وتمام الكلام فى هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفى بلا أو غيرها أو ما فى معناه على تشبيه مصرح بأركانه أو ببعضها أحتمل معنيين تفضيل المشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لان وجه الشبه فيه أولى وأقوى كقولك ليس زيد كحاتم فى الجود ويحتمل بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لعبد المسافة بينهما كقول العرب ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كما لك وقوله : طرف الخيال ولا كليلة مدلج ووقع فى شروح المقامات وغيرها أن العرب لم تستعمل النفى بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثانى وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريرى فى قوله : غدوت ولا اغتداء الغراب وعيب قول صاحب التلويح فى خطبته : نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار ومبنى الاعتراض على هذا ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب الانتصاف بما أورد من الآيات ومما أورده التعالبى من خلافه أيضا فى كتابه المنتخب فلان حسن ولا القمر وجواد ولا المطر على أنه لو سم ما ذكروه فالمعانى لا حجر فيها على أن ماورد فى النفى بلا المعترضة بين الطرفين لا فى كل نفى انتهى وهو كما قال : من نفائس المعانى التى ينبغى حفظها وقوله تعالى : وإنى سميتها مريم عطف على إنى وضعتها أنصثى المنصوبة المحل على المفعولية للقول : وما بينهما كما علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين أجره البعض مجرى الاعتراض فى الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى : إنه لقسم لو تعلمون عظم
واعترض بأنه كيف الاعتراض بين كلامى أم مريم وكلام متكام لا يجوز أن يكون معترضا بين كرمى متكلم آخر وأجيب بأن كلام أمو مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد فى أن يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلا عنها هزا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناذا على ما سبق من القراء والاحتمال فلا اعتراض
قيل : والغرض من عرض التسمية على علام الغيوب التقرب اليه تعالى واستدعاء العصمة لها فان مريم فى لغتهم بمعنى العابدة ولا يخفى بعده إذ مجرد ذكر تسميتها مريم يكون مقربا لها اليه تعالى لأن التقرب اليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة فكيف يكون مقربا اللهم إلا أن يقال : إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعباد الذى أشعر به تسميتها بنتها عابدة تو اعتقاد الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه
واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هى باقية ايضا لأن المقرب حينئذ ما فى القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لايخفى عليه خافية والأولى أن يقال : إن الغرض من ذلك إظهار غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليفة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم اليه للتخصيص يعنى التسمية من لا يشاركنى فيها أبوها قيل : وفى ذلك تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها والقول : بأن فائدة عرض تسميتها التحسر ةالتحزن أيضا أى إنى سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته اليها لكراهة الرجال فى الغالب البنات فمع أنه خلاف مادل عليه الآثار ونطق به غالب الاخبار من موت أبيها وهى حمل يجر إلى ما ينبغى أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى وقد تقدم الكلام فى مريم وزناومعنى وقد اختار بعض المتأخرين انها معربة مارية بمعنى جارية ويقرب أن يكون القول المعول عليه واستدل بالآية على جواز تسمية الاطفال يوم الولادة لا يوم السابع لان الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع واستدل بتغاير المفعولين على (3/136)
تغاير الاسم والمسى وقد تقدم البحث فيه وإني أعيذعا بك عطف على إني سميتها وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف وضعتها وسميتها حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذبة على المعطوف الآتى \ ي اهتماما به ومعنى أعيذها بك أمنعها وأجبرها بحفظك وأصل العوذ كما قال الرغب : الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ومنه أخذت العوذة وهى التميمة والرقية وقرأ جعفر ونافع إني بفتح ياء المتكلم وكذا فى سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين بعهدي أوف و آتوني أفرغ وذريتها عطف على الضمير المنصوب وفي التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية تكبر وطلب للتناسل منها هذا إذا أريد بالاعاذة من الشيطن الرجيم أى المطرود وأصل الرجم الرمي بالحجارة الحفظ من إعوائه الموقع فى الخطايا لانه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الامرين من الامر الاخير ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه صارخا إلا مريم وابنها وفد بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب وفي رواية إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه ويلم : كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس اليهما وطعن القاضي عبدالجبار بإصبع فكره في هذه الاخبار بأنها خبر واحد على خلاف الدليل وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولانه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وأيضا لم خص عيسى وأمه سائر الانبياء وأنه لو وجد المس أو النخس لدام اثره وليس فليس والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان فى إغوائه إلا مريم وابنها فانها كانا معصومين وكذلك كل من كان فى صفتهما كقوله تعالى : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومى : لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى
ولا يخفى أن الأخبار فى هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في الصحاح والامر لاامتناع فيه وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة و السلام فليتلق بالقبول والتخيل الذى ركن اليه الزمخشري ليس بشئ لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلاك صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك وقوله : لامتلأت الدنيا عياطا قلنا : هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الاوقات كيف وقى الصحيح لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل وفي رواية لاختطفتكم الجن وفسر قوله تعالى له معقبات من بين يديه فى أحد الوجوه به وبهذا يندفع ايضا قول القاضى : (3/137)
