوى الدفء من الجلود والألبان والنسل والركوب والعمل عليها إلى غير ذلك ومنها تأكلون يعني من لحوم الأنعام
قوله تعالى ولكم فيها جمال أي زينة حين تريحون أي حين تردونها إلى مراحلها وهو المكان الذي تأوي إليه فترجع عظام الضروع والأسنمة فيقال هذا مال فلان وحين تسرحون ترسلونها بالغداة إلى مراعيها
فإن قيل لم قدم الرواح وهو مؤخر
فالجواب أنها في حال الرواح تكون أجمل لأنها قد رعت وامتلأت ضروعها وامتدت أسنمتها
قوله تعالى وتحمل أثقالكم الإشارة بهذا إلى ما يطيق الحمل منها والأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر
وفي قوله تعالى إلى بلد قولان
أحدهما أنه عام في كل بلد يقصده المسافر وهو قول الأكثرين
والثاني أن المراد به مكة قاله عكرمة والأول أصح والمعنى أنها تحملكم إلى كل بلد لو تكلفتم أنتم بلدغه لم تبلغوه إلا بشق الأنفس
وفي معنى شق الأنفس قولان
أحدهما أنه المشقة قاله الأكثرون قال ابن قتيبة يقال نحن بشق من (4/430)
العيش أي بجهد وفي حديث أم زرع وجدني في أهل غنيمة بشق
والثاني أن الشق النصف فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ذكره الفراء
قوله تعالى إن ربكم لرؤوف رحيم أي حين من عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون
قوله تعالى والخيل أي وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال الزجاج المعنى وخلقها زينة
فصل
ويجوز أكل لحم الخيل وإنما لم يذكر في الآية لأنه ليس هو المقصود وإنما معظم المقصود بهأ الركوب والزينة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا تؤكل لحوم الخيل
قوله تعالى ويخلق مالا تعلمون ذكر قوم من المفسرين أن المراد به (4/431)
عجائب المخلوقات في السموات والأرض التي لم يطلع عليها مثل ما يروى أن لله ملكا من صفته كذا وتحت العرش نهر من صفته كذا وقال قوم هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ولأهل النار وقال أبو سليمان الدمشقي في الناس من كره تفسير هذا الحرف وقال الشعبي هذا الحرف من أسرار القرآن وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لعذابكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا قصد بك ما تريد قال الزجاج المعنى وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبرهان
قوله تعالى ومنها جائر قال أبو عبيدة السبيل لفظه لفظ الواحد وهو في موضع الجميع فكأنه قال ومن السبل سبيل جائر قال ابن الأنباري لما ذكر السبيل دل على السبل فلذلك قالك ومنها جائر كما دل الحدثان على الحوادث في قول العبدي ... ولا يبقى على الحدثان حي ... فهل يبقى عليهن السلام ...
أراد فهل يبقى على الحوادث والسلام الصخور قال ويجوز أن يكون إنما قال ومنها لأن السبيل تؤنث وتذكر فالمعنى من السبيل جائر وقال ابن قتيبة المعنى ومن الطرق جائر لا يهتدون فيه والجائر العادل عن (4/432)
القصد قال ابن عباس ومنها جائر الأهواء المختلفة وقال ابن المبارك الأهواء والبدع
قوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر لكم منه شراب وهو ما تشربونه ومنه شجر ذكر ابن الأنباري في معناه قولين
أحدهما ومنه سقي شجر وشرب شجر فخلف المضاف إليه المضاف كقوله وأشربوا في قلوبهم العجل البقرة 93
والثاني أن المعنى ومن جهة الماء شجر ومن سقيه شجر ومن ناحيته شجر فحذف الأول وخلفه الثاني قال زهير ... لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر ...
أي من ممر حجج قال ابن قتيبة والمراد بهذه الشجر المرعى وقال الزجاج كل ما نبت على الأرض فهو شجر قال الشاعر يصف الخيل ... يعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر ...
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض و تسيمون بمعنى ترعون يقال سامت الإبل فهي سائمة إذا رعت وإنما أخذ ذلك من السومة وهي العلامة وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات
قوله تعالى ينبت لكم به الزرع وروى أبو بكر عن عاصم ننبت بالنون قال ابن عباس يريد الحبوب وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى والنجوم سخرات بأمره قال الأخفش المعنى وجعل النجوم مسخرات (4/433)
فجاز إضمار فعل غير الأول لأن هذا المضمر في المعنى مثل المظهر وقد تفعل العرب أشد من هذا قال الراجز ... تسمع في أجوافهن صردا ... وفي اليدين جسأة وبددا ...
المعنى وترى في اليدين والجسأة اليبس والبدد السعة وقال غيره قوله تعالى مسخرات حال مؤكدة لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى وسخر وقرأ ابن عامر والشمس والقمر والنجوم مسخرات رفعا كله وروى حفص عن عاصم بالنصب كالجمهور إلا قوله تعالى والنجوم مسخرات فإنه رفعها وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون
قوله تعالى وما ذرأ لكم أي وسخر ما ذرأ لكم وذرأ بمعنى خلق و سخر البحر اي ذلله للركوب والغوص فيه لتأكلوا منه لحما طريا يعني السمك وتستخرجوا منه حلية تلبسونها يعني الدر واللؤلؤ والمرجان (4/434)
وفي هذا دلالة على أن حالفا لو حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث وقال أبو حنيفة لا يحنث
قوله تعالى وترى الفلك يعني السفن وفي معنى مواخر قولان
أحدهما جواري قاله ابن عباس قال اللغويون يقال مخرت السفينة مخرا إذا شقت الماء في جريانها
والثاني المواقر يعني المملوءة قاله الحسن
وفي قوله تعالى ولتبتغوا من فضله قولان
أحدهما بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله
والثاني بما تستخرجون من حليته وتصيدون من حيتانه قال ابن الأنباري وفي دخول الواو في قوله تعالى ولتبتغوا من فضله وجهان
أحدهما أنهامعطوفة على لام محذوفة تقديره وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا
والثاني أنها دخلت لفعل مضمر تقديره وفعل ذلك لكي تبتغوا
قوله تعالى وألقى في الأرض رواسي أي نصب فيها جبالا ثوابت أن تميد أي لئلا تميد وقال الزجاج كراهة أن تميد يقال ماد الرجل يميد ميدا إذا أدير به وقال ابن قتيبة الميد الحركة والميل يقال فلان يميد في مشيته أي يتكفأ
قوله تعالى وأنهارا قال الزجاج المعنى وجعل فيها سبلا لأن معنى ألقى جعل فأما السبل فهي الطرق ولعلكم تهتدون أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم (4/435)
قوله تعالى وعلامات فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها معالم الطرف بالنهار وبالنجم هم يهتدون وبالليل رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها النجوم أيضا منها ما يكون علامة لا يهتدى به ومنها ما يهتدى به قاله مجاهد وقتادة والنخعي
والثالث الجبال قاله ابن السائب ومقاتل
وفي المراد بالنجم أربعة أقوال
أحدها أنه الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي قاله السدي
والثاني أنه الجدي والفرقدان قاله ابن السائب
والثالث أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه ذكره الماوردي
والرابع أنه اسم جنس والمراد جميع النجوم قاله الزجاج وقرأ الحسن والضحاك وأبو المتوكل ويحيى بن وثاب وبالنجم بضم النون وإسكان الجيم وقرأ الجحدري وبالنجم بضم النون والجيم وقرأ مجاهد وبالنجوم بواو على الجمع
وفي المراد بهذا الاهتداء قولان
أحدهما الاهتداء إلى القبلة والثاني إلى الطريق في السفر أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (4/436)
قوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق يعني الأوثان وإنما عبر عنها ب من لأنهم نحلوها العقل والتمييز أفلا تذكرون يعني المشركين يقول أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون قال الفراء وإنما جاز أن يقول كمن لا يخلق لأنه ذكر مع الخالق كقوله فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين النور 45 والعرب تقول اشتبه علي الراكب وجمله فما أدري من ذا من ذا لأنهم لما جمعوا بين الإنسان وغيره صلحت من فيهما جميعا
قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قد فسرناه في إبراهيم 34
قوله تعالى إن الله لغفور أي لما كان منكم من تقصيركم في شكر نعمه رحيم بكم إذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم
قوله تعالى والله يعلم ما تسرون وما تعلنون روى عبد الوارث إلا القزاز يسرون و يعلنون بالياء والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون
قوله تعالى والذين تدعون من دون الله قرأ عاصم يدعون بالياء
قوله تعالى أموات غير أحياء يعني الأصنام قال الفراء ومعنى الأموات هاهنا أنها لا روح فيها قال الأخفش وقوله غير أحياء توكيد
قوله تعالى وما يشعرون أيان يبعثون أيان بمعنى متى
وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنها الأصنام عبر عنها كما يعبر عن الآدميين قال ابن عباس (4/437)
وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبادتهم ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار
والثاني أنهم الكفار لا يعلمون متى بعثهم قاله مقاتل إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
قوله تعالى إلهكم إله واحد قد ذكرناه في سورة البقرة 163
قوله تعالى فالذين لايؤمنون بالآخرة أي بالبعث والجزاء قلوبهم منكرة أي جاحدة لا تعرف التوحيد وهم مستكبرون أي ممتنعون من قبول الحق
قوله تعالى لا جرم قد فسرناه في هود 22 ومعنى الآية أنه يجازيهم بسرهم وعلنهم لأنه يعلمه والمستكبرون المتكبرون عن التوحيد والإيمان وقال مقاتل ما يسرون حين بعثوا في كل طريق من يصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يعلنون حين أظهروا العداوة لرسول الله (4/438)
قوله تعالى وإذا قيل لهم يعني المستكبرين ماذا أنزل ربكم على محمد صلى الله عليه و سلم قال الزجاج ماذا بمعنى مالذي و أساطير الأولين مرفوعة على الجواب كأنهم قالوا الذي أنزل أساطير الأولين أي الذي تذكرون أنتم أنه منزل أساطير الأولين وقد شرحنا معنى الأساطير في الأنعام 25 قال مقاتل الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان ويقول بعضهم إن محمدا ساحر ويقول بعضهم شاعر وقد شرحنا هذا المعنى في الحجر 90 في ذكر المقتسمين
قولة تعالى ليحملوا اوزارهم هذة لام العاقبة وقد شرحناهافي غير موضع والأوز الاثام وإنما قال كاملة لأنه لم يكفر منها شيء بما يصيبهم من نكبة وأبو بلية كما يكفر عن المؤمن ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم أي أنهم أضلوهم بغير دليل وإنما حملوا من اوزار الأتباع لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة وقد ذكر ابن الأنباري في من وجهين
أحدهما أنها للتبعيض فهم يحملون ما شركوهم فيه فأما ما ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء فلا يحملونه فيصح معنى التبعيض
والثاني أن من مؤكدة والمعنى وأوزار الذين يضلونهم ألا ساء ما يزرون أي بئس ماحملوا على ظهورهم
قوله تعالى قد مكر الذين من قبلهم قال المفسرون يعني به النمرود ابن كنعان وذلك أنه بنى صرحا طويلا واختلفوا في طوله فقال ابن عباس (4/439)
خمسة آلاف ذراع وقال مقاتل كان طوله فرسخين قالوا ورام أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه ومعنى المكر هاهنا التدبير الفاسد
وفي الهاء والميم من قبلهم قولان
أحدهما أنها للمقتسمين على عقاب مكة قاله ابن السائب
والثاني لكفار مكة قاله مقاتل
قوله تعالى فأتى الله بنيانهم من القواعد أي من الأساس قال المفسرون أرسل الله ريحا فألقت رأس الصرح في البحر وخر عليهم الباقي
قال السدي لما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وهذا قول مردود لأن التبلبل يوجب الاختلاط والتكلم بشيء غير مستقيم فأما أن يوجب إحداث لغة مضبوطة الحواشي فباطل وإنما اللغات تعليم من الله تعالى
فإن قيل إذا كان الماكر واحدا فكيف قال الذين ولم يقل الذي فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه كان الماكر ملكا له أتباع فأدخلوا معه في الوصف
والثاني أن العرب توقع الجمع على الواحد فيقول قائلهم خرجت إلى البصرة على البغال وإنما خرج على بغل واحد
والثالث أن الذين غير موقع على واحد معين لكنه يراد به قد مكر الجبارون الذين من قبلهم فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري قال وذكر بعض العلماء أنه إنما قال من فوقهم (4/440)
لينبه على أنهم كانوا تحته إذ لو لم يقل ذلك لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته لأن العرب تقول سقط علينا البيت وخر علينا الحانوت وتداعت علينا الدار وليسوا تحت ذلك
قوله تعالى وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه قال السدي أخذوا من مأمنهم وروى عطية عن ابن عباس قال خر عليهم عذاب من السماء وعامة المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط وقال ابن قتيبة هذا مثل والمعنى أهلكهم الله كما هلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه
قوله تعالى ثم يوم القيامة يخزيهم أي يذلهم بالعذاب ويقول أين شركائي قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي شركائي الذين بهمزة وفتح الياء وقال البزي عن ابن كثير شركاي مثل هداي والمعنى أين شركائي على زعمكم هلا دفعوا عنكم الذين كنتم تشاقون فيهم أي تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله وقرأ نافع تشاقون بكسر النون أراد تشاقونني فحذف النون الثانية وأبقى الكسرة تدل عليها والمعنى كنتم تنازعونني فيهم وتخالفون أمري لأجلهم
قوله تعالى قال الذين أوتوا العلم فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الملائكة قاله ابن عباس والثاني الحفظة من الملائكة قاله مقاتل والثالث أنهم المؤمنون
فأما الخزي فقد شرحناه في مواضع آل عمران 192 و السوء هاهنا العذاب الذين تتوفيهم الملئكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (4/441)
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين
قوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قال عكرمة هؤلاء قوم كانوا بمكة أقروا بالإسلام ولم يهاجروا فأخرجهم المشركون كرها إلى بدر فقتل بعضهم وقد شرحنا هذا في سورة النساء 97
قوله تعالى فألقوا السلم قال ابن قتيبة انقادوا واستسلموا والسلم الاستسلام قال المفسرون وهذا عندالموت يتبرؤون من الشرك وهم قولهم ماكنا نعمل من سوء وهو الشرك فترد عليهم الملائكة فتقول بلى وقيل هذا رد خزنة جهنم عليهم بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من الشرك والتكذيب ثم يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم وقد سبق تفسير ألفاظ الآية النساء 97 و الحجر 44 وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفيهم الملئكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلو الجنة بما كنتم تعملون
قوله تعالى وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم روى أبو صالح عن ابن عباس أن مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس ففرقوهم على كل عقبة أربعة رجال ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا لهم من أتاكم من الناس يسألكم عن محمد فليقل بعضكم شاعر وبعضكم كاهن وبعضكم مجنون وألا تروه ولا يراكم خير لكم فإذا (4/442)
انتهوا إلينا صدقانكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث إلى كل أربعة منهم أربعة من المسلمين فيهم عبد الله بن مسعود فأمروا أن يكذبوهم فكان الناس إذا مروا على المشركين فقالوا ما قالوا رد عليهم المسلمون وقالوا كذبوا بل يدعو إلى الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير فيقولون وما هذا الخير الذي يدعوا إليه فيقولون للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة
قوله تعالى قالوا خيرا أي أنزل خيرا ثم فسر ذلك الخير فقال للذين أحسنوا في هذه الدنيا قالوا لا إله إلا الله وأحسنوا العمل حسنة أي كرامة من الله تعالى في الآخرة وهي الجنة وقيل للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها ولدار الآخرة يعني الجنة خير من الدنيا
وفي قوله تعالى ولنعم دار المتقين قولان
أحدهما أنها الجنة قاله الجمهور قال ابن الأنباري في الكلام محذوف تقديره ولنعم دار المتقين الآخرة غير أنه لما ذكرت أولا عرف معناها آخرا ويجوز أن يكون المعنى ولنعم دار المتقين جنات عدن
والثاني أنها الدنيا قال الحسن ولنعم دار المتقين الدنيا لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة
قوله تعالى جنات عدن قد شرحناه في براءة 72
قوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة وقرأ حمزة يتوفاهم بياء مع الإمالة وفي معنى طيبين خمسة أقوال
أحدها مؤمنين والثاني طاهرين من الشرك والثالث زاكية أفعالهم (4/443)
وأقوالهم والرابع طيبة وفاتهم سهل خروج أرواحهم والخامسة طيبة أنفسهم بالموت ثقة بالثواب
قوله تعالى يقولون يعني الملائكة سلام عليكم
وفي أي وقت يكون هذا السلام فيه قولان
أحدهما عند الموت قال البراء بن عازب يسلم عليه ملك الموت إذا دخل عليه وقال القرظي ويقول له الله عز و جل يقرأ عليك السلام ويبشره بالجنة
والثاني عند دخول الجنة قال مقاتل هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة يقولون سلام عليكم هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيآت ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم بالياء وهذا تهديد للمشركين وقد شرحناه في البقرة 210 وآخر الأنعام 158
وفي قوله تعالى أو يأتي أمر ربك قولان
أحدهما أمر الله فيهم قاله ابن عباس والثاني العذاب في الدنيا قاله مقاتل
قوله تعالى كذلك فعل الذين من قبلهم يريد كفار الأمم الماضية كذبوا كما كذب هؤلاء وما ظلمهم الله باهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم (4/444)
يظلمون بالشرك فأصابهم سيئات ما عملو أي جزاؤها قال ابن عباس جزاء ما عملوا من الشرك وحاق بهم قد بيناه في الأنعام 10 والمعنى أحاط بهم ما كانوا به يستهزؤن من العذاب وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلى البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هديهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين
قوله تعالى وقال الذين أشركوا يعني كفار مكة لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء يعين الأصنام أي لو شاء ما أشركنا ولا حرمنا من دونه من شيء من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام والحرث وذلك أنه لما نزل وماتشاؤون إلا أن يشاء الله الدهر 30 قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد وقيل معنى كلامهم لو لم يأمرنا بهذا ويرده منا لم نأته
قوله تعالى كذلك فعل الذين من قبلهم أي من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله فهل على الرسل إلا البلاغ المبين يعني ليس عليهم إلا التبليغ فأما الهداية فهي إلى الله تعالى وبين ذلك بقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أي كما بعثناك في هؤلاء أن اعبدوا الله أي وحدوه واجتنبوا الطاغوت وهو الشيطان فمنهم من هدى الله أي أرشده (4/445)
ومنهم من حقت عليه الضلالة أي وجبت في سابق علم الله فأعلم الله عز و جل أنه إنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء الإضلال والهداية فسيروا في الأرض أي معتبرين بآثار الأمم المكذبة ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي فقال إن تحرص على هداهم أي إن تطلب هداهم بجهدك فإن الله لا يهدي من يضل قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر لا يهدى برفع الياء وفتح الدال والمعنى من أضله فلا هادي له وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يهدي بفتح الياء وكسر الدال ولم يختلفوا في يضل أنها بضم الياء وكسر الضاد وهذه القراءة تحتمل معنيين ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما لا يهدي من طبعه ضالا وخلقه شقيا
والثاني لا يهدي أي لا يهتدي من أضله أي من أضله الله لا يهتدي فيكون معنى يهدي يهتدي تقول العرب قد هدي فلان الطريق يريدون اهتدى واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون
قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والذي (4/446)
أرجوه بعد الموت فقال المشرك وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية و جهد أيمانهم مفسر في المائدة 53 وقوله بلى رد عليهم قال الفراء والمعنى بلى ليبعثنهم وعدا عليه حقا
قوله تعالى ليبين لهم الذي يختلفون فيه قال الزجاج يجوز أن يكون متعلقا بالبعث فيكون المعنى بلى يبعثهم فيبين لهم ويجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم
وللمفسرين في قوله ليبين لهم قولان
أحدهما أنهم جميع الناس قاله قتادة
والثاني أنهم المشركون يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه
قوله تعالى أنهم كانوا كاذبين أي فيما أقسموا عليه من نفي البعث ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة فيكون رفعا وكذلك في كل القرآن وقرأ ابن عامر والكسائي فيكون نصبا قال مكي بن إبراهيم من رفع قطعه عما قبله والمعنى فهو يكون ومن نصب عطفه على يقول وهذا مثل قوله وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقد فسرناه في البقرة 117
فإن قيل كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئا
فالجواب أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد
قوله تعالى والذين هاجروا في الله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (4/447)
أحدها أنهانزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرت وعايش وجبر موليان لقريش أخذهم أهل مكة فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو قاله داود بن أبي هند
والثالث أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله قتادة ومعنى هاجروا في الله أي في طلب رضاه وثوابه من بعد ما ظلموا بما نال المشركون منهم لنبوئنهم في الدنيا حسنة وفيها خمسة أقوال أحدها لننزلنهم المدينة روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن والشعبي وقتادة فيكون المعنى لنبوئنهم دارا حسنة وبلدة حسنة والثاني لنرزقنهم في الدنيا الرزق الحسن قاله مجاهد والثالث النصر على العدو قاله الضحاك والرابع أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن وصار لأولادهم من الشرف ذكره الماوردي وقد روي معناه عن مجاهد فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال لنبوئنهم في الدنيا حسنة قال لسان صادق والخامس أن المعنى لنحسنن إليهم في الدنيا قال بعض أهل المعاني فتكون على هذه الأقوال لنبوئنهم على سبيل الاستعارة إلا على القول الأول
قوله تعالى ولأجر الآخرة أكبر قال ابن عباس يعني الجنة لو كانوا يعلمون يعني أهل مكة
ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى الرجل من (4/448)
المهاجرين عطاءه قال خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل ثم يتلو هذه الآية
ثم إن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال الذين صبروا أي على دينهم لم يتركوه لأذى نالهم وهم في ذلك واثقون بربهم وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون
قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا قال المفسرون لما أنكر مشركو قريش نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فنزلت هذه الآية والمعنى أن الرسل كانوا مثلك آدميين إلا أنهم يوحى إليهم وقرأ حفص عن عاصم نوحي بالنون وكسر الحاء فاسألوا يامعشر المشركين أهل الذكر وفيهم أربعة أقوال
أحدها أنهم أهل التوراة والإنجيل قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني أهل التوراة قاله مجاهد والثالث أهل القرآن قاله ابن زيد والرابع العلماء بأخبار من سلف ذكره الماوردي
وفي قوله تعالى إن كنتم لا تعلمون قولان
أحدهما لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولا من البشر
والثاني لا تعلمون أن محمدا رسول الله فعلى القول الأول جائز أن (4/449)
يسأل من آمن برسول الله ومن كفر لأن أهل الكتاب والعلم بالسير متفقون على أن الأنبياء كلهم من البشروعلى الثاني إنما يسأل من آمن من أهل الكتاب وقد روي عن مجاهد فاسألوا أهل الذكر قال عبد الله بن سلام وعن قتادة قال سليمان الفارسي
قوله تعالى بالبينات والزبر في هذه الباء قولان
أحدهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلناهم بالبينات والزبر الكتب وقد شرحنا في آل عمران 184
قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر وهو القرآن باجماع المفسرين لتبين للناس ما نزل إليهم فيه من حلال وحرام ووعد ووعيد ولعلهم يتفكرون في ذلك فيعتبرون أفأمن الذين مكروا السيآت أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم
قوله تعالى أفأمن الذين مكروا السيئات قال المفسرون أراد مشركي مكة ومكرهم السيئات شركهم وتكذيبهم وسمي ذلك مكرا لأن المكر في اللغة السعي بالفساد وهذا استفهام إنكار ومعناه ينبغي أن لا يأمنوا العقوبة وكان مجاهد يقول عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان
قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فيه اربعة أقوال
أحدها في أسفارهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة (4/450)
والثاني في منامهم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث في ليلهم ونهارهم قاله الضحاك وابن جريج ومقاتل
والرابع أنه جميع ما يتقلبون فيه قاله الزجاج
قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فيه قولان
أحدهما على تنقص قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك قال ابن قتيبة التخوف التنقص ومثله التخون يقال تخوفته الدهور وتخونته إذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه وقال الهيثم بن عدي التخوف التنقص بلغة أزد شنوءة
ثم في هذا التنقص ثلاثة اقوال أحدها أنه تنقص من أعمالهم رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أخذ واحد بعد واحد روي عن ابن عباس أيضا والثالث تنقص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم قاله الزجاج
والثاني أنه التخوف نفسه ثم فيه قولان أحدهما يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز قاله قتادة والثاني أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى قاله الضحاك وقال الزجاج يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها فعلى هذا خوفهم قبل هلاكهم فلم يتوبوا فاستحقوا العذاب
قوله تعالى فإن ربكم لرؤوف رحيم إذ لم يعجل بالعقوبة وأمهل للتوبة أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملئكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (4/451)
قوله تعالى أولم يروا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر أولم يروا بالياء وقرأ حمزة والكسائي تروا بالتاء واختلف عن عاصم
قوله تعالى إلى ما خلق الله من شيء أراد من شيء له ظل من جبل أو شجر أو جسم قائم يتفيأ قرأ الجماعة بالياء وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتاء ضلاله وهو جمع ظل وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد لأنه واحد يراد به الكثرة كقوله تعالى لتستووا على ظهوره الزخرف 13 قال ابن قتيبة ومعنى يتفيأ ظلاله يدور ويرجع من جانب إلى جانب والفيء الرجوع ومنه قيل للظل بالعشي فيئ لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق قال المفسرون إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك فإذا ارتفعت كان عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك وإذا دنت للغروب كان على يسارك وإنما وحد اليمين والمراد به الجمع ايجازا في اللغظ كقوله تعالى ويولون الدبر القمر 45 ودلت الشمائل على أن المراد به الجميع وقال الفراء إنما وحد اليمين وجمع الشمائل ولم يقل الشمال لأن كل ذلك جائز في اللغة وأنشد ... الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس ...
ولم يقل جلود ومثله ... كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص ...
وإنما جاز التوحيد لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد (4/452)
وقال غيره اليمين راجعة إلى لفظ ما وهو واحد والشمائل راجعة إلى المعنى
قوله تعالى سجدا لله قال ابن قتيبة مستسلمة منقادة وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى وظلالهم بالغدو والآصال الرعد 15
وفي قوله تعالى وهم داخرون قولان
أحدهما والكفار صاغرون
والثاني وهذه الاشياء داخرة مجبولة على الطاعة قال الأخفش إنما ذكر من ليس من الإنس لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإنس في الفعل
قوله تعالى ولله يسجد مافي السموات الآية الساجدون على ضربين
أحدهما من يعقل فسجوده عبادة
والثاني من لا يعقل فسجوده بيان أثر الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه فمخلوق هذا قول جماعة من العلماء واحتجوا في ذلك بقول الشاعر ... بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر (4/453)
قال ابن قتيبة حجراته أي جوانبه يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتىخشعت وانخفضت فأما الشمس والقمر والنجوم فألحقها جماعة بمن يعقل فقال أبو العالية سجودها حقيقة ما منها غارب إلا خر ساجدا بين يدي الله عز و جل ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ويشهد لقول أبي العالية حديث أبي ذر قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد حين وجبت الشمس فقال يا أبا ذر تدري أين ذهبت الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز و جل فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها فكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها ثم قرأ والشمس تجري لمستقر لها يس 38 أخرجه البخاري ومسلم وأما النبات والشجر فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء
أحدها أن يكون سجودا لا نعلمه وهذا إذا قلنا إن الله يودعه فهما والثاني أنه تفيؤ ظلاله والثالث بيان الصنعة فيه والرابع الانقياد لما سخر له
قوله تعالى والملائكة إنما أخرج الملائكة من الدواب لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب
وفي قوله وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون قولان
أحدهما أنه من صفة الملائكة خاصة قاله ابن السائب ومقاتل
والثاني أنه عام في جميع المذكورات قاله أبو سليمان الدمشقي (4/454)
وفي قوله من فوقهم قولان ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما أنه ثناء على الله تعالى وتعظيم لشأنه وتلخيصه يخافون ربهم عاليا رفيعا عظيما
والثاني أنه حال وتلخيصه يخافون ربهم معظمين له عالمين بعظيم سلطانه وقال الله لا تتخذوا آلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله مافي السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون
قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا آلهين اثنين سبب نزولها أن رجلا من المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين فنزلت هذه الآية قاله مقاتل قال الزجاج ذكر الاثنين توكيد كما قال تعالى إنما هو إله واحد
قوله تعالى وله الدين واصبا في المراد بالدين أربعة أقوال
أحدها أنه الإخلاص قاله مجاهد والثاني العبادة قاله سعيد بن جبير
والثالث شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الحدود والفرائض قاله عكرمة والرابع الطاعة قاله ابن قتيبة
وفي معنى واصبا أربعة أقوال
أحدها دائما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد والثوري واللغويون قال أبو الأسود الدؤلي (4/455)
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا ...
قال ابن قتيبة معنى الكلام أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكه غير الله عز و جل فإن الطاعة تدوم له
والثاني واجبا رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث خالصا قاله الربيع بن أنس
والرابع وله الدين موصبا أي متعبا لأن الحق نقيل وهو كما تقول العرب هم ناصب أي منصب قال النابغة ... كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيىء الكواكب ...
ذكره ابن الأنباري قال الزجاج ويجوز أن يكون المعنى له الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أو لم يسهل فله الدين وإن كان فيه الوصب والوصب شدة التعب وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون
قوله تعالى وما بكم من نعمة قال الزجاج المعنى ما حل بكم من نعمة من صحة في جسم أو سعة في رزق أو متاع من مال وولد فمن الله وقرأ ابن أبي عبلة فمن الله بتشديد النون (4/456)
قوله تعالى ثم إذا مسكم الضر قال ابن عباس يريد الأسقام والأمراض والحاجة
قوله تعالى فإليه تجأرون قال الزجاج تجأرون ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة يقال جأر يجأر جؤارا والأصوات مبنية على فعال و فعيل فأما فعال فنحو الصراخ و الخوار وأما الفعيل فنحو العويل و الزئير والفعال أكثر
قوله تعالى إذا فريق منكم قال ابن عباس يريد أهل النفاق قال ابن السائب يعني الكفار
قوله تعالى ليكفروا بما آتيناهم قال الزجاج المعنى ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم فجعلوا نعمنا سببا إلى الكفر وهو كقوله تعالى ربنا إنك آتيت فرعون إلى قوله ليضلوا عن سبيلك يونس 88 ويجوز أن يكون ليكفروا أي ليجحدوا نعمة الله في ذلك
قوله تعالى فتمتعوا تهدد فسوف تعلمون عاقبة أمركم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون
قوله تعالى ويجعلون لما لا يعلمون يعني الأوثان
وفي الذين لا يعلمون قولان (4/457)
أحدهما أنهم الجاعلون وهم المشركون والمعنى لما لا يعلمون لها ضرا ولا نفعا فمفعول العلم محذوف وتقديره ما قلنا هذا قول مجاهد وقتادة
والثاني أنها الأصنام التي لا تعلم شيئا وليس لها حس ولا معرفة وإنما قال يعلمون لأنهم لما نحولها الفهم أجراها مجرى من يعقل على زعمهم قاله جماعة من أهل المعاني قال المفسرون وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم كالبحيرة والسائبة وغير ذلك مما شرحناه في الأنعام 139
قوله تعالى تالله لتسألن رجع عن الإخبار عنهم إلى الخطاب لهم وهذا سؤال توبيخ
قوله تعالى ويجعلون لله البنات قال المفسرون يعني خزاعة وكنانة زعموا أن الملائكة بنات الله سبحانه أي تنزه عما زعموا ولهم ما يشتهون يعني البنين قال أبوسليمان المعنى ويتمنون لأنفسهم الذكور
قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى أي أخبر أنه قد ولد له بنت ظل وجهه مسودا قال الزجاج أي متغير تغير مغتم يقال لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا
قوله تعالى وهو كظيم أي يكظم شدة وجده فلا يظهره وقد شرحناه في سورة يوسف 84
قوله تعالى يتوارى من القوم قال المفسرون وهذا صنيع مشركي العرب كان أحدهم إذا ضرب امرأته المخاض توارى إلى أن يعلم ما يولد له فان كان ذكرا سر به وإن كانت أنثى لم يظهر أياما يدبر كيف يصنع في أمرها وهو قوله تعالى أيمسكه على هون فالهاء ترجع إلى ما في قوله ما بشر به والهون في كلام العرب الهوان وقرأ ابن مسعود وابن (4/458)
أبي عبلة والجحدري على هوان والدس إخفاء الشيء في الشيء وكانوا يدفنون البنت وهي حية ألا ساء ما يحكمون إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهن منهم هذا ونسبوه إلى الولد وجعلوا لأنفسهم البنين
للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم
قوله تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء أي صفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للاناث خوف الفقر والعار ولله المثل الأعلى أي الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
قوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم أي بشركهم ومعاصيهم كلما وجد شيء منهم أوخذوا به ما ترك على ظهرها يعني الأرض وهذه كناية عن غير مذكور غير أنه مفهوم لأن الدواب إنما هي على الأرض
وفي قوله من دابة ثلاثة أقوال
أحدها أنه عنى جميع ما يدب على وجه الأرض قاله ابن مسعود قال قتادة وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام وقال السدي المعنى لأقحط المطر فلم تبق دابة إلا هلكت وإلى نحوه ذهب مقاتل
والثاني أنه أراد من الناس خاصة قاله ابن جريج
والثالث من الإنس والجن قاله ابن السائب وهو اختيار الزجاج (4/459)
قوله تعالى ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو منتهى آجالهم وباقي الآية قد تقدم الأعراف 34
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون
قوله تعالى ويجعلون لله ما يكرهون المعنى ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم وهو البنات وتصف ألسنتهم الكذب أي تقول الكذب وقرأ أبو العالية والنخعي وابن أبي عبلة الكذب بضم الكاف والذال ثم فسر ذلك الكذب بقوله أن لهم الحسنى وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها البنون قاله مجاهد وقتادة ومقاتل
والثاني أنها الجزاء الحسن من الله تعالى قاله الزجاج
والثالث أنها الجنة وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة قال المشركون إن كان ما تقولونه حقا لندخلنها قبلكم ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى لا جرم قد شرحناها فيما مضى هود 22 وقال الزجاج لا رد لقولهم والمعنى ليس ذلك كما وصفوا جرم أن لهم النار المعنى جرم فعلهم أي كسب فعلهم هذا أن لهم النار وأنهم مفرطون وفيه أربعة أوجه قرأ الأكثرون مفرطون بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها وفي معناها قولان
أحدهما متركون قاله ابن عباس وقال الفراء منسيون في النار
والثاني معجلون قاله ابن عباس أيضا وقال ابن قتيبة معجلون إلى النار قال الزجاج معنى الفرط في اللغة المتقدم فمعنى مفرطون (4/460)
مقدمون إلى النار ومن فسرها متركون فهو كذلك أيضا أي قد جعلوا مقدمين إلى العذاب أبدا متروكين فيه وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو وقتيبة عن الكسائي مفرطون بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها قال الزجاج ومعناها أنهم أفرطوا في معصية الله وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة مفرطون بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها قال الزجاج ومعناها أنهم فرطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة وتصديق هذه القراءة يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر مفرطون بفتح الفاء والراء وتشديدها قال الزجاج وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى فالمفرط والمفرط بمعنى واحد تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
قوله تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك قال المفسرون هذه (4/461)
تعزية للنبي ص - فزين لهم الشيطان أعمالهم الخبيثة حتى عصوا وكذبوا فهو وليهم اليوم فيه قولان
أحدهما أنه يوم القيامة قاله ابن السائب ومقاتل كأنهما أرادا فهو وليهم يوم تكون لهم النار
والثاني أنه الدنيا فالمعنى فهو مواليهم في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى إلا لتبين لهم يعني الكفار الذي اختلفوا فيه أي ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء فالمعنى أنزلناه بيانا لما وقع فيه الاختلاف
والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون
قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء يعني المطر فأحيا به الأرض بعد موتها أي بعد يبسها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون أي يعتبرون
قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم قرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي نسقيكم بضم النون ومثله في المؤمنين 21 وقرأ نافع وابن عامر وأبوبكر عن عاصم نسقيكم بفتح النون فيهما وقرأ أبو جعفر تسقيكم بتاء مفتوحة وكذلك في المؤمنين 21 (4/462)
وقد سبق بيان الأنعام وذكرنا معنى العبرة في آل عمران 13 والفرق بين سقى وأسقى في الحجر 22
فأما قوله مما في بطونه فقال الفراء النعم والأنعام شيء واحد وهما جمعان فرجع التذكير إلى معنى النعم إذ كان يؤدي عن الأنعام أنشدني بعضهم ... وطاب ألبان اللقاح وبرد ... فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان في معنى قال وقال الكسائي أراد نسقيكم مما في البطون ما ذكرنا وهو صواب أنشدني بعضهم ... مثل الفراخ نتفت حواصله ...
وقال المبرد هذا فاش في القرآن كقوله للشمس هذا ربي الأنعام 78 يعني هذا الشيء الطالع وكذلك وإني مرسلة إليهم بهدية ثم قال فلما جاء سليمان النمل35 36 ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا وقال أبو عبيدة الهاء في بطونه للبعض والمعنى نسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن لأنه ليس لكل الأنعام لبن وقال ابن قتيبة ذهب بقوله مما في بطونه إلى النعم والنعم تذكر وتؤنث والفرث ما في الكرش والمعنى أن اللبن كان طعاما فخلص من ذلك الطعام دم وبقي منه فرث في الكرش وخلص من ذلك الدم لبنا خالصا سائغا للشاربين أي سهلا في الشرب لا يشجى به شاربه ولا يغص وقال بعضهم سائغا أي لا تعافه النفس وإن كان قد خرج من بين فرث ودم (4/463)
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال إذا استقر العلف في الكرش طحنه فصار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا والكبد مسلطه على هذه الأصناف الثلاثة فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش
قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تقدير الكلام ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا والعرب تضمر ما كقوله وإذا رأيت ثم الإنسان 20 أي ما ثم والكناية في منه عائدة على ما المضمرة وقال الأخفش إنما لم يقل منهما لأنه أضمر الشيء كأنه قال ومنها شيء تتخذون منه سكرا
وفي المراد بالسكر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الخمر قاله ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وابراهيم ابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة وروى عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال السكر ما حرم من ثمرتها وقال هؤلاء المفسرون وهذه الآية نزلت إذ كانت الخمرة مباحة ثم نسخ ذلك بقوله فاجتنبوه المائدة 90 وممن ذكر أنها منسوخة سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي والنخعي
والثاني أن السكر الخل بلغة الحبشة رواه العوفي عن ابن عباس وقال الضحاك هو الخل بلغة اليمن
والثالث أن السكر الطعم يقال هذا له سكر أي طعم وأنشدوا ... جعلت عيب الأكرمين سكرا (4/464)
قاله أبو عبيدة فعلى هذين القولين الآية محكمة فأما الرزق الحسن فهو ما أحل منهما كالتمر والعنب والزبيب والخل ونحو ذلك
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل في هذا الوحي قولان
أحدهما أنه إلهام رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد والضحاك ومقاتل
والثاني أنه أمر رواه العوفي عن ابن عباس وروى ابن مجاهد عن أبيه قال أرسل إليها والنحل زنابير العسل واحدتها نحلة ويعرشون يجعلونه عريشا وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم يعرشون بضم الراء وهما لغتان يقال يعرش ويعرش مثل يعكف ويعكف ثم فيه قولان
أحدهما ما يعرشون من الكروم قاله ابن زيد
والثاني أنها سقوف البيوت قاله الفراء وقال ابن قتيبة كل شيء عرش من كرم أو نبات أو سقف فهو عرش ومعروش وقيل المراد مما يعرشون مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها تلقي فيها العسل ولولا التسخير ما كانت تأوي إليها
قوله تعالى ثم علي من كل الثمرات قال ابن قتيبة أي من الثمرات (4/465)
وكل هاهنا ليست على العموم ومثله قوله تدمر كل شيء الأحقاف 25 قال الزجاج فهي تأكل الحامض والمر ومالا يوصف طعمه فيحيل الله عز و جل من ذلك عسلا
قوله تعالى فاسلكي سبل ربك السبل الطرق وهي التي يطلب فيها الرعي والذلل جمع ذلول وفي الموصوف بها قولان
أحدهما أنها السبل فالمعنى اسلكي اسبل مذللة لك فلا يتوعر عليها مكان سلكته وهذا قول مجاهد واختيار الزجاج
والثاني انها النحل فالمعنى إنك مذللة بالتسخير لبني آدم وهذا وقول قتادة واختيار ابن قتيبة
قوله تعالى يخرج من بطونها شراب يعني العسل مختلف ألوانه قال ابن عباس منه أحمر وأبيض وأصفر قال الزجاج يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها وإنما قال من بطونها لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم قوله تعالى فيه شفاء للناس في هاء الكنابة ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى العسل رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود واختلفوا هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره أم لا على قولين أحدهما أنه عام في كل مرض قال ابن مسعود العسل شفاء من كل داء وقال قتادة فيه شفاء للناس من الأدواء وقد روى أبو سعيد الخدري قال جاء رجل إلى رسول الله ص - فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه ثم أتى فقال قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا قال اسقه (4/466)
عسلا فذكر الحديث إلى أن قال فشفي إما في الثالثة وإما في الرابعة فقال رسول الله ص - صدق الله وكذب بطن أخيك أخرجه البخاري ومسلم ويعني بقوله صدق الله هذه الآية والثاني فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه قاله السدي والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب قال ابن الأنباري الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء ويدخل في الأدوية فإذا لم يوافق آحاد المرضى فقد وافق الأكثرين وهذا كقول العرب الماء حياة كل شيء وقد نرى من يقتله الماء وإنما الكلام على الأغلب
والثاني أن الهاء ترجع إلى الاعتبار والشفاء بمعنى الهدى قاله الضحاك
والثالث أنها ترجع إلى القرآن قاله مجاهد والله خلقكم ثم يتوفيكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير
قوله تعالى والله خلقكم أي أو جدكم ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو أردؤه وأدونه وهي حالة الهرم وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال
أحدها خمس وسبعون سنة قاله علي عليه السلام والثاني تسعون سنة قاله قتادة والثالث ثمانون سنة قاله قطرب
قوله تعالى لكي لا يعلم بعد علم شيئا قال الفراء لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا وقال ابن قتيبة أي حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه وقال الزجاج المعنى أن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا (4/467)
فيصير بعد أن كان عالما جاهلا ليريكم من قدرته كما قدر على إماتته وإحيائه أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ليس هذا في المسلمين المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلا ومعرفة وقال عكرمة من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر
والله فضل بعضكم على بعض في الزرق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون
قوله تعالى والله فضل بعضكم على بعض في الرزق يعني فضل السادة على المماليك فما الذين فضلوا يعني السادة برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فعبرت ما عن من لأنه موضع إبهام تقول ما في الدار فيقول المخاطب رجلان أو ثلاثة ومعنى الآية أن المولى لا يرد على ما ملكت يمينه من ماله حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء وهو مثل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له والأصنام ملكا له يقول إذا لم يكن عبيدكم معكم في الملك سواء فكيف تجعلون عبيدي معي سواء وترضون لي ما تأنفون لأنفسكم منه وروى العوفي عن ابن عباس قال لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله تعالى
قوله تعالى أفبنعمة الله يجحدون قرأ أبو بكر عن عاصم تجحدون بالتاء وفي هذه النعمة قولان
أحدهما حجته وهدايته والثاني فضله ورزقه (4/468)
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
قوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يعني النساء وفي معنى من أنفسكم قولان
أحدهما أنه خلق آدم ثم خلق زوجته منه قاله قتادة
والثاني من أنفسكم أي من جنسكم من بني آدم قاله ابن زيد وفي الحفدة خمسة أقوال
أحدها أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته قاله ابن مسعود وابن عباس في رواية ومجاهد في رواية وسعيد بن جبير والنخعي وأنشدوا من ذلك ... ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير ... ولكنها نفس علي أبيه ... عيوف لأصهار اللئام قذور ...
والثاني أنهم الخدم رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية الحسن وطاووس وعكرمة في رواية الضحاك وهذا القول يحتمل وجهين أحدهما أنه يراد بالخدم الأولاد فيكون المعنى أن الأولاد يخدمون قال ابن قتيبة الحفدة الخدم والأعوان فالمعنى هم بنون وهم خدم وأصل (4/469)
الحفد مداركة الخطو والإسراع في المشي وإنما يفعل الخدم هذا فقيل لهم حفدة ومنه يقال في دعاء الوتر وإليك نسعى ونحفد والثاني أن يراد بالخدم المماليك فيكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة من غير الأزواج ذكره ابن الأنباري
والثالث أنهم بنو امرأة الرجل من غيره رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والرابع أنهم ولد الولد رواه مجاهد عن ابن عباس
والخامس أنهم كبار الأولاد والبنون صغارهم قاله ابن السائب ومقاتل قال مقاتل وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم قال الزجاج وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين ومن يعاون على ما يحتاج إليه بسرعة وطاعة
قوله تعالى ورزقكم من الطيبات قاله ابن عباس يريد من أنواع الثمار والحبوب والحيوان
قوله تعالى أفبالباطل يؤمنون فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الأصنام قاله ابن عباس
والثاني أنه الشريك والصاحبة والولد فالمعنى يصدقون أن لله ذلك قاله عطاء
والثالث أنه الشيطان أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة فصدقوا وفي المراد ب نعمة الله ثلاثة أقوال
أحدها أنها التوحيد قاله ابن عباس والثاني القرآن والرسول
والثالث الحلال الذي أحله الله لهم (4/470)
قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا وفي المشار إليه قولان
أحدهما أنها الأصنام قاله قتادة والثاني الملائكة قاله مقاتل
قوله تعالى من السموات يعني المطر و من الأرض النبات والثمر
قوله تعالى شيئا قال الأخفش جعل شيئا بدلا من الرزق والمعنى لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا ولا يستطيعون أي لا يقدرون على شيء قال الفراء وإنما قال في أول الكلام يملك وفي آخره يستطيعون لأن ما في مذهب جمع لآلهتهم فوحد يملك على لفظ ما وتوحيدها وجمع في يستطيعون على المعنى كقوله ومنهم من يستمعون إليك يونس 42
قوله تعالى فلا تضربوا لله الأمثال أي لا تشبهوه بخلقه لأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء فالمعنى لا تجعلوا له شريكا
وفي قوله إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أربعة أقوال
أحدها يعلم ضرب المثل وأنتم لا تعلمون ذلك قاله ابن السائب
والثاني يعلم أنه ليس له شريك وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك قاله مقاتل
والثالث يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه
والرابع يعلم ما كان ويكون وأنتم لا تعلمون قدر عظمته حين أشركتم به ونسبتموه إلى العجز عن بعث خلقه (4/471)
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على موليه أينما يوجهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم
قوله تعالى ضرب الله مثلا أي بين شبها فيه بيان المقصود وفيه قولان
أحدهما انه مثل للمؤمن والكافر فالذي لا يقدر على شيء هو الكافر لأنه لا خير عنده وصاحب الرزق هو المؤمن ابن لما عنده من الخير هذا قول عباس وقتادة
والثاني أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان لأنه مالك كل شيء وهي لا تملك شيئا هذا قول مجاهد والسدي وذكر في التفسير أن هذا المثل ضرب بقوم كانوا في زمن رسول الله ص - وفيهم قولان
أحدهما أن المملوك أبو الجوار وصاحب الرزق الحسن سيده هشام ابن عمرو رواه عكرمة عن ابن عباس وقال مقاتل المملوك أبو الحواجر
والثاني أن المملوك أبو جهل بن هشام وصاحب الرزق الحسن أبو بكر الصديق رضي الله عنه قاله ابن جريج فأما قوله هل يستوون ولم يقل يستويان لأن المراد الجنس وقال ابن الأنباري لفظ من لفظ توحيد ومعناها معنى الجمع ولم يقع المثل بعيد معين ومالك معين لكن عني (4/472)
بهما جماعة عبيد وقوم مالكون فلما فارق من تأويل الجمع جمع عائدها لذلك
وقوله تعالى الحمدالله أي هو المستحق للحمد لأنه المنعم ولا نعمة للأصنام بل أكثرهم يعني المشركين لا يعلمون أن الحمد الله قال العلماء وصف أكثرهم بذلك والمراد جميعهم
قوله تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم قد فسرنا البكم في البقرة 18 ومعنى لايقدر على شيء أي من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه وهو كل على مولاه قال ابن قتيبة أي ثقل على وليه وقرابته وفيمن أريد بهذا المثل أربعة أقوال
أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فالكافر هو الأبكم والذي يأمر بالعدل هو المؤمن رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في عثمان بن عفان هو الذي يأمر بالعدل وفي مولى له كان يكره الإسلام وينهى عثمان عن النفقة في سبيل الله وهو الأبكم رواه إبراهيم بن يعلى بن منية عن ابن عباس
والثالث أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن فالوثن هو الأبكم والله تعالى هو الآمر بالعدل وهذا قول مجاهد وقتادة وابن السائب ومقاتل
والرابع أن المراد بالأبكم أبي بن خلف وبالذي يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون قاله عطاء فيخرج على هذه الأقوال في معنى مولاه قولان
أحدهما أنه مولى حقيقة إذا قلنا إنه رجل من الناس
والثاني أنه بمعنى الولي إذا قلنا إنه الصنم فالمعنى وهو ثقل على (4/473)
وليه الذي يخدمه ويزينه ويخرج في معنى أينما توجه قولان إن قلنا إنه رجل في فالمعنى أينما يرسله والتوجيه الإرسال في وجه من الطريق
وإن قلنا إنه الصنم ففي معنى الكلام قولان
أحدهما أينما يدعوه لا يجيبه قاله مقاتل
والثاني أينما توجه تأميله إياه ورجاه له لا يأته ذلك بخير فحذف التأميل وخلفه الصنم كقوله ما وعدتنا على رسلك آل عمران 194 أي على ألسنة رسلك وقرأ البزي عن ابن محيصن أينما توجهه بالتاء على الخطاب
فأما قوله لا يأت بخير فان قلنا هو رجل فانما كان كذلك لأنه لا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه إما لكفره وجحوده أو لبكم به وإن قلنا إنه الصنم فلكونه جمادا هل يستوي هو أي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل أي ومن هو قادر على التكلم ناطق الحق
ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير
قوله تعالى ولله غيب السموات والأرض قد ذكرناه في آخر هود 123 وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله ص - متى الساعة فنزلت هذه قاله مقاتل وقال ابن السائب المراد بالغيب ها هنا قيام الساعة
قوله تعالى وما أمر الساعة يعني القيامة إلا كلمح البصر واللمح النظر بسرعة والمعنى إن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق كلمح العين لأن الله تعالى يقول كن فيكون البقرة 117 أو هو أقرب قال مقاتل بل هو أسرع وقال الزجاج ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ولكنه يصف سرعة القدرة على الأتيان بها متى شاء (4/474)
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون
قوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم قرأ حمزة إمهاتكم بكسر الألف والميم وقرأ الكسائي بكسر الإلف وفتح الميم والباقون بضم الألف وفتح الميم وكذلك في النور 61 و الزمر 6 و النجم 32 ولا خلاف بينهم في الابتداء
قوله تعالى وجعل لكم السمع لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع وقد بينا علة ذلك في أول البقرة 7 والأفئدة جمع فؤاد قال الزجاج مثل غراب وأغربة ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد لم يقل فيه فئدان مثل غراب وغربان وقال أبو عبيدة وإنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم غير أن العرب تقدم وتؤخر وأنشد ... ضخم تعلق أشناق الديات به ... إذا المؤون أمرت فوقه حملا ...
الشنق ما بين الفريضتين والمؤون أعظم من الشنق فبدأ بالأقل قبل الأعظم
قال المفسرون ومقصود الآية أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهالا بالأشياء وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إلى العلم
ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
قوله تعالى مسخرات في جو السماء قال الزجاج هو الهواء البعيد من الأرض (4/475)
قوله تعالى ما يمسكهن إلا الله فيه قولان
أحدهما ما يمسكهن عند قبض أجنحتهن وبسطها أن يقعن على الأرض إلا الله قاله الأكثرون
والثاني ما يمسكهن أن يرسلن الحجارة على شرار هذه الأمة كما فعل بغيرهم إلا الله قاله ابن السائب والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأو بارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فانما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون
قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي موضعا تسكنون فيه وهي المساكن المتخذة من الحجر والمدر تستر العورات والحرم وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم تستخفونها أي يخف عليكم حملها يوم ظعنكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ظعنكم بفتح العين وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (4/476)
بتسكين العين وهما لغتان كالشعر والنهر والنهر والمعنى إذا سافرتم ويوم إقامتكم أي لا تثقل عليكم في الحالين ومن أصوافها يعني الضأن وأوبارها يعني الإبل وأشعارها يعني المعز أثاثا قال الفراء الأثاث المتاع لا واحد له كما أن المتاع لا واحد له والعرب تقول جمع المتاع أمتعه ولو جمعت الأثاث لقلت ثلاثة أإثة وأثث مثل أغثه وغثث لا غير وقال ابن قتيبة الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية قال أبو زيد واحد الأثاث أثاثة وقال الزجاج يقال قد أث يأث أثا إذا صار ذا أثاث وروي عن الخليل أنه قال أصله الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض ومنه شعر أثيث
فأما قوله ومتاعا فقيل إنما جمع بينة وبين الأثاث لاختلاف اللفظين
وفي قوله إلى حين قولان
أحدهما أنه الموت والمعنى ينتفعون به إلى حين الموت قاله ابن عباس ومجاهد
والثاني انه إلى حين البلى فالمعنى إلى أن يبلى ذلك الشيء قاله مقاتل
قوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا أي مال يقيكم حر الشمس وفيه خمسة أقوال
أحدها أنه ظلال الغمام قاله ابن عباس والثاني ظلال البيوت قاله ابن السائب والثالث ظلال الشجر قاله قتادة والزجاج والرابع ظلال الشجر والجبال وقاله ابن قتيبة والخامس انه كل شيء له ظل من حائط وسقف وشجر وجبل وغير ذلك قاله أبو سليمان الدمشقي (4/477)
قوله تعالى وجعل لكم من الجبال أكنانا أي ما يكنكم من الحر والبرد وهي الغيران والأسراب وواحد الأكنان كن وكل شيء وقى شيئا وسترة فهو كن وجعل لكم سرابيل وهي القمص تقيكم الحر ولم يقل البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد وأنشد ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ...
وقال الزجاج إنما خص الحر لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناة له من البرد وهذا مذهب عطاء الخراساني
قوله تعالى وسرابيل تقيكم بأسكم يريد الدروع التي يتقون بها شدة الطعن والضرب في الحرب
قوله تعالى كذلك يتم نعمته عليكم أي مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء يتم نعمته عليكم في الدنيا لعلكم تسلمون والخطاب لأهل مكة وكان أكثرهم حينئذ كفارا ولو قيل إنه خطاب للمسلمين فالمعنى لعلكم تدومون على الإسلام وتقومون بحقه وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو رجاء لعلكم تسلمون بفتح التاء واللام على معنى لعلكم إذا لبستم الدروع تسلمون من الجراح في الحرب
قوله تعالى فان تولوا أعرضوا عن الإيمان فانما عليك البلاغ المبين وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السيف
قوله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وفي هذه النعمة قولان
أحدهما أنها المساكن نعم الله عز و جل عليهم في الدنيا وفي إنكارها ثلاثة (4/478)
أقوال أحدها أنهم يقولون هذه ورثناها عن آبائنا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نعم الله المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم وهذا عن مجاهد والثاني أنهم يقولون لولا فلان لكان كذا فهذا إنكارهم قال عون بن عبد الله والثالث يعرفون أن النعم من الله ولكن يقولون هذه بشفاعة آلهتنا قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة
والثاني أن المراد بالنعمة هاهنا محمد ص - يعرفون أنه نبي ثم يكذبونه وهذا مروي عن مجاهد والسدي والزجاج
قوله تعالى وأكثرهم الكافرون قال الحسن وجميعهم كفار فذكر الأكثر والمراد به الجميع
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأ الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأ الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى يوم نبعث من كل أمة شهيدا يعني يوم القيامة وشاهد كل أمة نبيها يشهد عليها بتصديقها وتكذبيها ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى ما أمر الله به لأن الآخرة ليست بدار تكليف (4/479)
قوله تعالى وإذا رأى الذين ظلموا أي أشركوا العذاب يعني النار فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون لا يؤخرون ولا يمهلون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يعني الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه فيقول المشركون ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو أي نعبد من دونك
فان قيل فهذا معلوم عند الله تعالى فما فائدة قولهم هؤلاء شركاؤنا فعنه جوابان
أحدهما أنهم لما كتموا الشرك في قولهم والله ما كنا مشركين عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم وإنطاق جوارحهم فقالوا عند معاينه آلهتهم رنبا هؤلاء شركاؤنا أي قد أقررنا بعد الجحد وصدقنا بعد الكذب التماسا للرحمة وفرارا من الغضب وكأن هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم
والثاني أنهم لما عاينوا عظم غضب الله تعالى قالوا هؤلاء شركاؤنا تقدير أن يعود عليهم من هذا القول روح وأن تلزم الأصنام إجرامهم أو بعض ذنوبهم إذ كانوا يدعون لها العقل والتمييز فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم
قوله تعالى فألقوا إليهم القول أي أجابوهم وقالوا لهم إنكم لكاذبون قال الفراء ردت عليهم آلهتهم قولهم وقال أبو عبيدة فألقوا أي قالوا لهم يقال ألقيت إلى فلان كذا أي قلت له قال العلماء كذبوهم في عبادتهم إياهم وذلك أن الأصنام كانت جمادا لا تعرف عابديها فظهرت فضيحتهم يومئذ إذ عبدوا من لم يعلم بعبادتهم وذلك كقوله سيكفرون بعبادتهم مريم 83 (4/480)
قوله تعالى وألقوا إلى الله يومئذ السلم المعنى أنهم استسلموا له وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم المشركون قاله الأكثرون ثم في معنى استسلامهم قولان أحدهما أنهم استسلموا له بالإقرار بتوحيده وربوبيته والثاني أنهم استسلموا لعذابه
والثاني أنهم المشركون والأصنام كلهم قال الكلبي والمعنى أنهم استسلموا لله منقادين لحكمه
قوله تعالى وضل عنهم ما كانوا يفترون فيه قولان
أحدهما بطل قولهم أنها تشفع لهم والثاني ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان أن لله شريكا وولدا
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين
قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قال ابن عباس منعوا الناس من طاعة الله والإيمان بمحمد ص -
قوله تعالى زدناهم عذابا فوق العذاب إنما نكر العذاب الأول لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم وعرف العذاب الثاني لأنه العذاب الذي يعذب به أكثر أهل النار فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل نعوذ بالله من النار وقد قيل إنما زيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم بصدهم عن سبيل الله (4/481)
وفي صفة هذا العذاب الذي زيدوا أربعة أقوال
أحدها أنها عقارب كأمثال النحل الطوال رواه مسروق عن ابن مسعود
والثاني أنها حيات كأمثال الفيلة وعقارب كأمثال البغال رواه زر عن ابن مسعود
والثالث أنها خمسة أنهار من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار قاله ابن عباس
والرابع أنه الزمهرير ذكره ابن الأنباري
قال الزجاج يخرجون من حر النار إلى المزمهرية فيتبادرون من شدة برده إلى النار
قوله تعالى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم قومه قال ابن عباس
والثاني أمته قاله مقاتل وتم الكلام هاهنا ثم قال ونزلنا عليك الكتاب تبيانا قال الزجاج التبيان اسم في معنى البيان
فأما قوله تعالى لكل شيء فقال العلماء بالمعاني لكل شيء من أمور الدين إما بالنص عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم مثل بيان رسول الله ص - أو إجماع المسلمين
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاىء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم (4/482)
ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون
قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل فيه أربعة أقوال
أحدها أنه شهادة أن لا إله إلا الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه الحق رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أن استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى قاله سفيان بن عيينة
والرابع أنه القضاء بالحق ذكره الماوردي قال أبو سليمان العدل في كلام العرب الإنصاف وأعظم الإنصاف الاعتراف للمنعم بنعمته
وفي المراد بالإحسان خمسة أقوال
أحدها أنه أداء الفرائض رواه أبي طلحة عن ابن عباس والثاني العفو رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث الإخلاص رواه أبو صالح عن ابن عباس والرابع أن تعبد الله كأنك تراه رواه عطاء عن ابن عباس والخامس أن تكون السريرة أحسن من العلانية قاله سفيان بن عيينة
فأما قوله تعالى وإيتاء ذي القربي فالمراد به صلة الأرحام وفي الفحشاء قولان
أحدهما أنها الزنا قاله ابن عباس والثاني المعاصي قاله مقاتل (4/483)
وفي المنكر أربعة أقوال
أحدها أنه الشرك قال مقاتل والثاني أنه ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والثالث أنه ما وعد الله عليه النار ذكرهما ابن السائب والرابع أن تكون علانية الإنسان أحسن من سريرته قاله سفيان بن عيينة
فأما البغي فقال ابن عباس هو الظلم وقد سبق شرحه في مواضع البقرة 173 والأعراف 33 ويونس 23 90
قوله تعالى يعظكم قال ابن عباس يؤدبكم وقد ذكرنا معنى الوعظ في سورة النساء 58 و تذكرون بمعنى تتعظون قال ابن مسعود هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر وقال الحسن والله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة الله إلا جمعاه ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئا من معصية الله إلا جمعوه
قوله تعال وأوفوا بعهد الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية قاله مجاهد وقتادة
والثاني أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله ص - قال المفسرون العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله فإذا عاهد العبد عليه وجب الوفاء به والوعد من العهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها أب بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين بخلاف لغو اليمين ووكدت الشيء توكيدا لغة أهل الحجاز فأما أهل نجد فيقولون أكدته تأكيدا وقال الزجاج يقال وكدت الأمر وأكدت لغتنان جيدتان والأصل الواو والهمزة بدل منها (4/484)
قوله تعالى وقد جعلتم الله عليكم كفيلا أي بالوفاء وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه
وللمفسرين في معنى كفيلا ثلاثة أقوا أحدها شهيدا قاله سعيد بن جبير والثاني وكيلا قاله مجاهد
والثالث حفيظا مراعيا لعقدكم قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها قال مجاهد هذا فعل نساء أهل نجد تنقض إحداهن حبلها ثم تنفشه ثم تخلطه بالصوف فتعزله وقال مقاتل هي امرأة من قريش تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب كانت إذا غزلت نقضته وقال ابن السائب اسمها رائطة وقال ابن الأنباري اسمها ريطة بنت عمرو المرية ولقبها الجعراء وهي من أهل مكة وكانت معروفة عند المخاطبين فعرفوها بوصفها ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك كانت متناهية الحمق تغزل الغزل من القطن أو الصوف فتحكمه ثم تأمر جاريتها بتقطيعه وقال بعضهم كانت تغزل هي وجواريها ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن فضربها الله مثلا لناقضي العهد ونقضت بمعنى تنقض كقوله ونادى أصحاب الجنة الأعراف 43 بمعنى وينادي
وفي المراد بالغزل قولان
أحدهما أنه الغزل المعروف سواء كان من قطن أو صوف أو شعر وهو قول الأكثرين
والثاني أنه الحبل قاله مجاهد وقوله من بعد قوة قال قتادة من بعد إبرام وقوله أنكاثا أي أنقاضا قال ابن قتيبة الأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره وواحدها نكث يقول لا تؤكدوا على (4/485)
أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك النسج فجعلته أنكاثا
قوله تعالى تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أي دغلا ومكرا وخديعة وكل شيء دخله عيب فهو مدخول وفيه دخل
قوله تعالى أن تكون أمة قال ابن قتيبة لأن تكون أمة هي أربى أي هي أغنى من أمة وقال الزجاج المعنى بأن تكون أمة هي أكثر يقال ربا الشيء يربو إذا كثر قال ابن الأنباري قال اللغويون أربى أزيد عددا قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون اولئك فنهوا عن ذلك وقال الفراء المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو قلتكم وكثرتهم وقد غررتموهم بالأيمان
قوله تعالى إنما يبلوكم الله به في هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الكثرة قاله سعيد بن جبير وابن السائب ومقاتل فيكون المعنى إنما يختبركم الله بالكثرة فإذا كان بين قومين عهد فكثر أحدهما فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقل فإن قيل إذا كنى عن الكثرة فهلا قيل بها فقد أجاب عنه ابن الأنباري بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقيا فحملت على معنى التذكير كما حملت الصيحة على معنى الصباح
والثاني أنها ترجع إلى العهد فإنه لدلالة الأيمان عليه يجرى مجرى المظهر ذكره ابن الأنباري
والثالث أنها ترجع إلى الأمر بالوفاء ذكه بعض المفسرين
قوله تعالى ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة قد فسرناه في آخر هود 118 (4/486)
قوله تعالى ولكن يضل من يشاء صريح في تكذيب القدرية حيث أضاف الإضلال والهداية إليه وعلقهما بمشيئته
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون
قوله تعالى ولا تتخذوا أيمانكم دخلا هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة فتزل قدم بعد ثبوتها قال أبو عبيدة هذا مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة زلت به قدمه قال مقاتل ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة قال المفسرون وهذا نهى للذين بايعوا رسول الله ص - على الإسلام ونصرة الدين عن نقض العهد ويدل عليه قوله يتعالى وتذوقوا السوء يعني العقوبة بما صددتم عن سبيل الله يريد أنهم إذا نقضوا عهدهم مع رسول الله ص - صدوا الناس عن الإسلام فاستحقوا العذاب
وقوله تعالى ولكم عذاب عظيم يعني في الآخرة ثم أكد ذلك بقوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في رجلين اختصما إلى رسول الله ص - في أرض يقال لأحدهما عيدان بن أشوع وهو صاحب الأرض وللآخر امرؤ القيس وهو المدعى عليه فهم امرؤ القيس أن يحلف فأخره رسول الله ص - فنزلت هذه الآية وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض ربيعة بن عبدان وقيل عيدان (4/487)
بفتح العين وياء معجمه باثنتين ومعنى الآية لاتنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضا يسيرا من الدنيا إن ما عندالله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل
ما عندكم ينفذ أي يفنى وما عندالله في الآخرة باق وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه ولا خلاف في حذفها في الوصل ولنجزين الذين صبروا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وليجزين بالياء وقرأ ابن كثير وعاصم ولنجزين بالنون
ولم يختلفوا في ولنجزينهم أجرهم أنها بالنون ومعنى هذه الآية وليجزين الذين صبروا على أمره بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا ويتجاوز عن سيئاتهم
من عمل صالحا من ذكر أو وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون
قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن في سبب نزولها قولان أحدهما أن امرأ القيس المتقدم ذكره أقر بالحق الذي هم أن يحلف عليه فنزلت فيه من عمل صالحا وهو إقراره بالحق قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن ناسا من أهل التوارة وأهل الأنجيل وأهل الأوثان جلسوا فتفاضلوا فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح
قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال أحدها أنها في الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال
أحدها أنها القناعة قال علي عليه السلام وابن عباس في رواية والحسن في (4/488)
رواية ووهب بن منبه
والثاني أنها الرزق الحلال رواه أبو مالك عن ابن عباس وقال الضحاك يأكل حلالا ويلبس حلالا
والثالث أنها السعادة رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أنها الطاعة قاله عكرمة
والخامس أنها رزق يوم بيوم قاله قتادة
والسادس أنها الرزق الطيب والعمل الصالح قاله إسماعيل بن أبي خالد
والسابع أنها حلاوة الطاعة قاله أبو بكر الوراق
والثامن العافية والكفاية
والتاسع الرضى بالقضاء ذكرهما الماوردي
والثاني أنها في الآخرة قاله الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد وذلك إنما يكون الجنة
والثالث أنها في القبر رواه أبو غسان عن شريك
فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين
قوله تعالى فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى فاذا أردت القراءة فاستعذ ومثله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم المائدة 6 وقوله وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الأحزاب 53 وقوله إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة المجادلة 12
ومثله في الكلام إذا أكلت فقل باسم الله هذا قول عامة العلماء واللغويين (4/489)
والثاني أنه على ظاهره وأن الاستعاذة بعد القراءة روي عن أبي هريرة وداود
والثالث أنه من المقدم والمؤخر فالمعنى فاذا استعذت بالله فاقرأ قاله أبو حاتم السجستاني والأول أصح
فصل
والاستعاذة عند القراءة سنة في الصلاة وغيرها
وفي صفتها عن أحمد روايتان
إحدها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم رواها أبو بكر المروزي
والثانية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم رواها حنبل وقد بينا معنى أعوذ في أول الكتاب ص7 وشرحنا اشتقاق الشيطان في البقرة 14 والرجيم في آل عمران 36
قوله تعالى إنه ليس له سلطان على الذين امنوا في المراد بالسلطان قولان
أحدهما أنه التسلط
ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين الحجر 42
والثاني ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه
والثالث ليس له قدره على أن يحملهم على ذنب لا يغفر
والثاني أنه الحجة فالمعنى ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي قاله مجاهد (4/490)
فأما قوله يتولونه معناه يطيعونه
وفي هاء الكناية في قوله والذين هم به مشركون قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى قاله مجاهد والضحاك
والثاني أنها ترجع إلى الشيطان فالمعنى الذين هم من أجله مشركون بالله وهذا كما يقال صار فلان بك عالما أي من أجلك هذا قول ابن قتيبة وقال ابن الأنباري المعنى والذين هم باشراكهم إبليس في العبادة مشركون بالله تعالى
قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزل الآية فيعمل بها مدة ثم ينسخها فقال كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر من أصحابه يأمرهم اليوم بأمر ويأتيهم غدا بما هو أهون عليهم منه فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس والمعنى إذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة والله أعلم بما ينزل من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قالوا إنما أنت مفتر أي كاذب بل أكثرهم لايعلمون فيه قولان
أحدهما لايعلمون أن الله أنزله
والثاني لايعلمون فائدة النسخ
قوله تعالى قل نزله يعني القرآن روح القدس يعني جبريل وقد شرحنا هذا الاسم في البقرة 87
قوله تعالى من ربك أي من كلامه بالحق أي بالأمر الصحيح ليثبت الذين آمنوا بما فيه من البينات فيزدادوا يقينا
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين (4/491)
لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون
قوله تعالى ولقد نعلم أنهم يقولون يعني قريشا إنما يعلمه بشر أي آدمي وما هو من عند الله
وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال
أحدها أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له يعيش يقرأ التوراة فقالوا منه يتعلم محمد فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وقال عكرمة في رواية كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي وكان روميا
والثاني أنه فتى كان بمكة يسمى بلعام وكان نصرانيا أعجميا وكان رسول الله ص - يعلمه فلما رأى المشركون دخوله إليه وخروجه قالوا ذلك روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله ص - فيملى عليه سميع عليم فيكتب هو عزيز حكيم أو هذا فقال رسول الله ص - أي ذلك كتبت فهو كذلك فافتتن وقال إن محمدا يكل ذلك إلي فأكتب ما شئت روي عن سعيد بن المسيب
والرابع أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له جابر وكان جابر يأتي رسول الله ص - فيتعلم منه فقال المشركون إنما يتعلم محمد من هذا قاله سعيد بن جبير (4/492)
والخامس أنهم عنوا سلمان الفارسي قاله الضحاك وفيه بعد من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة وهذه الآية مكية
والسادس أنهم عنوا به رجلا حدادا كان يقال بحنس النصراني قاله ابن زيد
والسابع أنهم عنوا به غلاما لعامر بن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا واسمه يسار ويكنى أبا فكيهة قاله مقاتل وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا إلا أنه لم يقل إنه كان يهوديا
والثامن أنهم عنوا غلاما أعجميا اسمه عايش وكان مملوكا لحويطب وكان قد أسلم قاله الفراء والزجاج
والتاسع أنهما رجلان قال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار و للآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن الإنجيل فربما مر بهما النبي ص - وهما يقرآن فيقف يستمع فقال المشركون إنما يتعلم منهما قال ابن الأنباري فعلى هذا القول يكون البشر واقعا على اثنين والبشر من أسماء الأجناس يعبر عن اثنين كما يعبر أحد عن الاثنين والجميع والمذكر والمؤنث
قوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي قرأ ابن كثير ونافع وأبوعمرو وابن عامر وعاصم يلحدون بضم الياء وكسر الحاء وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء فأما القراءة الأولى فقال (4/493)
ابن قتيبة يلحدون أي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمه وأصل الإلحاد الميل وقال الفراء يلحدون بضم الميم يعترضون ومنه قول ومن يرد فيه بالحاد بظلم الحج 25 أي باعتراض ويلحدون بفتح الياء يميلون وقال الزجاج يلحدون إليه أي يميلون القول فيه أنه أعجمي
قال ابن قتيبة لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي والعربي والأعرابي فالأعجمي الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا والأعرابي هو البدوي والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا
قوله تعالى وهذا لسان يعني القرآن عربي قال الزجاج أي أن صاحبه يتكلم بالعربية
قوله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله أي الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها وأولئك هم الكاذبون أي أن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عاداتهم وهذا رد عليهم إذ قالوا إنما أنت مفتر النحل 101 وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب لأنه خص به من لا يؤمن
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين (4/494)
طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون
قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه قال مقاتل نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح القرشي ومقيس بن صبابه وعبدالله بن أنس ابن خطل وطعمه بن أبيرق وقيس بن الوليد بن المغيرة وقيس بن الفاكه المخزومي
فأما قوله تعالى إلا من أكره فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال
أحدها أنه نزل في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه فأعطاهم ما أرادوا بلسانه رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال قتادة
والثاني أنه لما نزل قوله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء 96 97 كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى من كان بمكة فخرج ناس ممن أقر بالإسلام فاتبعهم المشركون فأدركوهم حتى أعطوا الفتنة فنزل إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة كان قد هاجر فحلفت أمه ألا تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع فرجع إليها فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون قاله ابن سيرين
والرابع أنه نزل في جبر غلام ابن الحضرمي كان يهوديا فأسلم فضربه سيده (4/495)
حتى رجع إلى اليهودية قاله مقاتل وأما قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا فقال مقاتل هم النفر المسمون في أول الآية
فأما التفسير فاختلف النحاة في قوله من كفر وقوله ولكن من شرح فقال الكوفيون جوابهما جمعيا في قوله فعليهم غضب فقال البصريون بل قوله من كفر مرفوع بالرد على الذين لا يؤمنون قال ابن الأنباري ويجوز أن يكون خبر من كفر محذوفا لوضوح معناه تقديره من كفر بالله فالله عليه غضبان
قوله تعالى وقلبه مطمئن بالإيمان أي ساكن إليه راض به ولكن من شرح بالكفر صدرا قال قتادة من أتاه بإيثار واختيار وقال ابن قتيبة من فتح له صدره بالقبول وقال أبو عبيدة المعنى من تابعته نفسه وانبسط إلى ذلك يقال ما ينشرح صدري بذلك أي ما يطيب وجاء قوله فعليهم غضب على معنى الجميع لأن من تقع على الجميع
فصل
الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان
إحداهما أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمر به
والثانية أن التخويف لا يكون إكراها حتى ينال بعذاب وإذ ثبت جواز التقية فالأفضل ألا يفعل نص عليه أحمد في أسير خير بين القتل (4/496)
وشرب الخمر فقال إن صبر على القتل فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة فظاهر هذا الجواز وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التقية في شرب الخمر فقال إنما التقية في القول فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك فأما إذا أكره على الزنا لم يجز له الفعل ولم يصح إكراهه نص عليه أحمد فان أكره على الطلاق لم يقع طلاقه نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يقع
قوله تعالى ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا في المشار إليه بذلك قولان
أحدهما أنه الغضب والعذب قاله مقاتل الثاني أنه شرح الصدر للكفر واستحبوا بمعنى أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة
قوله تعالى وأن الله أي وبأن الله لا يريد هدايتهم وما بعد هذا قد سبق شرحه البقرة 7 والنساء 155 والمائدة 67 إلى قوله وأولئك هم الغافلون ففيه قولان
أحدهما الغافلون عما يراد بهم قاله ابن عباس والثاني عن الآخرة قاله مقاتل
قوله تعالى لا جرم قد شرحناها في هود 22
قوله تعالى ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا اختلفوا فيمن نزلت على أربعة
أحدها أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكة من أصحاب رسول الله ص - رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أن قوما من المسلمين خرجوا للهجرة فلحقهم المشركون فأعطوهم (4/497)
الفتنة فنزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله العنكبوت 10 فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا وقتل من قتل فنزلت فيهم هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان الشيطان قد أزله حتى لحق بالكفار فأمر به رسول الله ص - أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله ص - وهذا مروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومنهبعد لأن المشار إليه وإن كان قد عاد إلى الإسلام فان الهجرة انقطعت بالفتح
والرابع أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل عمرو وعبدالله بن أسيد الثقفي قاله مقاتل
فأما قوله تعالى من بعد ما فتنوا فقرأ الأكثرون فتنوا بضم الفاء وكسر التاء على معنى من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم قال ابن عباس فتنوا بمعنى عذبوا وقرأ عبد الله بن عامر فتنوا بفتح الفاء والتاء على معنى من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله يشير إلى من أسلم من المشركين وقال أبو علي من بعد ما فتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية لأن الرخصة لم تكن نزلت بعد
قوله تعالى ثم جاهدوا أي قاتلوا مع رسول الله ص - وصبروا على الدين والجهاد إن ربك من بعدها في المكني عنها أربعة أقوال
أحدها الفتنة وهو مذهب مقاتل والثاني الفعلة التي فعلوها قاله الزجاج (4/498)
والثالث المجاهدة والمهاجرة والصبر والربع المهاجرة ذكرهما واللذين قبلهما ابن الأنباري
قوله تعالى يوم تأتي قال الزجاج هو منصوب على أحد شيئين إما على معنى إن ربك لغفور يوم تأتي وإما على معنى اذكر يوم تأتي ومعنى تجادل عن نفسها أي عنها والمراد أن كل إنسان يجادل عن نفسه وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار يا كعب خوفنا فقال إن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي وإن تصديق ذلك في كتاب الله يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقد شرحنا معنى الجدال في هود 32
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون
قوله تعالى وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة في هذه القرية قولان
أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح
والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقعدون قاله الحسن فأما ما يروى عن (4/499)
حفصة أنها قالت هي المدينة فذلك على سبيل التمثيل لا على وجه التفسير وبيانه ما روى سليم بن عنز قال صدرنا من الحج مع حفصة وعثمان محصور بالمدينة فرأت راكبين فسألنهما عنه فقالا قتل فقالت والذي نفسي بيده إنها للقرية تعني المدنية التي قال الله تعالى في كتابه و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة تعني حفصة أنها كانت على قانون الاستقامة في أيام النبي ص - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكفرت بأنعم الله عند قتل عثمان رضي الله عنه ومعنى كانت آمنة أي ذات أمن يأمن فيها أهلها أن يغار عليهم مطمئنة أي ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق وقد شرحنا معنى الرغد في البقرة 35 58
وقوله من كل مكان أي يجلب إليها من كل بلد وذلك كله بدعوة إبراهيم عليه السلام فكفرت بأنعم الله بتكذيبهم رسول الله ص - وفي واحد الأنعم قولان
أحدهما أن واحدها نعم قاله أبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني نعمة قاله الزجاج قال ابن قتيبة ليس قول من قال هو جمع نعمة بشيء لأن فعلة لا تجمع على أفعل وإنما هو جمع نعم يقال يوم نعم ويوم بؤس ويجمع أنعما وأبؤسا
قوله تعالى فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وروى عبيد بن عقيل وعبد الوارث عن أبي عمرو والخوف بنصب الفاء وأصل الذوق إنما هو بالفم وهذا استعارة منه وقد شرحنا هذا المعنى في آل عمران 106 185 وإنما ذكر اللباس هاهنا تجوزا لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف فهو كقوله ولباس التقوى الأعراف 26 وذلك لما يظهر على المتقي من أثر (4/500)
التقوى قال المفسرون عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة فأما الخوف فهو خوفهم من رسول الله ص - ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم والكلام وفي هذه الآية خرج على القرية والمراد أهلها ولذلك قال بما كانوا يصنعون يعني به بتكذيبهم لرسول الله ص - وإخراجهم إياه وما هموا به من قتله
ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون
قوله تعالى ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني محمدا ص - فكذبوه فأخذهم العذاب وفيه قولان
أحدهما أنه الجوع قاله ابن عباس والثاني القتل ببدر قاله مجاهد قال ابن السائب وهم ظالمون أي كافرون
فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم
قوله تعالى فكلوا مما رزقكم الله في المخاطبين بهذا قولان
أحدهما أنهم المسلمون وهو قول الجمهور
والثاني أنهم أهل مكة المشركون لما اشتدت مجاعتهم كلم رؤساؤهم رسول الله ص - فقالوا إن كنت عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان فأذن رسول الله ص - للناس أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الثعلبي وذكر نحوه الفراء وهذه الآية والتي تليها مفسرتان في البقرة 172 173 (4/501)
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم
قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب قال ابن الأنباري اللام في لما بمعنى من أجل وتلخيص الكلام ولا تقولوا هذه الميتة حلال وهذه البحيرة حرام من أجل كذبكم وإقدامكم على الوصف والتخرص لما لا أصل له فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله وإنه لحب الخير لشديد العاديات 8 أي وإنه من أجل حب الخير لبخيل وما بمعنى المصدر والكذب منصوب ب تصف والتلخيص لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب وقرأ ابن أبي عبلة الكذب قال ابن القاسم هو نعت الألسنة وهو جمع كذوب قال المفسرون والمعنى أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلا الكذب والإشارة بقوله هذا حلال وهذا حرام إلى ما كانوا يحلون ويحرمون لتفتروا على الله الكذب وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون هو أمرنا بهذا
وقوله متاع قليل أي متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل
وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل يعني به (4/502)
ما ذكر في الأنعام 126 وهو قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وما ظلمناهم بتحريمنا ما حر منا عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالبغي والمعاصي
قوله تعال ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة قد شرحناه في سورة النساء 17 وشرحنا في البقرة 160 التوبة والاصلاح وذكرنا معنى قوله من بعدها آنفا إن إبرهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتبيه وهديه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين
قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة قال ابن الأنباري هذا مثل قول العرب فلان رحمة وفلان علامة ونسابه ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه والعرب قد توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله فنادته الملائكة آل عمران 39 وإنما ناداه جبريل وحده وللمفسرين في المراد بالأمة هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أن الأمة الذي يعلم الخير قاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة
والثاني أنه المؤمن وحده في زمانه روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث أنه الإمام الذي يقتدى به قاله قتادة ومقاتل أو عبيدة وهو في معنى القول الأول فأما القانت فقال ابن مسعود هو المطيع وقد شرحنا القنوت في البقرة 116 238 وكذلك الحنيف البقرة 135 (4/503)
قوله تعال ولم يك قال الزجاج أصلها لم يكن وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف وذكر الجلة من البصرين أنها إنما احتملت الحذف لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف وأنها قد أشبهت حروف اللين وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة وأنها غنة تخرج من الأنف فلذلك احتملت الحذف
قوله تعالى شاكرا لأنعمه انتصب بدلا من قوله أمه قانتا وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفا وشرحنا معنى الاجتباء في الأنعام 87 قال مقاتل والمراد بالصراط المستقيم هاهنا الإسلام
قوله تعالى وآتيناه في الدنيا حسنة فيها ستة أقوال
أحدها أنه الذكر الحسن قاله ابن عباس والثاني النبوة قاله الحسن
والثالث لسان صدق قاله مجاهد والرابع اجتماع المل على ولايته فكلهم يتولونه ويرضونه قاله قتادة والخامس أنها الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد ص - قاله مقاتل بن حيان والسادس الأولاد الأبرار على الكبر حكاه الثعلبي وباقي الآية مفسر في البقرة 130 ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبرهيم حنيفا وما كان من المشركين
قوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ملته دينه وفيما أمر باتباعه من ذلك قولان
أحدهما أنه أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه وهذا هو الظاهر
والثاني اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام قاله (4/504)
أبو جعفر الطبري
وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول لأن رسولنا أفضل الرسل وإنما أمر باتباعه لسبقه إلى القول بالحق
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون
قوله تعالى إنما جعل السبت أي إنما فرض تعظيمه وتحريمه وقرأ الحسن وأبو حيوة إنما جعل بفتح الجيم والعين السبت بنصب التاء على الذين اختلفوا فيه والهاء ترجع إلى السبت
وفي معنى اختلافهم فيه قولان
أحدهما أن موسى قال لهم تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من صنيعكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نبتغي إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل لما أمرهم موسى بيوم الجمعة قالوا نتفرغ يوم السبت فان الله لم يخلق فيه شيئا فقال إنما أمرت بيوم الجمعة فقال أحبارهم انتهوا إلى أمر نبيكم فأبوا فذلك اختلافهم فلما رأى موسى حرصهم على السبت أمرهم به فاستحلوا فيه المعاصي وروى سعيد بت جبير عن ابن عباس قال رأى موسى رجلا يحمل قصبا يوم السبت فضرب عنقه وعكفت عليه الطير أربعين صباحا وذكر ابن قتيبة في مختلف الحديث أن الله تعالى بعث موسى بالسبت ونسخ السبت بالمسيح
والثاني أنه بعضهم استحله وبعضهم حرمه قاله قتادة (4/505)
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
قوله تعالى ادع إلى سبيل ربك قال ابن عباس نزلت مع الآية التي بعدها وسنذكر هناك السبب فأما السبيل فقال مقاتل هو دين الإسلام
وفي المراد بالحكمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها القرآن رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الفقه قاله الضحاك عن ابن عباس
والثالث النبوة ذكره الزجاج
وفي الموعظة الحسنة قولان
أحدهما مواعظ القرآن قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الأدب الجميل الذي يعرفونه قاله الضحاك عن ابن عباس
قوله تعالى وجادلهم في المشار إليه قولان
أحدهما أنهم أهل مكة قاله أبوصالح
والثاني أهل الكتاب قاله مقاتل
وفي قوله بالتي هي أحسن ثلاثة أقوال
أحدها جادلهم بالقرآن
والثاني ب لاآله إلا الله روي القولان عن ابن عباس
والثالث جادلهم غير فظ ولا غليظ وألن لهم جانبك قاله الزجاج وقال بعض علماء التفسير وهذا منسوخ بآية السيف
قوله تعالى إن ربك هو أعلم المعنى هو أعلم بالفريقين فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح (4/506)
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رسول الله ص - أشرف على حمزة فرآه صريعا فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه فقال والله لأمثلن بسبعين منهم فنزل جبريل والنبي ص - واقف بقوله وإن عاقبتم إلى أخرها فصبر رسول الله وكفر عن يمينه قاله أبو هريرة وقال ابن عباس رأى رسول الله ص - حمزة قد شق بطنه وجدعت أذناه فقال لولا أن تحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير ولأقتلن مكانه سبعين رجلا منهم فنزل قوله أدع إلى سبيل ربك إلى قوله وما صبرك إلا بالله وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله ص - قال يومئذ لئن ظفرت بقاتل حمزة لأمثلن به مثلة تتحدث بها العرب وكانت هند وآخرون معها قد مثلوا به فنزلت هذه الآية
والثاني أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ومثلوا بقتلاهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما من الدهر لنزيدن على عدتهم مرتين فنزلت هذه الآية قاله أبي بن كعب (4/507)
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا لئن أمكننا الله منهم لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات فنزلت هذه الآية يقول إن كنتم فاعلين فمثلوا بالأموات كما مثلوا بأمواتكم قال ابن الأنباري وإنما سمى فعل المشركين معاقبة وهم ابتدؤوا بالمثلة ليزدوج اللفظان فيخف على اللسان كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى 40
فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا على قولين
أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر رسول الله ص - أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد قاله ابن عباس والضحاك فعلى هذا يكون المعنى ولئن صبرتم عن القتال ثم نسخ هذا بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5
والثاني أنها محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم ظلامه فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه قاله مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري وعلى هذا يكون المعنى ولئن صبرتم عن المثلة لا عن القتال
قوله تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله أي بتوفقيه ومعونته وهذا أمر بالعزيمة
وفي قوله ولا تحزن عليهم قولان
أحدهما على كفار مكة إن لم يسلموا قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني ولا تحزن على قتلى أحد فانهم أفضوا إلى رحمة الله ذكره علي بن أحمد النيسابوري (4/508)
قوله تعالى ولا تك في ضيق قرأ الأكثرون بنصب الضاد وقرأ ابن كثير في ضيق بكسر الضاد ها هنا وفي النمل 70 قال الفراء الضيق بفتح الضاد ما ضاق عنه صدرك والضيق ما يكون في الذي يضيق ويتسع مثل الدار والثوب وأشباه ذلك وقال ابن قتيبة الضيق تخفيف ضيق مثل هين ولين وهو إذا كان على هذا التأويل صفه كأنه قال لا تك في أمر ضيق من مكرهم قال ويقال مكان ضيق وضيق بمعنى واحد كما يقال رطل ورطل وهذا أعجب إلي فأما مكرهم المذكور ها هنا فقال أبوصالح عن ابن عباس فعلهم وعملهم
قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا ما نهاهم عنه وأحسنوا فيما أمرهم به بالعون والنصر (4/509)
سورة بني اسرئيل
فصل في نزولها
هي مكية في قول الجماعة الا ان بعضهم يقول فيها مدني فروي عن ابن عباس انه قال هي مكية الا ثمان آيات من قوله وان كادوا ليفتنونك الى قوله نصيرا الإسراء 73 - 75 هذا قول قتادة وقال مقاتل فيها من المدني وقل رب أدخلني مدخل صدق الاسراء 80 وقوله ان الذين أوتوا العلم من قبله الاسراء 107 وقوله ان ربك أحاط بالناس الاسراء 60 وقوله وان كادوا ليفتنونك الاسراء 73 وقوله وان كادوا ليستفزونك الاسراء 76 وقوله ولو لا ان ثبتناك والتي تليها الاسراء 7475 بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير
قوله تعالى سبحان روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه سئل عن تفسير سبحان الله فقال تنزيه لله عن كل سوء وقد ذكرنا هذا المعنى في البقرة 32 (5/3)
قال الزجاج واسرى بمعنى سير عبده يقال أسريت وسريت اذا سرت ليلا وقد جاءت اللغتان في القرآن قال الله تعالى والليل اذا يسر الفجر 4
وفي معنى التسبيح هاهنا قولان
أحدهما ان العرب تسبح عند الامر المعجب فكأن الله تعالى عجب العباد مما أسدى الى رسوله من النعمة
والثاني ان يكون خرج مخرج الرد عليهم لأنه لما حدثهم بالاسراء كذبوه فيكون المعنى تنزه الله ان يتخذ رسولا كذابا ولا خلاف ان المراد بعبده هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم
وفي قوله من المسجد الحرام قولان
احدهما انه اسري به من نفس المسجد قاله الحسن وقتاده ويسنده حديث مالك بن صعصعة وهو في الصحيحين بينا ان في الحطيم وربما قال بعض الرواة في الحجر
والثاني انه اسري به من بيت ام هانئ وهو قول اكثر المفسرين (5/4)
فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام الحرم والحرم كله مسجد ذكره القاضي ابو يعلى وغيره
فأما المسجد الاقصى فهو بيت المقدس وقيل له الاقصى لبعد المسافة بين المسجدين ومعنى باركنا حوله ان الله اجرى حوله الانهار وانبت الثمار وقيل لأنه مقر الانبياء ومهبط الملائكة
واختلف العلماء هل دخل بيت المقدس ام لا فروى ابو هريرة انه دخل بيت المقدس وصلى فيه بالانبياء ثم عرج به الى السماء وقال حذيفة بن اليمان لم يدخل بيت المقدس ولم يصل فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به
فان قيل ما معنى قوله الى المسجد الاقصى وانتم تقولون صعد الى السماء
فالجواب ان الاسراء كان الى هنالك والمعراج كان من هنالك
وقال ان الحكمة في ذكر ذلك انه لو اخبر بصعوده الى السماء في بدء الحديث لاشتد انكارهم فلم اخبر ببيت المقدس وبان لهم صدقه فيما اخبرهم به من العلامات الصادقة اخبر بمعراجه
قوله تعالى لنريه من آياتنا يعني ما رأى أي تلك الليلة من العجائب التي اخبر بها الناس انه هو السميع لمقالة قريش البصير بها وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب الحدائق احاديث المعراج وكرهنا الاطالة هاهنا
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا (5/5)
قوله تعالى وآتينا موسى الكتاب لما ذكر في الاية الاولى اكرام محمد صلى الله عليه و سلم ذكر في هذه كرامة موسى والكتاب التوراة وجعلناه هدى لبني اسرائيل أي دللناهم به على الهدى الا تتخذوا قرأ ابو عمرو يتخذوا بالياء والمعنى هديناهم لئلا يتخذوا وقرأ الباقون بالتاء قال ابو علي وهو على الانصراف الى الخطاب بعد الغيبة مثل الحمد لله ثم قال اياك نعبد
قوله تعالى وكيلا قال مجاهد شريكا وقال الزجاج ربا قال ابن الانباري وانما قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشأن عباده من اجل ان الوكيل عند الناس قد علم انه يقوم بشؤون اصحابه وتفقد امورهم فكان الرب وكيلا من هذه الجهة لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط امر الوكيل
قوله تعالى ذرية من حملنا قال مجاهد هو نداء ياذرية من حملنا قال ابن الانباري من قرأ الا تتخذوا بالتاء فانه يقول بعد الذرية مضمر حذف اعتمادا على دلالة ما سبق تلخيصه يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلا ويجوز ان يستغني عن الاضمار بقوله انه كان عبدا شكورا لأنه بمعنى اشكروني كشكره ومن قرأ لا يتخذوا بالياء جعل النداء متصلا بالخطاب والذرية تنتصب بالنداء ويجوز نصبها بالاتخاذ على انها مفعول ثان تلخيص الكلام ان لا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا قال قتادة الناس كلهم ذرية من انجى الله في تلك السفينة
قال العلماء ووجه الانعام على الخلق بهذا القول أنهم كانوا في صلب من نجا
قوله تعالى انه كان عبدا شكورا قال سلمان الفارسي كان اذا اكل (5/6)
قال الحمد لله واذا شرب قال الحمد لله وقال غيره كان اذا لبس ثوبا قال الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا
وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فاذا جاء وعد اولهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم بأموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا
قوله تعالى وقضينا الى بني اسرائيل فيه قولان
احدهما اخبرناهم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني قضينا عليهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة فعلى الأول تكون الى على اصلها ويكون الكتاب التوراة وعلى الثاني تكون إلى بمعنى على ويكون الكتاب الذكر الاول
قوله تعالى لتفسدن في الارض يعني ارض مصر مرتين بالمعاصي ومخالفة التوراة
وفي من قتلوه من الانبياء في الفساد الاول قولان
أحدهما زكريا قاله السدي عن اشياخه (5/7)
والثاني شعيا قاله ابن اسحاق فأما المقتول من الانبياء في الفساد الثاني فهو يحيى بن زكريا قال مقاتل كان بين الفسادين مائتا سنة وعشر سنين فأما السبب في قتلهم زكريا فانهم اتهموه بمريم وقالوا منه حملت فهرب منهم فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب فجاءهم الشيطان فدلهم عليه فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها وأما السبب في قتلهم شعيا فهو انه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي وقيل هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار وان زكريا مات حتف انفه واما السبب في قتلهم يحيى بن زكريا ففيه قولان
احدهما ان ملكهم اراد نكاح امرأة لا تحل له فنهاه عنها يحيى ثم فيها اربعة أقوال احدها انها ابنة اخيه قال ابن عباس والثاني ابنته قاله عبد الله بن الزبير والثالث انها امرأة أخيه وكان ذلك لا يصلح عندهم قاله الحسين بن علي عليهما السلام والرابع ابنة أمرأته قاله السدي عن اشياخه وذكر ان السبب في ذلك ان ملك بني اسرائيل هوي بنت امرأته فسأل يحيى عن نكاحها فنهاه فحنقت امها على يحيى حين نهاه ان يتزوج ابنتها وعمدت الى ابنتها فزينتها وارسلتها الى الملك حين جلس على شرابه وأمرتها ان تسقيه وان تعرض له فان ارادها على نفسها ابت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست ففعلت ذلك فقال ويحك سليني غير هذا فقالت ما اريد الا هذا فأمر فأتي برأسه والراس يتكلم ويقول لا تحل لك لا تحل لك
والقول الثاني ان امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد اعطي حسنا وجمالا فأرادته على نفسه فأبى فقالت لابنتها سلي اباك رأس يحيى فأعطاها (5/8)
ما سألت قاله الربيع بن انس قال العلماء بالسير ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني اسرائيل سبعون الفا فسكن وقيل لم يسكن حتى جاء قاتله فقال انا قتلته فقتل فسكن
قوله تعالى ولتعلن علوا كبيرا أي لتعظمن عن الطاعة ولتبغن
قوله تعالى فاذا جاء وعد أولاهما أي عقوبة أولى المرتين بعثنا أي ارسلنا عليكم عبادا لنا وفيهم خمسة اقوال
احدها انهم جالوت وجنوده قاله ابن عباس وقتادة والثاني بختنصر قاله سعيد بن المسيب واختاره الفراء والزجاج والثالث العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن والرابع سنحاريب قاله سعيد بن جبير والخامس قوم من اهل فارس قاله مجاهد وقال ابن زيد سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس
قوله تعالى أولي بأس شديد أي ذوي عدد وقوة في القتال
وفي قوله فجاسوا خلال الديار ثلاثة اقوال
احدها مشوا بين منازلهم قاله ابن ابي طلحة عن ابن عباس وقال مجاهد يتجسسون اخبارهم ولم يكن قتال وقال الزجاج طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي احد لم يقتلوه والجوس طلب الشيء باستقصاء
والثاني قتلوهم بين بيوتهم قاله الفراء وابو عبيدة (5/9)
والثالث عاثوا وافسدوا يقال جاسوا وحاسوا فهم يجوسون ويحوسون اذا فعلوا ذلك قاله ابن قتيبة
فأما الخلال فهي جمع خلل وهو الانفراج بين الشيئين وقرأ ابو رزين والحسن وابن جبير وابو المتوكل خلل الديار بفتح الخاء واللام من غير الف وكان وعدا مفعولا أي لا بد من كونه
قوله تعالى ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي اظفرناكم بهم والكرة معناها الرجعة والدولة وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم اليهم وحكى القراء ان رجلا دعى على بختنصر فقتله الله وعاد ملكهم اليهم وقيل غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى
قوله تعالى وجعلناكم اكثر نفيرا أي اكثر عددا وأنصارا منهم قال ابن قتيبة النفير والنافر واحد كما يقال قدير وقادر واصله من ينفر مع الرجل من عشيرته واهل بيته إن احسنتم احسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فاذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
قوله تعالى إن احسنتم أي وقلنا لكم ان فأطعتم الله احسنتم لأنفسكم أي عاقبة الطاعة لكم وان أسأتم بالفساد والمعاصي فلها وفيه قولان
أحدهما انه بمعنى فاليها والثاني فعليها
فاذا جاء وعد الاخرة جواب فاذا محذوف تقديره فاذا جاء (5/10)
وعد عقوبة المرة الاخرة من افسادكم بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم وهذا الفساد الثاني هو قتلهم يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عيسى فرفع وسلط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبوهم فذلك قوله ليسوؤوا وجوهكم قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وحفص عن عاصم ليسوؤوا بالياء على الجميع والهمز بين الواوين والإشارة الى المبعوثين وقرأ ابن عامر وحمزة وابو بكر عن عاصم ليسوء وجوهكم على التوحيد قال ابو علي فيه وجهان احدهما ليسوء الله عز و جل والثاني ليسوء البعث وقرأ الكسائي لنسوء بالنون وذلك راجع الى الله تعالى
وفيمن بعث عليهم في المرة الثانية قولان
أحدهما بختنصر قاله مجاهد وقتادة وكثير من الرواة يأبى هذا القول يقولون كان بين تخريب بختنصر بيت المقدس وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل
والثاني انطياخوس الرومي قاله مقاتل ومعنى ليسوؤوا وجوهكم أي ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم وخصت المساءاة بالوجوه والمراد اصحاب الوجوه لما يبدو عليها من اثر الحزن والكآبة
قوله تعالى وليدخلوا المسجد يعني بيت المقدس كما دخلوه في المرة الأولى وليتبروا أي ليدمروا ويخربوا قال الزجاج يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب تبر ومعنى ما علوا أي ليدمروا في حال علوهم عليكم
قوله تعالى عسى ربكم ان يرحمكم هذا مما وعدوا به في التوراة وعسى من الله واجبة فرحمهم الله بعد انتقامه منهم وعمر بلادهم واعاد نعمهم (5/11)
بعد سبعين سنة وان عدتم الى معصيتنا عدنا الى عقوبتكم قال المفسرون ثم إنهم عادوا إلى المعصية نبعث الله عليهم ملوكا من ملوك فارسي والروم قال قتادة ثم كان اخر ذلك أن بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه و سلم فهم في عذاب الى يوم القيامة فيعطون الجزية عن يد وهم صاغرون
قوله تعالى وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا فيه قولان
احدهما سجنا قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وقال مجاهد يحصرون فيها وقال ابو عبيدة وابن قتيبة محبسا وقال الزجاج حصيرا حبسا أخذ من قولك حصرت الرجل اذا حبسته فهو محصور وهذا حصيره أي محبسه والحصير المنسوج سمي حصيرا لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض ويقال للجنب حصير لأن بعض الاضلاع محصور مع بعض وقال ابن الانباري حصيرا بمعنى حاصرة فصرف من حاصرة الى حصير كما صرف مؤلم الى أليم
والثاني فراشا ومهادا قاله الحسن قال أبو عبيدة ويجوز أن تكون جهنم لهم مهادا بمنزلة الحصير والحصير البساط الصغير
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا كبيرا وان الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما
قوله تعالى ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم قال ابن الانباري التي وصف للجمع والمعنى يهدي الى الخصال التي هي اقوم الخصال قال المفسرون وهي توحيد الله والايمان به وبرسله والعمل بطاعته ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أي بأن لهم اجرا وهو الجنة وأن (5/12)
الذين لا يؤمنون بالآخرة أي ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من المشركين فعجل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين
ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا
قوله تعالى ويدعو الإنسان بالشر وذلك ان الإنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب ان يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير وكان الانسان عجولا يعجل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عجلته بالدعاء بالخير
وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة اقوال
أحدها انه اسم جنس يراد به الناس قاله الزجاج وغيره
والثاني آدم فاكتفى بذكره من ذكر ولده ذكره ابن الأنباري
والثالث انه النضر بن الحارث حين قال فأمطر علينا حجارة من السماء الانفال 32 قاله مقاتل وقال سلمان الفارسي أول ما خلق الله من آدم رأسه فجعل ينظر الى جسده كيف يخلق قال فبقيت رجلاه فقال يا رب عجل فذلك قوله وكان الانسان عجولا
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (5/13)
قوله تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين أي علامتين يدلان على قدرة خالقهما فمحونا آية الليل فيه قولان
أحدهما أن آية الليل القمر ومحوها ما في بعض القمر من الاسوداد والى هذا المعنى ذهب علي عليه السلام وابن عباس في آخرين
والثاني آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمة لليل فنسب المحو الى الظلمة اذ كانت تمحو الانوار وتبطلها ذكره ابن الانباري ويروى ان الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواء فأرسل الله جبريل فأمر جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء
قوله تعالى وجعلنا آية النهار يعني الشمس مبصرة فيه ثلاثة أقوال
أحدها منيرة قاله قتادة قال ابن الانباري وانما صلح وصف الاية بالابصار على جهة المجاز كما يقال لعب الدهر ببني فلان
والثاني ان معنى مبصرة مبصرا بها قاله ابن قتيبة
والثالث ان معنى مبصرة مبصرة فجرى مفعل مجرى مفعل والمعنى انها تبصر الناس أي تريهم الأشياء قاله ابن الأنباري ومعاني الأقوال تتقارب
قوله تعالى لتبتغوا فضلا من ربكم أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار ولتعلموا عدد السنين والحساب بمحو آية الليل ولولا ذلك لم يعرف الليل من النهار ولم يتبين العدد وكل شيء أي ما يحتاج اليه فصلناه تفصيلا بيناه تبينا لا يلتبس معه بغيره (5/14)
وكل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقه منشورا إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
قوله تعالى وكل انسان وقرأ ابن ابي عبلة وكل برفع اللام وقرأ ابن مسعود وأبي والحسن ألزمناه طيره بياء ساكنة من غير الف
وفي الطائر أربعة أقوال
أحدها شقاوته وسعادته قاله ابو صالح عن ابن عباس قال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي او سعيد
والثاني عمله قاله الفراء وعن الحسن كالقولين
والثالث انه ما يصيبه قاله خصيف وقال ابو عبيدة حظه
قال ابن قتيبة والمعنى فيما أرى والله اعلم ان لكل امرئ حظا من الخير والشر قد قضاه الله عليه فهو لازم عنقه والعرب تقول لكل ما لزم الانسان قد لزم عنقه وهذا لك علي وفي عنقي حتى اخرج منه وانما قيل للحظ من الخير والشر طائر لقول العرب جرى له الطائر بكذا من الخير وجرى له الطائر بكذا من الشر على طريق الفأل والطيرة فخاطبهم الله بما يستعملون واعلمهم ان ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو الذي يلزمه أعناقهم
وقال الازهري الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي فكتب ما علمه منهم اجمعين وقضى سعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا فصار لكل منهم ما هو صائر اليه عند خلقه وانشائه فذلك قوله الزمناه طائره في عنقه
والرابع انه ما يتطير من مثله من شيء عمله وذكر العنق عبارة عن اللزوم (5/15)
له كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس هذا قول الزجاج وقال ابن الانباري الاصل في تسميتهم العمل طائرا انهم كانوا يتطيرون من بعض الاعمال
قوله تعالى ونخرج له قرأ ابو جعفر ويخرج بياء مضمومة وفتح الراء وقرأ يعقوب وعبد الوارث بالياء مفتوحة وضم الراء وقرأ قتادة وابو المتوكل ويخرج بياء مرفوعة وكسر الراء وقرأ أبو الجوزاء والأعرج وتخرج بتاء مفتوحة ورفع الراء يوم القيامة كتابا وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك كتاب بالرفع يلقاه وقرأ ابن عامر وابو جعفر يلقاه بضم الياء وتشديد القاف وامال حمزة والكسائي القاف قال المفسرون هذا كتابه الذي فيه ما عمل وكان ابو السوار العدوي اذا قرأ هذه الآية قال نشرتان وطية اما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فأمل فيها ما شئت فاذا مت طويت ثم اذا بعثت نشرت
قوله تعالى اقرأ كتابك وقرأ ابو جعفر اقرأ بتخفيف الهمزة وفيه اضمار تقديره فيقال له اقرأ كتابك قال الحسن يقرؤه أميا كان او غير أمي ولقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك
وفي معنى حسيبا ثلاثة اقوال
احدها محاسبا والثاني شاهدا والثالث كافيا والمعنى ان الانسان يفوض اليه حسابه ليعلم عدل الله بين العباد ويرى وجوب حجة الله عليه واستحقاقه العقوبة ويعلم انه ان دخل الجنة فبفضل الله لا بعمله وان دخل النار فبذنبه قال ابن الانباري وانما قال حسيبا والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس فشبهت (5/16)
بالسماء والارض قال تعالى السماء منفطر به المزمل 18 قال الشاعر ... فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض ابقل ابقالها ... من اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
قوله تعالى من اهتدى فانما يهتدي لنفسه أي له ثواب اهتدائه وعليه عقاب ضلاله
قوله تعالى ولا تزر وازرة أي نفس وازرة وزر اخرى قال ابن عباس ان الوليد بن المغير قال اتبعوني وانا احمل اوزاركم فقال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر اخرى قال ابو عبيدة والمعنى ولا تأثم آثمة إثم أخرى قال الزجاج يقال وزر يزر فهو وازر وزرا ووزرا ووزرة ومعناه اثم إثما
وفي تأويل هذه الآية وجهان
أحدهما أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره
والثاني أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم لأن غيره عمله كما (5/17)
قال الكفار انا وجدنا آباءنا على امة الزخرف22 ومعنى حتى نبعث رسولا أي حتى نبين ما به نعذب وما من اجله ندخل الجنة
فصل
قال القاضي ابو يعلى في هذا دليل على ان معرفة الله لا تجب عقلا وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل وانه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار قال وقيل معناه انه لا يعذب في ما طريقه السمع الا بقيام حجة السمع من جهة الرسول ولهذا قالوا لو أسلم بعض اهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها لم يلزمه قضاء شيء منها لأنها لم تلزمه إلا بعد قيام حجة السمع والأصل فيه قصة أهل قباء حين استداروا الى الكعبة ولم يستأنفوا ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة فالواجب عليه القضاء لأنه قد رأى الناس يصلون في المساجد بأذان وإقامة وذلك دعاء اليها
واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم اهكلنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا
قوله تعالى واذا اردنا ان نهلك قرية في سبب ارادته لذلك قولان
احدهما ما سبق لهم في قضائه من الشقاء والثاني عنادهم الانبياء وتكذيبهم اياهم
قوله تعالى امرنا مترفيها قرأ الاكثرون أمرنا مخففة على وزن فعلنا وفيها ثلاثة اقوال (5/18)
احدها انه من الأمر وفي الكلام اضمار تقديره امرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا هذا مذهب سعيد بن جبير قال الزجاج ومثله في الكلام امرتك فعصيتني فقد علم ان المعصية مخالفة الأمر
والثاني كثرنا يقال أمرت الشيء وآمرته أي كثرته ومنه قولهم مهرة مأمورة أي كثيرة النتاج يقال أمر بنو فلان يأمرون أمرا اذا كثروا هذا قول ابي عبيدة وابن قتيبة
والثالث ان معنى امرنا امرنا يقال امرت الرجل بمعنى امرته والمعنى سلطنا مترفيها بالإمارة ذكره ابن الانباري وروى خارجة عن نافع أمرنا ممدودة مثل آمنا وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير وهي قراءة ابن عباس وابي الدرداء وابي رزين والحسن والضحاك ويعقوب قال ابن قتيبة وهي اللغة العالية المشهورة ومعناه كثرنا ايضا وروى ابن مجاهد ان أبا عمرو قرأ امرنا مشددة الميم وهي رواية أبان عن عاصم وهي قراءة ابي العالية والنخعي والجحدري قال ابن قتيبة المعنى جعلناهم أمراء وقرأ ابو المتوكل وأبو الجوزاء وابن يعمر أمرنا بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة فأما المترفون فهم المتنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش والمفسرون يقولون هم الجبارون والمسلطون والملوك وانما خص المترفين بالذكر لأنهم الرؤساء ومن عداهم تبع لهم
قوله تعالى ففسقوا فيها أي تمردوا في كفرهم لأن الفسق في الكفر الخروج الى افحشه وقد شرحنا معنى الفسق في البقرة
قوله تعالى فحق عليها القول قال مقاتل وجب عليها العذاب وقد ذكرنا معنى التدمير في الاعراف 137 (5/19)
قوله تعالى وكم اهلكنا من القرون وهو جمع قرن وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الانعام 6 وشرحنا معنى الخبير والبصير في البقرة قال مقاتل وهذه الاية تخويف لأهل مكة
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا
قوله تعالى من كان يريد العاجلة يعني من كان يريد بعمله الدنيا فعبر بالنعت عن الاسم عجلنا له فيها ما نشاء من عرض الدنيا وقيل من البسط والتقتير لمن نريد فيه قولان
أحدهما لمن نريد هلكته قاله ابو اسحاق الفزاري
والثاني لمن نريد ان نعجل له شيئا وفي هذا ذم لمن اراد بعمله الدنيا وبيان انه لا ينال مع ما يقصده منها الا ما قدر له ثم يدخل النار في الاخرة وقال ابن جرير هذه الاية لمن لا يوقن بالمعاد وقد ذكرنا معنى جنهم في البقرة 206 ومعنى يصلاها في سورة النساء 10 ومعنى مذموما مدحورا في الاعراف 18
قوله تعالى ومن اراد الاخرة يعني الجنة وسعى لها سعيها أي عمل لها العمل الذي يصلح لها وانما قال وهو مؤمن لأن الايمان شرط في صحة الاعمال فأولئك كان سعيهم مشكورا أي مقبولا وشكر الله عز و جل لهم ثوابه إياهم وثناؤه عليهم
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة (5/20)
اكبر درجات واكبر تفضيلا لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا
قوله تعالى كلا نمد هؤلاء قال الزجاج كلا منصوب ب نمد هؤلاء بدل من كل والمعنى نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك قال المفسرون كلا نعطي من الدنيا البر والفاجر والعطاء هاهنا الرزق والمحظور الممنوع والمعنى ان الرزق يعم المؤمن والكافر والآخرة للمتقين خاصة أنظر يا محمد كيف فضلنا بعضهم على بعض وفيما وفضلوا فيه قولان
أحدهما الرزق منهم مقل ومنهم مكثر
والثاني الرزق والعمل فمنهم موفق لعمل صالح ومنهم ممنوع من ذلك
قوله تعالى لا تجعل مع الله الها اخر الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمعنى عام لجميع المكلفين والمخذول الذي لا ناصر له والخذلان ترك العون قال مقاتل نزلت حين دعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم الى ملة آبائه
وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفورا
قوله تعالى وقضى ربك روى ابن ابي طلحة عن ابن عباس قال امر ربك ونقل عنه الضحاك انه قال انما هي ووصى ربك فالتصقت احدى (5/21)
الواوين ب الصاد وكذلك قرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل وسعيد ابن جبير ووصى وهذا علىخلاف ما انعقد عليه الاجماع فلا يلتفت اليه وقرأ ابو عمران وعاصم الجحدري ومعاذ القارئ وقضاء ربك بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب قال ابن الانباري هذا القضاء من باب الحتم والوجوب لكنه من باب الامر والفرض وأصل القضاء في اللغة قطع الشيء باحكام واتقان قال الشاعر يرثي عمر ... قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في اكمامها لم تفتق ...