من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس امرا ضروريا للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه لتيوجه ارباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم أو يقدر له ما يخصصه وعلى الثقديرين يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة و السلام في هذا المعنى ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه وقد قال به جمع ويشهد له ماروى الجلال في البهجة السنية عن عكرمة قال : لما ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشرقت الارض نورا فقال إبليس : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده : لو ذهبت اليه فجاءه فركضه جبريل عليه والسلام فوقع بعدن وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الانبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيلة عليهم عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الاخبار من تلك الحيثية نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الاعاذة من المس الذى يكون حين الولادة وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الاعاذة غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الاحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا يضيق عليهم سربا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه فتقبلها أى رضى بمريم فى النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول ربها أى رب مريم المبلغ لها إلى كما لها اللائق بها وقيل : الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التى خاطبت ونادت بقولها رب إني وضعتها الخ والأول أولى بقبول حسن الباء مثلها فى كتبت بالقلم و القبول ما يقبل به الشئ كالسعوط واللدود ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة
فقد روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محرر فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء عليها لأنها كانت بنت إمامهم أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الاحبار : أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي فقالت القراءة ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها وقل زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس : أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا : لا نرضي ولكن نلقي الاقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الاردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا : نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا ويجوز أن تكون الباء للملابسة و القبول مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف والمعنى رضى بها متلبسة بأمر ذي قبول ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الاكرام ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل كتعجل بمعنى استعجل والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول (3/138)
حسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ وفي المثل خذ الامر بقوابله وجوز أن تكون الباء زائدة و القبول مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أى قبلها قبولا حسنا وعدل عن الظاهر للايذان بمقارنة التقبل لكمال لرضا وموافقته للعناية الذاتية فان صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع أى تقبل نذرها مع قبول حسن لدعاء أمها فى حقها وحق ذريتها حيث اعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة وأنبتها نباتا حسنا أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وفي رواية عنه أنه سوى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام وقيل : تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها فقي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الوارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات و نباتا هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات وقيل : التقدير فنبتت نباتا والنبات والنبت بمعنى وقد يعبر عن النابت وكفلها زكريا وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أى ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها على ما ذكر فى حديث ابن عباس وكل ذلك من آثار قدرته تعالى ولم يكن هناك وحي إليه بذلك وقرأ بتشديد الفاء حمزة والكسائي وعاصم وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش وهو مفعول به لكفلها وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا زكريا ورفعوه على الفاعلية وفيه لغتان أخريان إحداهما زكريا م بياء مشددة من غير ألف وثانيتهما زكريا بغير ياء ومنعه من التصرف للعلمية والعجمة وقيل : لألف التأنيث وقرأ أبي وأكفلها وقرأ مجاهد فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها على صيغة الدعاء في الافعال الثلاثة ونصب ربها على النداء أى فاقبلها يا ربها وربها واجعل زكريا كافلا لها وقد استجاب الله تعالى دعاءها في جميع ذلك والذي عليه الاكثرون وشهدت له الاخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوى كلما دخل عليها زكريا المحراب بيان لقبولها ولهذا لم يعطف والمحراب على ما روى عن ابن عباس رضي اللهع تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعلت بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة وقيل : المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب وقيل : أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الامام من المسجد في رأى وأصله مفعال صيغة مبالغة كمطعان م فسمى به المكان لان المحاربين نفوسهم كثيرون فيه وقيل : إنه يكون اسم مكان وسمى به لان محل محاربة الشيطان فيه او لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح : جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب وتقديم الظرف على الفاعل لاظهار كمال العناية بأمرها ونصب المحراب على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفئ أو بالى وإظهار الفاعل قيل : لفصل الجملة و كلما ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لان ما في حين المضاف إليه لا يعمل فى المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط ومن الناس من وهم فقال : إن ناصبه فعل (3/139)