اراد قطعتها محكما لها
قوله تعالى وبالوالدين احسانا أي وأمر بالوالدين إحسانا وهوالبر والإكرام وقد ذكرنا هذا في البقرة 83
قوله تعالى إما يبلغن قرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر يبلغن على التوحيد وقرأ حمزة والكسائي وخلف يبلغان (5/22)
على التثنية قال الفراء جعلت يبلغن فعلا لأحدهما وكرت عليهما كلاهما ومن قرا يبلغان فانه ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبل هذا فصار الفعل على عددهما ثم قال أحدهما أو كلاهما على الاستئناف كقوله فعموا وصموا المائدة 71 ثم استأنف فقال كثير منهم
قوله تعالى فلا تقل لهما اف قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم أف بالكسر من غير تنوين وقرا ابن كثير وابن عامر ويعقوب والمفضل اف بالفتح من غير تنوين وقرأ نافع وحفص عن عاصم أن بالكسر والتنوين وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر أف بالرفع والتنوين وتشديد الفاء وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري وحميد بن قيس أفا مثل تعسا وقرأ ابو عمران الجوني وأبو السماك العدوي أف بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء وهي رواية الاصمعي عن ابي عمرو وقرأ عكرمة وابو المتوكل وابو رجاء وابو الجوزاء اف باسكان الفاء وتخفيفها قال الاخفش وهذا لأن بعض العرب يقول اف لك على الحكاية والرفع قبيح لأنه لم يجيء بعده لام وقرأ ابو العالية وابو حصين الاسدي افي بتشديد الفاء وياء وروى ابن الانباري ان بعضهم قرأها إف بكسر الهمزة وقال الزجاج فيها سبع لغات الكسر بلا تنوين وبتنوين والضم بلا تنوين وبتنوين والفتح بلا تنوين وبتنوين واللغة السابعة لا تجوز في القراءة أفي بالياء هكذا قال الزجاج وقال ابن الانباري في أف عشرة أوجه أف لك بفتح الفاء وأف بكسرها وأف وأفا لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء (5/23)
كما تقول ويلا للكافرين و أف لك بالرفع والتنوين وهو رفع باللام كقوله تعالى ويل للمطففين المطففون1 وأفه لك بالخفض والتنوين تشبيها بالأصوات كقولك صه ومه وأفهأ لك على مذهب الدعاء ايضا وأفي لك على الإضافة الى النفس وأف لك بسكون الفاء تشبيها بالأدوات مثل كم وهل وبل وإف لك بكسر الألف وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال وتقول أف منه وأف وأف وأف وأفا وأف و أفي مضاف وأفها وأفا بالألف ولا تقل أفي بالياء فانه خطأ
فأما معنى أف ففيه خمسة اقوال
أحدها انه وسخ الظفر قاله الخليل والثاني وسخ الأذن قاله الاصمعي والثالث قلامة الظفر قاله ثعلب والرابع ان الأف الاحتقار والاستصغار من الأفف والأفف عند العرب القلة ذكره ابن الأنباري والخامس ان الأف ما رفعته من الأرض من عود او قصبة حكاه ابن فارس اللغوي وقرأت على شيخنا أبي منصور قال معنى الأف النتن والتضجر وأصلها نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد وللمكان تريد اماطة الأذى عنه فقيلت لكل مستثقل قال المصنف واما قولهم تف فقد جعلها قوم بمعنى أف فروي عن أبي عبيد أنه قال اصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وحكى ابن الأنباري فرقا قال اللغويون أصل الأف في اللغة وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذر ويضجر فيهه وحكى الزجاج فرقا آخر فقال قد (5/24)
قيل إن أف وسخ الأظفار والتف الشيء الحقير نحو وسخ الأذن او الشظية تؤخذ من الارض ومعنى أف النتن ومعنى الآية لا تقل لهما كلاما تتبرم فيه بهما اذا كبرا وأسنا فينبغي ان تتولى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك ولا تنهرهما أي لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما وقال عطاء بن ابي رباح لا تنقضي يدك عليهما يقال نهرته انهره نهرا وانتهرته انتهارا بمعنى واحد وقال ابن فارس نهرت الرجل وانتهرته مثل زجرته قال المفسرون وانما نهى عن اذاهما في الكبر وإن كان منهيا عنه على كل حالة لأن حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي وتكثر خدمتهما
قوله تعالى وقل لهما قولا كريما أي لينا لطيفا أحسن ما تجد وقال سعيد بن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ
قوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أي ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما وخفض الجناح قد شرحناه في الحجر 88 قال عطاء جناحك يداك فلا ترفعهما على والديك والجمهور يضمون الذال من الذل وقرا ابو رزين والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعاصم الجحدري وابن ابي عبلة بكسر الذال قال الفراء الذل ان تتذلل لهما من الذل والذل أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة والذل والذلة مصدر الذليل والذل بالكسر مصدر الذلول مثل الدابة والأرض قال ابن الانباري من قرأ الذل بكسر الذال جعله بمعنى الذل بضم الذال والذي عليه كبراء اهل اللغة ان الذل من الرجل الذليل والذل من الدابة الذلول
قوله تعالى وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا أي مثل رحمتهما إياي في (5/25)
صغري حتى ربياني وقد ذهب قوم الى ان هذا الدعاء المطلق نسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين التوبة 113 وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومقاتل قال المصنف ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء لأنه عام دخله التخصيص وقد ذكر قريبا مما قلته ابن جرير
قوله تعالى ربكم اعلم بما في نفوسكم أي بما تضمرون من البر والعقوق فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر العقوق غفر له ذلك وهو قوله ان تكونوا صالحين أي طائعين لله وقيل بارين وقيل توابين فانه كان للأوابين غفورا في الأواب عشرة أقوال
أحدها انه المسلم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني انه التواب رواه ابو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وابو عبيدة وقال ابن قتيبة هو التائب مرة بعد مرة وقال الزجاج هو التواب المقلع عن جميع ما نهاه الله عنه يقال قد آب يؤوب أوبا اذا رجع
والثالث انه المسبح رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والرابع انه المطيع لله تعالى رواه علي بن ابي طلحة عن ابن عباس
والخامس انه الذي يذكر ذنبه في الخلاء فيستغفر الله منه قاله عبيد بن عمير
والسادس انه المقبل الى الله تعالى بقلبه وعمله قاله الحسن
والسابع المصلي قاله قتادة
والثامن هو الذي يصلي بين المغرب والعشاء قاله ابن المنكدر (5/26)
والتاسع الذي يصلي صلاة الضحى قاله عون العقيلي
والعاشر انه الذي يذنب سرا ويتوب سرا قاله السدي
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان ربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا
قوله تعالى وآت ذا القربى حقه فيه قولان
احدهما انه قرابة الرجل من قبل ابيه وامه قاله ابن عباس والحسن فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال احدها ان المراد به برهم وصلتهم والثاني النفقة الواجبة لهم وقت الحاجة والثالث الوصية لهم عند الوفاة
والثاني انهم قرابة الرسول قال علي بن الحسين عليهما السلام والسدي فعلى هذا يكون حقهم إعطاؤهم من الخمس ويكون الخطاب للولاة
قوله تعالى والمسكين وابن السبيل قال القاضي ابو يعلى يجوز ان يكون المراد الصدقات الواجبة يعني الزكاة ويجوز ان يكون الحق الذي يلزمه اعطاؤه عند الضرور اليه وقيل حق المسكين من الصدقة وابن السبيل من الضيافة
قوله تعالى ولا تبذر تبذيرا في التبذير قولان
أحدهما انه انفاق المال في غير حق قاله ابن مسعود وابن (5/27)
عباس وقال مجاهد لو انفق الرجل ماله كله في حق ما كان مبذرا ولو انفق مدا في غير حق كان مبذرا قال الزجاج التبذير النفقة في غير طاعة الله وكانت الجاهلية تنحر الابل وتبذر الاموال تطلب بذلك الفخر والسمعة فأمر الله عز و جل بالنفقة في وجهها فيما يقرب منه
والثاني انه الإسراف المتلف للمال ذكره الماوردي وقال ابو عبيدة المبذر هو المسرف المفسد العائث
قوله تعالى ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم اليه ويشاكلونهم في معصية الله وكان الشيطان لربه كفورا أي جاحدا لنعمه وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنعم
قوله تعالى واما تعرضن عنهم في المشار اليهم اربعة اقوال
احدها انهم الذين تقدم ذكرهم من الاقارب والمساكين وابناء السبيل قاله الاكثرون فعلى هذا في علة هذا الاعراض قولان احدهما الاعسار قاله الجمهور والثاني خوف انفاقهم ذلك في معصية الله قاله ابن زيد وعلى هذا في الرحمة قولان احدهما الرزق قاله الاكثرون والثاني انه الصلاح والتوبة هذا على قول ابن زيد
والثاني انهم المشركون فالمعنى واما تعرضن عنهم لتكذيبهم قاله سعيد بن جبير فتحتمل اذا الرحمة وجهين احدهما انتظار النصر عليهم والثاني الهداية لهم
والثالث انهم ناس من مزينة جاؤوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لا اجد ما أحملكم عليه فبكوا فنزلت هذه الاية قاله عطاء الخراساني (5/28)
والرابع انها نزلت في خباب وبلال وعمار ومهجع ونحوهم من الفقراء كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم ويسكت قاله مقاتل فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرزق
قوله تعالى فقل لهم قولا ميسورا قال ابو عبيدة لينا هينا وهو من اليسر وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال
احدها انه العدة الحسنة قاله ابن عباس والحسن ومجاهد
والثاني انه القول الجميل مثل ان يقول رزقنا الله واياك قاله ابن زيد وهذا على ما تقدم من قوله
والثالث انه المداراة لهم باللسان على قول من قال هم المشركون قاله ابو سليمان الدمشقي وعلى هذا القول تحتمل الآية النسخ
ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا ولا تقتلو اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطأ كبيرا
قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك سبب نزولها ان غلاما جاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ان امي تسألك كذا وكذا قال ما عندنا اليوم شيء قال فتقول لك اكسني قميصك قال فخلع قميصه فدفعه اليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت هذه الاية قاله ابن مسعود وروى جابر (5/29)
ابن عبد الله نحو هذا فزاد فيه فأذن بلال للصلاة وانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه بعضهم فرأوه عريانا فنزلت هذه الاية والمعنى لا تمسك يدك عن البذل كل الامساك حتى كأنها مقبوضة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط في الاعطاء والنفقة فتقعد ملوما تولم تلوم نفسك ويلومك الناس محسورا قال ابن قتيبة تحسرك العطية وتقطعك كما يحسر السفر البعير فيبقى منقطعا به قال الزجاج المحسور الذي قد بلغ الغاية في التعب والإعياء فالمعنى فتقعد وقد بلغت في الحمل على نفسك وحالك حتى صرت بمنزلة من قد حسر قال القاضي ابو يعلى وهذا الخطاب اريد به غير رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون فلم ينههم الله لصحة يقينهم وانما نهى من خيف عليه التحسر على ما خرج من يده فأما من وثق بوعد الله تعالى فهو غير مراد بالاية
قوله تعالى ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي يوسع على من يشاء ويضيق انه كان بعباده خبيرا بصيرا حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم
قوله تعالى ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق قد فسرناه في الانعام 151
قوله تعالى كان خطءا كبيرا قرأ نافع وابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي خطءا مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة وقرأ ابن كثير وعطاء خطاء مكسورة الخاء ممدودة مهموزة وقرأ ابن عامر خطأ بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مد وقرأ ابو رزين كذلك إلا (5/30)
أنه مد وقرأ الحسن وقتادة خطءا بفتح الخاء وسكون الطاء مهموز مقصور وقرأ الزهري وحميد بن قيس خطا بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مد قال الفراء الخطء الإثم وقد يكون في معنى خطأ كما قالوا قتب وقتب وحذر وحذر ونجس ونجس والخط والخطاء والخطاء ممدود لغات وقال أبو عبيده خطئت وأخطأت لغتان وقال ابو علي قراءة ابن كثير خطاء يجوز أن تكون مصدر خاطأ وان لم يسمع خاطأ ولكن قد جاء ما يدل عليه انشد ابو عبيدة
الخطء والخطء والخطاء
وقال الاخفش خطئ يخطأ بمعنى أذنب وليس بمعنى أخطأ لأن اخطأ فيما لم يصنعه عمدا تقول فيما اتيته عمدا خطئت وفيما لم تتعمده أخطأت وقال ابن الانباري الخطء الإثم يقال قد خطئ يخطأ إذا أثم وأخطأ يخطئ إذا فارق الصواب وقد شرحنا هذا في يوسف 91 عند قوله وان كنا لخاطئين
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا
قوله تعالى ولا تقربوا الزنا وقرأ ابو رزين وابو الجوزاء والحسن بالمد قال ابو عبيدة وقد يمد الزنا في كلام اهل نجد قال الفرزدق ... ابا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا (5/31)
وقال ايضا ... أخضبت فعلك للزناء ولم تكن ... يوم اللقاء لتخضب الأبطالا ...
وقال اخر ... كانت فريضة ما نقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم ...
قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قد ذكرناه في الانعام 151
قوله تعالى فقد جعلنا قال الزجاج الأجود إدغام الدال مع الجيم والإظهار جيد بالغ إلا أن الجيم من وسط اللسان والدال من طرف اللسان والإدغام جائز لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان ووليه الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه فان لم يكن له ولي فالسلطان وليه
وللمفسرين في السلطان قولان
احدهما انه الحجة قاله ابن عباس والثاني انه الوالي والمعنى فقد جعلنا لوليه سلطانا ينصره وينصفه في حقه قاله ابن زيد
قوله تعالى فلا يسرف في القتل قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم فلا يسرف بالياء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء
وفي المشار اليه في الاية قولان (5/32)
احدهما انه ولي المقتول وفي المراد باسرافه خمسة اقوال احدها ان يقتل غير القاتل قاله بن عباس والحسن والثاني أن يقتل اثنين بواحد قاله سعيد بن بن جبير والثالث ان يقتل اشرف من الذي قتل قاله ابن زيد والرابع ان يمثل قاله قتادة والخامس ان يتولى هو قتل القاتل دون السلطان ذكره الزجاج
والثاني ان الإشارة الى القاتل الأول والمعنى فلا يسرف القاتل بالقتل تعديا وظلما قاله مجاهد
قوله تعالى انه كان منصورا أي معانا عليه
وفي هاء الكناية اربعة اقوال
احدها انها ترجع إلى الولي فالمعنى انه كان منصورا بتمكينه من القود قال قتادة والجمهور
والثاني انها ترجع الى المقتول فالمعنى انه كان منصورا بقتل قاتله قاله مجاهد
والثالث انها ترجع الى الدم فالمعنى ان دم المقتول كان منصورا أي مطلوبا به
والرابع انها ترجع الى القتل ذكر القولين الفراء
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن (5/33)
تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا
قوله تعالى ولا تقربوا ما ل اليتيم قد شرحناه في الانعام 152
قوله تعالى وأوفوا بالعهد وهو عام فيما بين العبد وبين ربه وفيما بينه وبين الناس قال الزجاج كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد
قوله تعالى كان مسؤولا قال ابن قتيبة أي مسؤولا عنه
قوله تعالى وأوفوا الكيل اذا كلتم أي أتموه ولا تبخسوا منه
قوله تعالى وزنوا بالقسطاس فيه خمس لغات أحدها قسطاس بضم القاف وسينين وهذه قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وأبن عامر وأبي بكر عن عاصم هاهنا وفي الشعراء 182 والثانية كذلك إلا أن القاف مكسورة وهذه قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم قال الفراء هما لغتان والثالثة قصطاص بصادين والرابعة قصطاس بصاد قبل الطاء وسين بعدها وهاتان مرويتان عن حمزة والخامسة قسطان بالنون قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال القسطاس الميزان رومي معرب ويقال قسطاس و قسطاس
قوله تعالى ذلك خير أي ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب اليه وأحسن تأويلا أي عاقبة في الجزاء
قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم قال الفراء أصل تقف من القيافة وهي تتبع الأثر وفيه لغتان قفا يقفو وقاف يقوف واكثر القراء يجعلونها من قفوت فيحرك الفاء الى الواو ويجزم القاف كما تقول لا تدع وقرأ معاذ القارىء لا تقف مثل تقل والعرب (5/34)
تقول قفت أثره وقفوت ومثله عاث وعثا وقاع الجمل الناقة وقعاها اذا ركبها قال الزجاج من قرأ باسكان الفاء وضم القاف من قاف يقوف فكأنه مقلوب من قفا يقفو والمعنى واحد تقول قفوت الشيء أقفوه قفوا إذا تبعت أثره وقال ابن قتيبة لا تقف أي لا تتبعه الظنون والحدس وهو من القفاء مأخوذ كأنك تقفوا الأمور أي تكون في أقفائها وأواخرها تتعقبها والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها فكأنه مقلوب عن القافي
وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال
أحدها لا ترم أحدا بما ليس لك به علم رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني لا تقل رأيت ولم تر ولا سمعت ولم تسمع رواه عثمان بن عطاء عن ابيه ابن عباس وبه قال قتادة
والثالث لا تشرك بالله شيئا رواه عطاء أيضا عن ابن عباس
والرابع لا تشهد بالزور قاله محمد بن الحنفية
قوله تعالى ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك قال الزجاج إنما قال كل ثم قال كان لأن كلا في لفظ الواحد وإنما قال أولئك لغير الناس لأن كل جمع أشرت اليه من الناس وغيرهم من الموات تشير اليه بلفظ أولئك قال جرير ... ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ...
قال المفسرون الإشارة الى الجوارح المذكورة يسأل العبد يوم القيامة فيما اذا (5/35)
استعملها وفي هذا زجر عن النظر الى ما لا يحل والاستماع الى ما يحرم والعزم على مالا يجوز
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا
قوله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا وقرأ الضحاك وابن يعمر مرحا بكسر الراء قال الأخفش والكسر أجود لأن مرحا اسم الفاعل قال الزجاج وكلاهما في الجودة سواء غير أن المصدر أوكد في الاستعمال تقول جاء زيد ركضا وجاء زيد راكضا ف ركضا أوكد في الاستعمال لأنه يدل على توكيد الفعل وتأويل الاية لا تمش في الأرض مختالا فخورا والمرح الأشر والبطر وقال ابن فارس المرح شدة الفرح
قوله تعالى إنك لن تخرق الأرض فيه قولان
أحدهما لن تقطعها إلى آخرها والثاني لن تنفذها وتنقبها قال ابن عباس لن تخرق الأرض بكبرك ولن تبلغ الجبال طولا بعظمتك قال ابن قتيبة والمعنى لا ينبغي للعاجز ان يبذخ ويستكبر
قوله تعالى كل ذلك كان سيئه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سيئه منونا غير مضاف على معنى كان خطيئة فعلى هذا يكون قوله كل ذلك إشارة الى المنهي عنه من المذكور فقط وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي سيئه مضافا مذكرا فتكون لفظة كل يشار بها الى سائر ما تقدم ذكره وكان ابو عمرو لا يرى هذه القراءة قال الزجاج (5/36)
وهذا غلط من أبي عمرو لأن في هذه الأقاصيص سيئا وحسنا وذلك أن فيها الامر ببر الوالدين وإيتاء ذي القربى والوفاء بالعهد ونحو ذلك فهذه القراءة أحسن من قراءة من نصب السيئة وكذلك قال أبو عبيدة تدبرت الآيات من قوله تعالى وقضى ربك فوجدت فيها أمورا حسنة وقال أبو علي من قرأ سيئة رأى أن الكلام انقطع عند قوله وأحسن تأويلا وأن قوله ولا تقف لا حسن فيه
قوله تعالى ذلك مما أوحى اليك ربك يشير الى ما تقدم من الفرائض والسنن من الحكمة أي من الأمور المحكمة والأدب الجامع لكل خير وقد سبق معنى المدحور الاعراف 18
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما
قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين قال مقاتل نزلت في مشركي العرب الذين قالوا الملائكة بنات الرحمن وقال ابو عبيدة ومعنى أفأصفاكم اختصكم وقال المفضل أخلصكم وقال الزجاج أختار لكم صفوة الشيء وهذا توبيخ للكفار والمعنى أختار لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا
قوله تعالى ولقد صرفنا معنى التصريف هاهنا التبيين وذلك انه (5/37)
إنما يصرف القول ليبين وقال ابن قتيبة صرفنا بمعنى وجهنا وهو من قولك صرفت إليك كذا أي عدلت به اليك كذا وشدد للتكثير كما تقول فتحت الأبواب
قوله تعالى ليذكروا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ليذكروا مشدد وقرأ حمزة والكسائي وخلف ليذكروا مخفف وكذلك قرؤوا في الفرقان 50 والتذكر الاتعاظ والتدبر وما يزيدهم تصريفنا وتذكيرنا إلا نفورا قال ابن عباس ينفرون من الحق ويتبعون الباطل
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا
قوله تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون قرأ نافع وأبو عمرو وأبن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم تقولون بالتاء وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم يقولون بالياء
قوله تعالى إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا فيه قولان
أحدهما لابتغوا سبيلا الى ممانعته وإزالة ملكه قاله الحسن وسعيد بن جبير
والثاني لابتغوا سبيلا الى رضاه لأنهم دونه قاله قتادة
قوله تعالى عما يقولون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر وحفص عن عاصم يقولون بالياء وقرأ حمزة والكسائي بالتاء (5/38)
قوله تعالى تسبح له السموات السبع قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم تسبح بالتاء وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يسبح بالياء قال الفراء وإنما حسنت الياء هاهنا لأنه عدد قليل وإذا قل العدد من المؤنث والمذكر كانت الياء فيه أحسن من التاء قال عز و جل في المؤنث القليل وقال نسوة يوسف 30 وقال في المذكر فاذا انسلخ الاشهر الحرم التوبه 5 قال العلماء والمراد بهذا التسبيح الدلالة على أنه الخالق القادر
قوله تعالى وإن من شيء الا يسبح بحمده إن بمعنى ما وهل هذا على إطلاقه ام لا فيه قولان
أحدهما أنه على إطلاقه فكل شيء يسبحه حتى الثوب والطعام وصرير الباب قاله إبراهيم النخعي
والثاني انه عام يراد به الخاص ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه كل شيء فيه الروح قاله الحسن وقتادة والضحاك والثاني أنه كل ذي روح وكل نام من شجر أو نبات قال عكرمة الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح وجلس الحسن على طعام فقدموا الخوان فقيل له أيسبح هذا الخوان فقال قد كان يسبح مرة والثالث أنه كل شيء لم يغير عن حاله فاذا تغير انقطع تسبيحه روى خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب قال إن التراب ليسبح ما لم يبتل فاذا ابتل ترك التسبيح وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فاذا سقطت تركت التسبيح وان الثوب ليسبح ما دام جديدا فاذا توسخ ترك التسبيح (5/39)
فأما تسبيح الحيوان الناطق فمعلوم وتسبيح الحيوان غير الناطق فجائز ان يكون بصوته وجائز ان يكون بدلالته على صانعه
وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال
أحدها انه تسبيح لا يعلمه الا الله والثاني أنه خضوعه وخشوعه لله والثالث أنه دلالته على صانعه فيوجب ذلك تسبيح مبصره فان قلنا إنه تسبيح حقيقة كان قوله ولكن لا تفقهون تسبيحهم لجميع الخلق وإن قلنا إنه دلالته على صانعه كان الخطاب للكفار لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون وقد شرحنا معنى الحليم و الغفور في البقرة 225
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين ل يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقالوا ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة او حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم الا قليلا
قوله تعالى حجابا مستورا فيه ثلاثة أقوال
احدها ان الحجاب هو الأكنة على قلوبهم قاله قتادة (5/40)
والثاني أنه حجاب يستره فلا ترونه وقيل إنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرأ القرآن قال الكلبي وهم أبو سفيان والنضر ابن الحارث وابو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب فحجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه
والثالث انه منع الله عز و جل إياهم عن أذاه حكاه الزجاج
وفي معنى مستورا قولان
أحدهما أنه بمعنى ساتر قال الزجاج وهذا قول أهل اللغة قال الأخفش وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول كما تقول إنك مشؤوم علينا وميمون علينا وإنما هو شائم ويامن لأنه من شأمهم ويمنهم
والثاني أن المعنى حجابا مستورا عنكم لا ترونه ذكره الماوردي وقال ابن الأنباري إذا قيل الحجاب هو الطبع على قلوبهم فهو مستور عن الأبصار فيكون مستورا باقيا على لفظه
قوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه قد شرحناه في الأنعام 25
قوله تعالى وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده يعني قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو لقرآن ولوا على أدبارهم قال ابو عبيدة أي على أعقابهم نفورا وهو جمع نافر بمنزلة قاعد وقعود وجالس وجلوس وقال الزجاج تحتمل مذهبين أحدهما المصدر فيكون المعنى ولوا نافرين نفورا والثاني ان يكون نفورا جمع نافر
وفي المشار اليهم قولان أحدهما أنهم الشياطين قاله ابن عباس والثاني انهم المشركون وهذا مذهب ابن زيد
قوله تعالى نحن أعلم بما يستمعون به قال المفسرون أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم (5/41)
عليا عليه السلام ان يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليهم القرآن ودعاهم الى التوحيد وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم هو ساحر هو مسحور فنزلت هذه الآية نحن أعلم بما يستمعون به أي يستمعونه والباء زائدة إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى قال أبو عبيدة هي مصدر من ناجيت واسم منها فوصف القوم بها والعرب تفعل ذلك كقولهم انما هو عذاب وانتم غم فجاءت في موضع متناجين وقال الزجاج والمعنى وإذ هم ذوو نجوى وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقولون بينهم هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول
قوله تعالى إذ يقول الظالمون يعني أولئك المشركون إن تتبعون أي ما تتبعون الا رجلا مسحورا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذي سحر فذهب بعقله قاله ابو صالح نع ابن عباس
والثاني مخدوعا مغرورا قاله مجاهد
والثالث له سحر أي رئة وكل دابة أو طائر او بشر يأكل فهو مسحور ومسحر لأن له سحرا قال لبيد ... فان تسألينا فيم نحن فاننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر ...
وقال امرؤ القيس ... أرانا مرصدين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب (5/42)
أي نغذى لأن أهل السماء لا يأكلون فأراد أن يكون ملكا فعلى هذا يكون المعنى إن تتبعون إلا رجلا له سحر خلقه الله كخلقكم وليس بملك وهذا قول ابي عبيدة
قال ابن قتيبة والقول قول مجاهد أي مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة ومعنى قول لبيد المسحر المعلل وقول امرئ القيس ونسحر أي نعلل وكأنا نخدع والناس يقولون سحرتني بكلامك أي خدعتني ويدل عليه قوله انظر كيف ضربوا لك الأمثال لانهم لو أرادوا رجلا ذا رئة لم يكن في ذلك مثل ضربوه فلما أرادوا مخدوعا كأنه بالخديعة سحر كان مثلا ضربوه وكأنهم ذهبوا الى ان قوما يعلمونه ويخدعونه قال المفسرون ومعنى ضربوا لك الأمثال بينوا لك الأشباه حتى شبهوك بالساحر والشاعر والمجنون فضلوا عن الحق فلا يستطيعون سبيلا فيه ثلاثة اقوال
أحدها لا يجدون سبيلا الى تصحيح ما يعيبونك به
والثاني لا يستطيعون سبيلا الى الهدى لأنا طبعنا على قلوبهم
والثالث لا يأتون سبيل الحق لثقله عليهم ومثله قولهم لا أستطيع أن انظر الى فلان يعنون أنا مبغض له فنظري إليه يثقل ذكرهن ابن الأنباري
قوله تعالى أئذا كنا عظاما قرأ ابن كثير أيذا بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مد أينا مثله وكذلك في كل القرآن وكذلك روى قالون عن نافع الا ان نافعا كان لا يستفهم في أينا كان يجعل الثاني (5/43)
خبرا في كل القرآن وكذلك مذهب الكسائي غير أنه يهمز الأولى همزتين وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا وقرأ ابن عامر إذا كنا بغير استفهام بهمزة واحدة آئنا بهمزتين يمد بينهما مدة
قوله تعالى ورفاتا فيه قولان
أحدهما أنه التراب ولا واحد له فهو بمنزلة الدقاق والحطام قاله الفراء وهو مذهب مجاهد
والثاني أنه العظام مالم تتحطم والرفات الحطام قاله ابو عبيدة وقال الزجاج الرفات التراب والرفات كل شيء حطم وكسر وخلقا جديدا في معنى مجددا
قوله تعالى أو خلقا مما يكبر في صدوركم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الموت قاله ابن عمر وابن عباس والحسن والاكثرون
والثاني انه السماء والارض والجبال قاله مجاهد
والثالث انه ما يكبر في صدوركم من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى قاله قتادة
فان قيل كيف قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا وهم لا يقدرون على ذلك فعنه جوابان
أحدهما إن قدرتم على تغير حالاتكم فكونوا حجارة أو اشد منها فانا نميتكم وننفذ أحكامنا فيكم ومثل هذا قولك للرجل اصعد الى السماء فاني لاحقك
والثاني تصوروا أنفسكم حجارة او اصلب منها فانا سنبيدكم قال الاحوص (5/44)
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا ...
معناه فتصور نفسك حجرا وهؤلاء قوم اعترفوا ان الله خالقهم وجحدوا البعث فأعلموا ان الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم
قوله تعالى فسينغضون إليك رؤوسهم قال قتادة يحر كونها تكذيبا واستهزاء قال الفراء يقال أنغض رأسه إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وقال ابن قتيبة المعنى يحر كونها كما يحرك الآيس من الشيء والمستبعد له رأسه يقال نغضت سنه إذا تحركت
قوله تعالى ويقولون متى هو يعنون البعث قل عسى ان يكون قريبا أي هو قريب ثم بين متى يكون فقال يوم يدعوكم يعني من القبور بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة فتستجيبون أي تجيبون قال مقاتل يقوم إسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن فيقول أيتها العظام البالية وأيتها اللحوم المتمزقة وأيتها الشعور المتفرقة وأيتها العروق المتقطعة اخرجوا الى فصل القضاء لتجزوا بأعمالكم فيسمعون الصوت فيسعون اليه
وفي معنى بحمده اربعة أقوال
أحدها بأمره قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد
والثاني يخرجون من القبور وهم يقولون سبحانك وبحمدك قاله سعيد بن جبير (5/45)
والثالث ان معنى بحمده بمعرفته وطاعته قاله قتادة قال الزجاج تستجيبون مقرين انه خالقكم
والرابع تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم ذكره الماوردي
قوله تعالى وتظنون إن لبثتم إلا قليلا في هذا الظن قولان
أحدهما انه بمعنى اليقين
والثاني انه على اصله وأين يظنون أنهم لبثوا قليلا فيه ثلاثة أقوال أحدها بين النفختين ومقداره أربعون سنة ينقطع في ذلك العذاب عنهم فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلا رواه ابو صالح عن ابن عباس والثاني في الدنيا لعلمهم بطول اللبث في الآخرة قاله الحسن والثالث في القبور قاله مقاتل فعلى هذا انما قصر اللبث في القبور عندهم لأنهم خرجوا الى ما هو أعظم عذابا من عذاب القبور وقد ذهب بعض المفسرين الى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إحسانه اليهم ويستقلون مدة اللبث في القبور لأنهم كانوا غير معذبين
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا
قوله تعالى وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن في سبب نزولها قولان
أحدهما أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة بالقول والفعل فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من الكفار شتم عمر بن الخطاب فهم به عمر رضي الله عنه (5/46)
فنزلت هذه الاية قاله مقاتل والمعنى وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي احسن واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين
أحدهما أنهم المشركون قال الحسن تقول له يهديك الله وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول وذهب بعضهم الى انهم امروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم ثم نسخت هذه الآية بآية السيف
والثاني أنهم المسلمون قاله ابن جرير والمعنى وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة وقد روى مبارك عن الحسن قال التي هي أحسن أن يقول له مثل قوله ولكن يقول له يرحمك الله ويغفر الله لك قال الأخفش وقوله يقولوا مثل قوله يقيموا الصلاة وقد شرحنا ذلك في سورة ابراهيم 31
قوله تعالى إن الشيطان ينزع بينهم أي يفسد ما بينهم والعدو المبين الظاهر العداوة
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا
قوله تعالى ربكم أعلم بكم فيمن خوطب بهذا قولان
أحدهما أنهم المؤمنون ثم في معنى الكلام قولان أحدهما إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم رواه ابو صالح عن ابن عباس والثاني إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو يعذبكم بالإقامة على الذنوب قاله الحسن (5/47)
والثاني انهم المشركون ثم في معنى الكلام قولان أحدهما ان يشأ يرحكم فيهديكم للإيمان او إن يشأ يعذبكم فيميتكم على الكفر قاله مقاتل والثاني انه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون الدخان 12 قال الله تعالى ربكم أعلم بكم من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن إن يشأ يرحمكم فيكشف القحط عنكم أو إن يشأ يعذبكم فيتركه عليكم ذكره أبو سليمان الدمشقي قال ابن الأنباري و أو هاهنا دخلت لسعة الأمرين عند الله تعالى وأنه لا يرد عنهما فكانت ملحقة ب أو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر
قوله تعالى وما أرسلناك عليهم وكيلا فيه ثلاثة أقوال
أحدها كفيلا تؤخذ بهم قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني حافظا وربا قاله الفراء والثالث كفيلا بهدايتهم وقادرا على إصلاح قلوبهم ذكره ابن الأنباري وذهب بعض المفسرين الى أن هذا منسوخ بآية السيف
وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا
قوله تعالى وربك أعلم بمن في السموات والارض لأنه خالقهم فهدى من شاء وأضل من شاء وكذلك فضل بعض النبيين على بعض وذلك عن حكمة منه وعلم فخلق آدم بيده ورفع إدريس وجعل الذرية لنوح واتخذ ابراهيم خليلا وموسى كليما وجعل عيسى روحا وأعطى سليمان ملكا جسيما ورفع محمدا صلى الله عليه و سلم فوق السموات وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويجوز أن يكون المفضلون أصحاب الكتب لأنه ختم الكلام بقوله وآتينا داود زبورا وقد شرحنا معنى الزبور في سورة النساء 163 (5/48)
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه في سبب نزولها قولان
احدهما أن نفرا من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون فنزلت هذه الآية والتي بعدها روي عن ابن مسعود والثاني أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هي تشفع لنا
عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم ادعوا الذين زعمتم قاله مقاتل والمعنى قل ادعوا الذين زعمتم انهم آلهة فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا له الى غيركم
قوله تعالى أولئك الذين يدعون في المشار إليهم ب أولئك ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الجن الذين أسلموا والثاني الملائكة وقد سبق بيان (5/49)
القولين والثالث أنهم المسيح وعزير والملائكة والشمس والقمر قاله ابن عباس وفي معنى يدعون قولان
أحدهما يعبدون أي يدعونهم آلهة وهذا قول الأكثرين
والثاني أنه بمعنى يتضرعون الى الله في طلب الوسيلة وعلى هذا يكون قوله يدعون راجعا الى أولئك ويكون قوله يبتغون تماما للكلام وعلى القول الأول يكون يدعون راجعا الى المشركين ويكون قوله يبتغون وصفا ل أولئك مستأنفا وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن تدعون بالتاء قال ابن الأبناري فعلى هذا الفعل مردود إلى قوله فلا يملكون كشف الضر عنكم ومن قرأ يدعون بالياء قال العرب تنصرف من الخطاب الى الغيبة إذا أمن اللبس ومعنى يدعون يدعونهم ألهة وقد فسرنا معنى الوسيلة في المائدة 35
وفي قوله أيهم أقرب قولان ذكرهما الزجاج
أحدهما أن يكون أيهم مرفوعا بالابتداء وخبره أقرب ويكون المعنى يطلبون اليه فيتوسلون الى الله به
والثاني أن يكون أيهم أقرب بدلا من الواو في يبتغون فيكون المعنى يبتغي أيهم هو أقرب الوسيلة إلى الله أي يتقرب اليه بالعمل الصالح
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا
قوله تعالى وإن من قرية إلا نحن مهلكوها إن بمعنى ما والقرية الصالحة هلاكها بالموت والعاصية بالعذاب والكتاب اللوح المحفوظ والمسطور المكتوب (5/50)
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا
قوله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات سبب نزولها فيه قولان
أحدهما ان أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم وإن شئت نؤتيهم الذي سألوا فان كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم قال لا بل أستأني بهم فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني قد ذكرناه عن الزبير في قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الرعد 31 ومعنى الآية وما منعنا إرسال الآيات التي سألوها الا تكذيب الأولين يعني أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولون العذاب فلم يرسلها لئلا يكذب بها هؤلاء فيهلكوا كما هلك اولئك وسنة الله في الأمم أنهم إذا سألوا الآيات ثم كذبوا بها عذبهم
قوله تعالى وآتينا ثمود الناقة مبصرة قال ابن قتيبة أي بينة يريد مبصرا بها قال ابن الأنباري ويجوز أن تكون مبصرة ويصلح أن يكون المعنى مبصر مشاهدوها فنسب اليها فعل غيرها تجوزا كما يقال لا أرينك هاهنا فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه اذ المعنى لا تحضر هاهنا حتى (5/51)
إذا جئت لم أرك فيه ومن قرأ مبصرة بفتح الميم والصاد فمعناه المبالغة في وصف الناقة بالتبيان كقولهم الولد مجبنة
قوله تعالى فظلموا بها قال ابن عباس فجحدوا بها وقال الأخفش بها كان ظلمهم
قوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا أي نخوف العباد ليتعظوا
وللمفسرين في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال
أحدها أنها الموت الذريع قاله الحسن والثاني معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين والثالث آيات الانتقام تخويفا من المعاصي والرابع تقلب أحوال الإنسان من صغر إلى شباب ثم إلى كهولة ثم إلى مشيب ليعتبر بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي ونسب القول الأخير منها إلى إمامنا أحمد رضي الله عنه
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا
قوله تعالى وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس فيه ثلاثة أقوال
أحدها أحاط علمه بالناس قاله ابو صالح عن ابن عباس وبه قال الربيع ابن انس وقال مقاتل أحاط علمه بالناس يعني أهل مكة أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه و سلم (5/52)
والثاني أحاطت قدرته بالناس فهم في قبضته قاله مجاهد
والثالث حال بينك وبين الناس أن يقتلوك لتبلغ رسالته قاله الحسن وقتادة
قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس في هذه الرؤيا قولان
أحدهما أنها رؤيا عين وهي ما رأى ليلة أسري به من العجائب والآيات روى عكرمة عن ابن عباس قال هي رؤيا عين رآها ليلة أسري به وإلى هذا المعنى ذهب الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة ومسروق والنخعي وقتادة وأبو مالك وأبو صالح وابن جريج وابن زيد في آخرين فعلى هذا يكون معنى الفتنة الاختبار فان قوما آمنوا بما قال وقوما كفروا قال ابن الأنباري المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة ولا فرق بين أن يقول القائل رأيت فلانا رؤية ورأيته رؤيا إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام والرؤيا يكثر استعمالها في المنام ويجوز كل واحد منهما في المعنيين
والثاني أنها رؤيا منام ثم فيها قولان أحدهما ان رسول الله صلى الله عليه و سلم (5/53)
كان قد أرى انه يدخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجل قبل الأجل فرده المشركون فقال أناس قد رد وكان حدثنا أنه سيدخلها فكان رجوعهم فتنتهم رواه العوفي عن ابن عباس وهذا لا ينافي حديث المعراج لأن هذا كان بالمدينة والمعراج كان بمكة قال ابو سليمان الدمشقي وإنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه والثاني أنه أري بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها فسري عنه فالفتنة هاهنا البلاء رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب وإن كان مثل هذا لا يصح ولكن قد ذكره عامة المفسرين
وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيب قال رآى رسول الله صلى الله عليه و سلم قوما على منابر فشق ذلك عليه وفيه نزل والشجرة الملعونة في القرآن قال ومعنى قوله إلا فتنة للناس إلا بلاء للناس قال ابن الأنباري فمن ذهب الى أن الشجرة رجال رآهم النبي صلى الله عليه و سلم في منامه يصعدون على المنابر احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها وعن الجماعة لاجتماع أغصانها قالوا ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة قال المفسرون وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وما جعلنا الرؤيا والشجرة إلا فتنة للناس
وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال
احدها أنها شجرة الزقوم رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال (5/54)
مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومسروق والنخعي والجمهور وقال مقاتل لما ذكر الله تعالى شجرة الزقوم قال ابو جهل يا معشر قريش ان محمدا يخوفكم بشجرة الزقوم ألستم تعلمون ان النار تحرق الشجر ومحمد يزعم ان النار تنبت الشجر فهل تدرون ما الزقوم فقال عبدالله بن الزبعرى إن الزقوم بلسان بربر التمر والزبد فقال ابو جهل يا جارية ابغينا تمرا وزبدا فجاءته به فقال لمن حوله تزقموا من هذا الذي يخوفكم به محمد فأنزل الله تعالى ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا قال ابن قتيبة كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم كيف يذهب الى بيت المقدس ويرجع في ليلة وبالشجرة قولهم كيف يكون في النار شجرة
وللعلماء في معنى الملعونة ثلاثة اقوال احدها المذمومة قاله ابن عباس والثاني الملعون آكلها ذكره الزجاج وقال ان لم يكن في القرآن ذكر لعنها ففيه لعن أكليها قال والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار ملعون فأما قوله في القرآن فالمعنى التي ذكرت في القرآن وهي مذكورة في قوله إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 4344 والثالث أن معنى الملعونة المبعدة عن منازل اهل الفضل ذكره ابن الانباري (5/55)
والقول الثاني ان الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر يعني الكشوثى وهذا مروي عن ابن عباس ايضا
والثالث ان الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيب
قوله تعالى ونخوفهم قال ابن الأنباري مفعول نخوفهم محذوف تقديره ونخوفهم العذاب فما يزيدهم أي فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا وقد ذكرنا معنى الطغيان في البقرة 15 وذكرنا هناك تفسير قوله وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس البقرة 34
وإذ قلنا للملئكة اسجددوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال ءأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن اخرتن الى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا
قوله تعالى آسجد قرأه الكوفيون بهمزتين وقرأه الباقون بهمزة مطولة وهذا استفهام انكار يعني به لم أكن لأفعل
قوله تعالى لمن خلقت طينا قال الزجاج طينا منصوب على وجهين (5/56)
أحدهما التمييز المعنى لمن خلقته من طين والثاني على الحال المعنى أنشأته في حال كونه من طين ولفظ قال أرأيتك جاء هاهنا بغير حرف عطف لأن المعنى قال آسجد لمن خلقت طينا وأرأيتك وهي في معنى أخبرني والكاف ذكرت في المخاطبة توكيدا والجواب محذوف والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت علي لم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين فحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه
قوله تعالى لئن أخرتن الى يوم القيامة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر أخرتني بياء في الوصل وقف أبن كثير بالياء وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا في وقف
قوله تعالى لأحتنكن ذريته فيه ثلاثة أقوال
أحدها لأستولين عليهم قاله ابن عباس والفراء والثاني لأضلنهم قاله ابن زيد والثالث لأستأصلنهم يقال احتنك الجراد ما على الأرض إذا أكله واحتنك فلان ما عند فلان من العلم إذا استقصاه فالمعنى لأقودنهم كيف شئت هذا قول ابن قتيبة
فان قيل من أين علم الغيب فقد اجبنا عنه في سورة النساء 119
قوله تعالى إلا قليلا قال ابن عباس هم أولياء الله الذين عصمهم
قوله تعالى قال اذهب هذا اللفظ يتضمن إنظاره فمن تبعك أي تبع أمرك منهم يعني ذرية آدم والموفور الموفر قال ابن قتيبة يقال وفرت ماله عليه ووفرته بالتخفيف والتشديد (5/57)
قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم قال ابن قتيبة استخف ومنه تقول استفزني فلان
وفي المراد بصوته قولان أحدهما انه كل داع دعا الى معصية الله قاله ابن عباس والثاني انه الغناء والمزامير قاله مجاهد
قوله تعالى وأجلب عليهم أي صح بخيلك ورجلك واحثثهم عليهم بالإغراء يقال أجلب القوم وجلبوا إذا صاحوا وقال الزجاج المعنى اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك فعلى هذا تكون الباء زائدة قال ابن قتيبة والرجل الرجالة يقال راجل ورجل مثل تاجر وتجر وصاحب وصحب قال ابن عباس كل خيل تسير في معصية الله وكل رجل يسير في معصية الله وقال قتادة ان له خيلا ورجلا من الجن والانس وروى حفص عن عاصم بخيلك ورجلك بكسر الجيم وهي قراءة ابن عباس وابي رزين وأبي عبد الرحمن السلمي قال ابو زيد يقال رجل رجل للراجل ويقال جاءنا حافيا رجلا وقرأ ابن السميفع والجحدري بخيلك ورجالك برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعكرمة ور جالك بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف
قوله تعالى وشاركهم في الأموال فيه اربعة أقوال
أحدها انها ما كانوا يحرمونه من انعامهم رواه عطية عن ابن عباس (5/58)
والثاني ألاموال التي اصيبت من حرام قاله مجاهد والثالث التي انفقوها في معاصي الله قال الحسن والرابع ما كانوا يذبحون لألهتهم قاله الضحاك
فأما مشاركته إياهم في الأولاد ففيها أربعة أقوال
أحدها أنهم أولاد الزنا رواه عطية عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك
والثاني الموؤودة من أولادهم رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث انه تسمية اولادهم عبيدا لأوثانهم كعبد شمس وعبد العزى وعبد مناف رواه ابو صالح عن ابن عباس
والرابع ما مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا من أولادهم غير صبغة الإسلام قاله الحسن وقتادة
قوله تعالى وعدهم قد ذكرناه في قوله يعدهم ويمنيهم الى آخر الآية النساء 120 وهذه الآية لفظها لفظ الأمر ومعناها التهديد ومثلها في الكلام أن تقول للإنسان أجهد جهدك فسترى ما ينزل بك قال الزجاج اذا تقدم الأمر نهي عما يؤمر به فمعناه التهديد والوعيد تقول للرجل لا تدخلن هذه الدار فاذا حاول ان يدخلها قلت ادخلها وانت رجل فلست تأمره بدخولها ولكنك توعده وتهدده ومثله اعملوا ما شئتم فصلت 40 وقد نهوا ان يعملوا بالمعاصي وقال ابن الانباري هذا أمر معناه التهديد تقديره إن فعلت هذا عاقبناك وعذبناك فنقل الى لفظ الأمر عن الشرط كقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الكهف 29
قوله تعالى ان عبادي ليس لك عليهم سلطان قد شرحناه في الحجر 42 (5/59)
قوله تعالى وكفى بربك وكيلا قال الزجاج كفى به وكيلا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفامنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لاتجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
قوله تعالى ربكم الذي يزجي لكم الفلك أي يسيرها قال الزجاج يقال زجيت الشيء أي قدمته
قوله تعالى لتبتغوا من فضله أي في طلب التجارة
وفي من ثلاثة أقوال
أحدها أنها زائدة والثاني أنها للتبعيض والثالث أن المفعول محذوف والتقدير لتبتغوا من فضله الرزق والخير ذكرهن ابن الأنباري
قوله تعالى إنه كان بكم رحيما هذا الخطاب خاص للمؤمنين ثم خاطب المشركين فقال وإذا مسكم الضر في البحر يعني خوف الغرق ضل (5/60)
من تدعون أي يضل من يدعون من الآلهة إلا الله تعالى ويقال ضل بمعنى غاب يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب والمعنى أنكم أخلصتم الدعاء لله ونسيتم الأنداد وقرأ مجاهد وأبو المتوكل ضل من يدعون بالياء فلما نجاكم إلى البر اعرضتم عن الإيمان والإخلاص وكان الإنسان يعني الكافر كفورا بنعمة ربه أفأمنتم إذا خرجتم من البحر أن يخسف بكم قرأ ابن كثير وأبو عمرو نخسف بكم أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم بالنون في الكل وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالياء في الكل ومعنى نخسف بكم جانب البر أي نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر والمعنى إن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر أو نرسل عليكم حاصبا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الحاصب حجارة من السماء قاله قتادة
والثاني أنه الريح العاصف تحصب قاله أبو عبيدة وأنشد للفرزدق ... مستقبلين شمال الريح تضربهم ... بحاصب كنديف القطن منثور ... وقال ابن قتيبة الحاصب الريح سميت بذلك لأنها تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار وقال ابن الأنباري قال اللغويون الحاصب الريح التي فيها الحصى وإنما قال في الريح حاصبا ولم يقل حاصبة لأنه وصف لزم الريح ولم يكن لها مذكر تنتقل إليه في حال فكان بمنزلة قولهم حائض للمرأة حين لم يقل رجل حائض قال وفيه جواب آخر (5/61)
وهو أن نعت الريح عري من علامة التأنيث فأشبهت بذلك أسماء المذكر كما قالوا السماء أمطر والأرض أنبت
والثالث أن الحاصب التراب الذي فيه حصباء قاله الزجاج
قوله تعالى ثم لاتجدوا لكم وكيلا أي مانعا وناصرا
قوله تعالى أم أمنتم أن يعيدكم فيه أي في البحر تارة أخرى أي مرة أخرى والجمع تارات فيرسل عليكم قاصفا من الريح قال أبو عبيدة هي التي تقصف كل شيء قال ابن قتيبة القاصف الريح التي تقصف الشجر أي تكسره
قوله تعالى فيغرقكم وقرأ أبو المتوكل وأبو جعفر وشيبة ورويس فتغرقكم بالتاء وسكون الغين وتخفيف الراء وقرا أبو الجوزاء وأيوب فيغرقكم بالياء وفتح الغين وتشديدها وقرأ أبو رجاء مثله إلا انه بالتاء بما كفرتم أي بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا قال ابن قتيبة أي من يتبع بدمائكم أي يطالبنا قال عبدالله ابن عمرو رضي الله عنهما ريح العذاب أربع اثنتان في البر واثنتان ف البحر فاللتان في البر الصرصر والعقيم واللتان في البحر العاصف والقاصف
قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم أي فضلناهم قال أبو عبيدة وكرمنا اشد مبالغة من أكرمنا
وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا
أحدها أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة جبريل وميكائيك وإسرافيل وملك الموت وأشباههم قاله ابو صالح عن ابن عباس (5/62)
فعلى هذا يكون المراد المؤمنين منهم ويكون تفضيلهم بالإيمان والثاني أن سائر الحيوان يأكل بفيه إلا ابن آدم فانه يأكل بيده رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس وقال بعض المفسرين المراد بهذا التفضيل أكلهم بأيديهم ونظافة ما يقتاتونه اذ الجن يقتاتون العظام والروث والثالث فضلوا بالعقل روي عن ابن عباس والرابع بالنطق والتمييز قاله الضحاك والخامس بتعديل القامة وامتدادها قاله عطاء والسادس بأن جعل محمدا صلى الله عليه و سلم منهم قاله محمد بن كعب والسابع فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا قاله زيد بن أسلم والثامن بحسن الصورة قاله يمان والتاسع بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم قاله محمد بن جرير والعاشر بالأمر والنهي ذكره الماوردي والحادي عشر بأن جعلت اللحى للرجال والذوائب للنساء ذكره الثعلبي
فان قيل كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل وفيهم الكافر المهان
فالجواب من وجهين احدهما أنه عامل الكل معاملة المكرم بالنعم الوافرةوالثاني انه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة أجرى الصفة على جماعتهم كقوله كنتم خيرة أمة أخرجت للناس آل عمران 110
قوله تعالى وحملناهم في البر على أكباد رطبة وهي الإبل والخيل والبغال والحمير و في البحر على أعواد يابسة وهي السفن ورزقناهم من الطيبات فيه قولان
أحدهما الحلال والثاني المستطاب في الذوق
قوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا فيه قولان
أحدهما انه على لفظه وأنهم لم يفضلوا على سائر المخلوقات وقد ذكرنا (5/63)
عن ابن عباس انهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة وقال غيره بل الملائكة أفضل
والثاني أن معناه وفضلناهم على جميع من خلقنا والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع كقوله يلقون السمع وأكثرهم كاذبون الشعراء 223 وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال المؤمن أكرم على الله عز و جل من الملائكة الذين عنده
يوم ندعوا كل اناس بامامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
قوله تعالى يوم ندعو قال الزجاج هو منصوب على معنى اذكر يوم ندعو كل اناس بامامهم والمراد به يوم القيامة وقرا الحسن البصري يوم يدعو بالياء كل بالنصب وقرأ ابو عمران الجوني يوم يدعى بياء مرفوعة وفتح العين وبعدها ألف كل بالرفع
وفي المراد بامامهم أربعة أقوال
أحدها أنه رئيسهم قاله أبو صالح عن بن عباس وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال إمام هدى او إمام ضلالة (5/64)
والثاني عملهم رواه عطية عن ابن عباس وبه قال الحسن وأبوالعالية
والثالث نبيهم قاله أنس بن مالك وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد في رواية
والرابع كتابهم قاله عكرمة ومجاهد في رواية ثم فيه قولان أحدهما انه كتابهم الذي فيه أعمالهم قاله قتادة ومقاتل والثاني كتابهم الذي أنزل عليهم قاله الضحاك وابن زيد فعلى القول الأول يقال يا متبعي موسى يا متبعي عيسى يا متبعي محمد ويقال يا متبعي رؤساء الضلالة وعلى الثاني يا من عمل كذا وكذا وعلى الثالث يا أمة موسى يا امة عيسى يا أمة محمد وعلى الرابع يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل يا أهل القرآن او يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا
قوله تعالى فأولئك يقرؤون كتابهم معناها يقرؤون حسناتهم لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم
قوله تعالى ولا يظلمون فتيلا أي لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل وقد بيناه في سورة النساء 49
قوله تعالى ومن كان في هذه اعمى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أعمى فهو في الآخرة أعمى مفتوحتي الميم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين وقرأ ابو عمرو في هذه أعمى بكسر الميم فهو في الأخرة أعمى بفتحها
وفي المشار اليها ب هذه قولان
أحدهما أنها الدنيا قاله مجاهد ثم في معنى الكلام خمسة أقوال أحدها (5/65)
من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خلق الأشياء فهو عما وصف له في الآخرة أعمى رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني من كان في الدنيا أعمى بالكفر فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل قاله الحسن والثالث من عمي عن آيات الله في الدنيا فهو عن الذي غيب عنه من أمور الآخرة أشد عمى والرابع من عمي عن نعم الله التي بينها في قوله ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى قوله تفضيلا فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه ذكرهما ابن الأنباري والخامس من كان فيها أعمى عن الحجة فهو في الآخرة أعمى عن الجنة قاله ابو بكر الوراق
والثاني أنها النعم ثم في الكلام قولان أحدهما من كان أعمى عن النعم التي ترى وتشاهد فهو في الآخرة التي لم تر أعمى رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النعم المذكورة في قوله ولقد كرمنا بني آدم ولم يؤد شكرها فهو فيما بينه وبين الله مما يتقرب به اليه أعمى وأضل سبيلا قاله السدي قال ابو علي الفارسي ومعنى قوله في الآخرة أعمى أي أشد عمى لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عماه بالاستدلال ولا سبيل له في الآخرة الى الخروج من عماه وقيل معنى العمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب وهذا كله من عمى القلب
فان قيل لم قال فهو في الآخرة أعمى ولم يقل أشد عمى لأن العمى خلقة بمنزلة الحمرة والزرقة والعرب تقول ما أشد سواد زيد وما أبين زرقة عمرو وقلما يقولون ما أسود زيدا وما أزرق عمرا
فالجواب أن المراد بهذا العمى عمى القلب وذلك يتزايد ويحدث منه (5/66)
شيء بعد شيء فيخاف الخلق اللازمة التي لا تزيد نحو عمى العين والبياض والحمرة ذكره ابن الأنباري
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا
قوله تعالى وان كادوا ليفتنونك في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة فأبى ذلك فأقبلوا يكثرون مسألتهم وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فان خشيت أن يقول العرب أعطيتهم مالم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم وداخلهم الطمع فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا أجلنا سنة ثم نسلم ونكسر أصنامنا فهم أن يؤجلهم فنزلت هذه الآية
والثاني أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم لا نكف عنك إلا بأن تلم بآلهتنا ولو بأطراف أصابعك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما علي لو فعلت والله يعلم إني لكاره فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير وهذا باطل (5/67)
لا يجوز ان يظن برسول الله صلى الله عليه و سلم ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه هم أن ينظرهم سنة وكل ذلك محال في حقه وفي حق الصحابة أنهم رووا عنه
والثالث أن قريشا خلوا برسول الله ليلة الى الصباح يكلمونه ويفخمونه ويقولون أنت سيدنا وابن سيدنا وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثم عصمه الله من ذلك ونزلت هذه الآية قاله قتادة
والرابع أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم اطرد عنك سقاط الناس ومواليهم وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف حتى نجالسك ونسمع منك فهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم فنزلت هذه الآيات حكاه الزجاج قال ومعنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتوكيد قال المفسرون وإنما قال ليفتنونك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن
قوله تعالى لتفتري أي لتختلق علينا غيره وهو قولهم قل الله أمرني بذلك وإذا لو فعلت ذلك لاتخذوك خليلا أي والوك وصافوك
قوله تعالى ولولا أن ثبتناك على الحق لعصمتنا إياك لقد كدت تركن اليهم أي هممت وقاربت أن تميل الى مرادهم شيئا قليلا قال ابن عباس وذلك حين سكت عن جوابهم والله أعلم بنيته وقال ابن الأنباري الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه و سلم وفي الباطن للمشركين وتقديره لقد كادوا يركنونك اليهم وينسبون إليك كما يقول الرجل للرجل كدت تقتل نفسك اليوم يريد كدت تفعل فعلا يقتلك غيرك من اجله فهذا من المجاز والاتساع وشبيه (5/68)
بهذا قوله فلا تموتن إلا وانتم مسلمون البقرة 132 وقول القائل لا أرينك في هذا الموضع
قوله تعالى إذا لأذقناك المعنى لو فعلت ذلك الشيء القليل لأذقناك ضعف الحياة أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ومثله قول الشاعر ... نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس ...
أي أهل المجلس وقال ابن عباس ضعف عذاب الدنيا والآخرة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوما ولكنه تخويف لأمته لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه
قوله تعالى وان كادوا ليستفزونك من الارض في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة حسدته اليهود على مقامه بالمدينة وكرهوا قربه فأتوه فقالوا يا محمد أنبي أنت قال نعم قالوا فوالله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وان أرض الأنبياء الشام فان كنت نبيا فائت الشام فنزلت هذه الآية قاله ابو صالح عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير هم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يشخص عن المدينة فنزلت هذه الآية (5/69)
وقال عبد الرحمن بن غنم لما قالت له اليهود هذا صدق ما قالوا وغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك نزلت هذه الاية
والثاني أنهم المشركون أهل مكة هموا باخراج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فأمره الله بالخروج وأنزل هذه الآية إخبارا عما هموا به قاله الحسن ومجاهد وقال قتادة هم أهل مكة باخراجه من مكة ولو فعلوا ذلك ما نرظروا ولكن الله كفهم عن اخراجه حتى أمره بالخروج وقيل ما لبثوا حتى بعث الله عليهم القتل ببدر فعلى القول الأول المشار اليهم والأرض المدينة وعلى الثاني هم المشركون والأرض مكة وقد ذكرنا معنى الاستفزاز آنفا الاسراء 64 وقيل المراد به هاهنا القتل ليخرجوه من الأرض كلها روي عن الحسن
قوله تعالى وإذا لا يلبثون خلفك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم خلفك وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم خلافك قال الأخفش خلافك في معنى خلفك والمعنى لا يلبثون بعد خروجك الا قليلا أي لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل وقد جازاهم الله على ما هموا به فقتل صناديد المشركين ببدر وقتل من اليهود بني قريظة وأجلى النضير وقال ابن الأنباري معنى الكلام لا يلبثون (5/70)
على خلافك ومخالفتك فسقط حرف الخفض وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل خلافك بضم الخاء وتشديد اللام ورفع الفاء
قوله تعالى سنة من قد أرسلنا قال الفراء نصب السنة على العذاب المضمر أي يعذبون كسنتنا فيمن أرسلنا وقال الأخفش المعنى سنها سنة وقال الزجاج النصب بمعنى لا يلبثون وتأويله إنا سننا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك أنهم اذا اخرجوا نبيهم أو قتلوه لم يلبث العذاب أن ينزل بهم
أقم الصلوة لدلوك الشمس الى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
قوله تعالى أقم الصلاة أي أدها لدلوك الشمس أي عند دلوكها وذكر أبن الأنباري في اللام قولين أحدهما أنها بمعنى في والثاني أنها مؤكدة كقوله ردف لكم النمل 72 وقال ابو عبيدة دلوكها من عند زوالها الى أن تغيب وقال الزجاج ميلها وقت الظهيرة دلوك وميلها للغروب دلوك وقال الأزهري معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وإذا أفلت دالكة لأنها في الحالين زائلة (5/71)
وللمفسرين في المراد بالدلوك هاهنا قولان
أحدهما أنه زوالها نصف النهار روى جابر بن عبد الله قال دعوت رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن شاء من اصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال اخرج يا أبا بكر فهذا حيث دلكت الشمس وهذا قول ابن عمر وأبي برزة وأبي هريرة والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعبيد بن عمير وقتادة والضحاك ومقاتل وهو اختيار الأزهري قال الأزهري لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس فيكون المعنى أقم الصلاة من وقت زوال الشمس الى غسق الليل فيدخل فيها الأولى والعصر وصلاتا غسق الليل وهما العشاءان ثم قال وقرآن الفجر فهذه خمس صلوات
والثاني أنه غروبها قاله ابن مسعود والنخعي وابن زيد وعن ابن عباس كالقولين قال الفراء ورأيت العرب تذهب في الدلوك الى غيبوبة الشمس وهذا اختيار ابن قتيبة قال لأن العرب تقول دلك النجم اذا غاب قال ذو الرمة ... مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك (5/72)
وتقول في الشمس دلكت براح يريدون غربت والناظر قد وضع كفه على حاجبه ينظر اليها قال الشاعر ... والشمس قد كادت تكون دنفا ... أدفعها بالراح كي تزحلفا ...
فشبهها بالمريض في الدنف لأنها قد همت بالغروب كما قارب الدنف الموت وانما ينظر اليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها الى ان تغيب ويتوقى الشعاع بكفه فعلى هذا المراد بهذه الصلاة المغرب فأما غسق الليل فظلامه
وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال
أحدها العشاء قاله ابن مسعود والثاني المغرب قاله ابن عباس قال القاضي ابو يعلى فيحتمل ان يكون المراد بيان وقت المغرب انه من غروب الشمس الى غسق الليل والثالث المغرب والعشاء قاله الحسن
قوله تعالى وقرآن الفجر المعنى وأقم قراءة الفجر قال المفسرون المراد به صلاة الفجر قال الزجاج وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حين سميت الصلاة قرآنا (5/73)
قوله تعالى إن قرآن الفجر كان مشهودا روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار
قوله تعالى ومن الليل فتهجد به قال ابن عباس فصل بالقرآن قال مجاهد وعلقمة والأسود التهجد بعد النوم قال ابن قتيبة تهجدت سهرت وهجدت نمت وقال ابن الانباري التهجد هاهنا بمعنى التيقظ والسهر واللغويون يقولون هو من حروف الاضداد يقال للنائم هاجد ومتهجد وكذلك للساهر قال النابغة ... ولو انها عرضت لأشمط راهب ... عبد الآله صرورة متهجد ... لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد ...
يعني بالمجتهد الساهر وقال لبيد ... قال هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا إن خنا الدهر غفل (5/74)
أي نومنا وقال الأزهري المتهجد القائم الى الصلاة من النوم وقيل له متهجد لإلقائه الجود عن نفسه كما يقال تحرج وتأئم
قوله تعالى نافلة نافلة لك النافلة في اللغة ما كان زائدا على الأصل
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان
أحدهما أنها زائدة فيما فرض عليه فيكون المعنى فريضة عليك وكان قد فرض عليه قيام الليل هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير
والثاني أنها زائدة على الفرض وليست فرضا فالمعنى تطوعا وفضيلة قال أبو أمامة والحسن ومجاهد انما النافلة للنبي صلى الله عليه و سلم خاصة قال مجاهد وذلك أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة وهو لغيره كفارة وذكر أهل العلم أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء ثم رخص له في تركها فصارت نافلة وذكر ابن الأنباري في هذا قولين
أحدهما يقارب ما قاله مجاهد فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تنفل (5/75)
لا يقدر له أن يكون بذلك ماحيا للذنوب لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره إذا تنفل كان راجيا ومقدرا محو السيئات عنه بالتنفل فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زيادة على الحاجة وهي لغيره مفتقر اليها ومأمول بها دفع المكروه والثاني ان النافلة للنبي صلى الله عليه و سلم وأمته والمعنى ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم فخوطب النبي صلى الله عليه و سلم بخطاب امته
قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك عسى من الله واجبه ومعنى يبعثك يقيمك مقاما محمودا وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف وفيه قولان
أحدهما انه الشفاعة للناس يوم القيامة قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عمر وسلمان الفارسي وجابر بن عبدالله والحسن وهي رواية بن أبي نجيح عن مجاهد
والثاني يجلسه على العرش يوم القيامة روى أبو وائل عن عبدالله انه قرأ هذه الآية وقال يقعده على العرش وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس وليث عن مجاهد
قوله تعالى وقل رب ادخلني مدخل صدق وقرأ الحسن وعكرمة والضحاك وحميد بن قيس وابن أبي عبلة بفتح الميم في مدخل (5/76)
ومخرج قال الزجاج المدخل بضم الميم مصدر أدخلته مدخلا ومن قال مدخل صدق فهو على أدخلته فدخل مدخل صدق وكذلك شرح مخرج مثله
وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج احد عشر قولا
أحدها أدخلني المدينة مدخل صدق وأخرجني من مكة مخرج صدق روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت عليه هذه الآية وإلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد
والثاني أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أدخلني المدينة واخرجني الى مكة يعني لفتحها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق فخرج منها آمنا من المشركين ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح قاله الضحاك
والخامس أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة الى المدينة رواه قتادة عن الحسن
والسادس أدخلني في النبوة والرسالة وأخرجني منها مخرج صدق قاله مجاهد يعني أخرجني مما يجب علي فيها
والسابع أدخلني في الإسلام وأخرجني منه قاله ابو صالح يعني من أداء ما وجب علي فيه إذا جاء الموت (5/77)
والثامن أدخلني في طاعتك وأخرجني منها أي سالما غير مقصر في أدائها قاله عطاء
والتاسع أدخلني الغار وأخرجني منه قاله محمد بن المنكدر
والعاشر أدخلني في الدين وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق ذكره الزجاج
والحادي عشر أدخلني مكة وأخرجني إلى حنين ذكره ابو سليمان الدمشقي
وأما اضافة الصدق الى المدخل والمخرج فهو مدح لهما وقد شرحنا هذا المعنى في سورة يونس 2
قوله تعالى وأجعل لي من لدنك أي من عندك سلطانا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها انه التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود قاله الحسن والثاني انه الحجة البينة قاله مجاهد والثالث الملك العزيز الذي يقهر به العصاة قاله قتادة وقال ابن الأنباري وقوله نصيرا يجوز أن يكون بمعنى منصرا ويصلح أن يكون تأويله ناصرا
قوله تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل فيه اربعة أقوال
أحدها ان الحق الإسلام والباطل الشرك قاله ابو صالح عن ابن عباس والثاني ان الحق القرآن والباطل الشيطان قاله قتادة والثالث أن الحق الجهاد والباطل الشرك قاله بن جريج والرابع الحق عبادة الله والباطل عبادة الأصنام قاله مقاتل ومعنى زهق بطل واضمحل وكل شيء هلك وبطل فقد زهق وزهقت نفسه تلفت
وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة (5/78)
وستون صنما فجعل يطعنها ويقول جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا
فان قيل كيف قلتم ان زهق بمعنى بطل والباطل موجود معمول عليه عند اهله
فالجواب أن المراد من بطلانه وهلكته وضوح عيبه فيكون هالكا عند المتدبر الناظر
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
قوله تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء من هاهنا لبيان الجنس فجميع القرآن شفاء وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال
أحدها شفاء من الضلال لما فيه من الهدى والثاني شفاء من السقم لما فيه من البركة والثالث شفاء من البيان للفرائض والأحكام
وفي الرحمة قولان أحدهما النعمة والثاني سبب الرحمة
قوله تعالى ولا يزيد الظالمين يعني المشركين إلا خسارا لأنهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه فيزيد خسرانهم
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآ بجانبه وإذ مسه الشر كان يؤسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (5/79)
قوله تعالى واذا انعمنا على الإنسان قال ابن عباس الانسان هاهنا الكافر والمراد به الوليد بن المغيرة قال المفسرون وهذا الإنعام سعة الرزق وكشف البلاء ونأى بجانبه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم ونأى على وزن نعى بفتح النون والهمزة وقرأ ابن عامر ناء مثل باع وقرأ الكسائي وخلف عن سليم عن حمزة وناء باماله النون والهمزة وروى خلاد عن سليم نئي بفتح النون وكسر الهمزة والمعنى تباعد عن القيام بحقوق النعم وقيل تعظم وتكبر واذا مسه الشر أي نزل به البلاء والفقر كان يؤوسا أي قنوطا شديد اليأس لا يرجو فضل الله
قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته فيها ثلاثة أقوال
أحدها على ناحيته قاله ابن عباس وسعيد بن جبير قال الفراء الشاكلة الناحية والجديلة والطريقة سمعت بعض العرب يقول وعبد الملك اذ ذاك على جديلته وابن الزبير على جديلته يريد على ناحيته وقال أبو عبيدة على ناحيته وخليقته وقال ابن قتيبة على خليقته وطبيعته وهو من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي وقال الزجاج على طريقته وعلى مذهبه
والثاني على نيته قاله الحسن ومعاوية بن قرة وقال الليث الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله
والثالث على دينه قاله ابن زيد وتحرير المعنى أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعم واليأس عند الشدة والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء والله يجازي الفريقين وذكر ابو صالح عن ابن عباس ان (5/80)
هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتمهوهم التوبة 5 وليس بشيء
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
قوله تعالى ويسألونك عن الروح في سبب نزولها قولان
احدهما ان رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بناس من اليهود فقالوا سلوه عن الروح فقال بعضهم لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا يا أبا القاسم ما تقول في الروح فسكت ونزلت هذه الآية قاله ابن مسعود
والثاني ان اليهود قالت لقريش سلوا محمدا عن ثلاث فان اخبركم عن اثنتين وامسك عن الثالثة فهو نبي سلوه عن فتية فقدوا وسلوه عن ذي القرنين وسلوه عن الروح فسألوه عنها ففسر لهم أمر الفتية في الكهف وفسر لهم قصة ذي القرنين وأمسك عن قصة الروح فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس (5/81)
وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال
أحدها انه الروح الذي يحيا به البدن روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس وقد اختلف الناس في ماهية الروح ثم اختلفوا هل الروح النفس ام هما شيئان فلا يحتاج الى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة فأما السلف فانهم أمسكوا عن ذلك لقوله تعالى قل الروح من أمر ربي فلما رأوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يجابوا ولوحي ينزل والرسول حي علموا أن السكوت عما لم يحط بحقيقة علمه أولى
والثاني أن المراد بهذا الروح ملك من الملائكة على خلقه هائلة روي عن علي عليه السلام وابن عباس ومقاتل
والثالث ان الروح خلق من خلق الله عز و جل صورهم على صور بني آدم رواه مجاهد عن ابن عباس
والرابع أنه جبريل عليه السلام قاله الحسن وقتادة
والخامس أنه القرآن روي عن الحسن ايضا
والسادس أنه عيسى بن مريم حكاه الماوردي قال ابو سليمان الدمشقي قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به وظنوه مثله وإنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم وقوله من أمر ربي أي من عمله الذي منع إن يعرفه أحد قوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا في المخاطبين بهذا قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله الأكثرون (5/82)
والثاني أنهم جميع الخلق علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عز و جل ذكره الماوردي
فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا البقرة 269
فالجواب أن ما أوتيه الناس من العلم وان كان كثيرا فهو بالإضافة الى علم الله قليل
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا
قوله تعالى ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك قال الزجاج المعنى لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب حتى لا يوجد له أثر ثم لا تجد لك به علينا وكيلا أي لا تجد من يتوكل علينا في رد شيء منه الا رحمة من ربك هذا استنثاء ليس من الأول والمعنى لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين وقال ابن الأنباري المعنى لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع الى دين آبائهم فهددهم الله عز و جل بسلب النعمة فكان ظاهر الخطاب للرسول ومعنى التهدد للأمة وقال ابو سليمان ثم لا تجد لك به أي بما نفعله بك من إذهاب ما عندك وكيلا يدفعنا عما نريده بك وروي عن عبدالله ابن مسعود انه قال يسرى على القرآن في ليلة واحدة فيجيء جبريل من جوف الليل فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم فيصبحون لا يقرؤون آية (5/83)
ولا يحسونها ورد أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة و السلام ان الله لا يقبض العلم انتزاعا وحديث ابن مسعود مروي من طرق حسان فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم أراد بالعلم ما سوى القرآن فان العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن قال المفسرون هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال لو شئنا لقلنا مثل هذا والمثل الذي طلب منهم كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة والظهير المعين (5/84)
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
قوله تعالى ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن قد فسرناه في هذه السورة الاسراء 41 والمعنى من كل مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار فأبى أكثر الناس يعني أهل مكة الا كفورا أي جحودا للحق وانكارا
قوله تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا سبب نزول هذه الآية وما يتبعها أن رؤساء قريش كعتبة وشيبة وأبي جهل وعبدالله بن أبي أمية والنضر بن الحارث في آخرين اجتمعوا عند الكعبة فقال بعضهم لبعض ابعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذورا فيه فبعثوا اليه ان أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فجاءهم سريعا وكان حريصا على رشدهم فقالوا محمد إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فان كنت انما جئت بهذا لتطلب مالا جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا وان كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن تقبلوا (5/85)
مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا يا محمد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا سل لنا ربك يسير لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا ويجري لنا أنهارا ويبعث من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلام فانه كان شيخا صدوقا فنسائله عما تقول أحق هو فان فعلت صدقناك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بهذا بعثت وقد أبلغتكم ما ارسلت به قالوا فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك قال ما أنا بالذي يسأل ربه هذا قالوا فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربك إن شاء فعل فقال ذلك إلى الله عز و جل فقال قائل منهم لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا وقال عبد الله بن أبي أمية لا أؤمن لك حتى تتخذ الى السماء سلما وترقى فيه وأنا أنظر وتأتي بنسخة منشورة معك وتفر من الملائكة يشهدون لك فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم حزينا لما رأى من مباعدتهم إياه فأنزل الله تعالى وقالوا لن نؤمن لك الآيات رواه عكرمة عن ابن عباس
قوله تعالى حتى تفجر قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر حتى تفجر بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مع الكسرة وقرأ عاصم وحمزة والكسائي حتى تفجر بفتح التاء وتسكين الفاء وضم الجيم مع التخفيف فمن ثقل أراد كثرة الانفجار من الينبوع ومن خفف فلأن (5/86)
الينبوع واحد فأما الينبوع فهو عين ينبع الماء منها قال أبو عبيدة هو يفعول من نبع الماء أي ظهر وفار
قوله تعالى أو تكون لك جنة أي بستان فتفجر الأنهار أي تفتحها وتجريها خلالها أي وسط تلك الجنة
قوله تعالى أو تسقط السماء وقرأ مجاهد وأبو مجلز وأبو رجاء وحميد والجحدري أو تسقط بفتح التاء ورفع القاف السماء بالرفع
قوله تعالى كسفا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي كسفا بتسكين السين في جميع القرآن إلا في الروم 48 فانهم حركوا السين وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين وفي باقي القرآن بالتسكين وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين وفي باقي القرآن بتسكينها قال الزجاج من قرأ كسفا بفتح السين جعلها جمع كسفة وهي القطعة ومن قرأ كسفا بتسكين السين فكأنهم قالوا أسقطها طبقا علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته يعنون أسقطها علينا قطعة واحدة وقال ابن الأنباري من سكن قال تأويله سترا وتغطية من قولهم قد انكسفت الشمس إذا غطاها ما يحول بين الناظرين إليها وبين أنوارها
قوله تعالى أو تأتي بالله والملائكة قبيلا فيه ثلاثة أقوال
أحدها عيانا رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال قتادة وابن جريج ومقاتل وقال ابو عبيدة معناه مقابلة أي معاينة وأنشد للأعشى ... نصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها ... كصرخة حبلى يسرتها قبيلها (5/87)
أي قابلتها ويروى وجهتها يعني بدل يسرتها
والثاني كفيلا أنك رسول الله قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره الفراء قال القبيل والكفيل والزعيم سواء تقول قبلت وكفلت وزعمت
والثالث قبيلة قبيلة كل قبيلة على حدتها قاله الحسن ومجاهد فأما الزخرف فالمراد به الذهب وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في يونس 24وترقى بمعنى تصعد يقال رقيت أرقى رقيا
قوله تعالى حتى تنزل علينا كتابا قال ابن عباس كتابا من رب العالمين الى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه
قوله تعالى قل سبحان ربي قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي قل وقرأ ابن كثير وابن عامر قال وكذلك هي في مصاحف اهل مكة والشام هل كنت الا بشرا رسولا أي أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر
فان قيل لم اقتصر على حكاية قالوا من غير إيضاح الرد فالجواب أنه لما خصهم بقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يكن في وسعهم عجزهم فكأنه يقول قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على بنوتي ومن ذلك التحدي بمثل هذا القرآن فأما عنتكم فليس في وسعي ولأنهم الحوا عليه في هذه الأشياء ولم يسألوه أن يسأل ربه فرد قولهم بكونه بشرا فكفى ذلك في الرد
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث ألله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملئكة يمشون (5/88)
مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا نصيرا
قوله تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا قال ابن عباس يريد أهل مكة قال المفسرون ومعنى الآية وما منعهم من الإيمان إذ جاءهم الهدى وهو البيان والإرشاد في القرآن إلا أن قالوا أي إلا قولهم في التعجب والإنكار أبعث الله بشرا رسولا وفي الآية اختصار تقديره هلا بعث الله ملكا رسولا فأجيبوا على ذلك بقوله تعالى قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين أي مستوطنين الأرض ومعنى الطمأنينة السكون والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم
قوله تعالى قل كفى بالله شهيدا قد فسرناه في الرعد 43 إنه كان بعباده خبيرا بصيرا قال مقاتل حين اختص الله محمدا بالرسالة
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا
قوله تعالى من يهدي الله فهوالمهتدي قرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وحذفاها في الوقف وأثبتها يعقوب في الوقف وحذفها الأكثرون في (5/89)
الحالتين من يهد الله قال ابن عباس من يرد الله هداه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه يهدونهم
قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يمشيهم على وجوههم وشاهده ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة
والثاني أن المعنى ونحشرهم مسحوبين على وجوههم قاله ابن عباس
والثالث نحشرهم مسرعين مبادرين فعبر بقوله على وجوههم عن الإسراع كما تقول العرب قد مر القوم على وجوههم إذا أسرعوا قاله ابن الأنباري
قوله تعالى عميا وبكما وصما فيه قولان
أحدهما عميا لا يرون شيئا يسرهم وبكما لا ينطقون بحجة وصما لا يسمعون شيئا يسرهم قاله ابن عباس وقال في رواية عميا عن النظر الى ما جعل لأوليائه وبكما عن مخاطبة الله وصما عما مدح به اولياءه وهذا قول الأكثرين
والثاني أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول قال مقاتل هذا يكون حين يقال لهم اخسؤوا فيها المؤمنون 108 فيصيرون عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك
قوله تعالى كلما خبت قال ابن عباس أي سكنت قال المفسرون وذلك أنها تأكلهم فاذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله (5/90)
سكنت فيعادون خلقا جديدا فتعود لهم وقال ابن قتيبة يقال خبت النار إذا سكن لهبها فالهلب يسكن والجمر يعمل فان سكن اللهب ولم يطفأ الجمر قيل خمدت تخمد خمودا فان طفئت ولم يبق منها شيء قيل همدت تهمد همودا ومعنى زدناهم سعيرا نارا تتسعر أي تتلهب وما بعد هذا قد سبق تفسيره الاسراء 49 الى قوله قادر على أن يخلق مثلهم أي على أن يخلقهم مرة ثانية وأراد ب مثلهم إياهم وذلك أن مثل الشيء مساو له فجاز أن يعبر به عن نفس الشيء يقال مثلك لا يفعل هذا أي أنت ومثله قوله فان آمنوا بمثل ما آمنتم به البقرة 137 وقدتم الكلام عند قوله مثلهم ثم قال وجعل لهم أجلا لا ريب فيه يعني أجل البعث فابى الظالمون إلا كفورا أي جحودا بذلك الأجل
قوله تعالى قل لو انتم تملكون خزائن رحمة ربي قال الزجاج المعنى لو تملكون انتم قال الملمس ... ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... نصبت لهم فوق العرانين ميسما ...
المعنى لو أراد غير أخوالي
وفي هذه الخزائن قولان
أحدهما خزائن الأرزاق والثاني خزائن النعم فيخرج في الرحمة قولان أحدهما الرزق والثاني النعمة وتحرير الكلام لو ملكتم ما يملكه الله عز و جل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة وكان الإنسان يعني الكافر قتورا أي بخيلا ممسكا يقال قتر يقتر وقتر يقتر إذا قصر في الإنفاق وقال الماوردي لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى لما جاد (5/91)
كجود الله تعالى لأمرين أحدهما أنها لا بد أن يمسك منه لنفقته ومنفعته والثاني أنه يخاف الفقر والله تعالى منزه في جوده عن الحالين
ثم إن الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى تشبيها بحال هؤلاء المشركين فقال ولقد آتينا موسى تسع آيات وفيها قولان
أحدهما أنها بمعنى المعجزات والدلالات ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها وهي يده والعصا والطوفان والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال أحدها أنهما لسانه والبحر الذي فلق له رواه العوفي عن ابن عباس يعني بلسانه أنه كان فيه عقدة فحلها الله تعالى له والثاني البحر والجبل الذي نتق فوقهم رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث السنون ونقص الثمرات رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة وقال الحسن السنون ونقص الثمرات آية واحدة والرابع البحر والموت أرسل عليهم قاله الحسن ووهب والخامس الحجر والبحر قاله سعيد بن جبير والسادس لسانه وإلقاء العصا مرتين عند فرعون قاله الضحاك والسابع البحر والسنون قاله محمد بن كعب والثامن ذكره محمد بن اسحاق عن محمد بن كعب ايضا فذكر السبع الآيات الأولى إلا أنه جعل مكان يده البحر وزاد الطمسة والحجر يعني قوله اطمس على أموالهم يونس 88
والثاني أنها آيات الكتاب روى ابو داود السجستاني من حديث صفوان ابن عسال أن يهوديا قال لصاحبه تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر لا تقل انه نبي فانه لو سمع ذلك صارت له أربعة أعين فأتياه فسالاه عن تسع آيات بينات فقال لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق (5/92)
ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا بالبريء الى السلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت قال فقبلا يده وقالا نشهد أنك نبي
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا
قوله تعالى فاسال بني اسرائيل قرأ الجمهور فاسأل على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عما اخبر به عنهم ليكون حجة (5/93)
على من لم يؤمن منهم وقرا ابن عباس فسأل بني أسرائيل على معنى الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني اسرائيل فقال له فرعون إني لأظنك أي لأحسبك يا موسى مسحورا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها مخدوعا قاله ابن عباس والثاني مسحورا قد سحرت قاله ابن السائب والثالث ساحرا فوضع مفعولا في موضع فاعل هذا مروي عن الفراء وأبي عبيدة فقال موسى لقد علمت قرأ الجمهور بفتح التاء وقرأ علي عليه السلام بضمها وقال والله ما علم عدو الله ولكن موسى هوالذي علم فبلغ ذلك ابن عباس فاحتج بقوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم النمل 14 واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام وقد رويت عن ابن عباس وأبي رزين وسعيد بن جبير وأبن يعمر واحتج من نصرها بأنه لما نسب موسى إلى أنه مسحور أعلمه بصحة عقله بقوله لقد علمت والقراءة الأولى أصح لاختيار الجمهور ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه فلم يرد عليه الا بالتعلل والمدافعة فكأنه قال لقد علمت بالدليل والحجة ما أنزل هؤلاء يعني الآيات وقد شرحنا معنى البصائر في الأعراف 203
قوله تعالى وإني لأظنك قال أكثر المفسرين الظن هاهنا بمعنى العلم على خلاف ظن فرعون في موسى وسوى بينهما بعضهم فجعل الأول بمعنى العلم أيضا
وفي المثبور ستة أقوال
أحدها أنه الملعون روه ابو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك والثاني المغلوب رواه العفوي عن ابن عباس والثالث الناقص العقل رواه (5/94)
ميمون بن مهران عن ابن عباس والرابع المهلك رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال ابو عبيدة وابن قتيبة قال الزجاج يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا أهلك والخامس الهالك قاله مجاهد والسادس الممنوع من الخير تقول العرب ما ثبرك عن هذا أي ما منعك قاله الفراء
قوله تعالى فأراد أن يستفزهم من الأرض يعني فرعون أراد أن يستفز بني أسرائيل من أرض مصر وفي معنى يستفزهم قولان
أحدهما يستأصلهم قاله ابن عباس
والثاني يستخفهم حتى يخرجوا قاله ابن قتيبة وقال الزجاج جائز أن يكون استفزازهم اخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية قال العلماء وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع اليها ظاهرا عليها
قوله تعالى وقلنا من بعده أي من بعد هلاك فرعون لبني أسرائيل اسكنوا الأرض وفيها ثلاث أقوال
أحدها فلسطين والأردن قاله ابن عباس والثاني أرض وراء الصين قال مقاتل والثالث أرض مصر والشام
قوله تعالى فاذا جاء وعد الآخرة يعني القيامة جئنا بكم لفيفا أي جميعا قاله ابن عباس ومجاهد وابن قتيبة وقال الفراء لفيفا أي من هاهنا ومن هاهنا وقال الزجاج اللفيف الجماعات من قبائل شتى (5/95)
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
قوله تعالى وبالحق أنزلناه الهاء كناية عن القرآن والمعنى أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين المستقيم فهو حق ونزوله حق وما تضمنه حق وقال ابو سليمان الدمشقي وبالحق أنزلناه أي بالتوحيد وبالحق نزل يعني بالوعد والوعيد والأمر والنهي
قوله تعالى وقرآنا فرقناه قرأ علي عليه السلام وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وأبو رزين ومجاهد والشعبي وقتادة والأعرج وأبو رجاء وابن محيصن فرقناه بالتشديد وقرأ الجمهور بالتخفيف
فأما قراءة التخفيف ففي معتاها ثلاثة أقوال
أحدها بينا حلاله وحرامه رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني فرقنا فيه بين الحق والباطل قاله الحسن
والثالث أحكمناه وفصلناه كقوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم الدخان 4 قاله الفراء وأما المشددة فمعناها أنه أنزل متفرقا ولم ينزل جملة واحدة وقد بينا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها (5/96)
قوله تعالى لتقرأه على الناس على مكث قرأ أنس والشعبي والضحاك وقتادة وأبو رجاء وأبان عن عاصم وابن محيصن بفتح الميم والمعنى على تؤدة وترسل ليتدبروا معناه
قوله تعالى قل آمنوا به أو لا تؤمنوا هذا تهديد لكفار أهل مكة والهاء كناية عن القرآن إن الذين أوتوا العلم وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ناس من أهل الكتاب قاله مجاهد
والثاني أنهم الأنبياء عليهم السلام قاله ابن زيد
والثالث طلاب الدين كأبي ذر وسلمان وورقة بن نوفل وزيد ابن عمرو قاله الواحدي
وفي هاء الكناية في قوله من قبله قولان
أحدهما أنها ترجع إلى القرآن والمعنى من قبل نزوله
والثاني ترجع الى رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن زيد فعلى الأول اذا يتلى عليهم القرآن وعلى قول ابن زيد اذا يتلى عليهم ما انزل اليهم من عند الله
قوله تعالى يخرون للأذقان اللام هاهنا بمعنى على قال ابن عباس قوله للأذقان أي للوجوه قال الزجاج الذي خير وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو عضو من أعضاء الوجه فاذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه الى الأرض الذقن وقال ابن الأنباري أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل ان يصوب جبتهه ذقنه فلذلك قال (5/97)
للأذقان ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل وبالنوع من الجنس
قوله تعالى ويقولون سبحان ربنا نزهوا الله تعالى عن تكذيب المكذبين بالقرآن وقالوا ان كان وعد ربنا بانزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه و سلم لمفعولا واللام دخلت للتوكيد وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب ومنزل عليه كتابا فلما عاينوا ذلك حمدوا الله تعالى على انجاز الوعد ويخرون للأذقان كرر القول ليدل على تكرار الفعل منهم ويزيدهم خشوعا أي يزيدهم القرآن تواضعا وكان عبد الأعلى التيمي يقول من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه لأن الله تعالى نعت العلماء فقال ان الذين اوتوا العلم إلى قوله يبكون
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا
قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية هذه الأية نزلت على سببين نزل أولها إلى قوله الحسنى على سبب وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تهجد ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده يا رحمن يا رحيم فقال المشركون كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن (5/98)
يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ما نعرف الرحمن الا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فأنزل الله هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكتب في أول ما أوحي اليه باسمك اللهم حتى نزل إنه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 فكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال مشركو العرب هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن فنزلت هذه الاية قاله ميمون بن مهران
والثالث أن اهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت هذه الآية قاله الضحاك
فأما قوله ولا تجهر بصلاتك فنزل على سبب وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة فيسب المشركون القرآن و من أتى به فخفض رسول الله صلى الله عليه و سلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا يسمعون قاله ابن عباس
والثاني أن الأعرابي كان يجهر في التشهد ويرفع صوته فنزلت هذه الآية هذا قول عائشة
والثالث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي بمكة عند الصفا فجهر بالقرآن في صلاة الغداة فقال أبو جهل لاتفتر على الله فخفض النبي صلى الله عليه و سلم صوته فقال (5/99)
أبو جهل للمشركين الا ترون ما فعلت بابن ابي كبشة رددته عن قراءته فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
فأما التفسير فقوله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن المعنى إن شئتم فقولوا يا ألله وإن شئتم فقولوا يارحمن فانهما يرجعان إلى واحد أيا ما تدعوا المعنى أي أسماء الله تدعوا قال الفراء وما قد تكون صلة كقوله عما قليل ليصبحن نادمين المؤمنون 40 وتكون في معنى أي معادة لما اختلف لفظهما
قوله تعالى ولا تجهر بصلاتك فيه قولان
أحدهما أنها الصلاة الشرعية ثم في المراد بالكلام ستة أقوال
أحدها لاتجهر بقراءتك ولا تخافت بها فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافتة قاله ابن عباس فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري أحدهما أن يكون المعنى فلا تجهر بقراءة صلاتك والثاني أن القراءة بعض الصلاة فنابت عنها كما قيل لعيسى كلمة الله لأنه بالكلمة كان
والثاني لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس قاله ابن عباس ايضا
والثالث لا تجهر بالتشهد في صلاتك روي عن عائشة في رواية وبه قال ابن سيرين
والرابع لا تجهر بفعل صلاتك ظاهرا ولا تخافت بها شديد الاستتار قاله عكرمة
والخامس لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها قاله الحسن
والسادس لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها فاجهر في صلاة الليل وخافت في صلاة النهار على ما أمرناك به ذكره القاضي ابو يعلى (5/100)
والقول الثاني أن المراد بالصلاة الدعاء وهو قول عائشة وأبي هريرة ومجاهد
قوله تعالى ولا تخافت بها المخافتة الإخفاء يقال صوت خفيت وابتغ بين ذلك سبيلا أي اسلك بين الجهر والمخافتة طريقا وقد روي عن ابن عباس انه قال نسخت هذه الآية بقوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول الأعراف 205 وقال ابن السائب نسخت بقوله فاصدع بما تؤمر الحجر 94 وعلى التحقيق وجود النسخ هاهنا بعيد
قوله تعالى ولم يكن له شريك في الملك وقرأ ابو المتوكل وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرف في الملك بكسر الميم ولم يكن له ولي من الذل قال مجاهد لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد والمعنى أنه لا يحتاج الى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير وكبره تكبيرا أي عظمه تعظيما تاما (5/101)
سورة الكهف
فصل في نزولها
روى أبو صالح عن ابن عباس أن سورة الكهف مكية وكذلك قال الحسن ومجاهد وقتادة وهذا اجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه إلا أنه قد روي عن ابن عباس وقتادة أن منها آية مدنية وهي قوله واصبر نفسك الكهف 28 وقال مقاتل من أولها الى قوله تعالى صعيدا جرزا الكهف 8 مدني وقوله تعالى ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات الكهف 107108 الآيتان مدنية وباقيها مكي وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من حفظ عشر آيات من أول الكهف ثم أدرك الدجال لم يضره ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة (5/102)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
قوله تعالى الحمد لله قد شرحناه في أول الفاتحة والمراد بعبده هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم وبالكتاب القرآن تمدح بانزاله لأنه انعام على الرسول خاصة وعلى الناس عامة قال العلماء باللغة والتفسير في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها أنزل على عبده الكتاب قيما أي مستقيما عدلا وقرأ أبو رجاء وابو المتوكل وأبو الجوزاء وابن يعمر والنخعي والأعمش قيما بكسر القاف وفتح الياء وقد فسرناه في الأنعام 161
قوله تعالى ولم يجعل له عوجا أي لم يجعل فيه اختلافا وقد سبق بيان العوج في آل عمران 99
قوله تعالى لينذر بأسا شديدا أي عذابا شديدا من لدنه أي من عنده ومن قبله والمعنى لينذر الكافرين ويبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم أي بأن لهم اجرا حسنا وهو الجنة ماكثين (5/103)
أي مقيمين وهو منصوب على الحال وينذر بعذاب الله الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود حين قالوا عزير ابن الله والنصارى حين قالوا المسيح ابن الله والمشركون حين قالوا الملائكة بنات الله ما لهم به أي بذلك القول من علم لأنهم قالوا أفترى على الله ولا لآبائهم الذين قالوا ذلك كبرت أي عظمت كلمة الجمهور على النصب وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وأبو رزين وأبو رجاء ويحيى بن يعمر وابن محيصن وابن أبي عبلة كلمة بالرفع قال الفراء من نصب أضمر كبرت تلك الكلمة كلمة ومن رفع لم يضمر شيئا كما تقول عظم قولك وقال الزجاج من نصب فالمعنى كبرت مقالتهم اتخذ الله ولدا كلمة وكلمة منصوب على التمييز ومن رفع فالمعنى عظمت كلمة هي قولهم اتخذ الله ولدا
قوله تعالى تخرج من أفواههم أي إنها قول بالفم لا صحة لها ولا دليل عليها ان يقولون أي ما يقولون إلا كذبا ثم عاتبه على حزنه لفوت ما كان يرجو من اسلامهم فقال فلعلك باخع نفسك وقرأ سعيد ابن جبير وابو الجوزاء وقتادة باخع نفسك بكسر السين على الإضافة قال المفسرون واللغويون فلعلك مهلك نفسك وقاتل نفسك وانشد أبو عبيدة لذي الرمة ... ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر ...
أي تحته (5/104)
فان قيل كيف قال فلعلك والغالب عليها الشك والله عالم بالأشياء قبل كونها
فالجواب أنها ليست بشك إنما هي مقدرة تقدير الاستفهام الذي يعني به التقرير فالمعنى هل أنت قاتل نفسك لا ينبغي أن يطول أساك على إعراضهم فان من حكمنا عليه بالشقوة لا تجدي عليه الحسرة ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى على آثارهم أي من بعد توليهم عنك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث يعني القرآن أسفا وفيه اربعة أقوال
أحدها حزنا قاله ابن عباس وابن قتيبة والثاني جزعا قاله مجاهد والثالث غضبا قاله قتادة والرابع ندما قاله السدي وقال ابو عبيدة ندما وتلهفا وأسى قال الزجاج الأسف المبالغة في الحزن أو الغضب يقال قد أسف الرجل فهو أسيف قال الشاعر ... أرى رجلا منهم أسيفا كأنهما ... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا ...
وهذه الآية يشير بها الى نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا
قوله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم الرجال رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني العلماء (5/105)
رواه مجاهد عن ابن عباس فعلى هذين القولين تكون ما في موضع من لأنها في موضع إبهام قاله ابن الانباري والثالث أنه ما عليها من شيء قاله مجاهد والرابع النبات والشجر قالاه مقاتل وقول مجاهد أعم يدخل فيه النبات والماء والمعادن وغير ذلك
فان قيل قد نرى بعض ما على الأرض سمجا وليس بزينة
فالجواب أنا إن قلنا إن المراد به شيء مخصوص فالمعنى إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها فخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص وإن قلنا هم الرجال أو العلماء فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم وإن قلنا النبات والشجر فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية وإن قلنا إنه عام في كل ما عليها فلكونه دالا على خالقه فكأنه زينة الأرض من هذه الجهة
قوله تعالى لنبلوهم أي لنختبر الخلق والمعنى لنعاملهم معاملة المبتلى قال ابن الأنباري من قال إن ما على الأرض يعني به النبات قال الهاء والميم ترجع إلى سكان الأرض المشاهدين للزينة ومن قال ما على الأرض الرجال رد الهاء والميم على ما لأنها بتأويل الجميع ومعنى الآية لنبلوهم فنرى أيهم أحسن عملا هذا أم هذا قال الحسن أيهم أزهد في الدنيا وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة هود 7 ثم أعلم الخلق أنه يفني جميع ذلك فقال تعالى وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا قال الزجاج الصعيد الطريق الذي لا نبات فيه وقال ابن الأنباري قال اللغويون الصعيد التراب ووجه الأرض فأما الجرز فقال الفراء أهل الحجاز يقولون أرض جرز وجرز وأسد تقول جرز وجرز وتميم تقول أرض جرز وجرز وبالتخفيف وقال ابو عبيدة الصعيد الجرز الغليظ الذي لا ينبت شيئا ويقال للسنة (5/106)
المجدبة جرز وسنون أجراز لجدوبتها وقلة مطرها وأنشد
قد جرفتهن السنون الأجراز
وقال الزجاج الجرز الأرض التي لا ينبت فيها شيء كأنها تأكل النبت أكلا وقال ابن الأنباري قال اللغويون الجرز الأرض التي لا يبقى بها نبات تحرق كل نبات يكون بها وقال المفسرون وهذا يكون يوم القيامة يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية الى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا امدا
قوله تعالى أم حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى ويسألونك عن الروح الاسراء 85 وقال ابن قتيبة ومعنى أم حسبت أحسبت فأما الكهف فقال المفسرون هو المغارة في الجبل إلا أنه واسع فاذا صغر فهو غار قال ابن الأنباري قال اللغويون الكهف بمنزلة الغار في الجبل
فأما الرقيم ففيه ستة أقوال
أحدها أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطلع عليهم يوما من الدهر ما قصتهم قاله ابو صالح عن ابن عباس وبه قال (5/107)
وهب بن منبه وسعيد بن جبير في رواية ومجاهد في رواية وقال السدي الرقيم صخرة كتب فيها اسماء الفتية وجعلت في سور المدينة وقال مقاتل الرقيم كتاب كتبه رجلان صالحان وكانا يكتمان إيمانهما من الملك الذي فر منه الفتية كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس ثم جعلاه في البناء الذي سدوا به باب الكهف فقالا لعل الله أن يطلع على هؤلاء الفتية احدا فيعلمون أمرهم إذا قرؤوا الكتاب وقال الفراء كتب في اللوح اسماؤهم وانسابهم ودينهم وممن كانوا قال ابو عبيدة وابن قتيبة الرقيم الكتاب وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه كتاب مرقوم أي مكتوب والثاني أنه اسم القرية ألتي خرجوا منها قاله كعب والثالث اسم الجبل قاله الحسن وعطية والرابع ان الرقيم الدواة بلسان الروم قاله عكرمة ومجاهد في رواية والخامس اسم الكلب قاله سعيد بن جبير والسادس اسم الوادي الذي فيه الكهف قاله قتادة والضحاك
قوله تعالى كانوا من آياتنا عجبا قال المفسرون معنى الكلام أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم فان خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم وقال ابن عباس الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم أفضل من شأنهم
قوله تعالى إذ أوى الفتية قال الزجاج معنى أووا اليه صاروا اليه وجعلوه مأواهم والفتية جمع فتى مثل غلام وغلمة وصبي وصبية وفعلة من أسماء الجمع وليس ببناء يقاس عليه لا يجوز غراب وغربة ولا غني وغنية وقال بعض المفسرين الفتية بمعنى الشبان وقد ذكرنا عن (5/108)
القتيبي أن الفتى بمعنى الكامل من الرجال وبيناه في قوله تعالى من فتياتكم المؤمنات النساء 25
قوله تعالى فقالوا ربنا آتنا من لدنك أي من عندك رحمة أي رزقا وهيئ لنا أي أصلح لنا من أمرنا رشدا أي ارشدنا إلى ما يقربنا منك والمعنى هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد والرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال
تلخيص قصة أصحاب الكهف
اختلف العلماء في بدو امرهم وسبب مصيرهم الى الكهف على ثلاثة أقوال
أحدها أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم الى عبادة الأصنام الأصنام فمروا براع له فتبعهم على دينهم فأووا الى الكهف يتعبدون ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا فبكوا وتعوذوا بالله من الفتنة فضرب الله تعالى على آذانهم وأمر الملك فسد عليهم الكهف وهو يظنهم أيقاظا وقد توفى الله ارواحهم وفاة النوم وكلبهم قد غشيه ما غشيهم ثم إن الرجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان وقالا لعل الله يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون خبرهم هذا قول ابن عباس وقال عبيد بن عمير فقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم أمرهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكونن لهذا شأن (5/109)
والثاني أن أحد الحواريين جاء الى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له إن على بابها صنما لا يدخلها أحد الا سجد له فكره أن يدخلها فأتى حماما قريبا من المدينة فكان يعمل فيه بالأجر وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض وخبر الآخرة فآمنوا به وصدقوه حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة فدخل معها الحمام فأنكر عليه الحواري ذلك فسبه ودخل فمات وماتت المرأة في الحمام فأتى الملك فقيل له إن صاحب الحمام قتل ابنك فالتمس فهرب فقال من كان يصحبه فسمي له الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا على صاحب لهم في زرع وهو على مثل أمرهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل الى الكهف فدخلوه فقالوا نبيت هاهنا ثم نصبح ان شاء الله فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم فناموا وخرج الملك وأصحابه يتبعونهم فوجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف ارعب فقال قائل للملك أليس قلت إن قدرت عليهم قتلتهم قال بلى قال فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا ففعل هذا قول وهب بن منبه
والثالث أنهم كانوا ابناء عظماء المدينة وأشرافهم خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد فقال رجل منهم هو اسنهم اني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده فقالوا ما تجد قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقاموا جميعا فقالوا ربنا رب السموات والأرض فأجمعوا أن يدخلوا الكهف فدخلوا فلبثوا ما شاء الله هذا قول مجاهد وقال قتادة كانوا أبناء ملوك الروم فتفردوا بدينهم في الكهف فضرب الله على آذانهم (5/110)
فصل
فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم فقال عكرمة جاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلما فاختلفوا في الروح والجسد فقال قائل يبعث الروح والجسد وقال قائل يبعث الروح وحده والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئا فشق اختلافهم على الملك فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم فبعث الله اصحاب الكهف وقال وهب ابن منبه جاء راع قد أدركه المطر الى الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتحه ورد الله اليهم ارواحهم حين اصبحوا من الغد وقال ابن السائب احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظسرة لغنمه فهدم ذلك السد فبنى به فانفتح باب الكهف وقال ابن اسحاق ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة فنزعاها وفتحا باب الكهف فجلسوا فرحين فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوهم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه إنما هم على هيئتين حيث رقدوا وهم يرون أن ملكهم أن ملكهم في طلبهم فصلوا وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم انطلق فاستمع ما نذكر به وابتغ لنا طعاما فوضع ثيابه واخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف فعجب ثم مر مستخفيا متخوفا أن يراه احد فيذهب به الى الملك فلما رأى باب المدينة رآى عليه علامة تكون لأهل الإيمان وخيل إليه أنها ليست بالمدينة (5/111)
التي يعرف ورأى ناسا لا يعرفهم فجعل يتعجب ويقول لعلي نائم فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى فقام مسندا ظهره إلى جدار وقال في نفسه والله ما أدري ما هذا عشية أمس لم يكن وجه الأرض من يذكر عيسى إلا قتل واليوم أسمعهم يذكرونه لعل هذه ليست المدينة التي أعرف والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران وأخرج ورقا فأعطاه رجلا وقال بعني طعاما فنظر الرجل إلى نقشه فعجب ثم ألقاه إلى آخر فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتشاورون وقالوا إن هذا قد اصاب كنزا ففرق منهم وظنهم قد عرفوه فقال أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه فقالوا له من أنت يا فتى والله لقد وجدت كنزا وأنت تريد أن تخفيه شاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك فلم يدر ما يقول فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة فقالا أين الكنز الذي وجدت قال ما وجدت كنزا ولكن هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني ولا ما أقول لكم قال مجاهد وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل فقالوا من أنت وما اسم أبيك فأخبرهم فلم يجدوا من يعرفه فقال له أحدهما أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز فقال يمليخا أنبؤني عن شيء اسالكم عنه فان فعلتم صدقتكم قالوا سل قال ما فعل الملك دقيانوس قالوا لا نعرف اليوم على وجه الارض ملكا يسمى دقيانوس وإنما هذا ملك كان منذ زمان طويل وهلكت بعده قرون كثيرة فقال والله ما يصدقني أحد بما اقوله لقد كنا (5/112)
فتية وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل فظنوا أنهم رسل دقيانوس فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي فبكوا معه وسألوه عن شأنه فأخبرهم خبره وقص عليهم النبأ كله فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فعجبوا وأرسلوا إلى ملكهم فجاء واعتنق القوم وبكى فقالوا له نستودعك الله ونقرأ عليك السلام حفظك وحفظ ملكك فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله عز و جل أنفسهم فامر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب فلما أمسوا رآهم في المنام فقالوا إنا لم نخلق من ذهب وقضة ولكن خلقنا من تراب فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز و جل من وحجبهم الله عز و جل حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة وقيل إنه لما جاء يمليخا ومعه الناس قال دعوني أدخل إلى أصحابي فأبشرهم فانهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم وقبض الله روحه وأرواحهم فدخل الناس فاذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك هذه آية بعثها الله لكم (5/113)
قوله تعالى فضربنا على آذانهم قال الزجاج المعنى أنمناهم ومنعناهم السمع لأن النائم إذا سمع انتبه وعددا منصول على ضربين
أحدهما علىالمصدر المعنى تعد عددا
والثاني أن يكون نعتا للسنين المعنى سنين ذات عدد والفائدة في ذكر العدد في الشيء المعدود توكيد كثرة الشيء لأنه اذا قل فهم مقداره وإذا كثر احتيج الى أن يعد العدد الكثير ثم بعثناهم من نومهم يقال لكل من خرج من الموت الى الحياة أو من النوم إلى الانتباه مبعوث لانه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث وقيل معنى سنين عددا أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام إنما هي كاملة ذكره الماوردي
قوله تعالى لنعلم أي الحزبين قال المفسرون أي لذى وقال بعضهم المعنى لتعلموا أنتم وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والنخعي ليعلم بضم الياء على ما لم يسم فاعله أي الحزبين ويعني بالحزبين المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف أحصى لما لبثوا أي لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر قال قتادة لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمنيهم ولا لكافريهم قال مقاتل لما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث وقال القاضي أبو يعلى معنى الكلام بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم لما في ذلك من العبرة
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا (5/114)
شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه الهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا
قوله تعالى نحن نقص عليك نبأهم أي خبر الفتية بالحق أي بالصدق
قوله تعالى وزدناهم هدى أي ثبتناهم على الإيمان وربطنا على قلوبهم أي ألهمناها الصبر إذ قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس فقالوا ربنا رب السموات والأرض وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام فعصم الله هؤلاء حتى عصوا ملكهم وقال الحسن قاموا في قومهم فدعوهم الى التوحيد وقيل هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة فأما الشطط فهو الجور قال الزجاج يقال شط الرجل وأشط إذا جار ثم قال الفتية هؤلاء قومنا يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس اتخذوا من دونه آلهة أي عبدوا الأصنام لولا أي هلا يأتون عليهم أي على عبادة الأصنام بسلطان بين أي بحجة وإنما قال عليهم والأصنام مؤنثة لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز فجرت مجرى المذكرين من الناس
قوله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا فزعم أن له شريكا
وإذ اعتزلوهم يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزوار عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك (5/115)
من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا
قوله تعالى وإذ اعزلتموهم قال ابن عباس هذا قول يمليخا وهو رئيس اصحاب الكهف قال لهم وإذ اعتزلتموهم أي فارقتموهم يريد عبدة الأصنام وما يعبدون إلا الله فيه قولان
أحدهما واعتزلتم ما يعبدون إلا الله فان القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله هذا قول عطاء الخراساني والفراء
والثاني وما يعبدون غير الله قال قتادة هي في مصحف عبد الله وما يعبدون من دون الله وهذا تفسيرها
قوله تعالى فأووا إلى الكهف أي اجعلوه مأواكم ينشر لكم ربكم من رحمته أي يبسط عليكم من رزقه ويهيئ لكم من أمركم مرفقا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء وقرأ نافع وابن عامر مرفقا بفتح الميم وكسرالفاء قال الفراء أهل الحجاز يقولون مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء في كل مرفق ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا قال ابن الأنباري معنى الآية ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب مرفقا قال الشاعر ... فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان (5/116)
معناه فليت لنا بدلا من ماء زمزم قال ابن عباس ويهيئ لكم يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ويأتكم باليسر والرفق واللطف
قوله تعالى وترى الشمس إذا طلعت المعنى لو رأيتها لرايت ما وصفنا تزاور قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو تزاور بتشديد الزاي وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور خفيفة وقرأ ابن عامر تزور مثل تحمر وقرأ أبي بن كعب وأبو مجلز وابو رجاء والجحدري تزوار باسكان الزاي وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة مشددة الراء وقرأ ابن مسعدو وأبو المتوكل وابن السميفع تزوئر بهمزة قبل الراء مثل تزوعر وقرأ ابو الجوزاء وأبو السماك تزور بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء مثل تكور أي تميل وتعدل قال الزجاج أصل تتزاور فأدغمت التاء في الزاي وتقرضهم أي تعدل عنهم وتتركهم وقال ذو الرمة ... إلى طغن يقرضن أجواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوراس ...
يقرضن يتركن واصل القرض القطع والتفرقة بين الأشياء ومنه قولك أقرضني درهما أي اقطع لي من مالك درهما قال المفسرون كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء فقال وهم في فجوة منه قال ابو عبيدة أي في متسع والجميع فجوات وفجاء بكسر الفاء وقال الزجاج إنما (5/117)
صرف الشمس عنهم آية من الآيات ولم يرض قول من قال كان كهفهم بازاء بنت نعش
قوله تعالى ذلك من آيات الله يشير الى ماصنعه بهم من اللطف في هدايتهم وصرف أذى الشمس عنهم والرعب الذي ألقى علهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم من آيات الله أي من دلائله على قدرته ولطفه من يهد الله فهو المهتد هذا بيان أنه هو الذي تولى هداية القوم ولولا ذلك لم يهتدوا
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذارعيه بالوصيد لو اطعلت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا
قوله تعالى وتحسبهم أيقاظا أي لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا قال الزجاج الأيقاظ المنتبهون واحدهم يقط ويقظان والجميع أيقاظ والرقود النيام قال الفراء واحد الأيقاظ يقظ ويقظ قال ابن السائب وإنما يحسبون أيقاظا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقيل لتقلبهم يمينا وشمالا وذكر بعض أهل العلم أن وجه الحكمة في فتح أعينهم أنه لو دام طبقها لذابت
قوله تعالى ونقلبهم وقرأ أبو رجاء وتقلبهم بتاء مفتوحة وسكون القاف وتخفيف اللام المكسورة وقرأ ابو الجوزاء وعكرمة ونقلبهم مثلها إلا أنه بالنون ذات اليمين أي على ايمانهم وعلى شمائلهم قال ابن عباس كانوا يقلبون في كل عام مرتين ستة أشهر على هذا الجنب وستة أشهر على هذا الجنب لئلا تأكل الأرض لحومهم وقال مجاهد كانوا ثلاثمائة عام على شق واحد ثم قلبوا تسع سنين (5/118)
قوله تعالى وكلبهم باسط ذارعيه بالوصيد أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم وهو في راي العين منتبه وفي الوصيد أربعة أقوال
أحدها أنه الفناء فناء الكهف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وقتادة والفراء قال الفراء يقال الوصيد والأصيد لغتان مثل الإكفاف والوكاف وأرخت الكتاب وورخت ووكدت الأمر وأكدت وأهل الحجاز يقولون الوصيد وأهل نجد يقولون الأصيد وهو الحظيرة والفناء
والثاني أنه الباب رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال السدي وقال ابن قتيبة فيكون المعنى وكلبهم باسط ذارعيه بالباب قال الشاعر ... بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... على ومعروفي بها غير منكر ...
والثالث أنه الصعيد وهو التراب رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد في رواية عنهما
والرابع أنه عتبة الباب قاله عطاء قال ابن قتيبة وهذا أعجب إلي لأنهم يقولون أوصد بابك أي أغلقه ومنه قوله إنها عليهم مؤصدة الهمزة 8 أي مطبقة مغلقة وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته ومما يوضح هذا أنك إذا جعلت الكلب بالفناء كان خارجا من الكهف وإن جعلته بعتبة الباب أمكن أن يكون داخل الكهف والكهف وإن لم يكن له باب وعتبة فانما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت فاستعير
قوله تعالى لو اطلعت عليهم وقرأ الأعمش وأبو حصين لو أطلعت (5/119)
بضم الواو لوليت منهم فرارا رهبة لهم ولملئات قرأ عاصم وابن عامر وابو عمرو وحمزة والكسائي ولملئت خفيفة مهموزة وقرأ ابن كثير ونافع ولملئت مشددة مهموزة رعبا أي فزعا وخوفا وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل اليهم أحد وقيل انهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا حكاه الزجاج
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها ازكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تلفحوا إذا أبدا
قوله تعالى وكذلك بعثناهم أي وكما فعلنا بهم ما ذكرناه بعثناهم من تلك النومة ليتساءلوا أي ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبرين بحالهم قال قائل منهم كم لبثتم أي كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم وذلك أنهم دخلوا غدوة وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا يوما فلما رأوا الشمس قالوا أبو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم قال ابن عباس القائل لهذا يمليخا رئيسهم رد علم ذلك الى الله تعالى وقال في رواية أخرى انما قاله مكسلمينا وهو أكبرهم قال أبو سليمان وهذا يوجب ان تكون نفوسهم قد حدثتهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا وقيل إنما قالوا ذلك لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدا
قوله تعالى فابعثوا أحدكم قال ابن الأنباري إنما قال أحدكم (5/120)
ولم يقل واحد كم لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم فان العرب تقول رأيت أحد القوم ولا يقولون رأيت واحد القوم إلا إذا أرادوا المعظم فأراد بأحدهم بعضهم ولم يرد شريفهم
قوله تعالى بورقكم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بورقكم الراء مكسورة خفيفة وقرا ابو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء وعن أبي عمرو بورقكم مدغمة يشمها شيئا من التثقيل قال الزجاج يقولون الورق وبعض العرب يكسرون الواو فيقولون الورق قال ابن قتيبة الورق الفضة دراهم كانت او غير دراهم يدلك على ذلك حديث عرفجة انه اتخذ أنفا من ورق
قوله تعالى إلى المدينة يعنون التي خرجوا منها واسمها دقسوس ويقال هي اليوم طرسوس
قوله تعالى فلينظر ايها قال الزجاج المعنى أي أهلها أزكى طعاما وللمفسرين في معناه ستة أقوال
أحدها أحل ذبيحة قاله ابن عباس وعطاء وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا فكانوا يذبحون للطواغيت وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم والثاني أحل طعاما قاله سعيد بن جبير قال الضحاك وكانت أكثر أموالهم غصوبا وقال مجاهد قالوا لصاحبهم لا تبتع طعاما فيه ظلم ولا غصب والثالث أكثر قاله عكرمة والرابع خير أي أجود قاله قتادة (5/121)
والخامس أطيب قاله ابن السائب ومقاتل والسادس ارخص قاله يمان بن رياب قال ابن قتيبة واصل الزكاء النماء والزيادة
قوله تعالى فلياتكم برزق منه أي بما تأكلونه وليتلطف أي ليدقق النظر فيه وليحتل لئلا يطلع عليه ولا يشعرن بكم أي ولا يخبرن أحدا بمكانكم إنهم إن يظهروا أي يطلعوا ويشرفوا عليكم يرجموكم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها يقتلوكم قاله ابن عباس وقال الزجاج يقتلوكم بالرجم والثاني يرجموكم بأيديهم استنكارا لكم قاله الحسن والثالث بألسنتهم شتما لكم قاله مجاهد وابن جريج
قوله تعالى أو يعيدوكم في ملتهم أي يردوكم في دينهم ولن تفلحوا إذا ابدا أي إن رجعتم في دينهم لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا
قوله تعالى وكذلك أعثرنا عليهم أي وكما أنمناهم وبعثناهم أطعلنا وأظهرنا عليهم قال ابن قتيبة وأصل هذا أن من عثر بشيء وهو غافل نظر اليه حتى يعرفه فاستعير العثار مكان التبين والظهور ومنه قول الناس ما عثرت على فلان بسوء قط أي ما ظهرت على ذلك منه
قوله تعالى ليعلموا في المشار اليهم بهذا العلم قولان (5/122)
أحدهما أنهم اهل بلدهم حين اختصموا في البعث فبعث الله أهل الكهف ليعلموا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق وأن القيامة لا شك فيها هذا قول الاكثرين
والثاني أنهم أهل الكهف بعثناهم ليروا بعد علمهم أن وعد الله حق ذكره الماوردي
قوله تعالى إذ يتنازعون يعني أهل ذلك الزمان قال ابن الأنباري المعنى إذ كانوا يتنازعون ويجوز ان يكون المعنى إذ تنازعوا
وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال
أحدها أنهم تنازعوا في البنيان والمسجد فقال المسلمون نبني عليهم مسجدا لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل سنتنا قاله ابن عباس والثني أنهم تنازعوا في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال بعضهم تبث الأرواح دون الأجساد فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف قاله عكرمة والثالث أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية قاله مقاتل والرابع أنهم تنازعوا في قدر مكثهم والخامس تنازعوا في عددهم ذكرهما الثعلبي
قوله تعالى ابنوا عليهم بنيانا أي استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان وفي القائلين لهذا قولان
أحدهما أنهم مشركو ذلك الزمان وقد ذكرناه عن ابن عباس
والثاني أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف قاله ابن السائب
قوله تعالى قال الذين غلبوا على أمرهم قال ابن قتيبة يعني المطاعين (5/123)
والرؤساء قال المفسرون وهم الملك وأصحابه المؤمنون أتخذوا عليهم مسجدا قال سعيد بن جبير بني عليهم الملك بيعه
سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولون لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا
قوله تعالى سيقولون ثلاثة قال الزجاج ثلاثة مرفوع بخبر الابتداء المعنى سيقول الذين تنازعوا في أمرهم هم ثلاثة وفي هؤلاء القائلين قولان
أحدهما أنهم نصارى نجران ناظروا رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدة أهل الكهف فقالت الملكية هم ثلاثة رابعهم كلبهم وقالت اليعقوبية هم خمسة سادسهم كلبهم وقالت النسطورية هم سبعة وثامنهم كلهم فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم ذكره الماوردي
قوله تعالى رجما بالغيب أي ظنا غير يقين قال زهير ... وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم ...
فأما دخول الواو في قوله وثامنهم كلبهم ولم تدخل فيما قبل هذا ففيه أربعة أقوال (5/124)
أحدها أن دخولها وخروجها واحد قاله الزجاج
والثاني أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل وإنما حذفت تخفيفا ذكره أبو نصر في شرح اللمع
والثالث أن دخولها يدل على انقطاع القصة وان الكلام قد تم ذكره الزجاج أيضا وهو قول مقاتل بن سليمان فان الواو تدل على تمام الكلام قبلها واستئناف ما بعدها قال الثعلبي فهذه واو الحكم والتحقيق كأن الله تعالى حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله ويقولون سبعة ثم حكم أن ثامنهم كلبهم وجاء في بعض التفسير ان المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى هم سبعة فحقق الله قول المسلمين
والرابع أن العرب تعطف بالواو على السبعة فيقولون ستة سبعة وثمانية لأن العقد عندهم سبعة كقوله التائبون العابدون إلى أن قال في الصفة الثامنة والناهون عن المنكر التوبة 112 وقوله في صفة الجنة وفتحت أبوابها وفي صفة النار فتحت أبوابها الزمر 71 73 لأن أبواب النار سبعة وابواب الجنة ثمانية ذكر هذا المعنى أبو اسحاق الثعلبي
وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين
احدهما أنهم كانوا سبعة قاله ابن عباس
والثاني ثمانية قاله ابن جريج وابن اسحاق وقال ابن الأنباري وقيل معنى قوله وثامنهم كلبهم صاحب كلبهم كما يقال السخاء حاتم والشعر زهير أي السخاء سخاء حاتم والشعر شعر زهير وأما أسماؤهم فقال هشيم (5/125)
مكسلمينا ويمليخا وطرينوس وسدينوس وسرينوس ونواسس ويرانوس وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أطل به
واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان لراع مروا به فتبعهم الراعي والكلب قاله ابن عباس
والثاني انه كان لهم يتصيدون عليه قاله عبيد بن عمير
والثالث أنهم مروا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك به مرارا فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي انا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم قاله كعب الأحبار
وفي اسم كلبهم أربعة أقوال
أحدها قطمير قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني اسمه الرقيم وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير والثالث قطمور قاله عبد الله بن كثير والرابع حمران قاله شعيب الجبائي وفي صفته ثلاثة أقوال
أحدها أحمر حكاه الثوري والثاني أصفر حكاه ابن اسحاق والثالث أحمر الرأس أسود الظهر أبيض البطن أبلق الذنب ذكره ابن السائب
قوله تعالى ربي أعلم بعدتهم حرك الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون
قوله تعالى ما يعلمهم إلا قليل أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس قال عطاء يعني بالقليل أهل الكتاب قال ابن عباس أنا من ذلك القليل هم سعبة إن الله عدهم حتى أنتهى الى السبعة
قوله تعالى فلا تمار فيهم إلا مراء ظهرا قال ابن عباس وقتادة (5/126)
لا تمار أحدا حسبك ما قصصت عليك من أمرهم وقال ابن زيد لا تمار في عدتهم إلا مراء ظاهرا أن تقول لهم ليس كما تقولون ليس كما تعلمون وقيل إلا مراء ظاهرا بحجة واضحة حكاه الماوردي والمراء في اللغة الجدال يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل قال ابن الأنباري معنى الآية لا تجادل إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر إذ الله تعالى ألقى إليك مالا يشوبه باطل وتفسير المراء في اللغة استخراج غضب المجادل من قولهم مريت الشاة إذا استخرجت لبنها
قوله تعالى ولا تستفت فيهم أي في أصحاب الكهف منهم قال ابن عباس يعني من أهل الكتاب قال الفراء أتاه فريقان من النصارى نسطوري ويعقوبي فسألهم النبي صلى الله عليه و سلم عن عددهم فنهي عن ذلك
قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله سبب نزولها أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذي القرنين وعن الروح وعن أصحاب الكهف فقال غدا أخبركم بذلك ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه جبريل خسمة عشر يوما لتركه الاستثناء فشق ذلك عليه ثم نزلت هذه الآية قاله ابو صالح عن ابن عباس ومعنى الكلام ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله فحذف القول
قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت قال ابن الأنباري معناه واذكر ربك بعد تفضي النسيان كما تقول أذكر لعبدالله إذا صلى حاجتك أي بعد انقضاء الصلاة
وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال (5/127)
أحدها ان المعنى اذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة قاله سعيد بن جبير والجمهور
والثاني أن معنى إذا نسيت إذا غضبت قاله عكرمة قال ابن الأنباري وليس ببعيد لأن الغضب ينتج النسيان
والثالث إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه حكاه الماوردي
فصل
وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه كقوله في قصة موسى ستجدني إن شاء الله صابرا الكهف 70 ولم يصبر فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق وأنه إذا قال انت طالق ان شاء الله وانت حر إن شاء الله أن ذلك يقع وهو قول مالك وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقع شيء من ذلك وأما اليمين بالله تعالى فان الاستثناء فيها يصح بخلاف الطلاق وكذلك الاستثناء في كل ما يكفر كالظهار والنذر لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إيقاع وإذا علق به المشيئة علمنا وجودها لوجود لفظ الإيقاع من جهته بخلاف سائر الايمان لأنها ليست بموجبات للحكم وإنما تتعلق بأفعال مستقبلة
وقد اختلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال
أحدها انه لا يصح الاستثناء الا موصولا بالكلام وقد روي عن أحمد نحو هذا وبه قال أكثر الفقهاء (5/128)
والثاني انه يصح ما دام في المجلس قاله الحسن وطاووس وعن أحمد نحوه
والثالث انه لو أستثنى بعد سنة جاز قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد ابن جبير وأبو العالية وقال ابن جرير الطبري الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه فيقول إن شاء الله ليخرج بذلك مما ألزمه الله في هذه الآية فيسقط عنه الحرج فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال الا ان يكون الاستثناء موصولا بيمينه ومن قال له ثنياه ولو بعد سنة أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفارة
قوله تعالى وقل عسى أن يهديني ربي قرأ نافع وأبو عمرو يهديني ربي بياء في الوصل دون الوقف وقرأ ابن كثير بياء في الحالين وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء في الحالين
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما عسى أن يعطيني ربي من الايات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف ففعل الله له ذلك وآتاه من علم غيوب المرسلين ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف هذا قول الزجاج
والثاني أن قريشا لما سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخبرهم خبر أصحال الكهف قال غدا أخبركم كما شرحنا في سبب نزول الآية فقال الله تعالى له وقل عسى أن يهديني ربي أي عسى أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد هذا قول ابن الأنباري (5/129)
ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا
قوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ثلاثمائة سنين منونا وقرأ حمزة والكسائي ثلاثمائمة سنين مضافا غير منون قال ابو علي العدد المضاف الى الآحاد قد جاء مضافا الى الجميع قال الشاعر ... وما زودوني غير سحق عمامة ... وخمسمئ منها قسي وزائف ...
وفي هذا الكلام قولان
أحدهما أنه حكاية عما قال الناس في حقهم وليس بمقدار لبثهم قاله ابن عباس واستدل عليه فقال لو كانوا لبثوا ذلك لما قال الله أعلم بما لبثوا وكذلك قال قتادة وهذا قول أهل الكتاب
والثاني أنه مقدار ما لبثوا قاله عبيد بن عمير ومجاهد والضحاك وابن زيد والمعنى لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم
قوله تعالى سنين قال الفراء وأبو عبيدة والكسائي والزجاج التقدير سنين ثلاثمائة وقال ابن قتيبة المعنى أنها لم تكن شهورا ولا أياما وإنما كانت سنين وقال أبو علي الفارسي سنين بدل من قوله ثلاثمائة قال الضحاك نزلت ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة فقالوا أياما او شهورا أو سنين فنزلت سنين فلذلك قال سنين ولم يقل سنة (5/130)
قوله تعالى وازدادوا تسعا يعني تسع سنين فاستغنى عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها ثم أعلم أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها فقال قل الله أعلم بما لبثوا قال ابن السائب قالت نصارى نجران أما الثلاثمائة فقد عرفناها وأما التسع فلا علم لنا بها فنزل قوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن للفتية منذ دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم الى يومكم هذا لا يعلم ذلك غير الله وقيل إنما زاد التسع لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية حكاه الماوردي
قوله تعالى أبصر به واسمع فيه قولان
أحدهما أنه على مذهب التعجب فالمعنى ما أسمع الله به وأبصر أي هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم هذا قول الزجاج وذكر انه اجماع العلماء
والثاني أنه في معنى الأمر فالمعنى أبصر بدين الله واسمع أي بصر بهدى الله وسمع فترجع الهاء اما على الهدى واما على الله عز و جل ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى ما لهم من دونه أي ليس لأهل السموات والارض من دون الله من ناصر ولا يشرك في حكمه أحدا ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكا لله عز و جل في حكمه وقرأن ابن عامر ولا تشرك جزما بالتاء والمعنى لا تشرك أيها الإنسان (5/131)
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هوايه وكان امره فرطا
قوله تعالى واتل ما اوحي إليكم في هذه التلاوة قولان
أحدهما أنها بمعنى القراءة والثاني بمعنى الاتباع فيكون المعنى على الاول اقرأ القرآن وعلى الثاني اتبعه واعمل به وقد شرحنا في الانعام 115 معنى لا مبدل لكلماته
قوله تعالى ولن تجد من دونه ملتحدا قال مجاهد والفراء ملجأ وقال الزجاج معدلا عن أمره ونهيه وقال غيرهم موضعا تميل إليه في الالتجاء
قوله تعالى واصبر نفسك سبب نزولها أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا الى رسول الله صلى الله عليه و سلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله لو أنك جلست في صدر المجلس ونحيت هؤلاء عنا يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جلسا اليك واخذنا عنك فنزلت هذه الآية الى قوله إنا اعتدنا للظالمين نارا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات هذا قول سلمان الفارسي ومعنى قوله (5/132)
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم أي احبسها معهم على أداء الصلوات بالغداة والعشي وقد فسرنا هذه الآية في الأنعام 52 إلى قوله تعالى ولا تعد عيناك عنهم أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف وكان عليه السلام حريصا على إيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم ولم يكن مريدا لزينة الدنيا قط فأمر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين
قوله تعالى ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا سبب نزولها أن أمية بن خلف الجمحي دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الى طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنه قال هو عيينه وأشباهه ومعنى اغفلنا قلبه جعلناه غافلا وقرأ أبو مجلز من أغفلنا بفتح اللام ورفع باء القلب عن ذكرنا عن التوحيد والقرآن والإسلام واتبع هواه في الشرك وكان أمره فرطا فيه أربعة أقوال
أحدها أنه أفرط في قوله لأنه قال إن رؤوس مضر وإن نسلم يسلم الناس بعدنا قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني ضياعا قاله مجاهد وقال أبو عبيدة سرفا وتضييعا والثالث ندما حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة والرابع كان أمره التفريط والتفريط تقديم العجز قاله الزجاج
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (5/133)
قوله تعالى وقل الحق من ربكم قال الزجاج المعنى وقل الذي أتيتكم به الحق من ربكم
قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فيه ثلاثة أقوال
أحدها فمن شاء الله فليؤمن روي عن ابن عباس
والثاني أنه وعيد وإنذار وليس بأمر قاله الزجاج
والثالث أن معناه لا تنفعون الله بايمانكم ولا تضرونه بكفركم قاله الماوردي وقال بعضهم هذا اظهار للغنى لا إطلاق في الكفر
قوله تعالى إنا أعتدنا أي هيأنا وأعددنا وقد شرحناه في قوله وأعتدت لهن متكأ يوسف 31 فأما الظالمون فقال المفسرون هم الكافرون وأما السرادق فقال الزجاج السرادق كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب او الحائط المشتمل على الشيء وقال ابن قتيبة السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال السرادق فارسي معرب وأصله بالفارسية سرادار وهو الدهليز قال الفرزدق ... تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم ... تركت لهم قبل الضراب السرادقا ...
وفي المراد بهذا السرادق قولان
احدهما أنه سرادق من نار قاله ابن عباس روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار منها مسيرة أربعين سنة وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال (5/134)
السرادق لسان من النار يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم
والثاني أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الظل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في المرسلات 30 قاله ابن قتيبة
قوله تعالى وإن يستغيثوا أي مما هم فيه من العذاب وشدة العطش يغاثوا بماء كالمهل وفيه سبعة أقوال
أحدها أنه ماء غليظ كدردي الزيت رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه كل شيء أذيب حتى أنماع قاله ابن مسعود وقال أبو عبيدة والزجاج 4كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص او نحو ذلك فهول مهل
والثالث قيح ودم أسود كعكر الزيت قاله مجاهد
والرابع أنه الفضة والرصاص يذابان روي عن مجاهد أيضا
والخامس أنه الذي انتهى حره قاله سعيد بن جبير
والسادس أنه الصديد ذكره ابن الأنباري قال مغيب بن سمي هذا الماء هو ما يسيل من عرق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم وما يجري منهم من دم وقيح يسيل ذلك إلى واد في جهنم فتطبخه جهنم فيكون أول ما يغاث به أهل النار
والسابع أنه الرماد الذي ينفض عن الخبزة إذا خرجت من التنور حكاه ابن الأنباري (5/135)
قوله تعالى يشوي الوجوه قال المفسرون إذا قربه اليه سقطت فروة وجهه فيه ثم ذمه فقال بئس الشراب وساءت النار مرتفقا وفيه خمسة أقوال
أحدها منزلا قاله ابن عباس والثاني مجتمعا قاله مجاهد والثالث متكأ قاله ابو عبيدة وأنشد لابي ذؤيب ... إني أرقت فبت الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح ...
وذبحه انفجاره قال الزجاج مرتفقا منصوب على التمييز ومعنى مرتفقا متكأ على المرفق والرابع ساءت مجلسا قاله ابن قتيبة والخامس ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهتها عدمه ذكره ابن الأنباري ومعاني هذه الأقوال تتقارب وأصل المرفق في اللغة ما يرتفق به
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا
قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال الزجاج خبر إن هاهنا على ثلاثة أوجه (5/136)
أحدها أن يكون على إضمار إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم ولم يحتج إلى ذكر منهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه محبط عمل غير المؤمنين
والثاني أن يكون خبر إن أولئك لهم جنات عدن فيكون قوله إنا لا نضيع قد فصل به بين الأسم وخبره لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول لأن من أحسن عملا بمنزلة الذين آمنوا
والثالث أن يكون الخبر إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا بمعنى إنا لا نضيع أجرهم
قال المفسرون ومعنى لا نضيع أجر من أحسن عملا أي لا نترك أعماله تذهب ضياعا بل نجازيه عليها بالثواب
فأما الأساور فقال الفراء في الواحد منها ثلاث لغات إسوار وسوار وسوار فمن قال إسوار جمعه أساور ومن قال سوار أو سوار جمعه أسورة وقد يجوز أن يكون واحد أساورة وأساور وقال الزجاج الأساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار يقال سوار اليد بالكسر وقد حكي سوار قال المفسرون لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس جعل الله ذلك لأهل الجنة قال سعيد بن جبير يحلى كل واحد منهم بثلاثة من الأساور واحد من فضة وواحد من ذهب وواحد من لؤلؤ ويواقيت
فأما السندس والإستبرق فقال ابن قتيبة السندس رقيق الديباج والإستبرق ثخينه وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال السندس رقيق الديباج لم يختلف أهل اللغة في أنه معرب قال الراجز ... وليلة من الليالي حندس ... لون حواشيها كلون السندس (5/137)
والاستبرق غليظ الديباج فارسي معرب وأصله استفره وقال ابن دريد استروه ونقل من العجمية الى العربية فلوا حقر استبرق أو كسر لكان في التحقير أبيرق وفي التكسير أبارق بحذف السين والتاء جميعا
قوله تعالى متكئين فيها الاتكاء التحامل على الشيء قال ابو عبيدة والأرائك الفرش في الحجال ولا تكون الأريكة إلا بحجلة وسرير وقال ابن قتيبة الأرائك السرر في الحجال واحدها أريكة وقال ثعلب لا تكون الأريكة إلا سريرا في قبة عليه شوراه ومتاعه قال ابن قتيبة الشوار مفتوح الشين وهو متاع البيت وقال الزجاج الأرائك الفرش في الحجال قال وقيل إنها الفرش وقيل الأسرة وهي على الحقيقة الفرش كانت في حجال لهم
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا
قوله تعالى واضرب لهم مثلا رجلين روى عطاء عن ابن عباس قال هما ابنا ملك كان في بني اسرائيل توفي وتركهما فاتخذ أحدهما الجنان والقصور وكان الآخر زاهدا في الدنيا فكان اذا عمل اخوه شيئا من زينة (5/138)
الدنيا اخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته حتى نفد ماله فضربهما الله عز و جل مثلا للمؤمن والكافر الذي ابطرته النعمة وروى أبوصالح عن ابن عباس ان المسلم لما احتاج تعرض لأخيه الكافر فقال الكافر اين ما ورثت عن ابيك فقال انفقته في سبيل الله فقال الكافر لكني ابتعت به جنانا وغنما وبقرا والله لاأعطيتك شيئا أبدا حتى تتبع ديني ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها ويرغبه في دينه وقال مقاتل اسم المؤمن يمليخا واسم الكافر قرطس وقيل قطرس وقيل هذا المثل ضرب لعيينة بن حصن واصحابه ولسلمان واصحابه
قوله تعالى وحففناهما بنخل الحف الاحاطة بالشيء ومنه قوله حافين من حول العرش الزمر 75 والمعنى جعلنا النخل مطيفا بها وقوله وجعلنا بينهما زرعا إعلام أن عمارتهما كاملة
قوله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها قال الفراء لم يقل آتتا لأن كلتا ثنتان لا تفرد واحدتهما وأصله كل كما تقول للثلاثة كل فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع وجاز توحيده على مذهب كل وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في كلتا وكذلك فافعل ب كلا وكلتا وكل إذا اضفتهن الى معرفة وجاء الفعل بعدهن فوحد واجمع فمن التوحيد قوله تعالى وكلهم آتيه يوم القيامة فردا مريم 96 ومن الجمع وكل أتوه داخرين النمل 87 والعرب قد تفعل أيضا في أي فيؤنثون ويذكرون قال الله تعالى وما تدري نفس بأي أرض تموت لقمان 34 ويجوز في الكام بأيت أرض وكذلك (5/139)
في أي صورة ما شاء ركبك الانفطار 8 ويجوز في الكلام في أيت قال الشاعر ... باي بلاء أم بأية نعمة ... تقدم قبلي مسلم والمهلب ...
قال ابن الأنباري كلتا وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين فان لفظه لفظ واحدة مؤنثة فغلب اللفظ ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ فيقول كلتا الجنتين آتتا أكلها ويقول أخرون كلتا الجنتين آتى أكله لأن كلتا تفيد معنى كل قال الشاعر
... وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي ... فلا الموت أهواه ولا العيش أروح ...
يعني وكلهما قد خط لي وقد قالت العرب كلكم ذاهب وكلكم ذاهبون فوحدوا للفظ كل وجمعوا لتأويلها وقال الزجاج لم يقل آتتا لأن لفظ كلتا لفظ واحدة والمعنى كل واحدة منهما آتت أكلها ولم تظلم أي لم تنقص منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر وهو من أغزر الشرب وقال الفراء إنما قال فجرنا بالتشديد وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله قرأ ابو رزين وأبو مجلز وأبو العالية وابن يعمر وابن أبي عبلة وفجرنا بالتخفيف وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل خللهما وقرأ ابو العالية وأبو عمران نهرا بسكون الهاء
قوله تعالى وكان له يعني للأخ الكافر ثمر قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وكان له ثمر وأحيط بثمره بضمتين وقرأ عاصم وكان لهم ثمر وأحيط بثمره بفتح التاء والميم فيهما (5/140)
وقرأ ابو عمرو ثمر و بثمره بضمة واحدة وسكون الميم قال الفراء الثمر بفتح التاء والميم المأكول وبضمها المال وقال ابن الانباري الثمر بالفتح الجمع الاول والثمر بالضم جمع الثمر يقال ثمر وثمر كما يقال أسد واسد ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار كما يقال حمار وحمر وكتاب وكتب فمن ضم قال الثمر أعم لأنها تحتمل الثمار المأكولة والأموال المجموعة قال ابو علي الفارسي وقراءة أبي عمرو ثمر يجوز أن تكون جمع ثمار ككتاب وكتب فتخفف فيقال كتب ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة كبدنة وبدن وخشبة وخشب ويجوز أن يكون ثمر واحدا كعنق وطنب
وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال
أحدها أنه المال الكثير من صنوف الأموال قاله ابن عباس
والثاني أنه الذهب والفضة قاله مجاهد
والثالث أنه جمع ثمرة قال الزجاج يقال ثمرة وثمار وثمر
فان قيل ما الفائدة في ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين وقد علم ان صاحب الجنة لا يخلو من ثمر فعنه ثلاثة اجوبة
أحدها أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له وإنما كانت له الثمار قاله ابن عباس
والثاني أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما ذكره ابب الأنباري
والثالث إنا قد ذكرنا أن المراد بالمثر ألاموال من الأنواع وذكرنا (5/141)
أنها الذهب والفضة وذلك يخالف الثمر المأكول قال ابو علي الفارسي من قال هو الذهب والورق فانما قيل لذلك ثمر على التفاؤول لأن الثمر نماء في ذي الثمر وكونه هاهنا بالجنى أشبه من الذهب والفضة ويقوي ذلك وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها والإنفاق من الورق لا من الشجر
قوله تعالى فقال يعني الكافر لصاحبه المؤمن وهو يحاوره أي يراجعه الكلام ويجاوبه
وفيما تحوارا فيه قولان
أحدهما أنه الايمان والكفر
والثاني طلب الدنيا وطلب الآخرة فأما النفر فهم الجماعة ومثلهم القوم والرهط ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها وقال ابن فارس اللغوي النفر عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة
وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال
أحدها عبيده قاله ابن عباس والثاني ولده قاله مقاتل والثالث عشيرته ورهطه قاله ابو سليمان
قوله تعالى ودخل جنته يعني الكافر وهو ظالم لنفسه بالكفر وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا أنكر فناء الدنيا وفناء جنته وأنكر البعث والجزاء بقوله وما أظن الساعة قائمة وهذا شك منه في البعث ثم قال ولئن رددت الى ربي أي كما تزعم أنت قال ابن عباس يقول ان كان البعث حقا لأجدن خيرا منها قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي خيرا منها وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر خيرا منهما بزيادة (5/142)
ميم على التثنية وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام قال أبو علي الإفراد أولى لأنه أقرب الى الجنة المفردة في قوله ودخل جنته والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين
قوله تعالى منقلبا أي كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منه
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا
قوله تعالى قال له صاحبه يعني المؤمن وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب يعني خلق أباك آدم ثم من نطفة يعني ما أنشى هو منه فلما شك في البعث كان كافرا
قوله تعالى لكنا هو الله ربي قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وقالون عن نافع لكن هو الله ربي باسقاط الألف في الوصل واثباتها في الوقف وقرأ نافع في رواية المستيي باثبات الألف وصلا ووقفا وأثبت الألف ابن عامر في الحالين وقرأ أبو رجاء لكن باسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين وقرأ ابن يعمر لكن بتشديد النون من غير ألف في الحالين وقرأ الحسن لكن أنا هو الله ربي (5/143)
باسكان نون لكن واثبات أنا قال الفراء فيها ثلاث لغات لكنا ولكن ولكنه بالهاء أنشدني أبو ثروان ... وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي ...
وقال أبو عبيدة مجازه لكن أنا هو الله ربي ثم حذفت الألف الأولى وأدغمت احدى النونين في الأخرى فشددت قال الزجاج وهذه الألف تحذف في الوصل وتثبت في الوقف فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف فهو على لغة من يقول أنا قمت فأثبت الألف قال الشاعر ... أنا سيف العشيرة فأعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما ...
وهذه القراءة جيدة لأن الهمزة قد حذفت من أنا فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة
قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك أي وهلا ومعنى الكلام التوبيج قال الفراء ما شاء الله في موضع رفع إن شئت رفعته باضمار هو يريد هو ما شاء الله وإن شئت أضمرت فيه ما شاء الله كان وجاز طرح جواب الجزاء كما جاز في قوله فان استطعت ان تبتغي نفقا في الأرض الانعام 35 ليس له جواب لأنه معروف قال الزجاج وقوله لا قوة الا بالله الاختيار النصب بغير تنوين على النفي كقوله لا ريب فيها الكهف 21 ويجوز لا قوة إلا بالله على الرفع بالابتداء والخبر بالله المعنى لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى ولا يكون له إلا ما شاء الله (5/144)
قوله تعالى إن ترن قرأ ابن كثير إن ترني أنا ويؤتيني خيرا بياء في الوصل والوقف وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا ووقفا أنا أقل وقرأ ابن أبي عبلة أنا أقل برفع اللام قال الفراء أنا هاهنا عماد إن نصبت أقل واسم إذا رفعت أقل والقراءة بهما جائز
قوله تعالى فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك أي في الآخرة ويرسل عليها حسبانا وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه العذاب رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة والضحاك وقال ابو صالح عن ابن عباس نارا من السماء
والثاني قضاء من الله يقضيه قاله ابن زيد
والثالث مرامي من السماء واحدها حسبانة قاله ابو عبيدة وابن قتيبة قال النضر بن شميل الحسبان سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في القوس ثم يرمي بعشرين منها دفعة فعلى هذا القول يكون المعنى ويرسل عليها مرامي من عذابه إما حجارة أو بردا أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب
والرابع أن الحسبان الحساب كقوله الشمس والقمر بحسبان الرحمن 5 أي بحساب فيكون المعنى ويرسل عيها عذاب حساب ما كسبت يداه هذه قول الزجاج
قوله تعالى فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا قال ابن قتيبة الصعيد الأملس المستوى والزلق الذي تزل عنه الأقدام والغور الغائر (5/145)
فجعل المصدر صفة يقال ماء غور ومياه غور ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث كما يقال رجل نوم ورجل صوم ورجل فطر ورجال نوم ونساء نوم ونساء صوم ويقال للنساء إذا نحن نوح والمعنى يذهب ماؤها غائرا في الأرض أي ذاهبا فيها فلن تسطيع له طلبا فلا يبقى له أثر تطلبه به ولا تناله الأيدي ولا الأرشية وقال ابن الأنباري غورا إذا غور فسقط المضاف وخلفه المضاف اليه والمراد بالطلب هاهنا الوصول فقام الطلب مقامه لأنه سببه وقرأ ابو الجوزاء وأبو المتوكل غؤورا برفع الغين والواو الأولى جميعا وواو بعدها
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا
قوله تعالى وأحيط بثمره أي أحاط الله العذاب بثمره وقد سبق معنى الثمر فأصبح يقلب كفيه أي يضرب يد على يد وهذا فعل النادم على ما أنفق فيها أي في جنته وفي هاهنا بمعنى على وهي خاوية أي خالية ساقطة على عروشها والعروش السقوف والمعنى أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدمت فصارت في قرارها فصارت الحيطان كأنها على السقوف ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما انعم به عليه وحقق ما أنذره به أخوه في الدنيا ندم على شركة حين لا تنفعه الندامة وقيل إنما يقول هذا في القيامة ولم تكن له فئة قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم ولم تكن بالتاء وقرأ حمزة (5/146)
والكسائي وخلف ولم يكن بالياء والفئة الجماعة ينصرونه أي يمنعونه من عذاب الله
قوله تعالى هنالك الولاية قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم الولاية بفتح الواو ولله الحق خفضا وقرأ حمزة الولاية بكسر الواو ولله الحق بكسر القاف أيضا وقرأ ابو عمرو بفتح الواو ورفع الحق ووافقه الكسائي في رفع القاف لكنه كسر الولاية قال الزجاج معنى الولاية في مثل تلك الحال تبيين نصرة ولي الله وقال غيره هذا الكلام عائد الى ما قبل قصة الرجلين فأما من فتح واو الولاية فأنه أراد الموالاة والنصرة ومن كسر أراد السلطان والملك على ما شرحناه في آخر الأنفال 72 فعلى قراءة الفتح في معنى الكلام قولان
احدهما أنهم يتولون الله تعالى في القيامة ويؤمنون به ويتبرؤون مما كانوا يعبدون قاله ابن قتيبة
والثاني هنالك يتولى الله أمر الخلائق فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين وعلى قراءة الكسر يكون المعنى هنالك السلطان لله قال أبو علي من كسر قاف الحق جعله من وصف الله عز و جل ومن رفعه جعله صفة للولاية
فإن قيل لم نعتت الولاية وهي مؤنثة بالحق وهو مصدر فعنه جوابان ذكرهما ابن الانباري
أحدهما أن تأنيثها ليس حقيقيا فحملت على معنى النصر والتقدير هنالك النصر لله الحق كما حملت الصيحة على معنى الصياح في قوله وأخذ الذين ظلموا الصيحة هود 67
والثاني أن الحق مصدر يستوي في لفظه المذكر والمؤنث والاثنان (5/147)
والجمع فيقال قولك حق وكلمتك حق وأقوالكم حق ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية وعلى المدح لله تعالى باضمار هو
قوله تعالى هو خير ثوابا أي هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل
قوله تعالى وخير عقبا قرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي عقبا مضمومة القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبا ساكنة القاف قال ابو علي ما كان على فعل جاز تخفيفه كالعنق والطنب قال أبو عبيدة العقب والعقب والعقبى والعاقبة بمعنى وهي الآخرة والمعنى عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره
واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا
قوله تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي في سرعة نفادها وذهابها وقيل في تصرف احوالها إذ مع كل فرحة ترحة وهذا مفسر في سورة يونس 24 إلى قوله فأصبح هشيما قال الفراء الهشيم كل شيء كان رطبا فيبس وقال الزجاج الهشيم النبات الجاف وقال ابن قتيبة الهشيم من النبت المتفتت وأصله من هشمت الشيء إذا كسرته ومنه سمي الرجل هاشما وتذروه الرياح تنسفه وقرأ أبي وابن عباس وابن أبي عبلة تذريه برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة وقرأ ابن مسعود كذلك إلا أنه فتح التاء والمقتدر مفتعل من قدرت قال المفسرون وكان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء مقتدرا (5/148)
المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا
قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة
قوله تعالى والباقيات الصالحات فيها خمسة اقوال
أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر روى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه وعن العدو أن تجاهدوه فلا تعجزوا عن قول سبحان الله والحمد الله ولا إلا الله والله اكبر فقولوها فانهن الباقيات الصالحات وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء وبه قال مجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك وسئل عثمان ابن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات فقال هذه الكلمات وزاد فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القزطي مثله سواء
والثاني أنها لا إله إلا الله والله اكبر والحمد لله ولا قوة الا بالله رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثالث أنها الصلوات الخمس رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود ومسروق وابراهيم (5/149)
والرابع الكلام الطيب رواه العوفي عن ابن عباس
والخامس هي جميع أعمال الحسنات وراه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة وابن زيد
قوله تعالى خير عند ربك ثوابا أي أفضل جزاء وخير أملا أي خير مما تؤملون لأن آمالكم كواذب وهذا أمل لا يكذب
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياوليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذا قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما اشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا
قوله تعالى ويوم تسير الجبال قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويوم تسير بالتاء الجبال رفعا وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي نسير بالنون الجبال نصبا وقرأن ابن محيصن ويوم تسير بفتح التاء وكسر السين وتكسين الياء الجبال بالرفع قال الزجاج ويوم منصوب على معنى اذكر ويجوز أن يكون منصوبا على والباقيات الصالحات (5/150)
خير يوم تسير الجبال قال ابن عباس تسير الجبال عن وجه الارض كما يسير السحاب في الدنيا ثم تكسر فتكون في الأرض كما خرجت منها
قوله تعالى وترى الأرض بارزة وقرأ عمرو بن العاص وابن السميفع وأبو العالية وترى الأرض بارزة برفع التاء والضاد وقرأ ابو رجاء العطاردي كذلك إلا أنه فتح ضاد الأرض
وفي معنى بارزة قولان أحدهما ظاهرة فليس عليها شيء من جبل او شجر او بناء قاله الأكثرون والثاني بارزا أهلها من بطنها قاله الفراء
قوله تعالى وحشرناهم يعني المؤمنين والكافرين فلم نغادر قال ابن قتيبة أي فلم نخلف يقال غادرت كذا إذا خلفته ومنه سمي الغدير لأنه ماء تخلفه السيول وروى أبان فلم نغادر بالتاء
قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا إن قيل هذا أمر مستقبل فكيف عبر عنه بالماضي فالجواب أن ما قد علم الله وقوعه يجري مجرى المعاين كقوله ونادى اصحاب الجنة الاعرف 43
وفي معنى قوله صفا أربعة أقوال
أحدها أنه بمعنى جميعا كقوله ثم أئتوا صفا طه 64 قاله مقاتل
والثاني أن المعنى وعرضوا على ربك مصفوفين هذا مذهب البصريين
والثالث أن المعنى وعرضوا على ربك صفوفا فناب الواحد عن الجميع كقوله ثم نخرجكم طفلا الحج 5
والرابع أنه لم يغب عن الله منهم أحد فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته ذكر هذه الاقوال ابن الانباري وقد قيل إن كل أمة وزمرة صف (5/151)
قوله تعالى لقد جئتمونا فيه اضمار فيقال لهم
وفي المخاطبين بهذا قولان احدهما أنهم الكل والثاني الكفار فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا وقوله كما خلقناكم أول مرة مفسر في الأنعام 94 وقوله بل زعمتم خطاب الكفار خاصة والمعنى زعمتم في الدنيا أن لن نجعل لكم موعدا للبعث والجزاء
قوله تعالى ووضع الكتاب فيه ثلاثة أقوال
أحدها انه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم قاله ابن عباس والثاني انه الحساب قاله ابن السائب والثالث كتاب الأعمال قاله مقاتل وقال ابن جرير وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم فعلى هذا الكتاب اسم جنس
قوله تعالى فترى المجرمين قال مجاهد هم الكافرون وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذكر في القرآن فالمراد به الكافر
قوله تعالى مشفقين أي خائفين مما فيه من الأعمال السيئة ويقولون ياويلتنا هذا قول كل واقع في هلكة وقد شرحنا هذا المعنى في قوله ياحسرتنا الانعام 31
قوله تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة وقد يتوهم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها وليس كذلك إذ ليس الضحك والتبسم مجردهما من الذنوب وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال والضحك فعل كبير وقد روى الضحاك عن ابن عباس قال الضغيرة التبسم والاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة (5/152)
بذلك فعلى هذا يكون ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله لا لنفسه ومعنى أحصاها عدها وأثبتها والمعنى وجدت محصاة ووجدوا ما عملوا حاضرا أي مكتوبا مثبتا في الكتاب وقيل رأوا جزاءه حاضرا وقال أبو سليمان الصحيح عند المحققين ان صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها اذا اجتنبوا الكبائر إنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها
قوله تعالى ولا يظلم ربك أحدا قال ابو سليمان لا تنقص حسنات المؤمن ولا يزاد في سيئات الكافر وقيل إن كان للكافر فعل خير كعتق رقبة وصدقة خفف عنه به من عذابه وان ظلمة مسلم أخذ الله من المسلم فصار الحق لله
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر فقال وإذ قلنا أي اذكر ذلك
وفي قوله كان من الجن قولان
أحدهما انه من الجن حقيقة لهذا النص واحتج قائلوا هذا بأن له ذرية وليس للملائكة ذرية وانه كفر والملائكة رسل الله فهم معصومون من الكفر
والثاني أنه كان من الملائكة وإنما قيل من الجن لأنه كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن قاله ابن عباس وقد شرحنا هذا في البقرة 34
قوله تعالى ففسق عن أمر ربه فيه ثلاثة أقوال
أحدها خرج عن طاعة ربه تقول العرب فسقت الرطبة من قشرها إذا خرجت منه قاله الفراء وابن قتيبة (5/153)
والثاني أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب فسقه عن أمر ربه قال الزجاج وهذا مذهب الخليل وسيبويه وهو الحق عندنا
والثالث ففسق عن رد أمر ربه حكاه الزجاج عن قطرب
قوله تعالى أفتخذونه وذريته اولياء من دوني أي توالونهم بالاستجابة لهم قال الحسن وقتادة ذريته أولاده وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم قال مجاهد ذريته الشياطين ومن ذريته زلنبور صاحب راية ابليس بكل سوق وثبر وهو صاحب المصائب والأعور صاحب الرياء ومسوط صاحب الأخبار يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس فلا يوجد لها اصل وداسم صاحب الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله فهو يأكل معه إذا أكل قال بعض أهل العلم إذا كانت خطئية الانسان في كبر فلا ترجه وإن كانت في شهوة فارجه فان معصية إبليس كانت بالكبر ومعصية آدم بالشهوة
قوله تعالى بئس للظالمين بدلا فيه ثلاثة أقوال
أحداها بئس الاتخاذ للظالمين بدلا والثاني بئس الشيطان والثالث بئس الشيطان والذرية ذكرهن ابن الانباري
قوله تعالى ما اشهدتهم خلق السموات والأرض وقرأ ابو جعفر وشيبة ما أشهدناهم بالنون والالف
وفي المشار إليهم اربعة اقوال
أحدها ابليس وذريته والثاني الملائكة والثالث جميع الكفار والرابع جميع الخلق والمعنى أني لم أشاورهم في خلقهن وفي هذا بيان للغناء عن الأعوان وإظهار كمال القدرة (5/154)
قوله تعالى ولا خلق أنفسهم أي ما أشهدت بعضهم خلق بعض ولا استعنت ببعضهم على إيجاد بعض
قوله تعالى وما كنت متخذ المضلين يعني الشياطين عضدا أي أنصارا وأعوانا والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون لأنه قوام اليد قال الزجاج والاعتضاد التقوي وطلب المعونة يقال اعتضدت بفلان أي استعنت به
وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان
أحدهما أنه الولايات والمعنى ما كنت لأولي المضلين قاله مجاهد والثاني أنه خلق السموات والأرض قاله مقاتل وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وما كنت بفتح التاء
ويوم يقول نادوا شركاءي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأ المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا
قوله تعالى ويوم يقول وقرأ حمزة نقول بالنون يعني يوم القيامة نادوا شركائي أضاف الشركاء اليه على زعمهم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو الشفاعة لكم الذين زعمتم أي زعمتموهم شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي لم يجيبوهم وجعلنا بينهم في المشار إليهم قولان
أحدهما انهم المشركون والشركاء والثاني أهل الهدى وأهل الضلالة
وفي معنى موبقا ستة أقوال
أحدها مهلكا قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وقال ابن قتيبة (5/155)
مهلكا بينهم وبين آلهتهم في جهنم ومنه يقال أوبقته ذنوبه أي أهلكته قال الزجاج المعنى جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم أي يهلكهم فالموبق المهلك يقال وبق ييبق ويابق وبقا ووبق يبق وبوقا فهو وابق وقال الفراء جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا أي مهلكا لهم في الآخرة فالبين على هذا القول بمعنى التواصل كقوله تعالى لقد تقطع بينكم الأنعام 94 على قراءة من ضمن النون
والثاني أن الموبق واد عميق يفرق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى قاله عبدالله بن عمرو
والثالث أنه واد في جهنم قاله انس بن مالك ومجاهد
والرابع ان معنى الموبق العدواة قاله الحسن
والخامس أنه المحبس قاله الربيع بن أنس
والسادس أنه الموعد قاله ابو عبيدة
قال ابن الأنباري إن قيل لم قال موبقا ولم يقل موبقا بضم الميم إذ كان معناه عذابا موبقا
فالجواب أنه اسم موضوع لمحبس في النار والأسماء لا تؤخذ بالقياس فيعلم أن موبقا مفعل من أوبقه الله إذا أهلكه فتفتح الميم كما تنفتح في موعد ومولد ومحتد إذا سميت الشخوص بهن
قوله تعالى ورأى المجرمون النار أي عاينوها وهي تتغيظ حنقا عليهم والمراد بالمجرمين الكفار فظنوا أي ايقنوا أنهم مواقعوها أي (5/156)
داخلوها ومعنى المواقعة ملابسة الشيء بشدة ولم يجدوا عنها مصرفا أي معدلا والمصرف الموضع الذي يصرف اليه وذلك أنها احاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على الهرب
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا
قوله تعالى ولقد صرفنا في هذا القرآن قد فسرناه في بني اسرائيل 41
قوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلا فيمن نزلت قولان
أحدهما انه النضر بن الحارث وكان جداله في القرآن قاله ابن عباس
والثاني أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم فقال أيقدر الله على إعادة هذا قاله ابن السائب قال الزجاج كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا
قوله تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا قال المفسرون يعني أهل مكة إذ جاءهم الهدى وهو محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن والإسلام إلا أن تأتيهم سنة الأولين وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها ما منعهم من الإيمان إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين قاله الزجاج
والثاني وما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا إلا لأن تأتيهم سنة الأولين أي منعهم رشدهم لكي يقع العذاب بهم ذكره ابن الأنباري (5/157)
والثالث ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين قاله الواحدي
قوله تعالى أو يأتيهم العذاب ذكر ابن الأنباري في أو هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها انها بمعنى الواو
والثاني أنها لوقوع احد الشيئين إذ لا فائدة في بيانه
والثالث أنها دخلت للتبعيض أي أن بعضهم يقع به هذا وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله عز و جل أو كصيب من السماء البقرة 19
قوله تعالى قبلا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر قبلا بكسر القاف وفتح الباء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي قبلا بضم القاف والباء وقد بينا علة القراءتين في الأنعام 111 وقرأ أبي ابن كعب قبلا بفتح القاف من غير ياء قال ابن قتيبة أراد استئنافا
فان قيل إذا كان المراد بسنة الأولين العذاب فما فائدة التكرار بقوله أو يأتيهم العذاب
فالجواب أن سنة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته وتختلف أنواعه وإتيان العذاب قبلا أفاد القتل يوم بدر قال مقاتل سنة الأولين عذاب الأمم السالفة أو يأتيهم العذاب قبلا أي عيانا قتلا بالسيف يوم بدر
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي (5/158)
وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرأ وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا
قوله تعالى ويجادل الذين كفرا بالباطل قال ابن عباس يريد المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم وجدالهم بالباطل أنهم الزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم ليدحضوا به الحق أي ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وقيل جدالهم قولهم أإذا كنا عظاما ورفاتا الاسراء 49 أإذا ضللنا في الأرض السجدة 10 ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء قال ابو عبيدة ومعنى ليدحضوا ليزيلوا ويذهبوا يقال مكان دحض أي مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر
قوله تعالى واتخذوا آياتي يعني القرآن وما أنذروا أي خوفوا به من النار والقيامة هزوا أي مهزوءا به
قوله تعالى ومن أظلم قد شرحنا هذه الكلمة في البقرة 114 وذكر بمعنى وعظ وآيات ربه القرآن وأعراضه عنها تهاونه بها ونسي ما قدمت يداه أي ما سلف من ذنوبه وقد شرحنا ما بعد هذا في الأنعام 21 إلى قوله وإن تدعهم إلى الهدى وهو الإيمان والقرآن فلن يهتدوا هذا اخبار عن علمه فيهم
قوله تعالى وربك الغفور ذو الرحمة إذ لم يعاجلهم بالعقوبة بل لهم (5/159)
موعد للبعث والجزاء لن يجدوا من دونه موئلا قال الفراء الموئل المنجى وهو الملجأ في المعنى لأن المنجي ملجأ والعرب تقول إنه ليوائل إلى موضعه أي يذهب الى موضعه قال الشاعر ... لاواءلت نفسك خليتها ... للعامريين ولم تكلم ...
أي ما ينجو وقال ابن قتيبة الموئل الملجأ يقال وآل فلان إلى كذا إذا لجأ
فان قيل ظاهر هذه الاية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته
فعنه جوابان أحدهما أن الرحمة هاهنا بمعنى النعمة ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى فليس للكافر فيها نصيب والثاني أن رحمة اله محظورة على الكفار يوم القيامة فأما في الدنيا فانهم ينالون منها العافية والرزق
قوله تعالى وتلك القرى يريد التي قصصنا عليكم ذكرها والمراد أهلها ولذلك قال أهلكناهم والمراد قوم هود وصالح ولوط وشعيب قال الفراء قوله لما ظلموا معناه بعدما ظلموا (5/160)
قوله تعالى وجعلنا لمهلكهم قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام قال الزجاج وفيه وجهان
أحدهما أن يكون مصدرا فيكون المعنى وجعلنا لإهلاكهم
والثاني أن يكون وقتا فالمعنى لوقت هلاكهم
وقرأ ابو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام وهو مصدر مثل الهلاك وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام ومعناه لوقت اهلاكهم
وإذ قال موسى لفته لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفته آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن اذكره واتخذ سبيكه في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه الآية سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر ما روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن موسى قام خطيبا في بني اسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عز و جل عليه اذ لم يرد العلم اليه فأوحى الله اليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فانطلق (5/161)
معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤؤسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتىإذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به فقال فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة إلى قوله عجبا قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا فقال موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا الى الصخرة فاذا هو مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام من أنت قال أنا موسى قال موسى بني اسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه فقال موسى ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك امرا فقال له الخضر فان اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا يمشيان عل الساحل فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ الا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قوم قد حملونا بغير نول عمدت (5/162)
إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها إلى قوله عسرا قال وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت الأولى من موسى نسيانا وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل مانقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله فقال له موسى أقتلت نفسا زاكية الى قوله يريد أن ينقض فقال الخضر بيده هكذا فاقامه فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه اجرا قال هذا فراق بيني وبينك الآية هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وقد ذكرنا إسناده في كتاب الحدائق فآثرنا الاختصار هاهنا
فأما التفسير فقوله تعالى وإذ قال موسى المعنى واذكر ذلك وفي موسى قولان
أحدهما أنه موسى بن عمران قاله الأكثرون ويدل عليه ما روي في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني اسرائيل هو موسى صاحب الخضر قال (5/163)
كذب عدو الله أخبرني ابي بن كعب فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا
والثاني أنه موسى بن ميشا قاله ابن اسحاق وليس بشيء للحديث الصحيح الذي ذكرناه فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف وإنما سمي فتاه لأنه كان يلازمه وياخذ عنه العلم ويخدمه
ومعنى لا أبرح لا أزال وليس المراد به لا أزول لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا فهو مثل قولك ما برحت أناظر عبدالله أي ما زلت قال الشاعر ... إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الوادائع ...
أي أثقلتك والمعنى لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقاهما وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه قال قتادة بحر فارس وبحر الروم فبحر الروم نحو المغرب وبحر فارس نحو المشرق
وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان
أحدهما إفريقية قاله أبي بن كعب وقرأ ابو رزين والحسن وابو مجلز وقتادة والجحدري وابن يعمر حقبا باسكان الكاف قال ابن قتيبة الحقب الدهر والحقب السنون واحدتها حقبة ويقال حقب وحقب كما يقال قفل وقفل وهزؤ وهزؤ وكفؤ وكفؤ وأكل (5/164)
وأكل وسحت وسحت ورعب ورعب ونكر ونكر وأذن وأذن وسحق وسحق وبعد وبعد وشغل وشغل وثلث وثلث وعذر وعذر ونذر ونذر وعمر وعمر
وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال
أحدها أنه الدهر قاله ابن عباس والثاني ثمانون سنة قاله عبدالله ابن عمرو وابو هريرة والثالث سبعون ألف سنة قاله الحسن والرابع سبعون سنة قاله مجاهد والخامس سبعة عشر ألف سنة قاله مقاتل بن حيان والسادس أنه ثمانون ألف سنة كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا والسابع أنه سنة بلغة قيس ذكرهما الفراء والثامن الحقب عند العرب وقت غير محدود قاله ابو عبيدة ومعنى كلام لأ ازال اسير ولو احتجت أن اسير حقبا
قوله تعالى فلما بلغا يعني موسى وفتاه مجمع بينهما يعني البحرين نسيا حوتهما وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل فأصاب الحوت بلل البحر وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضنح على الحوت الماء فعاش فتحرك في المكتل فانسرب في البحر وقد كان قيل لموسى تزود حوتا مالحا فاذا فقدته وجدت الرجل وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي وإنما قيل نسيا حوتهما توسعا في الكلام لأنهما جميعا تزوداه كما يقال نسي القوم زادهم وإنما نسيه أحدهم قال الفراء ومثله قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الرحمن 22 وإنما يخرج ذلك من الملح لا من العذب وقيل نسي يوشع (5/165)
أن يحمل الحوت ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء فلذلك اضيف النسيان إليهما
قوله تعالى فاتخذ سبيله في البحر سربا أي مسلكا ومذهبا قال ابن عباس جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر الا يبس حتى يكون صخرة وقال قتادة جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا وقد ذكرنا في حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت
قوله تعالى فلما جاوزا ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت أصابهما ما يصيب المسافر من النصب فدعا موسى بالطعام فقال آتنا غداءنا وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة والنصب الإعياء وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب ولا يكون ذلك شكوى قال يوشع لموسى أرأيت إذ أوينا الى الصخرة أي حين نزلنا هناك فاني نسيت الحوت فيه قولان
أحدهما نسيت أن أخبرك خبر الحوت والثاني نسيت حمل الحوت
قوله تعالى وما أنسانيه قرأ الكسائي أنسانيه باماله السين مع كسر الهاء وقرأ ابن كثير أنسانيهي باثبات ياء في الوصل بعد الهاء وروى حفص عن عاصم أنسانيه إلا بضم الهاء في الوصل
قوله تعالى واتخذ سبيله في البحر عجبا الهاء في السبيل ترجع الى الحوت وفي المتخذ قولان
أحدهما أنه الحوت ثم في المخبر عنه قولان
أحدهما أنه الله عز و جل ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا ويحدث عجبا والثاني أنه لما قال الله تعالى (5/166)
واتخذ سبيله في البحر قال اعجبوا لذلك عجبا وتنبهوا لهذه الآية والثالث أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله في البحر فقال موسى عجبا لما شوهد من الحوت ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري
والثاني ان المخبر عن الحوت يوشع وصف لموسى ما فعل الحوت
والقول الثاني أن المتخذ موسى اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا فدخل في المكان الذي مر فيه الحوت فرأى الخضر وروى عطية عن ابن عباس قال رجع موسى الى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى حتى انتهى به الى جزيرة من جزائر البحر فلقي الخضر
قوله تعالى قال يعني موسى ذلك ما كنا نبغي أي ذلك الذي نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا قرأ ابن كثير نبغي بياء في الوصل والوقف وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بياء في الوصل وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بحذف الياء في الحالين
قوله تعالى فارتدا على آثارهما قال الزجاج أي رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر والقصص اتباع الأثر
قوله تعالى فوجدا عبدا من عبادنا يعني الخضر
وفي اسمه أربعة أقوال
أحدها اليسع قاله وهب ومقاتل والثاني الخضر بن عاميا والثالث أرميا بن حلفيا ذكرهما ابن المنادي والرابع بليا بن ملكان ذكره علي بن احمد النيسابوري
فأما تسميته بالخضر ففيه قولان (5/167)
أحدهما أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت رواه ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والفروة الأرض اليابسة
والثاني أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله قاله عكرمة وقال مجاهد كان إذا صلى أخضر ما حوله وهل كان الخضر نبيا أم لا فيه قولان ذكرهما ابو بكر بن الأنباري وقال كثير من الناس يذهب الى أنه كان نبيا وبعضهم يقول كان عبدا صالحا واختلف العلماء هل هو باق الى يومنا هذا على قولين حكاهما الماوردي وكان الحسن يذهب الى أنه مات وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول ويقبح قول من يرى بقاءه ويقول لا يثبت حديث في بقائه وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن اسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء فقال كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد
قوله تعالى آتينا رحمة من عندنا في هذه الرحمة ثلاثة أقوال (5/168)
أحدها أنها النبوة قاله مقاتل والثاني الرقة والحنو على من يستحقه ذكره ابن الأنباري والثالث النعمة قاله ابو سليمان الدمشقي
قوله تعالى وعلمناه من لدنا أي من عندنا علما قال ابن عباس أعطاه علما من علم الغيب
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرأ وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا
قوله تعالى أن تعلمني قرأ ابن كثير تعلمني مما باثبات الياء في الوصل والوقف وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل وقرأ ابن عامر وعاصم بحذف الياء في الحالين
قوله تعالى مما علمت رشدا قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والسكائي رشدا بضم الراء واسكان الشين خفيفة وقرأ ابو عمرو رشدا بفتح الراء والشين وعن ابن عامر بضمهما والرشد والرشد لغتان كالنخل والنخل والعجم والعجم والعرب والعرب والمعنى أن تعلمني علما ذا رشد وهذه القصة قد حرضت على الرحلة في طلب العلم واتباع المفضول للفاضل طلبا للفضل وحثت على الأدب والتواضع للمصحوب
قوله تعالى إنك لن تستطيع معي صبرا قال ابن عباس لن تصبر على صنعي لأني علمت من غيب علم ربي
وفي هذا الصبر وجهان
أحدهما على الإنكار والثاني عن السؤال (5/169)
قوله تعالى وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا الخبر علمك بالشيء والمعنى كيف تصبر على أمر ظاهره منكر وأنت لا تعلم باطنه
قوله تعالى ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال ابن الأنباري نفي العصيان منسوق على الصبر والمعنى ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله
قال فان ابتعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفهوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطيع عليه صبرا
قوله تعالى فلا تسألني قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي فلا تسألني ساكنة اللام وقرأ نافع فلا تسألني مفتوحة اللام مشددة النون وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني فلا تسألن عن (5/170)
شيء بتحريك اللام من غير ياء والنون مكسورة والمعنى لا تسألني عن شيء مما أفعله حتى أحدث لك منه ذكرا أي حتى أكون أنا الذي أبينه لك لأن علمه قد غاب عنك
قوله تعالى خرقها أي شقها قال المفسرون قلع منها لوحا وقيل لوحين مما يلي الماء فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله أخرقتها لتغرق أهلها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر لتغرق بالتاء أهلها بالنصب وقرأ حمزة والكسائي ليغرق بالياء أهلها برفع اللام لقد جئت شيئا إمرا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها منكرا قاله مجاهد وقال الزجاج عظيما من المنكر والثاني عجبا قاله قتادة وابن قتيبة والثالث داهية قاله ابو عبيدة
قوله تعالى لا تؤاخذني بما نسيت في هذا النسيان ثلاثة أقوال
أحدها أنه على حقيقته وأنه نسي روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الأولى كانت نسيانا من موسى
والثاني أنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام قاله ابي بن كعب وابن عباس
والثالث أنه بمعنى الترك فالمعنى لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى ولا ترهقني قال الفراء لا تعجلني وقال ابو عبيدة وابن قتيبة والزجاج لا تغشني قال ابو زيد يقال أرهقته عسرا إذا كلفته ذلك قال الزجاج والمعنى عاملني باليسر لا بالعسر (5/171)
قوله تعالى فانطلقا يعني موسى والخضر قال الماوردي يحتمل أن يوشع تأخر عنهما لأن الإخبار عن اثنين ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تبع لموسى فاقتصر على حكم المتبوع
قوله تعالى حتى إذا لقيا غلاما اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغا ام لا على قولين
أحدهما أنه لم يكن بالغا قاله ابن عباس ومجاهد والأكثرون
والثاني أنه كان شابا قد قبض على لحيته حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم فلم يستحق القتل وقد يسمى الرجل غلاما قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج
... شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز الفتاة سقاها ...
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال
أحدها أنه اقتلع رأسه وقد ذكرناه في حديث أبي والثاني كسر عنقه قاله ابن عباس والثالث أضجعة وذبحه بالسكين قاله سعيد بن جبير
قوله تعالى أقتلت نفسا زاكية قرأ الكوفيون وابن عامر زكية بغير ألف والياء مشددة وقر الباقون بالألف من غير تشديد قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد وهما بمنزلة القاسية والقسية
وللمفسرين فيها ستة اقوال
أحدها أنها التائبة روي عن ابن عباس انه قال الزكية التائبة وبه قال الضحاك (5/172)
والثاني أنها المسلمة روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا قاله سعيد بن جبير
والرابع أنها الزكية النامية قاله قتادة وقال ابن الأنباري القويمة في تركيبها
والخامس أن الزكية المطهرة قاله ابو عبيدة
والسادس ان الزكية البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها قاله الزجاج
وقد فرق بعضهم بين الزاكية والزكية فروي عن ابي عمرو بن العلاء أنه قال الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت وروي عن أبي عبيدة أنه قال الزاكية في البدن والزكية في الدين
قوله تعالى بغير نفس أي بغير قتل نفس لقد جئت شيئا نكرا قرأ ابن كثير وابو عمرو وحمزة والكسائي نكرا خفيفة في كل القرآن إلا قوله الى شيء نكر القمر 6 وخفف ابن كثير أيضا الى شيء نكر وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكرا والى نكر مثقل والمخفف إنما هو من المثقل كالعنق والعنق النكر والنكر قال الزجاج والمعنى لقد أتيت شيئا نكرا ويجوز أن يكون معناه جئت بشيء نكر فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب نكرا ونكرا أقل منكرا من قوله إمرا لأن تغريق من في السفينة كان عنده أذكر من قتل نفس واحدة
قوله تعالى قال ألم أقل لك
إن قيل لم ذكر لك هاهنا واختزله من الموضع الذي قبله
إن
فالجواب أن اثباته للتوكيد واختزاله لوضوح المعنى وكلاهما معروف (5/173)
عند الفصحاء تقول العرب قد قلت لك أتق الله وقد قلت لك يا فلان اتق الله وانشد ثعلب ... قد كنت حذرتك آل المصطلق ... وقلت يا هذا أطعني وانطلق ...
فقوله يا هذا توكيد لا يختل الكلام بسقوطه وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول وقره في الأول فلم يواجهه بكاف الخطاب فلما خالف في الثاني واجهه بها
قوله تعالى إن سألتك عن شيء أي سؤال توبيخ وإنكار بعدها أي بعد هذه المسألة فلا تصاحبني وقرأ كذلك معاذ القارئ وأبونهيك وأبو المتوكل والأعرج إلا أنهم شددوا النون قال الزجاج ومعناه إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة ويعقوب لا تصحبني بفتح التاء من غير ألف وقرأ ابن مسعود وأبو العالية والأعمش كذلك إلا أنهم شددوا النون وقرأ ابو رجاء وأبو عثمان النهدي والنخعي والجحدري تصحبني بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصاد والباء قال الزجاج فيهما وجهان
أحدهما لا تتابعني في شيء ألتمسه منك يقال قد أصحب المهر إذا انقاد
والثاني لا تصحبني علما من علمك
قد بلغت من لدني قرا ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي من لدني مثقل وقرأ نافع من لدني بضم الدال مع تخفيف النون وروى أبو بكر عن عاصم من لدني بفتح اللام مع تسكين الدال وفي رواية أخرى عن عاصم لدني بضم اللام وتسكين الدال قال الزجاج (5/174)
وأجودها تشديد النون لأن أصل لدن الإسكان فاذا أضفتها إلى نفسك زدت نونا ليسلم سكون النون الأولى تقول من لدن زيد فتسكن النون ثم تضيف الى نفسك فتقول من لدني كما تقول عن زي وعني فأما إسكان دال لدني فانهم أسكنوها كما تقول في عضد عضد فيحذفون الضم قال ابن عباس يريد إنك قد أعذرت فيما بيني وبينك يعني أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا
قوله تعالى فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها أنطاكية قاله ابن عباس والثاني الأبلة قاله ابن سيرين والثالث باجروان قاله مقاتل
قوله تعالى استطعما أهلها أي سألاهم الضيافة فأبوا أن يضيفوهما روى المفضل عن عاصم يضيفوهما بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية وقرأ أبو الجوزاء كذلك إلا أنه فتح الياء الأولى وقرأ الباقون يضيفوها بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها قال أبو عبيدة ومعنى يضيفوهما ينزلوهما منزل الأضياف يقال ضفت أنا وأضافي الذي ينزلني وقال الزجاج يقال ضفت الرجل إذا نزلت عليه وأضفته إذا أنزلته وقريته وقال ابن قتيبة يقال ضيفت الرجل إذا أنزلته منزلة الأضياف ومنه هذه الآية وأضفته أنزلته وضفته نزلت عليه وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كانوا أهل قرية لئاما
قوله تعالى فوجدا فيها جدارا أي حائطا قال ابن فارس وجمعه (5/175)
جدر والجدر أصل الحائط ومنه حديث الزبير ثم دع الماء يرجع الى الجدر والجيدر القصير
قول تعالى يريد أن ينقض وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء ينقاض بألف ممدودة وضاد معجمة وقرأ ابن مسعود وأبو العالية وأبو عثمان النهدي ينقاص بألف ومدة وصاد غير معجمة وكله بلا تشديد قال الزجاج فمعنى ينقض يسقط بسرعة وينقاص غير معجمة ينشق طولا يقال انقاضت سنة إذا انشقت قال ابن مقسم انقاصت سنه وانقاضت بالصاد والضاد على معنى واحد
فان قيل كيف نسبت الإرادة الى ما لا يعقل
فالجواب أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يقعل ويريد لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة إذ كانت الصورتان واحدة وقد أضافت العرب الأفعال الى مالا يعقل تجوزا قال الله عز و جل ولما سكت عن موسى الغضب الأعراف 154 والغضب لا يسكت وإنما يسكت صاحبه وقال فاذا عزم الأمر محمد 21 وانشدوا من ذلك ... إن دهرا يلف شملي بجمل ... لزمان يهم بالإحسان ...
وقال أخر (5/176)
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل ...
وقال اخر ... ضحكوا والدهر عنهم ساكت ... ثم أبكاهم دما لما نطق ...
وقال اخر ... يشكو إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى ...
وهذا كثير في أشعارهم
قوله تعالى فأقامه أي سواه لأنه وجده مائلا
وفي كيفية ما فعل قولان أحدهما انه دفعه بيده فقام والثاني هدمه ثم قعد يبنيه روي القولان عن ابن عباس
قوله تعالى لو شئت لتخذت عليه اجرا قرأ ابن كثير وابو عمرو لتخذت بكسرالخاء غير أن ابا عمرو كان يدغم الذال ابن كثير يظهرها وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي لاتخذت وكلهم أدغموا إلا حفصا عن عاصم فانه لم يدغم مثل ابن كثير قال الزجاج يقال تخذ يتخذ في معنى اتخذ يتخذ وإنما قال له هذا لأنهم لم يضيفوهما
قوله تعالى قال يعني الخضر هذا يعني الإنكار علي فراق بيني وبينك أي هو المفرق بيننا قال الزجاج المعنى هذا فراق بيننا (5/177)
أي فراق اتصالنا وكرر بين توكيدا ومثله في الكلام أخزى الله الكاذب مني ومنك وقرأ أبو رزين وابن السميفع وأبو العالية وابن أبي عبلة هذا فراق بالتنوين بني وبينك بنصب النون قال ابن عباس كان قول موسى في السفينة والغلام لربه وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا
قوله تعالى فكانت لمساكين في المراد بمسكنتهم قولان
أحدهما أنهم كانوا ضعفاء في أكسابهم والثاني في أبدانهم وقال كعب كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعلمون في البحر
قوله تعالى فأردت أن اعيبها أي اجعلها ذات عيب يعني بخرقها وكان وراءهم فيه قولان
أحدهما أمامهم قاله ابن عباس وقتادة وابو عبيدة وابن قتيبة وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود وكان أمامهم ملك
والثاني خلفهم قال الزجاج وهو أجود الوجهين فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه ولم يعلموا بخبره فأعلم الله تعالى الخضر خبره (5/178)
قوله تعالى يأخذ كل سفينة غصبا أي كل سفينة صالحة وفي قراءة أبي بن كعب كل سفينة صحيحة قال الخضر إنما خرقتها لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها
قوله تعالى وأما الغلام روعي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا قال الربيع بن أنس كان الغلام على الطريق لا يمر به أحد إلا قتله أو غصبه فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه وقال ابن السائب كان الغلام لصا فاذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل
قوله تعالى فخشينا في القائل لهذا قولان
أحدهما الله عز و جل ثم في معنى الخشية المضافة اليه قولان أحدهما أنها بمعنى العلم قال الفراء معناه فعلمنا وقال ابن عقيل المعنى فعلنا فعل الخاشي والثاني الكراهة قاله الأخفش والزجاج
والثاني أنه الخضر فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم قاله ابن الأنباري وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله فأردنا أن يبدلهما ربهما قال الزجاج المعنى فأراد الله لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى ومعنى يرهقهما يحملهما على الرهق وهو الجهل قال ابو عبيدة يرهقهما يغشيهما قال سعيد بن جبير خشينا (5/179)
أن يمحلهما حبه على أن يدخلا في دينه وقال الزجاج فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما فرضي امروء بقضاء الله فان قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب
قوله تعالى فأردنا أن يبدلهما ربهما قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم أن يبدلهما بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد
قوله تعالى خيرا منه زكاة فيه ثلاثة أقوال
أحدها دينا قاله ابن عباس والثاني عملا قاله مقاتل والثالث صلاحا قاله الفراء
قوله تعالى وأقرب رحما قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والكسائي رحما ساكنة الحاء وقرأ ابن عامر رحما مثقلة وعن أبي عمرو كالقراءتين وقرأ ابن عباس وابن جبير وابو رجاء رحما بفتح الراء وكسر الحاء
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أوصل للرحم وأبر للوالدين قاله ابن عباس وقتادة وقال الزجاج أقرب عطفا وأمس بالقرابة ومعنى الرحم والرحم في اللغة العطف والرحمة قال الشاعر ... وكيف بظلم جارية ... ومنها اللين والرحم ...
والثاني أقرب أن يرحما به قاله الفراء وفيما بدلا به قولان (5/180)
أحدهما جارية قاله الأكثرون وروى عطاء عن ابن عباس قال أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيا
والثاني غلام مسلم قاله ابن جريج
قوله تعالى وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة يعني القرية المذكورة في قوله أتيا أهل قرية قال مقاتل واسمهما أصرم وصريم
قوله تعالى وكان تحته كنز لهما فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان ذهبا وفضة رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الحسن وعكرمة وقتادة كان مالا
والثاني انه كان لوحا من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبا لمن ايقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح عجبا لمن يوقن بالرزق كيف يتعب عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله الذي لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي وفي الشق الآخر أنا الله لا إلا إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن الأنباري فسمي كنزا من جهة الذهب وجعل اسمه هو المغلب
والثالث كنز علم رواه العوفي عن ابن عباس وقال مجاهد صحف فيها علم وبه قال سعيد بن جبير والسدي قال ابن الأنباري فيكون المعنى على هذا القول كان تحته مثل الكنز لأنه يتعجل من نفعه أفضل مما (5/181)
ينال من الأموال قال الزجاج والمعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه المال المدفون المدخر فاذا لم يكن المال قيل عنده كنز علم وله كنز فهم والكنز هاهنا بالمال اشبه وجائز أن يكون الكنز كان مالا مكتوب فيه علم على ماروي فهو مال وعلم عظيم
قوله تعالى وكان أبوهما صالحا قال ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاحا وقال جعفر بن محمد عليه السلام كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء وقال مقاتل كان أبوهما ذا أمانة
قوله تعالى فأراد ربك قال ابن الأنباري لما كان قوله فأردت وأردنا كل واحد منهما يصلح أن يكون خبرا عن الله عز و جل وعن الخضر أتبعهما بما يحصر الإرادة عليه ويزيلها عن غيره ويكشف البغية من اللفظتين الأولين وإنما قال فأردت فأردنا فأراد ربك لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه مع تساوي المعاني لأنه أعذب على الألسن وأحسن موقعا في الأسماع فيقول الرجل قال لي فلان كذا وأنبأني بما كان وخبرني بما نال فأما الأشد فقد سبق ذكره في مواضع الأنعام 152 ويوسف 22 والاسراء 34 ولو أن الخضر لم يقم الحائط لنقض وأخذ ذلك الكنز قبل بلوغهما
قوله تعالى رحمة من ربك أي رحمهما الله بذلك وما فعلته عن أمري قال قتادة كان عبدا مأمورا
فأما قوله تسطع فان استطاع و اسطاع بمعنى واحد (5/182)
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا
قوله تعلى ويسألونك عن ذي القرنين قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى ويسألونك عن الروح الاسراء 85
واختلفوا في اسم ذي القرنين على اربعة أقوال
أحدها عبدالله قاله علي عليه السلام وروي عن ابن عباس أنه عبدالله ابن الضحاك والثاني الاسكندر قاله وهب والثالث عياش قاله محمد بن علي ابن الحسين والرابع الصعب بن جابر بن القلمس ذكره ابن أبي خيثمة
وفي علة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال
أحدها أنه دعا قومه الى الله تعالى فضربوه على قرنه فهلك فغبر زمانا ثم بعثه الله فدعاهم الى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك فذانك قرناه قاله علي عليه السلام والثاني أنه سمي بذي القرنين لأنه سار الى مغرب الشمس وإلى مطلعها رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس والرابع لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء الى الأرض وأخذ بقرني الشمس فقص ذلك على قومه فسمي بذي القرنين الخامس لأنه (5/183)
ملك الروم وفارس والسادس لأنه كان في رأسه شبه القرنين رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبه والسابع لأنه كانت له غديرتان من شعر قاله الحسن قال ابن الأنباري والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر غديرتين وجميرتين وقرنين قال ومن قال سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم قال لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما قرنان والثامن لأنه كان كريم الطرفين من اهل بيت ذوي شرف والتاسع لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس وهو حي والعاشر لأنه سلك الظلمة والنور ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو اسحاق الثعلبي
واختلفوا هل كان نبيا ام لا على قولين
أحدهما أنه كان نبيا قاله عبدالله بن عمرو والضحاك بن مزاحم
والثاني أنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا ولا ملكا قاله علي عليه السلام وقال وهب كان ملكا ولم يوح اليه
وفي زمان كونه ثلاثة أقوال
أحدها أنه من القرون الأول من ولد يافث بن نوح قاله علي عليه السلام
والثاني أنه كان بعد ثمود قاله الحسن ويقال كان عمره ألفا وستمائة سنة
والثالث أنه كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم قاله وهب
قوله تعالى سأتلو عليكم منه ذكرا أي خبرا يتضمن ذكره إنا مكنا له في الارض أي سهلنا عليه السير فيها قال علي عليه السلام إنه أطاع الله فسخر له السحاب فحمله عليه ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان (5/184)
الليل والنهار عليه سواء وقال مجاهد ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن دواد وذو القرنين والكافران النمرود وبختنصر
قوله تعالى وآتيناه من كل شيء سببا قال ابن عباس علما يتسبب به الى ما يريد وقيل هو العلم بالطرق والمسالك
قوله تعالى فأتبع سببا قرا ابن كثير ونافع وابو عمرو فاتبع سببا ثم اتبع سببا ثم اتبع سببا مشددات التاء وقرأعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي فأتبع سببا ثم أتبع سببا ثم أتبع سببا مقطوعات قال ابن الأنباري من قرأ فاتبع سببا فمعناه قفا الأثر ومن قرأ فأتبع فمعناه لحق يقال اتبعني فلان أي تبعني كما يقال ألحقني فلان بمعنى لحقني وقال أبو علي أتبع تقديره أتبع سببا سببا فأتبع ما هو عليه سببا والسبب الطريق والسبب الطريق والمعنى تبع طريقا يؤديه الى مغرب الشمس وكان إذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشا فسار بهم الى غيرهم
قوله تعالى وجدها تغرب في عين حمئة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم حمئة وهي قرأة ابن عباس وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم حامية وهي قراءة عمرو وعلي وابن مسعود والزبير ومعاوية وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة والنخعي وقتادة وأبي جعفر وشيبة وابن محيصن والأعمش كلهم لم يهمز قال الزجاج فمن قرأ حمئة أراد في عين ذات حمأة يقال حمأت البئر إذا أخرجت حمأتها وأحمأتها إذا ألقيت فيها الحمأة وحمئت فهي حمئة إذا صارت فيها الحمأة ومن قرأ حامية بغير همز أراد حارة وقد تكون حارة ذات حمأة وروى قتادة عن الحسن قال (5/185)
وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور ووجد عندها قوما لباسهم جلود السباع وليس لهم طعام إلأا ما أحرقت الشمس من الدواب إذا غربت نحوها وما لفظت العين من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس وقال ابن السائب وجد عندها قوما مؤمنين وكافرين يعني عند العين وربما توهم متوهم أن هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في عين ماء وليس كذلك فانها أكبر من الدنيا مرارا فكيف تسعها عين ماء وقيل إن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مرة وقيل بقدر الدنيا مائة وعشرين مرة والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة وإنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه ان الشمس تغيب في الماء وذلك لأن ذا القرنين أنتهى الى آخر البنيان فوجد عينا حمئة ليس بعدها أحد
قوله تعالى قلنا ياذا القرنين فمن قال إنه نبي قال هذا القول وحي ومن قال ليس بنبي قال هذا إلهام
قوله تعالى إما أن تعذب قال المفسرون إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه وإما أن تأسرهم فتبصرهم الرشد قال أما من ظلم أي أشرك فسوف نعذبه بالقتل إذا لم يرجع عن الشرك وقال الحسن كان يطبخهم في القدور ثم يرد الى ربه بعد العذاب فيعذبه عذابا نكرا بالنار
قوله تعالى فله جزاء الحسنى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم جزاء الحسنى برفع مضاف قال الفراء الحسنى الجنة وأضيف الجزاء اليها وهي الجزاء كقوله إنه لحق اليقين الحاقة 51 ودين القيمة البينة 5 ولدار الآخرة النحل 30 قال ابو علي الفارسي المعنى فله جزاء الخلال الحسنى لأن الإيمان والعمل الصالح خلال وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب جزاء (5/186)
بالنصب والتنوين قال الزجاج وهو مصدر منصوب على الحال المعنى فله الحسنى مجزيا بها جزاء وقال ابن الأنباري وقد يكون الجزاء غير الحسنى إذا تأول الجزاء بأنه الثواب والحسنى الحسنة المكتسبة في الدنيا فيكون المعنى فله ثواب ما قدم من الحسنات
قوله تعالى وسنقول له من أمرنا يسرا أي نقول له قولا جميلا
ثم اتبع سببا إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا
قوله تعالى ثم اتبع سببا أي طريقا آخر يوصله الى المشرق قال قتادة مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فاصاب قوما في أسراب عراة ليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس إذا طلعت فاذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس وبلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان فيقال أنهم الزنج قال الحسن كانوا إذا غربت الشمس خرجوا يتراعون كما يتراعى الوحش وقرأ الحسن ومجاهد وأبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن مطلع الشمس بفتح اللام قال ابن الانباري ولا خلاف بين اهل العربية في أن المطلع والمطلع كلاهما يعنى بهما المكان الذي تطلع منه الشمس ويقولون ما كان على فعل يفعل فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المفعل كقولهم المدخل للدخول والموضع الذي يدخل منه إلا أحد عشر حرفا جاءت مكسورة إذا أريد بها الموضع الذي يدخل منه إلا أحد عشر حرفا جاءت مكسورة إذا أريد بها المواضع وهي المطلع والمسكن والمنسك والمشرق والمغرب والمسجد والمنبت والمجزر والمفرق والمسقط (5/187)
والمهبل الموضع الذي تضع فيه الناقة وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفا سمع فيهن الكسر والفتح المطلع والمطلع والمنسك والمنسك والمجزر والمجزر والمسكن والمسكن والمنبت والمنبت فقرا الحسن على الأصل من احتمال المفعل الوجهين الموصوفين بفتح العين وكسرها وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها وخصت الموضع بالكسر وآثرت المصدر بالفتح قال أبو عمرو المطلع بالكسر الموضع الذي تطلع فيه والمطلع بالتفح الطلوع قال ابن الأنباري هذا هو الأصل ثم إن العرب تتسع فتجعل الاسم نائبا عن المصدر فيقرؤون حتى مطلع الفجر القدر 5 بالكسر وهم يعنون الطلوع ويقرأ من قرأ مطلع الشمس بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه
قوله تعالى كذلك فيه أربعة أقوال
أحدها كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها
والثاني اتبع سببا كما اتبع سببا
والثالث كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم
والرابع أن المعنى كذلك أمرهم كما قصصنا عليك ثم استأنف فقال وقد أحطنا بما لديه بما عنده ومعه من الجيوش والعدد وحكى أبو سليمان الدمشقي بما لديه أي بما عند مطلع الشمس وقد سبق معنى الخبر الكهف 68
ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا ياذا القرنين إن (5/188)
يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لكم خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجمل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني افرغ عليه قطرا فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا
قوله تعالى ثم أتبع سببا أي طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب حتى إذا بلغ بين السدين قال وهب بن منبه هما جبلان منيفان في السماء من ورائهما البحر من أمامهما البلدان وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال الجبلان من قبل أرمينية وأذربيجان واختلف القراء في السدين فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بضمها
وهل المعنى واحد أم لا فيه قولان
أحدها أنه واحد قال ابن الاعرابي كل ما قابلك فسد ما وراءه فهو سد وسد نحو الضعف والضعف والفقر والفقر قال الكسائي وثعلب السد والسد لغتان بمعنى واحد وهذا مذهب الزجاج
والثاني أنهما يختلفان
وفي الفرق بينهما قولان
أحدهما أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم وما هو ما من فعل (5/189)
الآدميين فهو مفتوح قاله ابن عباس وعكرمة وأبو عبيدة قال الفراء وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين
والثاني أن السد بفتح السين الحاجز بين الشيئين والسد بضمها الغشاوة في العين قاله أبو عمرو بن العلاء
قوله تعالى وجد من دونهما يعني أمام السدين قوما لا يكادون يفقهون قولا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر يفقهون قولا بفتح الياء أي لا يكادون يفهمونه قال ابن الأنباري قال اللغويون معناه أنهم يفهمون بعد إبطاء وهو كقوله وما كادوا يفعلون البقرة 71 قال المفسرون وإنما كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم وقرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء أراد يفهمون غيرهم وقيل كلهم ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا
قوله تعالى إن ياجوج وماجوج هما اسمان أعجميان وقد همزهما عاصم قال الليث الهمز لغة رديئة قال ابن عباس يأجوج رجل ومأجوج رجل وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء وهم شبر وشبران وثلاثة اشبار وقال علي عليه السلام منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول ولهم من الشعر ما يواريهم من الحر والبرد وقال الضحاك هم جيل من الترك وقال السدي الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت تغير فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت خارجة وروى شقيق عن حذيفة قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن يأجوج ومأجوج فقال يأجوج أمه ومأجوج أمه كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر الى ألف ذكر بين يديه من صلبه كل قد (5/190)
حمل السلاح قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز قلت يا رسول الله وما الأرز قال شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالآخرى ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية
قوله تعالى مفسدون في الأرض في هذا الفساد أربعة أقوال
أحدها أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط قاله وهب بن منبه
والثاني أنهم كانوا يأكلون الناس قاله سعيد بن عبد العزيز
والثالث يخرجون الى الأرض الذين شكوا منهم أيام الربيع فلا يدعون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا الا أحتملوه الى ارضهم قاله ابن السائب
والرابع كانوا يقتلون الناس قاله مقاتل
قوله تعالى فهل نجعل لك خرجا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم خرجا بغير ألف وقرأ حمزة والكسائي خراجا بألف وهل بينهما فرق فيه قولان
أحدهما أنهما لغتان بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والليث
والثاني أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه قاله ابو عمرو بن العلاء قال المفسرون المعنى هل نخرج اليك من اموالنا شيئا كالجعل لك (5/191)
قوله تعالى ما مكني وقرأ ابن كثير مكنني بنونين وكذلك هي في مصاحف مكة قال الزجاج من قرأ مكني بالتشديد أدغم النون في النون لاجتماع النونين ومن قرأ مكنني أظهر النونين لأنهما من كلمتين الاولى من الفعل والثانية تدخل مع الاسم المضمر
وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان
أحدهما أنه العلم بالله وطلب ثوابه
والثاني ما ملك من الدنيا والمعنى الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي
قوله تعالى فأعينوني بقوة فيها قولان
أحدهما أنها الرجال قاله مجاهد ومقاتل
والثاني الآلة قاله ابن السائب فأما الردم فهو الحاجز قال الزجاج والردم في اللغة أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض يقال ثوب مردم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة
قوله تعالى آتوني زبر الحديد قرأ الجمهور ردما آتوني أي أعطوني وروى ابو بكر عن عاصم ردم ايتوني بكسر التنوين أي جيئوني بها قال ابن عباس احملوها الي وقال مقاتل أعطوني وقال الفراء المعنى إيتوني بها فلما ألقيت الياء زيدت ألف فأما الزبر فهي القطع واحدتها زبرة والمعنى فأتوه بها فبناه حتى إذا ساوى ورى أبان إذا سوى بتشديد الواو من غير ألف قال الفراء ساوى وسوى سواء واختلف القراء في الصدفين فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر الصدفين بضم الصاد والدال وهي لغة حمير وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم الصدفين بضم الصاد وتسكين الدال وقرأ نافع وحمزة والكسائي (5/192)
وحفص عن عاصم وخلف بفتح الصاد والدال جمعيا وهي لغة تميم واختارها ثعلب وقرأ ابو مجلز وأبو رجاء وابن يعمر الصدفين بفتح الصاد ورفع الدال وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والزهري والجحدري برفع الصاد وفتح الدال قال ابن الانباري ويقال صدف على مثال نغر وكل هذه لغات في الكلمة قال ابو عبيدة الصدفان جنبا الجبل قال الأزهري يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما أي لتلاقيهما قال المفسرون حشا ما بين الجبلين بالحديد ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ووضع عليها المنافيخ ثم قال انفخوا فنفخوا حتى إذا جعله يعني الحديد وقيل الهاء ترجع الى ما بين الصدفين نارا أي كالنار لأن الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار قال آتوني قرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي آتوني ممدودة والمعنى أعطوني وقرا حمزة وأبو بكر عن عاصم إيتوني مقصورة والمعنى جيئوني به أفرغه عليه
وفي القطر أربعة أقوال
أحدها انه النحاس قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والفراء والزجاج والثاني أنه الحديد الذائب قاله ابو عبيدة والثالث الصفر المذاب قاله مقاتل والرابع الرصاص حكاه ابن الأنباري قال المفسرون أذاب القطر ثم صبه عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر قال قتادة فهو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء
قوله تعالى فما اسطاعوا أصله فما استطاعوا فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبوا التخفيف فحذفوا قال ابن الأنباري إنما تقول العرب اسطاع تخفيفا كما قالوا سوف يقوم وسيقوم فأسقطوا الفاء (5/193)
قوله تعالى أن يظهروه أي يعلوه يقال ظهر فلان فوق البيت إذا علاه والمعنى ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه واملاسه وما استطاعوا له نقبا من أسفله لشدته وصلابته وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعدون اليه فيرونه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم واراد الله عز و جل أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه فيرونه كأشد ما كان حتى اذا بلغت مدتهم واراد الله عز و جل ان يبعثهم على الناس حفروا حتى اذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا ان شاء الله ويستثني فيعودون اليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس وذكر باقي الحديث وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب الحدائق فكرهت التطويل هاهنا
قوله تعالى قال هذا رحمة من ربي لما فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا وفيما أشار اليه قولان (5/194)
أحدهما أنه الردم قاله مقاتل قال فالمعنى هذا نعمة من ربي على المسلمين لئلا يخرجوا اليهم
والثاني أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد قاله الزجاج
قوله تعالى فاذا جاء وعد ربي فيه قولان
أحدهما القيامة والثاني وعده لخروج يأجوج ومأجوج
قوله تعالى جعله دكا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر دكا منونا غير مهموز ولا ممدود وقرأ عاصم وحمزة والكسائي دكاء ممدودة مهموزة بلا تنوين وقد شرحنا معنى الكلمة في الأعراف 143
قوله تعالى وكان وعد ربي حقا أي الثواب والعقاب
وتركنا بعضهم يؤمئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا
قوله تعالى وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض في المشار اليهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم يأجوج ومأجوج ثم في المراد ب يومئذ قولان احدهما أنه يوم انقضى أمر السد تركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم وقيل ماجوا متعجبين من السد والثاني أنه يوم يخرجون من السد تركوا يموج بعضهم في بعض
والثاني أنهم الكفار
والثالث أنهم جميع الخلائق الجن والإنس يموجون حيارى فعلى هذين القولين المراد باليوم المكذور يوم القيامة (5/195)
قوله تعالى ونفخ في الصور هذه نفخة البعث وقد شرحنا معنى الصور في الأنعام 73
قوله تعالى وعرضنا جهنم أي أظهرناها لهم حتى شاهدوها
قوله تعالى الذين كانت أعينهم يعني أعين قلوبهم في غطاء أي في غفلة عن ذكري أي عن توحيدي والإيمان بي وبكتابي وكانوا لا يستطيعون سمعا هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما ينذرون به كما تقول لمن يكره قولك ما تقدر أن تسمع كلامي
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا
أحدها أنهم الشياطين قاله ابن عباس والثاني الأصنام قاله مقاتل والثالث الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى من دوني فتح هذه الياء نافع وأبو عمرو وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف وفي تقديره قولان
أحدهما أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء كلا بل هم أعداء لهم يتبرؤون منهم والثاني أن يتخذوهم أولياء ولا أغضب ولا أعاقبهم وروى أبان عن عاصم وزيد عن يعقوب أفحسب بتسكين السين وضم الباء وهي قراءة علي عليه السلام وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وابن يعمر وابن محيصن ومعناها أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء (5/196)
فأما النزل فقيه قولان
احدهما أنه ما يهيأ للضيف والعسكر قاله ابن قتيبة
والثاني أنه المنزل قاله الزجاج
قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفرو بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا وانخذوا آياتي ورسلي هزوا
قوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين اعمالا فيهم قولان
أحدهما أنهم القسيسون والرهبان قاله علي عليه السلام والضحاك
والثاني اليهود والنصارى قاله سعد بن أبي وقاص
قوله تعالى أعمالا منصوب على التمييز لأنه لما قال بالأخسرين كان ذلك مبهما لايدل على ما خسروه فبين ذلك في أي نوع وقع
قوله تعالى الذين ضل سعيهم أي بطل عملهم واجتهادهم ف الدنيا وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم فرؤساؤهم يعلمون الصحيح ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم وأتباعهم مقلدون بغير دليل أولئك الذين كفروا بآيات ربهم جحدوا دلائل توحيده وكفروا بالبعث والجزاء وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه و سلم والقرآن صاروا كافرين بهذه الأشياء فحبطت أعمالهم أي بطل اجتهادهم لأنه خلا عن الإيمان فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وقرأ ابن مسعود والجحدري فلا يقيم بالياء (5/197)
وفي معناه ثلاثة أقوال
أحدهما أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة وانما توزن الحسنات والسيئات والكافر لا طاعة له
والثاني ان المعنى لا نقيم لهم قدرا قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية يقال ما لفلان عندنا وزن أي قدر لخسته فالمعنى أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
والثالث أنه قال فلا نقيم لهم لأن الوزن عليهم لا لهم ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى ذلك جزاؤهم أي الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخسة قدرهم ثم ابتدأ فقال جزاؤهم جهنم وقيل المعنى ذلك التصغير لهم وجزاؤهم جهنم فأضمرت واو الحال
قوله تعالى بما كفروا أي بكفرهم واتخاذهم آياتي الي أنزلتها ورسلي هزوا أي مهزوءا به (5/198)
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لايبغون عنها حولا
قوله تعالى كانت لهم جنات الفردوس قال ابن الأنباري كانت لهم في علم الله قبل أن يخلقوا وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال جنان الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها وليس بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله ص - انه قال الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض الفردوس أعلاها ومنها تفجر أنهار الجنة فاذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس قال أبو أمامة الفردوس سره الجنة قال مجاهد الفردوس البستان بالرومية وقال كعب والضحاك جنات الفردوس جنات الأعناب قال الكلبي والفراء الفردوس البستان الذي فيه الكرم وقال المبرد الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر المتلف (5/199)
والأغلب عليه العنب وقال ثعلب كل بستان يحوط عليه فهو فردوس قال عبدالله بن رواحة ... في جنات الفردوس ليس يخافو ... ن خروجا عنها ولا تحويلا ...
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال قال الزجاج الفردوس أصله رومي أعرب وهو البستان كذلك جاء في الفسير وقد قيل الفردوس تعرفه العرب وتسمي الموضع الذي فيه كرم فردوسا وقال أهل اللغة الفردوس مذكر وإنما أنث في قوله تعالى يرثون الفردوس هم فيها خالدون المؤمنون 11 لأنه عني به الجنة وقال الزجاج وقيل الفردوس الأودية التي تنبت ضروبا من النبت وقيل هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال والفردوس أيضا بالسريانية كذا لفظه فردوس قال ولم نجده في أشعار العرب إلا في شعر حسان وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين لأنه عند أهل كل لغة كذلك وبيت حسان ... فان ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد ...
وقال ابن الكلبي باسناده الفردوس البستان بلغة الروم وقال الفراء وهو عربي أيضا والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوسا وقال السدي الفردوس أصله بالنبطية فرداسا وقال عبدالله بن الحارث الفردوس الأعناب وقد شرحنا معنى قوله نزلا آنفا
قوله تعالى لا يبغون عنها حولا قال الزجاج لا يريدون عنها تحولا (5/200)
يقال قد حال من مكانه حولا كما قالوا في المصادر صغر صغرا وعظم عظما وعادني حبها عودا قال وقد قيل أيضا إن الحول الحيلة فيكون المعنى لايحتالون منزلا غيرها
فان قيل قد علم أن الجنة كثيرة الخير فما وجه مدحها بأنهم لايبغون عنها حولا
فالجواب أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه فيحب أن ينتقل إلى دار أخرى وقد يمل والجنة على خلاف ذلك قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
قوله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي سببب نزولها أنه لما مزل قوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الاسراء 85 قالت اليهود كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس ومعنى الآية لو كان ماء البحر مدادا يكتب به قال مجاهد والمعنى لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب قال ابن الأنباري سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء وقرأ الحسن والأعمش مددا لكلمات ربي بغير ألف
قوله تعالى قبل أن تنفد كلمات ربي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم تنفد بالتاء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ينفد بالياء قال ابو علي التأنيث أحسن لأن المسند اليه الفعل مؤنث والتذكير حسن لأن التأنيث ليس بحقيقي وإنما لم تنفد كلمات الله لأن كلامه صفة من صفات (5/201)
ذاته ولا يتطرق على صفاته النفاد ولو جئنا بمثله أي بمثل البحر مددا أي زيادة والمدد كل شيء زاد في شيء
فان قيل لم قال في أول الآية مدادا وفي آخرها مددا وكلاهما بمعنى واحد واشتقاقهما غير مختلف
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال لما كان الثاني آخر آية وأواخر الايات هاهنا أتت على الفعل والفعل كقوله نزلا هزوا حولا كان قوله مددا أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد واتفاق المقاطع عند أواخر الآي وانقضاء الأبيات وتمام السجع والنثر أخف على الألسن وأحلى موقعا في الأسماع فاختلفت اللفظتان لهذه العلة وقد قرا ابن عباس وسعيد ابن جبير ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وابن محيصن ولو جئنا بمثله مدادا فحملوها على الأولى ولم ينظروا الى المقاطع وقراءة الأولين أبين حجة وأوضح منهاجا
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي انما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم قال ابن عباس علم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي
قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه سبب نزولها أن جندب بن زهير الغامدي قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم إني أعمل العمل لله تعالى فاذا طلع عليه (5/202)
سرني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ماروئي فيه فنزلت فيه هذه الآية قاله ابن عباس وقال طاووس جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية وقال مجاهد جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني أتصدق وأصل الرحم ولا اصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية
وفي قوله فمن كان يرجو قولان أحدهما يخاف قاله ابن قتيبة والثاني يأمل وهو اختيار الزجاج وقال ابن الأنباري المعنى فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه قال المفسرون وذلك يوم البعث والجزاء فليعمل عملا صالحا لا يرائي به ولا يشرك بعبادة ربه أحداص قال سعيد ابن جبير لا يرائي قال معاوية بن أبي سفيان هذه آخر آية نزلت من القرآن (5/203)
سورة مريم
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف علمناه وقال مقاتل هي مكية غير سجدتها فانها مدنية وقال هبة الله المفسر هي مكية غير آيتين منها قوله فخلف من بعدهم خلف والتي تليها مريم 60
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا
قوله تعالى كهيعص قرأ ابن كثير كهيعص ذكر بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء صاد وقرأ ابو عمرو كهيعص بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال وكان نافع بالهاء يلفظ والياء بين الكسر والفتح ولا يدغم الدال التي في هجاء صاد في الذال من ذكر وقرأ ابو بكر عن عاصم والكسائي بكسر الهاء والياء إلا أن الكسائي لا يبين الدال وعاصم (5/204)
يبينها وقرأ ابن عامر وحمزة بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان وقرأ أبي بن كعب كهيعص برفع الهاء وفتح الياء وقد ذكرنا في أول البقرة ما يشتمل على بيان هذا الجنس وقد خص المفسرون هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال
أحدها أنها حروف من أسماء الله تعالى قاله الأكثرون ثم أختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو على أربعة أقوال أحدها أنه من اسم الله الكبير والثاني من الكريم والثالث من الكافي روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس والرابع أنه من الملك قاله محمد بن كعب فأما الهاء فكلهم قالوا هي من اسمه الهادي إلا القرظي فانه قال من اسمه الله وأما الياء ففيها ثلاثة أقوال أحدها أنها من حكيم والثاني من رحيم والثالث من أمين روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس فأما العين ففيها أربعة أقوال أحدها أنها من حكيم والثاني من رحيم والثالث من أمين روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس فأما العين ففيها أربعة أقوال أحدها أنها من عليم والثاني من عالم والثالث من عزيز رواها أيضا سعيد بن جبير عن ابن عباس والرابع أنها من عدل قاله الضحاك وأما الصاد ففيها ثلاثة أقوال أحدها أنها من صادق والثاني من صدوق رواهما سعيد بن جبير أيضا عن ابن عباس والثالث من الصمد قاله محمد بن كعب
والقول الثاني ان كهيعص قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وروي عن علي عليه السلام أنه قال هو اسم من اسماء الله تعالى وروي عنه أنه كان يقول يا كهيعص اغفر لي قال الزجاج والقسم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها فكأنه قال يا كافي (5/205)
يا هادي يا عالم يا صادق وإذا أقسم بها فكأنه قال والكافي الهادي العالم الصادق واسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهج النية فيها الوقف
والثالث أنه اسم للسورة قاله الحسن ومجاهد
والرابع اسم من اسماء القرآن قاله قتادة
فان قيل لم قالوا هايا ولم يقولوا في الكاف كا وفي العين عا وفي الصاد صا لتتفق المباني كما اتفقت العلل
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم فيغيرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغير المباني فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الاسماع
قوله تعالى ذكر رحمة ربك قال الزجاج الذكر مرفوع بالمضمر المعنى هذا الذي نتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده قال الفراء وفي الكلام تقديم وتأخير المعنى ذكر ربك عبده بالرحمة وزكريا في موضع نصب
قوله تعالى إذ نادى ربه النداء هاهنا بمعنى الدعاء
وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال
أحدها ليبعد عن الرياء قاله ابن جريج
والثاني لئلا يقول الناس انظروا الى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر قاله مقاتل
والثالث لئلا يعاديه بنو عمه ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده ذكره (5/206)
أبو سليمان الدمشقي وهذه القصة تدل على أن المستحب إسرار الدعاء ومنه الحديث إنكم لا تدعون أصم
قوله تعالى قال رب إني وهن العظم مني وقرأ معاذ القارئ والضحاك وهن بضم الهاء أي ضعف قال الفراء وغيره وهن العظم ووهن بفتح الهاء وكسرها والمستقبل على الحالين كليهما يهن وأراد أن قوة عظامه قد ذهبت لكبره وإنما خص العظم لأنه الأصل في التركيب وقال قتادة شكا ذهاب أضراسه
قوله تعالى واشتعل الراس شيبا يعني انتشر الشيب فيه كما ينتشر شعاع النار في الحطب وهذا من أحسن الاستعارات ولم أكن بدعائك أي بدعائي إياك رب شقيا أي لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب لأنك قد عودتني الإجابة يقال شقي فلان بكذا إذا تعب بسببه ولم ينل مراده
قوله تعالى وإني خفت الموالي يعني الذين يلونه في النسب وهم بنو العم والعصبة من ورائي أي من بعد موتي
وفي ما خافهم عليه قولان
أحدهما أنه خاف أن يرثوه قاله ابن عباس (5/207)
فان اعترض عليه معترض فقال كيف يجوز لنبي أن ينفس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته
فعنه جوابان أحدهما أنه لما كان نبيا والنبي لا يورث خاف أن يرثوا ماله فيأخذوا مالا يجوز لهم والثاني أنه غلب عليه طبع البشر فأحب أن يتولى ماله ولده ذكرهما ابن الأنباري
قلت وبيان هذا أنه لا بد أن يتولى ماله و إن ولم يكن ميراثا فأحب أن يتولاه ولده
والقول الثاني أنه خاف تضييعهم للدين ونبذهم إياه ذكره جماعة من المفسرين
وقرأ عثمان وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمرو وابن جبير ومجاهد وابن أبي شريح عن الكسائي خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى قلت فعلى هذا يكون إنما خاف على علمه ونبوته ألا يورثا فيموت العلم وأسكن ابن شهاب الزهري ياء الموالي
قوله تعالى من ورائي أسكن الجمهور أسكن الجهور هذه الياء وفتحها ابن كثير في رواية قنبل وروى عنه شبل وراي مثل عصاي
قوله تعالى فهب لي من لدنك أي من عندك وليا أي ولدا صالحا يتولاني
قوله تعالى يرثني ويرث من آل يعقوب قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة يرثني ويرث برفعهما وقرا ابو عمرو والكسائي يرثني ويرث بالجزم فيهما قال أبو عبيدة من قرأ بالرفع (5/208)
فهو على الصفة للولي فالمعنى هب لي وليا وارثا ومن جزم فعلى الشرط والجزاء كقولك ان وهبته إن وهبته لي ورثني
وفي المراد بهذا الميرث أربعة اقوال
أحدها يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال ابو صالح
والثاني يرثي العلم ويرث من آل يعقوب الملك فأجابه الله تعالى إلى وراثة العلم دون الملك وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
والثالث يرثني نبوتي وعلمي ويرث من آل يعقوب النبوة أيضا قاله الحسن
والرابع يرثني النبوة ويرث من آل يعقوب الأخلاق قاله عطاء قال مجاهد كان زكريا من ذرية يعقوب وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف وقال مقاتل هو يعقوب بن ماثان وكان يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوين
والصحيح أنه لم يرد ميراث المال لوجوه
أحدها أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة (5/209)
والثاني أنه لا يجوز أن يتاسف نبي الله على مصير ماله بعد موته إذا وصل إلى ورائه المستحق له شرعا
والثالث أنه لم يكن ذا مال وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن زكريا كان نجارا
قوله تعالى واجعله رب رضيا قال اللغويون أي مرضيا فصرف عن مفعول إلى فعيل كما قالوا مقتول وقتيل
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امراتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا فخرج علي قومه من المحراب فأوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا
قوله تعالى يا زكريا إنا نبشرك في الكلام إضمار تقديره فاستجاب الله له فقال يا زكريا إنا نبشرك وقرأ حمزة نبشرك بالتخفيف وقد شرحنا هذا في آل عمران 39
قوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا فيه ثلاثة أقوال
أحدها لم يسم يحيى قبله رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة وابن زيد والأكثرون
فان اعترض معترض فقال ما وجه المدحة باسم لم يسم به احد قبله (5/210)
ونرى كثيرا من الأسماء لم يسبق اليها فالجواب أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولى تسميته ولم يكل ذلك إلى أبويه فسماه باسم لم يسبق اليه
والثاني لم تلد العواقر مثله ولدا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فعلى هذا يكون المعمنى لم نجعل له نظيرا
والثالث لم نجعل له من قبل مثلا وشبها قاله مجاهد فعلى هذا يكون عدم الشبه من حيث أنه لم يعيص ولم يهم بمعصية وما بعد هذا مفسر في آل عمران 39 إلى قوله وكانت امرأتي عاقرا
وفي معنى كانت قولان
أحدهما انه توكيد للكلام فالمعنى وهي عاقر كقوله كنتم خير أمة آل عمران 110 أي أنتم
والثاني أنها كانت منذ كانت عاقرا لم يحدث ذلك بها ذكرهما ابن الأنباري واختار الأول
قوله تعالى وقد بلغت من الكبر عتيا قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وابو بكر عن عاصم عتيا وبكيا مريم 58 وصليا مريم 70 بضم أوائلها وقرأ حمزة والكسائي بكسر أوائلها وافقهما حفص عن عاصم إلا في قوله بكيا فانه ضم أوله وقرأ ابن عباس ومجاهد عسيا بالسين قال مجاهد عتيا هو قحول العظم وقال ابن قتيبة أي يبسا يقال عتا وعسا بمعنى واحد قال الزجاج كل شيء انتهى فقد عتا يعتوعتيا وعتوا وعسوا وعسيا
قوله تعالى قال كذلك أي الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكبر قال ربك هو علي هين أي خلق يحيى علي سهل (5/211)
وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري هين باسكان الياء وقد خلقتك من قبل أي أوجدتك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر خلقتك وقرأ حمزة والكسائي خلقناك بالنون والألف ولم تك شيئا المعنى فخلق الولد كخلقك وما بعد هذا مفسر في آل عمران 39 الى قوله ثلاث ليال سويا قال الزجاج سويا منصوب على الحال والمعنى تمنع عن الكلام وأنت سوي قال ابن قتيبة أي سليما غير أخرس
قوله تعالى فخرج على قومه وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها أمرأته من المحراب أي من مصلاه وقد ذكرناه في آل عمران 39
قوله تعالى فأوحى إليهم فيه قولان
أحدهما أنه كتب اليهم في كتاب قاله ابن عباس
والثاني أومأ برأسه ويديه قاله مجاهد
قوله تعالى أن سبحوا أي صلوا بكرة وعشيا قد شرحناه في آل عمران 39 والمعنى أنه كان يخرج الى قومه فيأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة إشارة
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكوة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا
قوله تعالى يا يحيى قال الزجاج المعنى فوهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب يعني التوراة وكان مأمورا بالتمسك بها وقال ابن الأنباري (5/212)
المعنى اقبل كتب الله كلها ايمانا بها واستعمالا لأحكامها وقد شرحنا في البقرة 63 معنى قوله بقوة
قوله تعالى وآتيناه الحكم فيه أربعة أقوال
أحدها أنه الفهم قاله مجاهد والثاني اللب قاله الحسن وعكرمة والثالث العلم قاله ابن السائب والرابع حفظ التوراة وعلمها قاله ابو سليمان الدمشقي وقد زدنا هذا شرحا في سورة يوسف 23 وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا
فأما قوله صبيا ففي سنه يوم أوتي الحكم قولان
أحدهما أنه سبع سنين رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني ثلاث سنين قاله قتادة ومقاتل
قوله تعالى وحنانا من لدنا قال الزجاج أي وآتيناه حنانا وقال ابن الأنباري المعنى وجعلناه حنانا لأهل زمانه
وفي الحنان ستة أقوال
احدها أنه الرحمة رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والفراء وأبو عبيدة وأنشد ... تحنن علي هداك المليك ... فان لكل مقام مقالا (5/213)
قال وعامة ما يستعمل في المنطق على لفظ الاثنين قال طرفة ... أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض ...
قال ابن قتيبة ومنه يقال تحنن علي وأصله من حنين الناقة على ولدها وقال ابن الأنباري لم يختلف اللغويون أن الحنان الرحمة والمعنى فعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له والثاني أنه التعطف من ربه عليه قاله مجاهد والثالث أنه اللين قاله سعيد بن جبير والرابع البركة وروي عن ابن جبير أيضا والخامس المحبة قاله عكرمة وابن زيد والسادس التعظيم قاله عطاء بن أبي رباح
وفي قوله وزكاة أربعة أقوال
أحدها أنها العمل الصالح قاله الضحاك وقتادة
والثاني أن معنى الزكاة الصدقة فالتقدير إن الله تعالى جعله صدقة تصدق بها على أبويه قاله اب السائب
والثالث أن الزكاة التطهير قاله الزجاج
والرابع أن الزكاة الزيادة فالمعنى وآتيناه زيادة في الخير على ما وصف وذكر قاله ابن الأنباري
قوله تعالى وكان تقيا قال ابن عباس جعلته يتقيني لا يعدل بي غيري
قوله تعالى وبرا بوالديه أي وجعلناه برا بوالديه والبر بمعنى (5/214)
البار والمعنى لطيفا بهما محسنا اليهما والعصي بمعنى العاصي وقد شرحنا معنى الجبار في هود 59
قوله تعالى وسلام عليه فيه قولان
أحدهما أنه السلام المعروف من الله تعالى قال عطاء سلام عليه مني في هذه الأيام وهذا اختيار أبي سليمان
والثاني أنه بمعنى السلامة قاله ابن السائب
فان قيل كيف خص التسليم عليه بالأيام وقد يجوز ان يولد ليلا ويموت ليلا
فالجواب أن المراد باليوم الحين والوقت على ما بينا في قوله اليوم أكملت لكم دينكم المائدة
قال ابن عباس وسلام عليه حين ولد وقال الحسن البصري التقى يحيى وعيسى فقال يحيى لعيسى انت خير مني فقال عيسى ليحيى بل أنت خير مني سلم الله عليك وانا سلمت على نفسي وقال سعيد بن جبير مثله إلا أنه قال اثنى الله عليك وأنا أثنيت على نفسي وقال سفيان بن عيينه أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة
واذكر في الكتاب مريم إذ نتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى (5/215)
يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا
قوله تعالى واذكر في الكتاب يعني القرآن مريم إذ انتبذت قال أبو عبيدة تنحت واعتزلت مكانا شرقيا مما يلي المشرق وهو عند العرب خير من الغربي
قوله تعالى فاتخذت من دونهم يعني أهلها حجابا أي سترا وحاجزا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها ضربت شترا قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني ان الشمس أظلتها فلم يرها أحد منهم وذلك مما سترها الله به وروي هذا المعنى عن ابن عباس ايضا
والثالث أنها اتخذت حجابا من الجدران قاله السدي عن أشياخه
وفي سبب انفرادها عنهم قولان
أحدهما أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط قاله ابن عباس
والثاني لتفلي رأسها قاله عطاء
قوله تعالى فأرسلنا اليها روحنا وهو جبريل في قول الجمهور وقال ابن الأنباري صاحب روحنا وهو جبريل والروح بمعنى الروح والفرح ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم وابطال طريق المصدر ويجوز أن يراد بالروح هاهنا الوحي وجبريل صاحب الوحي
وفي وقت مجيئه اليها ثلاثة أقوال (5/216)
أحدها وهي تغتسل والثاني بعد فراغها ولبسها الثياب والثالث بعد دخولها بيتها وقد قيل المراد بالروح هاهنا الروح الذي خلق منه عيسى حكاه الزجاج والماوردي وهو مضمون كلام أبي بن كعب فيما سنذكره عند قوله فحملته قال ابن الأنباري وفيه بعد لقوله فتمثل لها بشرا سويا والمعنى تصور لها في صورة البشر التام الخلقة وقال ابن عباس جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طر شاربه وقرأ ابو نهيك فأرسلنا اليها روحنا بفتح الراء من الروح
قوله تعالى قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا المعنى إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك هذا هو القول عند المحققين وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي وكان فاجرا فظنته إياه ذكره ابن الأنباري والماوردي وفي قراءة علي عليه السلام وابن مسعود وابي رجاء إلا أن تكون تقيا
قوله تعالى قال إنما أنا رسول ربك أي فلا تخافي ليهب لك قرا ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي لأهب لك بالهمز وقرأ ابو عمرو وورش عن نافع ليهب لك بغير همز قال الزجاج من قرأ ليهب فالمعنى أرسلني ليهب ومن قرأ لأهب فالمعنى أرسلت اليك لأهب لك وقال ابن الأنباري المعنى أرسلني يقول لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك
قوله تعالى غلاما زكيا أي طاهرا من الذنوب والبغي الفاجرة الزانية قال ابن الانباري وإنما لم يقل بغية لأنه وصف يغلب على النساء فقلما تقول العرب رجل بغي فيجري مجرى حائض وعاقر وقال غيره (5/217)
إنما لم يقل بغية لأنه مصروف عن وجهه فهو فعيل بمعنى فاعل ومعنى الآية ليس لي زوج ولست بزانية وإنما يكون الولد من هاتين الجهتين قال كذلك قال ربك قد شرحناه في قصة زكريا والمعنى أنه يسير علي أن أهب لك غلاما من غير أب ولنجعله آية للناس أي دلالة على قدرتنا كونه من غير أب قال ابن الأنباري إنما دخلت الواو في قوله ولنجعله لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف تقديره قال ربك خلقه علي هين لننفعك به ولنجعله عبرة
قوله تعالى ورحمة منا أي لمن تبعه وآمن به وكان أمرا مقضيا أي وكان خلقه أمرا محكوما به مفروغا عنه سابقا في علم الله تعالى كونه
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض الى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينان فاما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا
قوله تعالى فحملته يعني عيسى
وفي كيفية حملها له قولان
أحدهما أن جبريل نفخ في جيب درعها فاستمر بها حملها رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال السدي نفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها
والثاني الذي خاطبها هو الذي حملته ودخل من فيها قاله ابي بن كعب (5/218)
وفي مقدار حملها سبعة أقوال
أحدها انها حين حملت وضعت قاله ابن عباس والمعنى أنه ما طال حملها وليس المراد أنها وضعته في الحال لأن الله تعالى يقول فحملته فانتبذت به وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتا يحتمل الانتباذ به
والثاني أنها حملته تسع ساعات ووضعت من يومها قاله الحسن
والثالث تسعة أشهر قاله سعيد بن جير وابن السائب
والرابع ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة قاله مقاتل بن سليمان
والخامس ثمانية أشهر فعاش ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر فكان في هذا آية حكاه الزجاج
والسادس في ستة اشهر حكاه الماوردي
والسابع في ساعة واحدة حكاه الثعلبي
قوله تعالى فانتبذت به يعني بالحمل مكانا قصيا أي بعيدا وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة قاصيا قال ابن اسحاق مشت ستة أميال قال الفراء القصي والقاصي بمعنى واحد وقال غير الفراء القصي والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد وإنما بعدت فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج
قوله تعالى فأجاءها المخاض وقرأ عكرمة وابراهيم النخعي وعاصم الجحدري المخاص بكسر الميم قال الفراء المعنى فجاء بها المخاص فلما القيت الباء جعلت في الفعل ألفا ومثله آتنا غداءنا الكهف 63 أي (5/219)
بغدائنا ومثله آتوني زبر الحديد الكهف 96 أي بزبر الحديد قال ابو عبيدة أفعلها من جاءت هي وأجاءها غيرها وقال ابن قتيبة المعنى جاء بها وألجأها وهو من حيث يقال جاءت بي الحاجة اليك وأجاءتني الحاجة اليك والمخاض الحمل وقال غيره المخاض وجع الولادة الى جذع النخلة وهو ساق النخلة وكانت نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا سعف قالت يا ليتني مت قبل هذا اليوم أو هذا الأمر وقرأ نافع وحمزة والكسائي وخلف وحفص مت بكسر الميم
وفي سبب قولها هذا قولان
أحدهما أنها قالته حياء من الناس والثاني لئلا يأثموا بقذفها
قوله تعالى وكنت نسيا منسيا قرا ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر النون وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نسيا بفتح النون قال الفراء وأصحاب عبدالله يقرؤون نسيا بفتح النون وسائرالعرب بكسرها وهما لغتان مثل الجسر والجسر والوتر والوتر والفتح أحب الي قال ابو علي الفارسي الكسر على اللغتين وقال ابن الأنباري من كسر النون قال النسي اسم لما ينسى بمنزلة البغض اسم لما يبغض والسب اسم لما يسب والنسي بفتح النون اسم لما ينسى أيضا على أنه مصدر ناب عن الاسم كما يقال الرجل دنف ودنف فالمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر سد مسد الوصف ويمكن أن يكون النسي والنسي اسمين لمعنى كما يقال الرطل والرطل
وللمفسرين في قوله تعالى نسيا منسيا خمسة أقوال (5/220)
أحدها يا ليتني لما أكن شيئا قاله الضحاك عن ابن عباس وبه قال عطاء وابن زيد
والثاني وكنت نسيا منسيا أي دم حيضة ملقاة قاله مجهد وسعيد ابن جبير وعكرمة قال الفراء النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها وقال ابن الأنباري هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها
والثالث أنه من السقط قاله ابو العالية والربيع
والرابع أن المعنى يا ليتني لا يدري من أنا قاله قتادة
والخامس أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم فيهون عليهم فلا يرجعون اليه قاله ابن السائب وقال ابو عبيدة النسي والمنسي ما ينسى من إدارة وعصا يعني أنه ينسى في المنزل فلا يرجع اليه لاحتقار صاحبه اياه وقال الكسائي معنى الآية ليتني كنت ما إذا ذكر لم يطلب
قوله تعالى فناداها من تحتها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وابو بكر عن عاصم من تحتها بفتح الميم والتاء قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من تحتها بكسر الميم والتاء فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان أحدهما ناداها الملك من تحت النخلة وقيل كانت على نشز فناداها الملك أسفل منها والثاني ناداها عيسى لما خرج من بطنها قال ابن عباس كل مارفعت اليه طرفك فهو فوقك وكل ما خفضت اليه طرفك فهو تحتك ومن قأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران وكان الفراء يقول ما خاطبها الا الملك على القراءتين جميعا
قوله تعالى قد جعل ربك تحتك سريا فيه قولان (5/221)
أحدهما أنه النهر الصغير قاله جمهور المفسرين واللغويون قال ابو صالح وابن جريج هو الجدول بالسريانية
والثاني انه عيسى كان سريا من الرجال قاله الحسن وعكرمة وابن زيد قال ابن الانباري وقد رجع الحسن عن هذا القول الى القول الأول ولو كان وصفا لعيسى كان غلاما سريا أو سويا من الغلمان وقلما تقول العرب رأيت عندك نبيلا حتى يقولوا رجلا نبيلا
فان قيل كيف ناسب تسليتها أن قيل لا تحزني فهذا نهر يجري
فالجواب من وجهين احدهما انها حزت لجدب مكانها الذي ولدت فيه وعدم الطعام والشراب والماء الذي تتطهر به فقيل لا تحزني قد أجرينا لك نهرا وأطلعنا لك رطبا قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها حزنت لما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج فأجرى الله تعالى لها نهرا فجاءها من الاردن واخرج لها الرطب من الشجرة اليابسة فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إيجاد عيسى قاله مقاتل
قوله تعالى وهزي اليك الهز التحريك
والباء في قوله تعالى بجذع النخلة فيها قولان
أحدهما انها زائدة مؤكدة كقوله تعالى فليمدد بسبب الى السماء الحج 15 قال الفراء معناه فليمدد سببا والعرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وتعلق زيدا وتعلق به وقال ابو عبيدة هي مؤكدة كقول الشاعر ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (5/222)
والثاني أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهز فهي مفيدة للالصاق قاله ابن الأنباري
قوله تعالى تساقط قرا ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر والسكائي وابو بكر عن عاصم تساقط بالتاء مشددة السين وقرأ حمزة وعبد الوارث تساقط بالتاء مفتوحة مخففة السين وقرأ حفص عن عاصم تساقط بضم التاء وكسر القاف مخففة السين وقرأ يعقوب وابو زيد عن المفضل يساقط بالياء مفتوجة وتشديد السين وفتح القاف فهذه القراآت المشاهير وقرأ ابي بن كعب وأبو حيوة تسقط بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف وقرأ عبدالله بن عمرو وعائشة والحسن يسقاط بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف وقرأ الضحاك عمرو بن دينار يسقط برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني مثله إلا أنه بالتاء وقرا معاذ القارىء وابن يعمر مثله إلا أنه بالنون وقرأ ابو زرين العقيلي وابن ابي عبلة يسقط بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف وقرأ ابو السماك العدوي وابن حزام تتساقط بتاءين مفتوحين وبألف وقال الزجاج من قرأ يساقط فالمعنى يتساقط فأدغمت التاء في السين ومن قرأ تساقط بالتاء والتخفيف فانه حذف من تتساقط اجتماع يؤنث ومن قرأ تساقط بالتاء والتخفيف فانه حذف من تتساقط اجتماع التاءين ومن قرأ تساقط بالتاء والخفيف فانه حذف من تتساقط اجتماع التاءين ومن قرأ يساقط ذهب إلى معنى يساقط الجذع عليك ومن قرأ نساقط بالنون فالمعنى نحن نساقط عليك فنجعله لك آية والنحويون يقولون (5/223)
إن رطبا منصوب على التمييز إذا قلت يساقط او يتساقط المعنى يتساقط الجزع رطبا وإذا قلت تساقط بالتاء فالمعنى تتساقط النخلة رطبا
قوله تعالى جنيا قال الفراء الجني المجتنى وقال ابن الأنباري هو الطري والأصل مجنو صرف من مفعول الى فعيل كما يقال قديد وطبيخ وقال غيره هو الطري بغباره ولم يكن لتلك النخلة راس فأنبته الله تعالى فلما وضعت يدها عليها سقط الرطب رطبا وكان السلف يستحبون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام
قوله تعالى فكلي أي من الرطب واشربي من النهر وقري عينا بولادة عيسى عليه السلام قال الزجاج يقال قررت به عينا أقر بفتح القاف في المستقبل وقررت في المكان أقر بكسر القاف وعينا منصوب على التمييز وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال معنى وقري عينا ولتبرد دمعتك لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة واشتقاق قري من القرور وهو الماء البارد وقال لنا أحمد بن يحيى تفسير قري عينا بلغت غاية أملك حتى تقر عينك من الاستشراف إلى غيره واحتج بقول عمرو بن كلثوم ... بيوم كريهة ضربا وطعنا ... أقر به مواليك العيونا ...