الشرط وادعى أنه الانسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه وجد عندها رزقا أي أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها أخرج ابن جرير عن الزبير قال : إنه كان لا يدخل عليها غيره وإدا خرج عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من أثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة فقد روى أنها لم ترضع ثديا قط وقيل : إن هذا كان بعد أن ترعرعت ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عايهما أن زكريا عليه الصلاة و السلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه قال يمريم استئناف بياني أنى لك هذا أي من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنياوالأبلااب مغلقة دونك ومجئ أنى بمعنى من أين أو كيف تقدم الكلام عليه واستشهد للاول بقوله : تمنى بوادي الرمث زينب ضلة فكيف ومن أنى بذي الرمث تطرق وللثاني بقوله : أنى ومن أين : أبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب وحذف حرف الجر من أنى نحو حذف في من الظروف اللازمة للظرفية من نحو مع وسحر لان الشئ إذا علم في موضع جاز حذفه والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها لان اتصالها بمظروفها بتلك الحروف فجاز حذفها كما جاز حذف في إلا أنها لما كانت الاصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يمثر من غير المتصرفة لرتبتها عن رتبة في كما في الكشف واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور وهذا هو الذي ذهب اليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة و السلام وأجاب الجبائىي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة و السلام ورد الأخير بأن اشتباه الامر عليه يأبى ذلك ولعله مبني على الظاهر وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الامر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه والقول بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشئ كما لا يخفى قالت استئناف كالذى قبله هو من عند الله قيل : أرادت من الجنة وقيل : مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد وقيل : تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة و السلام وقد جمع من تكلم كذلك فلاغوا أحد عشر نفسا وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال : تكلم في المهد النبي ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبرى جريح ثم شاهد يوسف وطفل لذى الاخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم (3/140)
أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع اليه بالكلية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لاني سيد المحبين يحببكم الله وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق وروح الروح بلذة العشق واستغراق الحواس في بحر الأنس وطهارة النفس بمياه القدس ورؤية الحبيب بعين الكل وغمض عين الكل عن الكونين وطيران في غيب الغيب وتخلق المحب المحبوب وهذا أصل المحبة وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات والمراقبات واستنشاق نفحات الصفات والتواضع والذل في الحركات والسكنات مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا ينبعث الآلاء والنعم لان المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب ولذا قالوا : لا تصبح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسى الكل واستغرق فى مشاهدة المحبوب وفنى فيه خليلي لو أحببتما لعلمتما محل الهوى من مغرم القلب صبه تذكر والذمرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه وشوق على بعد المراد وقربه وقد يقال : المحبة ثلاثة أقسام : القسم الاول محبة العوام وهى مطالعة المنة من روية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن اليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الاعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون وفيه يقول أبو الطيب : وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يرجى عليه ثواب القسم الثاني محبة الخواص المتبعين للاخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولانه أهل لذلك وإلى هذا القسم أشار بقوله : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وقالت رابعة رحمها الله تعالى : أحبك حبين حب الهوى وحب لانك أهل لذاكا وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد والقسم الثالث محبة خواص المتبعين للاحوال وهي الناشئة من الجذبة الآلهية في مكامن كنت كنزا مخفيا وأهل هذه المحبة هم الميتعدون لكمال المعرفة وحقيقتها أن يفني المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكرن لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكي وفي مثل ذلك قيل : يقولون إن الحب كالنار في الحشا ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد ويكفي في شرح الحب لفظة فانه : حاء وباء والحاء من حروف الحلق والباء شفوية ففيه إشارة إلى أن الهوى مالم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له : حب وشرح ذاك يطول وهذه محبة العبد لربه وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث (3/141)
إن الله يرزق من يشاء من عباده أن يرزقه بغير حساب
73
- تقدم معناه والجملة تعليل لكونه من عند الله والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل داخله تحت القول وقال الطبري : إنها ليست من كلامها بل هي من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليهه وسلم والاول أولى وقد أخرج أبو يعلي عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن فاطمة فقال : يابنية هل عندك شئ آكله فاني جائه فقالت : لا والله فلما خرج من عندها بعثت اليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع اليها فقالت له : بي أنت وأمي قد أتى الله بشئ قد خبأته لك قال : هلمي يابنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فاذا هي مملوءة خبزا ولحكا فلما نظرت اليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي فلما رآه حمد الله تعالى وقال : من اين لك هذا يا بنية قالت : يا أبتي هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة مساء بني إسرائيل فانها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فاوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها هذا ومن باب الاشارة في الآيات ة يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين نهى عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يحب الرائين ولا المنافقين ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الانكار والعياذ بالله تعالى تحاكى ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الايمان ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شئ معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب لها الحضرة الالهية إلا أن تتقوا منهم تقاة فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوى يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى ويحذركم الله نفسه اى يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره وإلى الله المصير