أي ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم فقرت عينهم من تطلع الى غيره
قوله تعالى فاما ترين وقرأ ابن عباس وأبو مجلز وابن السميفع والضحاك وأبو العالية وعاصم الجحدري ترئن بهمزة مكسورة من غير ياء أي إن رأيت من البشر أحدا فقولي وفيه إضمار تقديره فسألك عن أمر ولدك فقولي إني نذرت للرحمن صوما فيه قولان (5/224)
أحدهما صمتا قاله ابن عباس وأنس بن مالك والضحاك وكذلك قرأ أبي بن كعب وأنس بن مالك وأبو رزين العقيلي صمتا مكان قوله صوما وقرأ ابن عباس صياما
والثاني صوما عن الطعام والشراب والكلام قاله قتادة وقال ابن زيد كان المجتهد من بني اسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام الا من ذكر الله عز و جل قال السدي فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت قال ابن مسعود أمرت بالصمت لأنها لم تكن لها حجة عند الناس فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها مما يبرئ بها ساحتها فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها مما يبرئ به ساحتها وقيل كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس قال ابن الأنباري الصوم في لغة العرب على أربعة معان يقال يوم لترك الطعام والشراب وصوم للصمت صوم لضرب من الشجر وصوم لذرق النعام
واختلف العلماء في مقدار سن مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال
أحدها أنها ولدت وهي بنت خمس عشرة سنة قاله وهب بن منبه
والثاني بنت اثنتي عشرة سنة قاله زيد بن أسلم
والثالث بنت ثلاث عشرة سنة قاله مقاتل
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبدالله آتني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني (5/225)
مباركا أين ما كنت وأوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
قوله تعالى فأتت به قومها تحمله قال ابن عباس في رواية أبي صالح أتتهم به بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها وقال في رواية الضحاك انطلق قومها يطلبونها فلما رأتهم حملت عيسى فتلقتهم به فذلك قوله تعالى فأتت به قومها تحمله
فان قيل أتت به يغني عن تحمله فلا فائدة للتكرير
فالجواب أنه لما ظهرت منه آيات جاز أن يتوهم السامع فأتت به أن يكون ساعيا على قدميه فيكون سعية آية كنطقه فقطع ذلك التوهم وأعلم أنه كسائر الأطفال وهذا مثل قول العرب نظرت إلى فلان بعيني فنفوا بذلك نظر العطف والرحمة وأثبتوا أنه نظر عين وقال ابن السائب لم دخلت على قومها بكوا وكانوا قوما صالحين وقالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها شيئا عظيما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال الفراء الفري العظيم والعرب تقول تركته يفري الفري إذا عمل فأجاد العمل ففضل الناس قيل هذا فيه قال النبي صلى الله عليه و سلم فما رأيت عبقريا يفري فري عمر
والثاني عجبا فائقا قاله أبو عبيدة
والثالث شيئا مصنوعا ومنه يقال فريت الكذب وافتريته قاله اليزيدي (5/226)
قوله تعالى يا أخت هارون في المراد بهارون هذا خمسة أقوال
أحدها أنه أخ لها من أمها وكان من أمثل فتى في بني اسرائيل قاله أبو صالح عن ابن عباس و قال الضحاك كان من ابيها وامها
والثاني انها كانت من بني هارون قاله الضحاك عن ابن عباس وقال السدي كانت من بني هارون أخي موسىعليهما السلام فنسبت اليه لأنها من ولده
والثالث أنه رجل صالح كان في بني اسرائيل فشبهوها به في الصلاح وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وقتادة ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم الى أهل نجران فقالوا ألستم تقرؤون يا أخت هارون وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى فلم أدر ما أجيبهم فرجعت الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم
والرابع أن قوم هارون كان فيهم فساق وزناه فنسبوها اليهم قاله سعيد بن جبير
والخامس أنه رجل من فساق بني اسرائيل شبهوها به قاله وهب بن منبه (5/227)
فعلى هذا يخرج في معنى الأخت قولان
أحدهما أنها الأخت حقيقة والثاني المشابهة لا المناسبة كقوله تعالى وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها الزخرف 48
قوله تعالى ما كان أبوك يعنون عمران امرأ سوء أي زانيا وما كانت أمك حنة بغيا أي زانية فمن أين لك هذا الولد
قوله تعالى فأشارت أي أومأت إليه أي إلى عيسى فتكلم وقيل المعنى أشارت إليه أن كلموه وكان عيسى قد كلمها حين أتت قومها وقال يا أماه أبشري فاني عبدالله ومسيحه فلما أشارت أن كلموه تعجبوا من ذلك وقالوا كيف نكلم من كان وفيها أربعة أقوال
أحدها أنها زائدة فالمعنى كيف نكلم صبيا في المهد
والثاني أنها في معنى وقع وحدث
والثالث أنها في معنى الشرط والجزاء فالمعنى من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه حكاها الزجاج واختار الأخير منها قال ابن الأنباري وهذا كما تقول كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي أي من يكن لا يقبل والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء
والرابع أن كان بمعنى صار قاله قطرب
وفي المراد بالمهد قولان أحدهما حجرها قاله نوف وقتادة والكلبي والثاني سرير الصبي المعروف حكاه الكلبي أيضا
قاله السدي فلما سمع عيسى كلامهم لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه فقال إني عبدالله قال المفسرون إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية (5/228)
وفي قوله آتاني الكتاب أسكن هذه الياء حمزة وفي معنى الآية قولان
أحدهما أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه قاله أبو صالح عن ابن عباس وقيل علم التوراة والإنجيل وهو في بطن امه
والثاني قضى أن يؤيتني الكتاب قاله عكرمة
وفي الكتاب قولان أحدهما أنه التوراة والثاني الأنجيل
قوله تعالى وجعلني نبيا هذا وما بعده اخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون قيل المعنى يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت فحل الماضي محل المستقبل كقوله تعالى وإذ قال الله يا عيسى المائدة 116 وفي وقت تكليمه لهم قولان
أحدهما أنه كلمهم بعد أربعين يوما والثاني في يومه وهو مبني على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم
قوله تعالى وجعلني مباركا أينما كنت روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الآية قال نفاعا حيثما توجهت وقال مجاهد معلما للخير
وفي المراد بالزكاة قولان
أحدهما زكاة الأموال قاله ابن السائب والثاني الطهارة قاله الزجاج (5/229)
قوله تعالى وبرا بوالدتي قال ابن عباس لما قال هذا ولم يقل بوالدي علموا أنه ولد من غير بشر
قوله تعالى ولم يجعلني جبارا أي متعظما شقيا عاصيا لربه والسلام علي يوم ولدت قال المفسرون السلامة علي من الله يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان وقد سبق تفسير الآية مريم 15
فان قيل لم ذكر هاهنا السلام بألف ولام وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام فعنه جوابان
أحدهما أنه لما جرى ذكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام كان الأحسن أن يرد ثانية بألف ولام هذا قول الزجاج
وقد اعترض على هذا القول فقيل كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى على الأول وهو قول الله عز و جل
وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال عيسى إنما يتعلم من ربه فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى فبنى عليه وألصقه بنفسه ويجوز أن يكون الله عز و جل عرف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره وأجراه عليه غير قاصد به اتباع اللفظ المحكي لأن المتكلم له أن يغير بعض الكلام الذي يحكيه فيقول قال عبدالله أنا رجل منصف يريد قال لي عبد الله أنت رجل منصف
والجواب الثاني أن سلاما والسلام لغتان بمعنى واحد ذكره ابن الأنباري (5/230)
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
قوله تعالى ذلك عيسى بن مريم قال الزجاج أي ذلك الذي قال إني عبدالله هو ابن مريم لا ما تقول النصارى إنه ابن الله وإنه إله
قوله تعالى قول الحق قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي قول الحق برفع اللام وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب بنصب اللام قال الزجاج من رفع قول الحق فالمعنى هو قول الحق يعني هذا الكلام ومن نصب فالمعنى أقول قول الحق وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين
أحدهما أنه لما وصف بالكلمة جاز أن ينعت بالقول
والثاني أن في الكلام إضمارا تقديره ذلك نبأ عيسى ذلك النبأ قول الحق
قوله تعالى الذي فيه يمترون أي يشكون قال قتاة امترت اليهود فيه والنصارى فزعم اليهود أنه ساحر وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة قرأ أبو مجلز ومعاذ القارئ وابن يعمر وأبو رجاء تمترون بالتاء
قوله تعالى ما كان لله أن يتخذ من ولد قال الزجاج المعنى أن يتخذ ولدا ومن مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة لأن للقائل أن يقول ما اتخذت فرسا يريد أتخذت أكثر من ذلك وله أن يقول (5/231)
ما اتخذت فرسين ولا أكثر يريد اتخذت فرسا واحدا فاذا قال ما اتخذت من فرس فقد دل على نفي الواحد والجميع
قوله تعالى كن فيكون وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة فيكون بالنصب وقد ذكرنا وجهه في البقرة 117
قوله تعالى وإن الله ربي وربكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأن الله بنصب الألف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وإن الله بكسر الألف وهذا من قول عيسى فمن فتح عطفه على قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي ومن كسر ففيه وجهان
أحدهما أن يكون معطوفا على قوله إني عبدالله
والثاني أن يكون مستأنفا
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر بوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون
قوله تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم قال المفسرون من زائدة والمعنى اختلفوا بينهم وقال ابن الأنباري لما تمسك المؤمنون بالحق كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصورا عليهم
وفي الأحزاب قولان
أحدهما أنهم اليهود والنصارى فكانت اليهود تقول إنه لغير رشدة والنصارى تدعي فيه ما لا يليق به (5/232)
والثاني أنهم فرق النصارى قال بعضهم هو الله وقال بعضهم ابن الله وقال بعضهم ثالث ثلاثة
قوله تعالى فويل للذين كفروا بقولهم في المسيح من مشهد يوم عظيم أي من حضورهم ذلك اليوم للجزاء
قوله تعالى أسمع بهم وأبصر فيه قولان
أحدهما أن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر فالمعنى ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه الى نظر وفكر فعلموا الهدى وأطاعوا هذا قول الأكثرين
والثاني أسمع بحديثهم اليوم وأبصر كيف يصنع بهم يوم يأتوننا قاله أبو العالية
قوله تعالى لكن الظالمون يعني المشركين والكفار اليوم يعني في الدنيا في ضلال مبين
قوله تعالى وانذرهم أي خوف كفار مكة يوم الحسرة يعني يوم القيامة يتحسر المسيء إذ لم يحسن والمقصر إذ لم يزدد من الخير
وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قيل يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون وقيل يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم هل تعرفون هذا (5/233)
فيقولون هذا الموت فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون
قال المفسرون فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنة ولو مات أحد حزنا مات اهل النار
ومن موجبات الحسرة ما روى عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يؤتى يوم القيامة بناس الى الجنة حتى اذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا الى قصورها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا قال ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني تركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب
ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال ليس من نفس يوم القيامة الا وهي تنظر الى بيت في الجنة وبيت في النار ثم يقال يعني لهؤلاء لو عملتم ولأهل الجنة لولا أن من الله عليكم (5/234)
ومن موجبات الحسرة قطع الرجاء عند اطباق النار على أهلها
قوله تعالى إذ قضي الأمر قال ابن الأنباري قضي في اللغة بمعنى أتقن وأحكم وإنما سمي الحاكم قاضيا لإتقانه وإحكامه ما ينفذ وفي الآية اختصار والمعنى إذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم
وللمفسرين في الأمر قولان
أحدهما انه ذبح الموت قاله ابن جريج والسدي والثاني أن المعنى قضي العذاب لهم قاله مقاتل
قوله تعالى وهم في غفلة أي هم في الدنيا في غفلة عما يصنع بهم ذلك اليوم وهم لا يؤمنون بما يكون في الآخرة
قوله تعالى إنا نحن نرث الارض أي نميت سكانها فنرثها ومن عليها وإلينا يرجعون بعد الموت
فان قيل ما الفائدة في نحن وقد كفت عنها إنا
فالجواب أنه لما جاز في قول المعظم إنا نفعل أن يوهم أن أتباعه قعلوا أبانت نحن بأن الفعل مضاف اليه حقيقة
فان قيل فلم قال ومن عليها وهو يرث الآدميين وغيرهم
فالجواب أن من تختص أهل التمييز وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري
واذكر في الكتاب ابراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (5/235)
يا أبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك وأهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا
قوله تعالى واذكر في الكتاب ابراهيم أي اذكر لقومك قصته وقد سبق معنى الصديق في النساء 69
قوله تعالى ولا يغني عنك شيئا أي لا يدفع عنك ضرا
قوله تعالى إني قد جاءني من العلم بالله والمعرفة مالم يأتك
قوله تعالى لا تعبد الشيطان أي لا تطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي وقد شرحنا معنى كان آنفا وعصيا اي عاصيا فهو فعيل بمعنى فاعل
قوله تعالى إني أخاف ان يمسك عذاب من الرحمن قال مقاتل في الآخرة وقال غيره في الدنيا فتكون للشيطان وليا أي قرينا في عذاب الله فجرت المقارنة مجرى الموالاة وقيل إنما طمع ابراهيم في إيمان ابيه لأنه (5/236)
حين خرج من النار قال له نعم الإله إلهك يا إبراهيم فحينئذ أقبل يعظه فأجابه أبوه أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي أتارك عبادتها انت لئن لم تنته عن عيبها وشتمها لأرجمنك وفيه قولان
أحدهما بالشتم والقول قاله ابن عباس ومجاهد
والثاني بالحجارة حتى تتباعد عني قاله الحسن
قوله تعالى واهجرني مليا فيه قولان
أحدهما اهجرني طويلا رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس وبه قال الحسن والفراء والأكثرون قال ابن قتيبة اهجرني حينا طويلا ومنه يقال تمليت حبيبك
والثاني أجتنبني سالما قبل أن تصيبك عقوبتي رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة والضحاك فعلى هذا يكون من قولهم فلام ملي بكذا وكذا إذا كان مضطلعا به فالمعنى اهجرني وعرضك وافر وأنت سليم من أذاي قاله ابن جرير
قوله تعالى قال سلام عليك أي سلمت من أن أصيبك بمكروه وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره سأستغفر لك ربي فيه قولان
أحدهما أن المعنى سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته
والثاني أنه وعده الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حق المصرين على الكفر ذكرهما ابن الأنباري
قوله تعالى إنه كان بي حفيا فيه ثلاثة أقوال (5/237)
أحدها لطيفا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال ابن زيد والزجاج
والثاني رحيما رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث بارا عودني منه الإجابة إذا دعوته قاله ابن قتيبة
قوله تعالى وأعتزلكم أي وأتنحى عنكم وأعتزل ما تدعون من دون الله يعني الأصنام
وفي معنى تدعون قولان
أحدهما تعبدون
والثاني أن المعنى وما تدعونه ربا وأدعو ربي أي وأعبده عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا أي أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم فلما اعتزلهم قال المفسرون هاجر عنهم الى ارض الشام فوهب الله له اسحاق ويعقوب فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولاد كرام قال أبو سليمان وإنما وهب له اسحاق ويعقوب بعد اسماعيل
قوله تعالى وكلا أي وكلا من هذين وقال مقاتل وكلا يعني ابراهيم واسحاق ويعقوب جعلناه نبيا
قوله تعالى ووهبنا لهم من رحمتنا قال المفسرون المال والولد والعلم والعمل وجعلنا لهم لسان صدق عليا قال ابن قتيبة أي ذكرا حسنا في الناس مرتفعا فجميع أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم فوضع اللسان مكان القول لأن القول يكون باللسان (5/238)
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا
قوله تعالى إنه كان مخلصا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والمفضل عن عاصم مخلصا بكسر اللام وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح اللام قال الزجاج المخلص بكسر اللام الذي وحد الله وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسه والمخلص بفتح اللام الذي أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس
قوله تعالى وكان رسولا قال ابن الأنباري إنما أعاد كان لتفخيم شأن النبي المذكور
قوله تعالى وناديناه من جانب الطور أي من ناحية الطور وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير قال ابن الأنباري إنما خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم ومن كلامهم عن يمين القبلة وشمالها يعنون مما يلي يمين المستقبل لها وشماله فنقلوا الوصف الى ذلك اتساعا عند انكشاف المعنى لأن الوادي لا يد له فيكون له يمين وقال المفسرون جاء النداء عن يمين موسى فلهذا قال الأيمن ولم يرد به يمين الجبل
قوله تعالى وقربناه نجيا قال ابن الأنباري معناه مناجيا فعبر (5/239)
فعيل عن مفاعل كما قالوا فلان خليطي وعشيري يعنون مخالطي ومعاشري وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله وقربناه قال حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح
قوله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أي من نعمتنا عليه إذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيرا له
واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا
قوله تعالى إنه كان صادق الوعد هذا عام فيما بينه وبين الله وفيما بينه وبين الناس وقال مجاهد لم يعد ربه بوعد قط الا وفي له به
فان قيل كيف خص بصدق الوعد اسماعيل وليس في الأنبياء من ليس كذلك
فالجواب أن إسماعيل عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء فأثني عليه بذلك وذكر المفسرون أنه كان بينه وبين رجل ميعاد فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال
أحدها انه أقام حولا قاله ابن عباس والثاني اثنين وعشرين يوما قاله الرقاشي والثالث ثلاثة أيام قاله مقاتل
قوله تعالى وكان رسولا الى قومه وهم جرهم وكان يأمر أهله قال مقاتل يعني قومه وقال الزجاج أهله جميع أمته فأما الصلاة والزكاة فهما العبادتان المعروفتان (5/240)
قوله تعالى ورفعناه مكانا عليا فيه أربعة أقوال
أحدها أنه في السماء الرابعة روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث المعراج أنه رأى إدريس في السماء الرابعة وبهذا قال أبو سعيد الخدري ومجاهد وأبو العالية
والثاني انه في السماء السادسة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثالث أنه في الجنة قاله زيد بن أسلم وهذا يرجع إلى الأول لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة
والرابع أنه في السماء السابعة حكاه أبو سليمان الدمشقي
وفي سبب صعوده الى السماء ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان يصعد له من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم فأحبه ملك الموت فاستأذن الله في خلته فأذن له فهبط اليه في صورة آدمي (5/241)
وكان يصحبه فلما عرفه قال إني أسألك حاجة قال ما هي قال تذيقني الموت فلعلي أعلم ما شدته فأكون له أشد استعدادا فأوحى الله إليه أن اقبض روحة ساعة ثم أرسله ففعل ثم قال كيف رأيت قال كان أشد مما بلغني عنه وإني أحب أن تريني النار قال فحمله فأراه إياها قال إني أحب أن تريني الجنة فأراه إياها فلما دخلها طاف فيها قال له ملك الموت اخرج فقال والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يخرجني فبعث الله ملكا فحكم بينهما فقال ما تقول يا ملك الموت فقص عليه ما جرى فقال ما تقول يا إدريس قال إن الله تعالى قال كل نفس ذائقة الموت آل عمران 185 وقد ذقته وقال وإن منكم إلا واردها مريم 71 وقد وردتها وقال لأهل الجنة وما هم منها بمخرجين الحجر 48 فوالله لا أخرج حتى يكون الله يخرجني فسمع هاتفا من فوقه يقول باذني دخل وبأمري فعل فخل سبيله هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم
فان سأل سائل فقال من أين لإدريس هذه الآيات وهي في كتابنا فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء قال كان الله تعالى قد أعلم إدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود وامتناع الخروج من الجنة وغير ذلك فقال ما قاله بعلم
والثاني أن ملكا من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إلى إدريس فأذن له فلما عرفه إدريس قال هل بينك وبين ملك الموت قرابة قال ذاك اخي من الملائكة قال هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت قال سأكلمه فيك (5/242)
فيرفق بك اركب ببن جناحي فركب إدريس فصعد به الى السماء فلقي ملك الموت فقال إن لي إليك حاجة قال أعلم ما حاجتك تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أجله الا نصف طرفة عين فمات إدريس بين جناحي الملك رواه عكرمة عن ابن عباس وقال أبو صالح عن ابن عباس فقبض ملك الموت روح ادريس في السماء السادسة
والثالث أن ادريس مشى يوما في الشمس فأصباه وهجها فقال اللهم خفف ثقلها عمن يحملها يعني به الملك الموكل بالشمس فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فسأل الله عز و جل عن ذلك فقال إن عبدي إدريس سألني أن اخفف عنك حملها وحرها فأجبته فقال يا رب أجمع بيني وبينه وأجعل بيننا خلة فأذن له فأتاه فكان مما قال له إدريس اشفع لي الى ملك الموت ليؤخر أجلي فقال إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ولكن أكلمه فيك فما كان مستطيعا أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك ثم حمله الملك على جناحه فرفعه الى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال إن لي إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله قال ليس ذاك إلي ولكن إن أحببت أعلمته متى يموت فنظر في ديوانه فقال إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا ولا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس فقال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فما أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شيء فرجع الملك فرآه ميتا وهذا المعنى مروي عن الله عباس وكعب في آخرين فهذا القول والذي قبله يدلان على أنه ميت والقول الأول يدل على انه حي (5/243)
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح من ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وما نتنزل الا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
قوله تعالى أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة من ذرية آدم يعني إدريس وممن حملنا مع نوح يعني ابراهيم لأنه من ولد سام بن نوح ومن ذرية إبراهيم يريد اسماعيل واسحاق ويعقوب واسرائيل يعني ومن ذرية اسرائيل وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى
قوله تعالى وممن هدينا أي هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واجتبينا أى واصطفينا
قوله تعالى خروا سجدا قال الزجاج سجدا حال مقدرة المعنى خروا مقدرين السجود لأن الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا (5/244)
ف سجدا منصوب على الحال وهو جمع ساجد وبكيا معطوف عليه وهو جمع باك فقد بين الله تعالى أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا من خشية الله
قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف قد شرحناه في الأعراف 169 وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني اليهود والنصارى قاله السدي والثالث أنهم من هذه الأمة يأتون عند ذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه و سلم يتبارون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زناة قاله مجاهد وقتادة
قوله تعالى أضاعوا الصلاة وقرأ ابن مسعود وأبو رزين العقيلي والحسن البصري الصلوات على الجمع
وفي المراد باضاعتهم إياها قولان
أحدهما أنهم أخروها عن وقتها قاله ابن مسعود والنخعي وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن مخيمرة
والثاني تركوها قاله الفرظشي واختاره الزجاج
قوله تعالى واتبعوا الشهوات قال أبو سليمان الدمشقى وذلك مثل استماع الغناء وشرب الخمر والزنا واللهو وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز و جل
قوله تعالى فسوف يلقون غيا ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية وإنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية (5/245)
وفي المراد بهذا الغي ستة اقوال
أحدها أنه واد في جهنم روراه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال كعب والثاني أنه نهر في جهنم قاله ابن مسعود والثالث أنه الخسران رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والرابع أنه العذاب قاله مجاهد والخامس أنه الشر قاله ابن زيد وابن السائب والسادس أن المعنى فسوف يلقون مجازاة الغي كقوله يلق أثاما الفرقان 68 أي مجازاة الآثام قاله الزجاج
قوله تعالى إلا من تاب وآمن فيه قولان
أحدهما تاب من الشرك وآمن بمحمد صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل
والثاني تاب من التقصير في الصلاة وآمن من اليهود والنصارى
قوله تعالى جنات عدن وقرأ أبو رزين العقيلي والضحاك وابن يعمر وابن أبي عبلة جنات برفع التاء وقرأ الحسن البصري والشعبي وابن السميفع جنة عدن على التوحيد مع رفع التاء وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل الناجي جنة عدن على التوحيد مع نصب التاء وقوله التي وعد الرحمن عبادة بالغيب أي وعدهم بها ولم يروها فهي غائبة عنهم
قوله تعالى إنه كان وعده مأتيا فيه قولان
أحدهما آتيا قال ابن قتيبة وهو مفعول في معنى فاعل وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به وقال الفراء إنما لم يقل آتيا لأن (5/246)
كل ما أتاك فأنت تأتيه ألا ترى أنك تقول أتيت على خمسين سنة وأتت على خمسون سنة
والثاني مبلوغا اليه قاله ابن الأنباري وقال ابن جريج وعده هاهنا موعوده وهو الجنة ومأتيا يأتيه أولياؤه
قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا فيه قولان
أحدهما أنه التخالف عند شرب الخمر قاله مقاتل
والثاني ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه قاله الزجاج وقال ابن الأنباري اللغو في العربية الفاسد المطرح
قوله تعالى إلا سلاما قال أبو عبيدة السلام ليس من اللغو والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه وذلك أنها تضمر فيه فالمعنى إلا أنها يسمعون فيها سلاما وقال ابن الأنباري استثنى السلام من غير جنسه وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود لأنهم إذا لم يسمعوا من اللغوا إلا السلام فليس يسمعون لغوا البتة وكذلك قوله فانهم عدو لي إلا رب العالمين الشعراء 77 إذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين فكلهم عدو
وفي معنى هذا السلام قولان
أحدهما أنه تسليم الملائكة عليهم قاله مقاتل
والثاني أنهم لا يسمعون الا ما يسلمهم ولا يسمعون ما يؤثمهم قاله الزجاج
قوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا قال المفسرون ليس في الجنة بكرة ولا عشية ولكنهم يؤتون برزقهم على مقدار ما كانوا يعرفون في الغداة والعشي قال الحسن كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء فذكر الله لهم ذلك وقال قتادة كانت العرب إذا أصاب أحدهم (5/247)
الغداء والعشاء أعجب به فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت وليس ثم ليل ولا نهار وانما هو ضوء ونور وروى الوليد ابن مسلم قال سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى بكرة وعشيا فقال ليس في الجنة ليل ولا نهار هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بارخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب
قوله تعالى تلك الجنة الإشارة إلى قوله فأولئك يدخلون الجنة
قوله تعالى نورث وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن والشعبي وقتادة وابن أبي عبلة بفتح الواو وتشديد الراء قال المفسرون ومعنى نورث نعطي المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا للمؤمنين ويجوز أن يكون معنى نورث نعطي فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك متسأنف وقد شرحنا هذا في الأعراف 43
قوله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك وقرأ ابن السميفع وابن يعمر وما يتنزل بياء مفتوحة
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (5/248)
والثاني أن الملك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتاه فقال لعلي أبطأت قال قد فعلت قال وما لي لا أفعل وأنتم لا تتسوكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم فنزلت الآية قاله مجاهد قال ابن الأنباري البراجم عند العرب الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع تبدو إذا جمعت وتغمض إذا بسطت والرواجب ما بين البراجم بين كل برجمتين راجبة
والثالث أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه و سلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر ما يجيبهم ورجا ان يأتيه جبريل بجواب فأبطأ عليه فشق على رسول الله صلى الله عليه و سلم مشقة شديدة فلما نزل جبريل قال له أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت اليك فقال جبريل إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية قاله عكرمة وقتادة والضحاك
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قولان
أحدهما لامتناع أصحابه من كمال النظافة كما ذكرنا في حديث مجاهد
والثاني لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله وقد سبق هذا في سورة الكهف 24
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة اقوال
أحدها خمسة عشر يوما وقد ذكرناه في الكهف عن ابن عباس والثاني أربعون يوما قاله عكرمة ومقاتل والثالث اثنتا عشرة ليلة قاله مجاهد والرابع ثلاثة ايام حكاه مقاتل والخامس خمسة وعشرون يوما (5/249)
حكاه الثعلبي وقيل إن سورة الضحى نزلت في هذا السبب والمفسرون على أن قوله وما نتنزل الا بأمر ربك قول جبريل وحكى الماوردي أنه قول أهل الجنة إذا دخلوها فالمعنى ما ننزل هذ الجنان الا بأمر الله وقيل ما ننزل موضعا من الجنة إلا بأمر الله
وفي قوله ما بين أيدينا وما خلفنا قولان
أحدهما ما بين أيدينا الآخرة وما خلفنا الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل
والثاني ما بين أيدينا ما مضى من الدنيا وما خلفنا من الآخرة فهو عكس الاول قاله مجهد وقال الأخفش ما بين أيدينا قبل ان نخلق وما خلفتا بعد الفناء
وفي قوله تعالى وما بين ذلك ثلاثة اقوال
أحدها ما بين الدنيا والآخرة قاله سعيد بن جبير
والثاني ما بين النفختين قاله مجاهد وعكرمة وأبو العالية
والثالث حين كوننا قاله الأخفش قال ابن الأنباري وإنما وحد ذلك والإشارة الى شيئين أحدهما ما بين أيدينا والثاني ما خلفتا لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع
قوله تعالى وما كان ربك نسيا النسي بمعنى الناسي
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما ما كان تاركا لك منذ أبطأ الوحي عنك قاله ابن عباس قال مقاتل ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك (5/250)
والثاني أنه عالم بما كان ويكون لا ينسى شيئا قاله الزجاج
قوله تعالى فاعبده أي وحده لأن عبادته بالشرك ليست عبادة واصطبر لعبادته أي اصبر على توحيده وقيل على أمره ونهيه
قوله تعالى هل تعلم له سميا روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يدغم هل تعلم ووجهه أن سيبويه يجيز إدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء لأن آخر مخرج من اللام وقريب من مخارجهن قال أبو عبيدة إذا كان بعد هل تاء ففيه لغتان بعضهم يبين لام هل وبعضهم يدغمها
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها مثلا وشبها رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة
والثاني هل تعلم أحدا يسمى الله غيره رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له خالق وقادر الا هو قاله الزجاج
ويقول الإنسان إذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة ايهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
قوله تعالى ويقول الإنسان سبب نزولها ان ابي بن خلف أخذ عظما (5/251)
باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وروى عطاء عن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة
قوله تعالى لسوف أخرج حيا إن قيل ظاهره ظاهر سؤال فأين جوابه فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري
أحدها أن ظاهر الكلام استفهام ومعناه معنى جحد وإنكار تلخيصه لست مبعوثا بعد الموت
والثني أنه لما استفهم بهذا الكلام عن البعث أجابه الله عز و جل بقوله أولا يذكر الإنسان فهو مشتمل على معنى نعم وأنت مبعوث
والثالث أن جواب سؤال هذا الكافر في يس 78 عند قوله تعالى وضرب لنا مثلا ولا ينكر بعد الجواب لأن القرآن كله بمنزلة الرسالة الواحدة والسورتان مكيتان
قوله تعالى أولا يذكر الإنسان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الذال مشددة الكاف وقرأ نافع وعاصم وابن عامر يذكر ساكنة الذال خفيفة وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل الناجي أولا يتذكر الإنسان بياء وتاء وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن يذكر بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف والمعنى أولا يتذكر هذا الجاحد أول خلقه فيستدل بالابتداء على الإعادة فوربك لنحشرنهم يعني المكذبين بالبعث والشياطين أي مع الشياطين وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة ثم لنحصرنهم (5/252)
حول جهنم قال مقاتل أي في جهنم وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخله تقول جلس القوم حول البيت إذا جلسوا داخله مطيفين به وقيل يجثون حولها قبل أن يدخلوها
فأما قوله جثيا فقال الزجاج هو جمع جاث مثل قاعد وقعود وهو منصوب على الحال والاصل ضم الجيم وجاء كسرها اتباعا لكسرة الثاء
وللمفسرين في معناه خمسة أقوال
أحدها قعودا رواه العوفي عن ابن عباس والثاني جماعات جماعات روي عن ابن عباس أيضا فعلى هذا هو جمع جثوة وهي المجموع من التراب والحجارة والثالث جثيا على الركب قاله الحسن ومجاهد والزجاج والرابع قياما قاله أبو مالك والخامس قياما على ركبهم قاله السدي وذلك لضيق المكان بهم
قوله تعالى لننزعن من كل شيعة أي لنأخذن من كل فرقة وأمة وأهل دين أيهم أشد على الرحمن عتيا أي أعظمهم له معصية والمعنى أنه يبدأ بتعذيب الأعتى فالأع وبالأكابر جرما والرؤوس القادة في الشر قال الزجاج وفي رفع أيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنه على الاستئناف ولم تعمل لننزعن شيئا هذا قول يونس
والثاني أنه على معنى الذي يقال لهم أيهم أشد على الرحمن عتيا قاله الخليل واختاره الزجاج وقال التأويل لننزعن الذي من أجل عتوة يقال أي هؤلاء أشد عتيا وأنشد (5/253)
ولقد أبيت عن الفتاة بمنزل ... فأبيت لاحرج ولا محروم ...
المعنى أبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم
والثالث أن أيهم مبنية على الضم لأنه خالفت أخواتها فالمعنى أيهم هو أفضل وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول اضرب أيهم أفضل ولا يحسن اضرب من أفضل حتى تقول من هو أفضل ولا يحسن كل ما أطيب حتى تقول ما هو أطيب ولا خذ ما أفضل حتى تقول الذي هو أفضل فلما خالفت ما و من و الذي بنيت على الضم قاله سيبويه
قوله تعالى هم أولى بها صليا يعني أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا فيبتدأ بهم قبل أتباعهم وصليا منصوب على التفسير يقال صلي النار يصلاها إذا دخلها وقاسى حرها
قوله تعالى وإن منكم إلا واردها في الكلام إضمار تقديره وما منكم أحد إلا وهو واردها
وفيمن عني بهذا الخطاب قولان
أحدهما أنه عام في حق المؤمن والكافر هذا قول الأكثرين وروي عن ابن عباس أنه قال هذه الآية للكفار وأكثر الروايات عنه كالقول الأول قال ابن الأنباري ووجه هذا أنه لما قال لنحضرنهم وقال أيهم أشد (5/254)
على الرحمن عتيا كان التقدير وإن منهم فأبدلت الكاف من الهاء كما فعل في قوله إن هذا كان لكم جزاء الانسان 22 المعنى كان لهم لأنه مردود على قوله وسقاهم ربهم الانسان 21 وقال الشاعر ... شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنة مخرم ...
أراد طلابها وفي هذا الورود خمسة أقوال
أحدها أنه الدخول روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على ابراهيم حتى إن للنار أو قال لجهنم ضجيجا من بردهم وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية فقال له أما أنا وأنت فسندخلها فانظر أيخرجنا الله عز و جل منها أم لا فاحتج بقوله تعالى فأوردهم النار هود 98 وبقوله تعالى أنتم لها واردون الانبياء 98 وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول أنبئت أني وارد ولم أنبأ أني صادر وحكى الحسن البصري أن رجلا قال لأخيه يا أخي هل أتاك أنك وارد النار قال نعم قال فهل أتاك أنك خارج منها قال لا قال ففيم الضحك وقال خالد بن معدان إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم بلى ولكن مررتم بها وهي خامدة
وممن ذهب الى انه الدخول الحسن في رواية وأبو مالك (5/255)
وقد اعترض على أرباب هذا القول بأشياء فقال الزجاج العرب تقول وردت بلد كذا ووردت ماء كذا إذا أشرفوا عليه وإن لم يدخلوا ومنه قوله تعالى ولما ورد ماء مدين القصص 33 والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها الأنبياء 101102 وقال زهير ... فلما وردن الماء زرقا جمامة ... وضعن عصي الحاضر المتخيم ...
أي لما بلغن الماء قمن عليه
قلت وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج فقال أما الآية الأولى فان موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل وأما الآية الأخرى فانها تضمنت الأخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها وحينئذ لا يسمعون حسيسها وقد روينا آنفا عن خالد بن معدان أنهم يمرون بها ولا يعلمون
والثاني أن الورود الممر عليها قاله عبد الله بن مسعود وقتادة وقال ابن مسعود يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرحل ثم كمشية
والثالث أو ورودها حضورها قاله عبيد بن عمير
والرابع أو ورود المسلمين المرور على الجسر وورود المشركين دخولها قاله ابن زيد (5/256)
والخامس أن ورود المؤمن إليها ما يصيبه من الحمى في الدنيا روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ وإن منكم إلا واردها فعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها
قوله تعالى كان على ربك يعني الورود حتما والحتم ايجاب القضاء والقطع بالأمر والمقضي الذي قضاه الله تعالى والمعنى إنه حتم ذلك وقضاه على الخلق
قوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا وقرأ ابن عباس وأبو مجلز وابن يعمر وابن أبي ليلى وعاصم الجحدري ثم بفتح الثاء وقرأ الكسائي ويعقوب ننجي مخففة وقرأت عائشة وأبو بحرية وأبو الجوزاء الربعي ثم ينجي بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة وقرأ أبي بن كعب وأبو مجلز وابن السميفع وأبو رجاء ننحي بحاء غير معجمة مشددة وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق لأن النجاة تخليص الواقع في الشيء ويؤكده قوله تعالى ونذر الظالمين فيها ولم يقل وندخلهم وإنما يقال نذر ونترك لمن قد حصل في مكانه ومن قال إن الورود للكفار خاصة قال معنى هذا الكلام نخرج المتقين من جملة من يدخل النار والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك وبالظالمين الكفار وقد سبق معنى قوله تعالى جثيا مريم 68
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا
قوله تعالى وإذا تتلى عليهم يعني المشركين آياتنا يعني القرآن (5/257)
قال الذين كفرا يعني المشركي قريش للذين آمنوا أي لفقراء المؤمنين أي الفريقين خير مقاما قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر وحفص عن عاصم مقاما بفتح الميم وقرأ ابن كثير بضم الميم قال أبو علي الفارسي المقام اسم المثوى إن فتحت الميم أو ضمت
قوله تعالى وأحسن نديا والندي والنادي مجلس القوم ومجتمعهم وقال الفراء الندي والنادي لغتان ومعنى الكلام أنحن خير أم أنتم فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس فأجابهم الله تعالى فقال وكم أهلكنا قبلهم من قرن وقد بينا معنى القرن في الأنعام 6 وشرحنا الاثاث في النحل 80
فأما قوله تعالى ورئيا فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي ورئيا بهمزة بين الراء والياء في وزن رعيا قال الزجاج ومعناها منظرا من رأيت
وقرأ نافع وابن عامر ريا بياء مشددة من غير همز قال الزجاج لها تفسيران أحدهما أنها بمعنى الأولى والثاني أنها من الري فالمعنى منظرهم مرتو من النعمة كأن النعيم بين فيهم
وقرأ ابن عباس وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن أبي سريج عن الكسائي زيا بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز قال الزجاج ومعناها حسن هيئتهم
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين أمتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (5/258)
قوله تعالى قل من كان في الضلالة أي في الكفر والعمى عن التوحيد فليمدد له الرحمن قال الزجاج وهذا لفظ أمر ومعناه الخبر والمعنى أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها قال ابن الأنباري خاطب الله العرب بلسانها وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر يقول أحدهم إن زارنا عبد الله فلنكرمه يقصد التوكيد وينبه على أني ألزم نفسي إكرامه ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى قل يا محمد من كان في الضلالة فاللهم مد له في النعم مدا قال المفسرون ومعنى مد الله تعالى له إمهاله في الغي حتى إذا رأوا يعني الذين مدهم في الضلالة وإنما اخبر عن الجماعة لأن لفظ من يصلح للجماعة ثم ذكر ما يوعدون فقال إما العذاب يعني القتل والأسر وإما الساعة يعني القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار فسيعلمون من هو شر مكانا في الآخرة أهم أم المؤمنون لأن مكان هؤلاء الجنة ومكان هؤلاء النار ويعلمون بالنصر والقتل من أضعف جندا جندهم أم جند رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا رد عليهم في قولهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا
قوله تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى فيه خمسة أقوال
أحدها ويزيد الله الذين أمتدوا بالتوحيد إيمانا والثاني يزبدهم بصيرة في دينهم والثالث يزيدهم بزيادة الوحي إيمانا فكلما نزلت سورة زاد إيمانهم والرابع يزيدهم إيمانا بالناسخ والمنسوخ والخامس يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ قال الزجاج المعنى إن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقينا كما جعل جزاء الكافر أن يمده في ضلالته
قوله تعالى والباقيات الصالحات قد ذكرناها في سورة الكهف 46 (5/259)
قوله تعالى وخير مردا المرد هاهنا مصدر مثل الرد والمعنى وخير ردا للثواب على عامليها فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا
قوله تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا في سبب نزولها قولان
أحدهما ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مسروق عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا أي حدادا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته الأصح أنقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا والله لا أكفر بمحمد ص - حتى تموت ثم تبعث قال فاني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك فنزلت فيه هذه الآية إلى قوله تعالى فردا
والثاني أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وهذا مروي عن الحسن والمفسرون على الأول
قوله تعالى لأوتين مالا وولدا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو وقال الفراء وهما لغتان كالعدم والعدم وليس يجمع وقيس تجعل الولد جمعا والولد بفتح الواو واحدا
وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد فيه قولان أحدهما أنه أراد في الجنة على زعمكم والثاني في الدنيا قال ابن الأنباري وتقدير الآية أرأيته مصيبا (5/260)
قوله تعالى أطلع الغيب قال ابن عباس في رواية أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا وقال في رواية أخرى أنظر في اللوح المحفوظ
قوله تعالى أم أتخذ عند الرحمن عهدا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها قاله ابن عباس والثاني أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه قاله قتادة والثالث أم عهد اليه أنه يدخله الجنة قاله ابن السائب
قوله تعالى كلا أي ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد ويجوز أن يكون معنى كلا أي إنه لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الله عهدا سنكتب ما يقول أي سنأمر الحفظة باثبات قوله عليه لنجازيه به ونمد له من العذاب مدا أي نجعل بعض العذاب على إثر بعض وقرأ أبو العالية الرياحي وأبو رجاء العطاردي سيكتب ويرثه بياء مفتوحة
قوله تعالى ونرثه ما يقول فيه قولان
أحدهما نرثه ما يقول انه له في الجنة فنجعله لغيره من المسلمين قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره الفراء
والثاني نرث ما عنده من المال والولد باهلاكنا إياه وإبطال ملكه وهو مروي عن ابن عباس ايضا وبه قال قتادة قال الزجاج المعنى سنسلبه المال والولد ونجعله لغيره
قوله تعالى ويأتينا فردا أي بلا مال ولا ولد
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا الم تر أنا أرسلنا (5/261)
الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا
قوله تعالى واتخذوا من دون الله آلهة يعني المشركين عابدي الأصنام ليكونوا لهم عزا قال الفراء ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة
قوله تعالى كلا أي ليس الأمر كما قدروا سيكفرون يعني الأصنام بجحد عبادة المشركين كقوله تعالى ما كانوا إيانا يعبدون القصص 63 لأنها كانت جمادا لا تعقل العبادة ويكونون يعني الاصنام عليهم يعني المشركين ضدا أي أعوانا عليهم في القيامة يكذبونهم ويلعنونهم
قوله تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين قال الزجاج في معنى هذا الإرسال وجهان
أحدهما خلينا بين الشياطين وبين الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم
والثاني وهو المختار سلطانهم عليهم وقيضناهم لهم بكفرهم تؤزهم أزا أي تزعجهم ازعاجا حتى يركبوا المعاصي وقال الفراء تزعجهم الى المعاصي وتغريهم بها قال ابن فارس يقال أزه على كذا إذا أغراه به وأزت القدر غلت
قوله تعالى فلا تعجل عليهم أي لا تعجل بطلب عذابهم وزعم بعضهم أن هذا منسوخ آية بآية السيف وليس بصحيح إنما نعد لهم عدا في هذا المعدود ثلاثة أقوال
أحدها أنه أنفاسم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال طاووس ومقاتل (5/262)
والثاني الأيام والليالي والشهور والسنون والساعات رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنها أعمالهم قاله قطرب
يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين الى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
قوله تعالى يوم نحشر المتقين قال بعضهم هذا متعلق بقوله ويكونون عليهم ضدا يوم نحشر المتقين وقال بعضهم تقديره اذكر لهم يوم نحشر المتقين وهم الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معصيته وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني يوم يحشر بياء مفتوحة ورفع الشين ويسوق بياء مفتوحة ورفع السين وقرأ ابي بن كعب والحسن البصري ومعاذ القارىء وأبو المتوكل الناجي يوم يحشر بياء مرفوعة وفتح الشين المتقون رفعا ويساق بألف وياء مرفوعة المجرمون بالواو على الرفع والوفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب قال ابن عباس وعكرمة والفراء الوفد الركبان قال ابن الأنباري الركبان عند العرب ركاب الإبل
وفي زمان هذا الحشر قولان
أحدهما أنه من قبورهم الى الرحمن قاله علي بن أبي طالب
والثاني أنه بعد الحساب قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ونسوق المجرمين يعني الكافرين الى جهنم وردا قال (5/263)
ابن عباس وأبو هريرة والحسن عطاشا قال ابو عبيدة الورد مصدر الورود وقال ابن قتيبة الورد جماعة يردون الماء يعني أنهم عطاش لأنه لا يرد الماء الا العطشان وقال ابن الأنباري معنى قوله وردا واردين
قوله تعالى لا يملكون الشفاعة أي لا يشفعون ولا يشفع لهم
قوله تعالى إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا قال الزجاج جائز أن يكون من في مومضع رفع على البدل من الواو والنون فيكون المعنى لا يملك الشفاعة الا من اتخذ عن الرحمن عهدا وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناء ليس من الأول فالمعنى لا يملك الشفاعة المجرمون ثم قال إلا على معنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا فانه يملك الشفاعة والعهد هاهنا توحيد الله والإيمان به وقال ابن الأنباري تفسير العهد في اللغة تقدمة أمر يعلم ويحفظ من قولك عهدت فلانا في المكان أي عرفته وشهدته
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصهم وعدهم عدا وكلهم آتية يوم القيمة فردا
قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا يعني اليهود والنصارى ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله لقد جئتم شيئا إدا أي شيئا عظيما من الكفر قال أبو عبيدة الإد والنكر الأمر المتناهي العظم
قوله تعالى تكاد السموات والأرض يتفطرن قرا ابن كثير وأبو عمرو (5/264)
وابن عامر وحمزة وابو بكر عن عاصم تكاد بالتاء وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء وقرءا جميعا يتفطرن بالياء والتاء مشددة الطاء وافقهما ابن كثير وحفص عن عاصم في يتفطرن وقرأ ابو عمرو وابو بكر عن عاصم ينفطرن بالنون وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل ابي عمرو وفي عسق 5 مثل أبن كثير ومعنى يتفطرن منه يقاربن الانشقاق من قولكم قال ابن قتيبة وقوله تعالى هدا أي سقوطا
قوله تعالى أن دعوا قال الفراء من أن دعوا ولأن دعوا وقال ابو عبيدة معناه ان جعلوا وليس هو من دعاء الصوت وأنشد ... ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب ... تجده بغيب غير منتصح الصدر ...
قوله تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا أي ما يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد لأن الولد يقتضي مجانسة وكل متخذ ولدا يتخذه من جنسه والله تعالى منزه عن أن يجانس شيئا أو يجانسه فمحال في حقه اتخاذ الولد إن كل أي ما كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن يوم القيامة عبدا ذليلا خاضعا والمعنى أن عيسى وعزيرا والملائكة عبيد له قال القاضي ابو يعلى وفي هذا دلالة على أن الوالد إذا اشترى ولده لم يبق ملكه عليه وإنما يعتق بنفس الشراء لأن الله تعالى نفى البنوة لأجل العبودية فدل على أنه لا يجتمع بنوة ورق
قوله تعالى لقد أحصاهم أي علم عددهم وعدهم عدا فلا يخفى (5/265)
عليه مبلغ جميعهم من كثرتهم وكلهم آتية يوم القيامة فردا بلا مال ولا نصير يمنعه
فان قيل لاية علة وحد في الرحمن و آتية وجمع في العائد في أحصاهم وعدهم
فالجواب أن لكل لفظ توحيد وتأويل جمع فالتوحيد محمول على اللفظ والجمع مصروف الى التأويل
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا
قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا قال ابن عباس نزلت في علي عليه السلام وقال معناه يحببهم ويجبهم الى المؤمنين قال قتادة يجعل لهم ودا في قلوب المؤمنين ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أحب الله عبدا قال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبوه فينادي جبريل في السموات إن الله يحب فلانا فأحبوه فيلقى حبه على أهل الأرض فيحب وذكر في البغض مثل ذلك وقال هرم بن حيان ما اقبل عبد بقلبه الى (5/266)
الله عز و جل إلا أقبل الله عز و جل بقلوب أهل الإيمان اليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم
قوله تعالى فانما يسرناه بلسانك يعني القرآن قال ابن قتيبة أي سهلناه وأنزلناه بلغتك واللد جمع ألد وهو الخصم الجدل
قوله تعالى وكم أهلكنا قبلهم هذا تخويف لكفار مكة هل تحس منهم من أحد قال الزجاج أي هل ترى يقال هل أحسست صاحبك أي هل رأيته والركز الصوت الخفي وقال ابن قتيبة الصوت الذي لا يفهم وقال ابو صالح حركة والله تعالى أعلم (5/267)
سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فانه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى
وهي مكية كلها باجماعهم وفي سبب نزول طه ثلاث أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرواح بين قدمية يقوم على رجل حتى نزلت هذه الآية قاله علي عليه السلام
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل عليه القرآن صلى هو وأصحابه فأطال القيام فقالت قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فنزلت هذه الآية قاله الضحاك (5/268)
والثالث أن أبا جهل والنضر بن الحارث والمطعم بن عدي قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
وفي طه قراءات قرأ ابن كثير وأبن عامر طه بفتح الطاء والهاء وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الطاء والهاء وقرأ نافع طه بين الفتح والكسر وهو إلى الفتح أقرب كذلك قال خلف عن المسيبي وقرأ ابو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وروى عنه عباس مثل حمزة وقرأ ابن مسعود وأبو رزين العقيلي وسعيد بن المسيب وابو العالية بكسر الطاء وفتح الهاء وقرأ الحسن طه بفتح الطاء وسكون الهاء وقرأ الضحاك ومورق طه بكسر الطاء وسكون الهاء
واختلفوا في معناها على أربعة أقوال
أحدها أن معناها يا رجل رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة واختلف هؤلاء باي لغة هي على أربعة أقوال أحدها بالنبطية رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير في رواية والضحاك والثاني بلسان عك رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث بالسريانية قاله عكرمة في رواية وسعيد بن جبير في رواية وقتادة والرابع بالحبشية قاله عكرمة في رواية قال ابن الأنباري ولغة قريش وافقت هذه اللغة في المعنى
والثاني أنها حروف من أسماء ثم فيها قولان أحدهما أنها من اسماء الله تعالى ثم فيها قولان أحدهما أن الطاء من اللطيف والهاء من الهادي قاله ابن مسعود وأبو العالية والثاني أن الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب (5/269)
والهاء افتتاح اسمه هادي قاله سعيد بن جبير والقول الثاني أنها من غير اسماء الله تعالى ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الطاء من طابة وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الهاء من مكة حكاه أبو سليمان الدمشقي و الثاني أن الطاء طرب أهل الجنة والهاء هو أن اهل النار والثالث ان الطاء في حساب الجمل تسعة والهاء خمسة فتكون اربعة عشر فالمعنى يا أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى حكى القولين الثعلبي
والثالث أنه قسم أقسم الله به وهو من اسمائه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقد شرحناه معنى كونه اسما في فاتحة مريم وقال القرظي أقسم الله بطوله وهدايته وهذا القول قريب المعنى من الذي قبله
والرابع أن معناه طأ الأرض بقدميك قاله مقاتل بن حيان ومعنى قوله لتشقى لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغت وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ حتى إنه كان يرواح بين قدميه لطول القيام فأمر بالتخفيف
قوله تعالى إلا تذكرة قال الأخفش هو بدل من قوله لتشقى ما أنزلناه إلا تذكرة أي عظة
قوله تعالى تنزيلا قال الزجاج المعنى أنزلناه تنزيلا والعلى جمع العليا تقول سماء عليا وسماوات على مثل الكبرى و الكبر فأما الثرى فهو التراب الندي والمفسرون يقولون أراد الثرى الذي تحت الأرض السابعة
قوله تعالى وإن تجهر بالقول أي ترفع صوتك فانه يعلم السر والمعنى لا تجهد نفسك برفع الصوت فان اللع يعلم السر (5/270)
وفي المراد ب السر وأخفى خمسة أقوال
أحدها أن السر ما أسره الإنسان في نفسه وأخفى ما لم يكن بعد وسيكون رواه جماعة عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثاني أن السر ما حدثت به نفسك واخفى ما لم تلفظ به قاله سعيد بن جبير
والثالث أن السر العمل الذي يسره الإنسان من الناس وأخفى منه الوسوسة قاله مجاهد
والرابع أن معنى الكلام يعلم إسرار عباده وقد أخفى سره عنهم فلا يعلم قاله زيد بن أسلم وابنه
والخامس يعلم ما أسره الإنسان الى غيره وما أخفاه في نفسه قاله الفراء
قوله تعالى له الأسماء الحسنى قد شرحناه في الأعراف 180
وهل أتك حديث موسى إذ رآ نارا فقال لأهله أمكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتها نودي ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلوة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى
قوله تعالى وهل أتاك حديث موسى هذا استفهام تقرير ومعناه قد أتاك قال ابن الأنباري وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي هل (5/271)
معبرة عن قد فقد قال رسول الله ص - وهو أفصح العرب اللهم هل بلغت يريد قد بلغت
قال وهب بن منبه استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الرجوع الى والدته فإذن له فخرج بأهله فولد له في الطريق في ليلة شاتية فقدح فلم يور الزناد فبينا هو في مزاولة ذلك ابصرا نارا من بعيد عن يسار الطريق وقد ذكرنا هذا الحديث بطولة في كتاب الحدائق فكرهنا اطالة التفسير بالقصص لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه قال المفسرون رأى نورا ولكن اخبر بما كان في ظن موسى فقال لأهله يعنى امرأته امكثوا اي اقيموا مكانكم وقرأ حمزة لأهله امكثوا بضم الهاء ها هنا وفي اني آنست نارا قال الفراء اني وجدت يقال هل آنست احدا اي وجدت وقال ابن قتيبة آنست بمعنى أبصرت فأما القبس فقال الزجاج هو ما أخذته من النار في رأس عود أو في رأس فتيلة
قوله تعالى او اجد على النار هدى قال الفراء اراد هاديا فذكره بلفظ المصدر قال ابن الأنبارى يجوز ان تكون على ها هنا بمعنى عند (5/272)
وبمعنى مع وبمعنى الباء وذكر أهل التفسير أنه كان قد ضل الطريق فعلم أن النار لا تخلوا من موقد وحكى الزجاج أنه ضل عن الماء فرجا أن يجد من يهديه الطريق او يدله على الماء
قوله تعالى فلما أتاها يعني النار نودي يا موسى إني أنا ربك إنما كرر الكناية لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإزالة الشبهة ومثله إني انا النذير المبين الحجر 89 قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر أني بفتح الألف والياء وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي إني بكسر والألف إلا أن نافعا فتح الياء قال الزجاج من قرأ أني انا بالفتح فالمعنى نودي بأني أنا ربك ومن قرا بالكسر فالمعنى نودي يا موسى فقال الله إني أنا ربك
قوله تعالى فاخلع نعليك في سبب أمره بخلعهما قولان
أحدهما انهما كانا من جلد حمار ميت رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعكرمة
والثاني أنهما كانا من جلد بقرة ذكيت ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة فتناله بركتها قاله الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة
قوله تعاى إنك بالواد المقدس فيه قولان قد ذكرناهما في المائدة 21 عند قوله الارض المقدسة (5/273)
قوله تعالى طوى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو طوى وأنا غير مجراه وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي طوى مجراة وكلهم ضم الطاء وقرأ الحسن وأبو حيوة طوى بكسر الطاء مع التنوين وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو طوى بكسر الطاء من غير تنوين قال الزجاج في طوى اربعة أوجه طوى بضم أوله من غير تنوين وبتنوين فمن نونه فهو اسم للوادي وهو مذكر سمي بمذكر على فعل نحو حطم وصرد ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين
احداهما أن يكون معدولا عن طاو فيصير مثل عمر المعدول عن عامر فلا ينصرف كما لا ينصرف عمر
والجهة الثانية أن يكون اسما للبقعة كقوله في البقعة المباركة القصص 30 وإذا كسر ونون فهو مثل معى والمعنى المقدس مرة بعد مرة كما قال عدي بن زيد ... أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... علي طوى من غيك المتردد ...
أي اللوم المكرر علي ومن لم ينون جعله اسما للبقعة
وللمفسرين في معنى طوى ثلاثة أقوال
أحدها أنه اسم الوادي رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أن معنى طوى طأ الوادي رواه عكرمة عن ابن عباس وعن مجاهد كالقولين (5/274)
والثالث أنه قدس قاله الحسن وقتادة
قوله تعالى وأنا اخترتك أي اصطفيتك وقرأ حمزة والمفضل وأنا بالنون المشددة اخترناك بألف فاستمع لما يوحى أي للذي يوحى قال ابن الأنباري الاستماع هاهنا محمول على الإنصات المعنى فأنصت لوحيي والوحي هاهنا قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أي وحدني واقم الصلاة لذكري فيه قولان
أحدهما أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة سواء كنت في وقتها أو لم تكن هذا قول الأكثرين وروى أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك وقرأ أقم الصلاة لذكري
والثاني أقم الصلاة لتذكرني فيها قاله مجاهد وقيل إن الكلام مردود على قوله فاستمع فيكون المعنى فاستمع لما يوحى واستمع لذكري وقرأ ابن مسعود وابي بن كعب وابن السميفع وأقم الصلاة للذكرى بلامين وتشديد الذال
قوله تعالى أكاد أخفيها أكثر القراء على ضم الألف
ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أكاد أخفيها من نفسي قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن علي أكاد أخفيها من نفسي (5/275)
قال الفراء المعنى فكيف أظهركم عليها قال المبرد وهذا على عادة العرب فانهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحدا
والثاني أن الكلام تم عند قوله أكاد وبعده مضمر تقديره أكاد آتي بها والابتداء أخفيها قال ضابئ البرجمي ... هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ...
أراد كدت أفعل
والثالث أن معنى أكاد أريد قال الشاعر ... كادت كدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى ...
معناه أرادت وأردت ذكرهما ابن الأنباري
فان قيل فما فائدة هذا الأخفاء الشديد
فالجواب أنه للتحذير والتخويف ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوه كان أشد حذرا وقرأ سعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبو رجاء العطاردي وحميد بن قيس أخفيها بفتح الألف قال الزجاج ومعناه أكاد اظهرها قال امرؤ القيس ... فان تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (5/276)
أي إن تدفنوا الداء لا نظهره قال وهذه القراءة أبين في المعنى لأن معنى أكاد أظهرها قد أخفيتها وكدت أظهرها لتجزى كل نفس بما تسعى أي بما تعمل ولتجزى متعلق بقوله إن الساعة آتية لتجزى ويجوز أن يكون على أقم الصلاة لذكري لتجزى
قوله تعالى فلا يصدنك عنها أي عن الإيمان بها من لا يؤمن بها أي من لا يؤمن بكونها والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم خطاب لجميع أمته واتبع هواه أي مراده وخالف أمر الله عز و جل فتردى أي فتهلك قال الزجاج يقال ردي يردى إذا هلك
وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكؤا عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقها فاذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى
قوله تعالى وما تلك بيمينك قال الزجاج تلك اسم مبهم يجري مجرى التي والمعنى ما التي بيمينك
قوله تعالى أتوكأ عليه التوكؤ التحامل على الشيء وأهش بها قال الفراء أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي قال الزجاج واشتقاقه من أني احيل الشيء إلى الهشاشه والإمكان والمآرب الحاجات واحدها مأربه ومأربه وروى قتيبة وورش مآرب بامالة الهمزة (5/277)
فان قيل ما الفائدة في سؤال الله تعالى له وما تلك بيمينك وهو يعلم فعنه جوابان
أحدهما أن لفظه لفظ الاستفهام ومجراه مجرى السؤال ليجيب المخاطب بالإقرار به فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء ما هذا فيقول ماء فتضع عليه شيئا من الصبغ فان قال لم يزل هكذا قلت له ألست قد اعترفت بأنه ماء فتثبت عليه الحجة هذا قول الزجاج فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها عصا لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حية فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها
والثاني أنه لما أطلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإجلال حين التكليم أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف فأجرى هذا الكلام للاستئناس حكاه ابو سليمان الدمشقي
فان قيل قد كان يكفي في الجواب أن يقول هي عصاي فما الفائدة في قوله أتوكأ عليها إلى آخر الكلام وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه أجاب بقوله هي عصاي فقيل له ما تصنع بها فذكر باقي الكلام جوابا عن سؤال ثان قاله ابن عباس ووهب
والثاني أنه انما أظهر فوائدها وبين حاجته اليها خوفا من أن يأمره بالقائها كالنعلين قاله سعيد بن جبير
والثالث أنه بين منافعها لئلا يكون عابثا بحملها قاله الماوردي
فان قيل فلم اقتصر على ذكر بعض منافعها ولم يطل الشرح فعنه ثلاثة أجوبة (5/278)
أحدها أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها
والثاني استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد
والثالث أنه اقتصر على اللازم دون العارض
وقيل كانت تضيء له بالليل وتدفع عنه الهوام وتثمر له إذا اشتهى الثمار وفي جنسها قولان
أحدهما أنها كات من آس الجنة قاله ابن عباس والثاني أنها كانت من عوسج
فان قيل المآرب جمع فكيف قال أخرى ولم يقل اخر فالجواب أن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى قاله الزجاج
قوله تعالى قال ألقها يا موسى قال المفسرون ألقاها ظنا منه أنه قد أمر برفضها فسمع حسا فالتفت فاذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها فهرب منها
وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخطابة قولان
أحدهما لئلا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون
والثاني ليريه أن الذي أبعثك اليه دون ما أريتك فكما ذللت لك الأعظم وهو الحية أذلل لك الأدنى (5/279)
ثم إن الله تعالى أمره باخذها وهي على حالها حية فوضع يده عليها فعادت عصا فذلك قوله سنعيدها سيرتها الأولى قال الفراء طريقتها يقول تردها عصى كما كانت قال الزجاج وسيرتها منصوبة على اسقاط الخافض وافضاء الفعل اليها المعنى سنعيدها الى سيرتها
فان قيل إنما كانت العصا واحدة وكان القاؤها مرة فما وجه اختلاف الأخبار عنها فانه يقول في الأعراف 107 فاذا هي ثعبان مبين وهاهنا حية وفي مكان آخر كأنها جان النمل 10 الأصح والجان ليست بالعظيمة والثعبان أعظم الحيات
فالجواب أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها وبالثعبان اخبار عن انتهاء حالها والحية اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى وقال الزجاج خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته
قوله تعالى واضنم يدك الى جناحك قال الفراء الجناح من اسفل العضد الى الابط
وقال ابو عبيدة الجناح ناحية الجنب وانشد ... أضمه للصدر والجناح ...
قوله تعالى تخرج بيضاء من غير سوء أي من غير برص آية أخرى أي دلالة على صدقك سوى العصا قال الزجاج ونصب آية عل معنى آتيناك آية أو نؤتيك آية
قوله تعالى لنريك من آياتنا الكبرى (5/280)
إن قيل لم لم يقل الكبر فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها انه كقوله مآرب اخرى وقد شرحناه هذا قول الفراء
والثاني أن فيه إضمارا تقديره لنريك من آياتنا الآية الكبرى وقال أبو عبيدة فيه تقديم وتأخير تقديره لنريك الكبرى من آياتنا
والثالث إنما كان ذلك لوفاق رأس الآي حكى القولين الثعلبي
إذهب الى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من اهلي هرون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا
قوله تعالى إنه طغى أي جاوز الحد في العصيان قوله تعالى اشرح لي صدري قال المفسرون ضاق موسى صدر بما كلف من مقاومة فرعون وجنوده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعون وجنوده ومعنى قوله يسر لي أمري سهل علي ما بعثتني له واحلل عقدة من لساني قال ابن قتيبة فيه رته قال المفسرون كان فرعون قد وضع موسى في حجره وهو صغير فجر لحية فرعون بيده فهم بقتله فقالت له آسية إنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك قدم إليه جمرتين ولؤلؤتين فان اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة فسأل حلها ليفهموا كلامه (5/281)
وأما الوزير فقال ابن قتيبة أصل الوزارة من الوزر وهو الحمل كان الوزير قد حمل عن السلطان الثقل وقال الزجاج اشتقاقه من الوزر والوزر الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة وكذلك وزير الخليفة معناه الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجىءالى رأيه ونصب هارون من جهتين إحداهما أن تكون أجعل تتعدى الى مفعولين فيكون المعنى اجعل هارون اخي وزيري فينتصب وزيرا على أنه مفعول ثان ويجوز أن يكون هارون بدلا من قوله وزيرا فيكون المعنى اجعل لي وزيرا من أهلي ثم أبدل هارون من وزير والاول أجود قال الماوردي وإنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيرا لأنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزراة حتى يكون شريكا في النبوة ولولا ذلك لجاز ان يستوزر من غير مسألة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء أخي
قوله تعالى أشدد به أزري قال الفراء هذا دعاء من موسى والمعنى اشدد به يا رب ازري واشركه يا رب في أمري وقرأ ابن عامر أشدد بالألف مقطوعة مفتوحة وأشركة بضم الألف وكذلك يبتدئ بالألفين قال ابو علي هذه القراءة على الجواب والمجازاة والوجه الدعاء دون الإخبار لأن ما قبله دعاء ولان الاشراك في النبوة لا يكون إلا من الله عز و جل قال ابن قتيبة والأزر الظهر يقال آزرت فلانا على الأمر أي قويته عليه وكنت له فيه ظهرا
قوله تعالى واشركه في أمري أي في النبوة معي كي نسبحك أي نصلي لك ونذكرك بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا من نعمك إنك كنت بنا نصيرا أي عالما إذ خصصتنا بهذه النعم (5/282)
قال قد أوتيت سوءلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقدفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك الى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري قوله تعالى قال قد أوتيت سؤلك قال ابن قتيبة أي طلبتك وهو فعل من سألت أي أعطيت ما سألت
قوله تعالى ولقد مننا عليك أي أنعمنا عليك مرة أخرى قبل هذه المرة ثم بين متى كانت بقوله إذ أوحينا الى أمك ما يوحى أي ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك ثم فسر ذلك بقوله أن اقذفيه في التابوت وقذف الشيء الرمي به
فان قيل ما فائدة قوله ما يوحى وقد علم ذلك فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين
أحدهما أن المعنى أوحينا اليها الشيء الذي يجوز أن يوحى اليها اذ ليس كل الامور يصلح وحيه اليها لأنها ليست بنبي وذلك أنها ألهمت
والثاني أن ما يوحى أفاد توكيدا كقوله فغشاها ما غشى النجم 54 (5/283)
قوله تعالى فليلقه اليم قال ابن الأنباري ظاهر هذا الأمر ومعناه معنى الخبر تأويله يلقيه اليم ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركبها الله تعالى فيه فسمع وعقل كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار فأما الساحل فهو شط البحر يأخذه عدو لي وعدو له يعني فرعون قال المفسرون اتخذت أمه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ووضعت فيه موسى وأحكمت بالقار شقوق التابوت ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بالتابوت فأمر الغلمان والجواري بأخذه فلما فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها فلما رآه فرعون أحبه حبا شديدا فذلك قوله وألقيت عليك محبة مني قال أبو عبيدة ومعنى ألقيت عليك أي جعلت لك محبة مني قال ابن عباس أحبه وحببه الى خلقه فلا يلقاه أحد إلا أحبه من مؤمن وكافر وقال قتادة كانت في عينيه ملاحة فما رآه أحد إلا حبه
قوله تعالى ولتصنع على عيني وقرأ ابو جعفر ولتصنع بسكون اللام والعين والإدغام قال قتادة لتغذى على محبتي وإرادتي قال أبو عبيدة على ما أريد وأحب قال ابن الأنباري هو من قول العرب غذي فلان على عيني أي على المحبة مني وقال غيره لتربى وتغذى بمرأى مني يقال صنع الرجل جاريته إذا رباها وصنع فرسه إذا داوم على علفه ومراعاته والمعنى ولتصنع على عليني قدرنا مشي أختك وقولها هل أدلكم على من يكفله لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله عز و جل فأما أخته فقال مقاتل اسمها مريم قال الفراء وإنما اقتصر على ذكر المشي (5/284)
ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلتهم على الظئر لأن العرب تجتزىء بحذف كثير من الكلام وبقليله إذا كان المعنى معروفا ومثله قوله أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف 45 ولم يقل فأرسل حتى دخل على يوسف
قال المفسرون سبب مشي أخته أن أمه قالت لها قصيه فاتبعت موسى على أثر الماء فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم أخته هل أدلكم على من يكفله أي يرضعه ويضمه اليه فقيل لها ومن هي فقالت أمي قالوا وهل لها لبن قال لبن أخي هارون وكان هارون أسن من موسى بثلاث سنين فأرسلوها فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله فرجعناك الى أمك أي رددناك اليها كي تقر عينها بك وبرؤيتك وقتلت نفسا يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فنجيناك من الغم وكان مغموما مخافة أن يقتل به فنجاه الله بأن هرب الى مدين وفتناك فتونا فيه ثلاث أقوال
أحدها اختبرناك اختبارا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أخلصناك اخلاصا رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث ابتليناك ابتلاء رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة وقال الفراء ابتليناك بغم القتيل ابتلاء وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر ثم منعه الرضاع الا من ثدي أمه ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل (5/285)
الدرة ثم قتله القبطي ثم خروجه الى مدين خائفا وكان ابن عباس يقص هذه القصص على سعيد بن جبير ويقول له عند كل ثلاثة وهذا من الفتون يا ابن جبير فعلى هذا يكون فتناك خلصناك من تلك المحن كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث والفتون مصدر
قوله تعالى فلبثت سنين تقدير الكلام فخرجت إلى أهل مدين ومدين بلد شعيب وكان على ثمان مراحل من مصر فهرب اليه موسى وقيل مدين اسم رجل وقد سبق هذا الأعراف 86
وفي قدر لبثه هناك قولان
أحدهما عشر سنين قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني ثمان وعشرون سنة عشر منهن مهر امرأته وثمان عشرة أقام حتى ولد له قاله وهب
قوله تعالى ثم جئت على قدر أي جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك وكان ذلك على رأس أربعين سنة وهو الوقت الذي يوحى فيه الى الأنبياء هذا قول الأكثرين وقال الفراء على قدر أي على ما أراد الله به من تكليمه
قوله تعالى واصطنعتك لنفسي أي اصطفيتك واختصصتك والاصطناع اتخاذ الصنيعة وهو الخير تسديه الى إنسان وقال ابن عباس اصطفيتك لرسالتي ووحيي اذهب أنت وأخوك بآياتي وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها العصا واليد وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع
والثاني العصا واليد وحل العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ذكره ابن الأنباري (5/286)
والثالث الآيات التسع والأول أصح
قوله تعالى ولا تنيا قال ابن قتيبة لا تضعفا ولا تفترا يقال ونى يني في الأمر وفيه لغة أخرى وني يونى
وفي المراد بالذكر هاهنا قولان
أحدهما أنه الرسالة الى فرعون والثاني أنه القيام بالفرائض والتسبيح والتهليل
إذهبا الى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فاتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي الينا أن العذاب على من كذب وتولى
قوله تعالى اذهبا الى فرعون فائدة تكرار الأمر بالذهاب التوكيد وقد فسرناه قوله إنه طغى طه 24
قوله تعالة فقولا له قولا لينا وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري لينا باسكان الياء أي لطفيا رفيقا
وللمفسرين فيه خمسة أقوال
أحدها قولا له قل لا اله إلا الله وحده لا شريك له رواه خالد ابن معدان عن معاذ والضحاك عن ابن عباس
والثاني انه قوله هل لك إلى أن تزكى وأهديك الى ربك فتخشى النازعات 1819 قاله ابو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل (5/287)
والثالث كنياه رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال السدي فأما اسمه فقد ذكرناه في البقرة 49 وفي كنيته أربعة أقوال أحدها أبو مرة رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني أبو مصعب ذكره أبو سليمان الدمشقي والثالث أبو العباس والرابع أبو الوليد حكاهما الثعلبي
والقول الرابع قولا له إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا قاله الحسن
والخامس أن القول اللين أن موسى أتاه فقال له تؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت فاذا مت دخلت الجنة فأعجبه ذلك فلما جاء هامان أخبره بما قال موسى فقال قد كنت أرى أن لك رأيا أنت رب أردت أن تكون مربوبا فقلبه عن رأيه قاله السدي وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية فقال إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف رفقك بمن يقول أنت إله
قوله تعالة لعله يتذكر أو يخشى قال الزجاج لعل في اللغة ترج وطمع تقول لعلي أصير إلى خير فخاطب الله عز و جل العباد بما يعقلون والمعنى عند سيبويه اذهبا على رجائكما وطمعكما والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون وقدعلم أنه لا يتذكر ولا يخشى إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالآية والبرهان وإنما تبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري ايقبل منها أم لا وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم ومعنى لعل متصور في أنفسهم وعلى تصور ذلك تقوم الحجة قال ابن الأنباري ومذهب الفراء في هذا كي يتذكر وروى خالد بن معدان عن معاذ قال والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى (5/288)
يتذكر أو يخشى لهذه الآية وإنه تذكر وخشي لما أدركه الغرق وقال كعب والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن قال المفسرون كان هارون يؤمئذ غائبا بمصر فأوحى الله تعالى إلى هارون أن يتلقى موسى فتلقاه على مرحلة فقال له موسى إن الله تعالى أمرني أن آتي فرعون فسألته أن يجعلك معي فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا ربنا إننا نخاف قال ابن الأنباري ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده واخبر الله عنه بالتثنية لما ضم اليه هارون فان العرب قد توقع التثنية على الواحد فتقول يا زيد قوما يا حرسي اضربا عنقه
قوله تعالى أن يفرط علينا وقرأ عبد الله بن عمرو وابن السميفع وابن يعمر وأبو العالية أن يفرط برفع الياء وكسر الراء وقرأ عكرمة وإبراهيم النخعي أن يفرط بفتح الياء والراء وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن محيصن أن يفرط برفع الياء وفتح الراء قال الزجاج المعنى أن يبادر بعقوبتنا يقال قد فرط منه أمر أي قد بدر وقد أفرط في الشيء إذا اشتط فيه وفرط في الشيء إذا قصر ومعناه كله التقدم في الشيء لأن الفرط في اللغة المتقدم ومنه قوله عليه الصلاة و السلام أنا فرطكم على الحوض (5/289)
قوله تعالى أو أن يطغى فيه قولان
أحدهما يستعصي قاله مقاتل والثاني يجاوز الحد في الإساءة الينا قال ابن زيد نخاف أن يعجل علينا قبل أن نبلغه كلامك وأمرك
قوله تعالى إنني معكما أي بالنصرة والعون أسمع أقوالكم وأرى أفعالكم قال الكلبي أسمع جوابه لكما وأرى ما يفعل بكما
قوله تعالى فارسل معنا بني اسرائيل أي خل عنهم ولا تعذبهم وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة قد جئناك بآية من ربك قال ابن عباس هي العصا قال مقاتل أظهر اليد في مقام والعصا في مقام
قوله تعالى والسلام على من اتبع الهدى قال مقاتل على من آمن بالله قال الزجاج وليس يعني به التحية وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله وسخطه والدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس بابتداء لقاء وخطاب
قوله تعالى على من كذب أي بما جئنا به وأعرض عنه
قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (5/290)
قوله تعالى قال فمن ربكما في الكلام محذوف معناه معلوم وتقديره فأتياه فأديا الرسالة قال الزجاج و إنما لم يقل فأتياه لأن في الكلام دليلا على ذلك لأن قوله فمن ربكما يدل على أنهما أتياه وقالا له
قوله تعالى أعطي كل شيء خلقه فيه ثلاثة أقوال
أحدها أعطى كل شيء صورته فخلق كل جنس من الحيوان على غير صورة جنسه فصوره أبن آدم لا كصورة البهائم وصورة البعير لا كصورة الفرس روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير
والثاني أعطى كل ذكر زوجه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال السدي فيكون المعنى أعطى كل حيوان ما يشاكله
والثالث أعطى كل شيء ما يصلحه قاله قتادة
وفي قوله ثم هدى ثلاثة أقوال
أحدها هدى كيف يأتي الذكر الأنثى رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال ابن جبير
والثاني هدى للمنكح والمطعم والمسكن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث هدى كل شيء إلى معيشته قاله مجاهد وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس والأعمش وابن السميفع ونصير عن الكسائي أعطى كل شيء خلقه بفتح اللام
فان قيل ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا
فالجواب أنه قد ثبت وجود خلق وهداية فلا بد من خالق وهاد
قوله تعالى قال فما بال القرون الأولى اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال (5/291)
أحدها أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها ولم يكن له بذلك علم إذ التوراة إنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال علمها عند ربي هذا مذهب مقاتل وقال غيره أراد إني رسول وأخبار الأمم علم غيب فلا علم لي بالغيب
والثاني أن مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم لم يعبد الله إن كان الحق ما وصفت
والثالث أن مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازى فقال علمها عند الله أي علم أعمالها وقيل الهاء في علمها كناية عن القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم فأجابه بذلك
وقوله في كتاب أراد اللوح المحفوظ
قوله تعالى لا يضل ربي ولا ينسى وقرأ عبد الله بن عمرو وعاصم الجحدري وقتادة وابن محيصن لا يضل بضم الياء وكسر الضاد أي لا يضيعه وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع لا يضل بضم الياء وفتح الضاد وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال والمعنى لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم وقيل أراد لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى
قوله تعالى الذي جعل لكم الأرض مهادا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر مهادا وقرأ عاصم وحمزة والكسائي مهدا بغير ألف والمهاد الفراش و المهد الفرش وسلك لكم أي أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها وأنزل من السماء ماء يعني المطر (5/292)
وهذا آخر الإخبار عن موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله فأخرجنا به يعني بالماء أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة في الألوان والطعوم كل صنف منها زوج وشتى لا واحد له من لفظه كلوا أي مما أخرجنا لكم من الثمار وارعوا أنعامكم يقال رعى الماشية يرعاها إذا سرحها في المرعى ومعنى هذا الأمر التذكير بالنعم إن في ذلك لآيات أي لعبرا في اختلاف الألوان والطعوم لأولي النهى قال الفراء لذوي العقول يقال للرجل إنه لذو نهية إذا كان ذا عقل قال الزجاج واحد النهى نهية يقال فلان ذو نهية أي ذو عقل ينتهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسن قال وقال بعض أهل اللغة ذو النهية الذي ينتهى الى رأيه وعقله وهذا حسن أيضا
قوله تعالى منها خلقناكم يعني الأرض المذكورة في قوله جعل لكم الأرض مهادا والإشارة بقوله خلقناكم إلى آدم والبشر كلهم منه وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم تارة أي مرة أخرى بعد البعث يعني كما أخرجناكم منها أولا عند خلق آدم من الأرض
ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وان يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان (5/293)
لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى
قوله تعالى ولقد أريناه يعني فرعون آياتنا كلها يعني التسع الآيات ولم ير كل آية الله لأنها لا تحصى فكذب أي نسب الآيات الى الكذب وقال هذا سحر وأبى أن يؤمن قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا يعني مصر بسحرك أي تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها فلنأتينك بسحر مثله أي فلنقابلن ما جئت به من السحر بمثله فاجعل بيننا وبينك موعدا أي اضرب بيننا وبينك اجلا وميقاتا لا نخلفه أي لا نجاوزه نحن ولا أنت مكانا وقيل المعنى أجعل بيننا وبينك موعدا مكانا نتواعد لحضورنا ذلك المكان ولا يقع منا خلاف في حضوره سوى قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي بكسر السين وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وخلف ويعقوب سوى بضمها وقرأ أبي بن كعب وابو المتوكل وابن أبي عبلة مكانا سواء بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين وقرأ ابن مسعود مثله إلا أنه كسر السين قال أبو عبيدة هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين والمعنى مكانا تستوي مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق اليه كمسافة الفريق الآخر قال موعدكم يوم الزينة قرأ الجمهور برفع الميم وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة وابن أبي عبلة وهبيرة عن حفص بنصب الميم وفي هذا اليوم أربعة أقوال
أحدها يوم عيد لهم رواه أبو صالح عن ابن عباس والسدي عن أشياخه وبه قال مجاهد وقتادة وابن زيد (5/294)
والثاني يوم عاشوراء رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث يوم النيروز ووافق ذلك يوم السبت أقول يوم من السنة رواه الضحاك عن ابن عباس
والرابع يوم سوق لهم قاله سعيد بن جبير
وأما رفع اليوم فقال البصريون التقدير وقت موعدكم يوم الزينة فناب الموعد عن الوقت وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر فأما نصبه فقال الزجاج المعنى موعدكم يقع يوم الزينة وان يحشر الناس موضع أن رفع المعنى موعدكم حشر الناس ضحى أي إذا رأيتم الناس قد حشروا ضحى ويجوز أن تكون أن في موضع خفض عطفا على الزينة المعنى موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى وقرأ ابن مسعود وابن يعمر وعاصم الجحدري وأن تحشر بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب الناس وعن ابن مسعود والنخعي وان يحشر بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب الناس
قال المفسرون أراد بالناس أهل مصر وبالضحى ضحى اليوم وإنما علقه بالضحى ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس فيكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة
فتولى فرعون فيه قولان
أحدهما أن المعنى تولى عن الحق الذي أمر به
والثاني أنه انصرف إلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى فجمع كيده أي مكره وحيلته ثم أتى أي حضر الموعد قال لهم موسى أي للسحرة وقد ذكرنا عددهم في الأعراف 114 (5/295)
قوله تعالى ويلكم قال الزجاج هو منصوب على ألزمكم الله ويلا ويجوز أن يكون على النداء كقوله تعالى يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا يس 52
قوله تعالى لا تفتروا على الله كذبا قال ابن عباس لا تشركوا معه احدا
قوله تعالى فيسحتكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وابو بكر عن عاصم فيسحتكم بفتح الياء من سحت وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيسحتكم بضم الياء من أسحت قال الفراء ويسحت أكثر وهو الاستئصال والعرب تقول سحته الله وأسحته قال الفرزدقز ... وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف ...
هكذا أنشد البيت الفراء والزجاج ورواه أبو عبيدة الا مسحت او مجلف بالرفع (5/296)
قوله تعالى فتنازعوا أمرهم بينهم يعني السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى وتشاوروا وأسروا النجوى أي أخفوا كلامهم من فرعون وقومه وقيل من موسى وهارون وقيل أسروا هاهنا بمعنى أظهروا
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قالوا إن كان هذا ساحرا فانا سنغلبه وإن يكن من السماء كما زعمتم فله أمره قاله قتادة
والثاني أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا ما هذا بقول ساحر ولكن هذا كلام الرب الأعلى فعرفوا الحق ثم نظروا الى فرعون وسلطانه والى موسى وعصاه فنكسوا على رؤوسهم وقالو إن هذان لساحران قاله الضحاك ومقاتل
والثالث أنه قالوا إن هذان لساحران الآيات قاله السدي
واختلف القراء في قوله تعالى إن هذان لساحران فقرأ ابو عمرو ابن العلاء إن هذين على إعمال إن وقال إني لأستحيي من الله أن أقرأ إن هذان وقرأ ابن كثير إن خفيفه هذان بتشديد النون وقرأ عاصم في رواية حفص إن خفيفة هذان خفيفه أيضا وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي إن بالتشديد هاذان بألف ونون خفيفة فأما قراءة ابي عمرو فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روي عن عثمان وعائشة أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى والمقيمين الصلاة في سورة النساء 162 وأما قراءة عاصم فمعناها ما هذان الا ساحران (5/297)
كقوله تعالى وإن نظنك لمن الكاذبين الشعراء 186 أي ما نظنك إلا من الكاذبين وأنشدوا في ذلك ... ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما ... حلت عليه عقوبة المتعمد ...
أي ما قتلت إلا مسلما قال الزجاج ويشهد لهذه القراءة ما روي عن أبي ابن كعب أنه قرأ ما هذان الا ساحران وروي عنه إن هذان إلا ساحران ورويت عن الخليل إن هذان بالتخفيف والإجماع على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل فأما قراءة الأكثرين بتشديد إن وإثبات الألف في قوله هاذان فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال هي لغة بلحارث بن كعب وقال ابن الأنباري هي لغة لبني الحارث بن كعب وافقتها لغة قريش قال الزجاج وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب وهو راس من رؤوس الرواة أنها لغة لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد يقولون أتاني الزيدان ورايت الزيدان ومررت بالزيدان وأنشدوا ... فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لناباه الشجاع لصمما ...
ويقول هؤلاء ضربته بين أدناه وقال النحويون القدماء هاهنا هاء مضمرة (5/298)
المعنى إنه هذان لساحران وقالوا أيضا إن معنى أن نعم هذان لساحران وينشدون ... ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه ...
قال الزجاج والذي عندي وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد وعلى أسماعيل ابن اسحاق بن حماد بن زيد فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا وهو أن إن قد وقعت موقع نعم والمعنى نعم هذان لهما الساحران ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة واستحسن هذه القراءة لأنها مذهب أكثر القراء وبها يقرأ واستحسن قراءة عاصم والخليل لأنهما إمامان ولأنهما وافقا أبي بن كعب في المعنى ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال الف هذان هي ألف هذا والنون فرقت بين الواحد والتثنية كما فرقت نون الذين بين الواحد والجمع
قوله تعالى ويذهبا بطريقتكم وقرأ أبان عن عاصم ويذهبا بضم الياء وكسر الهاء وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو وأبو رجاء العطاردي ويذهبا بالطريقة بألف ولام مع حذف الكاف والميم وفي الطريقة قولان
أحدهما بدينكم المستقيم رواه الضحاك عن ابن عباس وقال ابو عبيدة بسنتكم ودينكم وما أنتم عليه يقال فلا حسن الطريقة (5/299)
والثاني بأمثلكم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال مجاهد بأولي العقل والاشراف والأسنان وقال الشعبي يصرفان وجوه الناس اليهما قال الفراء الطريقة الرجال الاشراف تقول العرب للقوم الأشراف هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم
فأما المثلى فقال ابو عبيدة هي تأنيث الأمثل تقول في الإناث خذ المثلى منهما وفي الذكور خذ الأمثل وقال الزجاج ومعنى المثلى والأمثل ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال هذا أمثل قومه قال والذي عندي أن في الكلام محذوفا والمعنى يذهبا بأهل طريقتكم المثلى وقول العرب هذا طريقة قومه أي صاحب طريقتهم
قوله تعالى فأجمعوا كيدكم قرأ الأكثرون فأجمعوا بقطع الألف من أجمعت والمعنى يكون عزمكم مجمعا عليه لا تختلفوا فيختل أمركم قال الفراء والإجماع الإحكام والعزيمة على الشيء تقول أجمعت على الخروج وأجمعت الخروج تريد أزمعت قال الشاعر ... يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع ...
يريد قد أحكم وعزم عليه وقرأ أبو عمرو فاجمعوا بفتح الميم من جمعت يريد لا تدعوا من كيدكم شيئا الا جئتم به فأما كيدهم فالمراد به سحرهم ومكرهم
قوله تعالى ثم ائتوا صفا أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأموركم وأشد لهيبتكم قال أبو عبيدة صفا أي صفوفا وقال ابن قتيبة صفا بمعنى جمعا قال الحسن كانوا خمسة وعشرين صفا كل الف ساحر صف (5/300)
قوله تعالى وقد أفلح من استعلى قال ابن عباس فاز من غلب
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فاذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحيوة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى
قوله تعالى بل ألقوا قال ابن الأنباري دخلت بل لمعنى جحد في الأية الأولى لأن الآية الأولى إذا تؤملت وجدت مشتملة على إما أن تلقي وإما أن لا تلقي
قوله تعالى وعصيهم قرأ الحسن وأبو رجاء العطاردي وأبو عمران الجوني وابو الجوزاء وعصيم برفع العين
قوله تعالى يخيل اليه وقرأ ابو رزين العقيلي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والزهري وابن أبي عبلة تخيل بالتاء اليه أي (5/301)
الى موسى يقال خيل اليه اذا شبه له وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء وقال إنما خيل الى موسى فالجواب أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلا وليس بحقيقة فانه من الجائز أن يكونو تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت وليس ذلك بحيات فأما السحر فانه يؤثر وهو أنواع وقد سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أثر فيه (5/302)
ولعن العاضهة وهي الساحرة
قوله تعالى فأوجس في نفسه خيفة موسى قال ابن قتيبة أضمر في نفسه خوفا وقال الزجاج أصلها خوفه ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها
وفي خوفه قولان
أحدهما أنه خوف الطبع البشري (5/305)
والثاني أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى خاف أن يلتبس على الناس أمره ولا يؤمنوا فقيل له لا تخف إنك أنت الأعلى عليهم بالظفر والغلبة وهذا أصح من الأول
قوله تعالى وألق ما في يمينك يعني العصا تلقف وقرأ ابن عامر تلقف ما برفع الفاء وتشديد القاف وروى حفص عن عاصم تلقف خفيفة وكان ابن كثير يشدد التاء من تلقف يريد تتلقف وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وسعيد بن جبير وأبو رجاء تلقم بالميم وقد شرحناها في الأعراف 117 إنما صنعوا كيد ساحر قرأ حمزة والكسائي وخلف كيد السحر وقرأ الباقون كيد ساحر بألف والمعنى إن الذي صنوا يد ساحر أي عمل ساحر وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني إنما صنعوا كيد بنصب الدال ولا يفلح الساحر قال ابن عباس لا يسعد حيثما كان وقيل لا يفوز وروى جندب بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ ولا يفلح الساحر حيث أتى قال لا يأمن حيث وجد
قوله تعالى قال آمنتم له قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع آمنتم له على لفظ الخبر وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر آمنتم له بهمزة ممدودة وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أآمنتم له بهمزتين الثانية ممدودة (5/306)
قوله تعالى إنه لكبيركم قال ابن عباس يريد معلمكم قال الكسائي الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال جئت من عند كبيري
قوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل في بمعنى على ومثله أم لهم سلم يستمعون فيه الطور 38 ولتعلمن أيها السحرة اينا أشد عذابا لكم وأبقى أي أدوم أنا على إيمانكم أو رب موسى على تركهم الايمان به قالوا لن نؤثرك أي لن نختارك على ما جاءنا من البينات يعنون اليد والعصى
فان قيل لم نسبوا الآيات إلى أنفسهم بقولهم جاءنا وإنما جاءت عامة لهم ولغيرهم
فالجواب أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر كان ذلك في حق غيرهم أبين وأوضح وكانوا هم لمعرفته أخص
وفي قوله تعالى والذي فطرنا وجهان ذكرهما الفراء والزجاج
أحدهما أن المعنى لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا
والثاني أنه قسم تقديره وحق الذي فطرنا
قوله تعالى فاقض ما أنت قاض أي فاصنع ما أنت صانع واصل القضاء عمل باحكام إنما تقضي هذه الحياة الدنيا قال الفراء إنما حرف واحد فلهذا نصب الحياة الدنيا ولو قرأ قارىء برفع الحياة لجاز على أن يجعل ما في مذهب الذي كقولك إن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا وقرأ ابن أبي عبلة وأبو المتوكل إنما تقضى بضم التاء على مالم يسم فاعله الحياة برفع التاء قال المفسرون والمعنى إنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا لا في الآخرة (5/307)
قوله تعالى ليغفر لنا يعنون الشرك وما أكرهتنا عليه أي والذي أكرهتنا عليه أي ويغفر لنا إكراهك إيانا على السحر
فان قيل كيف قالوا أكرهتنا وقد قالوا أإن لنا لأجرا وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين فعنه أربعة أجوبة
أحدها أن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر قال ابن عباس قال ابن الأنباري كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون وذلك لشغفه بالسحر ولما خامر قلبه من خوف موسى فالإكراه على السحر هو الإكراه على تعلمه في أول الأمر
والثاني أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم أئن لنا لأجرا ورأوا ذكره الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين جزعوا من ملاقاته بالسحر وحذروا أن يظهر عليهم فيطلع على الضعف صناعتهم فتفسد معيشتهم فلم يقنع فرعون منهم الا بمعارضة موسى فكان هذا هو الإكراه على السحر
والثالث أنهم خافوا أن يغلبوا في ذلك الجمع فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسوق وأكرههم فرعون على فعل السحر
والرابع أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم وكان سبب ذلك السحر ذكره هذه الأقوال ابن الأنباري
قوله تعالى والله خير أي خير منك ثوابا إذا أطبع وأبقى عقابا إذا عصي وهذا جواب قوله ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى وهذا آخر الإخبار عن السحرة
إنه من يأت ربه مجرما فان له جهنم لا يموت فيها (5/308)
ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه وذلك جزاؤا من تزكى
قوله تعالى إنه من يأت ربه مجرما يعني مشركا فان له جهنم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه
أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله ... ألا من لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم ...
قوله تعالى قد عمل الصالحات قال ابن عباس قد أدى الفرائض فأولئك لهم الدرجات العلى يعني درجات الجنة وبعضها أعلى من بعض والعلى جمع العليا وهو تأنيث الأعلى قال ابن الأنباري وإنما قال فأولئك لأن من تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع فاذا غلب لفظها وحد الراجع اليها وإذا بين تأويلها جمع المصروف اليها
قوله تعالى وذلك يعني الثواب جزاء من تزكى أي تطهر من الكفر والمعاصي
ولقد أوحينا الى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى يا بني اسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم (5/309)
غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى
قوله تعالى أن اسر بعبادي أي سر بهم ليلا من أرض مصر فاضرب لهم طريقا أي اجعل لهم طريقا في البحر يبسا قرأ أبو المتوكل والحسن والنخعي يبسا باسكان الياء وقرأ الشعبي وأبو رجاء وابن السميفع يابسا بألف قال أبو عبيدة اليبس متحرك الحروف بمعنى اليابس يقال شاة يبس أي يابسة ليس لها لبن وقال ابن قتيبة يقال لليابس يبس ويبس
قوله تعالى لا تخاف قرأ الأكثرون بألف وقرأ أبان وحمزة عن عاصم لا تخف قال الزجاج من قرأ لا تخاف فالمعنى لست تخاف ومن قرأ لا تخف فهو نهي عن الخوف قال الفراء قرأ حمزة لا تخف بالجزم ورفع ولا تخشى على الاستئناف كقوله تعالى يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون آل عمران 111 استأنف ب ثم فهذا مثله ولو نوى حمزة بقوله ولا تخش الجزم وإن كانت فيه الياء كان صوابا قال ابن قتيبة ومعنى دركا لحاقا قال المفسرون قال أصحاب موسى هذا فرعون قد أدركنا وهذا البحر بين أيدينا فأنزل الله على موسى لا تخاف دركا أي من فرعون ولا تخشى غرقا في البحر
قوله تعالى فأتبعهم فرعون قال ابن قتيبة لحقهم وروى هارون عن أبي عمرو فاتبعهم بالتشديد وقال الزجاج تبع الرجل الشيء وأتبعه بمعنى واحد ومن قرأ بالتشديد ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود ومن قرأ فاتبعهم فمعناه ألحق جنوده بهم وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ (5/310)
وجائز أن لا يكون إلا انه قد كان معهم فغشيهم من اليم ما غشيهم أي فغشيهم من ماء البحر ما غرقهم وقال ابن الأنباري ويعني بقوله ما غشيهم البعض الذي غشيهم لأنه لم يغشهم كل مائه وقرأ ابن مسعود وعكرمة وابو رجاء والأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء
قوله تعالى واضل فرعون قومه أي دعاهم الى عبادته وما هدى أي ما أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة وهذا تكذيب له في قوله وما أهديكم الا سبيل الرشاد غافر 29
قوله تعالى وواعدناكم جانب الطور الأيمن لأخذ التوارة وقد ذكرناه في مريم 52 معنى الأيمن وذكرناه في البقرة 57 المن والسلوى
قوله تعالى كلوا أي وقلنا لهم كلوا
قوله تعالى ولا تطغوا فيه ثلاثة أقوال
أحدهما لا تبطروا في نعمي فتظلموا والثاني لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين والثالث لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة
قوله تعالى فيحل عليكم غضبي أي فتحب لكم عقوبتي والجمهور قرؤوا فيحل بكسر الحاء ومن يحلل بكسر اللام وقرأ الكسائي فيحل بضم الحاء ومن يحلل بضم اللام قال الفراء والكسر أحب الي لأن الضم من الحلول ومعناه الوقوع ويحل بالكسر يجب وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع
قوله تعالى فقد هوى أي هلك
قوله تعالى وإني لغفار الغفار الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته وأصل الغفر الستر وبه سمي زئبر الثوب (5/311)
غفرا لأنه يستر سداه فالغفار الستار لذنوب عبادة المسبل عليهم ثوب عطفه
قوله تعالى لمن تاب قال ابن عباس لمن تاب من الشرك وآمن أي وحد الله وصدقه وعمل صالحا أدى الفرائض
وفي قوله تعالى ثم اهتدى ثمانية أقوال
أحدها علم أن لعمله هذا ثوابا رواه ابو صالح عن ابن عباس والثاني لم شكك رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس والثالث علم أن ذلك توفيق من الله له رواه عطاء عن ابن عباس والرابع لزم السنة والجماعة قاله سعيد ابن جبير والخامس استقام قاله الضحاك والسادس لزم الإسلام حتى يموت عليه قاله قتادة والسابع اهتدى كيف يعمل قاله زيد بن أسلم والثامن اهتدى إلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه و سلم قاله ثابت البناني
وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت اليك رب لترضى قال فانا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال يا قوم الم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فاخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا
قوله تعالى وما أعجلك عن قومك يا موسى قال المفسرون لما نجى الله تعالى بني اسرائيل وأغرق فرعون قالوا يا موسى لو أتيتنا بكتاب من (5/312)
عند الله فيه الحلال والحرام والفرائض فأوحى الله اليه يعده أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلمه فيه فاختار سبعين فذهبوا معه الى الطور لأخذ التوارة فعجل موسى من بينم شوقا الى ربه وأمرهم بلحاقه فقال الله تعالى له ما الذي حملك على العجلة عن قومك قال هم أولاء أي هؤلاء على أثري وقرأ ابو رزين العقيلي وعاصم الجحدري على إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء وقرأ عكرمة وأبو المتوكل وابن يعمر برفع الهمزة وسكون الثاء وقرأ ابو رجاء وابو العالية بفتح الهمزة وسكون الثاء والمعنى هم بالقرب مني يأتون بعدي وعجلت اليك رب لترضى أي لتزداد رضى قال فانا قد فتنا قومك قال الزجاج ألقيناهم في فتنة ومحنة واختبرناهم
قوله تعالى من بعدك أي من بعد انطلاقك من بينهم وأضلهم السامري أي كان سببا لإضلالهم وقرأ معاذ القارىء وأبو المتوكل وعاصم الجحدري وابن السميفع واضلهم برفع اللام وقد شرحناه في البقرة 52 سبب اتخاذ السامري العجل وشرحنا في الأعراف 150 معنى قوله تعالى غضبان أسفا
قوله تعالى ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أي صدقا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها إعطاء التوراة والثاني قوله لئن أقمتم الصلاة إلى قوله لأكفرن عنكم سيآتكم الآية المائدة 13 وقوله وإني لغفار لمن تاب طه 82 والثالث النصر والظفر
قوله تعالى أفطال عليكم العهد أي مدة مفارقتي إياكم أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم أن تصنعوا صنيعا يكون سبب لغضب ربكم فأخلفتم موعدي أي عهدي وكانوا قد عاهدوه أنه إن فكهم الله م ملكة آل فرعون أن يعبدوا (5/313)
الله ولا يشركوا به ويقيموا الصلاة وينصروا الله ورسله قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم وقرأ نافع وعاصم بفتح الميم وقرا حمزة والكسائي بضم الميم قال أبو علي وهذه لغات وقال الزجاج الملك بالضم السلطان والقدرة والملك بالكسر ما حوته اليد والملك بالفتح المصدر يقال ملكت الشيء أملكه ملكا
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها ما كنا نملك الذي اتخذ منه العجل ولكنها كانت زينة آل فرعون فقذفناها قاله ابن عباس
والثاني بطاقتنا قاله قتادة والسدي
والثالث لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البلية قاله ابن زيد
والرابع لم يملك مؤمنونا سفهاءنا ذكره الماوردي
فيخرج فيمن قال هذا لموسى قولان أحدهما أنهم الذين لم يعبدوا العجل والثاني عابدوه
قوله تعالى ولكنا حملنا أوزارا قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم حملنا بضم الحاء وتشديد الميم وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم حملنا خفيفة والأوزار الاثقال والمراد بها حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر فمن قرأ حملنا بالتشديد فالمعنى حملناها موسى أمرنا باستعارتها من آل فرعون فقذفناها أي طرحناها في الحفيرة وقد ذكرنا سسب قذفهم إياها في سورة البقرة 52
قوله تعالى فكذلك ألقى السامري فيه قولان (5/314)
أحدهما أنه ألقى حليا كما ألقوا
والثاني ألقى ما كان معه من تراب حافر فرس جبريل وقد سبق شرح القصة في البقرة 52 وذكرناه في الأعراف 148 معنى قوله تعالى عجلا جسدا له خوار
قوله تعالى فقالوا هذ إلهكم هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتتنوا
قوله تعالى فنسي في المشار اليه بالنسيان قولان
أحدهما أنه موسى ثم في المعنى ثلاثة أقوال أحدها هذا آلهكم وآله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا آلهه رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني فنسي موسى الطريق الى ربه روي عن ابن عباس ايضا والثالث فنسي موسى الهه عندكم وخالفه في طريق اخر قاله قتادة
والثاني أنه السامري والمعنى فنسي السامري إيمانه وإسلامه قاله ابن عباس وقال مكحول فنسي أي فترك السامري ما كان عليه من الدين وقيل فنسي أن العجل لا يرجع اليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فعلى هذا القول يكون قوله تعالى فنسي من إخبار الله عز و جل عن السامري وعلى ما قبله فيمن قاله قولان
أحدهما أنه السامري والثاني بنو اسرائيل
قوله تعالى أفلا يرون ألا يرجع قال الزجاج المعنى أفلا يرون أنه لا يرجع اليهم قولا
ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني واطيعوا أمري قالوا لن نبرح (5/315)
عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى قال يا فرون ما منعك اذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي
قوله تعالى ولقد قال لهم هارون من قبل أي من قبل أن يأتي موسى يا قوم إنما فتنتم به أي ابتليتم وإن ربكم الرحمن لا العجل قالوا لن نبرح عليه عاكفين أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع الينا موسى فلما رجع موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا بعبادة العجل ألا تتبعني قرأ ابن كثير وأبو عمرو ألا تتبعني بياء في الوصل ساكنة ويقف ابن كثير بالياء وأبو عمرو بغير ياء وروى اسماعيل بن جعفر عن نافع ألا تتبعني أفعصيت بياء منصوبة وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في الوصل والوقف والمعنى ما منعك من اتباعي ولا كلمة زائدة
وفي المعنى ثلاثة أقوال
أحدها تسير ورائي بمن معك من المؤمنين وتفارقهم رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أن تناجزهم القتال رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث في الإنكار عليهم قاله مقاتل
قوله تعالى أفعصيت أمري وهو قوله في وصيته إياه أخلفني في قومي وأصلح قال المفسرون ثم أخذ برأس اخيه ولحيته غضبا منه عليه وهذا وإن لم (5/316)
بذكر هاهنا فقد ذكر في الأعراف 150 فاكتفي بذلك وقد شرحناه هناك معنى يا ابن ام واختلاف القراء فيها
قوله تعالى ولا برأسي أي بشعر رأسي وهذا الغضب كان لله عز و جل لا لنفسه لأنه وقع في نفسه أن هارون عصى الله بترك اتباع موسى
قوله تعالى إني خشيت أي إن فارقتهم واتبعتك أن تقول فرقت بين بني اسرائيل وفيه قولان
أحدهما باتباعي اياك ومن معي من المؤمنين والثاني بقتالي لبعضهم ببعض
وفي قوله تعالى ولم ترقب قولي قولان
أحدهما لم ترقب قولي لك أخلفني في قومي واصلح
والثاني لم تنتظر امري فيهم
قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بمالم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فان لك في الحيوة ان تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر الى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما الهكم الله الذي لا إله الا هو وسع كل شي علما
قوله تعالى فما خطب يا سامري أي ما أمرك وشأنك الذي دعاك الى ما صنعت قال ابن الأنباري وبعض اللغويين يقول الخطب مشتق من الخطاب المعنى ما أمرك الذي تخاطب فيه
واختلفوا في اسم السامري على قولين
احدهما موسى ايضا قاله وهب بن منبه وقال كان ابن عم موسى بن عمران (5/317)
والثاني ميخا قاله ابن السائب
وهل كان من بني اسرائيل أم لا فيه قولان
أحدهما لم يكن منهم قاله ابن عباس
والثاني كان من عظمائهم وكان من قبيلة تسمى سامرة قاله قتادة وفي بلده قولان
أحدهما كرمان قاله سعيد بن جبير والثاني باجرما قاله وهب
قوله تعالى بصرت بما لم يبصروا به وقرأ حمزة والكسائي تبصروا بالتاء فعلى قراءة الجمهور أشار الى بني اسرائيل وعلىهذه القراءة خاطب الجميع قال ابو عبيدة علمت ما لم تعلموا قال وقوم يقولون بصرت وأبصرت سواء بمنزلة اسرعت وسرعت وقال الزجاج يقال بصر الرجل يبصر إذا صار عليما بالشيء وأبصر يبصر إذا نظر قال المفسرون فقال له موسى وما ذاك قال رأيت جبريل على فرس فألقي في نفسي أن اقبض من أثرها فقبضت قبضة وقر أبي بن كعب والحسن ومعاذ القارئ قبصة بالصاد وقال الفراء والقبضة بالكف كلها والقبصة بالصاد بأطراف الاصابع قال ابن قتيبه ومثل هذا الخضم بالفم كله والقضم بأطراف الاسنان والنضخ أكثر من النضح والرجز العذاب والرجس النتن والهلاس في البدن والسلاس في العقل والغلط في الكلام والغلت في الحساب والخصر الذي يجد البرد والخرص الذي يجد البرد والجوع والنار الخامدة التي قد سكن لهبها ولم يطفا جمرها والهامدة التي طفئت فذهبت البتة والشكد العطاء ابتداء فان كان جزاء فهو شكم والمائج الذي يدخل البئر فيملأ الدلو والماتح الذي ينزعها
قوله تعالى فنبذتها أي فقذفتها في العجل وقرأ ابو عمرو وحمزة (5/318)
والكسائي وخلف فنبذتها بالإدعام وكذلك أي وكما حدثتك سولت لي نفسي أي زينت لي قال موسى اذهب أي من بيننا فان لك في الحياة أي ما دمت حيا أن تقول لا مساس أي لا أمس ولا امس فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحدا ولا يمسه احد عاقبه الله بذلك وألهمه أن يقول لا مساس وكان إذا لقي أحدا يقول لا مساس أي لا تقربني ولا تمسني وصار ذلك عقوبة لولده حتى إن بقاياهم اليوم فيما ذكر أهل التفسير بأرض الشام يقولون ذلك وحكي أنه إن مس واحد من غيرهم واحدا منهم أخذتهما الحمى في الحال
قوله تعالى وإن لك موعدا أي لعذابك يوم القيامة لن تخلفه أي لن يتأخر عنك ومن كسر لام تخلف أراد لن تغيب عنه
قوله تعالى وانظر الى إلهك يعني العجل الذي ظلت قال ابن عباس معناه أقمت عليه وقال الفراء معنى ظلت فعلته نهارا وقرأ أبي بن كعب وابو الجوزاء وابن يعمر ظلت برفع الظاء وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء والأعمش وابن أبي عبلة ظلت بكسر الظاء وقال الزجاج ظلت وظلت بفتح الظاء وكسرها فمن فتح فالأصل فيه ظللت ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر وبقيت الظاء على فتحها ومن قرأ ظلت بالكسر حول كسرة اللام على الظاء ومعنى عاكفا مقيما لنحرقنه قرأ الجمهور لنحرقنه بضم النون وفت الحاء وتشديد الراء وقرأ علي بن أبي طالب وأبو رزين وابن معمر لنحرقنه بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة وقرأ ابو هريرة والحسن وقتادة لنحرقنه برفع النون وإسكان الحاء وكسر الراء (5/319)
مخففة قال الزجاج إذا شدد فالمعنى نحرقه مره بعد مرة وتأويل لنحرقنه لنبردنه يقال حرقت أحرق وأحرق إذا بردت الشيء والنسف التذرية وجاء في التفسير أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم لأنه كان قد صار لحما ودما ثم أحرقه بالنار ثم أحرقه بالنار ثم ذراه في البحر ثم أخبرهم موسى عن إلههم فقال إنما إلهكم الله الذي لااله إلا هو أي هو الذي يستحق العبادة لاالعجل وسع كل شيء علما أي وسع علمه كل شيء
كذلك نقص عليك من أنباء ماقد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما
قوله تعالى كذلك نقص عليك أي كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه نقص عليك من أنباء ما قد سبق أي من أخبار من مضى والذكر هاهنا القرآن من أعرض عنه فلم يؤمن ولم يعمل بما فيه فانه يحمل يوم القيامة وقرأ عكرمة وأبو المتوكل وعاصم الجحدري يحمل برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم وزرا أي إثما خالدين فيه أي في عذاب ذلك الوزر وساء لهم قال الزجاج المعنى وساء الوزر لهم يوم القيامة حملا وحملا منصوب على التمييز
قوله تعالى يوم ينفخ في الصور قرأ أبو عمرو ننفخ بالنون وقرأ الباقون من السبعة ينفخ بالياء على ما لم يسم فاعله وقرأ أبو عمران الجوني (5/320)
يوم ينفخ بياء مفتوحة ورفع الفاء وقد سبق بيانه ونحشر المجرمين وقرأ أبي بن كعب وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرف ويحشر بياء مفتوحة ورفع الشين وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمران ويحشر بياء مرفوعة وفتح الشين المجرمون بالواو قال المفسرون والمراد بالمجرمين المشركون يومئذ زرقا وفيه قولان
أحدهما عميا رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن قتيبة بيض العيون من العمى قد ذهب السواد والناظر
والثاني زرق العيون من شدة العطش قاله الزهري والمراد أنه يشوه خلقهم بسواد الوجوه وزرق العيون
قوله تعالى يتخافتون بينهم أي يسار بعضهم بعضا إن لبثتم أي ما لبثتم إلا عشر ليال وهذا على طريق التقليل لاعلى وجه التحديد
وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان
أحدهما القبور ثم فيه قولان أحدهما أنهم عنوا طول ما لبثوا فيها روى أبو صالح عن ابن عباس إن لبثتم بعد الموت إلا عشرا والثاني ما بين النفختين وهو أربعون سنة فانه يخفف عنهم العذاب حينئذ فيستقلون مدة لبثهم لهول ما يعاينون حكاه علي بن أحمد النيسابوري
والقول الثاني أنهم عنوا لبثهم في الدنيا قاله الحسن وقتادة
قوله تعالى إذ يقول أمثلهم طريقة أي أعقلهم وأعدلهم قولا إن لبثتم إلا يوما فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا (5/321)
ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لاترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لاعوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لاتنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقران من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما قوله تعالى ويسألونك عن الجبال سبب نزولها أن رجالا من ثقيف أتوا رسول الله ص - فقالوا يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى فقل ينسفها ربي نسفا قال المفسرون النسف التذرية والمعنى يصيرها رمالا تسيل سيلا ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح فتستأصلها فيذرها أي يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها قاعا قال ابن قتيبة القاع من الأرض المستوي الذي يعلوه الماء والصفصف المستوي أيضا يريد أنه لا نبت فيها
قوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا في ذلك ثلاثة أقوال (5/322)
أحدها ان المراد بالعوج الأودية وبالأمت الروابي رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وكذلك قال مجاهد العوج الانخفاض والأمت الارتفاع وهذا مذهب الحسن وقال ابن قتيبة الأمت النبك
والثاني أن العوج الميل والأمت الأثر مثل الشراك رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أن العوج الصدع والأمت الأكمة
قوله تعالى يومئذ يتبعون الداعي قال الفراء أي يتبعون صوت الداعي للحشر لا عوج لهم عن دعائه لا يقدرون أن لا يتبعوا
قوله تعالى وخشعت الأصوات أي سكنت وخفيت فلا تسمع إلا همسا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها وطء الأقدام رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعكرمه ومجاهد في رواية واختاره الفراء والزجاج
والثاني تحريك الشفاه بغير نطق رواه سعيد بن جيير عن ابن عباس
والثالث الكلام الخفي روى عن مجاهد وقال أبو عبيدة الصوت الخفي
قوله تعالى يومئذ لا تنفع الشفاعة يعني لا تنفع أحدا إلا من أذن له الرحمن أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي أذن أن يشفع له ورضي له قولا أي ورضي للمشفوع فيه قولا وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله يعلم ما بين أيديهم الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي وقد شرحنا هذه الآية في سورة البقرة 255
وفي هاء به قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى قاله مقاتل والثاني إلى ما بين أيديهم وما خلفهم قاله ابن السائب (5/323)
قوله تعالى وعنت الوجوه قال الزجاج عنت في اللغة خضعت يقال عنا يعنو إذا خضع ومنه قيل أخذت البلاد عنوة إذا أخذت غلبة وأخذت بخضوع من اهلها والمفسرون على أن هذا في يوم القيامة إلا ما روي عن طلق بن حبيب هو وضع الجبهة والأنف والكفين والركبتين وأطراف القدمين على الأرض للسجود وقد شرحنا في آيةالكرسي معنى الحي القيوم البقرة 255
قوله تعالى وقد خاب من حمل ظلما قال ابن عباس خسر من أشرك بالله
قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن من هاهنا للجنس وإنما شرط الإيمان لأن غير المؤمن لا يقبل عمله ولا يكون صالحا فلا يخاف أي فهو لا يخاف وقرأ ابن كثير فلا يخف على النهي
قوله تعالى ظلما ولا هضما فيه أربعة أقوال
أحدها لا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ولا أن يهضم من حسناته رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني لا يخاف أن يظلم فيزاد من ذنب غيره ولا أن يهضم من الأصح حسناته قاله قتادة
والثالث أن لا يخاف أن يؤاخذ بما لم يعمل ولا ينتقص من عمله الصالح قاله الضحاك
والرابع لا يخاف أن لا يجزى بعمله ولا أن ينقص من حقه قاله ابن زيد قال اللغويون الهضم النقص تقول العرب هضمت لك من حقي أي حططت ومنه فلان هضيم الكشحين أي ضامر الجنبين (5/324)
ويقال هذا شيء يهضم الطعام أي ينقص ثقله وفرق بعض المفسرين بين الظلم والهضم فقال الظلم منع الحق كله والهضم منع البعض وإن كان ظلما أيضا
قوله تعالى وكذلك أنزلناه أي وكما بينا في هذه السورة أنزلناه أي أنزلناه هذا الكتاب قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد أي بينا فيه ضروب الوعيد قال قتادة يعني وقائعه في الأمم المكذبة
قوله تعالى لعلهم يتقون أي ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم أو يحدث لهم أي يجدد لهم القرآن وقيل الوعيد ذكرا أي اعتبارا فيتذكروا به عقاب الأمم فيعتبروا وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري أو نحدث بنون مرفوعة
قوله تعالى فتعالى الله أي جل عن إلحاد الملحدين وقول المشركين في صفاته الملك الذي بيده كل شيء الحق وقد ذكرناه في يونس 32
قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن في سبب نزولها قولان
أحدهما أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه و سلم بالسورة الآي فيتلوها عليه فلا يفرغ جبريل من آخرها حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأولها مخافة أن ينساها فنزلت هذه الآية رواه ابو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رجلا لطم امرأته فجاءت الى رسول الله صلى الله عليه و سلم تطلب القصاص فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف (5/325)
رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل قوله تعالى الرجال قوامون على النساء النساء 34 قاله الحسن البصري
قوله تعالى من قبل أن يقضى اليك وحيه وقرأ ابن مسعود والحسن ويعقوب نقضي بالنون وكسر الضاد وفتح الياء وحيه بنصب الياء
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها لا تعجل بتلاوته قبل ان يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه هذا على القول الأول
والثاني لا تقرئ أصحابك حتى نبين لك معاينة قاله مجاهد وقتادة
والثالث لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك الوحي ذكره الماوردي
قوله تعالى وقل رب زدني علما فيه ثلاثة أقوال (5/326)
أحدها زدني قرآنا قاله مقاتل والثاني فهما والثالث حفظا ذكرهما الثعلبي
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لت تظمؤا فيها ولا تضحى فوسوس اليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهم سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتبه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك آتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى
قوله تعالى ولقد عهدنا الى آدم أي أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة من قبل أي من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا (5/327)
الإيمان في وهم الذين ذكرهم في قوله لعلهم يتقون والمعنى أنهم إن نقضوا العهد فان آدم قد عهدنا اليه فنسي
وفي هذا النسيان قولان
أحدهما أنه الترك قاله ابن عباس ومجاهد والمعنى ترك ما أمر به
والثاني أنه من النسيان الذي يخالف الذكر حكاه الماوردي
وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري وابن السميفع فنسي برفع النون وتشديد السين
قوله تعالى ولم نجد له عزما العزم في اللغة توطين النفس على الفعل وفي المعنى أربعة اقوال
أحدها لم نجد له حفظا رواه العوفي عن ابن عباس والمعنى لم يحفظ ما أمر به
والثاني صبرا قاله قتادة ومقاتل والمعنى لم يصبر عما نهي عنه
والثالث حزما قاله ابن السائب قال ابن الأنباري وهذا لا يخرج آدم من أولي العزم وإنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب
والرابع عزما في العود الى الذنب ذكره الماوردي وما بعد هذا قد تقدم تفسيره البقرة 34 الى قوله تعالى فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى قال المفسرون المراد به نصب الدنيا وتعبها من تكلف الحرث والزرع والعجن والخبز وغير ذلك قال سعيد بن جبير أهبط الى آدم ثور أحمر فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه قال العلماء والمعنى فتشقيا وإنما لم يقل فتشقيا لوجهين (5/328)
أحدهما أن آدم هو المخاطب فاكتفى به مثله عن اليمين وعن الشمال قعيد ق17 قاله الفراء
والثاني أنه لما كان آدم هو الكاسب كان التعب في حقه أكثر ذكره الماوردي
قوله تعالى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى قرأ ابي بن كعب لا تجاع ولا تعرى بالتاء المضمومة والألف وأنك لا تظمأ قر أابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأنك مفتوحة الألف وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم وإنك بكسر الألف قال ابو علي من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع وأن لك أن لا تظمأ ومن كسر استأنف
قوله تعالى لا تظمأ فيها أي لا تعطش يقال ظمئ الرجل ظمأ فهو ظمآن أي عطشان ومعنى لا تضحى لا تبرز للشمس فيصيبك حرها لأنه ليس في الجنة شمس
قوله تعالى هل أدلك عل شجرة الخلد أي على شجرة من أكل منها لم يمت وملك لا يبلى جديده ولا يفنى وما بعد هذا مفسر في الأعرف 22
وفي قوله تعالى فغوى قولان
أحدهما ضل طريق الخلود حيث أراده من قبل المعصية
والثاني فسد عليه عيشه لأن معنى الغي الفساد قال ابن الأنباري وقد غلط بعض المفسرين فقال معنى غوى أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم كما يقال غوى الفصيل إذا أكثر من لبن أمه فبشم فكاد يهلك وهذا خطأ من وجهين (5/329)
أحدهما أنه لا يقال من البشم غوى يغوي وإنما يقال غوي يغوى
والثاني أن قوله تعالى فلما ذاقا الشجرة الأعراف 22 يدل على أنهما لم يكثرا ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا الى الإكثار قال ابن قتيبة فنحن نقول في حق آدم عصى وغوى كما قال الله عز و جل ولا نقول آدم عاص وغاو كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه قد قطعه وخاطه ولا تقول هذا خياط حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به
قوله تعالى ثم اجتباه ربه قد بينا الاجتباء في الأنعام 87 فتاب عليه وهدى أي هداه للتوبة قال اهبطا في المشار اليهما قولان
أحدهما آدم وإبليس قاله مقاتل
والثاني آدم وحواء قاله ابو سليمان الدمشقي ومعنى قوله تعالى بعضكم لبعض عدو آدم وذريته وإبليس وذريته والحية أيضا وقد شرحنا هذا في البقرة 36
قوله تعالى فمن اتبع هداي أي رسولي وكتابي فلا يضل ولا يشقى قال ابن عباس من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب ولقد ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية
قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري قال عطاء عن موعظتي وقال ابن السائب عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتبعه
قوله تعالى فان له معيشة ضنكا قال ابو عبيدة معناه معيشة ضيقة والضنك يوصف به الأنثى والذكر بغير هاء وكل عيش أو مكان أو منزل ضيق فهو ضنك وأنشد (5/330)
وإن نزلوا بضنك فانزل
وقال الزجاج الضنك أصله في اللغة الضيق والشدة
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال
أحدها أنها عذاب القبر روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال أتدرون ما المعيشة الضنك قالوا الله ورسوله أعلم قال عذاب الكافر في قبره والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه الى يوم القيامة وممن ذهب الى أنه عذاب القبر ابن مسعود وأبو سعيد الخدري والسدي
والثاني أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث شدة عيشه في النار رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة وابن زيد قال ابن السائب وتلك المعيشة من الضريع والزقوم
والرابع أن المعيشة الضنك كسب الحرام روى الضحاك عن ابن عباس قال المعيشة الضنك أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها وله (5/331)
معيشة حرام يركض فيها قال الضحاك فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث وبه قال عكرمة
والخامس أن المعيشة الضنك المال الذي لا يتقي الله صاحبه فيه رواه العوفي عن ابن عباس
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال
أحدها القبر والثاني الدنيا والثالث جهنم
وفي قوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم أعمى حشترتني أعمى بفتح الميمين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسرهما وقرأ نافع بين الكسر والفتح ثم في هذا العمى للمفسرين قولان
أحدهما أعمى البصر روى أبو صالح عن ابن عباس قال إذا أخرج من القبر خرج بصيرا فاذا سيق الى المحشر عمي
والثاني أعمى عن الحجة قاله مجاهد وأبو صالح قال الزجاج معناه فلا حجة له يهتدي بها لأنه ليس للناس على الله حجة بعد الرسل
قوله تعالى كذلك أي الأمر كذلك كما ترى أتتك آياتنا فنسيتها أي فتركتها ولم تؤمن بها وكما تركتها في الدنيا تترك اليوم في النار وكذلك أي وكما ذكرناه نجزي من أسرف أي اشرك ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر وابقى لأنه يدوم
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهي ولولا كلمة (5/332)
سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى
قوله تعالى أفلم يهد لهم أي أفلم يتبين لكفار مكة إذا نظروا آثار من أهلكنا من الأمم وكانت قريش تتجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك فذلك قوله تعالى يمشون في مساكنهم وروى زيد عن يعقوب أفلم نهد بالنون
قوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هؤلاءالكفار الى يوم القيامة وقيل إلى يوم بدر وقيل إلى انقضاء أجالهم لكان لزاما أي لكان العذاب لزاما أي لازما لهم واللزام مصدر وصف به العذاب قال الفراء وابن قتيبة في هذه الآية تقديم وتأخير والمعنى ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما
قوله تعالى فاصبر على ما يقولون أمر الله تعالى نبيه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إلى أن يحكم الله فيهم ثم حكم فيهم بالقتل ونسخ بآية السيف إطلاق الصبر
قوله تعالى وسبح بحمد ربك أي صل له بالحمد له والثناء عليه قبل طلوع الشمس يريد الفجر وقبل غروبها يعني العصر ومن آناء الليل الآناء الساعات وقد بيناها في آل عمران 113 فسبح أي فصل
وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال
أحدها المغرب والعشاء رواه ابو صالح عن ابن عباس وبه قال قتادة
والثاني جوف الليل رواه العوفي عن ابن عباس (5/333)
والثالث العشاء قاله مجاهد وابن زيد
والرابع أول الليل وأوسطه وأخره قاله الحسن
قوله تعالى وأطراف النهار المعنى وسبح أطراف النهار قال الفراء إنما هم طرفان فخرجا مخرج الجمع كقوله تعالى إن تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما الترحيم 4
وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الظهر قاله قتادة فعلى هذا إنما قيل لصلاة الظهر أطراف النهار لأن وقتها عند الزوال فهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني
والثاني انها صلاة المغرب وصلاة الصبح قاله ابن زيد وهذا على ان الفجر في ابتداء الطرف الأول والمغرب في انتهاء الطرف الثاني
والثالث أنها الفجر والظهر والعصر فعلى هذا يكون الفحر من الطرف الأول والظهر والعصر من الطرف الثاني حكاه الفراء
قوله تعالى لعلك ترضى قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ترضى بفتح التاء وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم بضمها فمن فتح فالمعنى لعلك ترضى ثواب الله الذي يعطيك ومن ضمها ففيه وجهان
أحدهما لعلك ترضى بما تعطى والثاني لعل الله أن يرضاك
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وابقى وامر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لانسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (5/334)
قوله تعالى ولا تمدن عينيك سبب نزولها ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاني فأرسلني الى رجل من اليهود يبيع طعاما فقال قل له إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول بعني كذا وكذا من الدقيق أو اسلفني الى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال اليهودي والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال والله لو باعني أو أسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء أمين في الأرض اذهب بدرعي الحديد اليه فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا قال أبي بن كعب من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر الحجر 88
قوله تعالى زهرة الحياة الدنيا وقرأ ابن مسعود والحسن والزهري ويعقوب زهرة بفتح الهاء قال الزجاج وهو منصوب بمعنى متعنا لأن معنى متعنا جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة لنفتنهم فيه أي لنجعل ذلك فتنة لهم وقال ابن قتيبة لنختبرهم قال المفسرون زهرة الدنيا بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته وهو من زهرة النبات وحسنه
قوله تعالى ورزق ربك خير وأبقى فيه قولان
أحدهما أنه ثوابه في الآخرة والثاني القناعة
قوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة قال المفسرون المراد بأهله قومه ومن كان على دينه ويدخل في هذا اهل بيته
قوله تعالى واصطبر عليها أي واصبر على الصلاة لا نسألك رزقا (5/335)
أي لا نكلفك رزقا لنفسك ولا لخلقنا إنما نأمرك بالعبادة ورزقك علينا والعاقبة للتقوى أي وحسن العاقبة لأهل التقوى وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا ثم يقول بهذا أمر الله تعالى ورسوله ويتلو هذه الآية
وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينه ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى
قوله تعالى وقالوا يعني المشركين لولا أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه أي كآيات الأنبياء نحو الناقة والعصا أو لم يأتهم قرأ نافع وابو عمرو وحفص عن عاصم تأتهم بالتاء وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يأتهم بالياء
قوله تعالى بينه ما في الصحف الأولى أي أولم يأتهم في القرآن بيان وما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لما سألوا الآيات ثم كفروا بها فما يؤمنهم أن تكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك ولو انا أهلكناهم يعني مشركي مكة بعذاب من قبله في الهاء قولان
احدهما أنها ترجع الى الكتاب قاله مقاتل والثاني الى الرسول قاله الفراء
قوله تعالى لقالوا يوم القيامة ربنا لولا أي هلا ارسلت الينا رسولا يدعونا الى طاعتك فنتبع آياتك أي نعمل بمقتضاها من قبل أن نذل (5/336)
بالعذاب ونخزى في جهنم وقرأ ابن عباس وابن السميفع وأبو حاتم عن يعقوب نذل ونخزى برفع النون فيهما وفتح الذال قل لهم يا محمد كل منا ومنكم متربص أي نحن نتربص بكم العذاب في الدنيا وأنتم تتربصون بنا الدوائر فتربصوا أي فانتظروا فستعلمون إذا جاء امرالله من اصحاب الصراط السوي أي الدين المستقيم ومن اهتدى من الضلالة أنحن أم أنتم وقيل هذه منسوخة بآية السيف وليس بشيء (5/337)
سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وانتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف نعلمه
قوله عز و جل اقترب افتعل من القرب يقال قرب الشيء (5/338)
واقترب وهذه الآية نزلت في كفار مكة وقال الزجاج اقترب للناس وقت حسابهم وقيل اللام في قوله للناس بمعنى من والمراد بالحساب محاسبة الله لهم على أعمالهم
وفي معنى قربه قولان
أحدهما أنه آت وكل آت قريب
والثاني لأن الزمان لكثرة ما مضى وقله ما بقي قريب
قوله تعالى وهم في غفلة أي عما يفعل الله بهم ذلك اليوم معرضون عن التأهب له وقيل اقترب للناس عام والغفلة والإعراض خاص في الكفار بدلالة قوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وفي هذا الذكر ثلاثة أقوال
أحدهما أنه القرآن قاله ابن عباس فعلى هذا تكون الإشارة بقوله محدث إلى إنزاله له لأنه أنزل شيئا بعد شيء
والثاني أنه ذكر من الأذكار وليس بالقرآن حكاه ابو سليمان الدمشقي وقال النقاش هو ذكر من رسول الله وليس بالقرآن
والثالث أنه رسول الله بدليل قوله في سياق الآية هل هذا الا بشر مثلكم قاله الحسن بن الفضل
قوله تعالى إلا استمعوه وهم يلعبون قال ابن عباس يستمعون القرآن مستهزئين
قوله تعالى لاهية قلوبهم أي غافلة عما يراد بهم قال الزجاج المعنى إلا استمعوه لاعبين لاهية قلوبهم ويجوز أن يكون منصوبا بقوله (5/339)
يلعبون وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير وابن أبي عبلة لاهية بالرفع
قوله تعالى وأسروا النجوى أي تناجوا فيما بينهم يعني المشركين ثم بين من هم فقال الذين ظلموا أي اشركوا بالله والذين في موضع رفع على البدل من الضمير في وأسروا ثم بين سرهم الذي تناجوا به فقال هل هذا إلا بشر مثلكم أي آدمي فليس بملك وهذا إنكار لنبوته وبعضهم يقول اسروا هاهنا بمعنى أظهروا لأنه من الأضداد
قوله تعالى أفتأتون السحر أي أفتقبلون السحر وأنت تعلمون أنه سحر يعنون أنه متابعة محمد صلى الله عليه و سلم متابعة السحر قل ربي قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وابو بكر عن عاصم قل ربي وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم قال ربي وكذلك هي في مصاحف الكوفيين وهذا على الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يعلم القول أي لا يخفى عليه شيء يقال في السماء والأرض فهو عالم بما أسررتم بل قالوا قال الفراء رد ب بل على معنى تكذيبهم وإن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم لأن معناه الأخبار عن الجاحدين وأعلم أن المشركين كانوا قد تحيروا في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاختلفت أقوالهم فيه فبعضهم يقول هذا الذي يأتي به سحر وبعضهم يقول أضغاث أحلام وهي الأشياء المختلطة ترى في المنام وقد شرحناها في يوسف 44 وبعضهم يقول افتراه أي اختلقه وبعضهم يقول هو شاعر فليأتنا بآية كالناقة والعصا فاقترحوا الآيات التي لا أمهال بعدها
قوله تعالى ما آمنت قبلهم يعني مشركي مكة من قرية وصف القرية والمراد أهلها والمعنى أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات لم يؤمنوا (5/340)
بالآيات لما أتتهم فكيف يؤمن هؤلاء وهذه إشارة إلى أن الآية لا تكون سببا للإيمان إلا أن يشاء الله
قوله تعالى وما أرسلنا قبلك الا رجالا هذا جواب قولهم هل هذا الا بشر مثلكم
قوله تعالى نوحي اليهم قرأ الاكثرون يوحى بالياء وروى حفص عن عاصم نوحي بالنون وقد شرحناه هذه الآية في النحل 43
قوله تعالى وما جعلناهم يعني الرسل جسدا قال الفراء لم يقل اجسادا لأنه اسم الجنس قال مجاهد وما جعلناهم جسدا ليس فيهم روح قال ابن قتيبة ما جعلنا الانبياء قبله أجسادا لا تأكل الطعام لا تموت فنجعله كذلك قال المبرد وثعلب جميعا العرب إذا جاءت بين الكلام بجحدين كان الكلام إخبارا فمعنى الآية إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا الطعام قال قتادة المعنى وما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام
قوله تعالى ثم صدقناهم الوعد يعني الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بانجائهم وإهلاك مكذبيهم فأنجيناهم ومن نشاء وهم الذين صدقوهم وأهلكنا المسرفين يعني أهل الشرك وهذا تخويف لأهل مكة ثم ذكر منته عليهم بالقرآن فقال لقد أنزلناه اليكم كتابا فيه ذكركم وفيه ثلاثة أقوال
احدها فيه شرفكم قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني فيه دينكم قاله الحسن يعني فيه ما تحتاجون اليه من امر دينكم
والثالث فيه تذكرة لكم لما تلقونه من رجعة أو عذاب قاله الزجاج
قوله تعالى أفلا تعقلون ما فضلتكم به على غيركم (5/341)
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا الى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعولهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين
ثم خوفهم فقال وكما قصمنا قال المفسرون واللغويون معناه وكم أهلكنا وأصل القصم الكسر وقوله كانت ظالمة أي كافرة والمراد أهلها فلما أحسوا بأسنا أي رأوا عذابنا بحاسة البصر إذا هم منها يركضون أي يعدون وأصل الركض تحريك الرجلين يقال ركضت الفرس إذا أعديته بتحريك رجليك فعدا
قوله تعالى لا تركضوا قال المفسرون هذا قول الملائكة لهم وارجعوا الى ما أترفتم فيه أي الى نعمكم التي اترفتكم وهذا توبيخ لهم
وفي قوهل لعلكم تسألون قولان
أحدهما تسألون من دنياكم شيئا استهزاء بهم قاله قتادة
والثاني تسألون عن قتل نبيكم قاله ابن السائب فلما أيقنوا بالعذاب قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا وقيل بتكذيب نبينا فما زالت تلك دعواهم أي ما زالت تلك الكلمة التي هي يا ويلنا إنا كنا ظالمين قولهم يرددونها حتى جعلناهم حصيدا بالعذاب وقيل بالسيوف خامدين أي ميتين كخمود النار إذا طفئت
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقدف (5/342)
بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يتسحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون
قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين أي لم نخلق ذلك عبثا إنا خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس بخلقه فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقه لنجازي أولياءنا ونعذب أعداءنا
قوله تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا في سبب نزولها قولان
أحدها أن المشركين لما قالوا الملائكة بنات الله والآلهة بناته نزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن نصارى نجران قالوا إن عيسى ابن الله فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال
أحدهما الولد رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي قال الزجاج المعنى لو أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو نلهى به
والثاني المرأة رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة (5/343)
والثالث اللعب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قوله تعالى لاتخذناه من لدنا قال ابن جريج لا تخذنا نساء او ولدا من اهل السماء لا من اهل الأرض قال ابن قتيبة وأصل اللهو الجماع فكني عنه باللهو كما كني عنه بالسر والمعنى لو فعلنا ذلك لاتخذناه من عندنا لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره
وفي قوله إن كنا فاعلين قولان
أحدهما أن إن بمعنى ما قاله ابن عباس والحسن وقتادة
والثاني أنها بمعنى الشرط قال الزجاج والمعنى إن كنا نفعل ذلك ولسنا ممن يفعله قال والقول الأول قول المفسرين والثاني قول النحويين وهم يستجيدون القول الأول أيضا لأن إن تكون في موضع النفي إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام تقول إن كنت لصالحا معناه ما كنت إلا صالحا
قوله تعالى بل أي دع ذاك الذي قالوا فانه باطل نقذف بالحق أي نسلط الحق وهو القرآن على الباطل وهو كذبهم فيدمغه قال ابن قتيبة أي يكسره واصل هذا إصابة الدماع بالضرب وهو مقتل فاذا هو زاهق أي زائل ذاهب قال المفسرون والمعنى إنا نبطل كذبهم بما نثبين من الحق حتى يضمحل ولكم الويل مما تصفون أي من وصفكم الله بما لا يجوز وله من في السموات والأرض يعني هم عبيده وملكه ومن عنده يعني الملائكة
وفي قوله ولا يستحسرون ثلاثة أقوال
أحدها لا يرجعون رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (5/344)
والثاني لا ينقطعون قاله مجاهد وقال ابن قتيبة لا يعيون والحسر المنقطع الواقف إعياء وكلالا
والثالث لا يملون قاله ابن يزيد
قوله تعالى لا يفترون قال قتادة لا يسأمون وسئل كعب أما يشلغهم شأن أما تشغلهم حاجة فقال للسائل يا ابن أخي جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ألست تأكل وتشرب وتقوم وتجلس وتجيء وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس فكذلك جعل هلم التسبيح ثم إن الله تعالى عاد الى توبيخ المشركين فقال أم اتخذوا آلهة من الأرض لأن أصنامهم من الأرض هي سواء كانت من ذهب أو فضة أو خشب أو حجارة هم يعني الآلهة ينشرون أي يحيون الموتى وقرا الحسن ينشرون بفتح الياء وضم الشين وهذا استفهام بمعنى الجحد والمعنى ما اتخذوا آلهة تنشر ميتا لو كان فيهما يعني السماء والارض آلهة يعني معبودين إلا الله قال الفراء سوى الله وقال الزجاج غير الله
قوله تعالى لفسدتا أي لخربتا وبطلتا وهلك من فيهما لوجود التمانع بين الآلهة فلا يجري أمر العالم على النظام لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعدا لم يسلم من الخلاف
قوله تعالى لا يسأل عما يفعل أي عما يحكم في عباده من هدي وإضلال وإعزاز وإذلال لأنه المالك للخلق والخلق يسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم ولما أبطل عز و جل أن يكون إله سواه من حيث العقل بقوله لفسدتا أبطل ذلك من حيث الأمر فقال أم اتخذوا من دونه آلهة وهذا استفهام إنكار وتوبيخ قل (5/345)
هاتوا برهانكم على ما تقولون هذا ذكر من معي يعني القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبغني الى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وذكر من قبلي يعني الكتب المنزلة والمعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبله فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به قال الزجاج قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أخبر أمته بأن لهم إلها غير الله
قوله تعالى بل أكثرهم يعني كفار مكة لا يعلمون الحق وفيه قولان
أحدهما انه القرآن قاله ابن عباس والثاني التوحيد قاله مقاتل فهم معرضون عن التفكر والتأمل وما يجب عليهم من الإيمان
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا انا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين
قوله تعالى من رسول الا بوحي قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم الا نوحي بالنون والباقون بالياء
قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا في القائلين لهذا قولان
أحدهما أنهم مشركوا قريش قاله ابن عباس وقال ابن اسحاق القائل لهذا النضر بن الحارث
والثاني أنهم اليهود قالوا إن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة قاله (5/346)
قتادة فعلى القولين المراد بالولد الملائكة وكذلك المراد بقوله بل عباد مكرمون والمعنى بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم لا يسبقونه بالقول أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به وقال ابن قتيبة لا يقولون حتى يقول ثم يقولون عنه ولا يعملون حتى يأمرهم
قوله تعالى يعلم ما بين أيديهم أي ما قدموا من الأعمال وما خلفهم ما هم عاملون ولا يشفعون يوم القيامة وقيل لا يستغفرون في الدنيا إلا لمن ارتضى أي لمن رضي عنه وهم من خشيته أي من خشيتهم منه فأضيف المصدر الى المفعول مشفقون أي خائفون وقال الحسن يرتعدون ومن يقل منهم أي من الملائكة قال الضحاك في آخرين هذه خاصة لإبليس لم يدع أحد من الملائكة إلى عبادة نفسه سواه قال ابو سليمان الدمشقي وهذا قول من قال إنه من الملائكة فان ابليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه الى الأرض ومن قال إنه ليس من الملائكة قال هذا على وجه التهديد وما قال أحد من الملائكة ذلك
أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (5/347)
قوله تعالى أولم ير الذين كفروا أي أولم يعلموا وقرأ ابن كثير ألم ير الذين كفروا بغير واو بين الألف واللام وكذلك هي في مصاحف أهل مكة أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما قال ابو عبيدة السموات جمع والأرض واحدة فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين جمع وبين واحد والرتق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء ومعنى الرتق الذي ليس فيه ثقب قال الزجاج المعنى كانتا ذواتي رتق فجعلهما ذوات فتق وإنما لم يقل رتقين لأن الرتق مصدر
وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال
أحدها أن السموات كانت رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية والضحاك في آخرين
والثاني أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتقهما الله تعالى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة
والثالث أنه فتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعا ومن السماء ست سموات فصارت سبعا رواه السدي عن أشياخه وابن أبي نجيح عن مجاهد
قوله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي وقرا معاذ القارىء وابن أبي عبلة وحميد بن قيس كل شيء حيا بالنصب
وفي هذا الماء قولان
أحدهما أنه الماء المعروف والمعنى جعلنا الماء سببا لحياة كل حي قاله الأكثرون والثاني أنه النطفة قاله ابو العالية (5/348)
قوله تعالى وجعلنا في الأرض رواسي قد فسرناه في النحل 15
قوله تعالى وجعلنا فيها أي في الرواسي فجاجا قال ابو عبيدة هي المسالك قال الزجاج الفجاج جمع فج وهو كل منخرق بين جبلين ومعنى سبلا طرقا قال ابن عباس جعلنا من الجبال طرقا كي تهتدوا الى مقاصدكم في الأسفار قال المفسرون وقوله سبلا تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة فقد يكون الفج غير نافذ وجعلنا السماء سقفا أي هي الأرض كالسقف
وفي معنى محفوظا قولان
أحدهما بالنجوم من الشياطين قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني محفوظا من الوقوع إلا باذن الله قاله الزجاج
قوله تعالى وهم يعني كفار مكة عن آياتها أي شمسها وقمرها ونجومها قال الفراء وقرا مجاهد عن آيتها فوحده فجعل السماء بما فيها آية وكل صواب
قوله تعالى كل يعني الطوالع في فلك قال ابن قتيبة الفلك مدار النجوم الذي يضمها وسماه فلكا لاستدارته ومنه قيل فلكه المغزل وقد فلك ثدي المرأة قال أبو سليمان وقيل إن الفلك كهيئة الساقية من ماء مستديرة دون السماء وتحت الأرض فالأرض وسطها والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفلك وليس الفلك يديرها ومعنى يسبحون يجرون قال الفراء لما كانت السباحة من أفعال الآدميين ذكرت بالنون كقوله رأيتهم لي ساجدين يوسف 40 لأن السجود من أفعال الآدميين (5/349)
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفائن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون
قوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد سبب نزولها أن ناسا قالوا إن محمدا لا يموت فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ومعنى الآية ما خلدنا قبلك أحدا من بني آدم والخلد البقاء الدائم أفان مت فهم الخالدون يعني مشركي مكة لأنهم قالوا نتربص به ريب المنون الطور 30
قوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير قال ابن زيد نختبركم بما تحبون لننظر كيف شكركم وبما تكرهون لننظر كيف صبركم
قوله تعالى وإلينا يرجعون قرأ ابن عامر ترجعون بتاء مفتوحة وروى ابن عباس عن ابي عمرو يرجعون بياء مضمومة وقرأ الباقون بتاء مضمومة
قوله تعالى وإذا رآك الذين كفروا قال ابن عباس يعني المستهزئين وقال السدي نزلت في أبي جهل مر به رسول الله فضحك وقال هذا نبي نبي عبد مناف وإن بمعنى ما ومعنى هزوا مهزوءا به أهذا الذي يذكر آلهتكم أي يعيب أصنامكم وفيه أضمار يقولون وهم بذكر الرحمن هم كافرون وذلك أنهم قالوا ما نعرف الرحمن فكفروا بالرحمن
خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين (5/350)
كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى خلق الإنسان من عجل وقرأ أبو رزين العقيلي ومجاهد والضحاك خلق الإنسان بفتح الخاء واللام ونصب النون وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب
وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها النضر بن الحارث وهوالذي قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية الانفال 32 رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني آدم عليه السلام قاله سعيد بن جبير والسدي في آخرين
والثالث أنه اسم جنس قاله علي بن أحمد النيسابوري فعلى هذا يدخل النضر بن الحارث وغيره في هذا وإن كانت الآية نزلت فيه
فأما من قال أريد به آدم ففي معنى الكلام قولان
أحدهما أنه خلق عجولا قاله الأكثرون فعلى هذا يقول لما طبع آدم على هذا المعنى وجد في أولاده وأورثهم العجل
والثاني خلق بعجل استعجل بخلقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة وهو آخر الأيام الستة قاله مجاهد
فأما من قال هو اسم جنس ففي معنى الكلام قولان
أحدهما خلق عجولا قال الزجاج خوطبت العرب بما تعقل (5/351)
والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب إنما خلقت من لعب يريدون المبالغة في وصفه بذلك
والثاني أن في الكلام تقديما وتأخيرا والمعنى خلقت العجلة في الإنسان قاله ابن قتيبة
قوله تعالى سأريكم آياتي فيه قولان
أحدهما ما أصاب الأمم المتقدمة والمعنى إنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين قاله ابن السائب
والثاني أنها القتل ببدر قاله مقاتل
قوله تعالى فلا تستعجلون اثبت الياء في الحالين يعقوب
قوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد يعنون القيامة لم يعلم الذين كفروا جوابه محذوف والمعنى لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا حين لا يكفون أي لا يدفعون عن وجوههم النار إذا دخلوا ولا عن ظهورهم لإحاطتها بهم ولا هم ينصرون أي يمنعون مما نزل بهم بل تأتيهم يعني الساعة بغتة فجأة فتبهتهم تحيرهم وقد شرحنا هذا عند قوله فبهت الذي كفر البقرة 258 فلا يستطيعون ردها أي صرفها عنهم ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة ثم عزى نبيه فقال ولقد استهزىء برسل من قبلك أي كما فعل بك قومك فحاق أي نزل بالذين سخروا منهم أي من الرسل ما كانوا به يستهزؤون يعني العذاب الذي كانوا استهزؤوا به
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون بل متعنا (5/352)
هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون
قوله تعالى قل من يكلؤكم المعنى قل لهؤلاء المستعجلين بالعذاب من يحفظكم من بأس الرحمن إن أراد إنزاله بكم وهذا استفهام إنكار أي لا أحد يفعل ذلك بل هم عن ذكر ربهم أي عن كلامه ومواعظه معرضون لا يتفكرون ولا يعتبرون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا فيه تقديم وتأخير وتقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم وهاهنا تم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لا يستطيعون نصر أنفسهم والمعنى من لا يقدر عل نصر نفسه عما يراد به فكيف ينصر غيره
قوله تعالى ولا هم في المشار اليهم قولان
أحدهما أنهم الكفار وهو قول ابن عباس والثاني أنهم الأصنام قاله قتادة
وفي معنى يصحبون أربعة أقوال
أحدها يجارون رواه العوفي عن ابن عباس قال ابن قتيبة والمعنى لا يجيرهم منا احد لأن المجير صاحب لجاره والثاني يمنعون رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث ينصرون قاله مجاهد والرابع لا يصحبون بخير قاله قتادة
ثم بين اغترارهم بالإمهال فقال بل متعنا هؤلاء وآباءهم يعني أهل مكة حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها (5/353)
من أطرافها قد شرحناه في الرعد 41 أفهم الغالبون أي مع هذه الحال وهو نقص الأرض والمعنى ليسوا بغالبين ولكنهم المغلوبون قل إنما أنذركم أي أخوفكم بالوحي أي بالقرآن والمعنى إنني ما جئت به من تلقاء نفسي إنما أمرت فبلغت ولا يسمع الصم الدعاء وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء مضمومة الصم نصبا وقرأ ابن يعمر والحسن ولا يسمع بضم الياء وفتح الميم الصم بضم الميم شبه الكفار بالصم الذين لا يسمعون نداء مناديهم ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا كالصم لا يفيدهم صوت مناديهم ولئن مستهم أي أصابتهم نفحة قال ابن عباس طرف وقال الزجاج المراد أدنى شيء من العذاب ليقولن ياويلنا والويل ينادي به كل من وقع في هلكة
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين
قوله تعالى ونضع الموازين القسط قال الزجاج المعنى ونضع الموازين ذوات القسط والقسط العدل وهو مصدر يوصف به يقال ميزان قسط وميزانان قسط وموازين قسط قال الفراء القسط من صفة الموازين وإن كان موحدا كما تقول أنت عدل وأنتم رضى وقوله ليوم القيامة وفي يوم القيامة سواء وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول الأعراف 8
فان قيل إذا كان الميزان واحدا فما المعنى بذكر الموازين (5/354)
فالجواب أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنة بعد وزنة سميت موازين
قوله تعالى فلا تظلم نفس شيئا أي لا ينقص محسن من إحسانه ولا يزاد مسيء على إساءته وإن كان مثقال حبة أي وزن حبة وقرأ نافع مثقال برفع اللام قال الزجاج ونصب مثقال على معنى وإن كان العمل مثقال حبة وقال ابو علي الفارسي وإن كان الظلامة مثقال حبة لقوله تعالى فلا تظلم نفس شيئا قال ومن رفع أسند الفعل الى المثقال كما اسند في قوله تعالى وإن كان ذو عسرة البقرة 280
قوله تعالى أتينا بها أي جئنا بها وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد آتينا ممدودة أي جازينا بها
قوله تعالى وكفى بنا حاسبين قال الزجاج هو منصوب على وجهين احدهما التمييز والثاني الحال
ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون
قوله تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه التوارة التي فرق بها الحلال والحرام قاله مجاهد وقتادة
والثاني البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون قاله ابن زيد
والثالث النصر والنجاة لموسى وإهلاك فرعون قاله ابن السائب
قوله تعالى وضياء روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة قال الزجاج وكذلك قال بعض النحويين أن المعنى الفرقان ضياء وعند (5/355)
البصريين أن الواو لا تزاد ولا تأتي إلا بمعنى العطف فهي هاهنا مثل قوله تعالى فيها هدى ونور المائدة 44 قال المفسرون والمعنى أنهم استضاؤوا بالتوراة حتى اهتدوا بها في دينهم ومعنى قوله تعالى وذكرا للمتقين أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه الذين يخشون ربهم بالغيب فيه أربعة أقوال
أحدها يخافونه ولم يروه قاله الجمهور والثاني يخشون عذابه ولم يروه قاله مقاتل والثالث يخافونه من حيث لا يراهم أحد قاله الزجاج والرابع يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم إذا كانوا بين الناس قاله ابو سليمان الدمشقي ثم عاد إلى ذكر القرآن فقال وهذا يعني القرآن ذكر لمن تذكر به وعظه لمن اتعظ مبارك أي كثير الخير أفأنتم يا أهل مكة له منكرون أي جاحدون وهذا استفهام توبيخ
ولقد آتينا ابرهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم اليه يرجعون
قوله تعالى ولقد آتينا ابراهيم رشده أي هداه من قبل وفيه ثلاثة أقوال
أحدها من قبل بلوغه قاله ابو صالح عن ابن عباس
والثاني آتيناه ذلك في العلم السابق قاله الضحاك عن ابن عباس (5/356)
والثالث من قبل موسى وهارون قال الضحاك وقد أشرنا الى قصة ابراهيم في الأنعام 75
قوله تعالى وكنا به عالمين أي علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد ثم بين متى آتاه فقال إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل يعني الاصنام والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى وأصله من مثلث الشيء بالشيء إذا شبهته به وقوله التي أنتم لها أي على عبادتها عاكفون أي مقيمون فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدوا بهم فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءهم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين يعنون أجاد انت أم لاعب
قوله تعالى لأكيدن أصنامكم الكيد احتيال الكائد في ضر المكيد والمفسرون يقولون لأكيدنها بالكسر بعد أن تولوا أي تذهبوا عنها وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون اليه ولا يخلفون بالمدينة أحدا فقالوا لإبراهيم لو خرجت معنا الى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق قال إني سقيم وألقى نفسه وقال سرا منهم وتالله لأكيدن أصنامكم فسمعه رجل منهم فأفشاه عليه فرجع إلى بيت الأصنام وكانت فيما ذكره مقاتل بن سليمان اثنين وسبعين صنما من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فكسرها ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير فذلك قوله فجعلهم جذاذا قرأ الأكثرون جذاذا بضم الجيم وقرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود وأبو رزين وقتادة وابن محيصن والأعمش والكسائي جذاذا بكسر الجيم وقرأ أبو رجاء العطاردي وأيوب السختياني وعاصم الجحدري جذاذا بفتح الجيم وقرأ الضحاك وابن يعمر جذذا (5/357)
بفتح الجيم من غير الف وقرأ معاذ القارىء وأبو حيوة وابن وثاب جذذا بضم الجيم من غير ألف قال أبو عبيدة أي مستأصلين قال جرير ... بني المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رمادا فلا اصل ولا طرف ...
أي لم يبق منهم شيء ولفظ جذاذ يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكر والمؤنث وقال ابن قتيبة جذاذا أي فتاتا وكل شيء كسرته فقد جذذته ومنه قيل للسويق الجذيذ وقرأ الكسائي جذاذا بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ مثل ثقيل وثقال وخفيف وخفاف والجذيذ بمعنى المجذوذ وهو المكسور إلا كبيرا لهم أي كسر الأصنام إلا أكبرها قال الزجاج جائز أن يكون أكبرها في ذاته وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه لعلهم إليه يرجعون في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع الى الصنم ثم فيه قولان أحدهما لعلهم يرجعون اليه فيشاهدونه هذا قول مقاتل والثاني لعلهم يرجعون اليه بالتهمة حكاه ابو سليمان الدمشقي
والثاني أنها ترجع الى ابراهيم والمعنى لعلهم يرجعون الى دين ابراهيم بوجوب الحجة عليهم قاله الزجاج
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالو ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبرهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (5/358)
فلما رجعوا من عيدهم ونظروا الى آلهتهم قالو من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين أي قد فعل ما لم يكن له فعله فقال الذي سمع ابراهيم يقول لأكيدن أصنامكم سمعنا فتى يذكرهم قال الفراء أي يعيبهم نقول للجرل لئن ذكرتني لتندمن تريد بسوء
قوله تعالى فأتوا به على أعين الناس أي بمرأى منهم لا تأتوا به خفية قال أبو عبيدة تقول العرب إذا أظهر الأمر وشهر كن ذلك على أعين الناس
قوله تعالى لعلهم يشهدون فيه ثلاثة أقوال
أحدها يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة
والثاني يشهدون أنه فعل ذلك قاله السدي
والثالث يشهدون عقابه وما يصنع به قاله محمد بن اسحاق
قال المفسرون فانطلقوا به الى نمرود فقال له أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها فاسألوهم إن كانوا ينطقون من فعله بهم وهذا إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق
واختلف العلماء في وجه هذا القول من ابراهيم عليه السلام على قولين
أحدهما أنه وإن كان في صورة الكذب إلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له لا يصلح أن يكون إلها ومثله قول الملكين لدواد إن هذا أخي ولم يكن أخاه له تسع وتسعون نعجة ص23 ولم يكن له شيء (5/359)
فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل وأنه هو المراد بالفعل والمثل المضروب ومثل هذا لا تسميه العرب كذبا
والثاني أنه من معاريض الكلام فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى بل فعله ويقول معناه فعله من فعله ثم يبتدىء كبيرهم هذا قال الفراء وقرأ بعضهم بل فعله بتشديد اللام يريد فعله كبيرهم هذا قال الفراء وقرأ بعضهم بل فعلته بتشديد اللام يريد فلعله كبيرهم هذا وقال ابن قتيبة هذا من المعاريض ومعناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم وكذلك قوله إني سقيم الصافات 89 أي سأسقم ومثله إنك ميت الزمر 30 أي ستموت وقوله لا تؤاخذني بما نسيت الكهف 74 قال ابن عباس لم ينس ولكنه من معاريض الكلام والمعنى لا تؤاخذني بنسياني ومن هذا قصة الخصمين إذ تسوروا المحراب ص21 مثله وإنا أو إياكم لعلى هدى سبأ 24 والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرا فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف من الكشف واحسن من التصريح وروي أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون فلما صدروا خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه فأخذ منه برا وجعله في عكمه فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان رأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل فأنشأ يقول ... عكم تغشى بعض أعكام القوم ... لم أر عكما سارقا قبل اليوم ...
فخون صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح قال ابن الأنباري كلام ابراهيم كان صدقا عند البحث ومعنى قول النبي صلى الله عليه و سلم كذب إبراهيم ثلاثة كذبات (5/360)
قال قولا يشبه الكذب في الظاهر وليس بكذب قال المصنف وقد ذهب جماعة من العلماء إلى هذا الوجه وأنه من المعاريض والمعاريض لا تذم خصوصا إذا احتيج اليها روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يسرني أن (5/361)
لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي وقال النخعي لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم وقال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعجوز إن الجنة لا تدخلها العجائز أراد قوله تعالى إنا أنشأناهن إنشاء الواقعة 35 وروي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يمازح بلالا فيقول ما أخت خالك منك وقال لامرأة من زوجك فسمته له فقال الذي في عينيه بياض وقال لرجل إنا حاملوك على ولد ناقة وقال له العباس ما ترجو لأبي طالب فقال كل خير أرجوه من ربي وكان ابو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سأله أحد من هذا بين يديك يقول هاد يهديني وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له فقالت له وعلى فراشي أيضا فجحد فقالت له فاقرأ القرآن فقال ... وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق مشهور من الصبح طالع ... يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (5/362)
فقالت آمنت بالله وكذبت بصري فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فضحك وأعجبه ما صنع وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري كيف لبناه قال احلب في أي اناء شئت قال كيف الوطاء قال افرش ونم قال كيف نجاؤها قال إذا رأتيها في الإبل عرفت مكانها علق سوطك وسر قال كيف قونها قال احمل على الحائط ما شئت فاستصراها فلم ير شيئا مما وصف فرجع اليه فقال لما أر فيها شيئا مما وصفتها به قال ما كذبتك قال أقلني قال نعم وخرج شريح من عند زياد وهو مريض فقيل له كيف وجدت الأمير قال تركته يأمر وينهى فقيل له ما معنى يأمر وينهى قال يأمر بالوصية وينهى عن النوح وأخذ محمد بن يوسف حجرا المدري فقال العن عليا فقال إن الأمير أمرني أن ألعن عليا محمد بن يوسف فالعنوه لعنه الله وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن علي فقال لعن الله من لعن الله ولعن علي ثم قال إن هذا الأمير قد أبى إلا أن ألعن عليا فالعنوه لعنه الله وامتحنت الخوارج رجلا من الشيعة فجعل يقول أنا من علي ومن عثمان بريء وخطب رجل امرأة وتحته أخرى فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا فزوجوه فأقام مع المرأة الأولى فادعوا أنه قد طلق فقال أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلقتها ثم فلانة فطلقتها ثم فلانة فطلقتها قالو بلى قال فقد طلقت ثلاثا وحكي أن رجلا عثر به الطائف ليلة فقال له من أنت فقال ... أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود (5/363)
ترى الناس أفوجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود ...
فظن الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة فلما أصبح سأل عنه فاذا هو ابن باقلائي ومثل هذا كثير
فرجعوا الى انفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون
قوله تعالى فرجعوا الى أنفسهم فيه قولان
أحدهما رجع بعضهم الى بعض والثاني رجع كل منهم الى نفسه متفكرا
قوله تعالى فقالوا إنكم أنتم الظالمون فه خمسة أقوال
أحدها حين عبدتم من لا يتكلم قاله ابن عباس
والثاني حين تتركون آلهتكم وحدها وتذهبون قاله وهب بن منبه
والثالث في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير روي عن وهب أيضا
والرابع لإبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام قاله ابن اسحاق ومقاتل
والخامس أنتم ظالمون لإبراهيم حين سألتموه وهذه أصنامكم حاضرة فاسألوها ذكره ابن جرير
قوله تعالى ثم نكسوا على رؤوسهم وقرأ أبو رزين العقيلي وابن أبي عبلة وأبو حيوة نكسوا برفع النون وكسر الكاف مشددة وقرأ سعيد ابن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري نكسوا بفتح النون والكاف (5/364)
مخففة قال ابو عبيدة نكسوا قلبوا تقول نكست فلانا على راسه إذا قهرته وعلوته
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال
أحدها أدركتهم حيرة فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قاله مقتادة
والثاني رجعوا الى أول ما كانوا يعرفونها به من انها لا تنطق قاله ابن قتيبة
والثالث انقلبوا على ابراهيم يحتجون عليه بعد أن اقروا له ولاموا أنفسهم في تهمته قاله ابو سليمان الدمشقي وفي قوله لقع علمت إضمار قالوا وفي هذا إقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق فحينئذ توجهت لإبراهيم الحجة فقال موبخا لهم أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم أي لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا ولا يضركم إذا لم تعبدوه وفي هذا حث لهم على عبادة من يملك النفع والضر أف لكم قال الزجاج معناه النتن لكم فلم الزمهم الحجة غضبوا فقالوا حرقوه وذكر في التفسير أن نمرود استشارهم بأي عذاب أعذبه فقال رجل حرقوه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا (5/365)
صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا واوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة وكانا لنا عابدين
قوله تعالى وانصروا آلهتكم أي بتحريقه لأنه يعيبها إن كنتم فاعلين أي ناصريها
الإشارة الى القصة
ذكر أهل التفسر أنهم حبسوا ابراهيم عليه السلام في بيت ثم بنوا له حيرا طول جداره ستون ذراعا الى سفح جبل منيف ونادى منادي الملك أيها الناس احتطبوا لابراهيم ولا يتخلفن عن ذلك صغير ولا كبير فمن تخلف ألقي في تلك النار ففعلوا ذلك أربعين ليلة حتى إن كانت المرأة لتقول إن ظفرت بكذا لأحتطبن لنار ابراهيم حتى إذا كان الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحير وقذفوا فيه النار فارتفع لهبها حتى إن كان الطائر ليمر بها فيحترق من شدة حرها ثم بنوا بنيانا شامخا وبنوا فوقه منجنيقا ثم رفعوا ابراهيم على رأس البنيان فرفع ابراهيم رأسه الى السماء فقال اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة ربنا ابراهيم يحرق فيك فائذن لنا في نصرته فقال أنا أعلم به وإن دعاكم فأغيثوه فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة وقيل ست وعشرين فقال حسبي الله ونعم الوكيل فاستقبله جبريل فقال يا ابراهيم ألك حاجة قال أما اليك (5/366)
فلا قال جبريل فسل ربك فقال حسبي من سؤالي علمه بحالي فقال الله عز و جل يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إلا طفئت وظنت أنها عنيت وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها وقال ابن عباس لو لم يتبع بردها سلاما لمات ابراهيم من بدرها قال السدي فأخذت الملائكة بضبعي ابراهيم فأجلسوه على الأرض فاذا عين من ماء عذب وورد أحمر ونرجس قال كعب ووهب فما أحرقت النار من ابراهيم الا وثاقه وأقام في ذلك الموضع سبعة ايام وقال غيرهما أربعين أو خمسين يوما فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسه من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وإن آزر أتى نمرود فقال أئذن لي أن اخرج عظام ابراهيم فأدفنها فانطلق نمرود ومعه الناس فأمر بالحائط فنقب فاذا ابراهيم في روضة تهتز وثيابه تندى وعليه القميص وتحته الطنفسة والملك الى جنبه فناداه نمرود يا ابراهيم إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير هل تستطيع أن تخرج قال نعم فقام إبراهيم يمشي حتى خرج فقال من الذي رأيت معك قال ملك أرسله الى ربي ليؤنسني فقال نمرود إني مقرب (5/367)
لإلهك قربانا لما رأيت من قدرته فقال إذن لا يقبل الله منك ما كنت على دينك فقال يا ابراهيم لا استطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له فذبح القربان وكف عن ابراهيم
قال المفسرون ومعنى كوني بردا أي ذات برد وسلاما أي سلامة وأرادوا به كيدا وهو التحريق بالنار فجعلناهم الأخسرين وهو أن الله تعالى سلط البعوص عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم ودخلت واحدة في دماع نمرود حتى أهلكته والمعنى أنهم كادوه بسوء فانقلب السوء عليهم
قوله تعالى ونجيناه أي من نمرود وكيده ولوطا وهو ابن أخي ابراهيم وهو لوط بن هاران بن تارح وكان قد آمن به فهاجرا من أرض العراق الى الشام وكانت سارة مع ابراهيم في قول وهب وقال السدي إنما هي إبنة ملك حران لقيها ابراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها وكانت قد طعنت على قومها في دينهم
فأما قوله تعالى الى الأرض التي باركنا فيها ففيها قولان
أحدهما أنها أرض الشام وهذا قول الأكثرين وبركتها أن الله عز و جل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار
والثاني أنها مكة رواه العوفي عن ابن عباس والاول اصح
قوله تعالى ووهبنا له يعني ابراهيم اسحاق ويعقوب نافلة وفي معنى النافلة قولان
أحدهما أنها بمعنى الزيادة والمراد بها يعقوب خاصة فكأنه سأل واحدا فأعطي اثنين وهذا مذهب ابن عباس وقتادة وابن زيد والفراء
والثاني أن النافلة بمعنى العطية والمراد بها اسحاق ويعقوب وهذا مذهب مجاهد وعطاء (5/368)
قوله تعالى وكلا جعلناه صالحين يعني ابراهيم واسحاق ويعقوب قال ابو عبيدة كل يقع خبره على لفظ الواحد لأن لفظه لفظ الواحد ويقع خبره على لفظ الجميع لأن معناه معنى الجميع
قوله تعالى وجعلناهم أئمة أي رؤوسا يقتدى بهم في الخير يهدون بأمرنا أي يدعون الناس الى ديننا بأمرنا إياهم بذلك وأوحينا إليهم فعل الخيرات قال ابن عباس شرائع النبوة وقال مقاتل الأعمال الصالحة وإقام الصلاة قال الزجاج حذف الهاء من إقامة الصلاة قليل في اللغة تقول اقام إقامة والحذف جائز لأن الإضافة عوض من الهاء
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وادخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين
قوله تعالى ولوطا آتيناه حكما قال الزجاج انتصب لوط بفعل مضمر لأن قبله فعلا فالمعنى وأوحينا إليهم وآتينا لوطا وذكر بعض النحويين أنه منصوب على واذكر لوطا وهذا جائز لأن ذكر ابراهيم قد جرى فحمل لوط على معنى واذكر
قال المفسرون لما هاجر لوط مع ابراهيم نزل ابراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من ابراهيم فبعثه الله نبيا
فأما الحكم ففيه قولان
أحدهما أنه النبوة قاله ابن عباس
والثاني الفهم والعقل قاله مقاتل وقد ذكرنا فيه أقوالا في سورة (5/369)
يوسف 22 وأما القرية هاهنا فهي سدوم والمراد أهلها والخبائث أفعالهم المنكرة فمنها اتيان الذكور وقطع السبيل الى غير ذلك مما قد ذكره الله عز و جل عنهم في مواضع هود 78 والحجر 69
قوله تعالى وأدخلناه في رحمتنا أي بانجائه من بينهم
ونوحا إذا نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين
قوله تعالى ونوحا المعنى واذكر نوحا وكذلك ما يأتيك من ذكر الأنبياء إذ نادى أي دعا على قومه من قبل أي من قبل ابراهيم ولوط فأما الكرب العظيم فقال ابن عباس هو الغرق وتكذيب قومه
قوله تعالى ونصرناه من القوم أي منعناه منهم أن يصلوا اليه بسوء وقيل من بمعنى على
وداود وسليمن إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمن وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمن الريح عاصفة تجري بأمره الى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين
قوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث وفيه قولان (5/370)
أحدهما أنه كان عنبا قاله ابن مسعود ومسروق وشريح
والثاني كان زرعا قاله قتادة
إذ نفشت فيه غنم القوم قال ابن قتيبة أي رعت ليلا يقال نفشت الغنم بالليل وهي إبل نفش ونفاش نفاش والواحد نافش وسرحت وسربت بالنهار قال قتادة النفش بالليل والهمل بالنهار وقال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع
الإشارة الى القصة
ذكر اهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والأخر صاحب غنم فتفلتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تبق منه شيئا فاختصما الى داود فقال لصاحب الحرث لك رقاب الغنم فقال سليمان أو غير ذلك قال ما هو قال ينطلق اصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقبل أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه الغنم دفع هؤلاء الى هؤلاء غنمهم ودفع هؤلاء الى هؤلاء كرمهم فقال داود قد اصبت القضاء ثم حكم بذلك فذلك قوله وكنا لحكمهم شاهدين وفي المشار اليهم قولان
أحدهما داود وسليمان فذكرهما بلفظ الجمع لأن الاثنين جمع هذا قول الفراء
والثاني أنهم داود وسليمان والخصوم قاله ابو سليمان الدمشقي وقر ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة وكنا لحكمهما على التثنية ومعنى (5/371)
شاهدين أنه لم يغب عنا من أمرهم شيء ففهمناها سليمان يعني القضية والحكومة وإنما كنى عنها لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذكر الحكم وكلا منهما آتينا حكما وقد سبق بيانه قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ولكنه أثنى على سليمان لصوابه وعذر دواد باجتهاده
فصل
قال ابو سليمان الدمشقي كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد ولم يكن نصا إذ لو كان نصا ما اخلتفا قال القاضي ابو يعلى وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه لا ضمان عليه ليلا ونهارا إلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا لأن داود حكم بالضمان وشرع من قبلنا شرع لنا مالم يثبت نسخه فان قيل فقد ثبت نسخ هذا الحكم لأن داود حكم بدفع الغنم الى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شيء من ذلك قيل الآية تضمنت أحكاما منها وجوب الضمان وكيفيته فالنسخ حصل على كيفيته ولم يحصل على أصله فوجب التعلق به وقد روى حرام بن محيصه عن ابيه ان ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل (5/372)
قوله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن تقديره الكلام وسخرنا الجبال يسبحن مع داود قال ابو هريرة كان إذا سبح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذكر وقال غيره كان إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح
قوله تعالى وكنا فاعلين أي لذلك قال الزجاج المعنى وكنا نقدر على ما نريده
قوله تعالى وعلمناه صنعة لبوس لكم في المراد باللبوس قولان
أحدهما الدروع وكانت قبل ذلك صفائح وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد قاله قتادة
والثاني أن اللبوس السلاح كله من درع الى رمح قاله ابو عبيدة وقرأ ابو المتوكل وابن السميفع لبوس بضم اللام
قوله تعالى ليحصنكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ليحصنكم بالياء وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم لتحصنكم بالتاء وروى أبو بكر عن عاصم لنحصنكم بالنون خفيفة وقرأ ابو الدرداء وأبو عمران الجوني وابو حيوة لتحصنكم بتاء مرفوعة وفتح الهاء وتشديد الصاد وقرأ ابن مسعود وابو الجوزاء وحميد ابن قيس لتحصنكم بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها وقرأ ابو رزين العقيلي وابو المتوكل ومجاهد لنحصنكم بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها وقرأ معاذ القارئ وعكرمة وابن يعمر وعاصم الجحدري وابن السميفع ليحصنكم بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون (5/373)
فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه قال ابو علي الفارسي أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه ويجوز أن يكون اللباس لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه ويجوز أن يكون داود ويجوز أن يكون التعليم وقد دل عليه علمناه
ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى لأنه الدرع
ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله وعلمناه
ومعنى لتحصنكم لتحرزكم وتمنعكم من بأسكم يعني الحرب
قوله تعالى ولسليمان الريح وقرأ ابو عبد الرحمن السلمي وأبو عمران الجوني وأبو حيوة الحضرمي الرياح بألف مع رفع الحاء وقرأ الحسن وابو المتوكل وابو الجوزاء بالألف ونصب الحاء والمعنى وسخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري بأمره يعني بأمر سليمان الى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام وقد مر بيان بركتها في هذه السورة الأنبياء 72 والمعنى أنها كانت تسير به الى حيث شاء ثم تعود به الى منزله بالشام
قوله تعالى وكنا بكل شيء عالمين علمنا أن ما نعطي سليمان يدعوه الى الخضوع لربه
قوله تعالى ومن الشياطين من يغوصون له قال ابو عبيدة من تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكر والمؤنث قال المفسرون كانوا يغوصون في البحر فيستخرجون الجواهر ويعملون عملا دون ذلك قال الزجاج معناه سوى ذلك وكنا لهم حافظين أن يفسدوا ما عملوا وقال غيره أن يخرجوا عن أمره
وايوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (5/374)
فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين واسمعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين
قوله تعالى وأيوب إذ نادى ربه أي دعا ربه أني وقرأ أبو عمران الجوني إني بكسر الهمزة مسني الضر وقرأ حمزة مسني بتسكين الياء أي أصابني الجهد وأنت أرحم الراحمن أي أكثرهم رحمة وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت
الإشارة الى قصته
ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زماهنه وكان كير الإحسان فقال ابليس يا رب سلطني على ماله وولده وكان له ثلاثة عشر ولدا فان فعلت رأيته كيف يطيعني ويعصيك فقيل له قد سلطتك على ماله وولده فرجع ابليس فجمع شياطينه ومردته فبعث بعضهم الى دوابه ورعاته فاحتملوها حتى قذفوها في البحر وجاء ابليس في صورة قيمه فقال يا أيوب الا أراك تصلي وقد أقبلت ريح عاصف فاحتملت دوابك ورعاتها حتى قذفتها في البحر فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ من صلاته ثم قال الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مني فانصرف خائبا ثم أرسل بعض الشياطين الى جنانه وزروعه فأحرقوها وجاء فأخبره فقال مثل ذلك فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه وفأهلكوهم وجاء فأخبره فحمد الله وقال لإبليس وهو يظنه قيمه في ماله لو كان فيك خير لقبضك معهم فانصرف خائبا (5/375)
فقيل له كيف رأيت عبدي أيوب قال يا رب سلطني على جسده فسوف ترى قيل له قد سلطتك على جسده فجاء فنفخ في إبهام قدميه فاشتعل فيه مثل النار ولم يكن في زمانه أكثر بكاء منه خوفا من الله تعالى فلما نزل به البلاء لم يبك مخافة الجزع وبقي لسانه للذكر وقلبه للمعرفة والشكر وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ووقعت به حكة لا يملكها فحك بأظفاره حتى سقطت ثم بالمسوح ثم بالحجارة فأنتن جسمه وتقطع وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشا على كناسه ورفضه الخلق سوى زوجته واسمها رحمة بنت إفراييم بن يوسف ين يعقوب فكانت تختلف اليه بما يصلحه وروى أبو بكر القرشي عن الليث ابن سعد قال كان ملك يظلم الناس فكلمه في ذلك جماعة من الأنبياء وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه فأوحى الله اليه تركت كلامه من أجل خيلك لأطيلن بلاءك
واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال
أحدها ثماني عشرة سنة رواه انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني سبع سنين قاله ابن عباس وكعب ويحيى بن أبي كثير (5/376)
والثالث سبع سنين وأشهر قاله الحسن
والرابع ثلاث سنين قاله وهب
وفي سبب سؤاله العافية ستة اقوال
أحدها أنه اشتهى إداما فلم تصبه امرأته حتى باعت قرنا من شعرها فلما علم ذلك قال مسني الضر رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله فلما انتهى أجل البلاء يسر له الدعاء فاستجاب له رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أن نفرا من بني اسرائيل مروا به فقال بعضهم لبعض ما أصابه هذا الا بذنب عظيم فعند ذلك قال مسني الضر قاله نوف البكالي وقال عبد الله بن عبيد بن عمير كان له أخوان فأتياه يوما فوجدا ريحا فقالا لو كان الله علم منه خيرا ما بلغ به كل هذا فما سمع شيئا أشد عليه من ذلك فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق وهما يسمعان ثم قال اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق وهما يسمعان فخر ساجدا ثم قال اللهم لا ارفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله عز و جل ما به
والرابع أن ابليس جاء الى زوجته بسخلة فقال ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ فجاءت فأخبرته فقال إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتني أن أذبح لغير الله ثم طردها عنه فذهبت فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق خر ساجدا وقال مسني الضر قاله الحسن
والخامس ان الله تعالى أوحى اليه وهو في عنفوان شبابه إني مبتليك (5/377)
قال يا رب وأين يكون قلبي قال عندي فصب عليه من البلاء ما سمعتم حتى إذا بلغ البلاء منتهاه أوحى اليه أني معافيك قال يا رب وأين يكون قلبي قال عندك قال مسني الضر قاله ابراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدثنا به عنه
والسادس أن الوحي انقطع عنه اربعين يوما فخاف هجران ربه فقال مسني الضر ذكره الماوردي
فان قيل اين الصبر وهذا لفظ الشكوى
فالجواب أن الشكوى الى الله لا تنافي الصبر وإنما المذموم الشكوى الى الخلق ألم تسمع قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني الى الله يوسف 86 قال سفيان بن عيينه وكذلك من شكا الى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل في مرضه أجدني مغموما وأجدني مكروبا وقوله بل أنا وارأساه
قوله تعالى وآتيناه أهله يعني أولاده ومثلهم معهم فيه أربعة أقوال
أحدها أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم وآتاه مثلهم معهم في الدنيا قاله ابن مسعود والحسن وقتادة وروى أبو صالح عن ابن عباس كانت (5/378)
امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات فنشروا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات
والثاني أنهم كانوا قد غيبوا عنه ولم يموتوا فآتاه إياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة رواه هشام عن الحسن
والثالث آتاه الله اجور أهله في الآخرة وآتاه مثلهم في الدنيا قاله نوف ومجاهد
والرابع آتاه اهله ومثلهم معهم في الآخرة حكاه الزجاج
قوله تعالى رحمة من عندنا أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا وذكرى أي عظة للعابدين قال محمد بن كعب من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب فليقل إنه قد أصاب من هو خير مني
قوله تعالى وذا الكفل اختلفوا هل كان نبيا أم لا على قولين
أحدهما أنه لم يكن نبيا ولكنه كان عبدا صالحا قاله ابو موسى الأشعري ومجاهد ثم اختلف أرباب هذا القول في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال أحدها أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي فكفل بصلاته فسمي ذا الكفل قاله ابو موسى الأشعري والثاني أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ففعل فسمي ذا الكفل قاله مجاهد والثالث أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائمة نبي وفر منه مائة نبي فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا فسمي ذا الكفل قاله ابن السائب
والقول الثاني أنه كان نبيا قاله الحسن وعطاء قال عطاء (5/379)
أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء إني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ويصوم النهار لايفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك فقام شاب فقال أنا أتكفل لك بهذا فتكفل به فوفى فشكر الله له ذلك ونبأه وسمي ذا الكفل وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكفل أنه كان رجلا لا ينزع عن ذنب وأنه خلا بامرأة ليفجر بها فبكت وقالت ما فعلت هذا قط فقام عنها تائبا ومات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل والحديث معروف وقد ذكرته في الحدائق فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل وهذا غلط لأن ذلك اسمه الكفل والمذكور في القرآن يقال له ذو الكفل ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا وإذا قلنا إنه نبي فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر رحمه الله تعالى فوافقني وقال ليس هذا بذاك
قوله تعالى كل من الصابرين أي على طاعة الله وترك معصيته وأدخلناهم في رحمتنا في هذه الرحمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الجنة قاله ابن عباس والثاني النبوة قاله مقاتل والثالث النعمة والموالاة حكاها أبو سليمان الدمشقي
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت (5/380)
من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين
قوله تعالى وذا النون يعني يونس بن متى والنون السمكة أضيف إليها لابتلاعها إياه
قوله تعالى إذ ذهب مغاضبا قال ابن قتيبة المغاضبة مفاعلة وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمجادلة والمخاصمة وربما تكون من واحد كقولك سافرت وشارفت الأمر وهي هاهنا من هذا الباب وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري وابن السميفع مغضبا باسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف
واختلفوا في مغاضابته لمن كانت على قولين
أحدهما أنه غضب على قومه قاله أبن عباس والضحاك وفي غضبه عليهم ثلاثة أقوال أحدها أن الله تعالى أوحى إلى بني نبي يقال له شعيا أن ائت فلان الملك فقل له يبعث نبيا أمينا إلى بني إسرائيل وكان قد غزا بني إسرائيل ملك وسبا منهم الكثير فاراد النبي والملك أن يبعثا يونس إلى ذلك الملك ليكلمه حتى يرسلهم فقال يونس لشعيا هل أمرك اللهباخراجي قال لا قال فهل سماني لك قال لا قال فهاهنا غيري من الأنبياء فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك ولقومه هذا مروي عن ابن عباس وقد زدناه شرخا في يونس 98 والثاني أنه عانى من قومه أمرا صعبا من الأذى والتكذيب فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجرلا وما ظن أن هذا الفعل نوجب عليه ما جرى من العقوبة ذكره ابن الأنباري وقد روي عن وهب بن منبه قال لما حملت عليه أثقال النبوة ضاق بها ذرعا ولم يصبر (5/381)
فقذفها من يده وخرج هاربا والثالث أنه لما أوعدهم العذاب فتابوا ورفع عنهم قيل له ارجع إليهم فقال كيف أرجع فيجدوني كاذبا فانصرف مغاضبا لقومه عاتبا على ربه وقد ذكرنا هذا في يونس 98
والثاني أنه خرج مغاضبا لربه قاله الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وعروة وقال أبو بكر النقاش المعنى مغاضبا من أجل ربه وإنما غضب لأجل تمردهم وعصيانهم وقال ابن قتيبة كان مغيظا عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم مشتهيا أن ينزل بهم فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه
قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه وقرأ يعقوب يفدر بضم الياء وتشديد الدال وفتحها وقرأ سعيد بن جبير وأبو الجوزاء وابن أبي ليلى يقدر بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها وقرأ أبو عمران الجوني يقدر بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة وقرأ الزهري وابن يعمر وحميد بن قيس نقدر بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن لن نقضي عليه بالعقوبة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك قال الفراء معنى الآية فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة والعرب تقول قدر بمعنى قدر قال أبو صخر ... ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يكن ولك الشكر ...
أراد ما تقدر وهذا مذهب الزجاج (5/382)
والثاني فظن أن لن نضيق عليه قاله عطاء قال ابن قتيبة يقال فلان مقدر عليه ومقتر عليه ومنه قوله تعالى فقدر عليه رزقه الفجر 16 أي ضيق عليه فيه قال النقاش والمعنى فظن أن لن يضيق عليه الخروج فكأنه ظن أن الله قد وسع له إن شاء أن يقيم وإن شاء أن يخرج ولم يؤذن له في الخروج
والثالث أن المعنى فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه رواه عوف عن الحسن وقال ابن زيد وسليمان التيمي المعنى أفظن أن لن نقدر عليه فعلى هذا الوجه يكون استفهاما قد حذفت ألفه وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة ولا يتصور إلا مع تقدير الاستفهام ولا أعلم له وجها إلا أن يكون اسفهام إنكار تقديره ما ظن عجزنا فأين يهرب منا
قوله تعالى فنادى في الظلمات فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل قاله سعيد ابن جبير وقتادة والأكثرون
والثاني أن حوتا جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه فنادى في ظلمة حوت ثم في ظلمة حوت ثم في ظلمة البحر قاله سالم ابن أبي الجعد
والثالث أنها ظلمة الماء وظلمة معى السمكة وظلمة بطنها قاله ابن السائب وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه كلمة أخي يونس فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال الحسن وهذا اعتراف من يونس بذنبه وتوبة من خطيئته (5/383)
قوله تعالى فاستجبنا له أي أجبناه ونجيناه من الغم أي من الظلمات وكذلك ننجي المؤمنين إذا دعونا وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ نجي المؤمنين بنون واحدة مشددة الجيم قال الزجاج وهذا لحن لا وجه له وقال ابو علي الفارسي غلط الراوي عن عاصم ويدل على هذا اسكانه الياء من نجي ونصب المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ولرفع المؤمنين
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون
قوله تعالى لا تذرني فردا أي وحيدا بلا ولد وانت خير الوارثين أي أفضل من بقي حيا بعد ميت
قوله تعالى وأصلحنا له زوجه فيه ثلاثة أقوال
أحدها أصلحت للولد بعد أن كانت عقيما قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة
والثاني أنه كان في لسانها طول وهو البذاء فأصلحت قاله عطاء وقال السدي كانت سليطة فكف عنه لسانها (5/384)
والثالث أنه كان خلقها سيئا قاله محمد بن كعب
قوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات أي يبادرون في طاعة الله وفي المشار اليهم قولان
أحدهما زكريا وامرأته ويحيى والثاني جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة
قوله تعالى ويدعوننا وقرأ ابن مسعود وابن محيصن ويدعونا بنون واحدة
قوله تعالى رغبا ورهبا أي رغبا فيما عندنا ورهبا منا وقرأ الأعمش رغبا ورهبا بضم الراءين وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل النحل والنحل والسقم والسقم وكانوا لنا خاشعين أي متواضعين
قوله تعالى والتي أحصنت فرجها فيه قولان
أحدهما أنه مخرج الولد والمعنى منعته مما لا يحل وإنما وصفت بالعفاف لأنها قذفت بالزنا
والثاني أنه جيب درعها ومعنى الفرج في اللغة كل فرجة بين شيئين وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو يسمى فرجا وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع
قوله تعالى فنفخنا فيها أي أمرنا جبريل فنفخ في درعها فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ واضاف الروح اليه اضافة الملك للتشريف والتخصيص وجعلناها وابنها اية قال الزجاج لما كان شأنهما واحدا كانت (5/385)
الآية فيهما آية واحدة وهي ولادة من غير فحل وقرأ ابن مسعود وابن ابي عبلة آيتين على التثنية
قوله تعالى إن هذه أمتكم قال ابن عباس المراد بالامة هاهنا الدين وفي المشار اليهم قولان
أحدهما أنهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم وهو معنى قول مقاتل
والثاني أنهم الأنبياء عليهم السلام قاله ابو سليمان الدمشقي ثم ذكر أهل الكتاب فذمهم بالاختلاف فقال تعالى وتقطعوا أمرهم بينهم أي اختلفوا في الدين فمن يعمل من الصالحات أي شيئا من الفرائض وأعمال البر فلا كفران لسعيه أي لا نجحد ما عمل قاله ابن قتيبة والمعنى أنه يقبل منه ويثاب عليه وإنا له كاتبون ذلك نأمر الحفظة أن يكتبوه لنجازيه به
وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فاذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون
قوله تعالى وحرام على قرية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وحرام بألف وقرأ حمزة والكسائي (5/386)
وابو بكر عن عاصم وحرم بكسر الحاء من غير ألف وهما لغتان يقال حرم وحرام وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو عمران الجوني حرم بفتح الحاء وسكون الراء من غير الف والميم مرفوعة منونة وقرأ سعيد بن جبير وحرم بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف وقرأ ابو الجوزاء وعكرمة والضحاك وحرم بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف وقرأ سعيد بن المسيب وأبو مجلز وابو رجاء وحرم بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف
وفي معنى قوله تعالى وحرام قولان
أحدهما واجب قاله ابن عباس وانشدوا في معناه ... فان حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على عمرو ...
أي واجب
والثاني أنه بمعنى العزم قاله سعيد بن جبير وقال عطاء حتم من الله والمراد بالقرية أهلها
ثم في معنى الآية أربعة أقوال
أحدها واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع الى دنياها هذا قول قتادة وقد روي عن ابن عباس نحوه (5/387)
والثالث أن لا زائدة والمعنى حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون الى الدنيا قاله ابن جريج وابن قتيبة في آخرين
والرابع أن الكلام متعلق بما قبله لأنه لما قال فلا كفران لسعيه أعلمنا أنه قد حرم قبول اعمال الكفار فمعنى الآية وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يتوبون هذا قول الزجاج
فان قيل كيف يصح أن يحرم على الإنسان ما ليس من فعله ورجوعهم بعد الموت ليس اليهم
فالجواب ان المعنى منعوا من ذلك كما يمنع الانسان من الحرام وإن قدر عليه فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع
قوله تعالى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وقرأ ابن عامر فتحت بالتشديد والمعنى فتح الردم عنهم وهم من كل حدب قال ابن قتيبة من كل نشر من الأرض وأكمة ينسلون من النسلان وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذئب إذا بادر والعسلان مثله وقال الزجاج (5/388)
الحدب كل أكمه وينسلون يسرعون وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري ينسلون بضم السين
وفي قوله تعالى وهم قولان
أحدهما أنه إشارة الى يأجوج ومأجوج قاله الجمهور
والثاني الى جميع الناس فالمعنى وهم يحشرون الى الموقف قاله مجاهد والأول اصح
فان قيل أين جواب حتى ففيه قولان
أحدهما أنه قوله تعالى واقترب الوعد الحق والواو في قوله تعالى واقترب زائدة قاله الفراء ومثله حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها الزمر 73 وقوله تعالى فلما أسلما للجبين وناديناه الصافات 104 , 103 المعنى نادينا وقال عبد الله بن مسعود الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا
والثاني أنه قول محذوف في قوله يا ويلنا فالمعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد قالو يا ويلنا قال الزجاج هذا قول البصريين فاما الوعد الحق فهو القيامة
قوله تعالى فاذا هي في هي أربعة اقوال
أحدها أن هي كناية عن الابصار والابصار تفسير لها كقول الشاعر ... لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرعني مالك بن أبي كعب ...
فذكر الظعينة وقد كنى عنها في لعمرو أبيها (5/389)
والثاني أن هي ضمير فصل وعماد ويصح في موضعها هو ومثله قول إنه أنا الله النمل 9 وقوله فانها لا تعمى الأبصار الحج 46 وأنشدوا ... بثوب ودينار وشاه ودرهم ... فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس ...
ذكرهما الفراء
والثالث ان يكون تمام الكلام عند قوله هي على معنى فاذا هي بارزة واقفة يعني من قربها كأنها آتية حاضرة ثم ابتدأ فقال شاخصة ذكره الثعلبي
والرابع أن هي كناية عن القصة والمعنى القصة أن ابصارهم شاخصة في ذلك اليوم ذكره علي بن احمد النيسابوري قال المفسرون تشخص ابصار الكفار من هول يوم القيامة ويقولون يا ويلنا قد كنا أي في الدنيا في غفلة من هذا أي عن هذا بل كنا ظالمين أنفسنا بكفرنا ومعاصينا هم خاطب أهل مكة فقال إنكم وما تعبدون من دون الله يعني الاصنام حصب جهنم وقرأ علي بن ابي طالب وابو العالية وعمر بن عبد العزيز حطب بالطاء وقرأ ابن عباس وعائشة وابن السميفع حضب بالضاد المعجمة المفتوحة وقرأ عروة وعكرمة وابن يعمر وابن أبي عبلة حضب جهنم باسكان الضاد المعجمة وقرأ ابو المتوكل وأبو حيوة ومعاذ القارئ حضب بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة وقرأ ابو مجلز (5/390)
وأبو رجاء وابن محيصن حصب بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة قال الزجاج من قرأ حصب جهنم فمعناه كل ما يرمى به فيها ومن قرأ حطب فمعناه ما توقد به ومن قرأ بالضاد المعجمة فمعناه ما تهيج به النار وتذكى به قال ابن قتيبة الحصب ما ألقي فيها واصله من الحصباء وهو الحصى يقال حصبت فلانا إذا رميته حصبا بتسكين الصاد وما رميت به فهو حصب بفتح الصاد
قوله تعالى أنتم يعني العابدين والمعبودين لها واردون أي داخلون لو كان هؤلاء يعني الاصنام آلهة على الحقيقة ماوردوها فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه اشارة إلى الاصنام والمعنى لو كانوا آلهة ما دخلوا النار
والثاني أنه اشارة الى عابديها فالمعنى لو كانت الأصنام آلهة منعت عابديها دخول النار
والثالث أنه إشارة الى الآلهة وعابديها بدليل قوله تعالى وكل فيها خالدون يعني العابد والمعبود
قوله تعالى لهم فيه زفير قد شرحنا معنى الزفير في هود 106 وفي علة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار ثم يقذفون في توابيت من نار مقفلة عليهم رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث طويل وقال ابن مسعود إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار (5/391)
ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحدهم ان في النار أحدا يعذب غيره
والثاني أن السماع أنس والله لا يحب أن يؤنسهم قاله عون بن عمارة
والثالث إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم قاله ابو سليمان الدمشقي
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقهم الملئكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك الا رحمة للعالمين
قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى سبب نزولها أنه لما نزلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم شق ذلك على قريش وقالوا شتم آلهتنا فجاء ابن الزبعري فقال ما لكم قالوا شتم آلهتنا قال وما قال فاخبروه فقال ادعوه لي فلما دعي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله قال لا بل لكل من عبد من دون الله فقال ابن الزبعري خصمت ورب هذه البنية ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون وأن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح (5/392)
فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة وهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا فضج أهل مكة فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال الحسين ابن الفضل إنما أراد بقوله وما تعبدون الأصنام دون غيرها لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال ومن وقيل إن بمعنى إلا فتقديره إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى وهي قراءة ابن مسعود وأبي نهيك فانهما قرءا الا الذين وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية فقال أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن
وفي المراد بالحسنى قولان أحدهما الجنة قاله ابن عباس وعكرمة والثاني السعادة قاله ابن زيد
قوله تعالى اولئك عنها أي عن جهنم وقد تقدم ذكرها مبعدون و البعد طول المسافة والحسيس الصوت تسمعه من الشيء إذا مر قريبا منك قال ابن عباس لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة
قوله تعالى لا يحزنهم الفزع الأكبر وقرأ ابو رزين وقتادة (5/393)
وابن أبي عبلة وابن محيصن وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي لا يحزنهم بضم الياء وكسر الزاي
وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال
أحدها أنه النفخة الآخرة رواه العوفي عن ابن عباس وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى وتتلقاهم الملائكة
والثاني أنه اطباق النار على أهلها رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثالث أنه ذبح الموت بين الجنة والنار وهو مروي عن ابن عباس أيضا وبه قال ابن جريج
والرابع أنه حين يؤمر بالعبد الى النار قاله الحسن البصري
وفي مكان تلقي الملائكة لهم قولان
أحدهما إذا قامو من قبورهم قاله مقاتل والثاني على أبواب الجنة قاله ابن السائب
قوله تعالى هذا يومكم فيه اضمار يقولون هذا يومكم الذي كنتم توعدون فيه الجنة
قوله تعالى يوم نطوي السماء وقرأ ابو العالية وابن أبي عبلة وأبو جعفر تطوى بتاء مضمومة السماء بالرفع وذلك بمحو رسومها وتكدير نجومها وتكوير شمسها كطي السجل للكتاب قرأ الجمهور السجل بكسر السين والجيم وتشديد اللام وقرأ الحسن وأبو المتوكل (5/394)
وابو الجوزاء ومحبوب عن أبي عمرو السجل بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة وقرأ ابو السماك كذلك إلا أنه فتح الجيم
قوله تعالى للكتاب قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر للكتاب وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم للكتب على الجمع
وفي السجل اربعة اقوال
أحدها أنه ملك قاله علي بن أبي طالب وابن عمر والسدي
والثاني أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس
والثالث أن السجل بمعنى الرجل روى ابو الجوزاء عن ابن عباس قال السجل هو الرجل قال شيخنا أبو منصور اللغوي وقد قيل السجل بلغة الحبشة الرجل
والرابع أنه الصحيفة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد والفراء وابن قتيبة وقرأت على شيخنا أبي منصور قال قال ابو بكر يعني ابن دريد السجل الكتاب والله أعلم ولا ألتفت الى قولهم إنه (5/395)
فارسي معرب والمعنى كما يطوي السجل على ما فيه من كتاب واللام بمعنى على وقال بعض العلماء المراد بالكتاب المكتوب فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة جعل السجل كأنه يطوي الكتاب
ثم استأنف فقال تعالى كما بدأنا أول خلق نعيده الخلق هاهنا مصدر وليس بمعنى المخلوق
وفي معنى الكلام اربعة أقوال
أحدها كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما خلقوا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده والى هذا المعنى ذهب مجاهد
والثاني أن المعنى إنا نهلك كل شيء كما كان أول مرة رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال فينبتون بالمطر في قبورهم كما ينبتون في بطون امهاتهم رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أن المعنى قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء قاله الزجاج (5/396)
قوله تعالى وعدا قال الزجاج هو منصوب على المصدر لأن قوله تعالى نعيده بمعنى وعدنا هذا وعدا إنا كنا فاعلين أي قادرين على فعل ما نشاء وقال غيره إنا كنا فاعلين ما وعدنا
قوله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر فيه اربعة أقوال
أحدها أن الزبور جميع الكتب المنزلة من السماء والذكر أم الكتاب الذي عند الله قاله سعيد بن جبير في رواية ومجاهد وابن زيد وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير فانه قال الزبور التوارة والإنجيل والقرآن والذكر الذي في السماء
والثاني أن الزبور الكتب والذكر التوراة رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أن الزبور القرآن والذكر التوراة والإنجيل قاله سعيد بن جبير في رواية
والرابع أن الزبور زبور داود والذكر ذكر موسىة قاله الشعبي وفي الارض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه أرض الجنة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الاكثرون والثاني أرض الدنيا وهو منقول عن ابن عباس أيضا والثالث الارض المقدسة قاله ابن السائب
وفي قوله تعالى يرثها عبادي الصالحون ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي رواية ترث أمه محمد أرض الدنيا بالفتوح
والثاني بنو اسرائيل قاله ابن السائب (5/397)
والثالث أنه عام في كل صالح قاله بعض فقهاء المفسرين
قوله تعالى إن في هذا يعني القرآن لبلاغا أي لكفاية والمعنى أن من اتبع القرآن وعمل به كان القرآن بلاغه الى الجنة
وقوله تعالى لقوم عابدين قال كعب هم امة محمد صلى الله عليه و سلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان
قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قال ابن عباس هذا عام للبر والفاجر فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ومن كفر به صرفت عنه العقوبة الى الموت والقيامة وقال ابن زيد هو رحمة لمن آمن به خاصة
قل إنما يوحى الي انما الهكم اله واحد فهل أنتم مسلمون فان تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري اقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (5/398)
قوله تعالى فهل انتم مسلمون قال ابن عباس فهل أنتم مخلصون له العبادة قال اهل المعاني هذا استفهام بمعنى الأمر
قوله تعالى فان تولوا أي اعرضوا ولم يؤمنوا فقل آذنتكم على سواء في معنى الكلام قولان
أحدهما نابذتكم وعاديتكم وأعلمتكم ذلك فصرت أنا وأنتم على سواء قد استوينا في العلم بذلك وهذا من الكلام المختصر قاله ابن قتيبة
والثاني أعلمتكم بالوحي الي لتستووا في الإيمان به قال الزجاج
قوله تعالى وإن أدري أي وما أدري اقريب أم بعيد ما توعدون بنزول العذاب بكم إنه يعلم الجهر وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه و سلم متى هذا الوعد يس 48 وما تكتمون إسرارهم ان العذاب لا يكون
قوله تعالى لعله فتنة لكم في هاء لعله قولان
أحدهما انها ترجع الى ما آذنهم به قاله الزجاج
والثاني الى العذاب فالمعنى لعل تأخير العذاب عنكم فتنة قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي ومعنى الفتنة هاهنا الاختبار ومتاع الى حين أي تستمعون الى انقضاء آجالكم قل رب وروى حفص عن عاصم قال رب احكم قرأ ابو جعفر رب احكم بضم الباء وروى زيد عن يعقوب ربي بفتح الياء أحكم بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم ومعنى احكم بالحق أي بعذاب كفار قومي الذي نزوله حق فحكم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام والمعنى على هذا افصل بيني وبين المشركين (5/399)
بما يظهر به الحق ومعنى على ما تصفون أي من كذبكم وباطلكم وقرا ابن عامر والمفضل عن عاصم يصفون بالياء
فان قيل فهل يجوز على الله أن يحكم بغير الحق
فالجواب أن المعنى احكم بحكمك الحق كأنه استعجل النصر عليهم (5/400)
سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه الى عذاب السعير
فصل في نزولها
روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلها غير آيتين نزلتا بالمدينة قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف والتي تليها الحج 13 , 12 وي رواية اخرى عن ابن عباس انها مدنية الا أربع آيات نزلت بمكة وهي قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول الى آخر الاربع الحج 57 - 53 وقال عطاء بن يسار نزلت بمكة الا ثلاثة آيات منها نزلت بالمدينة (5/401)
هذان خصمان واللتان بعدها الحج 22 , 20 وقال ابو سليمان الدمشقي أولها مدني الى قوله تعالى وبشر المحسنين الحج 38 وسائرها مكي وقال الثعلبي هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى هذان خصمان الى قوله تعالى الحميد الحج 25 , 20 وقال هبة الله بن سلامة هي من أعاجيب سور القرآن لأن فيها مكية ومدنيا وحضريا وسفريا وحربيا وسلميا وليليا ونهاريا وناسخا ومنسوخا
فأما المكي فمن رأس الثلاثين منها الى آخرها
واماالمدني فمن رأس خمس وعشرين الى رأس ثلاثين
وأما الليلي فمن أولها الى آخر خمس آيات
وأما النهاري فمن رأس خمس آيات الى رأس تسع
وأما السفري فمن رأس تسع الى اثنتي عشرة
وأما الحضري فالى رأس العشرين منها نسب الى المدينة لقرب مدته
قوله تعالى اتقوا ربكم أي احذروا عقابة إن زلزلة الساعة الزلزلة الحركة على الحالة الهائلة
وفي وقت هذه الزلزلة قولان
أحدهما أنها يوم القيامة بعد النشور روى عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قرأ إن زلزلة الساعة شيء عظيم وقال تدرون أي يوم ذلك فأنه يوم ينادي الرب عز و جل آدم عليه السلام ابعث بعثا الى النار فذكر الحديث وروى ابو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (5/402)
يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم قم فابعث بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار فحينئذ يشيب المولود وتضع كل ذات حمل حملها وقرأ الآية وقال ابن عباس زلزلة الساعة قيامها يعني أنها تقارب قيام الساعة وتكون معها وقال الحسن والسدي هذه الزلزلة تكون يوم القيامة
والثاني أنها تكون في الدنيا قبل القيامة وهي من اشراط الساعة قاله علقمة والشعبي وابن جريج وروى ابو العالية عن ابي بن كعب قال ست آيات قبل القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزع الجن الى الإنس والإنس الى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماج بعضهم في بعض فقالت الجن للانس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا الى البحور فاذا هي نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض الى الأرض السابعة والسماء الى السماء السابعة فينما هم كذلك إذ جاءتهم (5/403)
الريح فماتوا وقال مقاتل هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى وذلك أن مناديا ينادي من السماء يا أيها الناس أتى أمر الله فيفزعون فزعا شديدا فيشيب الصغير وتضع الحوامل
قوله تعالى شيء عظيم أي لا يوصف لعظمه
قوله تعالى يوم ترونها يعني الزلزلة تذهل كل مرضعة عما أرضعت فيه قولان
أحدهما تسلو عن ولدها وتتركه قاله ابن قتيبة
والثاني تشغل عنه قاله قطرب ومنه قول ابن رواحة
... ويذهل الخليل عن خليله ...
وقرأ ابو عمران الجوني وابن ابي عبلة تذهل برفع التاء وكسر الهاء كل بنصب اللام قال الأخفش وإنما قال مرضعة لأنه أراد والله أعلم الفعل ولو اراد الصفة فيما نرى لقال مرضع قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا تكون حبلى
قوله تعالى وترى الناس سكارى وقرأ عكرمة والضحاك وابن يعمر وترى بضم التاء ومعنى سكارى من شدة الخوف وما هم بسكارى من الشراب والمعنى ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم يضطربون اضطراب السكران من الشراب وقرأ حمزة والكسائي وخلف سكرى وما هم بسكرى وهي قراءة ابن مسعود قال الفراء (5/404)
وهو وجه جيد لأنه بمنزله الهلكى والجرحى وقرا عكرمة والضحاك وابن السميفع سكارى وما هم بسكارى بفتح السين والراء وإثبات الألف ولكن عذاب الله شديد فيه دليل على أن سكرهم من خوف عذابه
قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله قال المفسرون نزلت في النضر بن الحارث وفيما جادل فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان كلما نزل شيء من القرآن كذب به قاله ابن عباس
والثاني أنه زعم أن الملائكة بنات الله قاله مقاتل
والثالث أنه قال لا يقدر الله على إحياء الموتى ذكره ابو سليمان الدمشقي
قوله تعالى بغير علم أي إنما يقوله باغواء الشيطان لا بعلم ويتبع ما يسول له كل شيطان مريد وقد ذكرنا معنى المريد في سورة النساء 117
قوله تعالى كتب عليه أنه من تولاه كتب بمعنى قضي والهاء في عليه وفي تولاه كناية عن الشيطان ومعنى الآية قضي على الشيطان أنه يضل من اتبعه وقرأ ابو عمران الجوني كتب بفتح الكاف أنه بفتح الهمزة فانه بكسر الهمزة وقرأ ابو مجلز وابو العالية وابن ابي ليلى والضحاك وابن يعمر إنه فانه بكسر الهمزة فيهما وقد بينا معنى السعير في سورة النساء 10
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة (5/405)
وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
قوله تعالى يا أيها الناس يعني أهل مكة إن كنتم في ريب من البعث أي في شك من القيامة فانا خلقناكم من تراب يعني خلق آدم ثم من نطفة يعني خلق ولده والمعنى إن شككتم في بعثكم فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فانكم لا تجدون في القدرة فرقا بين الابتداء والاعادة فأما النطفة فهي المني والعلقة دم عبيط جامد وقيل سميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر به فاذا جفت فليست علقة والمضغة لحمة صغير قال ابن قتيبة وسميت بذلك لأنه بقدر ما يمضغ كما قيل غرفة لقدر ما يغرف
قوله تعالى مخلقة وغير مخلقة فيه خمسة اقوال
أحدها أن المخلقة ما خلق سويا وغير المخلقة ما ألقته الأرحام من النطف وهو دم قبل أن يكون خلقا قاله ابن مسعود
والثاني أن المخلقة ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه وهو الذي يولد (5/406)
حيا لتمام وغير المخلقة ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفح الروح فيه هذا معنى قول ابن عباس
والثالث أن المخلقة المصورة وغير المخلقة غير مصورة قاله الحسن
والرابع أن المخلقة وغير المخلقة السقط تارة يسقط نطفة وعلقة وتارة قد صور بعضه وتارة قد صور كله قاله السدي
والخامس أن المخلقة التامة وغير المخلقة السقط قاله الفراء وابن قتيبة
قوله تعالى لنبين لكم فيه أربعة أقوال
أحدها خلقناكم لنبين لكم ما تأتون وما تذرون
والثاني لنبين لكم في القرآن بدو خلقكم وتنقل احوالكم
والثالث لنبين لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم
والرابع لنبين لكم أن البعث حق
وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة ليبين لكم بالياء
قوله تعالى ونقر في الأرحام وقرأ ابن مسعود وابو رجاء ويقر بباء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء وقرأ ابو الجوزاء وابو اسحاق السبيعي ويقر بياء مرفوعه وبكسر القاف ونصب الراء والذي يقر في الأرحام هو الذي لا يكون سقطا الى اجل مسمى وهو أجل الولادة هم نخرجكم طفلا (5/407)
قال ابو عبيدة هو في موضع اطفال والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع قال الله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير التحريم 4 أي ظهراء وأنشد ... فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور ...
وأنشد أيضا ... في حلقكم عظم وقد شجينا ...
وقال غيره إنما قال طفلا فوحد لأن الميم في قوله تعالى نخرجكم قد دلت على الجميع فلم يحتج الى ان يقول اطفالا
قوله تعالى ثم لتبلغوا فيه اضمار تقديره ثم نعمركم لتبلغوا اشدكم وقد سبق معنى الأشد الأنعام 153 ومنكم من يتوفى من قبل بلوغ الأشد ومنكم من يرد الى ارذل العمر وقد شرحناه في النحل 70 ثم إن الله تعالى دلهم على احيائه الموتى باحيائه الأرض فقال تعالى وترى الأرض هامدة قال ابن قتيبة أي ميتة يابسة ومثله همدت النار إذا طفئت فذهبت
قوله تعالى فاذا انزلنا عليها الماء يعني المطر اهتزت أي تحركت للنبات وذلك أنها ترتفع عن النبات إذا ظهر فهو معنى قوله تعالى وربت أي ارتفعت وزادت وقال المبرد أراد اهتز نباتها وربا فحذف المضاف قال الفراء وقرأ ابو جعفر المدني وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء فان كان ذهب الى الربيئة الذي يحرس القوم أي أنه يرتفع والا فهو غلط (5/408)
قوله تعالى وانبتت من كل زوج بهيج قال ابن قتيبة من كل جنس حسن يبهج أي يسر وهو فعيل في معنى فاعل
قوله تعالى ذلك قال الزجاج المعنى الأمر ذلك كما وصف لكم والأجود أن يكون موضع ذلك رفعا ويجوز أن يكون نصبا على معنى فعل الله ذلك بأنه هو الحق
قوله تعالى وأن الساعة أي ولتعلموا أن الساعة آتية
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وان الله ليس بظلام للعبيد
قوله تعالى ومن الناس من يجادل قد سبق بيانه وهذا مما نزل في النضر أيضا والهدى البيان والبرهان
قوله تعالى ثاني عطفه العطف الجانب وعطفا الرجل جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان ويلويه عند إعراضه عن المشي قال الزجاج ثاني منصوب على الحال ومعناه التنوين معناه ثانيا عطفه وجاء في التفسير أن معناه لاويا عنقه وهذا يوصف به المتكبر والمعنى ومن الناس من يجادل بغير علم متكبرا
قوله تعالى ليضل أي ليصير أمره الى الضلال فكأنه وإن لم يقدر أنه يضل فإن أمره يصير الى ذلك له في الدنيا خزي وهو ما أصابه يوم بدر وذلك أنه قتل وما بعد هذا قد سبق تفسيره يونس 70 الى قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف وفي سبب نزول هذه الآية قولان (5/409)
أحدهما أن ناسا من العرب كان يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون نحن على دينك فان أصابوا معيشة ونتجت خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان اطمأنوا وقالوا هذا دين حق وإن لم يجر الأمر على ذلك قالوا هذا دين سوء فينقلبون عن دينهم فنزلت هذه الآية هذا معنى قول ابن عباس وبه قال الأكثرون
والثاني أن رجلا من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده فتشاءم بالإسلام فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أقلني فقال إن الإسلام لا يقال فقال إن لم اصب في ديني هذا خيرا أذهب بصري ومالي وولدي فقال يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب فنزلت هذه الآية رواه عطية عن ابي سعيد الخدري
ومن الناس من يعبد الله على حرف فان اصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعوا من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار ان الله يفعل ما يريد (5/410)
قوله تعالى على حرف قال مجاهد وقتادة على شك قال ابو عبيدة كل شاك في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم وبيان هذا أن القائم على حرف الشيء غير متمكن منه فشبه به الشاك لأنه قلق في دينه على غير ثبات ويوضحه قوله تعالى فان اصابه خير أي رخاء وعافية اطمأن به على عبادة الله وإن اصابته فتنة اختبار بجدب وقلة مال انقلب على وجهه أي رجع عن دينه الى الكفر والمعنى انصرف الى وجهه الذي توجه منه وهو الكفر خسر الدنيا حيث لم يظفر بما أراد منها وخسر الآخرة بارتداده عن الدين وقرأ ابو رزين العقيلي وابو مجلز ومجاهد وطلحة ابن مصرف وابن ابي عبلة وزيد عن يعقوب خاسر الدنيا بألف قبل السين وبنصب الراء والآخرة بخفض التاء يدعو هذا المرتد أي يعبد مالا يضره إن لم يعبده ولا ينفعه إن أطاعة ذلك الذي فعل هو الضلال البعيد عن الحق يدعو لمن ضره قال بعضهم اللام صلة والمعنى يدعو من ضره وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه قال وشرح هذا أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون أول الكلام فقدمت لتجعل في حقها قال السدي ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من نفعه
فان قيل فهل للنفع من عبادة الصنم وجه (5/411)
فالجواب أنه لا نفع من قبله اصلا غير أنه جاء على لغة العرب وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون هذا بعيد
قوله تعالى لبئس المولى ولبئس العشير قال ابن قتيبة المولى الولي والعشير الصاحب والخليل
ومن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب الى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله عل كل شيء شهيد
قوله تعالى من كان يظن ان لن ينصره الله في الدنيا والآخرة قال مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا إنا نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والى نحو هذا ذهب ابو حمزة الثمالي والسدي وحكى ابو سليمان الدمشقي أن الإشارة بهذه الآية الى الذين انصرفوا عن الإسلام لأن أرزاقهم ما اتسعت وقد شرحنا القصة في قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف
وفي هاء ينصره قولان
أحدهما أنها ترجع على من والنصر بمعنى الرزق هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء وبه قال مجاهد قال ابو عبيدة وقف علينا سائل (5/412)
من بني بكر فقال من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله ويقال نصر المطر أرض كذا أي جادها وأحياها قال الراعي ... إذا ادبر الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر ...
والثاني أنها ترجع الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمد رواه التميمي عن ابن عباس وبه قال عطاء وقتادة قال ابن قتيبة وهذه كناية عن غير مذكور وكان قوم من المسلمين لشدة حنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر واخرون من (5/413)
المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يتم أمره فقال هذه الآية للفريقين ثم في معنى هذا النصر قولان
أحدهما أنه الغلبة قاله ابو صالح عن ابن عابس والجمهور
والثاني أنه الرزق حكاه أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى فليمدد بسبب الى السماء في المراد بالسماء قولان
أحدهما سقف بيته والمعنى فليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به ثم ليقطع الحبل ليموت مختنقا هذا قول الأكثرين ومعنى الآية ليصور هذا الأمر في نفسه لا انه يفعله لأنه إذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم
والثاني أنها السماء المعروفة والمعنى فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إن قدر قاله ابن زيد
قوله تعالى ثم ليقطع قرأ ابو عمرو وابن عامر ثم ليقطع ثم ليقضوا الحج 29 بكسر اللام زاد ابن عامر وليوفوا الحج 29 وليطوفوا الحج 29 بكسر اللام أيضا وكسر أبن كثير لام ثم ليقضوا فحسب وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون هذه اللامات وكذلك في كل القرآن إذا كان قبلها واو أو فاء أو ثم قال الفراء من سكن فقد خفف وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء فأكثر كلام العرب تسكينها وقد كسرها بعضهم قال ابو علي الأصل الكسر لأنك إذا ابتدأت قلت ليقم زيد
قوله تعال هل يذهبن كيده قال ابن قتيبة المعنى هل تذهبن حيلته غيظه والمعنى ليجهد جهده
قوله تعالى وكذلك أي ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن (5/414)
أنزلناه يعني القرآن وما بعد هذا ظاهر الى قوله تعالى إن الله يفصل بينهم أي يقضي يوم القيامة بينهم بادخال المؤمنين الجنة والآخرين النار إن الله عل كل شيء من أعمالهم شهيد
ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء
قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب أي ألم تعلم وقد بينا في سورة النحل 49 معنى السجود في حق من يعقل ومن لا يعقل
قوله تعالى وكثير من الناس يعني الموحدين ا لذين يسجدون لله
وفي قوله تعالى وكثير حق عليه العذاب قولان
أحدهما أنهم الكفار وهم يسجدون وسجودهم سجود ظلهم قاله مقاتل
والثاني أنهم لا يسجدون والمعنى وكثير من الناس أبى السجود فحق عليه العذاب لتركه السجود هذا قول الفراء
قوله تعالى ومن يهن الله أي من يشقه الله فما له من مسعد إن الله يفعل ما يشاء في خلقه من الكرامة والإهانة (5/415)
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم يصهر به ما في بطونم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق
قوله تعالى هذان خصمان اختلفوا فيمن نزلت على اربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر حمزة وعلي وعبيد بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة هذا قول أبي ذر
والثاني أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما انزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقتادة
والثالث أنها في جميع المؤمنين والكفار والى هذا المعنى ذهب الحسن وعطاء ومجاهد (5/416)
والرابع أنها نزلت في اختصام الجنة والنار فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة خلقني الله لرحمته قاله عكرمة
فأما قوله تعالى هذان وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة وابن كثير هاذان بتشديد النون خصمان فمعناه جمعان وليسا برجلين ولهذا قال تعالى اختصموا ولم يقل اختصما على أنه قرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة اختصما
وفي خصومتهم ثلاثة أقوال
أحدها في دين ربهم وهذا على القولين الأوليين والثاني في البعث قاله مجاهد والثالث أنه خصام مفاخرة على قول عكرمة
قوله تعالى قطعت لهم ثياب أي سويت وجعلت لباسا قال ابن عباس قمص من نار وقال سعيد بن جبير المراد بالنار هاهنا النحاس فأما الحميم فهو الماء الحار يصهر به قال الفراء يذاب به يقال صهرت الشحم بالنار قال المفسرون يذاب بالماء الحار ما في بطونهم من شحم أو معى حتى يخرج من أدبارهم وتنضج الجلود فتتسقاط من حره ولهم مقامع قال الضحاك هي المطارق وقال الحسن إن النار ترميهم بلهبها حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع فهووا فيها سبعين خريفا فاذا انتهوا الى اسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرون ساعة قال مقاتل إذا جاشت جهنم ألقتهم في أعلاها فيريدون الخروج فتتلقاهم خزنة جهنم بالمقامع فيضربونهم (5/417)
فيهوي أحدهم من تلك الضربة الى قعرها وقال غيره إذا دفعتهم النار ظنوا أنها ستقذفهم خارجا منها فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد
قوله تعالى ولؤلؤ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ولؤلو بالخفض وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم ولؤلؤا بالنصب قال أبو علي من خفص فالمعنى يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ ومن نصب قال ويحلون لؤلؤا
قوله تعالى وهدوا أي أرشدوا في الدنيا الى الطيب من القول وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا إله إلا الله والحمد لله قاله ابن عباس وزاد ابن زيد والله أكبر
والثاني القرآن قاله السدي
والثالث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكاه الماوردي
فأما صراط الحميد فقال ابن عباس هو طريق الإسلام
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد (5/418)
الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم
قوله تعالى ويصدون عن سبيل الله أي يمنعون الناس من الدخول في الإسلام قال الزجاج ولفظ يصدون لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي لأن معنى الذين كفروا الذين هم كافرون فكأنه قال إن الكافرين والصادين فأما خبر إن فمحذوف فيكون المعنى إن الذين هذه صفتهم هلكوا
وفي المسجد الحرام قولان
أحدهما جميع الحرم روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كانوا يرون الحرم كله مسجدا
والثاني نفس المسجد حكاه الماوردي
قوله تعالى الذي جعلناه للناس هذا وقف التمام
وفي معناه قولان
أحدهما جعلناه للناس كلهم لم نخص به بعضهم دون بعض هذا على أنه جميع الحرم
والثاني جعلناه قبلة لصلاتم ومنسكا لحجتهم وهذا على أنه نفس المسجد وقرأ إبراهيم النخعي وابن أبي عبلة وحفص عن عاصم سواء بالنصب فيتوجه الوقف على سواء وقد وقف بعبض القراء كذلك قال أبو علي الفارسي أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم فصار المعنى الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء فأما العاكف فهو المقيم والبادي الذي يأتيه من غير أهله وهذا من قولهم بدا القوم إذا خرجوا (5/419)
من الحضر الى الصحراء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو البادي بالياء غير أن ابن كثير وقف بياء وأبو عمرو بغير ياء وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والمسيبي عن نافع بغير ياء في الحالتين
ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يخرج أحد من بيته هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والى نحو هذا ذهب أبو حنيفة وأحمد ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام هذا على أن المسجد الحرم كله
والثاني أنهما يستويان في تفضيله وحرمته وإقامة المناسك به هذا قول الحسن ومجاهد ومنهم من أجاز بيع دور مكة واليه يذهب الشافعي وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرم ويجوز أن يراد نفس المسجد
قوله تعالى ومن يرد فيه بالحاد الإلحاد في اللغة العدول عن القصد والباء زائدة كقوله تعالى تنبت بالدهن المؤمنون 20 وأنشدوا ... بواد يمان ينبت الشث صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان ... المعنى وأسفله ينبت المرخ وقال آخر ... هن الحرائر لاربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور (5/420)
وقال آخر ... نحن بنوا جعدة أرباب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ...
هذا قول جمهور اللغويين قال ابن قتيبة والباء قد تزاد في الكلام كهذه الآية وكقوله تعالى اقرأ باسم ربك العلق 1 وهزي اليك بجذع النخلة مريم 24 بأيكم المفتون القلم 6 تلقون اليهم بالمودة الممتحنة 1 عينا يشرب بها الانسان 6 أي يشربها وقد تزاد من كقوله تعالى ما أريد منهم من رزق الذاريات 57 وتزاد اللام كقوله تعالى الذين هم لربهم يرهبون الاعراف 154 والكاف كقوله تعالى ليس كمثله شيء الشورى 11 وعن كقوله تعالى يخالفون عن أمره النور 63 وإن كقوله تعالى فانه ملاقيكم الجمعة 8 وإن الخفيفة كقوله تعالى فيما إن مكناكم فيه الاحقاف 26 وما كقوله تعالى عما قليل ليصبحن نادمين المؤمنون 40 والواو كقوله تعالى وتله للجبين وناديناه الصافات 104 , 103
وفي المراد بهذا الإلحاد خمسة أقوال
أحدها أنه الظلم رواه العوفي عن ابن عباس وقال مجاهد هو عمل سيئة فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لا تحتكروا الطعام بمكة فان احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم (5/421)
والثاني أنه الشرك رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة
والثالث الشرك والقتل قاله عطاء
والرابع أنه استحلال محظورات الإحرام وهذا المعنى محكي عن عطاء أيضا
والخامس استحلال الحرام تعمدا قاله ابن جريج
فان قيل هل يؤاخذ الإنسان إن أراد الظلم بمكة ولم يفعله
فالجواب من وجهين
أحدهما أنه إذا هم بذلك في الحرم خاصة عوقب هذا مذهب ابن مسعود فانه قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل مؤمن عند البيت وهو ب عدن أبين أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم وقال الضحاك إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى فتكتب عليه ولم يعملها وقال مجاهد تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وسئل الإمام أحمد هل تكتب السيئة أكثر من واحدة فقال لا إلا بمكة لتعظيم البلد وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها وقد جاور جابر بن عبد الله وكان ابن عمر يقيم بها
والثاني أن معنى ومن يرد من يعمل قال ابو سليمان الدمشقي هذا قول سائر من حفظنا عنه
وإذا بوأنا لإبرهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام (5/422)
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق
قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم قال ابن عباس جعلنا وقال مقاتل دللناه عليه وقال ثعلب وإنما أدخل اللام على أن بوأنا في معنى جعلنا فيكون بمعنى ردف لكم النمل 72 أي ردفكم وقد شرحنا كيفية بناء البيت في البقرة 129
قوله تعالى أن لا تشرك بي شيئا المعنى وأوحينا اليه ذلك وطهر بيتي حرك هذه الياء نافع وحفص عن عاصم وقد شرحنا الآية في البقرة 125
وفي المراد ب القائمين قولان أحدهما القائمون في الصلاة قاله عطاء والجمهور والثاني المقيمون بمكة حكي عن قتادة
قوله تعالى وأذن في الناس بالحج قال المفسرون لما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج فقال ابراهيم يا رب وما يبلغ صوتي وقال أذن وعلي البلاغ فعلا على جبل أبي قبيس وقال يا أيها الناس ان ربكم قد بنى بيتا فحجوه فأسمع من في اصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج فأجابوه لبيك اللهم لبيك والأذان بمعنى النداء والإعلام والمأمور بهذا الأذان إبراهيم في قول الجمهور (5/423)
إلا ماروي عن الحسن أنه قال المأمور به محمد صلى الله عليه و سلم والناس هاهنا اسم يعم جميع بني آدم عند الجمهور إلا ما روى العوفي عن ابن عباس انه قال عنى بالناس أهل القبلة
واعلم أن من أتى البيت الذي دعا اليه ابراهيم فكأنه قد أتى ابراهيم لأنه أجاب نداءه وواحد الرجال هاهنا راجل مثل صاحب وصحاب والمعنى يأتوك مشاة وقد روي ان ابراهيم واسماعيل حجا ماشيين وحج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة الى مكة والنجائب تقاد معه وحج الإمام أحمد ماشيا مرتين أو ثلاثا
قوله تعالى وعلى كل ضامر أي ركبانا على ضمر من طول السفر قال الفراء ويأتين فعل للنوق وقال الزجاج يأتين على معنى الإبل وقرأ ابن مسعود وابن ابي عبلة يأتون بالواو
قوله تعالى من كل فج عميق أي طريق بعيد وقد ذكرنا تفسير الفج عند قوله تعالى وجعلنا فيها فجاجا الانبياء 31
قوله تعالى ليشهدوا أي ليحضروا منافع لهم وفيها ثلاثة أقوال
أحدها التجارة قاله ابن عباس والسدي
والثاني منافع الآخرة قاله سعيد بن المسيب والزجاج في أخرين (5/424)
والثالث منافع الدارين جميعا قاله مجاهد وهو أصح لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة وإنما الأصل قصد الحج والتجارة تبع
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال
أحدها أنها أيام العشر رواه مجاهد عن ابن عمر وسعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والشافعي
والثاني تسعة ايام من العشر قاله ابو موسى الأشعري
والثالث يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده رواه نافع عن ابن عمر ومقسم عن ابن عباس
والرابع أنها أيام التشريق رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال عطاء الخراساني والنخعي والضحاك
والخامس أنها خمسة ايام أولها يوم التروية رواه ابو صالح عن ابن عباس
والسادس ثلاثة أيام أولها يوم عرفة قاله مالك بن أنس وقيل إنما قال معلومات ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها قال الزجاج والذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام قال القاضي أبو يعلى ويحتمل أن يكون الذكر المذكور هاهنا هو الذكر على الهدايا الواجبة كالدم الواجب لأجل التمتع والقران ويحتمل أن يكون الذكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق لأن الآية عامة في ذلك (5/425)
قوله تعالى فكلوا منها يعني الأنعام التي تنحر وهذا أمر إباحة وكان أهل الجاهلية لا يستحلون أكل ذبائحهم فأعلم الله عز و جل أن ذلك جائز غير أن هذا إنما يكون في الهدي المتطوع به فأما دم التمتع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه وقال الشافعي لا يجوز وقد روى عطاء عن ابن عباس انه قال من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر فأما البائس فهو ذو البؤس وهو شدة الفقر
قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم فيه اربعة أقوال
أحدها حلق الرأس وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأظفار والأخذ من العارضين ورمي الجمار والوقوف بعرفة رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني مناسك الحج رواه عكرمة عن ابن عباس وهو قول ابن عمر
والثالث حلق الرأس قاله مجاهد (5/426)
والرابع الشعر والظفر قاله عكرمة
والقول الأول أصح لأن التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث وقضاؤه نقضه وإذهابه والحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد فاذا قضى نسكه وخرج من احرامه بالحلق والقلم وقص الأظفار ولبس الثياب ونحو ذلك فهذا قضاء تفثه قال الزجاج وأهل اللغة لا يعرفون التفث الا من التفسير وكأنه الخروج من الإحرام الى الإحلال
قوله تعالى وليوفوا نذورهم وروى أبو بكر عن عاصم وليوفوا بتسكين اللام وتشديد الفاء قال ابن عباس هو نحر ما نذروا من البدن وقال غيره ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج فان الإنسان ربما نذر أن يتصدق إن رزقه الله رؤية الكعبة وقد يكون عليه نذور مطلقة فالأفضل أن يؤديها بمكة
قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق هذا هو الطواف الواجب لأنه أمر به بعد الذبح والذبح إنما يكون في يوم النحر فدل على أنه الطواف المفروض
وفي تسمية البيت عتيقا أربعة اقوال
أحدها لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة روى عبد الله بن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إنما سمى الله البيت العتيق لأن الله اعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط وهذا قول مجاهد وقتادة (5/427)
والثاني أن معنى العتيق القديم قاله الحسن وابن زيد
والثالث لأنه لم يملك قط قاله مجاهد في رواية وسفيان بن عيينة
والرابع لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان قاله ابن السائب وقد تكلمنا في هذه السورة في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا
ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك ومن يعظم أو تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب لكم فيها منافع الى أجل مسمى ثم محلها الى البيت العتيق
قوله تعالى ذلك أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج ومن يعظم حرمات الله فيجتنب ما حرم الله عليه في الإحرام تعظيما لأمر الله قال الليث الحرمة مالا يحل انتهاكه وقال الزجاج الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه
قوله تعالى فهو يعني التعظيم خير له عند ربه في الآخرة وأحلت لكم الأنعام وقد سبق بيانها المائدة 1 إلا ما يتلى عليكم تحريمه يعني به ما ذكر في المائدة 3 من المخنقة وغيرها وقيل وأحلت لكم الأنعام في حال احرامكم الا ما يتلى عليكم في الصيد فانه حرام
قوله تعالى فاجتنبوا الرجس أي دعوه جانبا قال الزجاج ومن هاهنا لتخليص جنس من أجناس المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن وقد شرحنا معنى الرجس في المائدة 90 (5/428)
وفي المراد بقول الزور اربعة أقوال
أحدها شهادة الزور قاله ابن مسعود والثاني الكذب قاله مجاهد والثالث الشرك قاله أبو مالك والرابع أنه قول المشركين في الأنعام هذا حلال وهذا حرام قاله الزجاج قال وقوله تعالى حنفاء لله منصوب على الحال وتأويله مسلمين لا ينسبون الى دين غير الإسلام ثم ضرب الله مثلا للمشرك فقال ومن يشرك بالله الى قوله سحيق والسحيق البعيد
واختلفوا في قراءة فتخطفه فقرأ الجمهور فتخطفه بسكون الخاء من غير تشديد الطاء وقرأ نافع بتشديد الطاء وقرأ ابو المتوكل ومعاذ القارىء بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ونصب الفاء وقرأ ابو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران الجوني بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء وقرأ الحسن والأعمش بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ورفع الفاء وكلهم فتح الطاء
وفي المراد بهذا المثل قولان
أحدهما أنه شبه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه بالذي يخر من السماء قال قتادة
والثاني أنه شبه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة بحال الهاوي من السماء حكاه الثعلبي
قوله تعالى ذلك أي الأمر ذلك الذي ذكرناه ومن يعظم شعائر الله قد شرحنا معنى الشعائر في البقرة 158
وفي المراد بها هاهنا قولان
أحدهما أنها البدن وتعظيمها استحسانها واستسمانها لكم فيها منافع (5/429)
قبل أن يسميها صاحبها هديا أو يشعرها ويوجبها فاذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء روى هذا المعنى مقسم عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك وقال عطاء ابن أبي رباح لكم في هذه الهدايا منافع بعد ايجابها وتسميتها هدايا إذا احتجتم الى شيء من ذلك أو اضطررتم الى شرب البانها الى أجل مسمى وهو أن تنحر
والثاني أن الشعائر المناسك ومشاهد مكة والمعنى لكم فيها منافع بالتجارة الى أجل مسمى وهو الخروج من مكة رواه ابو رزين عن ابن عباس وقيل لكم فيها منافع من الأجر والثواب في قضاء المناسك الى اجل مسمى وهو انقضاء ايام الحج
قوله تعالى فانها يعني الأفعال المذكورة من اجتناب الرجس وقول الزور وتعظيم الشعائر وقال الفراء فانه يعني الفعلة من تقوى القلوب وإنما اضاف التقوى الى القلوب لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب
قوله تعالى ثم محلها أي حيث يحل نحرها الى البيت يعني عند البيت والمراد به الحرم كله لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت ولا في المسجد هذا على القول الاول وعلى الثاني يكون المعنى ثم محل الناس من احرامهم الى البيت وهو أن يطوفوا به بعد قضاء المناسك
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمه الأنعام فالهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلوة ومما رزقناهم ينفقون
قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا قرأ حمزة والكسائي وبعض (5/430)
أصحاب ابي عمرو بكسر السين وقرأ الباقون بفتحها فمن فتح أراد المصدر من نسك ينسك ومن كسر أراد مكان النسك كالمجلس والمطلع ومعنى الآية لكل جماعة مؤمنة من الامم السالفة جعلنا ذبح القرابين ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وإنما خص بهيمة الأنعام لأنها المشروعة في القرب والمراد من الآية أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة
قوله تعالى فآلهكم إله واحد أي لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه فله أسلموا أي انقادوا واخضعوا وقد ذكرنا معنى الإخبات في هود 23 وكذلك الفاظ الآية التي تلي هذه
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فاذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا والله على ما هداكم وبشر المحسنين
قوله تعالى والبدن وقرأ الحسن وابن يعمر برفع الدال قال الفراء يقال بدن وبدن والتخفيف أجود وأكثر لأن كل جمع كان واحده على فعلة ثم ضم أول جمعه خفف مثل أكمة وأكم وأجمة وأجم وخشبة وخشب وقال الزجاج البدن منصوبة بفعل مضمر يفسره الذي ظهر والمعنى وجعلنا البدن وإن شئت رفعتها على الاستئناف والنصب أحسن ويقال بدن وبدن وبدنة مثل قولك ثمر وثمر وثمرة وإنما سميت بدنة لأنها تبدن أي تسمن (5/431)
وللمفسرين في البدن قولان
أحدهما أنها الإبل والبقر قاله عطاء
والثاني الإبل خاصة حكاه الزجاج وقال الأول قول أكثر فقهاء الأمصار قال القاضي أبو يعلى البدنة اسم يختص الإبل في اللغة والبقرة تقوم مقامها في الحكم لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
قوله تعالى جعلناها لكم من شعائر الله أي جعلنا لكم فيها عبادة لله من سوقها الى البيت وتقليدها وإشعارها ونحرها والإطعام منها لكم فيها خير وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة فاذكروا اسم الله عليها أي على نحرها صواف وقرأ ابن مسعود وابن عباس وقتادة صوافن بالنون وقرأ الحسن وابو مجلز وابو العالية والضحاك وابن يعمر صوافي بالياء قال الزجاج صواف منصوبة على الحال ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف أي قد صفت قوائمها والمعنى اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها والبعير ينحر قائما وهذا الآية تدل على ذلك ومن قرأ صوافن فالصافن التي تقوم على ثلاث والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فهو الصافن والجميع صوافن هذا ومن قرأ صوافي بالياء وبالفتح بغير تنوين فتفسيره خوالص أي خالصه لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحدا فاذا وجبت جنوبها أي إذا سقطت الى الأرض يقال وجب الحائط وجبة (5/432)
إذا سقط ووجب القلب وجيبا إذا تحرك من فزع واعلم أن نحرها قياما سنة والمراد بوقوعها على جنوبها موتها والأمر بالأكل منها أمر إباحة وهذا في الأضاحي
قوله تعالى وأطعموا القانع والمعتر وقرأ الحسن والمعتر بكسر الراء خفيفة وفيهما ستة أقوال
أحدها أن القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير واختاره الفراء
والثاني أن القانع المتعفف والمعتز السائل رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة والنخعي وعن الحسن كالقولين
والثالث ان القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك ولا يسأل رواه العوفي عن ابن عباس وقال مجاهد القانع جارك الذي يقنع بما أعطيته والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل وهذا مذهب القرظي فعلى هذا يكون معنى القانع أن يقنع بما أعطي ومن قال هو المتعفف قال هو القانع بما عنده
والرابع القانع أهل مكة والمعتر الذي يعتر بهم من غير أهل مكة رواه خصيف عن مجاهد
والخامس القانع الجار وإن كان غنيا والمعتر الذي يعتر بك رواه ليث عن مجاهد
والسادس القانع المسكين السائل والمعتر الصديق الزائر قاله زيد ابن اسلم قال ابن قتيبة يقال قنع يقنع قنوعا إذا سأل وقنع يقنع (5/433)
قناعة إذا رضي ويقال في المعتر اعترني واعتراني وعراني وقال الزجاج مذهب أهل اللغة أن القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعا إذا سأل فهو قانع قال الشماخ ... لما المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع ...
أي من السؤال ويقال قنع قناعة إذا رضي فهو قنع والمعتر والمعتري واحد
قوله تعالى كذلك أي مثل ما وصفنا من نحرها قائمة سخرناها لكم نعمة منا عليكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون لعلكم تشكرون أي لكي تشكروا
قوله تعالى لن ينال الله لحومها وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وابن أبي عبلة ويعقوب لن تنال الله لحومها بالتاء ولكن تناله التقوى بالتاء أيضا
سبب نزولها أن المشركين كانوا إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية قاله ابو صالح عن ابن عباس قال المفسرون ومعنى الآية لن ترفع الى الله لحومها ولا دماؤها وإنما يرفع اليه التقوى وهو ما اريد به وجهه منكم فمن قرأ تناله التقوى بالتاء فانه أنث للفظ التقوى ومن قرأ يناله بالياء فلأن التقوى والتقى واحد والإشارة بهذه الآية الى أنه لا يقبل اللحوم والدماء إذا لم تكن صادرة عن تقوى الله وإنما يتقبل ما يتقونه به وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إذا عريت عن نية صحيحة (5/434)
قوله تعالى كذلك سخرها قد سبق تفسيره الحج 37 لتكبروا الله على ما هداكم أي على ما بين لكم وأرشدكم الى معالم دينه ومناسك حجه وذلك أن يقول الله أكبر على ما هدانا وبشر المحسنين قال ابن عباس يعني الموحدين
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله للناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلوة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور
قوله تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو يدفع ولولا دفع الله بغير ألف وهذا على مصدر دفع وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي إن الله يدافع بألف ولولا دفع بغير الف وهذا على مصدر دافع والمعنى يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم قال الزجاج والمعنى إذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإشراكهم فإن الله يدفع عن حزبه وال خوان فعال من الخيانة والمعنى أن من ذكر غير اسم الله وتقرب الى الأصنام بذبيحته فهو خوان
قوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا قرأ ابن كثير وابن عامر (5/435)
وحمزة والكسائي أذن بفتح الألف وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر وحفص عن عاصم أذن بضمها
قوله تعالى للذين يقاتلون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر التاء وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتحها قال ابن عباس كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله هذه الآية وهي أول آية أنزلت في القتال وقال مجاهد هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين فأدركهم كفار قريش فأذن لهم في قتالهم قال الزجاج معنى الآية أذن للذين يقاتلون أن يقاتلوا بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا ثم وعدهم النصر بقوله وإن الله على نصرهم لقدير ولا يجوز أن تقرأ بفتح إن هذه من غير خلاف بين اهل اللغة لأن إن إذا كانت معها اللام لم تفتح أبدا وقوله إلا أن يقولوا ربنا الله معناه أخرجوا لتوحيدهم
قوله تعالى ولو لا دفع الله الناس قد فسرناه في البقرة 251
قوله تعالى لهدمت قرأ ابن كثير ونافع لهدمت خفيفة والباقون بتشديد الدال
فأما الصوامع ففيها قولان
أحدهما أنها صوامع الرهبان قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن زيد
والثاني أنها صوامع الصابئين قاله قتادة وابن قتيبة
فأما البيع فهي جمع بيعة وهي بيع النصارى (5/436)
وفي المراد بالصلوات قولان
أحدهما مواضع الصلوات ثم فيها قولان أحدهما أنها كنائس اليهود قاله قتادة والضحاك وقرأ على شيخنا أبي منصور اللغوي قال قوله وصلوات هي كنائس اليهود وهي بالعبرانية صلوثا والثاني أنها مساجد الصابئين قاله ابو العالية
والقول الثاني أنها الصلوات حقيقة والمعنى لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين لانقطعت الصلوات في المساجد قاله ابن زيد
فأما المساجد فقال ابن عباس هي مساجد المسلمين وقال الزجاج معنى الآية لولا دفع بعض الناس ببعض لهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن محمد المساجد
وفي قوله يذكر فيها اسم الله قولان
أحدهما أن الكناية ترجع الى جميع الأماكن المذكورات قاله الضحاك
والثاني الى المساجد خاصة لأن جميع المواضع المذكورة الغالب فيها الشرك قاله ابو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ولينصرن الله من ينصره أي من ينصر دينه وشرعه
قوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض قال الزجاج هذه صفة ناصريه قال المفسرون التمكين في الأرض نصرتهم على عدوهم والمعروف لا إله إلا الله والمنكر الشرك قال الأكثرون وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال القرظي هم الولاة
قوله تعالى ولله عاقبة الأمور أي إليه مرجعها لأن كل ملك يبطل سوى ملكه (5/437)
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابرهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد
قوله تعالى ثم أخذتهم أي بالعذاب فكيف كان نكير أثبت الياء في نكير يعقوب في الحالين ووافقه ورش في إثباتها في الوصل والمعنى كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالإهلاك والمعنى أني أنكرت عليهم أبلغ إنكار وهذا استفهام معناه التقرير
قوله تعالى أهلكتها قرأ ابو عمرو أهلكتها بالتاء والباقون أهلكناها بالنون
قوله تعالى وبئر معطلة قرأ ابن كثير وعاصم وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وبئر مهموز وروى ورش عن نافع بغير همز والمعنى وكم بئر معطلة أي متروكة وقصر مشيد فيه قولان
أحدهما مجصص قاله ابن عباس وعكرمة قال الزجاج أصل الشيد الجص والنورة وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مشيد
والثاني طويل قاله الضحاك ومقاتل وفي الكلام إضمار تقديره وقصر مشيد معطل أيضا ليس فيه ساكن
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن (5/438)
يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير
قوله تعالى افلم يسيروا قال المفسرون أفلم يسر قومك في أرض اليمن والشام فتكون لهم قلوب يعقلون بها إذا نظروا آثار من هلك أو آذان يسمعون بها أخبار الأمم المكذبة فانها لا تعمى الأبصار قال الفراء الهاء في قوله فانها عماد والمعنى أن أبصارهم لم تعم وإنما عميت قلوبهم وأما قوله التي في الصدور فهو توكيد لأن القلب لا يكون إلا في الصدر ومثله تلك عشرة كاملة البقرة 196 يطير بجناحيه الأنعام 38 يقولون بأفواههم آل عمران 167
قوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب قال مقاتل نزلت في النضر بن الحارث القرشي وقال غيره هو قولهم له متى هذا الوعد الملك 25 ونحوه من استعجالهم ولن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بهم في الدنيا فأنزله بهم يوم بدر وإن يوما عند ربك أي من ايام الآخرة كألف سنة مم تعدون من أيام الدنيا قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر تعدون بالتاء وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعدون بالياء
فان قيل كيف انصرف الكلام من ذكر العذاب الى قوله وإن يوما عند ربك فعنه جوابان
أحدهما أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا فقيل لهم لن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من ايام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فكيف تستعجلون بالعذاب فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة هذا قول الفراء (5/439)
والثاني وإن يوما عند الله والف سنة سواء في قدرته على عذابهم فلا فرق بين وقوع ما يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة إلا أن الله تفضل عليهم بالإمهال هذا قول الزجاج
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم
قوله تعالى ورزق كريم يعني به الرزق الحسن في الجنة
قوله تعالى والذين سعوا في آياتنا أي عملوا في أبطالها معاجزين قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي معجزين بغير ألف وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معاجزين بألف قال الزجاج معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أنهم لا يبعثون وأنه لا جنة ولا نار قال وقيل في التفسير معاجزين معاندين وليس هو بخارج عن القول الأول ومعجزين تأويلها أنهم كانوا يعجزون من اتبع النبي صلى الله عليه و سلم ويثبطونهم عنه
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (5/440)
قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول الآية قال المفسرون سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى بلغ قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى النجم 20 , 19 فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا فأتاه جبريل فقال ماذا صنعت تلوت على الناس مالم آتك به عن الله فحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم حزنا شديدا فنزلت هذه الآية تطييبا لقلبه وإعلاما له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا قال العلماء المحققون وهذا لا يصح لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوم عن مثل هذا ولو صح كان المعنى أن بعض شياطين الإنس قال تلك الكلمات فانهم كانوا إذا تلا لغطوا كما قال الله عز و جل وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فصلت 26 قال وفي معنى تمنى قولان
أحدهما تلا قاله الاكثرون وانشدوا (5/441)
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر ...
وقال آخر ... تمنى كتاب الله آخر ليله ... تمني دواد الزبور على رسل (5/442)
والثاني أنه من الأمنية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تمنى يوما أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومه فألقى الشيطان على لسانه كان قد تمناه قاله محمد بن كعب القرظي
قوله تعالى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يبطله ويذهبه ثم يحكم الله آياته قال مقاتل يحكمها من الباطل
قوله تعالى ليجعل اللام متعلقة بقوله ألقى الشيطان والفتنة هاهنا بمعنى البلية والمحنة والمرض الشك والنفاق والقاسية قلوبهم يعني الجافية عن الإيمان ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم والشقاق غاية العدواة
قوله تعالى وليعلم الذين أوتوا العلم وهو التوحيد والقرآن وهم المؤمنون وقال السدي التصديق بنسخ الله
قوله تعالى أنه الحق إشارة الى نسخ ما يلقي الشيطان فالمعنى ليعلموا أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله فيؤمنوا بالنسخ فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتذل ثم بين بباقي الآية أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته (5/443)
قوله تعالى في مرية منه أي في شك
وفي هاء منه أربعة اقوال
أحدها أنها ترجع الى قوله تلك الغرانيق العلى والثاني أنها ترجع الى سجوده في سورة النجم والقولان عن سعيد بن جبير فيكون المعنى إنهم يقولون ما باله ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها والثالث أنها ترجع الى القرآن قاله ابن جريج والرابع أنها ترجع الى الدين حكاه الثعلبي
قوله تعالى حتى تأتيهم الساعة وفيها قولان
أحدهما القيامة تأتي من تقوم عليه من المشركين قاله الحسن
والثاني ساعة موتهم ذكره الواحدي
قوله تعالى أو يأتيهم عذاب يوم عقيم فيه قولان
أحدهم أنه يوم بدر روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي
والثاني أنه يوم القيامة قاله عكرمة والضحاك وأصل العقم في الولادة يقال امرأة عقيم لا تلد ورجل عقيم لا يولد له وانشدوأ ... عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم (5/444)
وسميت الريح العقيم بهذا الاسم لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر فقيل لهذا اليوم عقيم لأنه لم يأت بخير
فعلى قول من قال هو يوم بدر في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال
أحدها أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير قاله الضحاك
والثاني لأنهم لم ينظروا فيه الى الليل بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج
والثالث لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه قاله يحيى ابن سلام
وعلى قول من قال هو يوم القيامة في تسميته بذلك قولان
أحدهم لأنه لا ليلة له قاله عكرمة
والثاني لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج ذكره بعض المفسرين
الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم
قوله تعالى الملك يومئذ أي يوم القيامة لله من غير منازع ولا مدع يحكم بينهم أي بين المسلمين والمشركين وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها ثم ذكر فضل المهاجرين فقال والذين هاجروا في سبيل الله أي من مكة الى المدينة
وفي الرزق الحسن قولان (5/445)
أحدهما أنه الحلال قاله ابن عباس والثاني رزق الجنة قاله السدي
قوله تعالى ثم قتلوا أو ماتوا وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد
قوله تعالى ليدخلنهم مدخلا وقرأ نافع بفتح الميم يرضونه يعني الجنة والمدخل يجوز أن يكون مصدرا فيكون المعنى ليدخلنهم إدخالا يكرمون به فيرضونه ويجوز أن يكون بمعنى المكان ومدخلا بفتح الميم على تقدير فيدخلون مدخلا وإن الله لعليم بنياتهم حليم عنهم
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير
قوله تعالى ذلك قال الزجاج المعنى الأمر ذلك أي الأمر ما قصصنا عليكم ومن عاقب بمثل ما عوقب به والعقوبة الجزاء والأول ليس بعقوبة ولكنه سمي عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى 40 لما كانت المجازاة إساءة بالمفعول به سميت سيئة ومثله الله يستهزئ بهم البقرة 15 قاله الحسن ومعنى الآية من قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بغي عليه أي ظلم بإخراجه عن منزله وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلة بقيت من المحرم فقاتلوهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا إلا القتال فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين (5/446)
ووقع في نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية وقال إن الله لعفو عنهم غفور لقتالهم في الشهر الحرام
قوله تعالى ذلك أي ذلك النصر بأن الله القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع لدعاء المؤمنين بصير بهم حيث جعل فيهم الإيمان والتقوى ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين بأن الله هو الحق أي هو الإله الحق وان ما يدعون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم يدعون بالياء وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم بالتاء والمعنى وأن ما يعبدون من دونه هو الباطل
ألم تر أن الله انزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السموات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد
قوله تعالى ألم تر أن الله انزل من السماء ماء يعني المطر فتصبح الأرض مخضرة بالنبات وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال معنى الكلام التنبيه كأنه قال اتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا وقال ثعلب معنى الآية عند الفراء خبر كأنه قال أعلم أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح ولو كان استفهاما والفاء شرطا لنصبه
قوله تعالى إن الله لطيف أي باستخراج النبات من الأرض رزقا لعباده خبير بما في قلوبهم عند تأخير المطر وقد سبق معنى الغني الحميد في البقرة 267 (5/447)
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا باذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور
قوله تعالى ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض يريد البهائم التي تركب ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا باذنه قال الزجاج كراهة أن تقع وقال غيره لئلا تقع إن الله بالناس لرؤوف رحيم فيما سخر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم وهو الذي أحياكم بعد أن كنتم نظفا ميتة ثم يميتكم عند آجالكم ثم يحييكم للبعث والحساب إن الإنسان يعني المشرك لكفور لنعم الله إذ لم يوحده
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع الى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيمة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير
قوله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا قد سبق بيانه في هذه السورة الحج 34 فلا ينازعنك في الأمر أي في الذبائح وذلك ان (5/448)
كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر الذبيحة فقالوا كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعنون الميتة
فان قيل إذا كانوا هم المنازعين له فكيف قيل فلا ينازعنك في الأمر
فقد أجاب عنه الزجاج فقال المراد النهي له عن منازعتهم فالمعنى لا تنازعنهم كما تقول للرجل لا يخاصمنك فلان في هذا أبدا وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون الا من اثنين لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم الا باثنين فاذا قلت لا يجادلنك فلان فهو بمنزلة لا تجادلنه ولا يجوز هذا في قولك لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربنه ولكن لو قلت لا يضاربنك فلان لكان كقولك لا تضاربن ويدل على هذا الجواب قوله وإن جادلوك
قوله تعالى وادع الى ربك أي الى دينه والإيمان به وجادلوك بمعنى خاصموك في أمر الذبائح فقل الله أعلم بما تعملون من التكذيب فهو يجازيكم به الله يحكم بينكم يوم القيامة أي يقضي بينكم فيما كنتم (5/449)
فيه تختلفون من الدين أي تذهبون الى خلاف ما ذهب اليه المؤمنون وهذا أدب حسن علمه الله عباده ليردوا به من جادل على سبيل التعنت ولا يجيبوه ولا يناظروه
فصل
قال أكثر المفسرين هذا نزل قبل الأمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف وقال بعضهم هذا نزل في حق المنافقين كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلتات تدل على شركهم ثم يجادلون على ذلك فوكل أمرهم الى الله تعالى فالآية على هذا محكمة
قوله تعالى ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء الأرض هذا استفهام يراد به التقرير والمعنى قد علمت ذلك إن ذلك يعني ما يجري في السموات والأرض في كتاب يعني اللوح المحفوظ إن ذلك أي علم الله بجميع ذلك على الله يسير سهل لا يتعذر عليه العلم به
ويعبدون من دون الله مالم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ذلك النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (5/450)
قوله تعالى ويعبدون يعني كفار مكة ما لم ينزل به سلطانا أي حجة وما ليس لهم به علم أنه إلة وما للظالمين يعني المشركين من نصير أي مانع من العذاب وإذا تتلى عليهم آياتنا يعني القرآن والمنكر هاهنا بمعنى الإنكار فالمعنى أثر الإنكار من الكراهة وتعبيس الوجوه معروف عندهم يكادون يسطون أي يبطشون ويوقعون بمن يتلو عليهم القرآن من شدة الغيظ يقال سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالعنف والشدة قل لهم يا محمد افأنبئكم بشر من ذلكم أي بأشد عليكم وأكره اليكم من سماع القرآن ثم ذكر ذلك فقال النار أي هو النار
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز
قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل قال الأخفش إن قيل أين المثل
فالجواب أنه ليس هاهنا مثل وإنما المعنى يا أيها الناس ضرب لي مثل أي شبهت بي الأوثان فاستمعوا لهذا المثل وتأويل الآية جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمعوا حالها ثم بين ذلك بقوله إن الذين تدعون أي تعبدون من دون الله وقرأ ابن عباس وابو رزين وابن أبي عبلة يدعون بالياء المفتوحة وقر ابن السميفع وأبو رجاء وعاصم الجحدري يدعون بضم الياء وفتح العين يعني الأصنام لن يخلقوا ذبابا والذباب واحد والجمع القليل أذبة والكثير الذبان مثل (5/451)
غراب وأغربة وغربان وقيل إنما خص الذباب لمهانته واستقذاره وكثرته ولو اجتمعوا يعني الأصنام له أي لخلقه وإن يسلبهم يعني الاصنام قال ابن عباس كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجف فيأتي الذباب فيختلسه وقال ابن جريج كانوا إذا طيبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء كالعسل ونحوه فيقع عليه الذباب فيسلبها إياه فلا تستطيع الآلهه ولا من عبدها أن يمنعه ذلك وقال السدي كانوا يجعلون للآلهة طعاما فيقع الذباب عليه فيأكل منه قال ثعلب وإنما قال لا يستنقذوه منه فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين إذ كانوا يعظمونها ويذبحون لها وتخاطب كقوله يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم النمل 18 لما خاطبهم جعلهم كالآدميين ومثله رأيتم لي ساجدين يوسف 40 وقد بينا هذا المعنى في الأعراف 191 عند قوله تعالى وهم يخلقون
قوله تعالى ضعف الطالب والمطلوب فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الطالب الصنم والمطلوب الذباب رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الطيب الذي على الصنم والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه سلب ما عليه روي عن ابن عباس أيضا
والثالث الطالب عباد الصنم يطلب التقرب بعبادته والمطلوب الصنم هذا معنى قول الضحاك والسدي (5/452)
قوله تعالى ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته إذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له إن الله لقوي لا يقهر عزيز لا يرام
الله يصطفي من الملئكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور
قوله تعالى الله يصطفي من الملائكة رسلا كجبريل وميكئايل وإسرافيل وملك الموت ومن الناس الانبياء المرسلين إن الله سميع لمقالة العباد بصير بمن يتخذه رسولا وزعم مقاتل ان هذه الآية نزلت حين قالوا أأنزل عليه الذكر من بيننا ص8
قوله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم الإشارة الى الذين أصطفاهم وقد بينا معنى ذلك في آية الكرسي البقرة 255
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم هو سمكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو مولكم فنعم المولى ونعم النصير (5/453)
قوله تعالى اركعوا واسجدوا قال المفسرون المراد صلوا لأن الصلاة لا تكون الا بالركوع والسجود واعبدوا ربكم أي وحدوه وافعلوا الخير يريد أبواب المعروف لعلكم تفلحون أي لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة
فصل
لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من الحج واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة فروي عن عمر وابن عمر وعمار وابي الدرداء وابي موسى وابن عباس أنهم قالوا في الحج سجدتان وقالوا فضلت هذه السورة على غيرها بسجدتين وبهذا قال أصحابنا وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس انه قال في الحج سجدة وبهذا قال الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابراهيم وجابر بن زيد وابو حنيفة وأصحابه ومالك ويدل على الأول ما روى عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفي الحج سجدتان قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما (5/454)
فصل
واختلف العلماء في عدد سجود القرآن فروي عن أحمد روايتان إحداهما أنها اربع عشرة سجدة وبه قال الشافعي والثانية أنها خمس عشرة فزاد سجدة ص 24 وقال ابو حنيفة هي أربع عشرة فأخرج التي في آخر الحج وأبدل منها سجعة ص 24
فصل
وسجود التلاوة سنة وقال ابو حنيفة واجب ولا يصح سجود التلاوة إلا بتكبيرة الإحرام والسلام خلافا لأصحاب ابي حنيفة وبعض اصحاب الشافعي ولا يجزىء الركوع عن سجود التلاوة وقال ابو حنيفة يجزىء ولا يسجد المستمع إذا لم يسجد التالي نص عليه أحمد رضي الله عنه وتكره قراءة السجدة في صلاة الإخفات خلافا للشافعي
قوله تعالى وجاهدوا في الله في هذا الجهاد ثلاثة أقوال
أحدها أنه فعل جميع الطاعات هذا قول الأكثرين والثاني أنه جهاد الكفار قاله الضحاك والثالث أنه جهاد النفس والهوى قاله عبد الله بن المبارك
فأما حق الجهاد ففيه ثلاثة أقوال (5/455)
أحدها أنه الجد في المجاهدة واستيفاء الإمكان فيها والثاني أنه اخلاص النية لله عز و جل والثالث أنه فعل ما فيه وفاء لحق الله عز و جل
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها على قولين
أحدهما قوله لا يكلف الله نفسا الا وسعها البقرة 286
والثاني قوله فاتقوا الله ما استطعتم التغابن 16 وقال اخرون بل هي محكمة ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد وهو الأصح لأن الله تعالى لا يكلف نفسا الا وسعها
قوله تعالى هو اجتباكم أي اختاركم واصطفاكم لدينه والحرج الضيق فما من شيء وقع الإنسان فيه إلا وجد له في الشرع مخرجا بتوبة أو كفارة أو انتقال الى رخصة ونحو ذلك وروي عن ابن عباس انه قال الحرج ما كان على بني اسرائيل من الإصر والشدائد وضعه الله عن هذه الأمة
قوله تعالى ملة ابيكم قال الفراء المعنى وسع عليكم كملة أبيكم فاذا ألقيت الكاف نصبت ويجوز النصب على معنى الأمر بها لأن أول الكلام أمر وهو قوله اركعوا واسجدوا والزموا ملة ابيكم
فان قيل هذا الخطاب للمسلمين وليس ابراهيم أبا لكلهم
فالجواب أنه إن كان خطابا عاما للمسلمين فهو كالأب لهم لأن حرمته وحقه عليهم كحق الولد وإن كان خطابا للعرب خاصة فابراهيم أبو العرب قاطبة هذا قول المفسرين والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأن ابراهيم أبوه وأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم داخلة فيما خوطب به رسول الله (5/456)
قوله تعالى هو سماكم المسلمين في المشار اليه قولان
أحدهما أنه الله عز و جل قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور فعلى هذا في قوله من قبل قولان أحدهما من قبل إنزال القرآن سماكم بهذا في الكتب التي أنزلها والثاني من قبل أي في أم الكتاب وقوله وفي هذا أي في القرآن
والثاني أنه ابراهيم عليه السلام حين قال ومن ذريتنا أمة مسلمة لك البقرة 128 فالمعنى من قبل هذا الوقت وذلك في زمان ابراهيم عليه السلام وفي هذا الوقت حين قال ومن ذريتنا أمة مسلمة هذا قول ابن زيد
قوله تعالى ليكون الرسول المعنى اجتباكم وسماكم ليكون الرسول يعني محمدا صلى الله عليه و سلم شهيدا عليكم يوم القيامة أنه قد بلغكم وقد شرحناه هذا المعنى في البقرة 143 الى قوله وآتوا الزكاة
قوله تعالى واعتصموا بالله قال ابن عباس سلوه أن يعصمكم من كل ما يسخط ويكره وقال الحسن تمسكوا بدين الله وما بعد هذا مشروح في الأنفال 40 (5/457)
سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكوة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون
سورة المؤمنين مكية في قول الجميع
روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لقد أنزلت علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه وروى أبو سعيد الخدري (5/458)
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال إن الله تعالى حاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرس غرسها بيده فقال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقال لها طوبى لك منزل الملوك قال الفراء قد هاهنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال لأن قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه الا تراهم يقولون قد قامت الصلاة قبل حال قيامها فيكون معنى الآية إن الفلاح قد حصل لهم وإنهم عليه في الحال وقرأ ابي بن كعب وعكرمة وعاصم الجحدري وطلحة بن مصرف قد أفلح بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء على ما لم يسم فاعله قال الزجاج ومعنى الآية قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير ومن قرأ قد أفلح بضم الألف كان معناه قد أصيروا الى الفلاح وأصل الخشوع في اللغة الخضوع والتواضع
وفي المراد بالخشوع في الصلاة اربعة اقوال
أحدها أنه النظر الى موضع السجود روى أبو هريرة قال كان رسول الله (5/459)
صلى الله عليه و سلم إذا صلى رفع بصره الى السماء فنزلت الذين هم في صلاتم خاشعون فنكس رأسه والى هذا المعنى ذهب مسلم بن يسار وقتادة
والثاني أنه ترك الالتفات في الصلاة وأن تلين كنفك للرجل المسلم قاله علي بن ابي طالب رضي الله عنه
والثالث أنه السكون في الصلاة قاله مجاهد وابراهيم والزهري
والرابع أنه الخوف قاله الحسن
وفي المراد باللغو هاهنا خمسة اقوال
أحدها الشرك رواه ابو صالح عن ابن عباس والثاني الباطل رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث المعاصي قاله الحسن والرابع الكذب قاله السدي والخامس الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار قاله مقاتل قال الزجاج واللغو كل لعب ولهو وكل معصية فهي مطرحة ملغاة فالمعنى شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو
قوله تعالى للزكاة فاعلون أي مؤدون فعبر عن التأدية بالفعل لأنه فعل
قوله تعالى إلا على أزواجهم قال الفراء على بمعنى من وقال الزجاج المعنى أنهم يلامون في اطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم لا يلامون (5/460)
قوله تعالى فمن ابتغى أي طلب وراء ذلك أي سوى الأزواج والمملوكات فأولئك هم العادون يعني الجائرين الظالمين لأنهم قد تجاوزوا الى مالا يحل والذين هم لأماناتهم قرأ أبن كثير لأمانتهم وهو اسم جنس والمعنى للأمانات التي ائتمنوا عليها فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربه وتارة تكون بينه وبين جنسه فعليه مراعاة الكل وكذلك العهد ومعنى راعون حافظون قال الزجاج وأصل الرعي في اللغة القيام على اصلاح ما يتولاه الراعي من كل شيء
قوله تعالى على صلواتهم قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر صلواتهم على الجمع وقرأ حمزة والكسائي صلاتهم على التوحيد وهو اسم جنس والمحافظة على الصلوات أداؤها في أوقاتها
قوله تعالى اولئك هم الوارثون ذكر السدي عن أشياخه ان الله تعالى يرفع للكفار الجنة فينظرون الى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم فذلك قوله أولئك هم الوارثون وقد شرحنا هذا في الأعراف 43 عند قوله أروثتموها وشرحنا معنى الفردوس في الكهف 107
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه (5/461)
خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون
قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان فيه قولان
أحدهما أنه آدم عليه السلام وإنما قيل من سلالة لأنه استل من كل الأرض هذا مذهب سلمان الفارسي وابن عباس في رواية وقتادة
والثاني أنه ابن آدم والسلالة النطفة استلت من الطين والطين آدم عليه السلام قاله ابو صالح عن ابن عباس قال الزجاج والسلالة فعالة وهي القليل مما ينسل وكل مبني على فعالة يراد به القليل من ذلك الفضالة والنخالة والقلامة
قوله تعالى ثم جعلناه يعني ابن آدم نطفة في قرار وهو الرحم مكين أي حريز قد هيىء لاستقراره فيه وقد شرحنا في سورة الحج 5 معنى النطفة والعلقة والمضغة
قوله تعالى فخلقنا المضغة عظاما قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم عظاما فكسونا العظام على الجمع وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم عظما فكسونا العظم على التوحيد
قوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر وهذه الحالة السابعة قال علي عليه السلام لا تكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع
وفي محل هذا الإنشاء قولان
أحدهما انه بطن الأم ثم في صفة الإنشاء قولان أحدهما أنه نفخ (5/462)
الروح فيه رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال ابو العالية والشعبي ومجاهد وعكرمة والضحاك في آخرين والثاني أنه جعله ذكرا أو أنثى قاله الحسن
والقول الثاني أنه بعد خروجه من بطن أمه ثم في صفة هذا الإنشاء أربعة أقوال أحدها أن ابتداء ذلك الإنشاء أنه استهل ثم دل على الثدي وعلم كيف يبسط رجليه الى أن قعد إلى أن قام على رجليه الى أن مشى إلى أن فطم إلى أن بلغ الحلم إلى أن تقلب في البلاد رواه العوفي عن ابن عباس والثاني أنه استواء الشباب قاله ابن عمر ومجاهد والثالث أنه خروج الاسنان والشعر قاله الضحاك فقيل له أليس يولد وعلى رأسه الشعر فقال وأين العانة والإبط والرابع أنه إعطاء العقل والفهم حكاه الثعلبي
قوله تعالى فتبارك الله أي استحق التعظيم والثناء وقد شرحنا معنى تبارك في الأعراف 54 أحسن الخالقين أي المصورين والمقدرين والخلق في اللغة التقدير وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية وعنده عمر الى قوله تعالى خلقا آخر فقال عمر فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد ختمت بما تكلمت به يا ابن الخطاب
فان قيل كيف الجمع بين قوله أحسن الخالقين وقوله هل من خالق غير الله فاطر 3 (5/463)
فالجواب أن الخلق يكون بمعنى الإيجاد ولا موجد سوى الله ويكون بمعنى التقدير كقول زهير ... ولأنت تفري ما خلقت وبعد ... ض القوم يخلق ثم لا يفري ...
فهذا المراد هاهنا أن بني آدم قد يصورون ويقدرون ويصنعون الشيء فالله خير المصورين والمقدرين وقال الاخفش الخالقون هاهنا هم الصانعون فالله خير الخالقين
قوله تعالى ثم إنكم بعد ذلك أي بعد ما ذكر من تمام الخلق لميتون عند انقضاء آجالكم وقرأ ابو رزين العقيلي وعكرمة وابن ابي عبلة لمائنون بألف قال الفراء والعرب تقول لمن لم يمت إنك مائت عن قليل وميت ولا يقولون للميت الذي قد مات هذا مائت إنما يقال في الاستقبال فقط وكذلك يقال هذا سيد قومه اليوم فاذا اخبرت أنه يسودهم عن قليل قلت هذا سائد قومه عن قليل وكذلك هذا شريف القوم وهذا شارف عن قليل وهذا الباب كله في العربية على ما وصفت لك
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وانزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاكلين (5/464)
قوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق يعني السموات السبع قال الزجاج كل واحدة طريقة وقال ابن قتيبة إنما سميت طرائق بالتطارق لأن بعضها فوق بعض يقال طارقت الشيء إذا جعلت بعضه فوق بعض
قوله تعالى وما كنا عن الخلق غافلين فيه ثلاثة أقوال
أحدها ما غفلنا عنهم إذ بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب
والثاني ما كنا تاركين لهم بغير رزق فأنزلنا المطر
والثالث لم نغفل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم
قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء بقدر يعلمه الله وقال مقاتل بقدر ما يكفيهم للمعيشة
قوله تعالى وشجرة هي معطوفة على قوله جنات وقرأ ابو مجلز وابن يعمر وابراهيم النخعي وشجرة بالرفع والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون
فان قيل لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر
فالجواب من اربعة أوجه
أحدها لكثرة انتفاعهم بها فذكرهم من نعمه ما يعرفون وكذلك (5/465)
خص النخيل والأعناب في الآية الأولى لأنهما كانا جل ثمار الحجاز وماوالاها وكانت النخيل لأهل المدينة والأعناب لأهل الطائف
والثاني لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن
والثالث أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها
والرابع لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل
قوله تعالى طور سيناء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو طور سيناء مكسورة السين وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي مفتوحة السين وكلهم مدها قال الفراء العرب تقول سيناء بفتح السين في جميع اللغات إلا بني كنانة فانهم يكسرون السين قال ابو علي ولا تنصرف هذه الكلمة لأنها جعلت اسما لبقعة أو ارض وكذلك سينين ولو جعلت اسما للمكان أول للمنزل أو نحو ذلك من الأسماء المذكرة لصرفت لأنك كنت قد سميت مذكرا بمذكر والطور الجبل
وفي معنى سيناء خمسة أقوال
أحدها أنه بمعنى الحسن رواه ابو صالح عن ابن عباس وقال الضحاك الطور الجبل بالسريانية وسيناء الحسن بالنبطية وقال عطاء يريد الجبل الحسن
والثاني أنه المبارك رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنه اسم حجارة بعينها أضيف الجبل اليها لوجودها عنده قاله مجاهد
والرابع أن طور سيناء الجبل المشجر قاله ابن السائب (5/466)
والخامس أن سيناء اسم المكان الذي به هذا الجبل قاله الزجاج قال الواحدي وهو أصح الأقوال قال ابن زيد وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى وهو بين مصر وأيلة
قوله تعالى تنبت بالدهن قرأ ابن كثير وأبو عمرو تنبت برفع التاء وكسر الباء وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الباء قال الفراء وهما لغتان نبتت وأنبتت وكذلك قال الزجاج يقال نبت الشجر وأنبت في معنى واحد قال زهير ... رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل ...
قال ومعنى تنبت بالدهن تنبت ومعها دهن كما تقول جاءني زيد بالسيف أي جاءني ومعه السيف وقال ابو عبيدة معنى الآية تنبت الدهن والباء زائدة كقوله ومن يرد فيه بالحاد بظلم الحج 25 وقد بينا هذا المعنى هناك
قوله تعالى وصبغ وقرأ ابن مسعود وابن يعمر وابراهيم النخعي (5/467)
والأعمش وصبغا بالنصب وقرأ ابن السميفع وصباغ بألف مع الخفض قال ابن قتيبة الصبغ مثل الصباغ كما يقال دبغ ودباغ ولبس ولباس قال المفسرون والمراد بالصبغ هاهنا الزيت لأنه يلون الخبز إذا غمس فيه والمراد أنه إدام يصبغ به
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون
قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم نسقيكم بفتح النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضمها وقد شرحناه هذا في النحل 66 الى قوله تعالى ولكم فيه منافع كثيرة يعني في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها ومنها تأكلون من لحومها وأولادها والكسب عليها
قوله تعالى وعليها يعني الإبل خاصة وعلى الفلك تحملون فالإبل تحمل في البر والسفن تحمل في البحر
ولقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدواالله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملئكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا اليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فاذا جاء امرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين (5/468)
وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فاذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحيوة الدنيا ما هذا الا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون
قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا الى قومه قال المفسرون هذا تعزية (5/469)
لرسول الله صلى الله عليه و سلم بذكر هذا الرسول الصابر ليتأسى به في صبره وليعلم أن الرسل قبله قد كذبوا
قوله تعالى يريد أن يتفضل عليكم أي يعلوكم بالفضيلة فيصير متبوعا ولو شاء الله أن لا يعبد شيء سواه لأنزل ملائكة تبلغ عنه أمره لم يرسل بشرا ما سمعنا بهذا الذي يدعونا اليه نوح من التوحيد في آبائنا الأولين فأما الجنة فمعناها الجنون
وفي قوله حتى حين قولان
أحدهما أنه الموت فتقديره انتظروا موته والثاني أنه وقت منكر
قوله تعالى قال رب انصرني وقرأ عكرمة وابن محيصن قال رب بضم الباء وفي القصة الأخرى المؤمنون 39
قوله تعالى بما كذبون وقرأ يعقوب كذبوني بياء وفي القصة التي تليها أيضا فاتقوني المؤمنون 52 أن يحضروني المؤمنون 98 رب أرجعوني المؤمنون ولا تكلموني المؤمنون 108 أثبتهن في الحالين يعقوب والمعنى انصرني بتكذيبهم أي انصرني باهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم فأوحيانا اليه قد شرحناه في هود 37 الى قوله فاسلك فيها أي أدخل في سفينتك من كل زوجين اثنين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم من كل بكسر اللام من غير تنوين وقرأ حفص عن عاصم من كل بالتنوين قال ابو علي قراءة الجمهور إضافة كل الى زوجين وقراءة حفص تؤول الى زوجين لأن المعنى من كل الأزواج زوجين (5/470)
قوله تعالى وقل رب أنزلني منزلا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم منزلا بضم الميم وروى أبو بكر عن عاصم فتحها والمنزل بفتح الميم اسم لكل ما نزلت به والمنزل بضمها المصدر بمعنى الإنزال تقول أنزلته إنزالا ومنزلا
وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان
أحدهما عند نزوله في السفينة والثاني عند نزوله من السفينة
قوله تعالى إن في ذلك أي في قصة نوح وقومه لآيات وإن كنا أي وما كنا لمبتلين أي لمختبرين إياهم بارسال نوح اليهم ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين يعني عادا فأرسلنا فيهم رسولا منهم وهو هود هذا قول الأكثرين وقال ابو سليمان الدمشقي هم ثمود والرسول صالح وما بعد هذا ظاهر الى قوله أيعدكم أنكم قال الزجاج موضع أنكم نصب على معنى أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم فلما طال الكلام أعيد ذكر أن كقوله ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم التوبة 63
قوله تعالى هيهات هيهات قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي هيهات هيهات بفتح التاء فيهما في الوصل وإسكانها في الوقف وقرأ أبي بن كعب وابو مجلز وهارون عن أبي عمرو هيهاتا هيهاتا بالنصب والتنوين وقرا ابن مسعود وعاصم الجحدري وابو حيوة الحضرمي وابن السميفع هيهات هيهات بالرفع والتنوين وقرأ أبو العالية وقتادة هيهات هيهات بالخفض والتنوين وقرأ ابو جعفر هيهات هيهات بالخفض من غير تنوين وكان يقف بالهاء وقرأ أبو المتوكل (5/471)
الناجي وسعيد بن جبير وعكرمة هيهات هيهات بالرفع من غير تنوين وقرأ معاذ القارىء وابن يعمر وابو رجاء وخارجة عن ابي عمرو هيهات هيهات باسكان التاء فيهما وفي هيهات عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القراء والثامنة إيهات والتاسعة إيهان بالنون والعاشرة إيها بغير نون ذكرهن ابن القاسم وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن ... تذكر أياما مضين من الصبا ... وهيهات هيهاتا إليك رجوعها ...
قال الزجاج فأما الفتح فالوقف فيه بالهاء تقول هيهاه إذا فتحت ووقفت بعد الفتح فاذا كسرت ووقفت على التاء كنت ممن ينون في الوصل أو كنت ممن لا ينون وتأويل هيهات البعد لما توعدون وإذا قلت هيهات ما قلت فمعناه بعيد ما قلت وإذا قلت هيهات لما قلت فمعناه البعد لما قلت ويقال أيهات في معنى هيهات وأنشدوا ... وأيهات أيهات العقيق ومن به ... وأيهات وصل بالعقيق نواصله ...
قال ابو عمرو بن العلاء إذا وقفت على هيهات فقل هيهاه وقال الفراء الكسائي يختار الوقف بالهاء وأنا اختار التاء
قوله تعالى لما توعدون قرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة ما توعدون بغير لام قال المفسرون استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم للتفكر في بدو امرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا إن هي الا حياتنا الدنيا يعنون ما الحياة إلا ما نحن فيه و ليس بعد الموت حياة (5/472)
فان قيل كيف قالوا نموت ونحايا وهم لا يقرون بالبعث
فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج
أحدها نموت ويحيا أولادنا فكأنهم قالوا يموت قوم ويحيا قوم
والثاني نحيا ونموت لأن الواو للجمع لا للترتيب
والثالث أبتداؤنا موات في أصل الخلقة ثم نحيا ثم نموت
قوله تعالى إن هو يعنون الرسول وقد سبق تفسير ما بعد هذا هود 7 النحل 38 الى قوله قال عما قليل قال الزجاج معناه عن قليل وما زائدة بمعنى التوكيد
قوله تعالى ليصبحن نادمين أي على كفرهم فأخذتهم الصيحة بالحق أي باستحقاقهم العذاب بكفرهم قال المفسرون صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاء قال ابو عبيدة الغثاء ما أشبه الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به في شيء وقال ابن قتيبة المعنى فجعلناهم هلكى كالغثاء وهو ما علا السيل من الزبد والقمش لأنه يذهب ويتفرق وقال الزجاج الغثاء الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إذا جرى السيل رأيته مخالطا زبده وما بعد هذا قد سبق شرحه الحجر 5 الى قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر تترى كلما منونة والوقف بالألف وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بلا تنوين والوقف عند نافع وابن عامر بألف وروى هبيرة وحفص عن عاصم أنه يقف بالياء قال ابو علي يعني بقوله يقف بالياء (5/473)
أي بألف ممالة قال الفراء أكثر العرب على ترك التنوين ومنهم من نون قال ابن قتيبة والمعنى نتابع بفترة بين كل رسولين وهو من التواتر والأصل وترى فقبلت الواو تاء كما قلبوها في التقوى والتخمة وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال معنى واترت الخبر اتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنية وقرات على شيخنا أبي منصور اللغوي قال ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم تواترت كتبي اليك يعنون اتصلت من غير انقطاع فيضعون التواتر في موصع الاتصال وذلك غلط إنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعة ثم مجيئه وهو التفاعل من الوتر وهو الفرد يقال واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة قال الله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى أصلها وترى من المواترة فأبدلت التاء من الواو ومعناه منقطعة متفاوته لأن بين كل نبيين دهرا طويلا وقال أبو هريرة لا بأس بقضاء رمضان تترى أي منقطعا فاذا قيل واتر فلان كتبه فالمعنى تابعها وبين كل كتابين فقرة
قوله تعالى فأتبعنا بعضهم بعضا أي أهلكنا الأمم بعضهم في إثر بعض وجعلناهم أحاديث قال ابو عبيدة أي يتمثل بهم في الشر ولا يقال في الخير جعلته حديثا
ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين الى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين (5/474)
قوله تعالى فاستكبروا أي عن الإيمان بالله وعبادته وكانوا قوما عالين أي قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم
قوله تعالى وقومهما لنا عابدون أي مطيعون قال ابو عبيدة كل من دان لملك فهو عابد له
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب يعني التوراة أعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون لعلهم يعني بني اسرائيل والمعنى لكي يهتدوا
قوله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة آيتين على التثنية وهذا كقوله وجعلناها وابنها آية الانبياء 91 وقد سبق شرحه
قوله تعالى وأويناهما أي جعلناهما يأويان الى ربوة قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وحمزو والكسائي ربوة بضم الراء وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها وقد شرحنا معنى الربوة في البقرة 265 ذات قرار أي مستوية يسقتر عليها ساكنوها والمعنى ذات موضع قرار وقال الزجاج أي ذات مستقر ومعين وهو الماء الجاري من العيون وقال ابن قتيبة ذات قرار أي يستقر بها للعمارة ومعين هو الماء الظاهر (5/475)
ويقال هو مفعول من العين كأن أصله معيون كما يقال ثوب مخيط وبر مكيل
واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال
أحدها أنها دمشق رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب
والثاني أنها بيت المقدس رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال قتادة وعن الحسن كالقولين
والثالث أنها الرملة من أرض فلسطين قاله ابو هريرة
والرابع مصر قاله وهب بن منبه وابن زيد وابن السائب فأما السبب الذي لأجله أويا الى الربوة فقال ابو صالح عن ابن عباس فرت مريم بابنها عيسى من ملكهم ثم رجعت الى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة قال وهب بن منبه وكان الملك أراد قتل عيسى (5/476)
يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون
قوله تعالى يا أيها الرسل قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين يعني بالرسل هاهنا محمدا صلى الله عليه و سلم وحده وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع ويتضمن هذا أن الرسل جميعا كذا أمروا وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة والزجاج والمراد بالطيبات الحلال قال عمرو بن شرحبيل كان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه (5/477)
قوله تعالى وأن هذه أمتكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وان بالفتح وتشديد النون وافق ابن عامر في فتح الألف لكنه سكن النون وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وإن بكسر الالف وتشديد النون قال الفراء من فتح عطف على قوله إني بما تعملون عليم وبأن هذه أمتكم فموضعها خفص لأنها مردودة على ما وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر كأنك قلت واعلموا هذا ومن كسر استأنف قال ابوعلي الفارسي وأما ابن عامر فانه خفف النون المشددة وإذا خففت تعلق بها ما يتعلق بالمشددة وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الانبياء 92 الى قوله زبرا وقرا ابن عباس وابو عمران الجوني زبرا برفع الزاي وفتح الباء وقرأ ابو الجوزاء وابن السميفع زبرا برفع الزاي وإسكان الباء قال الزجاج من قرأ زبرا بضم الباء فتأويله جعلوا دينهم كتبا مختلفة جمع زبور ومن قرأ زبرا بفتح الباء أراد قطعا
قوله تعالى كل حزب بما لديهم فرحون أي بما عندهم من الدين الذي ابتدعوه معجبون يرون انهم على الحق
وفي المشار اليهم قولان
أحدهما أنهم اهل الكتاب قاله مجاهد
والثاني أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب قاله ابن السائب (5/478)
قوله تعالى فذرهم في غمرتهم وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب في غمراتهم على الجمع قال الزجاج في عمايتهم وحيرتهم حتى حين أي الى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب قال مقاتل يعني كفار مكة
فصل
وهل هذه الآية منسوخة أم لا فيها قولان
أحدهما أنها منسوخة بآية السيف والثاني أن معناها التهديد فهي محكمة
قوله تعالى أيحسبون أنما نمدهم به وقرأ عكرمة وابو الجوزاء يمدهم بالياء المرفوعة وكسر الميم وقرأ ابو عمران الجوني نمدهم بنون مفتوحة ورفع الميم قال الزجاج المعنى أيحسبون أن الذي نمدهم به من مال وبنين مجازاة لهم إنما هو استدراج نسارع لهم في الخيرات أي نسارع لهم به في الخيرات وقرأ ابن عباس وعكرمة وأيوب السختياني يسارع بياء مرفوعة وكسر الراء وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكل مثله إلا أنهما فتحا الراء وقرأ ابو عمران الجوني وعاصم الجحدري وابن السميفع يسرع بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف
قوله تعالى بل لا يشعرون أي لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون (5/479)
ثم ذكر المؤمنين فقال ان الذين هم خشية ربهم مشفقون وقد شرحنا هذا المعنى في قوله وهم من خشيته مشفقون الانبياء 28
قوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقرأ عاصم الجحدري يأتون ما أتوا بقصر همزة أتوا وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية فقالت يا رسول الله أهم الذين يذنبون وهم مشفقون فقال لا بل هم الذين يصلون وهم مشفقون ويصومون وهم مشفقون ويتصدقون وهم مشفقون أن لا يتقبل منهم قال الزجاج فمعنى يؤتون يعطون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبل منهم أنهم إلى ربهم راجعون أي لأنهم يوقنون أنهم يرجعون ومعنى يأتون يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين أولئك يسارعون في الخيرات وقرأ ابو المتوكل وابن السميفع يسرعون برفع الياء واسكان السين وكسر الراء من غير ألف قال الزجاج يقال اسرعت وسارعت في معنى واحد الا ان سارعت أبلغ من أسرعت وهم لها أي من أجلها وهذا كما تقول أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك وقال بعض أهل العلم الوجل المذكور هاهنا واقع على مضمر (5/480)
ولا نكلف نفسا الا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون
قوله تعالى ولدينا كتاب يعني اللوح المحفوظ ينطق بالحق قد أثبت فيه أعمال الخلق فهو ينطق بما يعملون وهم لا يظلمون أي لا ينقصون من ثواب اعمالهم ثم عاد الى الكفار فقال بل قلوبهم في غمرة من هذا قال مقاتل في غفلة عن الإيمان بالقرآن وقال ابن جرير في عمى عن هذا القرآن قال الزجاج يجوز أن يكون إشارة إلى ما وصف من أعمال البر في قوله أولئك يسارعون في الخيرات فيكون المعنى بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ويجوز أن يكون إشارة الى الكتاب فيكون المعنى بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم محصاة فيه
فخرج في المشار اليه ب هذا ثلاثة أقوال
أحدها القرآن والثاني أعمال البر والثالث اللوح المحفوظ
قوله تعالى ولهم أعمال من دون ذلك فيه أربعة أقوال
أحدها أعمال سيئة دون الشرك رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني خطايا سيئة من دون ذلك الحق قاله مجاهد وقال ابن جرير من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية (5/481)
والثالث أعمال غير الأعمال التي ذكروا بها سيعملونها قاله الزجاج
والرابع أعمال من قبل الحين الذي قدر الله تعالى أنه يعذبهم عند مجيئه من المعاصي قاله ابو سليمان الدمشقي
قوله تعالى هم لها عاملون إخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بد لهم من عملها
قوله تعالى حتى إذا أخذنا مترفيهم أي أغنياءهم ورؤساءهم والإشارة الى قريش وفي المراد بالعذاب قولان
أحدهما ضرب السيوف يوم بدر قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك
والثاني الجوع الذي عذبوا به سبع سنين قاله ابن السائب ويجأرون بمعنى يصيحون لا تجأروا اليوم أي لا تستغيثوا من العذاب إنكم منا لا تنصرون أي لا تمنعون من عذابنا قد كانت آياتي تتلى عليكم يعني القرآن فكنتم على أعقابكم تنكصون أي ترجعون وتتأخرون عن الإيمان بها مستكبرين منصوب على الحال وقوله به الكناية عن البيت الحرم وهي كناية عن غير مذكور والمعنى إنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرام لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم تقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف أحدا ونحن أهل بيت الله وولاته هذا مذهب ابن عباس وغيره قال الزجاج ويجوز أن تكون الهاء في به للكتاب فيكون المعنى تحدث لكم تلاوته عليكم استكبارا
قوله تعالى سامرا قال ابو عبيدة معناه تهجرون سمارا والسامر بمعنى السمار بمنزلة طفل في موضع أطفال وهو من سمر الليل وقال (5/482)
ابن قتيبة سامرا أي متحدثين ليلا والسمر حديث الليل وقرأ ابي بن كعب وابو العالية وابن محيصن سمرا بضم السين وتشديد الميم وفتحها جمع سامر وقرأ ابن مسعود وابو رجاء وعاصم الجحدري سمارا برفع السين تشديد الميم وألف بعدها
قوله تعالى تهجرون قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي تهجرون بفتح التاء وضم الجيم وفي معناها أربعة أقوال
أحدها تهجرون ذكر الله والحق رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني تهجرون كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه و سلم قاله الحسن
والثالث تهجرون البيت قاله ابو صالح وقال سعيد بن جبير كانت قريش تسمر حول البيت وتفتخر به ولا تطوف به
والرابع تقولون هجرا من القول وهو اللغوا والهذيان قاله ابن قتيبة قال الفراء يقال قد هجر الرجل في منامه إذا هذى والمعنى إنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ليس فيه ومالا يضره
وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن محيصن ونافع تهجرون بضم التاء وكسر الجيم قال ابن قتيبة وهذا من الهجر وهو السب والإفحاش من المنطق يريد سبهم للنبي صلى الله عليه و سلم ومن اتبعه وقرأ ابو العالية وعكرمة وعاصم الجحدري وأبو نهيك تهجرون بتشديد الجيم ورفع التاء قال ابن الأنباري ومعناها معنى قراءة ابن عباس (5/483)
أفلم يدبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون
قوله تعالى أفلم يدبروا القول يعني القرآن فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعبر على صدق رسولهم أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين المعنى أليس قد أرسل الانبياء الى أممهم كما أرسل محمد صلى الله عليه و سلم أم لم يعرفوا رسولهم هذا توبيخ لهم لانهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته صغيرا وكبيرا ثم أعرضوا عنه الجنة الجنون بل جاءهم بالحق يعني القرآن
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم الى صراط مستقيم
قوله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم في المراد بالحق قولان
أحدهما أنه الله عز و جل قاله مجاهد وابن جريج والسدي في آخرين
والثاني أنه القرآن ذكره الفراء والزجاج فعلى القول الأول يكون المعنى لو جعل الله لنفسه شريكا كما يحبون وعلى الثاني لو نزل القرآن بما يحبون من جعل شريك لله لفسدت السموات والأرض و من فيهن بل أتيناهم بذكرهم أي بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فهم عن ذكرهم معرضون أي قد تولوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وابو رجاء وابو الجوزاء بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون بألف فيهما أم تسألهم عما جئتهم به خرجا (5/484)
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم خرجا بغير الف فخراج بألف وقرأ ابن عامر خرجا فخرج بغير ألف في الحرفين وقرأ حمزة والكسائي خراجا بألف فخراج بألف في الحرفين ومعنى خرجا أجرا ومالا فخراج ربك أي فما يعطيك ربك من أجره وثوابه خير وهو خير الرازقين أي أفضل من أعطى وهذا على سبيل التنبيه لهم أنه لم يسالهم أجرا لا أنه قد سألهم والناكب العادل يقال نكب عن الطريق أي عدل عنه
وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون
قوله تعالى ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر قال ابن عباس الضر هاهنا الجوع الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اللهم أعني على قريش بسنين كسني يوسف فجاء أبو سفيان الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكا اليه الضر وأنهم قد أكلوا القد والعظام فنزلت هذه الآية والتي بعدها وهو العذاب المذكور في قوله ولقد أخذناهم بالعذاب
قوله تعالى حتى إذا فتحنا عليه بابا ذا عذاب شديد فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم بدر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (5/485)
والثاني أنه الجوع الذي أصابهم قاله مقاتل
والثالث باب من عذاب جهنم في الآخرة حكاه الماوردي
قوله تعالى إذا هم فيه مبلسون وقرأ ابو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وأبو نهيك ومعاذ القارىء مبلسون بفتح اللام وقد شرحنا معنى المبلس في الأنعام 45
وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض واليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذ إلا أساطير الأولين قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل أفلا تذكرون
قوله تعالى قليلا ما تشكرون قال المفسرون يريد أنهم لا يشكرون اصلا
قوله تعالى ذرأكم في الأرض أي خلقكم من الارض
قوله تعالى وله اختلاف الليل والنهار أي هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض أفلا تعقلون ما ترون من صنعه وما بعد هذا ظاهر الى قوله قل لمن الأرض أي قل لأهل مكة المكذبين بالبعث لمن الأرض ومن فيها من الخلق إن كنتم تعلمون بحالها سيقولون لله قرأ أبو عمرو لله بغير ألف هاهنا وفي اللذين بعدها بالف وقرأ الباقون لله في المواضع الثلاثة وقراءة ابي عمرو على القياس قال الزجاج ومن قرأ سيقولون الله فهو جواب السؤال ومن قرأ لله فجيد أيضا لأنك (5/486)
إذا قلت من صاحب هذ الدار فقيل لزيد جاز لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي وقال ابو علي الفارسي من قرأ لله في الموضعين الآخرين فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ وقرأ سعيد بن جبير وأبو المتوكل وابو الجوزاء سيقولون الله الله الله بألف فيهن كلهن قال أبو علي الأهوازي وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن
قوله تعالى قل أفلا تذكرون فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداءا أقدر على إحياء الأموات
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون
قوله تعالى افلا تتقون فيه قولان
أحدهما تتقون عبادة غيره والثاني تخشون عذابه فأما الملكوت فقد شرحناه في الأنعام 75
قوله تعالى وهو يجير ولا يجار عليه أي يمنع من السوء من شاء ولا يمنع منه من أراده بسوء يقال أجرت فلانا أي حميته وأجرت عليه أي حميت عنه
قوله تعالى فأنى تسحرون قال ابن قتيبة أنى تخدعون وتصرفون عن هذا
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى (5/487)
بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون
قوله تعالى بل أتيناهم بالحق أي بالتوحيد والقرآن وإنهم لكاذبون فيما يضيفون الى الله من الولد والشريك ثم نفاهما عنه بما بعد هذا الى قوله إذا لذهب كل إله بما خلق أي لانفرد بخلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق ولعلا بعضهم على بعض أي غلب بعضهم بعضا
قوله تعالى عالم الغيب قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم عالم بالخفض وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم عالم بالرفع قال الاخفش الجر اجود ليكون الكلام من وجه واحد والرفع على أن يكون خبر ابتداء محذوف ويقويه أن الكلام الأول قد انقطع
قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون إدفع بالتي هي احسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
قوله تعالى إما تريني وقرأ ابو عمران الجوني والضحاك ترئني بالهمز بين الراء والنون من غير ياء والمعنى إن أريتني ما يوعدون من القتل والعذاب فاجعلني خارجا عنهم ولا تهلكني بهلاكهم فأراه الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها ونجاه ومن معه
قوله تعالى ادفع بالتي هي احسن السيئة فيه اربعة اقوال (5/488)
أحدها ادفع إساءة المسيء بالصفح قاله الحسن
والثاني أدفع الفحش بالسلام قاله عطاء والضحاك
والثالث ادفع الشرك بالتوحيد قاله ابن السائب
والرابع ادفع المنكر بالموعظة حكاه الماوردي وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بأية السيف
قوله تعالى نحن أعلم بما يصفون أي بما يقولون من الشرك والتكذيب والمعنى إنا نجازيهم على ذلك وقل رب أعوذ أي ألجأ وامتنع بك من همزات الشياطين قال ابن قتيبة هو نخسها وطعنها ومنه قيل للعائب همزة كأنه يطعن وينخس إذا عاب وقال ابن فارس الهمز كالعصر يقال همزت الشيء في كفي ومنه الهمز في الكلام لأنه كأنه يضغط الحرف وقال غيره الهمز في اللغة الدفع وهمزات الشياطين دفعهم بالإغواء الى المعاصي
قوله تعالى أن يحضرون أي أن يشهدون والمعنى أن يصيبوني بسوء لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم الا بسوء هم ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث يسألون الرجعة الى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه وقيل هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم
فان قيل كيف قال ارجعون وهو يريد ارجعني
فالجواب أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن وذلك أنه يخبر عن نفسه فيه بما تخبر به الجماعة كقوله إنا نحن نحيي ونميت ق 43 فجاء خطابه كاخباره عن نفسه هذا قول الزجاج (5/489)
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي اعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون فاذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يؤمئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون
قوله تعالى لعلي أعمل صالحا فيما تركت قال ابن عباس فيما مضى من عمري وقال مقاتل فيما تركت من العمل الصالح
قوله تعالى كلا أي لا يرجع الى الدنيا إنها يعني مسألته الرجعة كلمة هو قائلها أي هو كلام لا فائدة له فيه ومن ورائهم أي أمامهم وبين أيديهم برزخ قال ابن قتيبة البرزخ ما بين الدنيا والآخرة وكل شيء بين شيئين فهو برزخ وقال الزجاج البرزخ في اللغة الحاجز وهو هاهنا ما بين موت الميت وبعثه
قوله تعالى فاذا نفخ في الصور في هذه النفخة قولان
أحدهما أنها النفخة الأولى رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنها الثانية رواه عطاء عن ابن عباس
قوله تعالى فلا أنساب بينهم في الكلام محذوف تقديره لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها او يتقاطعون بها لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ إنما يرفع التواصل والتفخار بها
وفي قوله ولا يتساءلون ثلاثة أقوال (5/490)
أحدها لا يتساءلون بالانساب أن يترك بعضهم لبعض حقه
والثاني لا يسأل بعضهم بعضا عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه
والثالث لا يسأل بعضهم بعضا من أي قبيل أنت كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف قدر الرجل وما بعد هذا قد سبق تفسيره الاعراف 8 الى قوله تلفح وجوههم النار قال الزجاج تلفح وتنفح بمعنى واحد إلا أن اللفح أعظم تأثيرا والكالح الذي قد تشمرت شفته عن اسنانه نحو ما ترى من رؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه وقال ابن مسعود قد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشيط بالنار وروى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في هذه الآية تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته
ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوننا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فان عدنا فانا ظالمون قال اخسؤا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا (5/491)
وراحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني حزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون
قوله تعالى الم تكن المعنى ويقال لهم الم تكن آياتي تتلى عليكم يعني القرآن قالوا ربن غلبت علينا شقوتنا قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر شقوتنا بكسر الشين من غير الف وقرأ عمرو ابن العاص وابو رزين العقبلي كما ورد في المصدر و الأصح العقيلي وأبو رجاء العطاردي كذلك إلا أنه بفتح الشين و قرأ ابن مسعود وابن عباس وابو عبد الرحمن السلمي والحسن والأعمش وحمزة والكسائي شقاوتنا بألف مع فتح الشين والقاف وعن الحسن وقتادة كذلك إلا أن الشين مكسورة قال المفسرون أقر القوم بأن ما كتب عليهم من الشقاء منعهم الهدى
قوله تعالى ربنا أخرجنا منها أي من النار قال ابن عباس طلبوا الرجوع الى الدنيا فان عدنا أي الى الكفر والمعاصي
قوله تعالى اخسؤوا قال الزجاج تباعدوا تباعد سخط يقال خسأت الكلب اخسؤه إذا زجرته ليتباعد
قوله تعالى ولا تكلمون أي في رفع العذاب عنك قال عبد الله ابن عمرو إن اهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون الزخرف 77 ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فيدعهم مثل عمر الدنيا ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فيدعهم مثل عمر الدنيا ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان الا الزفير والشهيق (5/492)
ثم بين الذي لأجله أخسأهم بقوله إنه وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري أنه بفتح الهمزة كان فريق من عبادي قال ابن عباس يريد المهاجرين قوله تعالى فاتخذتموهم قال الزجاج الأجود إدغام الذال في التاء لقرب المخرجين وإن شئت أظهرت لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة وبين الذل والتاء في المخرج شيء من التباعد
قوله تعالى سخريا قرأ نافع وحمزة والكسائي وابو حاتم عن يعقوب سخريا بضم السين هاهنا وفي ص63 تابعهم المفضل في ص32 وقرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم وابن عامر بكسر السين في السورتين ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في الزخرف 32 واختار الفراء الضم والزجاج الكسر وهل هما بمعنى فيه قولان
أحدهما أنهما لغتان ومعناهما واحد قاله الخليل وسيبويه ومثله قول العرب بحر لجي ولجي وكوكب دري ودري
والثاني أن الكسر بمعنى الهمز والضم بمعنى السخرة والاستعباد قاله ابو عبيدة وحكاه الفراء وهو مروي عن الحسن وقتادة
قال ابوعلي قراءة عن كسر ارجح من قراءة من ضم لأنه من الهزء والأكثر في الهزء كسر السين قال مقاتل كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتخذوا فقراء اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كعمار وبلال وخباب وصهيب سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم (5/493)
قوله تعالى حتى أنسوكم ذكري أي أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذكري فنسب الفعل الى المؤمنين وإن لم يفعلوه لأنهم كانوا السبب في وجوده كقوله إنهن أضللن كثيرا من الناس ابراهيم 36
قوله تعالى إني جزيتهم اليوم بما صبروا أي على أذاكم واستهزائكم أنهم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابو عمرو وابن عامر أنهم بفتح الألف وقرأ حمزة والكسائي إنهم بكسرها فمن فتح أنهم فالمعنى جزيتهم بصبرهم الفوز ومن كسر إنهم استأنف
قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين قال إن لبثتم الا قليلا لو أنكم كنتم أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لابرهان له به فانما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين
قوله تعالى قال كم لبثتم قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر قال كم لبثتم وهذا سؤال الله تعالى للكافرين وفي وقته قولان
أحدهما أنه يسألهم يوم البعث
والثاني بعد حصولهم في النار
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي قل كم لبثتم وفيها قولان
أحدهما أنه خطاب لكل واحد منهم والمعنى قل يا ايها الكافر (5/494)
والثاني أن المعنى قولوا فأخرجه مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة لأن المعنى مفهوم وأبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون ثاء لبثتم والباقون لا يدغمونها فمن أدغم فلتقارب مخرج الثاء والتاء ومن لم يدغم فلتباين المخرجين
وفي المراد بالأرض قولان أحدهما أنها القبور والثاني الدنيا فاحتقر القوم ما لبثوا لما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا لبثنا يوما أبو بعض يوم قال الفراء والمعنى لا ندري كم لبثنا
وفي المراد بالعادين قولان
أحدهما الملائكة قاله مجاهد
والثاني الحساب قاله قتادة وقرأ الحسن والزهري وأبو عمران الجوني وابن يعمر العادين بتخفيف الدال
قوله تعالى قال إن لبثتم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابو عمرو وابن عامر قال إن لبثتم وقرأ حمزة والكسائي قل إن لبثتم على معنى قل أيها السائل عن لبثهم وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة قل في الموضعين فقرأهما حمزة والكسائي على ما في مصاحفهم أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا لأن مكثهم في الأرض وإن طال فانه متناه ومكثهم في النار لا يتناهى
وفي قوله لو أنكم كنتم تعلمون قولان
أحدهما لو علمتم قدر لبثكم في الأرض
والثاني لم علمتم أنكم الى الله ترجعون فعملتم لذلك
قوله تعالى أفحسبتم أي أفظننتم أنما خلقناكم عبثا أي (5/495)
للعبث والعبث في اللغة اللعب وقيل هو الفعل لا لغرض صحيح وأنكم إلينا لا ترجعون قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم لا ترجعون بضم التاء وقرأ حمزة والكسائي بفتحها فتعالى الله عما يصفه به الجاهلون من الشرك والولد الملك قال الخطابي هو التام الملك الجام ع لأصناف المملوكات وأما المالك فهو الخالص الملك وقد ذكرنا معنى الحق في يونس 32
قوله تعالى رب العرش الكريم والكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن وقرأ ابن محيصن الكريم برفع الميم يعني الله عز و جل
قوله تعالى لا برهان له به أي لا حجة له به ولا دليل وقال بعضهم معناه فلا برهان له به
قوله تعالى فانما حسابه عند ربه أي جزاؤه عند ربه
تم بعون الله تبارك وتعالى الجزءالخامس من كتاب
زاد المسير في علم التفسير ويليه الجزء السادس
وأوله تفسير سورة النور (5/496)
سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين
وهي مدينة كلها باجماعهم
روى ابو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزل وسوره النور يعني النساء (6/3)
قوله عز و جل سورة قرأ الجمهور بالرفع وقرأ أبو رزين العقبلي وابن أبي عبلة ومحبوب عن أبي عمرو سورة بالنصب قال أبو عبيدة من رفع فعلى الابتداء وقال الزجاج هذا قبيح لأنها نكرة وأنزلناها صفة لها وإنما الرفع على إضمار هذه سورة والنصب على وجهين أحدهما على معنى أنزلنا سورة وعلى معنى أتل سورة
قوله تعالى وفرضناها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة والضحاك والزهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتخفيف قال الزجاج من قرأ بالتشديد فعلى وجهين أحدهما على معنى التكثير أي إننا فرضنا فيها فروضا والثاني على معنى بينا وفصلنا ما فيها من الحلال والحرام ومن قرأ بالتخفيف فمعناه ألزمناكم العمل (6/4)
بما فرض فيها وقال غيره من شدد أراد فصلنا فرائضها ومن خفف فمعناه فرضنا مافيها
قوله تعالى الزانية والزاني القراءة المشهورة بالرفع وقرأ أبو رزين العقيلي وأبو الجوزاء وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر الزانية بالنصب واختار الخليل وسيبويه الرفع اختيار الأكثرين قال الزجاج والرفع أقوى في العربية لأن معناه من زنى فاجلدوه فتأويله الابتداء ويجوز النصب على معنى اجلدوا الزانية فأما الجلد فهو ضرب الجلد يقال جلده إذا ضرب جلده كما يقال بطنه إذا ضرب بطنه
قال المفسرون ومعنى الآية الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين بكرين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة - فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثيب وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في حق البكر زيادة على الجلد بتغريب عام وفي حق الثيب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة وممن قال بوجوب النفي في حق البكر (6/5)
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عمر وممن بعدهم عطاء وطاووس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب علي بن أبي طالب والحسن البصري والحسن بن صالح واحمد وإسحاق قال وذهب قوم من العلماء إلى أن المراد بالجلد المذكور في هذه الآية البكر (6/6)
فأما الثيب فلا يجب عليه الجلد وإنما يجب الرجم روي عن عمر وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وروي عن احمد رواية مثل قول هؤلاء
قوله تعالى ولا تأخذكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والضحاك وبن يعمر والأعمش يأخذكم بالياء بهما رأفة قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي رأفة باسكان الهمزة وقرا المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي رآفة مثل سآمة وكآبة
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما لا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما قاله سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة
والثاني لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا نقيموها قاله مجاهد والشعبي وابن زبد في آخرين - فصل
واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود فقال الحسن البصري ضرب الزنا أشد من القذف والقذف أشد من الشرب ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير وعلى هذا مذهب أصحابنا وقال أبو حنيفة التعزير أشد الضرب وضرب الزاني أشد من ضرب الشارب وضرب الشارب أشد من ضرب القذف وقال مالك الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح (6/7)
- فصل
فأما ما يضرب من الأعضاء فنقل الميموني عن احمد في جلد الزاني قال يجرد ويعطى كل عضو حقه ولا يضرب وجهه ولا رأسه ونقل يعقوب ابن بختان لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير وهو قول أبي حنيفة وقال مالك لا يضرب إلا في الظهر وقال الشافعي يتقى الفرج والوجه
قوله تعالى في دين الله فيه قولان
أحدهما في حكمه قاله ابن عباس والثاني في طاعة الله ذكره الماوردي
قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قال الزجاج القراءة باسكان اللام ويجوز كسرها والمراد بعذابهما ضربهما
وفي المراد بالطائفة هاهنا خمسة أقوال
أحدها الرجل فما فوقه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقال النخعي الواحد طائفة
والثاني ألإثنان فصاعدا قاله سعيد بن جبير وعطاء وعن عكرمة كالقولين قال الزجاج والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة لأن الطائفة في معنى جماعة وأقل الجماعة اثنان
والثالث
والثالث ثلاثة فصاعدا قاله الزهري
والرابع أربعة قاله ابن زيد
والخامس عشرة قاله الحسن البصري (6/8)
قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية قال عبد الله بن عمرو كانت امرأة تسافح وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية وقال عكرمة نزلت في بغايا كن بمكة ومنهن تسع صواحب رايات وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير ولا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان فأراد ناس من المسلمين نكاحهن فنزلت هذه الآية قال المفسرون ومعنى الآية الزاني من المسلمين لا يتزوج من اولئك البغايا إلا زانية أو مشركة لأنهن كذلك كن والزانية منهن لا ينكحها إلا زان أو مشرك ومذهب أصحابنا أنه إذا زنى بامرأة لم يجز له ان يتزوجها إلا بعد التوبة منهما (6/9)
قوله تعالى وحرم ذلك وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وحرم الله ذلك بزيادة اسم الله عز و جل مع فتح حروف حرم وقرأ زيد بن علي وحرم ذلك بفتح الحاء وضم الراء مخففة ثم فيه قولان
أحدهما أنه نكاح الزواني قاله مقاتل والثاني الزنا قاله الفراء والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبد وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم
قوله تعالى والذين يرمون المحصنات شرائط الإحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة البلوغ والحرية والعقل والوطء في نكاح صحيح فأما الإسلام فليس بشرط في الإحصان خلافا لأبي حنيفة ومالك وأما شرائط إحصان القذف فأربع الحرية والإسلام والعفة وأن يكون المقذوف ممن يجامع مثله ومعنى الآية يرمون المحصنات بالزنا فاكتفى بذكره المتقدم عن إعادته ثم لم يأتوا على ما رموهن به بأربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك فاجلدوهم يعني القاذفين - فصل
وقد أفادت هذه الآية أن على القاذف إذا لم يقم البينة الحد ورد الشهادة وثبوت الفسق واختلفوا هل يحكم بفسقه ورد شهادته بنفس القذف أم بالحد فعلى قول أصحابنا إنه يحكم بفسقه ورد شهادته إذا لم يقم البينة وهو قول (6/10)
الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحكم بفسقه وتقبل شهادته مالم يقم الحد عليه - فصل
والتعريض بالقذف كقوله لمن يخاصمه ما أنت بزان ولا أمك زانية يوجب الحد في المشهور من مذهبنا وقال أبو حنيفة لا يوجب الحد وحد العبد في القذف نصف حد الحر وهو أربعون قاله الجماعة إلا الأوزاعي فانه قال ثمانون فأما قاذف المجنون فقال الجماعة لا يحد وقال الليث يحد فأما الصبي فان كان مثله يجامع أو كانت صبية مثلها يجامع فعلى القاذف الحد وقال مالك يحد قاذف الصبية التي يجامع مثلها ولايحد قذف الصبي وقال ابو حنيفه والشافعي لا يحد قاذفهما فان قذف رجل جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد وإن أفرد كل واحد بكلمة فعليه لكل واحد حد وهو قول الشعبي وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه حد واحد سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات - فصل
وحد القذف حق لآدمي يصح ان يبرئ منه ويعفو عنه وقال أبو حنيفة هو حق لله وعندنا أنه لا يستوفي إلا بمطالبة المقذوف وهو قول الأكثرين وقال ابن أبي ليلى يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف (6/11)
قوله تعالى إلا الذين تابوا أي من القذف وأصلحوا قال ابن عباس أظهروا التوبة وقال غيره لم يعودوا إلى قذف المحصنات
وفي هذا الإستثناء قولان
أحدهما أنه نسخ حد القذف وإسقاط الشهادة معا وهذا قول عكرمة والشعبي وطاووس ومجاهد والقاسم بن محمد والزهري والشافعي واحمد
والثاني أنه يعود إلى الفسق فقط وأما الشهادة فلا تقبل أبدا قاله الحسن وشريح وإبراهيم وقتادة فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله أبدا وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام وهذا أصح لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرما من راكبها فإذا قبلت شهادة المقذوف بعد ثبوته فالرامي أيسر جرما وليس القاذف بأشد جرما من الكافر فإنه إذا أسلم قبلت شهادته والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6/12)
والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم
قوله تعالى والذين يرمون أزواجهم سبب نزولها أن هلال بن أمية وجد عند اهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني جئت أهلي فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما جاء به واشتد عليه فقال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله هلالا ويبطل شهادته فقال هلال والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا فوالله إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وفي حديث آخر أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهلال حين قذفها ائتني بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك فنزلت هذه الآية فنسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف (6/13)
- فصل
في بيان حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحد وله التخلص منه باقامة البينة أو باللعان فان أقام البينة لزمها الحد وإن لاعنها فقد حقق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان فان نكل الزوج عن اللعان فعليه حد القذف وإن نكلت الزوجة لم تحد وحبست حتى تلاعن أو نقر بالزنا في إحدى الروايتين وفي الأخرى يخلى سبيلها وقال أبو حنيفة لا يحد واحد منهما ويحبس حتى يلاعن وقال مالك والشافعي يجب الحد على الناكل منهما - فصل
ولا تصح الملاعنة إلا بحضرة الحاكم فان كانت المرأة خفرة بعث الحاكم من يلاعن بينهما وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا أربع مرات ثم يقول في الخامسة ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تقول الزوجة أربع مرات أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ثم نقول وغضب الله عليها إن كان من الصادقين والسنة أن يتلاعنا قياما ويقال للزوج إذا بلغ اللعنة اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكذلك يقال للزوجة إذا بلغت إلى الغضب فان كان بينهما ولد اقتصر نفيه عن الأب إلى ذكره في اللعان فيزيد في الشهادة وما هذا الولد ولدي وتزيد هي وإن هذا الولد ولده (6/14)
- فصل
واختلف الفقهاء في الزوجين اللذين يجري بينهما اللعان فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه فيدخل تحت هذا المسلم والكافر والحر والعبد وكذلك المرأة وهذا قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز اللعان بين الحر والأمة ولا بين العبد والحرة ولا بين الذميين أو إذا كان أحدهما ذميا ونقل حرب عن أحمد نحو هذا والمذهب هو الأول ولا تختلف الرواية عن احمد ان فرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده واختلف هل تقع بلعانهما من غير فرقة الحاكم على روايتين وتحريم اللعان مؤبد فان أكذب الملاعن نفسه لم تحل له زوجته أيضا وبه قال عمر وعلي وابن مسعود وعن أحمد روايتان أصحهما هذا والثانية يجتمعان بعد التكذيب وهو قول أبي حنيفة
قوله تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وقرأ أبو المتوكل وابن يعمروالنخعي تكن بالتاء
قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم أربع بفتح العين وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم برفع العين قال الزجاج من رفع اربع فالمعنى فشهادة احدهم التي تدرأ حد القذف أربع ومن نصب فالمعنى فعليهم ان يشهد أحدهم اربع
قوله تعالى والخامسة قرأ حفص عن عاصم والخامسة نصبا حملا على نصب أربع شهادات
قوله تعالى أن لعنة الله عليه قرأ نافع ويعقوب والمفضل أن (6/15)
لعنة الله و أن غضب الله بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من لعنة والباء من غضب إلا ان نافعا كسر الضاد من غضب وفتح الباء
قوله تعالى ويدرأ عنها أي ويدفع عنها العذاب وفيه ثلاثة أقوال
أحدهما أنه الحد والثاني الحبس ذكرهما ابن جرير والثالث العار
قوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي ستره ونعمته قال الزجاج وجواب لولا هاهنا متروك والمعنى لولا ذلك لنال الكاذب منكم عذاب عظيم وقال غيره لولا فضل الله لبين الكاذب من الزوجين فأقيم عليه الحد وأن الله تواب يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة حكيم فيما فرض من الحدود إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم (6/16)
ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم
قوله تعالى إن الذين جاؤوا بالإفك أجمع المفسرون أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة عائشة وفي حديث الإفك أن هذه الآية إلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة وقد ذكرنا حديث الإفك في كتاب الحدائق وفي كتاب المغني في التفسير فلم نطل بذكره لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ فأما الإفك فهو الكذب والعصبة الجماعة (6/17)
ومعنى قوله منكم أي من المؤمنين وروى عروة عن عائشة أنها قالت هم أربعة حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وكذلك عدهم مقاتل
قوله تعالى لا تحسبوه شرا لكم قال المفسرون هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطل وقيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعائشة والمعنى إنكم تؤجرون فيه لكل امرئ منهم يعني من العصبة الكاذبة ما اكتسب من الإثم أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه والذي تولى كبره منهم وقرأ ابن عباس وأبو رزين وعكرمة ومجاهد وابن أبي عبلة والحسن ومحبوب عن أبي عمرو ويعقوب كبره بضم (6/18)
الكاف قال الكسائي وهما لغتان وقال ابن قتيبة كبر الشئ معظمه ومنه هذه الآية قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة ... تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنعرف ...
وفي المتولي لذلك قولان
أحدهما أنه عبد الله بن أبي رواه أبو صالح عن ابن عباس وعروة عن عائشة وبه قال مجاهد والسدي ومقاتل قال المفسرون هو الذي أشاع الحديث فله عذاب عظيم بالنار وقال الضحاك هو الذي بدأ بذلك
والثاني أنه حسان روى الشعبي أن عائشة قالت ما سمعت أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة فقيل يا أم المؤمنين أليس الله يقول والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فقالت اليس قد ذهب بصره وروى عنها مسروق أنها قالت وأي عذاب أشد من العمى ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره تعني حسان بن ثابت (6/19)
ثم إن الله عز و جل أنكر على الخائضين في الإفك بقوله لولا إذ سمعتموه أي هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظن المؤمنون من العصبة الكاذبة وهم حسان ومسطح والمؤمنات وهي حمنة بنت جحش بأنفسهم وفيها ثلاثة أقوال
أحدها بأمهاتهم والثاني بأخواتهم والثالث بأهل دينهم لان المؤمنين كنفس واحدة وقالوا هذا إفك مبين أي كذب بين وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة فقال هذا إفك مبين أكنت يا أماه فاعلته قالت معاذ الله قال فعائشة والله خير منك فنزلت هذه الآية
قوله تعالى لولا جاؤوا أي هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري بأربعة منونة والمعنى يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله أي في حكمه هم الكاذبون ثم ذكر القاذفين فقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي لولا ما من الله به عليكم لمسكم أي لأصابكم فيما أفضتم أي أخذتم وخضتم فيه من الكذب والقذف (6/20)
عذاب عظيم في الدنيا والآخرة ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال إذ تلقونه وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا فيتلقاه بعضهم من بعض وقرأ عمر بن الخطاب إذ تلقونه بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة وقرأ معاوية وابن السميفع مثله إلا أنهما فتحا التاء والقاف وقرأ ابن مسعود تتلقونه بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف وقرأ أبي بن كعب وعائشة ومجاهد وأبو حيوة تلقونه بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف وقال الزجاج تلقونه يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه ومعناه إذ تسرعون بالكذب يقال ولق يلق إذا أسرع في الكذب وغيره قال الشاعر ...
جاءت به عنس من الشام تلق
أي تسرع وقال ابن قتيبة تلقونه أي تقبلونه ومن قرأ تلقونه أخذه من الولق وهو الكذب
قوله تعالى وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم أي من غير أن تعلموا أنه حق وتحسبونه يعني ذلك القذف هينا أي سهلا لا إثم (6/21)
فيه وهو عند الله عظيم في الوزر ثم زاد عليهم في الإنكار فقال ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أي ما يحل وما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا سبحانك وهو يحتمل التنزيه والتعجب وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له ألم تسمع ما يتحدث الناس فقال ما يكون لنا ان نتكلم بهذا الآية فنزلت الآية وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك فنزلت الآية المتقدمة وروي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال سبحانك هذا بهتان عظيم فقيل للناس هلا قلتم كما قال سعد
قوله تعالى يعظكم الله أي ينهاكم الله ان تعودوا لمثله أي إلى مثله إن كنتم مؤمنين لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة ويبين الله لكم الآيات في الأمر والنهى
ثم هدد القاذفين بقوله إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة وهي الزنا في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا يعني الجلد والآخرة عذاب النار وروت عمرة عن عائشة قالت لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل امر برجلين وامرأة فضربوا حدهم وروى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلد عبد الله بن ابي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش فأما الثلاثة فتابوا وأما عبد الله فمات منافقا وبعض العلماء ينكر صحة هذا ويقول لم يضرب أحدا (6/22)
قوله تعالى والله يعلم شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وأنتم لا تعلمون ذلك ولولا فضل الله عليكم جوابه محذوف تقديره لعاقبكم فيما قلتم لعائشة قال ابن عباس يريد مسطحا وحسان وحمنة يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم
قوله تعالى لا تتبعوا خطوات الشيطان أي تزيينه لكم قذف عائشة وقد سبق شرح خطوات الشيطان وبيان الفحشاء والمنكر
قوله تعالى ما زكى منكم وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ما زكى بتشديد الكاف
وفيمن خوطب بهذا قولان
أحدهما أنه عام في الخلق والثاني أنه خاص للمتكلمين في الإفك ثم في معناه أربعة أقوال
أحدهما ما اهتدى رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس والثاني ما أسلم قاله ابن زبد والثالث ما صلح قاله مقاتل والرابع ما طهر قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ولكن الله يزكي من يشاء أي يطهر من يشاء من (6/23)
الإثم بالتوبة والغفران فالمعنى وقد شئت ان أتوب عليكم والله سميع عليم علم ما في نفوسكم من التوبة والندامة ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ان يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم
قوله تعالى ولا يأتل وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو جعفر وابن أبي عبلة ولا يتأل بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يتعل قال المفسرون سبب نزولها أن أبا بكر الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر والله لا أنفق عليه شيئا أبدا فنزلت هذه الآية فأما الفضل فقال أبو عبيدة هو التفضل والسعة الجدة قال المفسرون والمراد به أبو بكر
قوله تعالى أن يؤتوا قال ابن قتيبة معناه أن لا يؤتوا فحذف لا فأما قوله أولي القربى فانه يعنى مسطحا وكان أبن خالة أبي بكر وكان مسكينا وكان مهاجرا قال المفسرون فلما سمع أبو بكر ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال بلى يا رب وأعاد نفقته على مسطح إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم (6/24)
ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين
قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات يعني العفائف الغافلات عن الفواحش لعنوا في الدنيا أي عذبوا بالجلد وفي الآخرة بالنار
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال
أحدها انها نزلت في عائشة خاصة قال خصيف سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية فقلت من قذف محصنة لعنة الله قال لا إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة
والثاني أنها في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قاله الضحاك
والثالث أنها في المهاجرات قال أبو حمزة الثمالي بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنما خرجت تفجر فنزلت هذه الآية
والرابع أنها عامة في ازواج النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهن وبه قال قتادة وابن زيد (6/25)
فان قيل لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال
فالجواب أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمنا فاستغني عن ذكر المؤمنين ومثله سرابيل تقيكم الحر أراد والبرد قاله الزجاج
قوله تعالى يوم تشهد عليهم السنتهم وقرأ حمزة والكسائي وخلف يشهد بالياء وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية قال ابو سليمان الدمشقي وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم وقال ابن جرير المعنى ان السنة بعضهم تشهد على بعض
قوله تعالى يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق أي حسابهم العدل وقيل جزاءهم الواجب وقرأ مجاهد وأبو الجوزاء وحميد بن قيس والأعمش دينهم الحق برفع القاف ويعلمون أن الله هو الحق المبين قال ابن عباس وذلك ان عبد الله بن ابي كان يشك في الدين فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم
قوله تعالى الخبيثات للخبيثين فيه أربعة أقوال
أحدها الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء
والثاني الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء فأما الطيبات والطيبون فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات (6/26)
والثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والطيبات من النساء للطيبين من الرجال
والرابع الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال وكذلك الطيبات أولئك يعني عائشة وصفوان مبرؤون أي منزهون مما يقولون من الفرية لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في الجنة يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على اهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فان لم تجدوا فيها احدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو ازكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون
قوله تعالى لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ذكر أهل التفسير ان سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله ص فقالت يا رسول الله إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد فلا يزال يدخل علي رجل من اهلي فنزلت هذه الآية فقال ابو بكر بعد نزولها يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل قوله ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة الآية ومعنى قوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم (6/27)
أي بيوتا ليست لكم واختلف القراء في باء البيوت فقرأ بعضهم بضمها وبعضهم بكسرها وقد بينا ذلك في البقرة
قوله تعالى حتى تستأنسوا قال الفراء في الكلام تقديم وتأخير تقديره حتى تسلموا وتستأنسوا قال الزجاج وتستأنسوا في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير والاستئذان الاستعلام تقول آذنته بكذا أي أعلمته وآنست منه كذا أي علمت منه ومثله فان آنستم منهم رشدا أي علمتم فمعنى الآية حتى تستعلموا يريد أهلها ان تدخلوا ام لا قال المفسرون وصفة الاستعلام ان تقول السلام عليكم اادخل ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان لهذه الآية ذلكم خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن لعلكم تذكرون أن الاستئذان خير فتأخذون به قال عطاء قلت لابن عباس أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد قال أيسرك أن ترى منهن عورة قلت لا قال فاستأذن
قوله تعالى فان لم تجدوا فيها احدا أي إن وجدتموها خالية فلا تدخلوا حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي إن ردوكم فلا تقضوا على أبوابهم وتلازموها هو أزكى لكم يعني الرجوع خير لكم وأفضل والله بما تعملون من الدخول باذن وغير إذن عليم (6/28)
- فصل
وهل هذه الآية منسوخة أم لا فيها قولان
أحدهما أن حكمها عام في جميع البيوت ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة هذا مروي عن الحسن وعكرمة
والثاني أن الآيتين محكمتان فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها والإذن لا يتصور من غير آذن فاذا بطل الاستئذان لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى وهذا أصح
قوله تعالى أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها خمسة اقوال
أحدها أنها الخانات والبيوت المبينة للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم قاله قتادة
والثاني أنها البيوت الخربة والمتاع قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول قاله عطاء
والثالث أنها بيوت مكة قاله محمد بن الحنفية
والرابع حوانيت التجار التي بالأسواق قاله ابن زيد
والخامس أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن قاله ابن جريج
فيخرج في معنى المتاع ثلاثة أقوال (6/29)
أحدهما الأمتعة التي تباع وتشترى والثاني إلقاء الأذى من الغائط والبول والثالث الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحر والبرد قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهم ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون
قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم في من قولان
أحدهما أنها صلة والثاني أنها أصل لأنهم لم يؤمروا بالفض مطلقا وإنما أمروا بالغض عما لا يحل
وفي قوله ويحفظوا فروجهم قولان أحدهما عما لا يحل لهم قاله الجمهور والثاني عن أن ترى فهو أمر لهم بالاستتار قاله أبو العالية وابن زيد
قوله تعالى ذلك إشارة إلى الغض وحفظ الفروج أزكى لهم أي خير وأفضل إن الله خبير بما يصنعون في الأبصار والفروج ثم امر النساء بما امر به الرجال (6/30)
قوله تعالى ولا يبدين زينتهن أي لا يظهرنها لغير محرم وزينتهن على ضربين خفيفة كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك وظاهرة وهي المشار إليها بقوله إلا ما ظهر منها وفيه سبعة أقوال
أحدهما انها الثياب رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود وفي لفظ آخر قال هو الرداء والثاني أنها الكف والخاتم والوجه والثالث الكحل والخاتم رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس والرابع القلبان وهما السواران والخاتم والكحل قاله المسور بن مخرمة والخامس الكحل والخاتم والخضاب قاله مجاهد والسادس الخاتم والسوار قاله الحسن والسابع الوجه والكفان قاله الضحاك قال القاضي أبو يعلى والقول الاول اشبه وقد نص عليه احمد فقال الزينة الظاهرة الثياب وكل شئ منها عورة حتى الظفر ويفيد هذا تحريم النظر إلى شئ من الأجنبيات لغير عذر فان كان (6/31)
لعذر مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة فأما النظر إليها بغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن
فان قيل فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها
فالجواب أن في تغطيته مشقة فعفي عنه
قوله تعالى وليضربن بخمرهن وهي جمع خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها والمعنى وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وإبراهيم النخفي والأعمش على جيوبهن بكسر الجيم ولا يبدين زينتهن يعني الخفية وقد سبق بيانها إلا لبعولتهن قال ابن عباس لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن
قوله تعالى أو نسائهن يعني المسلمات قال أحمد لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة واليهودية والنصرانية لا تقبلان المسلمة (6/32)
قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن قال اصحابنا المراد به الإماء دون العبيد وقال أصحاب الشافعي يدخل فيه العبيد فيجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها لأن مذهب الشافعي انه محرم لها وعندنا انه ليس بمحرم ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفيها وقد نص أحمد على انه لايجوز أن ينظر إلى شعر مولاته قال القاضي أبو يعلى وإنما ذكر الإماء في الآية لانه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم احرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال
قوله تعالى أو التابعين وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم او لأنهم نشؤوا فيهم
وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال
احدهما أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل قاله قتادة وكذلك قال مجاهد هو الأبلة الذي يريد الطعام ولا يريد النساء والثاني أنه العنين قاله عكرمة والثالث المخنث كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن قاله الحسن والرابع أنه الشيخ (6/33)
الفاني والخامس انه الخادم قالهما ابن السائب والسادس أنه الذي لا يكترث بالنساء إما لكبر أو لهرم أو لصغر ذكره ابن المنادي من أصحابنا قال الزجاج غير صفة للتابعين وفيه دليل على ان قوله أو ما ملكت أيمانهن معناه غير أولي الإربة من الرجال والمعنى ولا يبدين زينتهن لمماليكهن ولا لتباعهن إلا أن يكونوا غير أولي الإربة والإربة الحاجة ومعناه غير ذوي الحاجات إلى النساء
قوله تعالى أو الطفل قال ابن قتيبة يريد ألأطفال بدليل قوله لم يظهروا على عورات النساء أي لم يعرفوها
قوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن أي باحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أن عليها خلخالين (6/34)
وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتكم ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء إن أردن تحصنوا لتبتغوا عرض الحياة الدنيار ومن يكرههن فان الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين
قوله تعالى وأنكحوا الأيامي وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء يقال رجل أيم وامرأة أيم ورجل أرمل وامرأة أرملة ورجل بكر وامراة بكر إذا لم يتزوجا وامرأة ثيب ورجل ثيب إذا كانا قد تزوجا والصالحين من عبادكم أي من عبيدكم يقال عبد وعباد وعبيد كما يقال كلب وكلاب وكليب وقرأ الحسن ومعاذ القارئ من عبيدكم (6/35)
قال المفسرون والمراد بالآية الندب ومعنى الصلاح هاهنا الإيمان والمراد بالعباد المملوكون فالمعنى زوجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم ثم رجع إلى الأحرار فقال إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر
قوله تعالى وليستعفف الذين لا يجحدون نكاحا أي وليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال يا معشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء (6/36)
قوله تعالى والذين يبتغون الكتاب أي يطلبون المكاتبة من العبيد والإماء على أنفسهم فكاتبوهم فيه قولان
أحدهما أنه مندوب إليه قاله الجمهور
والثاني أنه واجب قاله عطاء وعمرو بن دينار وذكر المفسرون أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزي يقال له صبيح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فنزلت هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا
قوله تعالى إن علمتم فيهم خيرا فيه ستة أقوال
أحدها إن علمتم لهم مالا رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء والضحاك والثاني إن علمتم لهم حيلة يعني الكسب رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس والثالث إن علمتم فيهم دينا قاله الحسن والرابع إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير قاله سعيد بن جبير والخامس إن أقاموا الصلاة قاله عبيدة السلماني والسادس إن علمتم لهم صدقا ووفاء قاله إبراهيم
قوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم فيه قولان
أحدهما انه خطاب للاغنياء الذين تجب عليهم الزكاة أمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرقاب روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال هو سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون
والثاني أنه خطاب للسادة أمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئا قال احمد والشافعي الإيتاء واجب وقدره أحمد بربع مال الكتابة وقال الشافعي ليس بمقدر وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب الإيتاء وقد روي عن عمر بن الخطاب (6/37)
أنه كاتب غلاما له يقال له أبو أمية فجاءه بنجمه حين حل فقال اذهب يا أبا أمية فاستعن به في مكاتبتك قال يا أمير المؤمنين لو أخرته حتى يكون في آخر النجوم فقال يا أبا أمية إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال عكرمة وكان ذلك أول نجم أدي في الإسلام
قوله تعالى ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء روى مسلم في صحيحه من حديث ابي سفيان عن جابر قال كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا فنزلت هذه الآية قال المفسرون وكان له جاريتان معاذة ومسيكة فكان يكرههما على الزنا ويأخذ منهما الضريبة وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة إن هذا الأمر الذي نحن فيه إن كان خيرا فقد استكثرنا منه وإن كان شرا فقد آن لنا أن ندعه فنزلت هذه الآية وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوار كن لعبد الله بن أبي معاذة ومسيكة وأميمة وقتيلة وعمرة وأروى فأما الفتيات فهن الإماء والبغاء الزنا والتحصن التعفف
واختلفوا في معنى إن أردن تحصنا على اربعة أقوال
أحدها أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكرناه فخرج النهي عن صفة السبب وإن لم يكن شرطا فيه (6/38)
والثاني إنه إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فانها تبغي بالطبع
والثالث أن إن بمعنى إذ ومثله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين البقرة وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين آل عمران
والرابع ان في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره وأنكحوا الأيامي إلى قوله وإمائكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياة الدنيا وهو كسبهن وبيع أولادهن ومن يكرههن فان الله من بعد إكراههن غفور للمكرهات رحيم وقرأ ابن عباس وأبو عمران الجوني وجعفر بن محمد من بعد إكراههن لهن غفور رحيم
قوله تعالى آيات مبينات قرأ ابن عامر وأهل الكوفة غير أبي بكر وأبان مبينات بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة النور وآخر سورة الطلاق
قوله تعالى ومثلا من الذين خلوا أي شبها من حالهم بحالكم أيها المكذبون وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذبين قبلهم الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم
قوله تعالى الله نور السماوات والأرض فيه قولان
أحدهما هادي اهل السماوات والأرض رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (6/39)
وبه قال أنس بن مالك وبيان هذا ان النور في اللغة الضياء وهو الذي تصل به الأبصار إلى مبصراتها فورد النور مضافا إلى الله تعالى لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبين لهم ما يهتدون به والخلائق بنوره يهتدون
والثاني مدبر السماوات والأرض قاله مجاهد والزجاج وقرأ أبي ابن كعب وأبو المتوكل وابن السميفع الله نور بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء السماوات بالخفض والارض بالنصب
قوله تعالى مثل نوره في هاء الكناية أربعة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الله عز و جل قال ابن عباس مثل هداه في قلب المؤمن
والثاني أنها ترجع إلى المؤمن فتقديره مثل نور المؤمن قاله أبي ابن كعب وكان أبي وابن مسعود يقرآن مثل نور من آمن به
والثالث انها ترجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم قاله كعب
والرابع أنها ترجع إلى القرآن قاله سفيان
فأما المشكاة ففيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها في موضع الفتيلة الذي هو كالأنبوب والمصباح الضوء قاله ابن عباس
والثاني أنها القنديل والمصباح الفتيلة قاله مجاهد
والثالث أنها الكوة التي لا منفذ لها والمصباح السراج قاله كعب وكذلك قال الفراء المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وقال ابن قتيبة المشكاة (6/40)
الكوة بلسان الحبشة وقال الزجاج هي من كلام العرب والمصباح السراج وإنما ذكر الزجاجة لأن النور في الزجاج أشد ضوءا منه في غيره وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن أبي عبلة في زجاجة الزجاجة بفتح الزاي فيهما وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري وابن يعمر بكسر الزاي فيهما قال بعض أهل المعاني معنى الآية كمثل مصباح في مشكاة فهو من المقلوب
فأما الدري فقرأ أبو عمرو والكسائي وأبان عن عاصم دري بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودا مهموزا قال ابن قتيبة المعنى على هذا إنه من الكواكب الدراري وهي اللاتي يدرأن عليك أي يطلعن وقال الزجاج هو ماخوذ من درأ يدرأ إذا اندفع منقضا فتضاعف نوره يقال تدارأ الرجلان إذا تدافعا وروى المفضل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مد وهي قراءة عبد الله بن عمر والزهري وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم دري بضم الدال وكسر الراء (6/41)
وتشديد الياء من غير مد ولا همز وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وعاصم الجحدري دري بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا وقرأ أبي ابن كعب وسعيد بن المسيب وقتادة بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز وقرأ ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وابن يعمر بفتح الدال وكسر الراء مهموزا مقصورا قال الزجاج الدري منسوب إلى انه كالدر في صفائه وحسنه وقال الكسائي الدري الذي يشبه الدر والدري جار والدري يلتمع وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر بضم الدال وتخفيف الياء مع إثبات الهمزة والمد قال الزجاج فالنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا وقال الفراء ليس هذا بجائز في العربية لأنه ليس في الكلام فعيل إلا أعجمي مثل مريق وما أشبهه وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي المريق العصفر اعجمي معرب وليس في كلامهم اسم على زنة فعيل قال ابو علي وقد حكى سيبويه عن ابي الخطاب كوكب دري من الصفات ومن الاسماء المريق العصفر
قوله تعالى توقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدال يريدان المصباح لأنه هو الذي يوقد وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم يوقد بالياء مضمومة مع ضم الدال يريدون المصباح أيضا وقرأ حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم توقد بضم التاء والدال يريدون الزجاجة قال الزجاج والمقصود مصباح الزجاجة فحذف المضاف
قوله تعالى من شجرة أي من زيت شجرة فحذف المضاف يدلك على ذلك قوله يكاد زيتها يضئ والمراد بالشجرة هاهنا شجرة الزيتون (6/42)
وبركتها من وجوه فانها تجمع الأدم والدهن والوقود فيوقد بحطب الزيتون ويغسل برماده الإبريسم ويستخرج دهنه أسهل استخراج ويورق غصنه من أوله إلى آخره وإنما خصت بالذكر هاهنا دون غيرها لان دهنها أصفى وأضوأ
قوله تعالى لا شرقية ولا غربية فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها بين الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس قاله أبي ابن كعب ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنها في الصحراء لا يظلها جبل ولا كهف ولا يواريها شئ فهو اجود لزيتها رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد والزجاج والثالث أنها من شجر الجنة لا من شجرة الدنيا قاله الحسن
قوله تعالى يكاد زيتها يضئ أي يكاد من صفائه يضئ قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به نور على نور قال مجاهد النار على الزيت وقال ابن السائب المصباح نور والزجاجة نور وقال أبو سليمان الدمشقي نور النار ونور الزيت ونور الزجاجة يهدي الله لنوره فيه أربعة أقوال (6/43)
أحدها لنور القرآن والثاني لنور الإيمان والثالث لنور محمد صلى الله عليه و سلم والرابع لدينه الإسلام - فصل
فأما وجه هذا المثل ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه شبه نور محمد صلى الله عليه و سلم بالمصباح النير فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه و سلم والمصباح النور الذي في قلبه والزجاجة قلبه فهو من شجرة مباركة وهو إبراهيم عليه السلام سماه شجرة مباركة لأن أكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني يكاد محمد صلى الله عليه و سلم يتبين للناس أنه نبي ولو لم يتكلم وقال القرظي المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم وقال الضحاك شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة ومحمدا صلى الله عليه و سلم بالمصباح
والثاني أنه شبه نور الإيمان في قلب المؤمن بالمصباح فالمشكاة قلبه والمصباح نور الإيمان فيه وقيل المشكاة صدره والمصباح القرآن والإيمان اللذان في (6/44)
صدره والزجاجة قلبه فكأنه مما فيه من القرأن والإيمان كوكب مضئ توقد من شجرة وهي الإخلاص فمثل الإخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن فان اعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فاذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى كما يكاد هذا الزيت يضئ قبل أن تمسه النار فاذا مسته ا شتد نوره فالمؤمن كلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى نور يوم القيامة
والثالث أنه شبه القرآن بالمصباح يستضاء به ولا ينقص والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة لسانه وفمه والشجرة المباركة شجرة الوحي تكاد حجج القرآن تتضح وإن لم نقرأ وقيل تكاد حجج الله تضئ لمن فكر فيها وتدبرها ولو لم ينزل القرآن نور على نور أي القرآن نور من الله لخلقه مع ما قد قام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن
قوله تعالى ويضرب الله الأمثال أي ويبين الله الأشباه للناس تقريبا إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
قوله تعالى في بيوت قال الزجاج في من صلة قوله كمشكاة (6/45)
فالمعنى كمشاكة في بيوت ويجوز أن تكون متصلة بقوله يسبح له فيها فتكون فيها تكريرا على التوكيد والمعنى يسبح لله رجال في بيوت
فان قيل المشكاة إنما تكون في بيت واحد فكيف قال في بيوت
فعنه جوابان أحدهما أنه من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء
والثاني أنه راجع إلى كل واحد من البيوت فالمعنى في كل بيت مشكاة وللمفسرين في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال
أحدهما انها المساجد قاله ابن عباس والجمهور والثاني بيوت أزواج رسول الله ص قاله مجاهد والثالث بيت المقدس قاله الحسن
فأما أذن فمعنا امر وفي معنى ان ترفع قولان
أحدها أن تعظم قاله الحسن والضحاك
والثاني أن تبنى قاله مجاهد وقتادة (6/46)
وفي قوله ويذكر فيها اسمه قولان
أحدهما توحيده رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني يتلى فيها كتابه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قوله تعالى يسبح قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي يسبح بكسر الباء وقرأ بن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتحها وقرأ معاذ القارئ وأبو حيوة تسبح بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء
وفي قوله يسبح له فيها قولان
أحدهما أنه الصلاة ثم في صلاة الغدو قولان احدهما أنها صلاة الفجر رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس والثاني صلاة الضحى روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلاغواص ثم قرأ يسبح له فيها بالغدو والآصال وفي صلاة الآصال قولان أحدهما أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قاله ابن السائب والثاني صلاة العصر قاله أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أنه التسبيح المعروف ذكره بعض المفسرين
قوله تعالى رجال لا تلهيهم أي لا تشغلهم تجارة ولا بيع قال ابن السائب التجار الجلابون والباعة المقيمون وقال الواقدي التجارة ها هنا بمعنى الشراء (6/47)
وفي المراد بذكر الله ثلاثة أقوال
أحدها الصلاة المكتوبة قاله ابن عباس وعطاء وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
والثاني عن القيام بحق الله قاله قتادة
والثالث عن ذكر الله باللسان ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى وإقام الصلاة أي أداؤها لوقتها وإتمامها
فان قيل إذا كان المراد بذكر الله الصلاة فما معنى إعادتها
فالجواب أنه بين أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها
قوله تعالى تتقلب فيه القلوب والأبصار في معناه ثلاثة أقوال
أحدها أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور ازداد بصيرة برؤية ما وعد به ومن كان قلبه على غير ذلك رأى ما يوقن معه بامر القيامة قاله الزجاج
والثاني أن القلوب تتقلب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك والأبصار تتقلب تنظر من أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال وأي ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال قاله ابن جرير
والثالث تتقلب القلوب فتبلغ إلى الحناجر وتتقلب الأبصار إلى الزرق بعد الكحل والعمى بعد النظر
قوله تعالى ليجزيهم المعنى يسبحون الله ليجزيهم أحسن ما عملوا أي ليجزيهم بحسناتهم فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها ويزيدهم من فضله (6/48)
مالم يستحقوه بأعمالهم والله يرزق من يشاء بغير حساب قد شرحناه في آل عمران والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
ثم ضرب الله مثلا للكفار فقال والذين كفروا أعمالهم كسراب قال ابن قتيبة السراب ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار والآل ما رأيته في أول النهار وآخره وهو يرفع كل شئ والقيعة والقاع واحد وقرأ أبي ابن كعب وعاصم الجحدري وابن السميفع بقيعات وقال الزجاج القيعة جمع قاع مثل جار وجيرة والقيعة والقاع ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماء يجري وذلك هو السراب والآل مثل السراب إلا انه يرتفع وقت الضحى كالماء بين السماء والأرض يحسبه الظمآن وهو الشديد العطش ماء حتى إذا جاء إلى موضع السراب رأى أرضا لاماء فيها فأعلم الله ان الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله كظن الذي يظن السراب ماء وعمله قد حبط قوله تعالى ووجد الله عنده أي قدم على الله فوفاه حسابه أي جازاه بعمله وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن والمراد به الخبر عن الكافر (6/49)
قوله تعالى والله سريع الحساب مفسر في البقرة
قوله تعالى أو كظلمات في هذا المثل قولان
أحدهما أنه لعمل الكافر قاله الجمهور واختاره الزجاج
والثاني أنه مثل لقلب الكافر في أنه لا يعقل ولا يبصر قاله الفراء فأما اللجي فهو العظيم اللجة وهو العميق يغشاه أي يعلو ذلك البحر موج من فوقه أي من فوق الموج موج والمعنى يتبع الموج موج حتى كان بعضه فوق بعض من فوقه أي من فوق ذلك الموج سحاب
ثم ابتدأ فقال ظلمات يعني ظلمة البحر وظلمة الموج الأول وظلمة الموج الذي فوق الموج وظلمة السحاب وقرأ ابن كثير وابن محيصن سحاب ظلمات مضافا إذا أخرج يده يعني إذا أخرجها مخرج لم يكد يراها فيه قولان
أحدهما أنه لم يرها قاله الحسن واختاره الزجاج قال لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكف وكذلك قال ابن الأنباري معناه لم يرها البتة لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على ان الرؤية معدومة فبان بهذا الكلام أن يكد زائدة للتوكيد بمنزلة ما في قوله عما قليل ليصبحن نادمين المؤمنون
والثاني أنه لم يرها إلا بعد الجهد قاله المبرد قال الفراء وهذا كما تقول ما كدت أبلغ إليك وقد بلغت قال الفراء وهذا وجه العربية - فصل
فأما وجه المثل فقال المفسرون لما ضرب الله للمؤمن مثلا بالنور (6/50)
ضرب للكافر هذا المثل بالظلمات والمعنى أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشد وقيل الظلمات ظلمة الشرك وظلمة المعاصي وقال بعضهم ضرب الظلمات مثلا لعمله والبحر اللجي لقلبه والموج لما يغشى قلبه من الشرك والجهل والحيرة والسحاب للرين والختم على قلبه فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة
قوله تعالى ومن لم يجعل الله له نورا فيه قولان
أحدهما دينا وإيمانا قاله ابن عباس والسدي والثاني هداية قاله الزجاج ألم تر ان الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير
قوله تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض قد تقدم تفسيره
قوله تعالى والطير أي وتسبح له الطير صافات أي باسطات اجنحتها في الهواء وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والارض إذا طارت فهي خارجة عن جملة من في السماوات والأرض
قوله تعالى كل أي من الجملة التي ذكرها قد علم صلاته وتسبيحه قال المفسرون الصلاة لبني آدم والتسبيح لغيرهم من الخلق
وفي المشار إليه بقوله قد علم قولان
أحدهما أنه الله تعالى والمعنى قد علم الله صلاة المصلي وتسبيحه قاله الزجاج (6/51)
والثاني أنه المصلي والمسبح ثم فيه قولان أحدهما قد علم المصلي والمسبح صلاة نفسه وتسبيحه أي قد عرف ما كلف من ذلك والثاني قد علم المصلي صلاة الله وتسبيحه أي علم أن ذلك لله تعالى وحده
وقرأ قتادة وعاصم الجحدري وابن يعمر كل قد علم برفع العين وكسر اللام صلاته وتسبيحه بالرفع فيهما ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى ألودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
قوله تعالى ألم تر أن الله يزجي سحابا أي يسوقه ثم يؤلف بينه أي يضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة والسحاب لفظه لفظ الواحد ومعناه الجمع فلهذا قال يؤلف بينه ثم يجعله ركاما أي يجعل بعض السحاب فوق بعض فترى الودق وهو المطر قال الليث الودق المطر كله شديده وهينه
قوله تعالى من خلاله وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك من خلله والخلال جمع خلل مثل جبال وجبل وينزل من السماء مفعول الإنزال محذوف تقديره وينزل من السماء من جبال فيها من برد بردا فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه ومن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال (6/52)
جنس البرد قال المفسرون وهي جبال في السماء مخلوقة من برد وقال الزجاج معنى الكلام وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول هذا خاتم في يدي من حديد المعنى هذا خاتم حديد في يدي
قوله تعالى فيصيب به أي البرد من يشاء فيضره في زرعه وثمره والسنا الضوء يذهب وقرأ مجاهد وأبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء يقلب الله الليل والنهار أي يأتي بهذا ويذهب بهذا إن في ذلك التقلب لعبرة لأولي الأبصار أي دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانية الله وقدرته والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير
قوله تعالى والله خلق كل دابة وقرأ حمزة والكسائي والله خالق كل دابة من ماء وفي الماء قولان
أحدهما ان الماء أصل كل دابة والثاني أنه النطفة والمراد به جميع الحيوان المشاهد في الدنيا وإنما قال فمنهم تغليبا لما يعقل وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع لأنه في رأي العين كالذي يمشي على اربع وقيل لأنه يعتمد في المشي على اربع وإنما سمي السائر على بطنه ماشيا لأن كل سائر ومستمر يقال له ماش وإن لم يكن حيوانا حتى إنه يقال قد مشى هذا الأمر هذا قول الزجاج وقال أبو عبيدة إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي لأن المشي لا يكون على البطن إنما يكون (6/53)
لمن له قوائم فإذا خلطوا ماله قوائم بما لا قوائم له جاز ذلك كما يقولون أكلت خبزا ولبنا ولا يقال أكلت لبنا
لقد انزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون
قوله تعالى ويقولون آمنا بالله قال المفسرون نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين حكومة يهودي فدعا اليهودي المنافق إلى رسول الله ص ليحكم بينهما فقال المنافق لليهودي إن محمدا يحيف علينا ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية
قوله تعالى ثم يتولى فريق منهم يعني المنافقين من بعد ذلك أي من بعد قولهم آمنا وما أولئك يعني المعرضين عن حكم الله ورسوله بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله أي إلى كتابه ورسوله ليحكم بينهم (6/54)
الرسول إذا فريق منهم معرضون ومعنى الكلام أنهم كانوا يعرضون عن حكم الرسول عليهم لعلمهم أنه يحكم بالحق وإن كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه مذعنين لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق قال الزجاج والإذعان في اللغة الإسراع مع الطاعة تقول قد أذعن لي أي قد طاوعني لما كنت ألتمسه منه
قوله تعالى أفي قلوبهم مرض أي كفر ام ارتابوا أي شكوا في القرآن وهذا استفهام ذم وتوبيخ والمعنى إنهم كذلك وإنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمهم كما قال جرير في المدح ... ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ...
أي انتم كذلك فأما الحيف فهو الميل في الحكم يقال حاف في قضيته أي جار بل اولئك هم الظالمون أي لا يظلم الله ورسوله احدا بل هم الظالمون لانفسهم بالكفر والإعراض عن حكم الرسول
ثم نعت المؤمنين فقال إنما كان قول المؤمنين قال الفراء ليس هذا بخبر ماض وإنما المعنى إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا أن يقولوا سمعنا وقرأ الحسن وأبو الجوزاء إنما كان قول المؤمنين بضم اللام وقرأ أبو جعفر وعاصم الجحدري وابن أبي ليلى ليحكم بينهم برفع الياء وفتح الكاف وقال المفسرون سمعنا والمعنى قول رسول الله ص وأطعنا أمره وإن كان ذلك فيما يكرهونه
قوله تعالى ويخش الله أي فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما بعد ان يعصيه وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن نافع ويتقهي (6/55)
موصولة بياء وروى قالون عن نافع ويتقه فأولئك بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويتقه جزما وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين
قوله تعالى وأقسموا بالله قال المفسرون لما نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله قالوا للنبي ص والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا فكيف لا نرضى حكمك فنزلت هذه الآية وقد بينا معنى جهد ايمانهم المائدة 53 لئن أمرتهم ليخرجن من أموالهم وديارهم وقيل ليخرجن إلى الجهاد قل لا تقسموا هذا تمام الكلام ثم قال طاعة معروفة قال الزجاج المعنى أمثل من قسمكم الذي لا تصدقون فيه طاعة معروفة قال ابن قتيبةك وبعض النحويين يقول الضمير فيها لتكن منكم طاعة معروفة أي صحيحة لا نفاق فيها
قوله تعالى فإن تولوا هذا خطاب لهم والمعنى فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين ومعنى التولي الإعراض عن طاعة الله ورسوله فإنما عليه يعني الرسول ما حمل من التبليغ وعليكم ما حملتم من الطاعة وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوح بآية السيف وليس بصحيح (6/56)
قوله تعالى وإن تطيعوه يعني رسول الله ص تهتدوا وكان بعض السلف يقول من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقوله وإن تطيعوه تهتدوا وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلوة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون
قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي بن كعب قال لما قدم رسول الله ص - وأصحابه المدينة وآواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة كانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا في لأمتهم فقالوا أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله عز و جل فنزلت هذه الآية قال أبو العالية لما أظهر الله عز و جل رسوله على جزيرة العرب وضعوا السلاح وامنوا ثم قبض الله نبيه فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة فأدخل الله عز و جل عليهم الخوف فغيروا فغير (6/57)
الله تعالى ما بهم وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذا الوعد وعده الله أمة محمد في التوراة والإنجيل وزعم مقاتل أن كفار مكة لما صدوا رسول الله ص والمسلمين عن العمرة عام الحديبية قال المسلمون لو أن الله تعالى فتح علينا مكة فنزلت هذه الآية
قوله تعالى ليستخلفنهم أي ليجعلنهم يخلفون من قبلهم والمعنى ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها وعلى قول مقاتل المراد بالأرض مكة
قوله تعالى كما استخلف الذين من قبلهم وقرأ أبو بكر عن عاصم كما استخلف بضم التاء وكسر اللام يعني بني اسرائيل وذلك أنه لما هلكت الجبابرة بمصر أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم
قوله تعالى وليمكنن لهم دينهم وهو الإسلام وتمكينه إظهاره على كل دين وليبدلنهم وقرأ ابن كثير وأبو بكر وأبان ويعقوب وليبدلنهم بسكون الباء وتخفيف الدال من بعد خوفهم أمنا لأنهم كانوا مظلومين مقهورين يعبدونني هذا استئناف كلام في الثناء عليهم ومن كفر بعد ذلك بهذه النهم أي جحد حقها قال المفسرون وأول من كفر بهذه النهم قتله عثمان (6/58)
لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير
قوله تعالى لا تحسبن الذين كفروا قرأ ابن عامر وحمزة عن عاصم لا يحسبن بالياء وفتح السين وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين (6/59)
يا أبها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلث عورات لكم ليس عليكم ولاعليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم
قوله تعالى ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم في سبب نزولها قولان أحدهما أن رسول الله ص وجه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها فقال يار رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والثاني أن اسماء بنت مرثد كان لها غلام فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله ص فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها فنزلت هذه الآية قاله مقاتل (6/60)
ومعنى الآية ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم وفيهم قولان أحدهما أنه أراد الذكور دون الإناث قاله ابن عمر والثاني الذكور والإناث رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن ومعنى الكلام ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم قال القاضي أبو يعلى والأظهر أن يكون المراد العبيد الصغار والإماء الصغار لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته فكيف يضاف إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين
قوله تعالى والذين لم يبلغوا الحلم وقرأ عبد الوارث الحلم باسكان اللام منكم أي من أحراركم من الرجال والنساء ثلاث مرات أي ثلاثة أوفات بينها فقال من قبل صلاة الفجر وذلك لأن الإنسان قد يبيت عريانا أو على حالة لا يحب أن يطلع عليه فيها وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة أي القائلة ومن بعد صلاة العشاء حين يأوي الرجل إلى زوجته ثلاث عورات قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم ثلاث عورات برفع الثاء من ثلاث والمعنى هذه الأوقات هي ثلاث عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فربما بدت عورته وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ثلاث عورات بنصب الثاء قال أبو علي وجعلوه بدلا من قوله ثلاث مرات والأوقات ليست عورات ولكن المعنى أنها اوقات ثلاث عورات فلما حذف المضاف أعرب باعراب المحذوف وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش عورات بفتح الواو ليس عليكم يعني المؤمنين الأحرار ولا عليهم يعني الخدم (6/61)
والغلمان جناح أي حرج بعدهن أي بعد مضي هذه الأوقات أن لا يستأذنوا فرفع الحرج عن الفريقين طوافون عليكم أي هم طوافون عليكم بعضكم على بعض أي يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار فصل
وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة وممن روي عنه ذلك ابن عباس والقاسم بن محمد وجابر بن زيد والشعبي وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا والأول أصح لأن معنى هذه الأية وإذا بلغ الأطفال منكم أو من الأحرار فليستأذنوا أي في جميع الأوقات في الدخول عليكم كما استأذن الذين من قبلهم يعني كما استأذن الأحرار الكبار الذين هم قبلهم في الوجود وهم الذين أمروا بالاستئذان على كل حال فالبالغ يستاذن في كل وقت والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث
قوله تعالى والقواعد من النساء قال ابن قتيبة يعني العجز واحدها قاعد ويقال إنما قيل لها قاعد لقعودها عن الحيض والولد وقد تقعد عن الحيض والولد ومثلها يرجو النكاح ولا أراها سميت قاعدا إلا بالقعود لأنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة وأطالت القعود فقيل لها قاعد بلا هاء ليدل حذف الهاء على أنه قعود كبر كما قالوا امرأة حامل ليدلوا بحذف الهاء على أنه حمل حبل وقالوا في غير ذلك قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها
قوله تعالى أن يضعن ثيابهن أي عند الرجال ويعني بالثياب (6/62)
الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب غير متبرجات بزينة أي من غير أن يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن والتبرج إظهار المرأة محاسنها وأن يستعففن فلا يضعن تلك الثياب خير لهن قال ابن قتيبة والعرب تقول امرأة واضع إذا كبرت فوضعت الخمار ولا يكون هذا إلا في الهرمة قال القاضي أبو يعلى وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تاكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعماكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون قوله تعالى ليس على الأعمى حرج في سبب نزولها خمسة أقوال أحدها أنه لما نزل قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل النساء 29 تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل (6/63)
والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والمريض لا يستوفي الطعام فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن ناسا كانوا إذا خرجوا مع رسول الله ص وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا فكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن المسيب
والثالث أن العرجان والعميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرونهم فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير والضحاك
والرابع أن قوما من أصحاب رسول الله ص كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمون المريض والزمن ذهبوا به إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمى الله عز و جل في هذه الآية فكان أهل الزمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والخامس أنها نزلت في إسقاط الجهاد عن أهل الزمانة المذكورين في الآية قاله الحسن وابن يزيد (6/64)
فعلى القول الأول يكون معنى الآية ليس عليكم في الاعمى حرج أن تأكلوا معه ولا في الأعرج وتكون على بمعنى في ذكره ابن جرير وكذلك يخرج معنى الآية على كل قول بما يليق به وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام ولا على المريض حرج وأن ما بعده مستأنف لا تعلق له به وهو يقوي قول الحسن وابن زيد
قوله تعالى أن تأكلوا من بيوتكم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنها بيوت الأولاد
والثاني البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله ونسبا اليهم لأنهم سكانها
والثالث أنها بيوتهم والمراد أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم لأن بيت المرأة كبيت الرجل
وإنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين لجريان العادة ببذل طعامهم له فإن كان الطعام وراء حرز لم يجز هتك الحرز
قوله تعالى أو ما ملكتم مفاتحه فيه ثلاثة اقوال
أحدها أنه الوكيل لا بأس أن يأكل اليسير وهو معنى قول ابن عباس وقرأها سعيد بن جبير وأبو العالية ملكتم بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسم فاعله وفسرها سعيد فقال يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح وقرأ أنس بن مالك وقتادة وابن يعمر مفتاحه بكسر الميم على التوحيد
والثاني بيت الإنسان الذي يملكه وهو معنى قول قتادة
والثالث بيوت العبيد قاله الضحاك (6/65)
قوله تعالى أو صديقكم قال ابن عباس نزلت هذه في الحارث بن عمرو خرج مع رسول الله ص غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فنزلت هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصديق بغير استئذان جائزا
قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال أحدها أن حيا من بني كنانة يقال لهم بنو ليث كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح فنزلت هذه الآية قاله قتادة والضحاك
والثاني أن قوما من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فنزلت هذه الآية ورخص لهم أن ياكلوا جميعا أو أشتاتا قاله عكرمة
والثالث أن المسلمين كانوا يتحرجون من مؤاكلة اهل الضر خوفا من أن يستأثروا عليهم ومن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في مأكلهم وزيادة بعضهم على بعض فوسع عليهم وقيل ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أي مجتمعين أو أشتاتا أي متفرقين قاله ابن قتيبة
قوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فيها ثلاثة أقوال (6/66)
أحدها أنها بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم قال جابر بن عبد الله وطاووس وقتادة والثاني أنها المساجد فسلموا على من فيها قاله ابن عباس والثالث بيوت الغير فالمعنى إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم قاله الحسن
قوله تعالى تحية قال الزجاج هي منصوبة على المصدر لأن قوله فسلموا بمعنى فحيوا وليحي بعضكم بعضا تحية من عند الله قال مقاتل مباركة بالاجر طيبة أي حسنة إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم قوله تعالى وإذا كانوا معه يعني مع رسول الله ص على أمر جامع أي على أمر طاعة يجتمعون عليها نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك لم يذهبوا حتى يستاذنوه قال المفسرون كان رسول الله ص إذا صعد المنبر (6/67)
يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله ص حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم فالأمر إليه في ذلك قال مجاهد وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده
قوله تعالى واستغر لهم الله أي لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو اذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم
قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه نهي عن التعرض لإسخاط رسول الله ص فإنه إذا دعا على شخص فدعوته موجبة قاله ابن عباس
والثاني أنهم أمروا أن يقولوا يا رسول الله ونهوا أن يقولوا يا محمد قاله سعيد بن خبير وعلقمة والأسود وعكرمة ومجاهد
والثالث أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم حكاه الماوردي وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو المتوكل ومعاذ القارىء دعاء الرسول نبيكم بياء مشددة ونون قبل الباء
قوله تعالى قد يعلم الله الذين يتسللون التسلل الخروج في خفية (6/68)
واللواذ أن يستتر بشيء مخافة من يراه والمراد بقوله قد يعلم التهديد بالمجازاة قال الفراء كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله ص ويعيبهم بالآيات التي أنزلت فيهم فإن خفي لأحدهم القيام قام فذلك قوله قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا اي يلوذ هذا بهذا أي يستتر ذا بذا وإنما قال لواذا لأنها مصدر لاوذت ولو كان مصدرا ل لذت لقلت لذت لياذا كما تقول قمت قياما وكذلك قال ثعلب وقع البناء على لاوذ ملاوذة ولو بني على لاذ يلوذ لقيل لياذا وقيل هذا كان في حفر الخندق كان المنافقون ينصرفون عن غير امر رسول الله ص مختفين
قوله تعالى فليحذر الذي يخالفون عن أمره في هاء الكناية قولان
احدهما أنها ترجع إلى الله عز و جل قال مجاهد
والثاني إلى رسول الله ص قال قتادة
وفي عن قولان أحدهما انها زائدة قال الاخفش والثاني أن معنى يخالفون يعرضون عن أمره وفي الفتنة هاهنا ثلاثة أقوال أحدها الضلالة قاله ابن عباس والثاني بلاء في الدنيا قاله مجاهد والثالثك كفر قاله السدي ومقاتل (6/69)
قوله تعالى أو يصيبهم عذاب اليم فيه قولان
أحدهما القتل في الدنيا والثاني عذاب جهنم في الآخرة
قوله تعالى قد يعلم ما أنتم عليه أي ما في أنفسكم وما تنطوي عليه ضمائركم من الإيمان والنفاق وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك (6/70)
سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا
قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة في آخرين هي مكية وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي قوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله غفورا رحيما الفرقان
قوله تعالى تبارك قد شرحناه في الأعراف والفرقان القرآن سمي فرقانا لأنه فرق به بين الحق والباطل
والمراد بعبده محمد صلى الله عليه و سلم ليكون فيه قولان (6/71)
أحدهما أنه كناية عن عبده قاله الجمهور والثاني عن القرآن حكاه الماوردي
قوله تعالى للعالمين يعني الجن والإنس نذيرا أي مخوفا من عذاب الله
قوله تعالى فقدره تقديرا فيه ثلاثة أقوال
أحدها سواه وهيأه لما يصلح له فلا خلل فيه ولا تفاوت والثاني قدر له ما يصلحه ويقيمه والثالث قدر له تقديرا من الأجل والرزق
ثم ذكر ما صنعه المشركون فقال واتخذوا من دونه آلهة يعني الأصنام لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أي وهي مخلوقة ولا يملكون لأنفسهم ضرا أي دفع ضر ولا جر نفع لأنها جماد لا قدرة لها ولا يملكونها موتا أي لا تملك ان تميت أحدا ولا أن تحيي أحدا ولا أن تبعث احدا من الأموات والمعنى كيف يعبدون ما هذه صفته ويتركون عبادة من يقدر على ذلك كله وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا اساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما
قوله تعالى وقال الذين كفروا يعني مشركي قريش وقال مقاتل هو قول النضر بن الحارث من بني عبد الدار إن هذا أي ما هذا يعنون القرآن إلا إفك أي كذب افتراه أي اختلفه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون قال مجاهد يعنون اليهود وقال مقاتل أشاروا إلى عداس (6/72)
مولى حويطب ويسار غلام عامر بن الحضرمي وجبر مولى لعامر أيضا وكان الثلاثة من أهل الكتاب
قوله تعالى فقد جاؤوا ظلما وزورا قال الزجاج المعنى فقد جاؤوا بظلم وزور فلما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب والزور الكذب وقالوا أساطير الأولين المعنى وقالوا الذي جاء به أساطير الأولين وقد بينا ذلك في الأنعام قال المفسرون والذي قال هذا هو النضر بن الحارث ومعنى اكتتبها أمر أن تكبت له وقرأ أبن مسعود وإبراهيم النخعي وطلحة بن مصرف اكتتبها برفع التاء الأولى وكسر الثانية والابتداء على قراءتهم برفع الهمزة فهي تملي عليه أي تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها لأنه لم يكن كاتبا بكرة وأصيلا أي غدوة وعشيا قل لهم يا محمد أنزله يعني القرآن الذي يعلم السر أي لا يخفي عليه شئ في السماوات والأرض وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز او تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
قوله تعالى وقالوا يعني المشركين ما لهذا الرسول يأكل الطعام أنكروا أن يكون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الطرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة والمعنى انه ليس بملك ولا ملك لأن الملائكة لا تأكل والملوك لا تتبذل في الأسواق فعجبوا أن يكون مساويا للبشر لا يتميز عليهم (6/73)
بشئ وإنما جعله الله بشرا ليكون مجانسا للذين أرسل إليهم ولم يجعله ملكا يمتنع من المشي في الأسواق لأن ذلك من فعل الجبابرة ولأنه أمر بدعائهم فاحتاج أن يمشي بينهم
قوله تعالى لولا أنزل إليه ملك وذلك أنهم قالوا له سل ربك أن يبعث ملكا يصدقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا فذلك قوله أو يلقى إليه كنز أي ينزل إليه من السماء أو تكون له جنة يأكل منها أي بستان يأكل من ثماره قرا ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم وابن عامر ياكل منها بالياء يعنون النبي صلى الله عليه و سلم وقرا حمزة والكسائي نأكل بالنون قال أبو علي المعنى يكون له علينا مزية في الفضل بأكلنا من جنته وباقي الآية مفسر في بني إسرائيل
قوله تعالى انظر يا محمد كيف ضربوا لك الأمثال حين مثلوك بالمسحور وبالكاهن والمجنو والشاعر فضلوا بهذا عن الهدى فلا يستطيعون سبيلا فيه قولان
أحدهما لا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها قاله مجاهد والمعنى أنهم كذبوا ولم يجدوا على قولهم حجة وبرهانا وقال الفراء لا يستطيعون في أمرك حيلة
والثاني سبيلا إلى الطاعة قاله السدي تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا (6/74)
مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا
ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرا مما قالوا في الدنيا وهو قوله خيرا من ذلك يعني لو شئت لأعطيتك في الدنيا خيرا مما قالوا لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة ويجعل لك قصورا قرا ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويجعل لك قصورا برفع اللام وقرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويجعل بجزم اللام فمن قرأ بالجزم كان المعنى إن يشأ يجعل لك جنات ويجعل لك قصورا ومن رفع فعلى الاستثناء المعنى ويجعل لك قصورا في الآخرة وقد سبق معنى أعتدنا النساء ومعنى السعير النساء
قوله تعالى إذ رأتهم من مكان بعيد قال السدي عن أشياخه من مسيرة مائة عام
فان قيل السعير مذكر فكيف قال إذا رأتهم
فالجواب أنه أراد بالسعير النار
قوله تعالى سمعوا لها تغيظا فيه قولان
أحدهما غليان تغيظ قاله الزجاج قال المفسرون والمعنى أنها تتغيظ عليهم فيسمعون صوت تغيظها وزفيرها كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ
والثاني يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم حكاه ابن قتيبة
قوله تعالى وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا قال المفسرون تضيق عليهم كما يضيق الزج على الرمح وهم قد قرنوا مع الشياطين والثبور الهلكة وقرأ عاصم الجحدري وابن السميفع ثبورا بفتح الثاء (6/75)
قوله تعالى وادعوا ثبورا كثيرا قال الزجاج الثبور مصدر فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد كما تقول ضربته ضربا كثيرا والمعنى هلاكهم أكثر من أن يدعوا مرة واحدة وروى انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول من يكسى من اهل النار يوم القيامة إبليس يكسى حلة من النار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته خلفه وهو يقول واثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم فيقول الله عز و جل لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا
قوله تعالى قل أذلك يعني السعير خير ام جنة الخلد وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين لا على أن في السعير خير وقال الزجاج قد وقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان فلذلك وقع التفضيل بينهما (6/76)
قوله تعالى كانت لهم جزاء أي ثوابا ومصيرا أي مرجعا
قوله تعالى كان على ربك المشار إليه إما الدخول وإما الخلود وعدا وعدهم الله إياه على ألسنة الرسل
وفي معنى مسؤولا قولان
أحدهما مطلوبا وفي الطالب له قولان أحدهما أنهم المؤمنون سألوا الله في الدنيا إنجاز ما وعدهم به والثاني أن الملائكة سألته ذلك لهم وهو قوله ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم غافر
والثاني أن معنى المسؤول الواجب ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا ان نتخذ من دونك من اولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا
قوله تعالى ويوم يحشرهم قرا ابن كثير وحفص عن عاصم يحشرهم فيقول بالياء فيهما وقرأ نافع وابو عمرو وحمزة والكسائي (6/77)
وأبو بكر عن عاصم نحشرهم بالنون فيقول بالياء وقرأ ابن عامر نحشرهم فنقول بالنون فيهما جميعا يعني المشركين وما يعبدون قال مجاهد يعني عيسى وعزيرا والملائكة وقال عكرمة والضحاك يعني الأصنام فيأذن الله للأصنام في الكلام ويخاطبها فيقول أأنتم أضللتم عبادي أي أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أي أخطأوا الطريق قالوا يعني الأصنام سبحانك نزهوا الله تعالى أن يعبد غيره ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم والمعنى ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك فكيف ندعو إلى عبادتنا فدل هذا الجواب على انهم لم يأمروا بعبادتهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن جبير والحسن وقتادة وأبو جعفر وابن يعمر وعاصم الجحدري أن نتخذ برفع النون وفتح الخاء ثم ذكروا سبب تركهم الإيمان فقالوا ولكن متعتهم أي أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق حتى نسوا الذكر أي تركوا الإيمان بالقرآن والاتعاظ به وكانوا قوما بورا قال ابن عباس هلكي وقال في رواية أخرى البور في لغة أزد عمان الفاسد قال ابن قتيبة هو من بار يبور إذا هلك وبطل يقال بار الطعام إذا كسد وبارت الايم إذا لم يرغب فيها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعوذ من بوار الأيم قال وقال أبو عبيدة يقال رجل بور وقوم بور لا يجمع ولا يثنى واحتج بقول الشاعر (6/78)
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذا أنابور ...
وقد سمعنا ب رجل بائر ورأيناهم ربما جمعوا فاعلا على فعل نحو عائذ وعوذ وشارف وشرف قال المفسرون فيقال للكفار حينئذ فقد كذبوكم أي فقد كذبكم المعبودون في قولكم إنهم آلهة وقرأ سعيد ابن جبير ومجاهد ومعاذ القارئ وابن شنبوذ عن قنبل بما يقولون بالياء والمعنى كذبوكم بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا الآية هذا قول الأكثرين وقال ابن زيد الخطاب للمؤمنين فالمعنى فقد كذبكم المشركون بما تقولون إن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى فما يستطعيون صرفا ولا نصرا قرأ الأكثرون بالياء وفيه وجهان
أحدهما فما يستطيع المعبودون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا لكم
والثاني فما يستطيع الكفار صرفا لعذاب الله عنهم ولا نصرا لأنفسهم وقرأ حفص عن عاصم تستطيعون بالتاء والخطاب للكفار وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال الصرف الحيلة من قولهم إنه ليتصرف
قوله تعالى ومن يظلم منكم أي بالشرك نذقه في الآخرة وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وأبو الجوزاء وقتادة يذقه بالياء عذابا كبيرا أي شديدا وما ارسلنا قبلك من المرسلين قال الزجاج في الآية محذوف (6/79)
تقديره وما أرسلنا قبلك رسلا من المرسلين فحذفت رسلا لان قوله من المرسلين يدل عليها
قوله تعالى إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي إنهم كانوا على مثل حالك فكيف تكون بدعا منهم
فان قيل لم كسرت إنهم هاهنا وفتحت في براءة في قوله أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم فقد بينا هنالك علة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين
أحدهما أن تكون فيها واو حال مضمرة فكسرت بعدها إن للاستئناف فيكون التقدير إلا وإنهم ليأكلون الطعام فأضمرت الواو هاهنا كما أضمرت في قوله أو هم قائلون الأعراف والتأويل أو وهم قائلون
والثاني أن تكون كسرت لإضمار من قبلها فيكون التقدير وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا من إنهم ليأكلون قال الشاعر ... فظلوا ومنهم دمعة سابق له وآخر يثني دمعة العين بالمهل ...
أراد من دمعه
قوله تعالى وجعلنا بعضكم لبعض فتنة الفتنة الابتلاء والاختبار
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أنه افتتان الفقير بالغني يقول لو شاء لجعلني غنيا والأعمى بالبصير والسقيم بالصحيح قاله الحسن (6/80)
والثاني ابتلاء الشريف بالوضيع والعربي بالمولى فاذا أراد الشريف أن يسلم فرأى الوضيع قد سبقه بالإسلام أنف فأقام على كفره قاله ابن السائب
والثالث أن المستهزئين من قريش كانوا إذا رأوا فقراء المؤمنين قالوا انظروا إلى أتباع محمد من موالينا ورذالتنا قاله مقاتل
فعلى الأول يكون الخطاب بقوله أتصبرون لأهل البلاء وعلى الثاني للرؤساء فيكون المعنى أتصبرون على سبق الموالي والأتباع وعلى الثالث للفقراء فالمعنى أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم والمعنى قد علمتم ما وعد الصابرون وكان ربك بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في انفسهم وعتو عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
قوله تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يخافون البعث لولا أي هلا انزل علينا الملائكة فكانوا رسلا إلينا وأخبرونا بصدقك (6/81)
أو نرى ربنا فيخبرنا أنك رسوله لقد استكبروا في أنفسهم أي تكبروا حين سألوا هذه الآيات وعتوا عتوا كبيرا قال الزجاج العتو في اللغة مجاوزة القدر في الظلم
قوله تعالى يوم يرون الملائكة فيه قولان
أحدهما عند الموت والثاني يوم القيامة
قال الزجاج وانتصب اليوم على معنى لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة ويومئذ مؤكد ل يوم يرون الملائكة والمعنى أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون يوم منصوبا على معنى اذكر يوم يرون الملائكة ثم أخبر فقال لا بشرى والمجرمون هاهنا الكفار
قوله تعالى ويقولون حجرا محجورا وقرأ قتادة والضحاك ومعاذ القارئ حجرا بضم الحاء قال الزجاج وأصل الحجر في اللغة ما حجرت عليه أي منعت من ان يوصل إليه ومنه حجر القضاة على الأيتام
وفي القائلين لهذا قولان
أحدهما أنهم الملائكة يقولون للكفار حجرا محجورا أي حراما محرما وفيما حرموه عليهم قولان أحدهما البشرى فالمعنى حرام محرم ان تكون لكم البشرى قاله الضحاك والفراء وابن قتيبة والزجاج والثاني أن تدخلوا الجنة قاله مجاهد
والثاني أنه قول المشركين إذا عاينوا العذاب ومعناه الاستعاذة من الملائكة روي عن مجاهد أيضا وقال ابن فارس كان الرجل إذا لقي من يخافه في الشهر الحرام قال حجرا أي حرام عليك أذاي فاذا رأى (6/82)
المشركون الملائكة يوم القيامة قالوا حجرا محجورا يظنون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا
قوله تعالى وقدمنا قال ابن قتيبة أي قصدنا وعمدنا والأصل أن من اراد القدوم إلى موضع عمد له وقصده
قوله تعالى إلى ما عملوا من عمل أي من أعمال الخير فجعلناه هباء لأن العمل لا يتقبل مع الشرك
وفي الهباء خمسة أقوال
أحدها أنه ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل من الكوة مثل الغبار قاله علي عليه السلام والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة واللغويون والمعنى ان الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء
والثاني أنه الماء المهراق رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس
والرابع أنه الشرر الذي يطير من النار إذا أضرمت فاذا وقع لم يكن شيئا رواه عطية عن ابن عباس
والخامس أنه ما يسطع من حوافر الدواب قاله مقاتل والمنثور المتفرق
قوله تعالى اصحاب الجنة يومئذ أي يوم القيامة خير مستقر (6/83)
أفضل منزلا من المشركين وأحسن مقيلا قال الزجاج المقيل المقام وقت القائلة وهو النوم نصف النهار وقال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم وقال ابن مسعود وابن عباس لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقبل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا
قوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا هذا معطوف على قوله يوم يرون الملائكة وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تشقق بالتشديد فأدغموا التاء في الشين لأن الأصل تتشقق قال الفراء المعنى تتشقق السماء عن الغمام وتنزل فيه الملائكة وعلى وعن والباء في هذا الموضع بمعنى واحد لان العرب تقول رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس والمعنى واحد وقال أبو علي الفارسي المعنى تتشقق السماء وعليها غمام كما تقول ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه وإنما تتشقق السماء لنزول الملائكة قال ابن عباس تتشقق السماء عن الغمام وهو الغيم الأبيض وتنزل الملائكة في الغمام وقال مقاتل المراد بالسماء السماوات تتشقق عن الغمام وهو غمام أبيض كهيئة الضباب فتنزل الملائكة عند انشقاقها وقرأ ابن كثير وننزل بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة (6/84)
واللام مضمومة والملائكة نصبا وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني ونزل بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب الملائكة وقرأ ابن يعمر ونزل بفتح النون واللام والزاي والتخفيف الملائكة بالرفع
قوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن قال الزجاج المعنى الملك الذي هو الملك حقا للرحمن فأما العسير فهو العصب الشديد يشتد على الكفار ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة
قوله تعالى ويوم يعض الظالم على يديه في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن ابي بن خلف كان يحضر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجالسه من غير أن يؤمن به فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك فنزلت هذه الآية رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس
والثاني أن عقبة دعا قوما فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم لطعام فأكلوا وأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأكل وقال لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فشهد بذلك عقبة فبلغ ذلك أبي بن خلف وكان خليلا له فقال صبوت يا عقبة فقال لا والله ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك وليس من نفسي فنزلت هذه الآية قاله مجاهد (6/85)
والثالث أن عقبة كان خليلا لأمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر وارتد لرضى أمية فنزلت هذه الآية قاله الشعبي
فأما الظالم المذكور هاهنا فهو الكافر وفيه قولان
أحدهما أنه أبي بن خلف رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني عقبة بن أبي معيط قاله مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة قال عطاء يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين ثم تنبتان فلا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل
قوله تعالى يا ليتني اتخذت الأكثرون يسكنون يا ليتني وأبو عمرو يحركها قال أبو علي والأصل التحريك لانها بازاء الكاف التي للخطاب إلا أن حرف اللين تكره فيه الحركة ولذلك أسكن من اسكن والمعنى ليتني اتبعته فاتخذت معه طريقا إلى الهدى
قوله تعالى ليتني لم أتخذ فلانا في المشار إليه أربعة أقوال
أحدها أنه عنى أبي بن خلف قاله ابن عباس والثاني عقبة بن أبي معيط قاله أبو مالك والثالث الشيطان قاله مجاهد والرابع امية ابن خلف قاله السدي
فان قيل إنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إلى المداجاة فما وجه الكناية
فالجواب أنه أراد بالظالم كل ظالم واراد بفلان كل من أطيع في معصية وأرضي بسخط الله وإن كانت الآية نزلت في شخص قاله ابن قتيبة (6/86)
قوله تعالى لقد أضلني عن الذكر أي صرفني عن القرآن والإيمان به بعد إذ جاءني مع الرسول وهاهنا تم الكلام ثم قال الله تعالى وكان الشيطان للانسان يعني الكافر خذولا يتبرأ منه في الآخرة وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا
قوله تعالى وقال الرسول يعني محمدا صلى الله عليه و سلم وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة فالمعنى ويقول الرسول يومئذ وذهب آخرون منهم مقاتل إلى أن الرسول قال ذلك شاكيا من قومه إلى الله تعالى حين كذبوه وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو إن قومي اتخذوا بتحريك الياء وأسكنها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي
وفي المراد بقوله مهجورا قولان
أحدهما متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به وهذا معنى قول ابن عباس ومقاتل (6/87)
والثاني هجروا فيه أي جعلوه كالهذيان ومنه يقال فلان يهجر في منامه أي يهذي قاله ابن قتيبة وقال الزجاج الهجر ما لا ينتفع به من القول قال المفسرون فعزاه الله عز و جل فقال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه والمعنى لا يكبرن هذا عليك فلك بالأنبياء أسوة وكفى بربك هاديا ونصيرا يمنعك من عدوك قال الزجاج والباء في قوله بربك زائدة فالمعنى كفى ربك هاديا ونصيرا
وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا
قوله تعالى لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة أي كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور فقال الله عز و جل كذلك أي أنزلناه كذلك متفرقا لأن معنى ما قالوا لم نزل عليه متفرقا فقيل إنما أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك أي لنقوي به قلبك فتزداد بصيرة وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه ورتلناه ترتيلا أي أنزلناه على الترتيل وهو التمكث الذي يضاد العجلة
قوله تعالى ولا يأتونك يعني المشركين بمثل يضربونه لك في مخاصمتك وإبطال أمرك إلا جئناك بالحق أي بالذي هو الحق لترد به كيدهم وأحسن تفسيرا من مثلهم والتفسير البيان والكشف
قال مقاتل ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة فقال الذين يحشرون على (6/88)
وجوههم وذلك أن كفار مكة قالوا إن محمدا وأصحابه شر خلق الله فنزلت هذه الآية
قوله تعالى أولئك شر مكانا أي منزلا ومصيرا وأضل سبيلا دينا وطريقا من المؤمنين ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا
قوله تعالى اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا
إن قيل إنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات
فالجواب أنهم كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه المتقدمة ومن كذب نبيا فقد كذب سائر الأنبياء ولهذا قال وقوم نوح لما كذبوا الرسل وقال الزجاج يجوز ان يكون المراد به نوح وحده وقد ذكر بلفظ الجنس كما يقال فلان يركب الدواب وإن لم يركب إلا دابة واحدة وقد شرحنا هذا في هود عند قوله وعصوا رسله وقد سبق معنى التدمير الاعراف
قوله تعالى وأصحاب الرس في الرس ثلاثة أقوال
أحدها أنها بئر كانت تسمى الرس قاله ابن عباس في رواية العوفي (6/89)
وقال في رواية عكرمة هي بئر بأذربيجان وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة وقال السدي بئر بأنطاكية
والثاني أن الرس قرية من قرى اليمامة قاله قتادة
والثالث أنها المعدن قاله ابو عبيدة وابن قتيبة
وفي تسميتها بالرس قولان
أحدهما أنهم رسوا نبيهم في البئر قاله عكرمة قال الزجاج رسوه أي دسوه فيها
والثاني أن كل ركية لم تطو فهي رس قاله ابن قتيبة
واختلفوا في أصحاب الرس على خمسة أقوال
أحدها أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب فحفروا له بئرا وألقوه فيها فهلكوا قاله علي عليه السلام
والثاني أنهم قوم كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوا نبيهم فأهلكهم الله قاله سعيد بن جبير
والثالث أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها وكانت لهم مواش وكانوا يعبدون الاصنام فبعث الله إليهم شعيبا فتمادوا في طفيانهم فانهارت البئر فخسف بهم وبمنازلهم قاله وهب بن منبه
والرابع أنهم الذين قتلوا حبيبا النجار قتلوه في بئر لهم وهو الذي قال يا قوم اتبعوا المرسلين يس قاله السدي
والخامس أنهم قوم قتلوا نبيهم وأكلوه وأول من عمل السحر نساؤهم قاله ابن السائب (6/90)
قوله تعالى وقرونا المعنى وأهلكنا قرونا بين ذلك كثيرا أي بين عاد وأصحاب الرس وقد سبق بيان القرن الانعام وفي هذه القصص تهديد لقريش
قوله تعالى وكلا ضربنا له الأمثال أي أعذرنا إليه بالموعظة وإقامة الحجة وكلا تبرنا قال الزجاج التتبير والتدمير وكل شئ كسرته وفتته فقد تبرته وكسارته التبر ومن هذا قيل لمكسور الزجاج التبر وكذلك تبر الذهب ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم اضل سبيلا
قوله تعالى ولقد أتوا يعني كفار مكة على القرية التي أمطرت مطر السوء يعني قرية قوم لوط التي رميت بالحجارة افلم يكونوا يرونها في أسفارهم فيعتبروا ثم أخبر بالذي جرأهم على التكذيب فقال بل كانوا لا يرجون نشورا أي لا يخافون بعثا هذا قول المفسرين وقال الزجاج الذي عليه اهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف وإنما المعنى بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير فركبوا المعاصي (6/91)
قوله تعالى وإذا راوك إن يتخذونك أي ما يتخذونك إلا هزوا أي مهزوءا به ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا أي ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي على عبادتها قال الله تعالى وسوف يعلمون حين يرون العذاب في الآخرة من أضل أي من أخطأ طريقا عن الهدى اهم أم المؤمنون
ثم عجب نبيه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى فقال أرأيت من اتخذ إلهه هواه قال ابن عباس كان أحدهم يعبد الحجر فاذا رأى ماهو أحسن منه رمى به وعبد الآخر وقال قتادة هو الكافر لا يهوى شيئا إلا ركبه وقال ابن قتيبة المعنى يتبع هواه ويدع الحق فهو له كالإله
قوله أفأنت تكون عليه وكيلا أي حفيظا يحفظه من اتباع هواه وزعم الكلبي ان هذه الآية منسوخة بآية القتال
قوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون يعني أهل مكة والمراد يسمعون سماع طالب الإفهام او يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام إن هم إلا كالأنعام وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان
أحدهما أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول
والثاني أنه ليس لها هم إلا المأكل والمشرب
قوله تعالى بل هم أضل سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتقبل على المحسن إليها وهم على خلاف ذلك ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (6/92)
وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا
قوله تعالى الم تر إلى ربك أي إلى فعل ربك وقال الزجاج معناه الم تر فهو من رؤية القلب ويجوز أن يكون من رؤية العين فالمعنى ألم تر إلى الظل كيف مده ربك والظل من وقت طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ولو شاء لجعله ساكنا أي ثابتا دائما لا يزول ثم جعلنا الشمس عليه دليلا فالشمس دليل على الظل فلولا الشمس ما عرف أنه شئ كما أنه لولا النور ما عرفت الظلمة فكل الاشياء تعرف بأضدادها
قوله تعالى ثم قبضناه إلينا يعني الظل قبضا يسيرا وفيه قولان
أحدهما سريعا قاله ابن عباس والثاني خفيا قاله مجاهد
وفي وقت قبض الظل قولان أحدهما عند طلوع الشمس يقبض الظل وتجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا والثاني عند غروب الشمس تقبض أجزاء الظل بعد غروبها ويخلف كل جزء منه جزءا من الظلام
قوله تعالى وهو الذي جعل لكم الليل لباسا أي ساترا بظلمته لأن ظلمته تغشى الاشخاص وتشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه والنوم (6/93)
سباتا قال ابن قتيبة أي راحة ومنه يوم السبت لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة وكان الفراغ منه في يوم السبت فقيل لبني إسرائيل استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئا فسمي يوم السبت أي يوم الراحة وأصل السبت التمدد ومن تمدد استراح وقال ابن الأنباري أصل السبت القطع فالمعنى وجعلنا النوم قطعا لأعمالكم
قوله تعالى وجعل النهار نشورا فيه قولان أحدهما تنتشرون فيه لابتغاء الرزق قاله ابن عباس والثاني تنشر الروح باليقظة كما تنشر بالبعث حكاه الماوردي
قوله تعالى وهو الذي أرسل الرياح قد شرحناه في الأعراف إلى قوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا يعني المطر قال الأزهري الطهور في اللغة الطاهر المطهر والطهور ما يتطهر به كالوضوء الذي يتوضأ به والفطور الذي يفطر عليه
قوله تعالى لنحيي به بلدة ميتا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو جعفر ميتا بالتشديد قال الزجاج لفظ البلدة مؤنث وإنما قيل ميتا لان معنى البلدة والبلد سواء وقال غيره إنما قال ميتا لأنه أراد بالبلدة المكان وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت الأعراف ومعنى ونسقيه الحجر وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء والضحاك والأعمش وابن أبي عبلة ونسقيه بفتح النون فاما الأناسي فقال الزجاج هو جمع إنسي مثل كرسي وكراسي ويجوز أن يكون جمع إنسان وتكون الباء بدلا من النون الأصل أناسين مثل سراحين وقرأ أبو مجلز (6/94)
والضحاك وأبو العالية وعاصم الجحدري وأناسي بتخفيف الياء
قوله تعالى ولقد صرفناه يعني المطر بينهم مرة لهذه البلدة ومرة لهذه ليذكروا أي ليتفكروا في نعم الله عليهم فيحمدوه وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا خفيفة الذال قال أبو علي يذكر في معنى يتذكر فأبى أكثر الناس إلا كفورا وهم الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا كفروا بنعمة الله ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا المعنى إنا بعثناك إلى جميع القرى لعظم كرامتك فلا تطع الكافرين وذلك أن كفار مكة دعوه إلى دين آبائهم وجاهدهم به أي بالقرآن جهادا كبيرا أي تاما شديدا وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا
قوله تعالى وهو الذي مرج البحرين قال الزجاج أي خلى بينهما تقول مرجت الدابة وأمرجتها إذا خليتها ترعى ومنه الحديث مرجت (6/95)
عهودهم واماناتهم أي اختلطت قال المفسرون والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما فما يلتقيان ولا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح وهو قوله هذا يعني أحد البحرين عذب أي طيب يقال عذب الماء يعذب عذوبة فهو عذب قال الزجاج والفرات صفة للعذب وهو أشد الماء عذوبة والأجاج صفةللملح وهو المر الشديد المرارة وقال ابن قتيبة هو أشد الماء ملوحة وقيل هو الذي يخالطه مرارة ويقال ماء ملح ولا يقال مالح والبرزخ الحاجز وفي هذا الحاجز وقولان
أحدهما أنه مانع من قدرة الله تعالى قاله الأكثرون قال الزجاج فهما في مرأى العين مختلطان وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر قال أبو سليمان الدمشقي ورأيت عند عبدان من سواد البصرة الماء العذب ينحدر في دجلة نحو البحر ويأتي المد من البحر فيلتقيان فلا يختلط أحد الماءين بالآخر يرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة وماء دجلة إلى الحمرة الخفيفة فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبا لا يخالطه شيء وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد
والثاني أن الحاجز الأرض واليبس وهو قول الحسن والأول أصح
قوله تعالى وحجرا محجورا قال الفراء أي حراما محرما أن يغلب أحدهما صاحبه (6/96)
قوله تعالى وهوالذي خلق من الماء بشرا أي من النطفة بشرا أي إنسانا فجعله نسبا وصهرا أي ذا نسب وصهر قال علي عليه السلام النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه وقال الضحاك النسب سبع وهو قوله حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وبنات الأخت والصهر خمس وهو قوله وأمهاتكم الاتي أرضعنكم إلى قوله من أصلابكم وقال طاووس الرضاعة من الصهر وقال ابن قتيبة نسبا اي قرابة النسب وصهرا أي قرابة النكاح وكل شيء من قبل الزوج مثل الأب والأخ فهم الأحماء واحدهم حما مثل قفا وحمو مثل أبو وحممء مهموز ساكن الميم وحم مثل أب وحماة المرأة أم زوجها لا لغة فيها غير هذه وكل شيء من قبل المرأة فهم الأختان والصهر يجمع ذلك كله وحكى ابن فارس عن الخليل أنه قال لا يقال لأهل بيت الرجل إلا أختان ولأهل بيت المرأة إلا أصهار ومن العربمن يجعلهم أصهارا كلهم والصهر إذابة الشيء وذكر الماوردي أن المناكح سميت صهرا لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إذا صهر
قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا فيه أربعة أقوال
أحدها معينا للشيطان على ربه لأن عبادته للأصنام معاونة للشيطان
والثاني معينا للمشركين على أن لا يوحدوا الله تعالى
والثالث معينا على أولياء ربه
والرابع وكان الكافر على ربه هينا ذليلا من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه قالوا والمراد بالكافر هاهنا أبو جهل (6/97)
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا
قوله تعالى ماأسألكم عليه أي على القرآن وتبليغ الوحي من أجر وهذا توكيد لصدقه لأنه لو سألهم شيئا من أموالهم لا تهموه إلا من شاء معناه لكن من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا بانفاق ماله في مرضاته فعل ذلك فكأنه قال لا أسألكم لنفسي وقد سبق تفسير الكلمات التي تلي هذه آل عمران البقرة الأعراف إلى قوله فاسأل به خبيرا وبه بمعنى عنه قال علقمة بن عبدة ... فان تسألوني بالنساء فانني بصير بأدواء النساء طبيب ...
وفي هاء به ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الله عز و جل والثاني إلى اسمه الرحمن لأنهم قالوا لا نعرف الرحمن والثالث إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض وغير ذلك
وفي الخبير أربعة أقوال
أحدها أنه جبريل قاله ابن عباس والثاني أنه الله عز و جل والمعنى (6/98)
سلني فأنا الخبير قاله مجاهد والثالث أنه القرآن قاله شمر والرابع مسلمة أهل الكتاب قاله ابو سليمان وهذا يخرج على قولهم لا نعرف الرحمن فقيل سلوا مسلمة أهل الكتاب فان الله تعالى خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن فعلى هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد سواه
قوله تعالى وإذا قيل لهم يعني كفار مكة اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن قال المفسرون إنهم قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى أنسجد لما تأمرنا وقرأ حمزة والكسائي يأمرنا بالياء أي لما يأمرنا به محمد وهذا استفهام إنكار ومعناه لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له وزادهم ذكر الرحمن نفورا أي تباعدا من الإيمان تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر او أراد شكورا
قوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا قد شرحناه في الحجر والمراد بالسراج الشمس وقرأ حمزة والكسائي سرجا بضم السين والراء وإسقاط الألف قال الزجاج أراد الشمس والكواكب العظام ويجوز سرجا بتسكين الراء مثل رسل ورسل قال الماوردي لما اقترن بضوء الشمس وهج حرها جعلها لأجل الحرارة سراجا ولما عدم ذلك في القمر جعله نورا
قوله تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة فيه قولان
أحدهما أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون فهذا أبيض وهذا (6/99)
أسود روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال قتادة
والثاني ان كل واحد منهما يخلف صاحبه رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد وبه قال ابن زيد وأهل اللغة وأنشدوا قول زهير ... بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم ...
أي إذا ذهبت طائفة جاءت طائفة
قوله تعالى لمن أراد أن يذكر أي يتعظ ويعتبر باختلافهما وقرأ حمزة يذكر خفيفة الذال مضمومة الكاف وهي في معنى يتذكر أو أراد شكر الله تعالى فيهما وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (6/100)
قوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون وقرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي وابن السميفع يمشون برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد وقال ابن قتيبة إنما نسبهم إليه لاصطفائه إياهم كقوله ناقة الله الأعراف ومعنى هونا مشيا رويدا ومنه يقال أحبب حبيبك هونا ما وقال مجاهد يمشون بالوقار والسكينة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي سدادا وقال الحسن لا يجهلون على أحد وإن جهل عليهم حلموا وقال مقاتل بن حيان قالوا سلاما أي قولا يسلمون فيه من الإثم وهذه الآية محكمة عند الأكثرين وزعم قوم أن المراد بها أنهم يقولون للكفار ليس بيننا وبينكم غير السلام ثم نسخت بآية السيف (6/101)
قوله تعالى والذين يبيتون لربهم قال الزجاج كل من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم يقال بات فلان قلقا إنما المبيت إدراك الليل
قوله تعالى كان غراما فيه خمسة أقوال متقارب معانيها
احدها دائما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والثاني موجعا رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث ملحا قاله ابن السائب وقال ابن جريج لا يفارق والرابع هلاكا قاله أبو عبيدة والخامس أن الغرام في اللغة أشد العذاب قال الشاعر ... ويوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذبا وكانا غراما ...
قاله الزجاج
قوله تعالى ساءت مستقرا أي بئس موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي
قوله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يقتروا مفتوحة الياء مكسورة التاء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يقتروا بفتح الياء وضم التاء وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم الياء وكسر التاء
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أن الإسراف مجاوزة الحد في النفقة والإقتار التقصير عما لا بد (6/102)
منه ويدل على هذا قول عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى
والثاني أن الإسراف الإنفاق في معصية الله وإن قل والإقتار منع حق الله تعالى قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج في آخرين
قوله تعالى وكان يعني الإنفاق بين ذلك أي بين الإسراف والإقتار قواما أي عدلا قال ثعلب القوام بفتح القاف الاستقامة والعدل وبكسرها ما يدوم عليه الأمر ويستقر والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئآتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أعظم قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت (6/103)
ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديقها والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية
والثاني أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية إلى قوله غفورا رحيما أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث أن وحشيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كنت احب أن أراك على غير جوار فأما إذا أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال فاني أشركت بالله وقتلت التي حرم الله وزينت فهل يقبل الله مني توبة فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلت هذه الآية فتلاها عليه فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا أنا في جوارك حتى اسمع كلام الله فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء فدعاه فتلاها عليه فقال ولعلي ممن لا يشاء الله أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية الزمر فقال نعم الآن لا أرى شرطا فأسلم رواه عطاء عن ابن عباس وهذا وحشي هو قاتل حمزة وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر وهو بعيد الصحة والمحفوظ في إسلامه غير هذا وأنه قدم (6/104)
مع رسل الطائف فأسلم من غير اشتراط وقوله يدعون معناه يعبدون وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في الأنعام
قوله تعالى يلق أثاما وقرأ سعيد بن جبير وأبو المتوكل يلق برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة قال ابن عباس يلق جزاء وقال مجاهد وعكرمة وهو واد في جهنم وقال ابن قتيبة يلق عقوبة وأنشد جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام قال الزجاج وقوله يلق أثاما جزما على الجزاء قال أبو عمرو الشيباني يقال قد لقي أثام ذلك أي جزاء ذلك وسيبويه والخليل يذهبان إلى أن معناه يلقى جزاء الأثام قال سيبويه وإنما جزم يضاعف له العذاب لأن مضاعفة العذاب لقي الآثام فلذلك جزمت كما قال الشاعر ... متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا ...
لأن الإتيان هو الإلمام فجزم تلمم لانه بمعنى تأتي وقرأ الحسن يضعف وهو جيد بالغ تقول ضاعفت الشئ وضعفته وقرأ عاصم يضاعف بالرفع على تفسير يلق اثاما كأن قائلا قال ما لقي الأثام فقيل يضاعف للآثم العذاب وقرأ أبو المتوكل وقتادة وأبو حيوة يضعف برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف وقرأ أبو حصين الأسدي والعمري عن أبي جعفر مثله إلا أن العين مكسورة والعذاب بالنصب (6/105)
قوله تعالى ويخلد وقرأ أبو حيوة وقتادة والأعمش ويخلد برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وأبو المتوكل مثله إلا أنهم شددوا اللام فصل
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان
أحدهما أنها منسوخة وفي ناسخها ثلاثة أقوال أحدها أنه قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم النساء قاله ابن عباس وكان يقول هذه مكية والتي في النساء مدنية والثاني انها نسخت بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك الآية النساء والثالث أن الأولى نسخت بالثانية وهي قوله إلا من تاب
والقول الثاني أنها محكمة والخلود إنما كان لانضمام الشرك إلى القتل والزنا وفساد القول الأول ظاهر لأن القتل لا يوجب تخليدا عند الأكثرين وقد بيناه في سورة النساء والشرك لا يغفر إذا مات المشرك عليه والاستثناء ليس بنسخ
قوله تعالى إلا من تاب قال ابن عباس قرأنا على عهد رسول الله سنتين والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرح بشئ فرحه بها وب إنا فتحنا لك فتحا مبينا الفتح (6/106)
قوله تعالى فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه فقال ابن عباس يبدل الله شركهم إيمانا وقتلهم إمساكا وزناهم إحصانا وهذا يدل على أنه يكون في الدنيا وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والثاني أن هذا يكون في الآخرة قاله سلمان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وقال عمرو بن ميمون يبدل الله سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات حتى إن العبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي وعن الحسن كالقولين وروي عن الحسن أنه قال ود قوم يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذنوب فقيل من هم قال هم الذين قال الله تعالى فيهم فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات ويؤكد هذا القول حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغار ذنوبه وتنحى عنه كبارها فيقال عملت يوم كذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار فيقال أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة أخرجه مسلم في صحيحه (6/107)
ومن تاب وعمل صالحا فانه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما
قوله تعالى ومن تاب ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة وقال ابن عباس يعني ممن لم يقتل ولم يزن وعمل صالحا فاني قد قدمتهم وفضلتهم على من قاتل نبيي واستحل محارمي
قوله تعالى فانه يتوب إلى الله متابا قال ابن الأنباري معناه من اراد التوبة وقصد حقيقتها فينبغي له أن يريد الله بها ولا يخلط بها ما يفسدها وهذا كما يقول الرجل من تجر فانه يتجر في البز ومن ناظر فانه يناظر في النحو أي من أراد ذلك فينبغي أن يقصد هذا الفن قال ويجوز أن يكون معنى هذه الآية ومن تاب وعمل صالحا فان ثوابه وجزاءه يعظمان له عند ربه الذي أراد بتوبته فلما كان قوله فانه يتوب إلى الله متابا يؤدي عن هذا المعنى كفى منه وهذا كما يقول الرجل للرجل إذا تكلمت فاعلم (6/108)
أنك تكلم الوزير أي تكلم من يعرف كلامك ويجازيك ومثله قوله تعالى إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت يونس أي فاني أتوكل على من ينصرني ولا يسلمني وقال قوم معنى الآية فانه يرجع إلى الله مرجعا يقبله منه
قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور فيه ثمانية أقوال
أحدها أنه الصم روى الضحاك عن ابن عباس ان الزور صنم كان للمشركين والثاني أنه الغناء قاله محمد بن الحنفية ومكحول وروى ليث عن مجاهد قال لا يسمعون الغناء والثالث الشرك قاله الضحاك وأبو مالك والرابع لعب كان لهم في الجاهلية قاله عكرمة والخامس الكذب قاله قتادة وابن جريج والسادس شهادة الزور قاله علي بن أبي طلحة والسابع أعياد المشركين قاله الربيع بن أنس والثامن مجالس الخنا قاله عمرو بن قيس (6/109)
وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال
أحدها المعاصي قاله الحسن والثاني أذى المشركين إياهم قاله مجاهد والثالث الباطل قاله قتادة والرابع الشرك قاله الضحاك والخامس إذا ذكروا النكاح كنوا عنه قاله مجاهد وقال محمد بن علي إذا ذكروا الفروج كنوا عنها
قوله تعالى مروا كراما فيه ثلاثة أقوال
أحدها مروا حلماء قاله ابن السائب والثاني مروا معرضين عنه قاله مقاتل والثالث أن المعنى إذا مروا باللغو جاوزوه قاله الفراء
قوله تعالى والذين إذا ذكروا أي وعظوا بآيات ربهم وهي القرآن لم يخروا عليها صما وعميانا قال ابن قتيبة لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها وقال غيره من أهل اللغة لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وإن لم يكونوا خروا حقيقة تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكي وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يتحير وإن لم يكن قام ولا قعد (6/110)
قوله تعالى هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وذرياتنا على الجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وحفص عن عاصم وذريتنا على التوحيد قرة أعين وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة قرات أعين يعنون من يعمل بطاعتك فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة وسئل الحسن عن قوله قرة أعين في الدنيا أم في الآخرة قال لا بل في الدنيا وأي شئ أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله والله ما طلب القوم إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم قال الفراء إنما قال قرة لأنها فعل والفعل لا يكاد يجمع ألا ترى إلى قوله وادعوا ثبورا كثيرا الفرقان فلم يجمعه والقرة مصدر تقول قرت عينه قرة ولو قيل قرة عين او قرات اعين كان صوابا وقال غيره أصل القرة من البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد
قوله تعالى واجعلنا للمتقين إماما فيه قولان
أحدهما اجعلنا ائمة يقتدى بنا قاله ابن عباس وقال غيره هذا من الواحد الذي يراد به الجمع كقوله إنا رسول رب العالمين الشعراء وقوله فانهم عدو لي الشعراء
والثاني اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم قاله مجاهد فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب فيكون المعنى واجعل المتقين لنا إماما (6/111)
أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما
قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة قال ابن عباس يعني الجنة وقال غيره الغرفة كل بناء عال مرتفع والمراد غرف الجنة وهي من الزبرجد والدر والياقوت بما صبروا على دينهم وعلى أذى المشركين
قوله تعالى ويلقون فيها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويلقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويلقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف تحية وسلاما قال ابن عباس يحيي بعضهم بعضا بالسلام ويرسل إليهم الرب عز و جل بالسلام وقال مقاتل تحية يعني السلام وسلاما أي سلم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم
قوله تعالى قل ما يعبأ بكم ربي فيه ثلاثة أقوال
أحدها ما يصنع بكم قاله ابن عباس والثاني أي وزن يكون لكم عنده تقول ما عبأت بفلان أي ما كان له عندي وزن ولا قدر قاله الزجاج والثالث ما يعبأ بعذابكم قاله ابن قتيبة
وفي قوله لولا دعاؤكم أربعة أقوال
أحدها لولا إيمانكم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (6/112)
والثاني لولا عبادتكم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه قاله مجاهد والمراد نفع الخلق لأن الله تعالى غير محتاج
والرابع لولا توحيدكم حكاه الزجاج وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إضمار وقال ابن قتيبة فيها إضمار تقديره ما يعبأ بعذابكم لولا ما تدعونه من الشريك والولد ويوضح ذلك قوله فسوف يكون لزاما يعني العذاب ومثله قول الشاعر ... من شاء دلى النفس في هوة ... ضنك ولكن من له بالمضيق ...
أي بالخروج من المضيق وهل هذا خطاب للمؤمنين أو للكفار فيه قولان فأما قوله تعالى فقد كذبتم فهو خطاب لأهل مكة حين كذبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسوف يكون يعني تكذيبكم لزاما أي عذابا لازما لكم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قتلهم يوم بدر فقتلوا يومئذ واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم وهذا مذهب ابن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد في آخرين والثاني أنه الموت قاله ابن عباس والثالث أن اللزام القتال قاله ابن زيد (6/113)
سورة الشعراء
وهي مكية كلها إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون الشعراء إلى آخرها قاله ابن عباس وقتادة بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فيسأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزؤون أولم يروا إلى الأرض كم أنبئنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى طسم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر طسم بفتح الطاء وإدغام النون من هجاء سين عند الميم وقرأ حمزة والكسائي وخلف وأبان والمفضل طسم وطس النمل بامالة الطاء فيهما وأظهر النون من هجاء سين عند الميم حمزة هاهنا وفي القصص (6/114)
وفي معنى طسم أربعة أقوال
أحدها أنها حروف من كلمات ثم فيها ثلاثة أقوال أحدها ما رواه علي بن أبي طالب عليه السلام قال لما نزلت طسم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الطاء طور سيناء والسين الاسكندرية والميم مكة والثاني أن الطاء طيبة وسين بيت المقدس وميم مكة رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلى الله عليه و سلم قاله جعفر الصادق
والثاني أنه قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وقد بينا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة مريم وقال القرظي أقسم الله بطوله وسنائه وملكه
والثالث انه اسم للسورة قاله مجاهد
والرابع أنه اسم من أسماء القرآن قاله قتادة وأبو روق وما بعد (6/115)
هذا قد سبق تفسيره المائدة الكهف إلى قوله ألا يكونوا مؤمنين والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان
ثم أخبر أنه لو أراد أن ينزل عليهم ما يضطرهم إلى الإيمان لفعل فقال إن نشأ ننزل وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل إن يشأ ينزل بالياء فيهما عليهم من السماء آية فظلت لها خاضعين جعل الفعل أولا للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون وقيل لما وصف الأعناق بالخضوع وهو من صفات بني آدم أخرج الفعل مخرج الآدميين كما بينا في قوله والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين يوسف وهذا اختيار أبي عبيدة وقال الزجاج قوله فظلت معناه فتظل لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل كقولك إن تأتني أكرمتك معناه أكرمك وإنما قال خاضعين لأن خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها وذلك أن الخضوع لما لم يكن إلا بخضوع الأعناق جاز أن يخبر عن المضاف إليه كما قال الشاعر ... رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال ...
فلما كانت السنون لا تكون إلا بمر أخبر عن السنين وإن كان أضاف إليها المرور قال وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءهم ورؤساءهم وجاء في (6/116)
اللغة أن أعناقهم جماعاتهم يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة وما بعد هذا قد سبق تفسيره الأنبياء إلى قوله أو لم يروا إلى الأرض يعني المكذبين بالبعث كم أنبتنا فيها بعد أن لم يكن فيها نبات من كل زوج كريم قال ابن قتيبة من كل جنس حسن وقال الزجاج الزوج النوع والكريم المحمود
قوله تعالى إن في ذلك الإنبات لآية تدل على وحدانية الله وقدرته وما كان أكثرهم مؤمنين أي ما كان أكثرهم يؤمن في علم الله وإن ربك لهو العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فارسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل
قوله تعالى وإذ نادى المعنى واتل هذه القصة على قومك
قوله تعالى أن يكذبون ياء يكذبون محذوفة ومثلها أن يقتلون الشعراء سيهدين الشعراء فهو يدين الشعراء (6/117)
ويسقين الشعراء فهو يشفين الشعراء ثم يحيين الشعراء كذبون الشعراء وأطيعون الشعراء فهذه ثمان آيات أثبتهن في الحالين يعقوب
قوله تعالى ويضيق صدري أي بتكذيبهم إياي ولا ينطلق لساني للعقدة التي كانت بلسانه وقرأ يعقوب ويضيق ولا ينطلق بنصب القاف فيهما فأرسل إلى هارون المعنى ليعينني فحذف لأن في الكلام دليلا عليه ولهم علي ذنب وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه والمعنى ولهم علي دعوى ذنب فأخاف أن يقتلون به قال كلا وهو ردع وزجر عن الإقامة على هذا الظن والمعنى لن يقتلوك لأني لا اسلطهم عليك فاذهبا يعني أنت وأخوك بآياتنا وهي ما أعطاهما من المعجزة إنا يعني نفسه عز و جل معكم فأجراها مجرى الجماعة مستمعون نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به
قوله تعالى إنا رسول رب العالمين قال ابن قتيبة الرسول يكون بمعنى الجميع كقوله هؤلاء ضيفي الحجر وقوله ثم نخرجكم طفلا الحج وقال الزجاج المعنى إنا رسالة رب العالمين أي ذوو رسالة رب العالمين قال الشاعر ... لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول ...
أي برسالة (6/118)
قوله تعالى أن أرسل المعنى بأن أرسل معنا بني إسرائيل أي أطلقهم من الاستعباد فأتياه فبلغاه الرسالة ف قال ألم نر بك فينا وليدا أي صبيا صغيرا ولبثت فينا من عمرك سنين وفيها ثلاثة أقوال
أحدها ثماني عشرة سنة قاله ابن عباس والثاني أربعون سنة قاله ابن السائب والثالث ثلاثون سنة قاله مقاتل والمعنى فجازيتنا على ان ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلت منا نفسا وهو قوله وفعلت فعلتك وهي قتل النفس قال الفراء وإنما نصبت الفاء لأنها مرة واحدة ولو أريد بها مثل الجلسة والمشية جاز كسرها
وفي قوله وأنت من الكافرين قولان
أحدهما من الكافرين لنعمتي قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك وابن زيد
والثاني من الكافرين بالهك كنت معنا على ديننا الذي تعيب قاله الحسن والسدي فعلى الاول وأنت من الكافرين الآن وعلى الثاني وكنت
وفي قوله وأنا من الضالين ثلاثة أقوال
أحدها من الجاهلين قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وقال بعض المفسرين المعنى إني كنت جاهلا لم يأتني من الله شئ
والثاني من الخاطئين والمعنى إني قتلت النفس خطأ قاله ابن زيد
والثالث من الناسين ومثله أن تضل إحداهما البقرة قاله أبو عبيدة
قوله تعالى ففررت منكم أي ذهبت من بينكم لما خفتكم على (6/119)
نفسي إلى مدين وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وابن يعمر لما بكسر اللام وتخفيف الميم فوهب لي ربي حكما وفيه قولان
أحدهما النبوة قاله ابن السائب والثاني العلم والفهم قاله مقاتل
قوله تعالى وتلك نعمة تمنها علي يعني التربية ان عبدت بني إسرائيل أي اتخذتهم عبيدا يقال عبدت فلانا وأعبدته واستعبدته إذا اتخذته عبدا
وفي أن وجهان
أحدهما أن تكون في موضع رفع على البدل من نعمة
والثاني أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض تقديره لأن عبدت أو لتعبيدك
واختلف العلماء في تفسير الآية ففسرها قوم على الإنكار وقوم على الإقرار فمن فسرها على الإنكار قال معنى الكلام أو تلك نعمة على طريق الاستفهام ومثله هذا ربي الانعام وقوله فهم الخالدون الانبياء وانشدوا ... لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق ... وقولها والركاب سائرة ... تتركنا هكذا وتنطلق (6/120)
وهذا قول جماعة منهم ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال
أحدها أن فرعون أخذ أموال بني إسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها فأبطل موسى النعمة لأنها أموال بني إسرائيل قاله الحسن
والثاني أن المعنى إنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكفلني أهلي وكانت أمي تستغني عن قذفي في اليم فكأنك تمن علي بما كان بلاؤك سببا له وهذا قول المبرد والزجاج والأزهري
والثالث أن المعنى تمن علي باحسانك إلي خاصة وتنسى إساءتك بتعبيدك بني إسرائيل قاله مقاتل
والرابع أن المعنى كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فقد حبط إحسانك إلي بتعبيدك قومي حكاه الثعلبي
فأما من فسرها على الإقرار فانه قال عدها موسى نعمة حيث رباه ولم يقتله ولا استعبده فالمعنى هي لعمري نعمة إذ ربيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل ف أن تدل على المحذوف ومثله في الكلام أن تضرب بعض عبيدك وتترك الآخر فيقول المتروك هذه نعمة علي أن ضربت فلانا وتركتني ثم تحذف وتركتني لان المعنى معروف هذا قول الفراء قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الاولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (6/121)
قوله تعالى قال فرعون وما رب العالمين سأله عن ماهية من لا ماهية له فأجابه بما يدل عليه من مصنوعاته
وفي قوله إن كنتم موقنين قولان
أحدهما أنه خلق السماوات والأرض
والثاني إن كنتم موقنين أن ما تعاينوه كما تعاينونه فكذلك فأبقنوا أن رب العالمين رب السماوات والارض قال يعني فرعون لمن حوله من أشراف قومه ألا تستمعون معجبا لهم
فان قيل فأين جوابهم
فالجواب أنه أراد ألا تستمعون قول موسى فرد موسى لأنه المراد (6/122)
بالجواب ثم زاد في البيان بقوله ربكم ورب آبائكم الأولين فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إلى الجنون فلم يحفل موسى بقول فرعون واشتغل بتأكيد الحجة ف قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون أي إن كنتم ذوي عقول لم يخف عليكم ما أقول قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشئ مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فاذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون
قوله تعالى أولو جئتك بشئ مبين أي بأمر ظاهر تعرف به صدقي أتسجنني وما بعد هذا مفسر في الأعراف إلى قوله فجمع (6/123)
السحرة لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة وكان عيدا لهم وقيل للناس يعني أهل مصر وذهب ابن زيد إلى أن اجتماعهم كان بالاسكندرية
قوله تعالى لعلنا نتبع السحرة قال الاكثرون أرادوا سحرة فرعون فالمعنى لعلنا نتبعهم على امرهم وقال بعضهم ارادوا موسى وهارون وإنما قالوا ذلك استهزاء قال ابن جرير ولعل هاهنا بمعنى كي وقوله بعزة فرعون أي بعظمته قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لاضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
قوله تعالى فلسوف تعلمون قال الزجاج اللام دخلت للتوكيد
قوله تعالى لا ضير أي لا ضرر قال ابن قتيبة هو من ضاره يضوره ويضيره بمعنى ضره والمعنى لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا لأنا ننقلب إلى ربنا في الآخرة مؤملين غفرانه
قوله تعالى أن كنا أي لأن كنا أول المؤمنين بآيات موسى في هذه الحال وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم (6/124)
من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل
قوله تعالى إنكم متبعون أي يتبعكم فرعون وقومه
قوله تعالى إن هؤلاء المعنى وقال فرعون إن هؤلاء يعني بني إسرائيل ذ شرذمة قال ابن قتيبة أي طائفة قال الزجاج والشر ذمة في كلام العرب القليل قال المفسرون وكانوا ستمائة ألف وإنما استقلهم بالاضافة إلى جنده وكان جنده لا يحصى
قوله تعالى وإنهم لنا لغائظون تقول غاظني الشئ إذا أغضبك قال ابن جرير وذكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قتلت من أبكارهم قال ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حليهم ويحتمل أن يكون لفراقهم إياهم وخروجهم من أرضهم على كره منهم
قوله تعالى وإنا لجميع حذرون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو حذرون بغير ألف وقرأ الباقون حاذرون بألف وهل بينهما فرق فيه قولان
أحدهما أن الحاذر المستعد والحذر المتيقظ وجاء في التفسير أن معنى حاذرين مؤدون أي ذوو أداة وهي السلاح لأنها أداة الحرب
والثاني أنهما لغتان معناهما واحد قال ابو عبيدة يقال رجل حذر وحذر وحاذر والمقام الكريم المنزل الحسن
وفي قوله كذلك قولان
أحدهما كذلك أفعل بمن عصاني قاله ابن السائب والثاني الامر كذلك أي كما وصفنا قاله الزجاج (6/125)
قوله تعالى وأورثناها بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى ردهم إلى مصر بعد غرق فرعون وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال وقال ابن جرير الطبري إنما جعل ديار آل فرعون ملكا لبني إسرائيل ولم يرددهم إليها لكنه جعل مساكنهم الشام فأتبعوهم مشرقين فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى فأتبعوهم قال ابن قتيبة لحقوهم مشرقين أي حين شرقت الشمس أي طلعت يقال أشرقنا دخلنا في الشروق كما يقال أمسينا وأصبحنا وقرأ الحسن وأيوب السختياني فاتبعوهم بالتشديد
قوله تعالى فلما تراءى الجمعان وقرأ أبو رجاء والنخعي والأعمش تراأى بكسر الراء وفتح الهمزة أي تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه
قوله تعالى كلا أي لن يدركونا إن معي ربي سيهدين أي سيدلني على طريق النجاة
قوله تعالى فانفلق فيه إضمار فضرب فانفلق أي انشق الماء اثني عشر طريقا فكان كل فرق أي كل جزء انفرق منه وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري كل فلق باللام كالطود وهو الجبل (6/126)
قوله تعالى وأزلفنا ثم الآخرين أي قربنا الآخرين من الغرق وهم اصحاب فرعون وقال ابو عبيدة أزلفنا أي جمعنا قال الزجاج وكلا القولين حسن لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض واصل الزلفى في كلام العرب القربى وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو رجاء والضحاك وابن يعمر أزلقنا بقاف وكذلك قرأوا وأزلقت الجنة الشعراء بقاف أيضا
قوله تعالى إن في ذلك لآية يعني في إهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم وما كان أكثرهم مؤمنين أي لم يكن أكثر اهل مصر مؤمنين إنما آمنت آسية وخربيل مؤمن آل فرعون وفنة الماشطة ومريم امرأة دلت موسى على عظام يوسف هذا قول مقاتل وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى فقد سبق بيانها وكذلك ما يفقد ذكره في مكان فهو إما أن يكون قد سبق وإما أن يكون ظاهرا فتنبه لهذا واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم او يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فانهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي يطعمني ويسقين وإذا (6/127)
مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين
قوله تعالى هل يسمعونكم والمعنى هل يسمعون دعاءكم وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري هل يسمعونكم بضم الياء وكسر الميم إذ تدعون قال الزجاج إن شئت بينت الذال وإن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء
قوله تعالى أو ينفعونكم أي إن عبدتموهم او يضرون إن لم تعبدوهم فأخبروا عن تقليد آبائهم
قوله تعالى فانهم عدو لي فيه وجهان
أحدهما أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع فالمعنى فانهم أعداء لي
والثاني فان كل معبود لكم عدو لي
فان قيل ما وجه وصف الجماد بالعدواة
فالجواب من وجهين أحدهما أن معناه فانهم عدو لي يوم القيامة إن عبدتهم والثاني أنه من المقلوب والمعنى فاني عدو لهم لأن من عاديته عاداك قاله ابن قتيبة
وفي قوله إلا رب العالمين قولان
أحدهما أنه استثناء من الجنس لأنه علم انهم كانوا يعبدون الله مع آلهتهم قاله ابن زيد
والثاني أنه من غير الجنس والمعنى لكن رب العالمين ليس كذلك قاله أكثر النحويين (6/128)
قوله تعالى الذي خلقني فهو يهدين أي إلى الرشد لا ما تعبدون والذي هو يطعمني ويسقين أي هو رازقي الطعام والشراب
فان قيل لم قال مرضت ولم يقل أمرضني
فالجواب أنه أراد الثناء على ربه فأضاف إليه الخير المحض لأنه لو قال أمرضني لعد قومه ذلك عيبا فاستعمل حسن الادب ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب فأردت الكهف وفي الخير المحض فأراد ربك الكهف
فان قيل فهذا يرده قوله والذي يميتني
فالجواب أن القوم كانوا لا ينكرون الموت وإنما يجعلون له سببا سوى تقدير الله عز و جل فاضافه إبراهيم إلى الله عز و جل وقوله ثم يحيين يعني البعث وهو امر لا يقرون به وإنما قاله استدلالا عليهم والمعنى أن ما وافقتموني عليه موجب لصحة قولي فيما خالفتموني فيه
قوله تعالى والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يعني ما يجري على مثلي من الزلل والمفسرون يقولون إنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء يوم الدين يعني يوم الحشر والحساب وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلح الإلهية إلا لمن فعل هذه الأفعال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر (6/129)
لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
قوله تعالى هب لي حكما فيه ثلاثة أقوال
أحدها النبوة قاله ابو صالح عن ابن عباس والثاني اللب قاله عكرمة والثالث الفهم والعلم قاله مقاتل وقد بينا قوله وألحقني بالصالحين في سورة يوسف وبينا معنى لسان صدق في مريم والمراد بالآخرين الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة
قوله تعالى واغفر لأبي قال الحسن بلغني أن امه كانت مسلمة على دينه فلذلك لم يذكرها
فان قيل فقد قال اغفر لي ولوالدي إبراهيم
قيل أكثر الذكر إنما جرى لأبيه فيجوز أن يسأل الغفران لأمه وهي مؤمنة فأما أبوه فلا شك في كفره وقد بينا سبب استغفاره لأبيه في براءة وذكرنا معنى الخزي في آل عمران
قوله تعالى يوم يبعثون يعني الخلائق
قوله تعالى إلا من اتى الله بقلب سليم فيه ستة أقوال
أحدها سليم من الشرك قاله الحسن وابن زيد
والثاني سليم من الشك قاله مجاهد
والثالث سليم أي صحيح وهو قلب المؤمن لان قلب الكافر والمنافق مريض قاله سعيد بن المسيب (6/130)
والرابع أن السليم في اللغة اللديغ فالمعنى كاللديغ من خوف الله تعالى قاله الجنيد
والخامس سليم من آفات المال والبنين قاله الحسين بن الفضل
والسادس سليم من البدعة مطمئن على السنة حكاه الثعلبي وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما اضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين أي قربت إليهم حتى نظروا إليها وبرزت الجحيم أي أظهرت للغاوين وهم الضالون وقيل لهم على وجه التوبيخ أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أي يمنعونكم من العذاب أو يمتنعون منه
قوله تعالى فكبكبوا قال السدي هم المشركون قال ابن قتيبة ألقوا على رؤوسهم وأصل الحرف كببوا من قولك كببت الإناء فأبدل من الباء الوسطى كافا استثقالا لاجتماع ثلاث باءات كما قالوا كمكموا من الكمة والأصل كمموا وقال الزجاج (6/131)
معناه طرح بعضهم على بعض وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها
وفي الغاوين ثلاثة اقوال
أحدها المشركون قاله ابن عباس
والثاني الشياطين قاله قتادة ومقاتل
والثالث لآلهة قاله السدي وجنود إبليس أتباعه من الجن والإنس قالوا وهم فيها يختصمون يعني هم وآلهتهم تالله إن كنا قال الفراء لقد كنا وقال الزجاج ما كنا إلا في ضلال
قوله تعالى إذ نسويكم أي نعدلكم بالله في العبادة وما أضلنا إلا المجرمون فيهم قولان
أحدهما الشياطين والثاني أولوهم الذين اقتدوا بهم قال عكرمة إبليس وابن آدم القاتل
قوله تعالى فما لنا من شافعين هذا قولهم إذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الرجل يقول في الجنة مافعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله عز و جل أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم والحميم القريب الذي توده ويودك والمعنى مالنا (6/132)
من ذي قرابة يهمه أمرنا فلو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا فنكون من المؤمنين
لتحل لنا الشفاعة كما حلت للموحدين كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون
قوله تعالى كذبت قوم نوح قال الزجاج القوم مذكرون والمعنى كذبت جماعة قوم نوح
قوله تعالى إذ قال لهم أخوهم نوح كانت الأخوة من جهة النسب بينهم لا من جهة الدين ألا تتقون عذاب الله بتوحيده وطاعته إني لكم رسول أمين على الرسالة فيما بيني وبين ربكم وما أسألكم عليه من أجر أي على الدعاء إلى التوحيد قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمني بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (6/133)
قوله تعالى واتبعك الأرذلون وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين وأتباعك الأرذلون وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها الحاكة رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني الحاكة والأساكفة قاله عكرمة
والثالث المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز قاله عطاء وهذا جهل منهم لأن الصناعات لا تضر في باب الديانات
قوله تعالى وما علمي بما كانوا يعملون أي لم أعلم أعمالهم وصنائعهم ولم أكلف ذلك إنما كلفت أن أدعوهم إن حسابهم فيما يعملون إلا على ربي لو تشعرون بذلك ما عبتموهم في صنائعهم وما أنا بطارد المؤمنين أي ما أنا بالذي لا أقبل إيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون
وفي قوله لتكونن من المرجومين ثلاثة أقوال
أحدها من المشتومين قاله الضحاك والثاني من المضروبين بالحجارة قاله قتادة والثالث من المقتولين بالرجم قاله مقاتل قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى فافتح بيني وبينهم أي اقض بيني وبينهم قضاء يعني بالعذاب ونجني ومن معي من ذلك العذاب والفلك قد تقدم بيانه البقرة والمشحون المملوء يقال شحنت الإناء إذا ملأته وكانت (6/134)
سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كله ثم أغرقنا بعد بعد نجاة نوح ومن معه الباقين كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله واطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم
قوله تعالى أتبنون بكل ريع وقرا عاصم الجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة بكل ريع بفتح الراء قال الفراء هما لغتان ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه المكان المرتفع روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال بكل شرف قال الزجاج هو في اللغة الموضع المرتفع من الأرض
والثاني أنه الطريق رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال قتادة
والثالث الفج بين الجبلين قاله مجاهد والآية العلامة
وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال
أحدها أنه أراد تبنون مالا تسكنون رواه عطاء عن ابن عباس والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا
وللثاني بروج الحمام قاله سعيد بن جبير ومجاهد (6/135)
والثالث أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم وهو معنى قول الضحاك
قوله تعالى وتتخذون مصانع فيه ثلاثة أقوال
أحدها قصور مشيدة قاله مجاهد والثاني مصانع الماء تحت الارض قاله قتادة والثالث بروج الحمام قاله السدي
وفي قوله لعلكم تخلدون قولان
أحدهما كأنكم تخلدون قاله ابن عباس وأبو مالك
والثاني كيما تخلدوا قاله الفراء وابن قتيبة وقرا عكرمة والنخعي وقتادة وابن يعمر تخلدون برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة وقرأ عاصم الجحدري وأبو حصين تخلدون بفتح الخاء وتشديد اللام
قوله تعالى وإذا بطشتم بطشتم جبارين المعنى إذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبارين وإذا عاقبتم قتلتم وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه صدر عن ظلم إذ لو ضربوا بالسيف أو بالسوط في حق ماليموا
وفي قوله عذاب يوم عظيم قولان
أحدهما ما عذبوا به في الدنيا والثاني عذاب جهنم (6/136)
قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
قوله تعالى إن هذا إلا خلق الأولين قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي خلق بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن قتيبة أرادوا اختلافهم وكذبهم يقال خلقت الحديث واختلقته أي افتعلته قال الفراء والعرب تقول للخرافات أحاديث الخلق وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة وخلف ونافع خلق الاولين بضم الخاء واللام وقرأ ابن عباس وعكرمة وعاصم الجحدري خلق برفع الخاء وتسكين اللام والمعنى عادتهم وشأنهم قال قتادة قالوا له هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث لهم ولا حساب
قوله تعالى وما نحن بمعذبين أي على ما نفعله في الدنيا
أتتركون في ما ههنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (6/137)
قوله تعالى أتتركون فيما هاهنا أي فيما أعطاكم الله في الدنيا آمنين من الموت والعذاب
قوله تعالى طلعها هضيم الطلع الثمر وفي الهضيم سبعة أقوال
أحدها أنه الذي قد اينع وبلغ رواه العوفي عن ابن عباس والثاني أنه الذي يتهشم تهشما قاله مجاهد والثالث انه الذي ليس له نوى قاله الحسن والرابع أنه المذنب من الرطب قاله سعيد بن جبير والخامس اللين قاله قتادة والفراء والسادس أنه الحمل الكثير الذي يركب بعضه بعضا قاله الضحاك والسابع أنه الطلع قبل أن ينشق عنه القشر وينفتح يريد أنه منضم مكتنز ومنه قيل رجل أهضم الكشحين إذا كان منضمهما قاله ابن قتيبة
قوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو فرهين وقرأ الباقون فارهين بالف قال ابن قتيبة فرهين اشرين بطرين ويقال الهاء فيه مبدلة من حاء أي فرحين والفرح قد يكون السرور وقد يكون الأشر ومنه قوله إن الله لا يحب الفرحين القصص أي الأشرين ومن قرأ فارهين فهي لغة أخرى يقال فره وفاره كما يقال فرح وفارح ويقال فارهين أي حاذقين قال عكرمة حاذقين بنحتها (6/138)
قوله تعالى ولا تطيعوا امر المسرفين قال ابن عباس يعني المشركين وقال مقاتل هم التسعة الذين عقروا الناقة
قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فات بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
قوله تعالى إنما أنت من المسحرين قال الزجاج أي ممن له سحر والسحر الرئة والمعنى أنت بشر مثلنا وجائز أن يكون من المفعلين من السحر والمعنى ممن قد سحر مرة بعد مرة
قوله تعالى لها شرب أي حظ من الماء قال ابن عباس لها شرب معروف لا تحضروه معها ولكم شرب لا تحضر معكم فكانت إذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه وإذا كان يومها شربت الماء كله وقال قتادة كانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم أول النهار وسقتهم اللبن آخر النهار وقرأ ابي بن كعب وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وابن أبي عبلة لها شرب بضم الشين (6/139)
قوله تعالى فأصبحوا نادمين قال ابن عباس ندموا حين رأوا العذاب على عقرها وعذابهم كان بالصيحة
أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ماخلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى أتأتون الذكران وهو جمع ذكر من العالمين أي من بني آدم وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم قال الزجاج وقرأ ابن مسعود ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم يعني به الفروج وقال مجاهد تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال
قوله تعالى بل أنتم قوم عادون أي ظالمون معتدون قالوا لئن لم تنته يا لوط أي لئن لم تسكت عن نهينا لتكونن من المخرجين من بلدنا قال إني لعملكم يعني إتيان الرجال من القالين قال ابن قتيبة أي من المبغضين يقال قليت الرجل إذا أبغضته
قوله تعالى رب نجني وأهلي مما يعملون أي من عقوبة عملهم فنجيناه وأهله وقد ذكرناهم في هود إلا عجوزا يعني امرأته في الغابرين أي الباقين في العذاب ثم دمرنا الآخرين أهلكناهم بالخسف والحصب وهو قوله وأمطرنا عليهم مطرا يعني الحجارة (6/140)
كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
قوله تعالى كذب أصحاب الأيكة قرأ أبن كثير ونافع وابن عامر أصحاب ليكة هاهنا وفي ص بغير همز والتاء مفتوحة وقرا الباقون الايكة بالهمز فيهما والألف وقد سبق هذا الحرف الحجر إذ قال لهم شعيب إن قيل لم لم يقل أخوهم كما قال في الأعراف فالجواب أن شعيبا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة فلذلك لم يقل أخوهم وإنما أرسل إليهم بعد أن أرسل إلى مدين وهو من نسل مدين فلذلك قال هناك أخوهم هذا قول مقاتل بن سليمان وقد ذكرنا في سورة هود عن محمد بن كعب القرظي أن أهل مدين عذبوا بعذاب الظلة فان كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل فقد تساووا في العذاب وإن كان أصحاب مدين هم أصحاب الايكة وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا والله أعلم (6/141)
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين
قوله تعالى ولا تكونوا من المخسرين أي من الناقصين للكيل يقال أخسرت الكيل والوزن إذا نقصته وقد ذكرنا القسطاس في بني إسرائيل
قوله تعالى واتقوا الذي خلقكم والجبلة أي وخلق الجبلة وقيل المعنى واذكروا ما نزل بالجبلة الأولين وقرا الحسن وأبو مجلز وابو رجاء وابن يعمر وابن ابي عبلة والجبلة برفع الجيم والباء جميعا مشددة اللام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وعاصم الجحدري بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام قال ابن قتيبة الجبلة الخلق يقال جبل فلان على كذا أي خلق قال الشاعر
... والموت أعظم حادث ... مما يمر على الجبلة ...
قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه (6/142)
فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
قوله تعالى فأسقط علينا كسفا قال ابن قتيبة أي قطعة من السماء وكسف جمع كسفة كما يقال قطع وقطعة
قوله تعالى ربي أعلم بما تعملون أي من نقصان الكيل والميزان والمعنى إنه يجازيكم إن شاء وليس عذابكم بيدي فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة قال المفسرون بعث الله عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة أظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ونادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا فكان ذلك من اعظم العذاب والظلة السحابة التي أظلتهم
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علموءا بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين
قوله تعالى وإنه يعني القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به (6/143)
الروح الأمين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم نزل به خفيفا الروح الأمين بالرفع وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم نزل مشددة الزاي الروح الأمين بالنصب والمراد بالروح الأمين جبريل وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه على قلبك قال الزجاج معناه نزل عليك فوعاه قلبك فثبت فلا تنساه أبدا
قوله تعالى لتكون من المنذرين أي ممن أنذر بآيات الله المكذبين بلسان عربي مبين قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه
قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين وقرأ الاعمش زبر بتسكين الباء وفي هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى القرآن والمعنى وإن ذكر القرآن وخبره هذا قول الأكثرين والثاني أنها تعود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل والزبر الكتب
قوله تعالى أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرئيل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي أو لم يكن لهم بالياء آية بالنصب وقرأ ابن عامر وابن أبي عبلة تكن بالتاء آية بالرفع وقرأ أبو عمران الجوني وقتادة تكن بالتاء آية بالنصب قال الزجاج إذا قلت يكن بالياء فالاختيار نصب آية ويكون أن اسم كان ويكون آية خبر كان المعنى أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن النبي صلى الله عليه و سلم حق وأن نبوته حق آية أي علامة موضحة لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل (6/144)
وجدوا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ومن قرأ أو لم تكن بالتاء آية جعل آية هي الاسم وأن يعلمه خبر تكن ويجوز أيضا أو لم تكن بالتاء آية بالنصب كقوله ثم لم تكن فتنتهم الأنعام وقرأ الشعبي والضحاك وعاصم الجحدري أن تعلمه بالتاء
قال ابن عباس بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه و سلم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا لنجد في التوراة صفته فكان ذلك آية لهم على صدقه
قوله تعالى على بعض الأعجميين قال الزجاج هو جمع أعجم والأنثى عجماء والأعجم الذي لا يفصح وكذلك الأعجمي فأما العجمي فالذي من جنس العجم أفصح أو لم يفصح
قوله تعالى ما كانوا به مؤمنين أي لو قرأه عليهم أعجمي لقالوا لانفقه هذا فلم يؤمنوا
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (6/145)
فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين
قوله تعالى كذلك سلكناه قد شرحناه في الحجر والمجرمون هاهنا المشركون
قوله تعالى لا يؤمنون به قال الفراء المعنى كي لا يؤمنوا فأما العذاب الأليم فهو عند الموت فيقولوا عند نزول العذاب هل نحن منظرون أي مؤخرون لنؤمن ونصدق قال مقاتل فلما أوعدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعذاب قالوا فمتى هو تكذيبا به فقال الله تعالى أفبعذابنا يستعجلون
قوله تعالى أفرأيت إن متعناهم سنين قال عكرمة عمر الدنيا
قوله تعالى ثم جاءهم ما كانوا يوعدون أي من العذاب وما أهلكنا من قرية بالعذاب في الدنيا إلا لها منذرون يعني رسلا تنذرهم العذاب ذكرى أي موعظة وتذكيرا
وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون
قوله تعالى وما تنزلت به الشياطين سبب نزولها أن قريشا قالت إنما (6/146)
تجئ بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمد فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
قوله تعالى وما ينبغي لهم أي أن ينزلوا بالقرآن وما يستطيعون أن يأتوا به من السماء لأنهم قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب إنهم عن السمع أي عن الاستماع للوحي من السماء لمعزولون فكيف ينزلون به وقال عطاء عن سماع القرآن لمحجوبون لأنهم يرجمون بالنجوم
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فان عصوك فقل إني برئ مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم
قوله تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر قال ابن عباس يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق علي ولو اتخذت من دوني إلها لعذبتك
قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنزل الله وأنذر عشيرتك الاقربين فقال يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت ما أغني عنك من الله شيئا (6/147)
وفي بعض الألفاظ سلوني من مالي ما شئتم وفي لفظ غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ومعنى قوله عشيرتك الأقربين رهطك الأدنين فان عصوك يعني العشيرة فقل إني برئ مما تعملون من الكفر وتوكل على العزيز الرحيم أي ثق به وفوض أمرك إليه فهو عزيز في نقمته رحيم لم يعجل بالعقوبة وقرا نافع وابن عامر فتوكل بالفاء وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام
الذي يراك حين تقوم فيه ثلاثة أقوال
أحدها حين تقوم إلى الصلاة قاله ابن عباس ومقاتل والثاني حين تقوم من مقامك قاله أبو الجوزاء والثالث حين تخلو قاله الحسن
قوله تعالى وتقلبك أي ونرى تقلبك في الساجدين وفيه ثلاثة أقوال
أحدها وتقلبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني وتقلبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلين في الجماعة والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة وهذا قول الأكثرين منهم قتادة (6/148)
والثالث وتصرفك في ذهابك ومجيئك في اصحابك المؤمنين قاله الحسن
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون
قوله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين هذا رد علهيم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين فأما الأفاك فهو الكذاب والأثيم الفاجر قال قتادة وهم الكهنة
قوله تعالى يلقون السمع أي يلقون ما سمعوه من السماء إلى الكهنة
وفي قوله وأكثرهم كاذبون قولان
أحدهما أنهم الشياطين والثاني الكهنة
والشعراء يتبعهم الغاون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا (6/149)
الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون وقرا نافع يتبعهم بسكون التاء والوجهان حسنان يقال تبعت واتبعت مثل حقرت واحتقرت وروى العوفي عن ابن عباس قال كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قد تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه فقال الله والشعراء يتبعهم الغاوون وفي رواية آخرى عن ابن عباس قال هم شعراء المشركين قال مقاتل منهم عبد الله بن الزبعري وأبو سفيان بن حرب وهبيرة ابن أبي وهب المخزومي في آخرين قالوا نحن نقول مثل قول محمد وقالوا الشعر فاجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم
وفي الغاوين ثلاثة أقوال
أحدها الشياطين قاله مجاهد وقتادة والثاني السفهاء قاله الضحاك والثالث المشركون قاله ابن زيد
قوله تعالى ألم تر أنهم في كل واد يهيمون هذا مثل بمن يهيم في الأودية والمعنى أنهم يأخذون في كل فن من لغو وكذب وغير ذلك فيمدحون بباطل ويذمون بباطل ويقولون فعلنا ولم يفعلوا (6/150)
قوله تعالى إلا الذين آمنوا قال ابن عباس لما نزل ذم الشعراء جاء كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا يا رسول الله أنزل الله هذا وهو يعلم أنا شعراء فنزلت هذه الآية قال المفسرون وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وذموا من هجاء وذكروا الله كثيرا أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ولم يجعلوا الشعر همهم وقال ابن زيد وذكروا الله في شعرهم وقيل المراد بالذكر الشعر في طاعة الله عز و جل
قوله تعالى وانتصروا أي من المشركين من بعد ما ظلموا لأن المشركين بدؤوا بالهجاء ثم أوعد شعراء المشركين فقال وسيعلم الذين ظلموا أي أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أي منقلب (6/151)
ينقلبون قال الزجاج أي منصوبة بقوله ينقلبون لا بقوله سيعلم لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها ومعنى الكلام إنهم ينقلبون إلى نار يخلدون فيها
وقرأ ابن مسعود ومجاهد عن ابن عباس وأبو المتوكل وأبو رجاء أي متقلب يتقلبون بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما وقرأ ابي كعب وابن عباس وأبو العالية وأبو مجلز وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري أي منفلت ينفلتون بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين وكان شريح يقول سيعلم الظالمون حظ من نقصوا إن الظالم ينتظر العقاب وإن المظلوم ينتظر النصر (6/152)
سورة النمل
وهي مكية كلها باجماعها
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين قوله تعالى طس فيه ثلاثة أقوال 3أحدها أنه قسم أقسم الله به وهو من أسمائه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه قال هو اسم الله الأعظم (6/153)
والثاني اسم من أسماء القرآن قاله قتاده
والثالث الطاء من اللطيف والسين من السميع حكاه الثعلبي
قوله تعالى وكتاب مبين وقرأ أبو المتوكل وأبو عمران وابن أبي عبلة وكتاب مبين بالرفع فيهما
قوله تعالى وبشرى أي بشرى بما فيه من الثواب للمصدقين
قوله تعالى زينا لهم أعمالهم أي حببنا إليهم قبيح فعلهم وقد بينا حقيقة التزيين والعمه في البقرة 212 , 15 وسوء العذاب شديده
قوله تعالى هم الأخسرون لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار
قوله تعالى وإنك لتلقى القرآن قال ابن قتيبة اي يلقى عليك فتلقاه أنت أي تأخذه إذ قال موسى المعنى أذكر أذ قال موسى
قال تعالى بشهاب قبس قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب إلا زيدا بشهاب بالتنوين وقرأالباقون على الإضافة غير منون قال الزجاج من نون الشهاب وجعل القبس من صفة الشهاب وكل أبيض ذي نور فهو شهاب فأما من أضاف فقال الفراء هذا مما يضاف إلى نفسه إذا اختلفت الاسماء كقوله ولدار الآخرة يوسف 109 قال ابن قتيبة الشهاب النار والقبس النار تقبس يقال قبست النار قبسا واسم ماقبست قبس (6/154)
قوله تعالى تصطلون أي تستدفئون وكان الزمان شتاء
قوله تعالى فلما جائها أي جاء موسى النار وإنما كان نورا فاعتقده نارا نودي أن بورك من في النار فيه ثلاثة أقوال أحدها أن المعنى قدس من في النار وهو الله عز و جل قاله ابن عباس والحسن والمعنى قدس من ناداه من النار لا أن الله عز و جل يحل في شيء والثاني أن من زائدة والمعنى بوركت النار قاله مجاهد والثالث أن المعنى بورك على من في النار أوفيمن في النار قال الفراء والعرب تقول باركه الله وبارك عليه وبارك فيه بمعنى واحد والتقدير بورك من في طلب النار وهو موسى فحذف المضاف وهذه تحية من الله تعالى لموسى بالبركة كما حيا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود73 فخرج في قوله بورك قولان أحدهما قدس والثاني من البركة وفي قوله ومن حولها ثلاثة أقوال أحدها الملائكة قاله ابن عباس والحسن والثاني موسى والملائكة قاله محمد بن كعب والثالث موسى فالمعنى بورك فيمن يطلبها وهو قريب منها ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إني لايخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد (6/155)
سوء فاني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين
قوله تعالى إنه أنا الله الهاء عماد في قول أهل اللغة وعلى قول السدي هي كناية عن المنادي لأن موسى قال من هذا الذي يناديني فقيل إنه أنا الله
قوله تعالى وألق عصاك في الآية محذوف تقديره فألقاها فصارت حية فلما رآها تهتز كأنها جان قال الفراء الجان الحية التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة
قوله تعالى ولم يعقب فيه قولان
أحدهما لم يلتفت قاله قتادة والثاني لم يرجع قاله ابن قتيبة والزجاج قال ابن قتيبة وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من العقب
قوله تعالى إني لا يخاف لدي المرسلون أي لا يخافون عندي وقيل المراد في الموضع الذي يوحي إليهم فيه فكأنه نبهه على أن من آمنه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حية
وفي قوله إلا من ظلم ثلاثة أقوال
أحدها أنه استثناء صحيح قاله الحسن وقتادة ومقاتل والمعنى إلا من ظلم منهم فانه يخاف قال ابن قتيبة علم الله تعالى أن موسى مستشعر (6/156)
خيفة من ذنبه في الرجل الذي وكزه فقال إلا من ظلم ثم بدل حسنا أي توبة وندما فانه يخاف وإني غفور رحيم
والثاني أنه استثناء منقطع والمعنى لكن من ظلم فانه يخاف قاله ابن السائب والزجاج وقال الفراء من مستثناه من الذين تركوا في الكلام كأنه قال لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف على غيرهم إلا من ظلم فتكون من مستثناة وقال ابن جرير في الآية محذوف تقديره إلا من ظلم فمن ظلم ثم بدل حسنا
والثالث أن إلا بمعنى الواو فهو كقوله لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم البقرة حكاه الفراء عن بعض النحويين ولم يرضه
وقرأ أبي بن كعب وسعيد بن جبير والضحاك وعاصم الجحدري وابن يعمر ألا من ظلم بفتح الهمزة وتخفيف اللام
وللمفسرين في المراد بالظلم هاهنا قولان
أحدهما المعاصي والثاني الشرك ومعنى حسنا توبة وندما
وقرأ ابن مسعود والضحاك وأبو رجاء والأعمش وابن السميفع وعبد الوارث عن ابي عمرو حسنا بفتح الحاء والسين بعد سوء أي بعد إساءة وقيل ألإشارة بهذا إلى أن موسى وإن كان قد ظلم نفسه بقتل القبطي فان الله يغفر له لأنه ندم على ذلك وتاب (6/157)
قوله تعالى وأدخل يدك في جيبك الجيب حيث جيب من القميص أي قطع قال ابن جرير إنما أمر بادخاله يده في جيبه لأنه كان عليه حينئذ مدرعة من صوف ليس لها كم والسوء البرص
قوله تعالى في تسع آيات قاله الزجاج في من صلة قوله وألق عصاك وأدخل يدك فالتأويل أظهر هاتين الآيتين في تسع آيات وفي بمعنى من فتأويله من تسع آيات تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها فحلان وقد شرحنا الآيات في بني إسرائيل
قوله تعالى إلى فرعون وقومه أي مرسلا إلى فرعون وقومه فحذف ذلك لأنه معروف فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي بينة واضحة وهو كقوله وآتينا ثمود الناقة مبصرة الاسراء وقد شرحناه
قوله تعالى قالوا هذا أي هذا الذي نراه عيانا سحر مبين وجحدوا بها أي أنكروا واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله ظلما أي شركا وعلوا أي تكبرا قال الزجاج المعنى وجحدوا بها ظلما وعلوا أي ترفعا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله (6/158)
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين
قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان علما قال المفسرون علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال وقالا الحمد لله الذي فضلنا بالنبوة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإنس على كثير من عباده المؤمنين قال مقاتل كان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان أعظم ملكا منه وأفطن
قوله تعالى وورث سليمان داود أي ورث نبوته وعلمه وملكه وكان لداود تسعة عشر ذكرا فخص سليمان بذلك ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء
قوله تعالى وقال يعني سليمان لبني إسرائيل يا أيها الناس علمنا منطق الطير قرأ أبي بن كعب علمنا بفتح العين واللام قال الفراء منطق الطير كلام الطير كالمنطق إذا فهم قال الشاعر (6/159)
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما ...
ومعنى الآية فهمنا ما تقول الطير قال قتادة والنمل من الطير وأوتينا من كل شئ قال الزجاج أي من كل شئ يجوز ان يؤتاه الأنبياء والناس وقال مقاتل أعطينا الملك والنبوة والكتاب والرياح ومنطق الطير وسخرت لنا الجن والشياطين
وروى جعفر بن محمد عن أبيه قال أعطي سليمان ملك مشارق الارض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستة أشهر وملك اهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع وأعطي علم كل شئ ومنطق كل شئ وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة فذلك قوله علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ
قوله تعالى إن هذا يعني الذي أعطينا لهو الفضل المبين أي الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا وحشر لسليمان جنوده أي جمع له كل صنف من جنده على حدة وهذا كان في مسير له فهم يوزعون قال مجاهد يحبس أولهم على آخرهم قال ابن قتيبة وأصل الوزع الكف والمنع يقال وزعت الرجل أي كفقته ووازع الجيش الذي يكفهم عن التفرق ويرد من شذ منهم
قوله تعالى حتى إذا أتوا أي أشرفوا على وادي النمل وفي موضعه قولان (6/160)
أحدهما أنه بالطائف قاله كعب والثاني بالشام قاله قتادة
قوله تعالى قالت نملة وقرأ ابو مجلز وأبو رجاء وعاصم الجحدري وطلحة بن مصرف نملة بضم الميم أي صاحت بصوت فلما كان ذلك الصوت مفهوما عبر عنه بالقول ولما نطق النمل كما ينطق بنو آدم أجري مجرى الآدميين فقيل ادخلوا وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان معجزا له وقد ألهم الله النمل كثيرا من مصالحها تزيد به على الحيوانات فمن ذلك أنها تكسر كل حبة تدخرها قطعتين لئلا تنبت إلا الكزبرة فانها تكسرها أربع قطع لأنها تنبت إذا كسرت قطعتين فسبحان من ألهمها هذا
وفي صفة تلك النملة قولان
أحدهما أنها كانت كهيئة النعجة قال نوف الشامي كان النمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب
والثاني كانت نملة صغيرة
ادخلوا مساكنكم وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل وعاصم الجحدري مسكنكم على التوحيد
قوله تعالى لا يحطمنكم الحطم الكسر وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء ليحطمنكم بغير ألف بعد اللام وقرأ ابن مسعود (6/161)
لا يحطمكم بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون وقرأ عمرو بن العاص وأبان يحطمنكم بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضا والطاء خفيفة وقرا أبو المتوكل وأبو مجلز لا يحطمنكم بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعا وقرأ ابن السميفع وابن يعمر وعاصم الجحدري يحطمنكم برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون والحطم الكسر والحطام ما تحطم قال مقاتل سمع سليمان كلامها من ثلاثة اميال
وفي قوله وهم لا يشعرون قولان
أحدهما وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة قاله ابن عباس
والثاني واصحاب سليمان لا يشعرون بمكانكم لانها علمت أنه ملك لا بغي فيه وأنهم لو علموا بالنمل ما توطؤوهم قاله مقاتل
قوله تعالى فتبسم ضاحكا قال الزجاج ضاحكا منصوب حال مؤكدة لأن تبسم بمعنى ضحك قال المفسرون تبسم تعجبا مما قالت وقيل من ثنائها عليه وقال بعض العلماء هذه الآية من عجائب القرآن لأنها بلفظة يا نادت أيها نبهت النمل عينت ادخلوا أمرت مساكنكم نصت لا يحطمنكم حذرت سليمان خصت وجنوده عمت وهم لا يشعرون عذرت
قوله تعالى وقال رب أوزعني قال ابن قتيبة ألهمني أصل الإيزاع الإغراء بالشئ يقال اوزعته بكذا أي أغريته به وهو موزع بكذا ومولع بكذا وقال الزجاج تأويله في اللغة كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك والمعنى كفني عما يباعد منك وأن أعمل أي (6/162)
وألهمني أن أعمل صالحا ترضاه قال المفسرون إنما شكر الله عز و جل لأن الريح أبلغت إليه صوتها ففهم ذلك
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم
قوله تعالى وتفقد الطير التفقد طلب ما غاب عنك والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير والطير اسم جامع للجنس وكانت الطير تصحب سليمان في سفره تظله بأجنحتها فقال ما لي لا ارى الهدهد قرأ ابن كثير وعاصم والكسائي مالي لا أرى الهدهد بفتح الياء وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة بالسكون والمعنى ما للهدهد لا أراه تقول العرب مالي أراك كئيبا أي مالك فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم قال المفسرون لما فصل سليمان عن وادي النمل وقع في قفر من الأرض فعطش الجيش فسألوه الماء وكان الهدهد يدله على الماء فاذا قال له هاهنا الماء شققت الشياطين الصخر وفجرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم وكان الهدهد يرى الماء في الارض كما يرى الماء في الزجاجة فطلبه يومئذ فلم يجده (6/163)
وقال بعضهم إنما طلبه لأن الطير كانت تظلهم من الشمس فأخل الهدهد بمكانه فطلعت الشمس عليهم من الخلل
قوله تعالى أم كان قال الزجاج معناه بل كان
قوله تعالى لاعذبنه عذابا شديدا فيه ستة أقوال
أحدها نتف ريشه قاله ابن عباس والجمهور والثاني نتفه وتشميسه قاله عبد الله بن شداد والثالث شد رجله وتشميسه قاله الضحاك والرابع أن يطليه بالقطران ويشمسه قاله مقاتل بن حيان والخامس ان يودعه القفص والسادس أن يفرق بينه وبين إلفه حكاهما الثعلبي
قوله تعالى أو ليأتيني وقرأ ابن كثير ليأتينني بنونين وكذلك هي في مصاحفهم فأما السلطان فهو الحجة وقيل العذر
وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره قال الهدهد إنه قد اشتغل بالنزول فأرتفع أنا إلى السماء فأنظر إلى طول الدنيا وعرضها فارتفع فرأى بستانا لبلقيس فمال إلى الخضرة فوقع فيه فاذا هو بهدهد قد لقيه فقال من اين أقبلت قال من الشام مع صاحبي سليمان فمن أين أنت قال من هذه البلاد وملكها امرأة يقال لها بلقيس فهل انت منطلق معي حتى ترى ملكها قال اخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة فانطلق معه فنظر إلى بلقيس وملكها فمكث غير بعيد قرأالجمهور بضم الكاف وقرأ عاصم بفتحها وقرأ ابن مسعود فتمكث بزيادة تاء والمعنى لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء فقال سليمان ما الذي أبطأ بك فقال أحطت بما لم تحط به أي علمت شيئا من جميع جهاته مما لم تعلم به وجئتك من سبأ قرأ ابن كثير (6/164)
وأبو عمرو سبأ نصبا غير مصروف وقرأ الباقون خفضا منونا وجاء في الحديث عن رسول الله ص - أن سبأ رجل من العرب وقال قتادة هي ارض باليمن يقال لها مأرب وقال أبو الحسن الأخفش إن شئت صرفت سبأ فجعلته اسم أبيهم أو اسم الحي وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة أو اسم الأرض قال الزجاج وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل وقال آخرون الاسم إذا لم يدر ما هو لم يصرف وكلا القولين خطأ لأن الأسماء حقها الصرف وإذا لم يعلم هل الاسم للمذكر أم للمؤنث فحقه الصرف حتى يعلم أنه لا ينصرف لان أصل الأسماء الصرف وقول الذين قالوا هو اسم رجل غلط لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة ومن صرفه فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي بمذكر
قوله تعالى بنبأ يقين أي بخبر صادق إني وجدت امرأة تملكهم يعني بلقيس وأوتيت من كل شيء قال الزجاج معناه من كل شيء يعطاه الملوك ويؤتاه الناس والعرش سرير الملك قال قتادة كان عرشها من ذهب قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ وكان أحد أبويها من الجن وكان مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابة وقال مجاهد كان قدماها كحافر الحمار وقال ابن السائب لم يكن بقدميها شيء إنما وقع الجن فيها عند سليمان بهذا القول فلما جعل لها الصرح بان له كذبهم قال مقاتل كان ارتفاع عرشها (6/165)
ثمانين ذراعا في عرض ثمانين وكانت أمها من الجن قال ابن جرير وانما صار هذا الخبر عذرا للهدهد لأن سليمان كان لا يرى لاحد في الارض مملكة سواه وكان مع ذلك يحب الجهاد فلما دله الهدهد على مملكة لغيره وعلى قوم كفرة يجاهدهم صار ذلك عذرا له
قوله تعالى ألا يسجدوا قرأ الأكثرون ألا بالتشديد قال الزجاج والمعنى وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا أي فصدهم لئلا يسجدوا وقرأ ابن عباس وابو عبد الرحمن السلمي والحسن والزهري وقتادة وأبو العالية وحميد الأعرج والأعمش وابن أبي عبلة والكسائي ألا يسجدوا مخففة على معنى ألا يا هؤلاء اسجدوا فيكون في الكلام إضمار هؤلاء ويكتفى منها ب يا ويكون الوقف ألا يا والابتداء اسجدوا قال الفراء فعلى هذه القراءة هي سجدة وعلى قراءة من شدد لا ينبغي لها أن تكون سجدة وقال أبو عبيدة هذا أمر من الله مستأنف يعني ألا يا أيها الناس اسجدوا وقرأ ابن مسعود وأبي هلا يسجدوا بهاء
قوله تعالى الذي يخرج الخبء في السموات والأرض قال ابن قتيبة أي المستتر فيهما وهو من خبأت الشيء إذا أخفيته ويقال خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات وقال الزجاج كل ما خبأته فهو خبء فالخبء كل ما غاب فالمعنى يعلم الغيب في السموات والأرض وقال ابن جرير في بمعنى من فتقديره يخرج الخبء من السموات
قوله تعالى ويعلم ما تخفون وما تعلنون قرأ حفص عن عاصم والكسائي بالتاء فيهما وقرأ الباقون بالياء قال ابن زيد من قوله أحطت إلى قوله العظيم كلام الهدهد وقرأ الضحاك وابن محيصن العظيم برفع الميم (6/166)
قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الموءا إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين
فلما فرغ الهدهد من كلامه قال سننظر فيما أخبرتنا به أصدقت فيما قلت أم كنت من الكاذبين وانما شك في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان ثم كتب كتابا وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد وقال اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي فألقهي موصولة بياء وقرأ أبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وحمزة فألقه بسكون الهاء وروى قالون عن نافع كسر الهاء من غير إشباع ويعني إلى أهل سبأ ثم تول عنهم فيه قولان
أحدهما أعرض والثاني انصرف فانظر ماذا يرجعون أي ماذا يردون من الجواب
فان قيل إذا تولى عنهم فكيف يعلم جوابهم فعنه جوابان
أحدهما أن المعنى ثم تول عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ماذا يردون من الجواب وهذا قول وهب بن منبه
والثاني أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم وهذا مذهب ابن زيد
قال قتادة أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها وقال مقاتل حمله في منقاره حتى وقف على رأس المرأة فرفرف ساعة (6/167)
والناس ينظرون فرفعت رأسها فألقي الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود
واختلفوا لأي علة سمته كريما على سبعة أقوال
أحدها لأنه كان مختوما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني لانها ظنته من عند الله عز و جل روي عن ابن عباس أيضا والثالث أن معنى قولها كريم حسن ما فيه قاله قتادة والزجاج والرابع لكرم صاحبه فانه كان ملكا ذكره ابن جرير والخامس لانه كان مهيبا ذكره أبو سليمان الدمشقي والسادس لتسخير الهدهد لحمله حكاه الماوردي السابع لأنها رأت في صدره بسم الله الرحمن الرحيم حكاه الثعلبي
قوله تعالى إنه من سليمان أي إن الكتاب من عنده وإنه أي وإن المكتوب بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي أي لا تتكبروا وقرأ ابن عباس تغلوا بغين معجمة وأتوني مسلمين أي منقادين طائعين ثم استشارت قومها ف قالت يا أيها الملا يعني الاشراف وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا كل رجل منهم على عشرة آلاف وقال ابن عباس كان معها مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف وقيل كانت جنودها ألف ألف ومائتي الف
قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن اولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية (6/168)
أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون
قوله تعالى أفتوني في أمري أي بينوا لي ما أفعل وأشيروا علي قال الفراء جعلت المشورة فتيا وذلك جائز لسعة اللغة
قوله تعالى ما كنت قاطعة أمرا أي فاعلته حتى تشهدون أي تحضرون والمعنى إلا بحضوركم ومشورتكم
قالوا نحن أولوا قوة فيه قولان
أحدهما أنهم أرادوا القوة في الأبدان والثاني كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب
وفيما أرادوا بذلك القول قولان أحدهما تفويض الأمر إلى رأيها والثاني تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم
ثم قالوا والأمر إليك أي في القتال وتركه قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية قال الزجاج المعنى إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة
قوله تعالى أفسدوها أي خربوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر ومعنى الكلام أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادها
قوله تعالى وكذلك يفعلون فيه قولان
أحدهما أنه من تصديق الله تعالى لقولها قاله الزجاج
والثاني من تمام كلامها والمعنى وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إذا دخلوا بلادنا حكاه الماوردي (6/169)
قوله تعالى وإني مرسلة إليهم بهدية قال ابن عباس إنما أرسلت الهدية لتعلم أنه إن كان نبيا لم يرد الدنيا وإن كان ملكا فسيرضى بالحمل وأنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل لبنة مائة رطل وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى ثم كتبت إليه إني قد بعثت إليك بهدية فاقبلها وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر فأدخل فيها خيطا واختم على طرفي الخيط بخاتمك وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة فميز بين الجواري والغلمان فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه فقال له انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لبنا من الذهب فانطلق فبعث الشياطين فقطعوا اللبن من الجبال وطلوه بالذهب وفرشوه ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر فلما جاء الرسل قال بعضهم لبعض كيف تدخلون على هذا الرجل بثلاث لبنات وعنده ما رأيتم فقال رئيسهم إنما نحن رسل فدخلوا عليه فوضعوا اللبن بين يديه فقال أتمدونني بمال ثم دعا ذرة فربط فيها خيطا وأدخلها في ثقب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إليهم ثم ميز بين الغلمان والجواري هذا كله مروي عن ابن عباس وقال مجاهد جعلت لباس الغلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان فميزهم ولم يقبل هديتها (6/170)
وفي عدد الوصائف والوصفاء خمسة أقوال
أحدها ثلاثون وصيفا وثلاثون وصيفة وقد ذكرناه عن ابن عباس والثاني خمسمائة غلام و
خمسمائة جارية قاله وهب والثالث مائتا غلام ومائتا جارية قاله مجاهد والرابع عشرة غلمان وعشر جوار قاله ابن السائب والخامس مائة وصيف ومائة وصيفة قاله مقاتل
وفي ما ميزهم به ثلاثة أقوال
أحدها أنه أمرهم بالوضوء فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفه وبدأت الجارية من كفها إلى مرفقها فميزهم بذلك قاله سعيد بن جبير
والثاني أن الغلمان بدؤوا بغسل ظهور السواعد قبل بطونها والجواري على عكس ذلك قاله قتادة
والثالث أن الغلام اغترف بيده والجارية أفرغت على يدها قاله السدي وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري ان يكلمن سليمان بكلام الرجال وأمرت الرجال أن يكلموه كلام النساء وأرسلت قدحا تسأله أن يملأها ماء ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض فأجرى الخيل وملأه من عرقها
قوله تعالى فناظرة بم يرجع المرسلون أي بقبول أم برد قال ابن جرير وأصل بم بما وإنما أسقطت الألف لأن العرب إذا كانت ما بمعنى أي ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام والخبر كقوله عم يتساءلون النبأ وقالوا فيم كنتم النساء وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر (6/171)
على ما قام يشتمنا لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد ...
فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم
قوله تعالى فلما جاء سليمان قال الزجاج لما جاء رسولها ويجوز فلما جاء برها
قوله تعالى أتمدونني بمال قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو أتمدونني بنونين وياء في الوصل وروى المسيبي عن نافع أتمدوني بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي أتمدونن بغير ياء في الوصل والوقف وقرأ حمزة أتمدوني بمال بنون واحدة مشددة ووقف على الياء
قوله تعالى فما آتاني الله قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم فما آتان الله بكسر النون من غير ياء وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص عن عاصم آتاني بفتح الياء وكلهم (6/172)
فتحوا التاء غير الكسائي فانه أمالها من آتاني الله وأمال حمزة أنا آتيك به أشم النون شيئا من الكسر والمعنى فما آتاني الله أي من النبوة والملك خير مما آتاكم من المال بل أنتم بهديتكم تفرحون يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرح فأما أنا فلا ثم قال للرسول إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل أي لا طاقة لهم بها ولنخرجنهم منها يعني بلدتهم فلما رجعت رسلها إليها بالخبر قالت قد علمت أنه ليس بملك وما لنا به طاقة فبعثت إليه إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إليه ثم أمرت بعرشها فجعل وراء سبعة أبواب ووكلت به حرسا يحفظونه وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك تحت يدي كل ملك منهم ألوف وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشئ حتى يسأل عنه فجلس يوما على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه فقال ما هذا قالوا بلقيس قد نزلت بهذا المكان وكان قدر فرسخ وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها ف قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها وفي سبب طلبه له خمسة أقوال
أحدها ليعلم صدق الهدهد قاله ابن عباس
والثاني ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوته لأنها خلفته في دارها واحتاطت عليه فوجدته قد تقدمها قاله وهب بن منبه
والثالث ليختبر عقلها وفطنتها أتعرفه أم تنكره قاله سعيد بن جبير
والرابع لأن صفته أعجبته فخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها فأراد أخذه قبل ذلك قاله قتادة
والخامس ليريها قدرة الله تعالى وعظم سلطانه حكاه الثعلبي (6/173)
قوله تعالى قال عفريت من الجن قال أبو عبيدة العفريت من كل جن أو إنس الفائق المبالغ الرئيس وقال ابن قتيبة العفريت الشديد الوثيق وقال الزجاج العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء
وقرأ أبي بن كعب والضحاك وأبو العالية وابن يعمر وعاصم الجحدري قال عفريت بفتح العين وكسر الراء وروى ابن ابي شريح عن الكسائي عفرية بفتح الياء وتخفيفها وروي عنه أيضا تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث وقرأ ابن مسعود وابن السميفع عفراة بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء
قوله تعالى قبل أن تقوم من مقامك أي من مجلسك ومثله في مقام أمين الدخان وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إلى طلوع الشمس وقيل إلى نصف النهار وإني عليه أي على حمله لقوي
وفي قوله أمين قولان
أحدهما أمين على ما فيه من الجوهر والدر وغير ذلك قاله ابن السائب
والثاني أمين ان لا آتيك بغيره بدلا منه قاله ابن زيد
قال سليمان أريد اسرع من ذلك قال الذي عنده علم من الكتاب وهل هو إنسي أم ملك فيه قولان
أحدهما إنسي قاله ابن عباس والضحاك وأبو صالح ثم فيه أربعة أقوال أحدها أنه رجل من بني إسرائيل واسمه آصف بن برخيا قاله مقاتل قال ابن عباس دعا آصف وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يخدون الأرض خدا حتى انخرقت (6/174)
الأرض بالسرير بين يدي سليمان والثاني أنه سليمان عليه السلام وإنما قال له رجل انا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فقال هات قال انت النبي ابن النبي فان دعوت الله جاءك فدعا الله فجاءه قاله محمد بن المكندر والثالث أنه الخضر قاله ابن لهيعة والرابع انه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأتي بالعرش قاله ابن زيد والقول الثاني أنه من الملائكة قولان
أحدهما أنه جبريل عليه السلام والثاني ملك من الملائكة أيد الله به سليمان حكاهما الثعلبي
وفي العلم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال
أحدها أنه اسم الله الأعظم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور
والثاني أنه علم كتاب سليمان إلى بلقيس
والثالث أنه علم ما كتب الله لبني آدم وهذا على أنه ملك حكى القولين الماوردي
وفي قوله قبل أن يرتد إليك طرفك أربعة أقوال
أحدها قبل أن يأتيك أقصى ما تنظر إليه قاله سعيد بن جبير
والثاني قبل أن ينتهي طرفك إذا مددته إلى مداه قاله وهب
والثالث قبل أن يرتد طرفك حسيرا إذا أمدت النظر قاله مجاهد
والرابع بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف قاله الزجاج قال مجاهد دعا فقال ياذا الجلال والاكرام وقال ابن السائب إنما قال ياحي ياقيوم
قوله تعالى فلما رآه في الكلام محذوف تقديره فدعا الله فاتي (6/175)
به فلما رآه يعني سليمان مستقرا عنده أي ثابتا بين يديه قال هذا يعني التمكن من حصول المراد
قوله تعالى أأشكر أم أكفر فيه قولان أحدهما أأشكر على السرير إذ أتيت به أم أكفر إذا رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني قاله ابن عباس
و الثاني أأشكر ذلك من فضل الله علي أم أكفر نعمته بترك الشكر له قاله ابن جرير
قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لايهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمن لله رب العالمين
قوله تعالى قال نكروا لها عرشها قال المفسرون خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتفشي إليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية فلا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده فأساؤوا الثناء عليها وقالوا إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح قال ابن قتيبة ومعنى نكروا غيروا يقال نكرت الشئ فتنكر أي غيرته فتغير (6/176)
وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال
أحدها أنه زيد فيه ونقص منه رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب والياقوت مكان الزبرجد والدر مكان اللؤلؤ وقائمتي الزبرجد مكان قائمتي الياقوت قاله ابن عباس أيضا
والثالث أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره روي عن ابن عباس أيضا
والرابع أنهم جعلوا ما كان منه أحمر أخضر وما كان أخضر أحمر قاله مجاهد
والخامس أنهم جعلوا أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا منه قاله قتادة
والسادس أنهم جعلوا فيه تماثيل السمك قاله أبو صالح
وفي قوله كأنه هو قولان
أحدهما أنها لما رأته جعلت تعرف وتنكر ثم قالت في نفسها من أين يخلص إلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله ثم قالت كأنه هو قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال قتادة شبهته بعرشها وقال السدي وجدت فيه ما تعرفه فلم تنكر ووجدت فيه ما تنكره فلم تثبت فلذلك قالت كأنه هو
والثاني أنها عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها فلو أنهم قالوا هذا عرشك لقالت نعم قاله مقاتل قال المفسرون فقيل لها فانه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الابواب
وفي قوله وأوتينا العلم ثلاثة أقوال (6/177)
أحدها أنه قول سليمان قاله مجاهد ثم في معناه قولان أحدهما وأوتينا العلم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة والثاني أوتينا العلم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين لله
والقول الثاني انه من قول بلقيس فانها لما رأت عرشها قالت قد عرفت هذه الآية وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة تعني أمر الهدهد والرسل التي بعثت من قبل هذه الآية وكنا مسلمين منقادين لأمرك قبل أن نجئ
والثالث أنه من قول قوم سليمان حكاه الماوردي
قوله تعالى وصدها ما كانت تعبد من دون الله قال الفراء معنى الكلام هي عاقلة إنما صدها عن عبادة الله عبادتها الشمس والقمر وكان عادة من دين آبائها والمعنى وصدها أن تعبد الله ما كانت تعبد قال وقد قيل صدها سليمان أي منعها ما كانت تعبد قال الزجاج المعنى صدها عن الإيمان العادة التي كانت عليها لأنها نشأت ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس وبين عبادتها بقوله إنها كانت من قوم كافرين وقرأ سعيد بن جبير وابن ابي عبلة أنها كانت بفتح الهمزة
قوله تعالى قيل لها ادخلي الصرح قال المفسرون أمر الشياطين فبنوا له صرحا كهيئة السطح من زجاج
وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال
أحدها أنه أراد ان يريها ملكا هو اعز من ملكها قاله وهب بن منبه
والثاني انه اراد ان ينظر إلى قدمها من غير ان يسألها كشفها لأنه (6/178)
قيل له إن رجلها كحافر الحمار فامر ان يهيأ لها بيت من قوارير فوق الماء ووضع سرير سليمان في صدر البيت هذا قول محمد بن كعب القرظي
والثالث أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء ذكره ابن جرير فأما الصرح فقال ابن قتيبة هو القصر وجمعه صروح ومنه قول الهذلي
... على طرق كنحور الركا ... ب تحسب أعلامهن الصروحا ...
قال ويقال الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير وجعل تحتها ماء وسمك قال مجاهد كانت بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير وقال مقاتل كان قصرا من قوارير بني على الماء وتحته السمك
قوله تعالى حسبته لجة وهي معظم الماء وكشفت عن ساقيها لدخول الماء فناداها سليمان إنه صرح ممرد أي مملس من قوارير أي من زجاج فعلمت حينئذ أن ملك سليمان من الله تعالى ف قالت رب إني ظلمت نفسي أي بعبادة غيرك وقيل ظنت في سليمان أنه يريد تفريقها في الماء فلما علمت أنه صرح ممرد قالت رب (6/179)
إني ظلمت نفسي بذلك الظن وأسلمت مع سليمان ثم تزوجها سليمان وقيل إنه ردها إلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وأنها ولدت منه وقيل إنه زوجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ان اعبدوا الله فاذا هم فريقان يختصمون قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون
قوله تعالى فاذا هم فريقان أي مؤمن وكافر يختصمون وفيه قولان أحدهما أنه قولهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه الآيات الأعراف
والثاني أنه قول كل فريق منهم الحق معي
قوله تعالى لم تستعجلون بالسيئة وذلك حين قالوا إن كان ما أتيتنا به حقا فائتنا بالعذاب وفي السيئة والحسنة قولان
أحدهما أن السيئة العذاب والحسنة الرحمة قاله مجاهد
والثاني أن السيئة البلاء والحسنة العافية قاله السدي
قوله تعالى لولا أي هلا تستغفرون الله من الشرك لعلكم ترحمون فلا تعذبون قالوا اطيرنا قال ابن قتيبة المعنى تطيرنا وتشاءمنا بك فأدغمت التاء في الطاء وأثبتت الألف ليسلم السكون (6/180)
لما بعدها وقال الزجاج الأصل تطيرنا فأدغمت التاء في الطاء واجتلبت الألف لسكون الطاء فاذا ابتدأت قلت اطيرنا وإذا وصلت لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألف وصل وإنما تطيروا به لأنهم قحطوا وجاعوا ف قال لهم طائركم عند الله وقد شرحنا هذا المعنى في الاعراف
وفي قوله تفتنون ثلاثة أقوال
أحدها تختبرون بالخير والشر قاله ابن عباس والثاني تصرفون عن دينكم قاله الحسن والثالث تبتلون بالطاعة والمعصية قاله قتادة
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون
قوله تعالى وكان في المدينة وهي الحجر التي نزلها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض يريد في أرض الحجر وفسادهم كفرهم ومعاصيهم وكانوا يسفكون الدماء ويثبتون على الأموال والفروج وهم الذين عملوا في قتل الناقة وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير قالوا فيما بينهم تقاسموا بالله أي احلفوا بالله لنبيتنه أي لنقتلن صالحا وأهله ليلا ثم لنقولن وقرأ حمزة والكسائي لتبيتنه وأهله ثم لتقولن بالتاء فيهما وقرأ مجاهد (6/181)
وأبو رجاء وحميد بن قيس ليبيتنه بياء وتاء مرفوعتين ثم ليقولن بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة لوليه أي لولي دمه إن سألنا عنه ما شهدنا أي ما حضرنا مهلك أهله قرأ الاكثرون بضم الميم وفتح اللام والمهلك يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك ويجوز ان يكون الموضع وروى ابو بكر وأبان عن عاصم بفتح الميم واللام يريد الهلاك يقال هلك يهلك مهلكا وروى عنه حفص والمفضل بفتح الميم وكسر اللام وهو اسم المكان على معنى ما شهدنا موضع هلاكهم فهذا كان مكرهم فجازاهم الله عليه فأهلكهم
وفي صفة إهلاكهم أربعة أقوال
أحدها أنهم أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم قاله ابن عباس
والثاني رماهم الله بصخرة فقتلتهم قاله قتادة
والثالث أنهم دخلوا غارا ينتظرون مجئ صالح فبعث الله صخرة سدت باب الغار قاله ابن زيد
والرابع أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح فجثم عليهم الجبل فأهلكهم قاله مقاتل
قوله تعالى أنا دمرناهم قرأ عاصم وحمزة والكسائي أنا دمرناهم بفتح الألف وقرأ بكسرها فمن كسر استأنف ومن فتح فقال أبو علي فيه وجهان
أحدهما أن يكون بدلا من عاقبة مكرهم (6/182)
والثاني ان يكون محمولا على مبتدأ مضمر كأنه قال هو أنا دمرناهم
قوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية قال الزجاج هي منصوبة على الحال المعنى فانظر إلى بيوتهم خاوية
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين
قوله تعالى أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون فيه قولان
أحدهما وأنتم تعلمون أنها فاحشة والثاني وبعضكم يبصر بعضا
قوله تعالى بل أنتم قوم تجهلون قال ابن عباس تجهلون القيامة وعاقبة العصيان
قوله تعالى قدرناها من الغابرين أي جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب وقرأ أبو بكر عن عاصم قدرناها خفيفة وهي في معنى المشددة وباقي القصة قد تقدم تفسيره هود
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض (6/183)
قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ءإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى قل الحمد لله هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أن يحمد الله على هلاك الأمم الكافرة وقيل على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى فيهم أربعة أقوال
أحدها الرسل رواه أبو صالح عن ابن عباس وروى عنه عكرمة قال اصطفى إبراهيم بالخلة وموسى بالكلام ومحمدا بالرؤية (6/184)
والثاني أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم رواه أبو مالك عن ابن عباس وبه قال السدي
والثالث أنهم الذين وحدوه وآمنوا به رواه عطاء عن ابن عباس
والرابع أنه محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن السائب
قوله تعالى الله خير أما يشركون قال ابو عبيدة مجازه أو ما يشركون وهذا خطاب للمشركين والمعنى الله خير لمن عبده أم الأصنام لعابديها ومعنى الكلام أنه لما قص عليهم قصص الأمم الخالية أخبرهم أنه نجى عابديه ولم تغن الأصنام عنهم
قوله تعالى أمن خلق السماوات تقديره أما يشركون خير أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة فأما الحدائق فقال ابن قتيبة هي البساتين واحدها حديقة سميت بذلك لأنه يحدق عليها أي يحظر والبهجة الحسن
قوله تعالى ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أي ما ينبغي لكم ذلك لأنكم لا تقدرون عليه ثم قال مستفهما منكرا عليهم أإله مع الله أي ليس معه (6/185)
إله بل هم يعني كفار مكة قوم يعدلون وقد شرحناه في فاتحة الأنعام أمن جعل الارض قرارا أي مستقرا لا تميد بأهلها وجعل خلالها أي فيما بينها أنهارا وجعل لها رواسي أي جبالا ثوابت وجعل بين البحرين حاجزا أي مانعا من قدرته بين العذاب والملح ان يختلطا بل أكثرهم لا يعلمون قدر عظمة الله
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض ءإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ءإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادراك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون وقال الذين كفروا ءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى ان يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن (6/186)
صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين
قوله تعالى أمن يجيب المضطر وهو المكروب المجهود ويكشف السوء يعني الضر ويجعلكم خلفاء الارض أي يهلك قرنا وينشئ آخرين وتذكرون بمعنى تتعظون وقرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء أمن يهديكم أي يرشدكم إلى مقاصدكم إذا سافرتم في ظلمات البر والبحر وقد بيناها في الأنعام وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى الأعراف ويونس إلى قوله وما يشعرون يعني من في السماوات والأرض أيان يبعثون أي متى يبعثون بعد موتهم (6/187)
قوله تعالى بل أدرك علمهم في الآخرة قرأ ابن كثير وأبو عمرو بل أدرك قال مجاهد بل بمعنى أم والمعنى لم يدرك علمهم وقال الفراء المعنى هل ادرك علمهم علم الآخرة فعلى هذا يكون المعنى إنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العلم بالآخرة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بل ادارك على معنى بل تدارك أي تتابع وتلاحق فأدغمت التاء في الدال ثم في معناها قولان
أحدهما بل تكامل علمهم يوم القيامة لانهم مبعوثون قاله الزجاج وقال ابن عباس ما جهلوه في الدنيا علموه في الآخرة
والثاني بل تدارك ظنهم وحدسهم في الحكم على الآخرة فتارة يقولون إنها كائنة وتارة يقولون لا تكون قاله ابن قتيبة وروى أبو بكر عن عاصم بل ادرك على وزن افتعل من ادركت
قوله تعالى بل هم في شك منها أي بل هم اليوم في شك من القيامة بل هم منها عمون قال ابن قتيبة أي من علمها وما بعد هذا قد سبق بيانه النحل المؤمنون إلى قوله متى هذا الوعد يعنون العذاب الذي تعدنا قل عسى أن يكون ردف لكم قال ابن عباس قرب لكم وقال ابن قتيبة تبعكم واللام زائدة كأنه قال ردفكم
وفي ما تبعهم مما استعجلوه قولان
أحدهما يوم بدر والثاني عذاب القبر
قوله تعالى وإن ربك لذو فضل على الناس قال مقاتل على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب
قوله تعالى وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم أي ما تخفيه (6/188)
وما يعلنون بألسنتهم من عداوتك وخلافك والمعنى أنه يجازيهم عليه وما من غائبة أي وما من جملة غائبة إلا في كتاب يعني اللوح المحفوظ والمعنى إن علم ما يستعجلونه من العذاب بين عند الله وإن غاب عن الخلق
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل وذلك أن اهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه فلو أخذوا به لسلموا إن ربك يقضي بينهم يعني بين بني إسرائيل بحكمه وقرأ أبو المتوكل وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري بحكمه بكسر الحاء وفتح الكاف
قوله تعالى إنك لا تسمع الموتى قال المفسرون هذا مثل ضربه الله للكفار فشبههم بالموتى
قوله تعالى ولا تسمع الصم الدعاء وقرأ ابن كثير ولا يسمع الصم بفتح ميم يسمع وضم ميم الصم
قوله تعالى إذا ولوا مدبرين أي أن الصم إذا أدبروا عنك ثم (6/189)
ناديتهم لم يسمعوا فكذلك الكافر وما أنت بهاد العمي أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى إن تسمع إسماع إفهام إلا من يؤمن بآياتنا
قوله تعالى وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض وقع بمعنى وجب
وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال
أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني الغضب قاله قتادة والثالث الحجة قاله ابن قتيبة ومتى ذلك فيه قولان
أحدهما إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر قاله ابن عمر وأبو سعيد الخدري
والثاني إذا لم يرج صلاحهم حكاه أبو سليمان الدمشقي وهو معنى قول أبي العالية والإشارة بقوله عليهم إلى الكفار الذين تخرج الدابة عليهم
وللمفسرين في صفة الدابة اربعة أقوال
أحدها أنها ذات وبر وريش رواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن عباس ذات زغب وريش لها اربع قوائم
والثاني أن رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا رواه ابن جريج عن ابي الزبير (6/190)
والثالث أن وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير قاله وهب
والرابع أن لها أربع قوائم وزغبا وريشا وجناحين قاله مقاتل
وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال
أحدها من الصفا روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال طولها ستون ذراعا وكذلك قال ابن مسعود تخرج من الصفا وقال ابن عمر تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها وقال عبد الله بن عمر تخرج الدابة فيمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا
والثاني أنها تخرج من شعب أجياد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن ابن عمر مثله
والثالث تخرج من بعض أودية تهامة قاله ابن عباس
والرابع من بحر سدوم قاله وهب بن منبه (6/191)
والخامس أنها تخرج بتهامة بين الصفا والمروة حكاه الزجاج وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تخرج الدابة معها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم حتى إن أهل البيت ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر وتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين وقال حذيفة بن أسيد إن للدابة ثلاث خرجات خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم فبينما الناس عند أشرف المساجد يعني المسجد الحرام إذ ارتفعت الأرض فانطلق الناس هرابا فلا يفوتونها حتى إنها لتأتي الرجل وهو يصلي فنقول أتتعوذ بالصلاة والله ما كنت من أهل الصلاة فتخطمه وتجلو وجه المؤمن وقال عبد الله بن عمرو (6/192)
إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء فتفشو في وجهه فيسود وجهه وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجهه حتى يبيض وجهه فيعرف الناس المؤمن والكافر ولكأني بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج
قوله تعالى تكلمهم قرأ الأكثرون بتشديد اللام فهو من الكلام
وفيما تكلمهم به ثلاثة أقوال
أحدها أنها تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قاله قتادة
والثاني تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الاسلام قاله السدي
والثالث تقول هذا مؤمن وهذا كافر حكاه الماوردي
وقرأ ابن ابي عبلة والجحدري بتسكين الكاف وكسر اللام وفتح التاء فهو من الكلم قال ثعلب والمعنى تجرحهم وسئل ابن عباس عن القراءتين فقال كل ذلك والله تفعله تكلم المؤمن وتكلم الفاجر والكافر أي تجرحه
قوله تعالى أن الناس قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة وكسرها الباقون فمن فتح أراد تكلمهم بأن الناس وهكذا قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني تكلمهم بأن الناس بزيادة باء مع فتح الهمزة ومن كسر فلأن معنى تكلمهم تقول لهم إن الناس والكلام قول (6/193)
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
قوله تعالى ويوم نحشر من كل أمة فوجا الفوج الجماعة من الناس كالزمرة والمراد به الرؤساء والمتبوعون في الكفر حشروا وأقيمت الحجة عليهم وقد سبق معنى يوزعون النمل حتى إذا جاؤوا إلى موقف الحساب قال الله تعالى لهم أكذبتم بآياتي هذا استفهام إنكار عليهم ووعيد لهم ولم تحيطوا بها علما فيه قولان
أحدهما لم تعرفوها حق معرفتها
والثاني لم تحيطوا علما ببطلانها والمعنى إنكم لم تتفكروا في صحتها
أم ماذا كنتم تعملون في الدنيا فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه
قوله تعالى ووقع القول عليهم قد شرحناه آنفا النمل بما ظلموا أي بما أشركوا فهم لا ينطقون بحجة عن أنفسهم ثم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه ومعنى قوله والنهار مبصرا أي يبصر فيه لابتغاء الرزق
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل (6/194)
شئ إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
قوله تعالى ويوم ينفخ في الصور قال ابن عباس هذه النفخة الأولى
قوله تعالى ففزع من في السماوات ومن في الارض قال المفسرون المعنى فيفزع من في السماوات ومن في الارض والمراد أنهم ماتوا بلغ بهم الفزع إلى الموت
وفي قوله إلا من شاء الله ثلاثة اقوال
أحدها أنهم الشهداء قاله أبو هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير
والثاني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم إن الله تعالى يميتهم بعد ذلك قاله مقاتل
والثالث أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن وكذلك من في النار لأنهم خلقوا للبقاء ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا من أصحابنا
قوله تعالى وكل أي من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا آتوه وقرأ حمزة وحفص عن عاصم أتوه بفتح التاء مقصورة أي يأتون الله يوم القيامة داخرين قال ابن عباس ومجاهد وقتادة صاغرين قال أبو عبيدة كل لفظه لفظ الواحد ومعناه يقع على الجميع فهذه الآية في موضع جمع
قوله تعالى وترى الجبال قال ابن قتيبة هذا يكون إذا نفخ في الصور تجمع الجبال وتسير فهي لكثرتها تحسب جامدة أي واقفة (6/195)
وهي تمر أي تسير سير السحاب وكذلك كل جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفا وهو يسير لكثرته قال الجعدي يصف جيشا
... بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج ...
قوله تعالى صنع الله قال الزجاج هو منصوب على المصدر لأن قوله وترى الجبال تحسبها جامدة دليل على الصنعة فكأنه قال صنع الله ذلك صنعا ويجوز الرفع على معنى ذلك صنع الله فأما الإتقان فهو في اللغة إحكام الشئ
قوله تعالى إنه خبير بما تفعلون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر يفعلون بالياء وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء
قوله تعالى من جاء بالحسنة قد شرحنا الحسنة والسيئة في آخر الأنعام
قوله تعالى فله خير منها فيه قولان
أحدهما فله خير منها يصل إليه وهو الثواب قاله ابن عباس والحسن وعكرمة
والثاني فله أفضل منها لأنه يأتي بحسنة فيعطى عشر أمثالها قاله زيد ابن أسلم
قوله تعالى وهم من فزع يومئذ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر من فزع يومئذ مضافا وقرأ عاصم وحمزة والكسائي من فزع بالتنوين يومئذ بفتح الميم وقال الفراء الإضافة أعجب (6/196)
إلي في العربية لأنه فزع معلوم ألا ترى إلى قوله لا يحزنهم الفزع الأكبر الانبياء فصيره معرفة فاذا أضفت مكان المعرفة كان أحب إلي واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال هي أعم التأويلين فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم قال أبو علي الفارسي إذا نون جاز أن يعنى به فزع واحد وجاز أن يعنى به الكثرة لأنه مصدر والمصادر تدل على الكثرة وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لقمان وكذلك إذا أضيف جاز أن يعنى به فزع واحد وجاز أن يعنى به الكثرة وعلى هذا القول القراءتان سواء فان اريد به الكثرة فهو شامل لكل فزع يكون يوم القيامة وإن أريد به الواحد فهو المشار إليه بقوله لا يحزنهم الفزع الأكبر الأنبياء وقال ابن السائب إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع
قوله تعالى ومن جاء بالسيئة قال المفسرون هي الشرك فكبت وجوههم يقال كببت الرجل إذا ألقيته لوجهه وتقول لهم خزنة جهنم هل تجزون إلا ما كنتم تعملون أي إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (6/197)
قوله تعالى إنما أمرت المعنى قل للمشركين إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني التي حرمها وهي مكة وتحريمها تعظيم حرمتها بالمنع من القتل فيها والسبي والكف عن صيدها وشجرها وله كل شئ لأنه خالقه ومالكه وأمرت أن أكون من المسلمين أي من المخلصين لله بالتوحيد وأن أتلو القرآن عليكم فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه أي فله ثواب اهتدائه ومن ضل أي أخطأ طريق الهدى فقل إنما أنا من المنذرين أي ليس علي إلا البلاغ وذكر المفسرون أن هذا منسوخ بآية السيف وقل الحمد لله أي قل لمن ضل الحمد لله الذي وفقنا لقبول ما امتنعتم منه سيريكم آياته
ومتى يريهم فيه قولان
أحدهما في الدنيا ثم فيها ثلاثة أقوال أحدها أن منها الدخان وانشقاق القمر وقد أراهم ذلك رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني سيريكم آياته فتعرفونها في السماء وفي أنفسكم وفي الرزق قاله مجاهد والثالث القتل ببدر قاله مقاتل
والثاني سيريكم آياته في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا قاله الحسن (6/198)
قوله تعالى وما ربك بغافل عما تعملون وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم تعلمون بالتاء على معنى قل لهم وقرأ الباقون بالياء على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم (6/199)
سورة القصص
وهي مكية كلها غير آية منها وهي قوله إن الذي فرض عليك القرآن القصص فانها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة هذا قول ابن عباس وروي عن الحسن وعطاء وعكرمة أنها مكية كلها وزعم مقاتل أن فيها من المدني الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون القصص إلى قوله لا نبتغي الجاهلين القصص وفيها آية ليست بمكية ولا مدنية وهي قوله إن الذي فرض عليك القرآن القصص نزلت بالجحفة
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6/200)
قوله تعالى طسم قد سبق تفسيره الشعراء
قوله تعالى إن فرعون علا في الارض أي طغى وتجبر في ارض مصر وجعل أهلها شيعا أي فرقا وأصنافا في خدمته يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل واستضعافه إياهم استعبادهم إنه كان من المفسدين بالقتل والعمل بالمعاصي يذبح أبناءهم وقرأ أبو رزين والزهري وابن محيصن وابن ابي عبلة يذبح بفتح الياء وسكون الذال خفيفة
قوله تعالى ونريد أن نمن أي ننعم على الذين استضعفوا وهم بنو إسرائيل ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير وقال قتادة ولاة وملوكا ونجعلهم الوارثين لملك فرعون بعد غرقه
قوله تعالى ونري فرعون وهامان وجنودهما وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويرى بياء مفتوحة وإمالة الالف التي بعد الراء فرعون وهامان وجنودهما بالرفع ومعنى الآية أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل منهم فأراهم الله ما كانوا يحذرون
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون
قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه إلهام قاله ابن عباس والثاني أن جبريل أتاها بذلك (6/201)
قاله مقاتل والثالث أنه كان رؤيا منام حكاه الماوردي قال مقاتل واسم أم موسى يوخابذ
قوله تعالى أن أرضعيه قال المفسرون كانت امرأة من القوابل مصافية لأم موسى فلما وضعته تولت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب فلفت موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو مسجر فدخلوا ثم خرجوا فقال لأخته أين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاءه من التنور فاطلعت وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر وقيل أربعة أشهر فلما خافت عليه صنعت له التابوت
وفي قوله فاذا خفت عليه قولان
أحدهما إذا خفت عليه القتل قاله مقاتل
والثاني إذا خفت عليه أن يصيح أو يبكي فيسمع صوته قاله ابن السائب
وفي قوله ولا تخافي قولان (6/202)
أحدهما أن يغرق قاله ابن السائب والثاني أن يضيع قاله مقاتل
وقال الأصمعي قلت لأعرابية ما أفصحك فقالت أو بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين
قوله تعالى فالتقطه آل فرعون الالتقاط إصابة الشئ من غير طلب والمراد بآل فرعون الذين تولوا أخذ التابوت من البحر
وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال
أحدها جواري امرأة فرعون قاله السدي والثاني ابنة فرعون قاله محمد بن قيس والثالث أعوان فرعون قاله ابن إسحاق
قوله تعالى ليكون لهم عدوا أي ليصير بهم الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا وهذه اللام تسمى لام العاقبة وقد شرحناه في يونس
وللمفسرين في معنى الكلام قولان
أحدهما ليكون لهم عدوا في دينهم وحزنا لما يصنعه بهم
والثاني عدو لرجالهم وحزنا على نسائهم فقتل الرجال بالغرق واستعبد النساء وقالت امرأة فرعون وهي آسية بنت مزاحم وكانت من بني إسرائيل تزوجها فرعون قرة عين قال الزجاج رفع قرة عين على إضمار هو قال المفسرون كان فرعون لا يولد إلا البنات فقالت عسى (6/203)
أن ينفعنا فنصيب منه خيرا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون فيه أربعة أقوال
أحدها لا يشعرون أنه عدو لهم قاله مجاهد والثاني أن هلاكهم على يديه قاله قتادة والثالث لا يشعر بنو إسرائيل أنا التقطناه قاله محمد ابن قيس والرابع لا يشعرون أني أفعل ما أريد لا ما يريدون قاله محمد ابن إسحاق
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى وأصبح فؤاد أم موسى فارغا فيه أربعة أقوال
أحدها فارغا من كل شئ إلا من ذكر موسى رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك
والثاني أصبح فؤادها فزعا رواه الضحاك عن ابن عباس وهي قراءة أبي رزين وأبي العالية والضحاك وقتادة وعاصم الجحدري فإنهم قرؤوا فزعا بزاي معجمة
والثالث فارغا من وحينا بنسيانه قاله الحسن وابن زيد (6/204)
والرابع فارغا من الحزن لعلمها أنه لم يقتل قاله أبو عبيدة قال ابن قتيبة وهذا من أعجب التفسير كيف يكون كذلك والله يقول لولا أن ربطنا على قلبها وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون
قوله تعالى إن كادت لتبدي به في هذه الهاء قولان
أحدهما أنها ترجع إلى موسى ومتى أرادت هذا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه حين فارقته روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كادت تقول يا بنياه قال قتادة وذلك من شدة وجدها والثاني حين حملت لرضاعه ثم كادت تقول هو ابني قاله السدي والثالث أنه لما كبر وسمعت الناس يقولون موسى بن فرعون كادت تقول لا بل هو ابني قاله ابن السائب
والقول الثاني أنها ترجع إلى الوحي والمعنى إن كادت لتبدي بالوحي حكاه ابن جرير
قوله تعالى لولا أن ربطنا على قلبها قال الزجاج المعنى لولا ربطنا على قلبها والربط إلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته
قوله تعالى لتكون من المؤمنين أي من المصدقين بوعد الله وقالت لأخته قصيه قال ابن عباس قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أي أحي هو أو قد أكلته الدواب ونسيت الذي وعدها الله فيه وقال وهب إنما قالت لأخته قصيه لأنها سمعت أن فرعون قد أصاب صبيا في تابوت قال مقاتل واسم أخته مريم قال ابن قتيبة ومعنى قصيه قصي أثره واتبعيه فبصرت به عن جنب أي عن (6/205)
بعد منها عنه وإعراض لئلا يفطنوا والمجانبة من هذا وقرأ ابي ابن كعب وأبو مجلز عن جناب بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني عن جانب بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف وقرأ قتادة وأبو العالية وعاصم الجحدري عن جنب بفتح الجيم وإسكان النون من غير ألف
قوله تعالى وهم لا يشعرون فيه قولان
أحدهما وهم لا يشعرون أنه عدو لهم قاله مجاهد
والثاني لا يشعرون أنها أخته قاله السدي
قوله تعالى وحرمنا عليه المراضع وهي جمع مرضع من قبل أي من قبل أن نرده على أمه وهذا تحريم منع لا تحريم شرع قال المفسرون بقي ثمانية أيام وليالهين كلما أتي بمرضع لم يقبل ثديها فأهمهم ذلك واشتد عليهم فقالت لهم أخته هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم فقالوا لها نعم من تلك فقالت أمي قالوا وهل لها لبن قالت لبن هارون فلما جاءت قبل ثديها وقيل إنها لما قالت وهم له ناصحون قالوا لعلك تعرفين أهله قالت لا ولكني إنما قلت وهم للملك ناصحون
قوله تعالى فرددناه إلى أمه قد شرحناه في طه
قوله تعالى ولتعلم أن وعد الله يرد ولدها حق وهذا علم عيان ومشاهدة ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله وعدها أن يرده إليها (6/206)
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين
ولما بلغ أشده قد فسرنا هذه الآية في سورة يوسف وكلام المفسرين في لفظ الآيتين متقارب إلا أنهم فرقوا بين بلوغ الأشد وبين الاستواء فأما بلوغ الأشد فقد سلف بيانه الانعام
وفي مدة الاستواء لهم قولان
أحدهما أنه أربعون سنة قاله مجاهد وقتادة وابن زيد
والثاني ستون سنة ذكره ابن جرير قال المفسرون مكث عند أمه حتى فطمته ثم ردته إليهم فنشأ في حجر فرعون وامرأته واتخذاه ولدا
قوله تعالى ودخل المدينة فيها قولان
أحدهما أنها مصر والثاني مدينة بالقرب من مصر
قال السدي ركب فرعون يوما وليس عنده موسى فلما جاء موسى ركب في أثره فأدركه المقيل في تلك المدينة وقال غيره لما توهم فرعون في موسى أنه عدوه أمر باخراجه من مدينته فلم يدخل إلا بعد أن كبر فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها (6/207)
وفي ذلك الوقت أربعة أقوال
أحدها أنه كان يوم عيد لهم وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم قاله علي عليه السلام
والثاني أنه دخل نصف النهار رواه جماعة عن ابن عباس وبه قال سعيد ابن جبير
والثالث بين المغرب والعشاء قاله وهب بن منبه
والرابع أنهم لما أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كبر فدخل على حين غفلة عن ذكره لأنه قد نسي أمره قاله ابن زيد
قوله تعالى هذا من شيعته أي من أصحابه من بني إسرائيل وهذا من عدوه أي من أعدائه من القبط والعدو يذكر للواحد وللجمع قال الزجاج وإنما قيل في الغائب هذا وهذا على جهة الحكاية للحضرة والمعنى أنه إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته وهذا من عدوه قال المفسرون وإن القبطي كان قد سخر الإسرائيلي أن يحمل حطبا إلى مطبخ فرعون فاستغاثه أي فاستنصره فوكزه قال الزجاج الوكز أن يضربه بجميع كفه وقال ابن قتيبة فوكزه أي لكزه يقال وكزته ولكزته ولهزته إذا دفعته فقضى عليه أي قتله وكل شئ فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وللمفسرين فيما وكزه به قولان
أحدهما كفه قاله مجاهد والثاني عصاه قاله قتادة
فلما مات القبطي ندم موسى لأنه لم يرد قتله وقال هذا من عمل الشيطان أي هو الذي هيج غضبي حتى ضربت هذا إنه عدو (6/208)
لابن آدم مضل له مبين عداوته ثم استغفر ف قال رب إني ظلمت نفسي أي بقتل هذا ولا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر قال رب بما أنعمت علي بالمغفرة فلن أكون ظهيرا للمجرمين قال ابن عباس عونا للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فاذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين
قوله تعالى فأصبح في المدينة وهي التي قتل بها القبطي خائفا على نفسه يترقب أي ينتظر سوءا يناله منهم ويخاف أن يقتل به فاذا الذي استنصره بالأمس وهو الاسرائيلي يستصرخه أي يستغيث به على قبطي آخر أراد أن يسخره ايضا قال له موسى في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى القبطي والثاني إلى الإسرائيلي وهو أصح
فعلى الأول يكون المعنى إنك لغوي بتسخيرك وظلمك
وعلى الثاني فيه قولان
أحدهما أن يكون الغوي بمعنى المغوي كالأليم والوجيع بمعنى المؤلم (6/209)
والموجع والمعنى إنك لمضل حين قتلت بالأمس رجلا بسببك وتدعوني اليوم إلى آخر
والثاني أن يكون الغوي بمعنى الغاوي والمعنى إنك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شره عنك
قوله تعالى فلما ان اراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما أي بالقبطي قال يا موسى هذا قول الإسرائيلي من غير خلاف علمناه بين المفسرين قالوا لما رأى الاسرائيلي غضب موسى عليه حين قال له إنك لغوي مبين ورآه قد هم أن يبطش بالفرعوني ظن أنه يريده فخاف على نفسه ف قال يا موسى أتريد أن تقتلني وكان قوم فرعون لم يعلموا من قاتل القبطي إلا أنهم أتوا إلى فرعون فقالوا إن بني إسرائيل قتلوا رجلا منا فخذ لنا بحقنا فقال ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقكم فبينا هم يطوفون ولا يدرون من القاتل وقعت هذه الخصومة بين الإسرائيلي والقبطي في اليوم الثاني فلما قال الإسرائيلي لموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس انطلق القبطي إلى فرعون فأخبره أن موسى هو الذي قتل الرجل فأمر بقتل موسى فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره فذلك قوله وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى فأما الجبار فقال السدي هو القتال وقد شرحناه في هود وأقصى المدينة آخرها وأبعدها ويسعى بمعنى يسرع قال ابن عباس وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة المؤمن فأما الملأ فهم الوجوه من الناس والاشراف
وفي قوله يأتمرون بك ثلاثة اقوال (6/210)
أحدها يتشاورون فيك ليقتلوك قاله أبو عبيدة والثاني يهمون بك قاله ابن قتيبة والثالث يأمر بعضهم بعضا بقتلك قاله الزجاج
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجرته إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل
قوله تعالى فخرج منها أي من مصر خائفا وقد مضى تفسيره القصص
قوله تعالى نجني من القوم الظالمين يعني المشركين أهل مصر
ولما توجه تلقاء مدين قال ابن قتيبة أي تجاه مدين ونحوها وأصله اللقاء وزيدت فيه التاء قال الشاعر (6/211)
أملت خيرك هل تأتي مواعده ... فاليوم قصر عن تلقائك الامل ...
أي عن لقائك
قال المفسرون خرج خائفا بغير زاد ولا ظهر وكان بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له بالطريق علم ف قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصده قال ابن عباس لم يكن له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه وقال السدي بعث الله له ملكا فدله قالوا ولم يكن له في طريقه طعام إلا ورق الشجر فورد ماء مدين وخضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال والأمة الجماعة وهم الرعاة يسقون مواشيهم ووجد من دونهم أي من سوى الأمة امرأتين وهما ابنتا شعيب قال مقاتل واسم الكبرى صبورا والصغرى عبرا تذودان قال ابن قتيبة أي تكفان غنمهما فحذف الغنم اختصارا قال المفسرون وإنما فعلتا ذلك ليفرغ الناس وتخلو لهما البئر قال موسى ما خطبكما أي ما شأنكما لا تسقيان قالتا لا نسقي وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وابن يعمر وابن السميفع لانسقي برفع النون حتى يصدر الرعاء وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو حعفر يصدر بفتح الياء وضم الدال أي حتى يرجع الرعاء وقرأ الباقون يصدر بضم الياء وكسرالدال أرادوا حتى يرد الرعاء غنمهم عن الماء والرعاء جمع راع كما يقال صاحب وصحاب وقرأ عكرمة (6/212)
وسعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري الرعاء بضم الراء والمعنى نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال وأبونا شيخ كبير لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر فلذلك احتجنا نحن إلى ان نسقي وكان على تلك البئر صخرة عظيمة فاذا فرغ الرعاء من سقيهم أعادوا الصخرة فتأتي المرأتان إلى فضول حياض الرعاء فتسقيان غنمهما فسقى لهما موسى
وفي صفة ما صنع قولان
أحدهما أنه ذهب إلى بئر أخرى عليها صخرة لا يقتلعها إلا جماعة من الناس فاقتلعها وسقى لهما قاله عمر بن الخطاب وشريح
والثاني أنه زاحم القوم على الماء وسقى لهما قاله ابن إسحاق والمعنى سقى غنمهما لأجلهما
ثم تولى أي انصرف إلى الظل وهو ظل شجرة فقال رب إني لما اللام بمعنى إلى فتقديره إني إلى ما أنزلت إلي من خير فقير وأراد بالخير الطعام وحكى ابن جرير أنه أسمع المرأتين (6/213)
هذا الكلام تعريضا أن تطعماه فجاءته إحداهما المعنى فلما شربت غنمهما رجعتا إلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى فبعث إحداهما تدعو موسى وفيها قولان أحدهما الصغرى والثاني الكبرى فجاءته تمشي على استحياء قد سترت وجهها بكم درعها
وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان من صفتها الحياء فهي تمشي مشي من لم يعتد الخروج والدخول
والثاني لأنها دعته لتكافئه وكان الأجمل عندها أن تدعوه من غير مكافأة
والثالث لأنها رسول أبيها
قوله تعالى ليجزيك أجر ما سقيت لنا قال المفسرون لما سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها فلم يجد بدا للجهد الذي به من اتباعها فتبعها فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها فناداها يا أمة الله كوني خلفي ودليني الطريق فلما جاءه أي جاء موسى شعيبا وقص (6/214)
عليه القصص أي أخبره بأمره من حين ولد والسبب الذي أخرجه من أرضه قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي لا سلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته قالت إحداهما وهي الكبرى يا أبت استأجره أي اتخذه أجيرا إن خير من استأجرت القوي الأمين أي خير من استعملت على عملك من قوي على عملك وأدى الأمانة وإنما سمته قويا لرفعه الحجر عن رأس البئر وقيل لأنه استقى بدلو لا يقلها إلا العدد الكثير من الرجال وسمته أمينا لأنه امرها أن تمشي خلفه وقال السدي قال لها شعيب قد رأيت قوته فما يدريك بأمانته فحدثته قال المفسرون فرغب فيه شعيب فقال له إني أريد أن أنكحك أي أزواجك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج قال الفراء تأجرني وتأجرني بضم الجيم وكسرها لغتان قال الزجاج والمعنى تكون أجيرا لي ثماني سنين فإن أتممت عشرا فمن عندك أي فذلك تفضل منك وليس بواجب عليك
قوله تعالى وما أريد أن أشق عليك أي في العشر ستجدني ان شاء الله من الصالحين أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت قال له موسى ذلك بيني وبينك أي ذلك الذي وصفت وشرطت علي فلك وما شرطت لي من تزويج إحداهما فلي فالأمر كذلك بيننا وتم الكلام هاهنا ثم قال أيما الأجلين يعني الثماني والعشر قال أبو عبيدة ما زائدة
قوله تعالى قضيت أي أتممت فلا عدوان علي أي لا سبيل علي والمعنى لا تعتد علي بأن تلزمني أكثر منه والله على ما نقول وكيل قال الزجاج أي والله شاهدنا على ما عقد بعضنا على بعض (6/215)
واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال
أحدها أنه شعيب نبي الله صلى الله عليه و سلم وعلى هذا أكثر أهل التفسير وفيه أثر عن النبي صلى الله عليه و سلم يدل عليه وبه قال وهب ومقاتل
والثاني أنه صاحب مدين واسمه يثرى قاله ابن عباس
والثالث رجل من قوم شعيب قاله الحسن
والرابع أنه يثرون ابن اخي شعيب رواه عمرو بن مرة عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود وبه قال ابن السائب
واختلفوا في التي تزوجها موسى من الإبنتين على قولين
أحدهما الصغرى روي عن ابن عباس والثاني الكبرى قاله مقاتل (6/216)
وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال
أحدها صفوريا حكاه ابو عمران الجوني والثاني صفورة قاله شعيب الجبائي والثالث صبورا قاله مقاتل
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون
قوله تعالى فلما قضى موسى الأجل روى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سئل أي الأجلين قضى موسى قال أوفاهما وأطيبهما قال مجاهد مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشرا (6/217)
أخر وقال وهب بن منبه أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين وقد سبق تفسير هذه الآية طه إلى قوله أو جذرة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي جذوة بكسر الجيم وقرأ عاصم بفتحها وقرأ حمزة وخلف والوليد عن ابن عامر بضمها وكلها لغات قال ابن عباس الجذوة قطعة حطب فيها نار وقال أبو عبيدة قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لهب وهي مثل الجذمة من أصل الشجرة قال ابن مقبل
... باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر ...
والدعر الذي قد نخر ومنه رجل داعر أي فاسد
قوله تعالى نودي من شاطئ الواد وهو جانبه الأيمن وهو الذي عن يمين موسى في البقعة وهي القطعة من الأرض المباركة بتكليم الله موسى فيها من الشجرة أي من ناحيتها وفي تلك الشجرة قولان
أحدهما أنها شجرة العناب قاله ابن عباس
والثاني عوسجة قاله قتادة وابن السائب ومقاتل (6/218)
وما بعد هذا قد سبق بيانه النمل إلى قوله إنك من الآمنين أي من أن ينالك مكروه
قوله تعالى أسلك يدك أي أدخلها واضمم إليك جناحك قد فسرنا الجناح في طه إلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين فشرحناه وقال ابن زيد جناحه الذراع والعضد والكف وقال الزجاج الجناح هاهنا العضد ويقال لليد كلها جناح وحكى ابن الأنباري عن الفراء انه قال الجناح هاهنا العصا قال ابن الأنباري الجناح للانسان مشبه بالجناح للطائر ففي حال تشبه العرب رجلي الإنسان بجناحي الطائر فيقولون قد مضى فلان طائرا في جناحيه يعنون ساعيا على قدميه وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر كقوله واضمم يدك إلى جناحك وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح لأن الإنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه كقوله واضمم إليك جناحك من الرهب وإنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيها واستعارة كما يقال قد قص جناح الإنسان وقد قطعت يده ورجله إذا وقعت به جائحه أبطلت تصرفه ويقول الرجل للرجل أنت يدي ورجلي أي أنت من به أصل إلى محابي قال جرير
... سأشكر أن رددت إلي ريشي ... وأنبت القوادم في جناحي ...
وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغر
... يا عصمتي في النائبات ويا ... ركني الأغر ويا يدي اليمنى ... لا صنت وجها كنت صائنه ... أبدا ووجهك في الثرى يبلى ...
فأما الرهب فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو من الرهب بفتح (6/219)
الراء والهاء وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم من الرهب بضم الراء وسكون الهاء وقرأ حفص وأبان عن عاصم من الرهب بفتح الراء وسكون الهاء وهي قراءة ابن مسعود وابن السميفع وقرأ أبي بن كعب والحسن وقتادة بضم الراء والهاء قال الزجاج الرهب والرهب بمعنى واحد مثل الرشد والرشد وقال أبو عبيدة الرهب والرهبة بمعنى الخوف والفرق وقال ابن الأنباري الرهب والرهب والرهب مثل الشغل والشغل والشغل والبخل والبخل والبخل وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفرق
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنه لما هرب من الحية أمره الله أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفزع قال ابن عباس المعنى اضمم يدك إلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك وقال مجاهد كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع
والثاني أنه لما هاله بياض يده وشعاعها أمر أن يدخلها في جيبه فعادت إلى حالتها الأولى
والثالث أن معنى الكلام سكن روعك وثبت جأشك قال أبو علي ليس يراد به الضم بين الشيئين إنما أمر بالعزم على ما أمر به والجد فيه ومثله اشدد حيازيمك للموت
قوله تعالى فذانك قرأ ابن كثير وأبو عمرو فذانك بالتشديد وقرأ الباقون فذانك بالتخفيف قال الزجاج التشديد تثنية ذلك والتخفيف تثنية ذاك فجعل اللام في ذلك بدلا من تشديد النون في ذانك برهانان أي بيانان اثنان قال المفسرون فذانك يعني (6/220)
العصا واليد حجتان من الله لموسى على صدقه إلى فرعون أي أرسلنا بهاتين الآيتين إلى فرعون وقد سبق تفسير ما بعد هذا الشعراء إلى قوله هو أفصح مني لسانا أي أحسن بيانا لأن موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها فأرسله معي ردءا قرأ الأكثرون ردءا بسكون الدال وبعدها همزة وقرأ أبو جعفر ردا بفتح الدال وألف بعدها من غير تنوين ولا همز وقرأ نافع كذلك إلا أنه نون وقال الزجاج الردء العون يقال ردأته أردؤه ردءا إذا أعنته
قوله تعالى يصدقني قرأ عاصم وحمزة يصدقني بضم القاف وقرأ الباقون بسكون القاف قال الزجاج من جزم يصدقني فعلى جواب المسألة أرسله يصدقني ومن رفع فالمعنى ردءا مصدقا لي وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله يصدقني إلى هارون وقال مقاتل بن سليمان لكي يصدقني فرعون
قوله تعالى سنشد عضدك بأخيك قال الزجاج المعنى سنعينك بأخيك ولفظ العضد على جهة المثل لأن اليد قوامها عضدها وكل معين فهو عضد ونجعل لكما سلطانا أي حجة بينة وقيل للزيت السليط لانه يستضاء به والسلطان أبين الحجج
قوله تعالى فلا يصلون إليكما أي بقتل ولا أذى (6/221)
وفي قوله بآياتنا ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى تمتنعان منهم بآياتنا وحججنا فلا يصلون إليكما
والثاني أنه متعلق بما بعده فالمعنى بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون أي تغلبون بآياتنا
والثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما
فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون
قوله تعالى ما هذا إلا سحر مفترى أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قبل نفسك ولم تبعث به وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم وقرأ ابن كثير قال موسى بلا واو وكذلك هي في مصاحفهم بمن جاء بالهدى أي هو بالمحق منا ومن تكون له عاقبة الدار وقرأ حمزة والكسائي وخلف والمفضل يكون بالياء والباقون بالتاء
وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (6/222)
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين
قوله تعالى فأوقد لي يا هامان على الطين قال ابن قتيبة المعنى اصنع لي الآجر فاجعل لي صرحا أي قصرا عاليا وقال الزجاج الصرح كل بناء متسع مرتفع وجاء في التفسير أنه لما أمر هامان وهو وزيره ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد قط فلما تم ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت وهي متلطخة بالدم فقال قد قتلت إله موسى فبعث الله تعالى جبريل فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ووقعت قطعة أخرى في البحر وأخرى في المغرب
قوله تعالى لعلي أطلع إلى إله موسى أي أصعد إليه واشرف عليه وإني لأظنه يعني موسى من الكاذبين في ادعائه إلها غيري وقال ابن جرير المعنى أظن موسى كاذبا في ادعائه أن في السماء ربا أرسله واستكبر هو وجنوده في الارض يعني أرض مصر بغير الحق أي بالباطل والظلم وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون بالبعث للجزاء قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر يرجعون برفع الياء وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتحها (6/223)
قوله تعالى وجعلناهم أي في الدنيا أئمة أي قادة في الكفر يأتم بهم العتاة يدعون إلى النار لأن من أطاعهم دخلها وينصرون بمعنى يمنعون من العذاب وما بعد هذا مفسر في هود
قوله تعالى من المقبوحين أي من المبعدين الملعونين قال ابو زيد يقال قبح الله فلانا أي أبعده من كل خير وقال ابن جريج معنى الآية واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة أخرى ثم استقبل الكلام فقال هم من المقبوحين
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين
قوله تعالى من بعد ما أهلكنا القرون الأولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم بصائر للناس أي ليبصروا به ويهتدوا (6/224)
قوله تعالى وما كنت بجانب الغربي قال الزجاج أي وما كنت بجانب الجبل الغربي
قوله تعالى إذ قضينا إلى موسى الأمر أي أحكمنا الأمر معه بارساله إلى فرعون وقومه وما كنت من الشاهدين لذلك الأمر وفي هذا بيان لصحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب ولم يشاهد ما جرى فلولا أنه أوحي إليه ذلك ما علم
قوله تعالى ولكنا أنشأنا قرونا أي خلقنا أمما من بعد موسى فتطاول عليهم العمر أي طال إمهالهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره وهذا (6/225)
يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهود في امر محمد صلى الله عليه و سلم وأمروا بالإيمان به فلما طال إمهالهم أعرضوا عن مراعاة العهود وما كنت ثاويا أي مقيما في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة ولكنا كنا مرسلين ارسلناك إلى أهل مكة وأخبرناك خبر المتقدمين ولولا ذلك ما علمته وما كنت بجانب الطور أي بناحية الجبل الذي كلم عليه موسى إذ نادينا موسى وكلمناه هذا قول الأكثرين وقال أبو هريرة كان هذا النداء يا امة محمد أعطيتكم قبل ان تسألوني وأستجيب لكم قبل أن تدعوني
قوله تعالى ولكن رحمة من ربك قال الزجاج المعنى لم تشاهد قصص الأنبياء ولكنا أوحينا إليك وقصصناها عليك رحمة من ربك
ولولا أن تصيبهم مصيبة جواب لولا محذوف تقديره لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة وقيل لولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أبتعه إن كنتم صادقين فان لم يستجيبوا (6/226)
لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين
قوله تعالى فلما جاءهم يعني أهل مكة الحق من عندنا وهو محمد عليه السلام والقرآن قالوا لولا أي هلا أوتي محمد من الآيات مثل ما اوتي موسى كالعصا واليد قال المفسرون أمرت اليهود قريشا أن تسأل محمدا مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى أو لم يكفروا بما أوتي موسى أي فقد كفروا بآيات موسى وقالوا في المشار إليهم قولان أحدهما اليهود والثاني قريش سحران قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ساحران تظاهرا أي تعاونا وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو تظاهرا بتشديد الظاء
وفيمن عنوا ثلاثة أقوال
أحدها موسى ومحمد قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير فعلى هذا هو من قول مشركي العرب
والثاني موسى وهارون قاله مجاهد فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة (6/227)
والثالث محمد وعيسى قاله قتادة فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبينا
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي سحران وفيه ثلاثة أقوال
أحدها التوراة والفرقان قاله ابن عباس والسدي والثاني الإنجيل والقرآن قاله قتادة والثالث التوراة والإنجيل قاله أبو مجلز وإسماعيل ابن أبي خالد ومعنى الكلام كل سحر منهما يقوي الآخر فنسب التظاهر إلى السحرين توسعا في الكلام وقالوا إنا بكل كافرون يعنون ما تقدم ذكره على اختلاف الأقوال فقال الله لنبيه قل لكفار مكة فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي من التوراة والقرآن إن كنتم صادقين أنهما ساحران فان لم يستجيبوا لك أي فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن فاعلم أنما يتبعون أهواءهم أي أن ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حجة وإنما آثروا فيه الهوى ومن أضل أي ولا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير هدى أي بغير رشاد ولا بيان جاء من الله ولقد وصلنا لهم القول وقرأ الحسن وأبو المتوكل وابن يعمر وصلنا بتخفيف الصاد
وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم قريش قاله الأكثرون منهم مجاهد
والثاني اليهود قاله رفاعة القرظي
والمعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا ويخبر عن الأمم الخالية كيف عذبوا لعلهم يتعظون
الذين آتيناهم الكتاب وفيهم ثلاثة أقوال (6/228)
أحدها أنهم مؤمنو أهل الكتاب رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثاني مسلمو أهل الإنجيل روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهدوا معه أحدا فنزلت فيهم هذه الآية
والثالث مسلمو كعبد الله بن سلام وغيره قاله السدي
قوله تعالى من قبله أي من قبل القرآن هم به في هاء الكناية قولان أحدهما أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم لأن ذكره كان مكتوبا عندهم في كتبهم فآمنوا به والثاني إلى القرآن
قوله تعالى وإذا يتلى عليهم يعني القرآن قالوا آمنا به إنا كنا من قبله أي من قبل نزول القرآن مسلمين أي مخلصين لله مصدقين بمحمد وذلك لأن ذكره كان في كتبهم فآمنوا به أولئك يؤتون أجرهم مرتين في المشار إليهم قولان
احدهما أنهم مؤمنو أهل الكتاب وهذ قول الجمهور وهو الظاهر (6/229)
وفيما صبروا عليه قولان أحدهما أنهم صبروا على الكتاب الأول وصبروا على اتباعم محمدا قاله قتادة وابن زيد والثاني أنهم صبروا على الإيمان بمحمد قبل أن يبعث ثم على اتباعه حين بعث قاله الضحاك
والقول الثاني انهم قوم من المشركين اسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى قاله مجاهد
قوله تعالى ويدرؤون بالحسنة السيئة فيه اقوال قد شرحناها في الرعد 22
قوله تعالى وإذا سمعوا اللغو فيه ثلاث اقوال
احدها الاذى والسب قاله مجاهد والثاني الشرك قاله الضحاك والثالث انهم قوم من اليهود آمنوا فكانوا يسمعون ما غيراليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكرهون ذلك ويعرضون عنه قاله ابن زيد وهل هذا منسوخ ام لا فيه قولان
وفي قوله وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم قولان
أحدهما لنا ديننا ولكم دينكم والثاني لنا حلمنا ولكم سفهكم
سلام عليكم قال الزجاج لم يريدوا التحية وانما ارادوا بيننا وبينكم المتاركة وهذا قبل ان يؤمر المسلمون بالقتال وذكر المفسرون ان هذا منسوخ بآية السيف
وفي قوله لا نبتغي الجاهلين ثلاثة اقوال
احدها لا نبتغي دين الجاهلين والثاني لا نطلب مجاورتهم والثالث لا نريد ان نكون جهالا (6/230)
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين
قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين التوبة وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال لولا أن تعيرني نساء قريش يقلن إنما حمله على ذلك الجزع لأ قررت بها عينك فأنزل الله عز و جل إنك لا تهدي من أحببت قال الزجاج اجمع المفسرون انها نزلت في ابي طالب (6/231)
وفي قوله من أحببت قولان
أحدهما من أحببت هدايته والثاني من أحببته لقرابته
ولكن الله يهدي من يشاء أي يرشد لدينه من يشاء وهو أعلم بالمهتدين أي من قدر له الهدى
قوله تعالى وقالوا ان نتبع الهدى معك قال ابن عباس في رواية العوفي هم ناس من قريش قالوا ذلك وقال في رواية ابن ابي مليكة ان الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك وذكر مقاتل ان الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم انا لنعلم ان الذي تقول حق ولكن يمنعنا ان نتبع الهدى معك مخافة ان تتخطفنا العرب من ارضنا يعنون مكة ومعنى الاية ان اتبعناك على دينك خفنا العرب لمخالفتنا اياها والتخطف الانتزاع بسرعة فرد الله عليهم قولهم فقال أو لم نمكن لهم حرما أي أو لم نسكنهم (6/232)
حرما ونجعله مكانا لهم ومعنى آمنا ذو أمن يأمن فيه الناس وذلك أن العرب كان يغير بعضها على بعض وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسبي والغارة أي فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن يجبي قرأ نافع تجبي بالتاء أي تجمع إليه وتحمل من كل النواحي الثمرات رزقا من لدنا أي من عندنا ولكن أكثرهم يعني أهل مكة لا يعلمون أن الله هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه ومعنى الآية إذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري فكيف تخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي ثم خوفهم عذاب الأمم الخالية فقال وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها قال الزجاج معيشتها منصوبة باسقاط في والمعنى بطرت في معيشتها والبطر الطغيان في النعمة قال عطاء عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام
قوله تعالى فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون ومار الطريق يوما أو ساعة والمعنى لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا وكنا نحن الوارثين أي لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم فبقيت خرابا غير مسكونة
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين
وما كان ربك مهلك القرى يعني القرى الكافر أهلها حتى يبعث (6/233)
في أمها أي في أعظمها رسولا وإنما خص الأعظم ببعثة الرسول لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف وأشراف القوم ملوكهم وإنما يسكنون المواضع التي هي أم ما حولها وقال قتادة أم القرى مكة والرسول محمد
قوله تعالى يتلو عليهم آياتنا قال مقاتل يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا
قوله تعالى وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون أي بظلمهم أهلكهم وظلمهم شركهم وما أوتيتم من شئ أي ما أعطيتم من مال وخير فمتاع الحياة الدنيا تتمتعون به ايام حياتكم ثم يفنى وينقضي وما عند الله من الثواب خير وأبقى أفضل وأدوم لأهله أفلا تعقلون ان الباقي أفضل من الفاني
قوله تعالى أفمن وعدناه وعدا حسنا اختلف فيمن نزلت على أربعة أقوال أحدها أنها نزلت في رسول الله ص وأبي جهل والثاني في علي وحمزة عليهما السلام وأبي جهل والقولان مرويان عن مجاهد والثالث في المؤمن والكافر قاله قتادة والرابع في عمار والوليد بن المغيرة قاله السدي (6/234)
وفي الوعد الحسن قولان أحدهما الجنة والثاني النصر
قوله تعالى فهو لاقيه أي مصيبه ومدركه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا أي كمن هو ممتع بشئ يفنى ويزول عن قريب ثم هو يوم القيامة من المحضرين فيه قولان أحدهما من المحضرين في عذاب الله قاله قتادة والثاني من المحضرين للجزاء حكاه الماوردي ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين
قوله تعالى ويوم يناديهم أي ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة فيقول أين شركائي هذا على حكاية قولهم والمعنى أين شركائي في قولكم قال الذين حق عليهم أي وجب عليهم العذاب وهم رؤساء الضلالة (6/235)
وفيهم قولان أحدهما أنهم رؤوس المشركين والثاني أنهم الشياطين ربنا هؤلاء الذين أغوينا يعنون الأتباع اغويناهم كما غوينا أي أضللناهم كما ضللنا تبرأنا إليك أي تبرأنا منهم إليك والمعنى أنهم يتبرأ بعضهم من بعض ويصيرون أعداءا وقيل لكفار بني آدم ادعوا شركاءكم أي استغيثوا بآلهتكم لتخلصكم من العذاب فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي فلم يجيبوهم إلى نصرهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون قال الزجاج جواب لو محذوف والمعنى لو انهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم ولما رأوا العذاب
قوله تعالى ويوم يناديهم أي ينادي الله الكفار ويسألهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء وقرأ أبو رزين العقيلي وقتادة وأبو العالية وأبو المتوكل وعاصم الجحدري فعميت برفع العين وتشديد الميم قال المفسرون خفيت عليهم الحجج وسميت أنباء لأنها اخبار يخبر بها قال ابن قتيبة والمعنى عموا عنها من شدة الهول فلم يجيبوا والأنباء هاهنا الحجج
قوله تعالى فهم لا يتساءلون فيه ثلاثة أقوال أحدها لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجة قاله الضحاك والثاني أن المعنى سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة قاله الفراء والثالث لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل عنه شيئا من ذنوبه حكاه الماوردي
فأما من تاب من الشرك وآمن أي صدق بتوحيد الله وعمل صالحا أدى الفرائض فعسى أن يكون من المفلحين وعسى من الله واجب (6/236)
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهوالله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون
قوله تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار روى العوفي عن ابن عباس في قوله وربك يخلق ما يشاء ويختار قال كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية وقال مقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم الزخرف والمعنى أنه لا تبعث الرسل باختيارهم قال الزجاج والوقف الجيد على قوله ويختار وتكون ما نفيا والمعنى ليس لهم أن يختاروا على الله ويجوز أن تكون ما بمعنى الذي فيكون المعنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة مما يتعبدهم به ويدعوهم إليه قال الفراء والعرب تقول لما تختاره أعطني الخيرة والخيرة والخيرة قال ثعلب كلها لغات
قوله تعالى ما تكن صدورهم أي ما تخفي من الكفر والعداوة وما يعلنون بألسنتهم (6/237)
قوله تعالى له الحمد في الأولى والآخرة أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الجنة وله الحكم وهو الفصل بين الخلائق والسرمد الدائم قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى أفلا تسمعون أي سماع فهم وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ومعنى تسكنون فيه تستريحون من الحركة والنصب أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة منه وقوله لتسكنوا فيه يعني في الليل ولتبتغوا من فضله أي لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار ولعلكم تشكرون الذي أنعم عليكم بهما
قوله تعالى ونزعنا من كل أمة شهيدا أي أخرجنا من كل أمة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ فقلنا هاتوا برهانكم أي حجتكم على ما كنتم تعبدون من دوني فعلموا أن الحق لله أي علموا أنه لا إله إلا هو وضل عنهم أي بطل في الآخرة ما كانوا يفترون في الدنيا من الشركاء (6/238)
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين
قوله تعالى إن قارون كان من قوم موسى أي من عشيرته وفي نسبه إلى موسى ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان ابن عمه رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عبد الله بن الحارث وإبراهيم وابن جريج
والثاني ابن خالته رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث انه كان عم موسى قاله ابن إسحاق
قال الزجاج قارون اسم أعجمي لا ينصرف ولو كان فاعولا من العربية من قرنت الشئ لا نصرف
قوله تعالى فبغى عليهم فيه خمسة أقوال أحدها أنه جعل لبغي جعلا على أن تقذف موسى بنفسها ففعلت فاستحلفها موسى على ما قالت فأخبرته بقصتها فكان هذا بغيه قاله ابن عباس والثاني أنه بغى بالكفر بالله تعالى قاله الضحاك والثالث بالكبر قاله قتادة والرابع أنه زاد في طول ثيابه شبرا قاله عطاء الخراساني وشهر بن حوشب والخامس أنه كان يخدم فرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم حكاه الماوردي (6/239)
وفي المراد بمفاتحه قولان
أحدهما أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب قاله مجاهد وقتادة وروي الأعمش عن خيثمة قال كانت مفاتيح قارون وقر ستين بغلا وكانت من جلود كل مفتاح مثل الإصبع
والثاني أنها خزائنه قاله السدي وأبو صالح والضحاك قال الزجاج وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة قال ابو صالح كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلا
قوله تعالى لتنوء بالعصبة أي تثقلهم وتميلهم ومعنى الكلام لتنئ العصبة فلما دخلت الباء في العصبة انفتحت التاء كما تقول هذا يذهب بالأبصار وهذا يذهب الأبصار وهذا اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين وقال بعضهم هذا من المقلوب وتقديره ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه كما يقال إنها لتنوء بها عجيزتها أي هي تنوء بعجيزتها وأنشدوا ... فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلا ما أطيق ...
أي فديت بنفسي وبمالي نفسه وهذا اختيار ابي عبيدة والأخفش وقد بينا معنى العصبة في سورة يوسف وفي المراد بها ها هنا ستة أقوال أحدها أربعون رجلا رواه العوفي عن ابن عباس والثاني ما بين الثلاثة إلى العشرة رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث خمسة عشر قاله مجاهد والرابع فوق العشرة إلى الأربعين قاله قتادة والخامس سبعون رجلا قاله ابو صالح والسادس ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين حكاه الزجاج (6/240)
قوله تعالى إذ قال له قومه في القائل له قولان أحدهما أنهم المؤمنون من قومه قاله السدي والثاني أنه قول موسى له حكاه الماوردي
قوله تعالى لا تفرح قال ابن قتيبة المعنى لا تأشر ولا تبطر قال الشاعر ... ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتحول ...
أي لست بأشر فأما السرور فليس بمكروه إن الله لا يحب الفرحين وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وعاصم الجحدري وابن أبي عبلة الفارحين بألف
قوله تعالى وابتغ فيما آتاك الله أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع واتبع بتشديد التاء وكسر الباء بعدها وعين ساكنة غير معجمة الدار الآخرة وهي الجنة وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشكر المنعم به ولا تنس نصيبك من الدنيا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يعمل في الدنيا للآخرة قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور والثاني أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه قاله الحسن والثالث أن يستغني بالحلال عن الحرام قاله قتادة
وفي معنى وأحسن كما أحسن الله إليك ثلاثة أقوال حكاها الماوردي أحدها أعط فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك والثاني أحسن فيما (6/241)
افترض عليك كما أحسن في إنعامه إليك والثالث أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال
قوله تعالى ولا تبغ الفساد في الأرض فتعمل فيها بالمعاصي قال إنما أوتيته على علم عندي او لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون
قوله تعالى إنما أوتيته يعني المال على علم عندي فيه خمسة أقوال
أحدها على علم عندي بصنعة الذهب رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج وهذا لا أصل له لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له والثاني برضى الله عني قاله ابن زيد والثالث على خير علمه الله عندي قاله مقاتل والرابع إنما أعطيته لفضل علمي قاله الفراء قال الزجاج ادعى أنه أعطي المال لعلمه بالتوراة والخامس على علم عندي بوجوه المكاسب حكاه الماوردي (6/242)
قوله تعالى أولم يعلم يعني قارون أن الله قد أهلك بالعذاب من قبله من القرون في الدنيا حين كذبوا رسلهم من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا للأموال
وفي قوله ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ثلاثة أقوال أحدها لا يسألون ليعلم ذلك من قبلهم وإن سئلوا سؤال توبيخ قاله الحسن والثاني أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم قاله مجاهد والثالث يدخلون النار بغير حساب قاله قتادة وقال السدي يعذبون ولا يسألون عن ذنوبهم
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقها إلا الصابرون
قوله تعالى فخرج على قومه في زينته قال الحسن في ثياب حمر وصفر وقال عكرمة في ثياب معصفرة وقال وهب بن منبه خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أرجوان ومعه أربعة آلاف مقاتل وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزينة على بغال بيض قال الزجاج الأرجوان في اللغة صبغ أحمر
قوله تعالى لذو حظ أي لذو نصيب وافر من الدنيا
وقوله وقال الذين أوتوا العلم قال ابن عباس يعني الأحبار من بني إسرائيل وقال مقاتل الذين أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة قالوا للذين تمنوا ما أوتي قارون ويلكم ثواب الله أي ما عنده من الجزاء خير لمن آمن مما أعطي قارون (6/243)
قوله تعالى ولا يلقاها قال أبو عبيدة لا يوفق لها ويرزقها وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة ولا يلقاها بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف وفي المشار إليها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأعمال الصالحة قاله مقاتل والثاني أنها الجنة والمعنى لا يعطاها في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قاله ابن السائب
والثالث أنها الكلمة التي قالوها وهي قولهم ثواب الله خير قاله الفراء
فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا ان من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون
قوله تعالى فخسفنا به وبداره الأرض لما أمر قارون البغي (6/244)
بقذف موسى على ما سبق شرحه القصص غضب موسى فدعا عليه فأوحى الله تعالى إليه إني قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها فقال موسى يا أرض خذيه فأخذته حتى غيبت سريره فلما رأى ذلك ناشده بالرحم فقال خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه فما زال يقول خذيه حتى غيبته فأوحى الله تعالى إليه يا موسى ما أفظك وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته قال ابن عباس فخسفت به الأرض إلى الأرض السفلى وقال سمرة بن جندب إنه يخسف به كل يوم قامة فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة وقال مقاتل فلما هلك قارون قال بنو إسرائيل إنما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره فخسف الله بداره وماله بعده بثلاثة ايام
قوله تعالى ينصرونه من دون الله أي يمنعونه من الله وما كان من المنتصرين أي من الممتنعين مما نزل به ثم أعلمنا أن المتمنين مكانه ندموا على ذلك التمني بالآية التي تلي هذه (6/245)
وقوله لخسف بنا الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين وقرأ يعقوب والوليد عن ابن عامر وحفص وأبان عن عاصم بفتح الخاء والسين
فأما قوله ويك فقال ابن عباس معناه ألم تر وكذلك قال أبو عبيده والكسائي وقال الفراء ويك ان في كلام العرب تقرير كقول الرجل أما ترى إلى صنع الله وإحسانه أنشدني بعضهم ... ويك أن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ...
وقال ابن الأنباري في قوله ويك أنه ثلاثة أوجه
إن شئت قلت ويك حرف وأنه حرف والمعنى ألم تر أنه والدليل على هذا قول الشاعر ... سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر ... ويك أن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ...
والثاني ان يكون ويك حرفا وأنه حرفا والمعنى ويلك اعلم أنه فحذفت اللام كما قالوا قم لا اباك يريدون لا أبالك وأنشدوا ... أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني ...
أراد لا أبالك فحذف اللام (6/246)
والثالث أن يكون وي حرفا وكأنه حرفا فيكون معنى وي التعجب كما تقول وي لم فعلت كذا كذا ويكون معنى كأنه أظنه وأعلمه كما تقول في الكلام كأنك بالفرج قد أقبل فمعناه أظن الفرج مقبلا وإنما وصلوا الياء بالكاف في قوله ويكأنه لأن الكلام بهما كثر كما جعلوا يا ابن أم في المصحف حرفا واحدا وهما حرفان طه وكان جماعة منهم يعقوب يقفون على ويك في الحرفين ويبتدؤون أن وأنه في الموضعين وذكر الزجاج عن الخليل أنه قال وي مفصولة من كأن وذلك أن القوم تندموا فقالوا وي متندمين على ما سلف منهم وكل من ندم فأظهر ندامته قال وي وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنه قال معنى ويكأن رحمة لك بلغة حمير
قوله تعالى لولا أن من الله علينا أي بالرحمة والمعافاة والإيمان لخسف بنا (6/247)
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيآت إلا ما كانوا يعملون
قوله تعالى تلك الدار الآخرة يعني الجنة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض وفيه خمسة أقوال احدها أنه البغي قاله سعيد بن جبير والثاني الشرف والعز قاله الحسن والثالث الظلم قاله الضحاك والرابع الشرك قاله يحيى بن سلام والخامس الاستكبار عن الإيمان قاله مقاتل
قوله تعالى ولا فسادا فيه قولان أحدهما العمل بالمعاصي قاله عكرمة والثاني الدعاء إلى غير عبادة الله قاله ابن السائب
قوله تعالى والعاقبة للمتقين أي العاقبة المحمودة لهم
قوله تعالى من جاء بالحسنة قد فسرناه في سورة النمل (6/248)
قوله تعالى فلا يجزي الذين عملوا السيئات يريد الذين اشركوا إلا ما كانوا يعملون أي إلا جزاء عملهم من الشرك وجزاؤه النار
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولاتكونن من المشركين ولاتدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون
قوله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن قال مقاتل خرج رسول الله ص من الغار ليلا فمضى من وجهه إلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق فنزل الجحفة بين مكة والمدينة فعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها وذكر مولده فأتاه جبريل فقال أتشتاق إلى بلدك ومولدك قال نعم قال فان الله تعالى يقول إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد فنزلت هذه الآية بالجحفة
وفي معنى فرض عليك ثلاثة أقوال أحدها فرض عليك العمل (6/249)
بالقرآن قاله عطاء بن أبي رباح وابن قتيبة والثاني أعطاك القرآن قاله مجاهد والثالث أنزل عليك القرآن قاله مقاتل والفراء وأبو عبيدة د
وفي قوله لرادك إلى معاد أربعة اقوال
أحدها إلى مكة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية والضحاك قال ابن قتيبة معاد الرجل بلده لانه يتصرف في البلاد ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده
والثاني إلى معادك من الجنة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن والزهري فإن اعترض على هذا فقيل الرد يقتضي أنه قد كان فيما رد إليه فعنه ثلاثة أجوبة أحدها أنه لما كان أبوه آدم في الجنة ثم أخرج كان كأن ولده أخرج منها فاذا دخلها فكأنه أعيد والثاني أنه دخلها ليلة المعراج فاذا دخلها يوم القيامة كان ردا إليها ذكرهما ابن جرير والثالث أن العرب تقول رجع الأمر إلى كذا وإن لم يكن له كون فيه قط وأنشدوا ... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...
وقد شرحنا هذا في قوله وإلى الله ترجع الأمور البقرة (6/250)
والثالث لرادك إلى الموت رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدري
والرابع لرادك إلى القيامة بالبعث قاله الحسن والزهري ومجاهد في رواية والزجاج
ثم ابتدأ كلاما يرد به على الكفار حين نسبوا النبي ص إلى الضلال فقال قل ربي أعلم من جاء بالهدى والمعنى قد علم أني جئت بالهدى وأنكم في ضلال مبين ثم ذكره نعمه فقال وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب أي ان تكون نبيا وأن يوحى إليك القرآن إلا رحمة من ربك قال الفراء هذا استثناء منقطع والمعنى إلا أن ربك رحمك فأنزله عليك فلا تكونن ظهيرا للكافرين أي عونا لهم على دينهم وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فأمر بالاحتراز منهم والخطاب بهذا وأمثاله له والمراد أهل دينه لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم
قوله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه فيه قولان (6/251)
أحدهما إلا ما أريد به وجهه رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الثوري والثاني إلا هو قاله الضحاك وأبو عبيدة
قوله تعالى له الحكم أي الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره وإليه ترجعون في الآخرة (6/252)
سورة العنكبوت
فصل في نزولها
روى العوفي عن ابن عباس أنها مكية وبه قال الحسن وقتادة وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنية وقال هبة الله ابن سلامة المفسر نزل من اولها إلى رأس العشر بمكة وباقيها بالمدينة وقال غيره عكس هذا نزل العشر بالمدينة وباقيها بمكة
بسم الله الرحمن الرحيم
آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئآت أن يسبقونا ساء ما يحكمون
قوله تعالى آلم أحسب الناس أن يتركوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال (6/253)
أحدها أنه لما أمر بالهجرة كتب المسلمون إلى إخوانهم بمكة أنه لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردوهم فأنزل الله عز و جل من أول هذه السورة عشر آيات فكتبوا إليهم يخبرونهم بما نزل فيهم فقالوا نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله عز و جل فيهم ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا النحل هذا قول الحسن والشعبي
والثاني أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله عز و جل قاله عبد الله بن عبيد بن عمير
والثالث أنها نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب حين قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية
قوله تعالى أحسب الناس قال ابن عباس يريد بالناس الذين آمنوا بمكة كعياش بن ابي ربيعة وعمار بن ياسر وسلمة بن هشام وغيرهم
قال الزجاج لفظ الآية استخبار ومعناه معنى التقرير والتوبيخ والمعنى أحسب الناس أن يتركوا بأن يقولوا آمنا ولأن يقولوا آمنا أي أحسبوا أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يبين (6/254)
حقيقة إيمانهم وهم لا يفتنون أي لا يختبرون بما يعلم به صدق إيمانهم من كذبه
وللمفسرين فيه قولان أحدهما لا يفتنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب قاله مجاهد والثاني لا يبتلون بالأوامر والنواهي
قوله تعالى ولقد فتنا الذين من قبلهم أي ابتليناهم واختبرناهم فليعلمن الله فيه ثلاثة أقوال
أحدهما فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم عند البلاء إذا صبروا لقضائه وليرين الكاذبين في إيمانهم إذا شكوا عند البلاء قاله مقاتل
والثاني فليميزن لأنه قد علم ذلك من قبل قاله ابو عبيدة
والثالث فليظهرن ذلك حتى يوجد معلوما حكاه الثعلبي
وقرأ علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد فليعلمن الله وليعلمن الكاذبين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين العنكبوت بضم الياء وكسر اللام
قوله تعالى أم حسب أي أيحسب الذين يعملون السيئات (6/255)
يعني الشرك أن يسبقونا أي يفوتونا ويعجزونا ساء ما يحكمون أي بئس ما حكموا لانفسهم حين ظنوا ذلك قال ابن عباس عنى بهم الوليد ابن المغيرة وابا جهل والعاص بن هشام وغيرهم
من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيآتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون
قوله تعالى من كان يرجو لقاء الله قد شرحناه في آخر الكهف فإن أجل الله لآت يعني الأجل المضروب للبعث والمعنى فليعمل لذلك اليوم وهو السميع لما يقول العليم بما يعمل ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه أي إن ثوابه إليه يرجع
قوله تعالى لنكفرن عنهم سيآتهم أي لنبطلنها حتى تصير بمنزلة مالم يعمل ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين
قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وقرأ ابي بن كعب وأبو مجلز وعاصم الجحدري إحسانا بألف وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء حسنا بفتح الحاء والسين (6/256)
روى أبو عثمان النهدي عن سعد ابن أبي وقاص قال في أنزلت هذه الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت يا سعد ما هذا الدين الذي قد أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت لا تفعلي يا أماه إني لا أدع ديني هذا لشئ قال فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لا تأكل فلما رأيت ذلك قلت تعلمين والله ياأماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشئ فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فأنزلت هذه الآية وقيل أنها نزلت في عياش بن ابي ربيعة وقد جرى له مع أمه نحو هذا وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية والتي في لقمان وفي الأحقاف نزلن في قصة سعد (6/257)
قال الزجاج من قرأ حسنا فمعناه ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن ومن قرأ إحسانا فمعناه ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه وكان حسنا أعم في البر
وإن جاهداك قال أبو عبيدة مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير والمعنى وقلنا له وإن جاهداك
قوله تعالى لتشرك بي معناه لتشرك بي شريكا لا تعلمه لي وليس لأحد بذلك علم فلا تطعهما
قوله تعالى لندخلنهم في الصالحين أي في زمرة الصالحين في الجنة وقال مقاتل في بمعنى مع
ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين
قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا رواه عكرمة عن ابن عباس (6/258)
والثاني نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم فاذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا قاله مجاهد
والثالث نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فاذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الشرك قاله الضحاك
والرابع أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة كان أسلم فخاف على نفسه من أهله وقومه فخرج من مكة هاربا إلى المدينة وذلك قبل قدوم رسول الله ص إلى المدينة فجزعت أمه فقالت لأخويه ابي جهل والحارث ابني هشام وهما أخواه لأمه والله لا آوي بيتا ولا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تأتياني به فخرجا في طلبه فظفرا به فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إليها فقيدته وقالت والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد ثم أقبلت تجلده بالسياط وتعذبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جزعا من الضرب فنزلت فيه هذه الآية ثم هاجر بعد وحسن إسلامه هذا قول ابن السائب ومقاتل وفي رواية عن مقاتل أنهما جلداه في الطريق مائتي جلدة فتبرأ من دين محمد فنزلت هذه الآية
قوله تعالى فإذا أوذي في الله أي ناله أذى أو عذاب بسبب إيمانه جعل فتنة الناس أي ما يصيبه من عذابهم في الدنيا كعذاب الله في (6/259)
الآخرة وإنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لما يرجو من ثوابه ولئن جاء نصر من ربك يعني دولة للمؤمنين ليقولن يعني المنافقين للمؤمنين إنا كنا معكم على دينكم فكذبهم الله عز و جل وقال أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين من الإيمان والنفاق وقد فسرنا الآية التي تلي هذه في أول السورة
وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون
قوله تعالى
أتبعوا سبيلنا يعنون ديننا قال مجاهد هذا قول كفار قريش لمن آمن من اهل مكة قالوا لهم لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فان كان عليكم شئ فهو علينا
قوله تعالى ولنحمل خطاياكم قال الزجاج هو امر في تأويل الشرط والجزاء يعني إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم وقال الأخفش كأنهم أمروا أنفسهم بذلك وقرأ الحسن ولنحمل بكسر اللام قال ابن قتيبة الواو زائدة والمعنى لنحمل خطاياكم
قوله تعالى إنهم لكاذبون أي فيما ضمنوا من حمل خطاياهم (6/260)
قوله تعالى وليحملن أثقالهم أي أوزار أنفسهم وأثقالا مع أثقالهم أي اوزارا مع اوزارهم وهي أوزار الذين أضلوهم وهذا كقوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم النحل وليسألن يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يفترون من الكذب على الله عز و جل وقال مقاتل عن قولهم نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله عز و جل
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين
قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه في هذه القصة تسلية للنبي ص حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشرك فانهم وإن أمهلوا فقد أمهل قوم نوح أكثر ثم أخذوا
قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما اختلفوا في عمر نوح على خمسة أقوال
أحدها بعث بعد أربعين سنة وعاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس
والثاني أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد ذلك سبعين عاما فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين سنة قاله كعب الأحبار (6/261)
والثالث أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة قاله عون بن ابي شداد
والرابع أنه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة قاله قتادة وقال وهب ابن منبه بعث لخمسين سنة
والخامس أن هذه الآية بينت مقدار عمره كله حكاه الماوردي
فإن قيل ما فائدة قوله إلا خمسين عاما فهلا قال تسعمائة وخمسين
فالجواب ان المراد به تكثير العدد وذكر الألف أفخم في اللفظ وأعظم للعدد
قال الزجاج تأويل الاستثناء في كلام العرب التوكيد تقول جاءني إخوتك إلا زيدا فتؤكد أن الجماعة جاؤوا وتنقص زيدا واستثناء نصف الشئ قبيح جدا لا تتكلم به العرب وإنما تتكلم بالاستثناء كما تتكلم بالنقصان تقول عندي درهم ينقص قيراطا فلو قلت ينقص نصفه كان الاولى ان تقول عندي نصف درهم ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إلا قليل من كثير
قوله تعالى فأخذهم الطوفان فيه ثلاثة أقوال
أحدها الموت روت عائشة عن رسول الله ص في قوله فأخذهم الطوفان قال الموت (6/262)
والثاني المطر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة قال ابن قتيبة هو المطر الشديد
والثالث الغرق قاله الضحاك
قال الزجاج الطوفان من كل شئ ما كان كثيرا مطيفا بالجماعة كلها فالغرق الذي يشتمل على المدن الكثيرة طوفان وكذلك القتل الذريع والموت الجارف طوفان
قوله تعالى وهم ظالمون قال ابن عباس كافرون
قوله تعالى وجعلناها يعني السفينة قال قتادة أبقاها الله آية للناس بأعلى الجودي قال ابو سليمان الدمشقي وجائز ان يكون اراد الفعلة التي فعلها بهم من الغرق آية أي عبرة للعالمين بعدهم
وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين
قوله تعالى وإبراهيم قال الزجاج هو معطوف على نوح والمعنى أرسلنا إبراهيم
قوله تعالى ذلكم يعني عبادة الله خير لكم من عبادة الأوثان (6/263)
إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم مما هو شر لكم والمعنى ولكنكم لا تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا قال الفراء إنما في هذا الموضع حرف واحد وليست على معنى الذي وقوله وتخلقون إفكا مردود على إنما كقولك أنما تفعلون كذا وإنما تفعلون كذا وقال مقاتل الأوثان الأصنام قال ابن قتيبة واحدها وثن وهو ما كان من حجارة أو جص
قوله تعالى وتخلقون إفكا وقرأ ابن السميفع وأبو المتوكل وتختلقون بزيادة تاء ثم فيه قولان أحدهما تختلقون كذبا في زعمكم أنها آلهة والثاني تصنعون الأصنام والمعنى تعبدون أصناما أنتم تصنعونها ثم بين عجزهم بقوله لا يملكون لكم رزقا أي لا يقدرون على أن يرزقوكم فابتغوا عند الله الرزق أي فاطلبوا من الله فانه القادر على ذلك
قوله تعالى وإن تكذبوا هذا تهديد لقريش فقد كذب أمم من قبلكم والمعنى فأهلكوا أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم
أولم يروا قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر (6/264)
يروا بالياء وقرأ حمزة والكسائي بالتاء وعن عاصم كالقراءتين وعنى بالكلام كفار مكة كيف يبدئ الله الخلق أي كيف يخلقهم ابتداء من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن يتم الخلق ثم يعيده أي ثم هو يعبده في الآخرة عند البعث وقال أبو عبيدة مجازه أولم يروا كيف استأنف الله الخلق الاول ثم يعيده وفيه لغتان أبدأ وأعاد وكان مبدئا ومعيدا وبدأ وعاد وكان بادئا وعائدا
قوله تعالى إن ذلك على الله يسير يعني الخلق الأول والخلق الثاني
قوله تعالى قل سيروا في الأرض أي انظروا إلى المخلوقات التي في الأرض وابحثوا عنها هل تجدون لها خالقا غير الله فاذا علموا أنه لا خالق لهم سواه لزمتهم الحجة في الإعادة وهو قوله ثم الله ينشئ النشأة الآخرة أي ثم الله ينشئهم عند البعث نشأة أخرى وأكثر القراء فرؤوا النشأة بتسكين الشين وترك المد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمد
قوله تعالى يعذب من يشاء فيه قولان
أحدهما أنه في الآخرة بعد إنشائهم
والثاني أنه في الدنيا ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي أحدها يعذب من يشاء بالحرص ويرحم من يشاء بالقناعة والثاني يعذب بسوء الخلق ويرحم بحسن الخلق والثالث يعذب بمتابعة البدعة ويرحم بملازمة السنة والرابع يعذب بالانقطاع إلى الدنيا ويرحم بالإعراض عنها والخامس يعذب من يشاء ببغض الناس له ويرحم من يشاء بحب الناس له
قوله تعالى وإليه تقلبون أي تردون وما أنتم بمعجزين في الأرض فيه قولان حكاهما الزجاج (6/265)
أحدهما وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء بمعجزين في السماء
والثاني وما أنتم بمعجزين في الارض ولا لو كنتم في السماء وقال قطرب هذا كقولك ما يفوتني فلان لا هاهنا ولا بالبصرة أي ولا بالبصرة لو صار إليها قال مقاتل والخطاب لكفار مكة والمعنى لا تسبقون الله حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة وما لكم من دون الله من ولي أي قريب ينفعكم ولا نصير يمنعكم من الله
قوله تعالى والذين كفروا بآيات الله ولقائه أي بالقرآن والبعث أولئك يئسوا من رحمتي في الرحمة قولان أحدهما الجنة قاله مقاتل والثاني العفو والمغفرة قاله أبو سليمان قال ابن جرير وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب فما كان جواب قومه إلا ان قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين
ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم وهو قوله فما كان جواب قومه أي حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن الأصنام إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه وهذا بيان لسفه أحلامهم حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا
قوله تعالى فأنجاه الله المعنى فحرقوه فانجاه الله من النار
قوله تعالى إن في ذلك يشير إلى إنجائه إبراهيم
قوله تعالى وقال يعني إبراهيم إنما اتخذتم من دون الله أوثانا (6/266)
مودة بينكم قرأ ابن كثير وأبو عمرو مودة بينكم بالرفع والإضافة قال الزجاج مودة مرفوعة باضمار هي كأنه قال تلك مودة بينكم أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودة بينكم والمعنى إنما أتخذتم هذه الأوثان لتتوادوا بها في الحياة الدنيا ويجوز أن تكون ما بمعنى الذي
وقرأ ابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة وابن ابي عبلة مودة بالرفع بينكم بالنصب
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم مودة بينكم قال ابو علي المعنى اتخذتم الأصنام للمودة وبينكم نصب على الظرف والعامل فيه المودة
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم مودة بينكم بنصب مودة مع الإضافة وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسما لما أضيف إليه
قال المفسرون معنى الكلام إنما اتخذتموها لتتصل المودة بينكم واللقاء والاجتماع عندها وأنتم تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض أي يتبرأ القادة من الأتباع ويلعن بعضكم بعضا يلعن الأتباع القادة لانهم زينوا لهم الكفر فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه (6/267)
إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين قال رب انصرني على القوم المفسدين
قوله تعالى فآمن له لوط أي صدق بابراهيم وقال يعني إبراهيم إني مهاجر إلى ربي فيه قولان أحدهما إلى رضى ربي والثاني إلى حيث أمرني ربي فهاجر من سواد العراق إلى الشام وهجر قومه المشركين ووهبنا له إسحاق بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وذلك أن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه وآتيناه أجره في الدنيا فيه أربعة أقوال
أحدها الذكر الحسن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني الثناء الحسن والولد الصالح رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث العافية والعمل الحسن والثناء فلست تلقى أحدا من اهل الملل إلا يتولاه قاله قتادة والرابع أنه أري مكانه من الجنة قاله السدي
قوله تعالى وإنه في الآخرة لمن الصالحين قد سبق بيانه البقرة قال ابن جرير له هناك جزاء الصالحين غير منقوص من الآخرة بما أعطي في الدنيا من الأجر وما بعد هذا قد سبق بيانه الأعراف إلى قوله وتقطعون السبيل وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم كانوا يعترضون من مر بهم لعملهم الخبيث قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم كانوا إذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة فيقطعون سبيل المس قاله مقاتل
والثالث أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال حكاه الماوردي (6/268)
قوله تعالى وتأتون في ناديكم المنكر قال ابن قتيبة النادي المجلس والمنكر يجمع الفواحش من القول والفعل
وللمفسرين في المراد بهذا المنكر اربعة أقوال
أحدها أنهم كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم فذلك المنكر روته أم هانئ بنت أبي طالب عن رسول الله ص وقال عكرمة والسدي كانوا يحذفون كل من مر بهم
والثاني لف القميص على اليد وجر الإزار وحل الأزرار والحذف والرمي بالبندق ولعب الحمام والصفير في خصال أخر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس
والثالث أنه الضراط رواه عروة عن عائشة وكذلك فسره القاسم ابن محمد
والرابع أنه إتيان الرجال في مجالسهم قاله مجاهد وقتادة وابن زيد (6/269)
وهذه الآية تدل على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إلا على ما يقرب من الله عز و جل ولا ينبغي ان يجتمعوا على الهزء واللعب
قوله تعالى رب انصرني أي بتصديق قولي في العذاب ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا أمرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا أمرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون
قوله تعالى إنا مهلكو أهل هذه القرية يعنون قرية لوط
قوله تعالى لننجينه قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم لننجينه وإنا منجوك بتشديد الحرفين وخففهما حمزة والكسائي وروى أبوبكر عن عاصم لننجينه مشدده وإنا منجوك مخففة ساكنة النون وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره هود إلى قوله إنا منزلون على اهل هذه القرية رجزا وهو الحصب والخسف
قوله تعالى ولقد تركنا منها في المكني عنها قولان
أحدهما أنها الفعلة التي فعل بهم فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال أحدها أنها الحجارة التي أدركت أوائل هذه الأمة قاله قتادة والثاني الماء الاسود على وجه الارض قاله مجاهد والثالث الخبر عما صنع بهم (6/270)
والثاني أنها القرية فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال
أحدها أنها آثار منازلهم الخربة قاله ابن عباس
والثاني أن الآية في قريتهم إلى الآن أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها حكاه ابو سليمان
والثالث أن المعنى تركناها آية تقول إن في السماء لآية تريد أنها هي الآية قاله الفراء وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجعوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جائمين
قوله تعالى وارجوا اليوم الآخر قال المفسرون اخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنكم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
قوله تعالى وعادا وثمود قال الزجاج المعنى وأهلكنا عادا وثمودا لان قبل هذا فأخذتهم الرجفة
قوله تعالى وقد تبين لكم من مساكنهم أي ظهر لكم يا أهل مكة (6/271)
من منازلهم بالحجاز واليمن آية في هلاكهم وكانوا مستبصرين قال الفراء أي ذوي بصائر وقال الزجاج أتوا ما أتوه وقد تبين لهم أن عاقبته عذابهم وقال غيره كانوا عند أنفسهم مستبصرين يظنون أنهم على حق
قوله تعالى وما كانوا سابقين أي ما كانوا يفوتون الله ان يفعل بهم ما يريد
قوله تعالى فكلا أخذنا بذنبه أي عاقبنا بتكذيبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا يعني قوم لوط ومنهم من أخذته الصيحة يعني ثمودا وقوم شعيب ومنهم من خسفنا به الأرض يعني قارون وأصحابه ومنهم من أغرقنا يعني قوم نوح وفرعون وما كان الله ليظلمهم فيعذبهم على غير ذنب ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالإقامة على المعاصي مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون
قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعني الأصنام يتخذها المشركون أولياء يرجون نفعها ونصرها فمثلهم في ضعف احتيالهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتا قال ثعلب والعنكبوت أنثى وقد يذكرها بعض العرب قال الشاعر (6/272)
على هطالهم منهم بيوت ... كأن العنكبوت هو ابتناها ...
قوله تعالى إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ أي هو عالم بما عبدوه من دونه لا يخفى عليه ذلك والمعنى أنه يجازيهم على كفرهم وتلك الأمثال يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار وقيل إن تلك بمعنى هذه والعالمون الذين يعقلون عن الله عز و جل خلق الله السماوات والارض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
خلق الله السماوات والأرض بالحق أي للحق ولإظهار الحق
قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في المراد بالصلاة قولان
أحدهما أنها الصلاة المعروفة قاله الأكثرون وروى أنس بن مالك عن رسول الله ص أنه قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا (6/273)
والثاني أن المراد بالصلاة القرآن قاله ابن عمر ويدل على هذا قوله ولا تجهر بصلاتك الاسراء وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق البقرة النحل
وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال
أحدها أن الإنسان إذا أدى الصلاة كما ينبغي وتدبر ما يتلو فيها نهته عن الفحشاء والمنكر هذا مقتضاها وموجبها
والثاني أنها تنهاه ما دام فيها
والثالث أن المعنى ينبغي أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر
قوله تعالى ولذكر الله اكبر فيه أربعة أقوال
أحدها ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه رواه ابن عمر عن (6/274)
رسول الله ص وبه قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين
والثاني ولذكر الله افضل من كل شئ سواه وهذا مذهب أبي الدرداء وسلمان وقتادة
والثالث ولذكر الله في الصلاة أكبر مما نهاك عنه من الفحشاء والمنكر قاله عبد الله بن عون
والرابع ولذكر الله العبد ماكان في صلاته أكبر من ذكر العبد لله قاله ابن قتيبة ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون
قوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في التي هي أحسن ثلاثة أقوال أحدها أنها لا إله إلا الله رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أنها الكف عنهم إذا بذلوا الجزية فان أبوا قوتلوا قاله مجاهد والثالث أنها القرآن والدعاء إلى الله بالآيات والحجج
قوله تعالى إلا الذين ظلموا منهم وهم الذين نصبوا الحرب وأبوا أن يؤدوا الجزية فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وقولوا (6/275)
لمن أدى الجزية منهم إذا أخبركم بشئ مما في كتبهم آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم الآية وقد روى ابو هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ص لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم الآية
فصل
واختلف في نسخ هذه الآية على قولين (6/276)
أحدهما أنها نسخت بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله وهم صاغرون التوبة قاله قتادة والكلبي
والثاني أنها ثابتة الحكم وهو مذهب ابن زيد وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون
قوله تعالى وكذلك أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به يعني مؤمني أهل الكتاب ومن هؤلاء يعني أهل مكة من يؤمن به وهم الذين أسلموا وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون قال قتادة إنما يكون الجحد بعد المعرفة قال مقاتل وهم اليهود
قوله تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب قال أبو عبيدة مجازة ما كنت تقرأ قبله كتابا ومن زائدة فأما الهاء في قبله فهي عائدة إلى القرآن والمعنى ما كنت قارئا قبل الوحي ولا كاتبا وهكذا كانت صفته في التوراة والإنجيل أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب وهذا يدل على ان الذي جاء به من عند الله تعالى (6/277)
قوله تعالى إذا لارتاب المبطلون أي لو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك ولقالوا ليست هذه صفته في كتابنا والمبطلون الذين يأتون بالباطل وفيهم ها هنا قولان أحدهما كفار قريش قاله مجاهد والثاني كفار اليهود قاله مقاتل
قوله تعالى بل هو آيات بينات في المكني عنه قولان
أحدهما أنه النبي محمد ص ثم في معنى الكلام قولان احدهما ان المعنى بل وجدان أهل الكتاب في كتبهم ان محمدا ص لا يكتب ولا يقرأ وأنه أمي آيات بينات في صدورهم وهذا مذهب ابن عباس والضحاك وابن جريج والثاني أن المعنى بل محمد ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته قاله قتادة
والثاني أنه القرآن والذين أوتوا العلم المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله ص وحملوه بعده وإنما أعطي الحفظ هذه الأمة وكان من قبلهم لا يقرؤون كتابهم إلا نظرا فاذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء وهذا قول الحسن
وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان أحدهما المشركون قاله ابن عباس والثاني كفار اليهود قاله مقاتل وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم (6/278)
يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله اولئك هم الخاسرون
قوله تعالى وقالوا يعني كفار مكة لولا أنزل عليه آيات من ربه قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم آيات على الجمع وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم آية على التوحيد وإنما أرادوا كآيات الأنبياء قل إنما الآيات عند الله أي هو القادر على إرسالها وليست بيدي وزعم بعض علماء التفسير أن قوله وإنما أنا نذير مبين منسوخ بآية السيف
ثم بين الله عز و جل ان القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب وذكر يحيى بن جعدة أن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله ص بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما نظر إليها ألقاها وقال كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى قوم غيرهم فنزلت أولم يكفهم إلى آخر الآية
قوله تعالى قل كفى بالله قال المفسرون لما كذبوا بالقرآن نزلت (6/279)
قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يشهد لي أني رسوله ويشهد عليكم بالتكذيب وشهادة الله له إثبات المعجزة له بانزال الكتاب عليه والذين آمنوا بالباطل قال ابن عباس بغير الله وقال مقاتل بعبادة الشيطان ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغاشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون
قوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب قال مقاتل نزلت في النضر بن الحارث حين قال فأمطر علينا حجارة من السماء الأنفال
وفي الأجل المسمى أربعة أقوال أحدها أنه يوم القيامة قاله سعيد ابن جبير والثاني أجل الحياة إلى حين الموت وأجل الموت إلى حين البعث قاله قتادة والثالث مدة اعمارهم قاله الضحاك والرابع يوم بدر حكاه الثعلبي
قوله تعالى وليأتينهم يعني العذاب وقرأ معاذ القارئ وأبو نهيك وابن أبي عبلة ولتأتينهم بالتاء بغتة وهم لا يشعرون باتيانه
قوله تعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي جامعة لهم
قوله تعالى ويقول ذوقوا قرأ ابن كثير بالنون وقرأ نافع بالياء فمن قرأ بالياء أراد الملك الموكل بعذابهم ومن قرأ بالنون فلأن ذلك لما كان يأمر الله تعالى جاز ان ينسب إليه ومعنى ما كنتم تعملون أي جزاء ما عملتم من الكفر والتكذيب (6/280)
يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فاياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرقا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم
قوله تعالى يا عبادي الذين آمنوا قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر يا عبادي بتحريك الياء وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي باسكانها
قوله تعالى إن أرضي واسعة وقرأ ابن عامر وحده أرضي بفتح الياء وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه خطاب لمن آمن من أهل مكة قيل لهم إن أرضي يعني المدينة واسعة فلا تجاوروا الظلمة في أرض مكة قاله أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال مقاتل نزلت في ضعفاء مسلمي مكة أي إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فارض المدينة واسعة
والثاني أن المعنى إذا عمل بالمعاصي في ارض فاخرجوا منها رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عطاء
والثالث إن رزقي لكم واسع قاله مطرف بن عبد الله
قوله تعالى فاياي فاعبدون أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين وحذفها الباقون قال الزجاج أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله إلى حيث تتهيأ لهم العبادة ثم خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة فقال كل نفس ذائقة الموت المعنى فلا تقيموا في دار الشرك خوفا من الموت ثم (6/281)
إلينا ترجعون بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم والأكثرون قرؤوا ترجعون بالتاء على الخطاب وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء
قوله تعالى لنبوئنهم قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر لنبوئنهم بالباء أي لننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي وخلف لنثوينهم بالثاء وهو من ثويت بالمكان إذا أقمت به قال الزجاج يقال ثوى الرجل إذا اقام وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه
قوله تعالى وكأين من دابة لا تحمل رزقها قال ابن عباس لما أمرهم رسول الله ص بالخروج إلى المدينة قالوا يا رسول الله نخرج إلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال فمن يؤوبنا ويطعمنا فنزلت هذه الآية قال ابن قتيبة ومعنى الآية كم من دابة لا ترفع شيئا لغد قال ابن عيينة ليس يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة (6/282)
قال المفسرون وقوله الله يرزقها أي حيثما توجهت وإياكم أي ويرزقكم إن هاجرتم إلى المدينة وهو السميع لقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة العليم بما في قلوبكم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون
قوله تعالى ولئن سألتهم يعني كفار مكة وكانوا يقرون بأنه الخالق والرازق وإنما أمره أن يقول الحمد لله على إقرارهم لأن ذلك يلزمهم الحجة فيوجب عليهم بل أكثرهم لا يعقلون توحيد الله مع إقرارهم بأنه الخالق والمراد بالأكثر الجميع وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون
قوله تعالى وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب والمعنى وما الحياة في هذه الدنيا إلا غرور ينقضي عن قليل وإن الدار الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان قال ابو عبيدة اللام في لهي زائدة للتوكيد والحيوان والحياة واحد والمعنى لهي دار الحياة التي لا موت فيها ولا تنفيص (6/283)
يشوبها كما يشوب الحياة الدنيا لو كانوا يعلمون أي لو علموا لرغبوا عن الفاني في الباقي ولكنهم لا يعلمون
قوله تعالى فاذا ركبوا في الفلك يعني المشركين دعوا الله مخلصين له الدين أي افردوه بالدعاء قال مقاتل والدين بمعنى التوحيد والمعنى أنهم لا يدعون من يدعونه شريكا له فلما نجاهم أي خلصهم من أهوال البحر وأفضوا إلى البر إذا هم يشركون في البر وهذا إخبار عن عنادهم ليكفروا بما آتيناهم هذه لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد كقوله اعملوا ما شئتم فصلت والمعنى ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم وليتمتعوا قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي باسكان اللام على معنى الامر والمعنى ليتمتعوا بباقي أعمارهم فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وقرأ الباقون بكسر اللام في ليتمتعوا فجعلوا اللامين بمعنى كي فتقديره لكي يكفروا ولكي يتمتعوا فيكون معنى الكلام إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتعوا أي لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمنون به في العاجلة من غير نصب لهم في الآخرة أولم يروا أنا جعلنا حرما امنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين
قوله تعالى أو لم يروا يعني كفار مكة أنا جعلنا حرما آمنا يعني مكة وقد شرحنا هذا المعنى في القصص (6/284)
ويتخطف الناس من حولهم أي أن العرب يسبي بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون أفبالباطل وفيه ثلاثة أقوال أحدها الشرك قاله قتادة والثاني الأصنام قاله ابن السائب والثالث الشيطان قاله مقاتل
قوله تعالى يؤمنون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم الجحدري تؤمنون وبنعمة الله تكفرون بالتاء فيهما
قوله تعالى وبنعمة الله يعني محمدا والإسلام وقيل بانعام الله عليهم حين أطعمهم وآمنهم يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي زعم أن له شريكا وأنه أمر بالفواحش أو كذب بالحق لما جاءه يعني محمدا والقرآن أليس في جهنم مثوى للكافرين وهذا استفهام بمعنى التقرير كقول جرير ... ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ...
والذين جاهدوا فينا أي قاتلوا أعداءنا لاجلنا لنهدينهم سبلنا أي لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة وقيل لنزيدنهم هداية وإن الله لمع المحسنين بالنصرة والعون قال ابن عباس يريد بالمحسنين الموحدين وقال غيره يريد المجاهدين وقال ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله لنهدينهم سبلنا (6/285)
سورة الروم
وهي مكية كلها باجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم
قوله تعالى غلبت الروم ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك رسول الله ص وأصحابه فشق ذلك عليهم وفرح المشركون بذلك لأن فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبدون الأصنام والروم أصحاب كتاب فقال المشركون لأصحاب رسول الله ص إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من اهل فارس على إخوانكم من (6/286)
الروم فان قاتلتمونا لنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين فقالوا هذا كلام صاحبك فقال الله أنزل هذا فقالوا لأبي بكر نراهنك على ان الروم لا تغلب فارس فقال ابو بكر البضع ما بين الثلاث إلى التسع فقالوا الوسط من ذلك ست فوضعوا الرهان وذلك قبل أن يحرم الرهان فرجع ابو بكر إلى أصحابه فأخبرهم فلاموه وقالوا هلا أقررتها كما أقرها الله لو شاء أن يقول ستا لقال فلما كانت سنة ست لم تظهر الروم على فارس فاخذوا الرهان فلما كانت سنة سبع ظهرت الروم على فارس وروى ابن عباس قال لما نزلت آلم غلبت الروم ناحب ابو بكر قريشا فقال له رسول الله ص ألا احتطت فان البضع مابين السبع والتسع وذكر بعضهم أنهم ضربوا الاجل خمس سنين وقال بعضهم ثلاث سنين فقال رسول الله ص إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فخرج ابو بكر فقال لهم أزايد كم (6/287)
في الخطر وامد في الأجل إلى تسع سنين ففعلوا فقهرهم أبو بكر وأخذ رهانهم
وفي الذي تولى وضع الرهان من المشركين قولان أحدهما أبي بن خلف قال قتادة والثاني أبو سفيان بن حرب قاله السدي
قوله تعالى في أدنى الارض وقرأ أبي بن كعب والضحاك وابو رجاء وابن السميفع في أداني الارض بألف مفتوحة الدال أي اقرب الأرض أرض الروم إلى فارس قال ابن عباس وهي طرف الشام
وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال احدها أنه الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس قاله مجاهد والثاني أذرعات وكسكر قاله عكرمة والثالث الاردن وفلسطين قاله السدي
قوله تعالى وهم يعني الروم من بعد غلبهم وقرأ أبو الدرداء وأبو رجاء وعكرمة والأعمش غلبهم بتسكين اللام أي من بعد غلبة فارس إياهم والغلب والغلبة لغتان سيغلبون فارس في بضع سنين في البضع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف قال المفسرون وهي هاهنا سبع سنين وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل ان تغلب الروم ومن بعد ما غلبت والمعنى أن غلبة الغالب وخذلان المغلوب بامر الله وقضائه (6/288)
ويومئذ يعني يوم غلبت الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله للروم وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم فغلبتهم الروم وجاء جبريل يخبر بنصر الروم على فارس فوافق ذلك يوم بدر وقيل يوم الحديبية
وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقأي ربهم لكافرون
قوله تعالى وعد الله أي وعد الله وعدا لا يخلف الله وعده أن الروم يظهرون على فارس ولكن أكثر الناس يعني كفار مكة لا يعلمون ان الله لا يخلف وعده في ذلك
ثم وصف كفار مكة فقال يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا قال عكرمة هي المعايش وقال الضحاك يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وقال الحسن يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم ولقد بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي
قوله تعالى وهم عن الآخرة هم غافلون لأنهم لا يؤمنون بها قال الزجاج وذكرهم ثانية يجري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عالم وهو اوكد من قولك زيد عالم
قوله تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم قال الزجاج معناه أولم يتفكروا فيعلموا فحذف فيعلموا لأن في الكلام دليلا عليه ومعنى إلا بالحق (6/289)
إلا للحق أي لإقامة الحق وأجل مسمى وهو وقت الجزاء وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون المعنى لكافرون بلقاء ربهم فقدمت الباء لأنها متصلة بكافرون وما اتصل بخبر إن جاز أن يقدم قبل اللام ولايجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين لا يجوز ان تقول إن زيدا كافر لبالله لأن اللام حقها أن تدخل على الابتداء أو الخبر أو بين الابتداء والخبر لأنها تؤكد الجملة وقال مقاتل في قوله وأجل مسمى للسماوات والأرض أجل ينتهيان إليه وهو يوم القيامة وإن كثيرا من الناس يعني كفار مكة بلقاء ربهم أي بالبعث لكافرون
أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآي أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون
قوله تعالى أولم يسيروا في الأرض أي أولم يسافروا فينظروا مصارع الأمم قبلهم كيف أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا قوله تعالى وأثاروا الأرض أي قلبوها للزراعة ومنه قيل للبقرة منيرة وقرأ ابي بن كعب ومعاذ القارئ وأبو حيوة وآثروا الأرض بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء وعمروها أكثر مما عمروها أي أكثر من عمارة أهل مكة لطول أعمار أولئك وشدة قوتهم وجاءتهم رسلهم بالبينات أي بالدلالات فما كان الله ليظلمهم بتعذيبهم على غير ذنب (6/290)
ولكن كانوا انفسهم يظلمون بالكفر والتكذيب ودل هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا
ثم أخبر عن عاقبتهم فقال ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى يعني الخلة السيئة وفيها قولان أحدهما انها العذاب قاله الحسن والثاني جهنم قاله السدي
قوله تعالى أن كذبوا قال الفراء معناه لأن كذبوا فلما ألقيت اللام كان نصبا وقال الزجاج لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم وقيل السوأى مصدر بمنزلة الإساءة فالمعنى ثم كان التكذيب آخر أمرهم أي ماتوا على ذلك كأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم ان طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبة لهم وقال مكي بن أبي طالب النحوي عاقبة اسم كان والسوأى خبرها وأن كذبوا مفعول من أجله ويجوز أن يكون السوأى مفعولة ب أساؤوا وأن كذبوا خبر كان ومن نصب عاقبة جعلها خبر كان والسوأى اسمها ويجوز أن يكون أن كذبوا اسمها وقرأ الأعمش أساؤوا السوء برفع السوء
قوله تعالى الله يبدأ الخلق ثم يعيده أي يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا ثم إليه ترجعون قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ترجعون بالتاء فعلى هذا يكون الكلام عائدا من الخبر إلى الخطاب وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء لأن المتقدم ذكره غيبة والمراد بذكر الرجوع الجزاء على الاعمال والخلق بمعنى المخلوقين وإنما قال يعيده على لفظ الخلق (6/291)
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاؤا وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقائ الآخرة فأولئك في العذاب محضرون
قوله تعالى يبلس المجرمون قد شرحنا الإبلاس في الأنعام
قوله تعالى ولم يكن لهم من شركائهم أي من أوثانهم التي عبدوها شفعاء في القيامة وكانوا بشركائهم كافرين يتبرؤون منها وتتبرأ منهم
قوله تعالى يومئذ يتفرقون وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إلى الجنة وقوم إلى النار
قوله تعالى فهم في روضة الروضة المكان المخضر من الارض وإنما خص الروضة لأنها كانت أعجب الأشياء إلى العرب قال ابو عبيدة ليس شئ عند العرب أحسن من الرياض المعشبة ولا أطيب ريحا قال الأعشى ... ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل ... يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل ...
قال المفسرون والمراد بالروضة رياض الجنة
وفي معنى يحبرون أربعة اقوال (6/292)
أحدها يكرمون رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني ينعمون قاله مجاهد وقتادة قال الزجاج والحبرة في اللغة كل نغمة حسنة
والثالث يفرحون قاله السدي وقال ابن قتيبة يحبرون يسرون والحبرة السرور
والرابع أن الحبر السماع في الجنة فاذا أهل الجنة في السماع لم تبق شجرة إلا وردت قاله يحيى بن أبي كثير وسئل يحيى بن معاذ أي الأصوات أحسن فقال مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان تحميد في رياض تمجيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر
قوله تعالى فأولئك في العذاب محضرون أي هم حاضرون العذاب أبدا لا يخفف عنهم
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الارض بعد موتها وكذلك تخرجون
ثم ذكر ما تدرك به الجنة ويتباعد به من النار فقال فسبحان الله حين تمسون قال المفسرون المعنى فصلوا لله حين تمسون أي حين تدخلون في الظهيرة وهي وقت الزوال وعشيا أي وسبحوه عشيا وهذه الآية قد جمعت الصلوات الخمس فقوله حين تمسون يعني به (6/293)
صلاة المغرب والعشاء وحين تصبحون يعني به صلاة الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر
قوله تعالى وله الحمد في السماوات والارض قال ابن عباس يحمده أهل السماوات وأهل الأرض ويصلون له
قوله تعالى يخرج الحي من الميت فيه أقوال قد ذكرناها في آل عمران
قوله تعالى ويحيي الأرض بعد موتها أي يجعلها منبتة بعد أن كانت لا تنبت وتلك حياتها وكذلك تخرجون قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر تخرجون بضم التاء وفتحها حمزة والكسائي والمراد تخرجون يوم القيامة من الارض أي كما أحيا الأرض بالنبات يحييكم بالبعث ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون (6/294)
وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين
قوله تعالى ومن آياته أي من دلائل قدرته أن خلقكم من تراب يعني آدم لأنه أصل البشر ثم إذا أنتم بشر من لحم ودم يعني ذريته تنتشرون أي تنبسطون في الأرض
قوله تعالى أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا فيه قولان
أحدهما أنه يعني بذلك آدم خلق حواء من ضلعه وهو معنى قول قتادة
والثاني ان المعنى جعل لكم آدميات مثلكم ولم يجعلهن من غير جنسكم قاله الكلبي
قوله تعالى لتسكنوا إليها أي لتأووا إلى الأزواج وجعل بينكم مودة ورحمة وذلك أن الزوجين يتوادان ويتراحمان من غير رحم بينهما إن في ذلك الذي ذكره من صنعه لآيات لقوم يتفكرون في قدرة الله وعظمته
قوله تعالى واختلاف ألسنتكم يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك وألوانكم لأن الخلق بين أسود وأبيض وأحمر وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة وقيل المراد باختلاف الألسنة اختلاف النغمات والأصوات حتى إنه لا يشتبه صوت أخوين من اب وأم والمراد باختلاف الألوان اختلاف (6/295)
الصور فلا تشتبه صورتان مع التشاكل إن في ذلك لآيات للعالمين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم للعالمين بفتح اللام وقرأ حفص عن عاصم للعالمين بكسر اللام
قوله تعالى ومن آياته منامكم بالليل والنهار أي نومكم قال ابو عبيدة المنام من مصادر النوم بمنزلة قام يقوم قياما ومقاما وقال يقول مقالا قال المفسرون وتقدير الآية منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله وهو طلب الرزق بالنهار إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون سماع اعتبار وتذكر وتدبر ومن آياته يريكم البرق قال اللغويون إنما حذف أن لدلالة الكلامة عليه وأنشدوا ... وما الدهر إلا تارتان فتارة أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ...
ومعناه فتارة أموت فيها وقال طرفة ... ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ...
أراد أن أحضر وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البرق في سورة الرعد
قوله تعالى أن تقوم السماء والأرض أي تدوما قائمتين بأمره ثم إذا دعاكم دعوة وهي نفحة إسرافيل الأخيرة في الصور بامر الله عز و جل (6/296)
من الأرض أي من قبوركم إذا أنتم تخرجون منها وما بعد هذا قد سبق بيانه البقرة العنكبوت إلى قوله وهو أهون عليه وفيه اربعة أقوال
أحدها أن الإعادة أهون عليه من البداية وكل هين عليه قاله مجاهد وأبو العالية
والثاني أن أهون بمعنى هين فالمعنى وهو هين عليه وقد يوضع أفعل في موضع فاعل ومثله قولهم في الأذان الله أكبر أي الله كبير قال الفرزدق ... إن الذي سمك السماء بني لنا بيتا دعائمه أعز وأطول ...
وقال معن بن أوس المزني ... لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تغدو المنية أول ...
أي وإني لوجل وقال غيره
... أصبحت أمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل ...
وأنشدوا أيضا (6/297)
تمنى رجال أن اموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد ...
أي بواحد هذا قول أبي عبيدة وهو مروي عن الحسن وقتادة وقد قرأ ابي بن كعب وأبو عمران الجوني وجعفر بن محمد وهو هين عليه
والثالث أنه خاطب العباد بما يعقلون فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحكمهم فمن قدر على الإنشاء كان البعث أهون عليه هذا اختيار الفراء والمبرد والزجاج وهو قول مقاتل وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في عليه عائدة إلى الله تعالى
والرابع أن الهاء تعود على المخلوق لأنه خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة ويوم القيامة يقول له كن فيكون رواه ابو صالح عن ابن عباس وهو اختيار قطرب
قوله تعالى وله المثل الأعلى قال المفسرون أي له الصفة العليا في السماوات والأرض وهي أنه لا إله غيره
قوله تعالى ضرب لكم مثلا سبب نزولها أن اهل الجاهلية كانوا يلبون فيقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير ومقاتل ومعنى الآية بين لكم أيها المشركون شبها وذلك الشبه من أنفسكم ثم بينه فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم أي من عبيدكم من شركاء فيما رزقناكم من المال والأهل والعبيد أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فأنتم فيه سواء أي أنتم (6/298)
وشركاؤكم من عبيدكم سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي كما تخافون امثالكم من الأحرار وأقرباءكم كالآباء والأبناء قال ابن عباس تخافونهم ان يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا وقال غيره تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء والمعنى هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء الأحرار فاذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي كذلك أي كما بينا هذا المثل نفصل الآيات لقوم يعقلون عن الله ثم بين أنهم إنما اتبعوا الهوى في إشراكهم فقال بل اتبع الذين ظلموا أي أشركوا بالله أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وهذا يدل على أنهم إنما اشركوا باضلال الله إياهم وما لهم من ناصرين أي مانعين من عذاب الله فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت (6/299)
أيديهم إذا هم يقنطون أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون
قوله تعالى فأقم وجهك قال مقاتل أخلص دينك الإسلام للدين أي للتوحيد وقال ابو سليمان الدمشقي استقم بدينك نحو الجهة التي وجهك الله إليها وقال غيره سدد عملك والوجه ما يتوجه إليه وعمل الإنسان ودينه ما يتوجه إليه لتسديده وإقامته
قوله تعالى حنيفا قال الزجاج الحنيف الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه كالحنف في الرجل وهو ميلها إلى خارجها خلقة لا يقدر الأحنف أن يرد حنفه وقوله فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله لأن معنى فأقم وجهك اتبع الدين القيم واتبع فطرة الله أي دين الله والفطرة الخلقة التي خلق الله عليها البشر وكذلك قوله عليه السلام كل مولود يولد على الفطرة أي على الإيمان بالله وقال مجاهد في قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها قال الإسلام وكذلك قال قتادة والذي (6/300)
أشار إليه الزجاج أصح وإليه ذهب ابن قتيبة فقال فرق ما بيننا وبين أهل القدر في هذا الحديث أن الفطرة عندهم الإسلام والفطرة عندنا الإقرار بالله والمعرفة به لا الإسلام ومعنى الفطرة ابتداء الخلقة والكل أقروا حين قوله ألست بربكم قالوا بلى ولست واجدا أحدا إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا وإن عبد شيئا دونه وسماه بغير اسمه فمعنى الحديث إن كل مولود في العالم على ذلك العهد وذلك الإقرار الأول وهو للفطرة ثم يهود اليهود أبناءهم أي يعلمونهم ذلك وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم ولا ثواب وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على انه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ثم أجمعوا على ان اليهودي إذا مات له ولد صغير ورثه وكذلك النصراني والمجوسي ولو كان معنى الفطرة الإسلام ما ورثه إلا المسلمون ولا دفن إلا معهم وإنما أراد بقوله عليه السلام كل مولود يولد على الفطرة أي على تلك البداية التي أقروا له فيها بالوحدانية حين أخذهم من صلب آدم فمنهم من جحد ذلك بعد إقراره ومثل هذا الحديث (6/301)
حديث عياض بن حمار عن النبي ص قال قال الله عز و جل إني خلقت عبادي حنفاء وذلك أنه لم يدعهم يوم الميثاق إلا إلى حرف واحد فأجابوه
قوله تعالى لا تبديل لخلق الله لفظه لفظ النفي ومعناه النهي والتقدير لا تبدلوا خلق الله وفيه قولان أحدهما أنه خصاء البهائم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثاني دين الله قاله مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي في آخرين وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين
قوله تعالى ذلك الدين القيم يعني التوحيد المستقيم ولكن أكثر الناس يعني كفار مكة لا يعلمون توحيد الله (6/302)
قوله تعالى منيبين إليه قال الزجاج زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وجوهكم منيبين لأن مخاطبة النبي ص تدخل معه فيها الأمة ومعنى منيبين راجعين إليه في كل ما أمر فلا يخرجون عن شئ من امره وما بعد هذا قد سبق تفسيره البقرة الأنعام إلى قوله وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة وفيه قولان أحدهما أنه القحط والرحمة المطر والثاني أنه البلاء والرحمة العافية إذا فريق منهم وهم المشركون والمعنى إن الكل يلتجؤون إليه في شدائدهم ولا يلتفت المشركون حينئذ إلى أوثانهم
قوله تعالى ليكفروا بما آتيناهم قد شرحناه في آخر العنكبوت وقوله فتمتعوا خطاب لهم بعد الإخبار عنهم
قوله تعالى أم أنزلنا عليهم أي على هؤلاء المشركين سلطانا أي حجة وكتابا من السماء فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أي يأمرهم بالشرك وهذا استفهام إنكار معناه ليس الأمر كذلك
قوله تعالى وإذا أذقنا الناس قال مقاتل يعني كفار مكة رحمة وهي المطر والسيئة الجوع والقحط وقال ابن قتيبة الرحمة النعمة والسيئة المصيبة قال المفسرون وهذا الفرح المذكور هاهنا هو فرح البطر الذي لا شكر فيه والقنوط اليأس من فضل الله وهو خلاف وصف المؤمن فانه يشكر عند النعمة ويرجو عند الشدة وقد شرحناه في بني إسرائيل إلى قوله ذلك يعني إعطاء الحق خير أي افضل من الإمساك للذين يريدون وجه الله أي يطلبون بأعمالهم ثواب الله (6/303)
وما آتيناهم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون
قوله تعالى وما آتيتم من ربا في هذه الآية أربعة أقوال
أحدها أن الربا هاهنا أن يهدي الرجل للرجل الشئ يقصد أن يثيبه عليه أكثر من ذلك هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وطاووس والضحاك وقتادة والقرظي قال الضحاك فهذا ليس فيه أجر ولا وزر وقال قتادة ذلك الذي لا يقبله الله ولا يجزي به وليس فيه وزر
والثاني أنه الربا المحرم قاله الحسن البصري
والثالث أن الرجل يعطي قرابته المال ليصير به غنيا لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى قاله إبراهيم النخعي
والرابع أنه الرجل يعطي من يخدمه لأجل خدمته لا لأجل الله تعالى قاله الشعبي
قوله تعالى ليربو في أموال الناس وقرأ نافع ويعقوب لتربو بالتاء وسكون الواو أي في اجتلاب اموال الناس واجتذابها فلا يربو عند الله أي لا يزكو ولا يضاعف لأنكم قصدتم زيادة العوض ولم تقصدوا القربة
وما آتيتم من زكاة أي ما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة (6/304)
إنما تريدون بها ما عند الله فأولئك هم المضعفون قال ابن قتيبة الذين يجدون التضعيف والزيادة وقال الزجاج أي ذووا الأضعاف من الحسنات كما يقال رجل مقو أي صاحب قوة وموسر صاحب يسار ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل ان يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون
قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر في هذا الفساد أربعة أقوال أحدها نقصان البركة قاله ابن عباس والثاني ارتكاب المعاصي قاله أبو العالية والثالث الشرك قاله قتادة والسدي والرابع قحط المطر قاله عطية
فأما البر فقال ابن عباس البر البرية التي ليس عندها نهر
وفي البحر قولان
أحدهما أنه ما كان من المدائن والقرى على شط نهر قاله ابن عباس وقال عكرمة لا أقول بحركم هذا ولكن كل قرية عامرة وقال قتادة المراد بالبر أهل البوادي وبالبحر أهل القرى وقال الزجاج المراد بالبحر مدن البحر على الأنهار وكل ذي ماء فهو بحر
والثاني أن البحر الماء المعروف قال مجاهد ظهور الفساد في البر قتل (6/305)
ابن آدم أخاه وفي البحر ملك جائر يأخذ كل سفينة غصبا وقيل لعطية أي فساد في البحر فقال إذا قل المطر قل الغوص
قوله تعالى بما كسبت أيدي الناس أي بما عملوا من المعاصي ليذيقهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة وقتادة وابن محيصن وروح عن يعقوب وقنبل عن ابن كثير لنذيقهم بالنون بعض الذي عملوا أي جزاء بعض أعمالهم فالقحط جزاء ونقصان البركة جزاء ووقوع المعصية منهم جزاء معجل لمعاصيهم ايضا
قوله تعالى لعلهم يرجعون في المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الذين أذيقوا الجزاء ثم في معنى رجوعهم قولان أحدهما يرجعون عن المعاصي قاله أبو العالية والثاني يرجعون إلى الحق قاله إبراهيم
والثاني أنهم الذين يأنون بعدهم فالمعنى لعله يرجع من بعدهم قاله الحسن
قوله تعالى قل سيروا في الأرض أي سافروا فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل أي الذين كانوا قبلكم والمعنى انظروا إلى مساكنهم وآثارهم كان أكثرهم مشركين المعنى فأهلكوا بشركهم (6/306)
فأقم وجهك للدين أي أقم قصدك لاتباع الدين القيم وهو الإسلام المستقيم من قبل ان يأتي يوم لا مرد له من الله يعني يوم القيامة لا يقدر احد على رد ذلك اليوم لأن الله تعالى قد قضى كونه يومئذ يصدعون أي يتفرقون إلى الجنة والنار من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين
من كفر فعليه كفره أي جزاء كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون أي يوطئون وقال مجاهد يسوون المضاجع في القبور قال أبو عبيدة من يقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكر والمؤنث ومجازها هاهنا مجاز الجميع ويمهد بمعنى يكتسب ويعمل ويستعد ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين
قوله تعالى ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات تبشر بالمطر (6/307)
وليذيقكم من رحمته وهو الغيث والخصب ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح بأمره ولتبتغوا بالتجارة في البحر من فضله وهو الرزق وكل هذا بالرياح
قوله تعالى فجاؤوهم بالبينات أي بالدلالات على صدقهم فانتقمنا من الذين أجرموا أي عذبنا الذين كذبوهم وكان حقا علينا أي واجبا هو أوجبه على نفسه نصر المؤمنين إنجاؤهم مع الرسل من عذاب المكذبين الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فاذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شئ قدير ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فانك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث (6/308)
فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون
قوله تعالى يرسل الرياح وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش يرسل الريح بغير ألف
قوله تعالى فتثير سحابا أي تزعجه فيبسطه الله في السماء كيف يشاء إن شاء بسطة مسيرة يوم أو يومين أو اقل أو أكثر ويجعله كسفا أي قطعا متفرقة والأكثرون فتحوا سين كسفا وقرأ أبو رزين وقتادة وابن عامر وأبو جعفر وابن ابي عبلة بتسكينها قال ابو علي يمكن ان يكون مثل سدرة وسدر فيكون معنى القراءتين واحدا فترى الودق يخرج من خلاله وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وأبو العالية من خلله وقد شرحناه في النور فاذا أصاب به أي بالودق ومعنى يستبشرون يفرحون بالمطر وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال
أحدها أنه للتأكيد كقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون الحجر قاله الأخفش في آخرين
والثاني أن قبل الأولى للتنزيل والثانية للمطر قاله قطرب قال ابن الأنباري والمعنى من قبل نزول المطر من قبل المطر وهذا مثلما يقول القائل آتيك من قبل أن تتكلم من قبل ان تطمئن في مجلسك فلا تنكر الإعادة لاختلاف الشيئين
والثالث أن الهاء في قوله من قبله ترجع إلى الهدى وإن لم يتقدم له ذكر فيكون المعنى كانوا يقطنون من قبل نزول المطر من قبل الهدى (6/309)
فلما جاء الهدى والإسلام زال القنوط ذكره ابن الأنباري عن ابي عمر الدوري وأبي جعفر بن قادم والمبلسون الآيسون وقد سبق الكلام في هذا الأنعام
فانظر إلى آثار رحمة الله قرأ أبن كثير ونافع وابو عمرو وأبو بكر عن عاصم إلى أثر وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم إلى آثار على الجمع والمراد بالرحمة هاهنا المطر وأثرها النبت والمعنى انظر إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الارض أي كيف يجعلها تنبت بعد ان لم يكن فيها نبت وقرا عثمان بن عفان وأبو رجاء وأبو عمران الجوني وسليمان التيمي كيف تحيي بتاء مرفوعة مكسورة الياء الأرض بفتح الضاد
قوله تعالى ولئن أرسلنا ريحا أي ريحا باردة مضرة والريح إذا أتت على لفظ الواحد أريد بها العذاب ولهذا كان رسول الله ص يقول عند هبوب الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا فرأوه مصفرا (6/310)
يعني النبت والهاء عائدة إلى الأثر قال الزجاج المعنى فرأوا النبت قد اصفر وجف لظلوا من بعده يكفرون ومعناه ليظلن لأن معنى الكلام الشرط والجزاء فهم يستبشرون بالغيث ويكفرون إذا انقطع عنهم الغيث وجف النبت وقال غيره المراد برحمة الله المطر وظلوا بمعنى صاروا من بعده أي من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة وما بعد هذا مفسر في سورة النمل إلى قوله الله الذي خلقكم من ضعف وقد ذكرنا الكلام فيه في الأنفال قال المفسرون المعنى خلقكم من ماء ذي ضعف وهو المني ثم جعل من بعد ضعف يعني ضعف الطفولة قوة الشباب ثم جعل من بعد قوة الشباب ضعف الكبر وشيبة يخلق ما يشاء أي من ضعف وقوة وشباب وشيبة وهو العليم بتدبير خلقه القدير على ما يشاء
ويوم تقوم الساعة قال الزجاج الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة فلذلك لم تعرف أي ساعة هي
قوله تعالى يقسم المجرمون أي يحلف المشركون ما لبثوا في القبور غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون قال ابن قتيبة يقال أفك الرجل إذا عدل به عن الصدق فالمعنى أنهم قد كذبوا في هذا الوقت كما كذبوا في الدنيا وقال غيره أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين فحلفوا على شئ يبين للمؤمنين كذبهم فيه ويستدلون على كذبهم في الدنيا (6/311)
ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وفيهم قولان أحدهما أنهم الملائكة والثاني المؤمنون
قوله تعالى لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فيه قولان
أحدهما أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين
والثاني أنه على نظمه ثم في معناه قولان أحدهما لقد لبثتم في علم الله قاله الفراء والثاني لقد لبثتم في خبر الكتاب قاله ابن قتيبة
قوله تعالى فهذا يوم البعث أي اليوم الذي كنتم تنكرونه ولكنكم كنتم لا تعلمون في الدنيا أنه يكون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء لأن التأنيث غير حقيقي
قال ابن عباس لا يقبل من الذين أشركوا عذر ولا توبة
قوله تعالى ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون
قوله تعالى ولئن جئتهم بآية أي كعصا موسى ويده ليقولن الذين كفروا إن انتم أي ما أنتم يا محمد وأصحابك إلا مبطلون أي أصحاب أباطيل وهذا بيان لعنادهم كذلك أي كما طبع على قلوبهم حتى (6/312)
لا يصدقون الآيات يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد الطبع على قلوبهم
قوله تعالى فاصبر إن وعد الله بنصرك وإظهارك على عدوك حق ولا يستخفنك وقرأ يعقوب إلا روحا وزيدا يستخفنك بسكون النون قال الزجاج لا يستفزنك عن دينك الذين لا يوقنون أي هم ضلال شاكون وقال غيره لا يوقنون بالبعث والجزاء وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة (6/313)
سورة لقمان
وهي مكية في قول الأكثرين وروي عن عطاء أنه قال هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والتي بعدها لقمان وروي عن الحسن أنه قال إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لقمان لأن الصلاة والزكاة مدنيتان بسم الله الرحمن الرحيم آلم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6/314)
وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فانبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم
قوله تعالى هدى ورحمة وقرأ حمزة وحده ورحمة بالرفع قال الزجاج القراءة بالنصب على الحال والمعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ويجوز الرفع على إضمار هو هدى ورحمة وعلى معنى تلك هدى ورحمة وقد سبق تفسير مفتتح هذه السورة البقرة إلى قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنية وقال مجاهد نزلت في شراء القيان والمغنيات وقال ابن السائب ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث وذلك أنه كان (6/315)
تاجرا إلى فارس فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستحملون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت فيه هذه الآية
وفي المراد بلهو الحديث أربعة أقوال
أحدها أنه الغناء كان ابن مسعود يقول هو الغناء والذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وبهذا قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال اللهو الطبل
والثاني أنه ما ألهى عن الله قاله الحسن وعنه مثل القول الاول
والثالث أنه الشرك قاله الضحاك
والرابع الباطل قاله عطاء
وفي معنى يشتري قولان
أحدهما يشتري بماله وحديث النضر يعضده والثاني يختار ويستحب قاله قتادة ومطر (6/316)
وإنما قيل لهذه الأشياء لهو الحديث لأنها تلهي عن ذكر الله
قوله تعالى ليضل المعنى ليصير أمره إلى الضلال وقد بينا هذا الحرف في الحج
وقرأ أبو رزين والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش وأبو جعفر ليضل بضم الياء والمعنى ليضل غيره وإذا أضل غيره فقد ضل هو ايضا
قوله تعالى ويتخذها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويتخذها برفع الذال وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب الذال قال أبو علي من نصب عطف على ليضل ويتخذ ومن رفع عطفه على من يشتري ويتخذ
وفي المشار إليه بقوله ويتخذها قولان
أحدهما أنها الآيات والثاني السبيل
وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدمت الاسراء الانعام البقرة الرعد النحل الشعراء إلى قوله ولقد آتينا لقمان الحكمة وفيها قولان أحدهما الفهم والعقل قاله الأكثرون والثاني النبوة وقد اختلف في نبوته على قولين
أحدهما أنه كان حكيما ولم يكن نبيا قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وقتادة
والثاني انه كان نبيا قاله الشعبي وعكرمة والسدي هكذا حكاه (6/317)
عنهم الواحدي ولا يعرف إلا ان هذا مما تفرد به عكرمة والقول الأول اصح
وفي صناعته ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان خياطا قاله سعيد بن المسيب والثاني راعيا قاله ابن زيد والثالث نجارا قاله خالد الربعي
فأما صفته فقال ابن عباس كان عبدا حبشيا وقال سعيد بن المسيب كان لقمان أسود من سودان مصر وقال مجاهد كان غليظ الشفتين مشقق القدمين وكان قاضيا على بني إسرائيل
قوله تعالى أن اشكر لله المعنى وقلنا له ان أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة ومن يشكر فانما يشكر لنفسه أي إنما يفعل لنفسه ومن كفر النعمة فان الله لغني عن عبادة خلقه (6/318)
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلى المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات او في الأرض يات بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور
قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه قال مقاتل نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد شرحنا ذلك في العنكبوت
قوله تعالى حملته أمه وهنا على وهن وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري وهنا على وهن بفتح الهاء فيهما قال الزجاج أي ضعفا على ضعف والمعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة وموضع أن نصب ب وصينا المعنى ووصينا الإنسان أن أشكر لي ولواليدك أي وصيناه بشكرنا وشكر والديه
قوله تعالى وفصاله في عامين أي فطامه يقع في انقضاء عامين وقرأ إبراهيم النخعي وأبو عمران والأعمش وفصاله بفتح الفاء وقرأ أبي بن كعب والحسن وأبو رجاء وطلحة بن مصرف وعاصم الجحدري وقتادة وفصله بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف والمراد التنبيه على مشقة الوالدة بالرضاع بعد الحمل (6/319)
قوله تعالى وإن جاهداك قد فسرنا ذلك في سورة العنكبوت إلى قوله وصاحبهما في الدنيا معروفا قال الزجاج أي مصاحبا معروفا تقول صاحبه مصاحبا ومصاحبة والمعروف ما يستحسن من الأفعال
قوله تعالى واتبع سبيل من أناب إلي أي من رجع إلي وأهل التفسير يقولون هذه الآية نزلت في سعد وهو المخاطب بها
وفي المراد بمن أناب ثلاثة أقوال
أحدها أنه أبو بكر الصديق قيل لسعد اتبع سبيله في الإيمان هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء وقال ابن اسحاق أسلم على يدي أبي بكر الصديق عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والثاني أنه رسول الله ص قاله ابن السائب
والثالث من سلك طريق محمد وأصحابه ذكره الثعلبي
ثم رجع إلى الخبر عن لقمان فقال يا بني وقال ابن جرير وجه اعتراض هذه الآيات بين الخبرين عن وصية لقمان أن هذا مما أوصى به لقمان ابنه
قوله تعالى إنها أن تك مثقال حبة وقرأ نافع وحده مثقال حبة برفع اللام (6/320)
وفي سبب قول لقمان لابنه هذا قولان
أحدهما أن ابن لقمان قال لأبيه أرأيت لو كانت حبة في قعر البحر أكان الله يعلمها فأجابه بهذه الآية قاله السدي
والثاني أنه قال يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله فأجابه بهذا قاله مقاتل
قال الزجاج من قرأ برفع المثقال مع تأنيث تك فلأن مثقال حبة من خردل راجع إلى معنى خردلة فهي بمنزلة إن تك حبة من خردل ومن قرأ مثقال حبة فعلى معنى إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة وعلى معنى إن فعلة الإنسان وإن صغرت يأت بها الله وقد بينا معنى مثقال حبة من خردل في الأنبياء
قوله تعالى فتكن في صخرة قال قتادة في جبل وقال السدي هي الصخرة التي تحت الارض السابعة ليست في السماوات ولا في الأرض
وفي قوله يأت بها الله ثلاثة أقوال
أحدها يعلمها الله قاله أبو مالك والثاني يظهرها قاله ابن قتيبة والثالث يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها (6/321)
إن الله لطيف قال الزجاج لطيف باستخراجها خبير بمكانها وهذا مثل لأعمال العباد والمراد أن الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
قوله تعالى واصبر على ما أصابك أي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأذى وباقي الآية مفسر في آل عمران ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير
قوله تعالى ولا تصعر خدك للناس قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب تصعر بتشديد العين من غير ألف وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بألف من غير تشديد قال الفراء هما لغتان ومعناهما الإعراض من الكبر وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء وابن السميفع وعاصم الجحدري ولا تصعر باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف وقال الزجاج معناه لا تعرض عن الناس تكبرا يقال أصاب البعير صعر إذا أصابه داء يلوي منه عنقه وقال ابن عباس هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر وقال ابو العالية ليكن الغني والفقير عندك في العلم سواء وقال مجاهد هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة فيراه فيعرض عنه وباقي الآية بعضه مفسر في بني إسرائيل وبعضه في سورة النساء (6/322)