فلا تحذروا إلا إياه والاكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من رونهم بقوله سبحانه : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله قال إبراهيم الخواص : وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للاحوال النازلة قل إن تخفوا ما في صدوركم من الموالاة أو تبدوه يعلمه الله لأنه مع كل نفس وخطرة ويعلم ما في سموات الارواح وأرض الأجسام والله على كل شئ قدير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده عن مظهر يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء لأن كل ما يعمله الانسان او يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في مصحائف النفوس السماوية إلا أنه لا شتغاله بالشواغل الحسية والادراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فاذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فاذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لتعذبها به ويحذركم الله نفسه كرره تاكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه والله رءوف بالعباد اى بسائر فلهذا حذرهم (3/142)
الرحمة فكأنه قيل لهم : اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم : اتبعوني بمكارم الاخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال وتعلقت بخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم : اتبعوني ببدل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه وهناك يرتفع البون من البين ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم ويغفر لكم ذنوبكم أي معاصيكم التي سلفا منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها او يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته او يغفر لكم ذنوب وجودكم وثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال : فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث والله غفور يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم رحيم يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من دلك قل اطيعوا الله والرسول فإن المريد يلزمه متابعة المراد فان تولوا اى فان اعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون والله لا يحب الكافرين لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض فأخص المراتب هو المحبة وإليه يشير قوله تعالى : ورفع بعضهم درجات ثم الخلة وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور انوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم وآل عمران يجعلهم آسة للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان : صورية معنوية وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من اصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سرأبيه ويمكن أن يقال : آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي القاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات وآله القوى الروحانية وعمران هو العقل المام في بيت مقدس البدن وآلة التابعون في ذلك البيت المقتدون به وكل ذلك ذرية بعضها لوحدة المورد واتفاق المشرب إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوى فتقبلها ربها بقبول حسن قال الواسطي : محفوظ عن إدراك الخلق وأنبتها نباتا حسانا حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة وكفلها زكريا لطهارة سره وشبيه السئ منجذب إليه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا هو ما علمت ويجوز ان يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذا لاختصاص بالعندية يدل على كونه اشرف من الأرزاق البدنية
وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال رزقا أي علما وقى يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس إذ قالت امرأة عمران وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل إني نذرت لك ما في بطني وهو غلام القلب محررا ليس في رق شئ من المخلوقات فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وهي نفس ايضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة والجنس يلد الجنس والله أعلم بما وضعت لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب وغيره سبحانه تخفي عليه الأسرار وإني سميتها مريم وهي العابدة (3/143)
وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت فتقبلها ربها بقبول حسن وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها وأنبتها نباتا حسنا ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق وكفلها زكريا الاستعداد كلما دخل عليها زكريا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب وجد عندها رزقا تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت قال أنى لك هذا الرزق العظيم قالت : هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الافكار إن الله الجامع لصفات الجمال والجلال يرزق من يشاء ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم بغير حساب فسبحانه من إله جواد كريم وهاب
هنا لك دعا زكريا ربه قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له و هنا ظرف مكان و اللام للعبد و الكاف للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى وجوز أن يراد بها الزمان مجازا فان هنا و ثم و حيث كثيرا ما تستعار له وهي متعلقة بدعا وتقديم الظرف للايذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير وقال الزجاج : إن هنا مستعارة للجهة والحال أي من تلك الحال دعا زكريا كما تقول : من ههنا كذا ومن هنالك قلت كذا أي من ذلك الوجه وتلك الجهة
أخرج ابن بشر وابن عساكر عن الحسن قال : لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها : أنى لك هذا في غير حينه قالت : هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال : إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى وقيل : أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه الأول ما أشار اليه الاثر من حيث أن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه والثاني أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج والثالث أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك
والرابع أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه والخامس أنه لما سمع من مريم والله يرزق من يشاء بغير حساب تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للاقبال على الدعاء بل كان جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنة عليه السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم قال شرح للدعاء وبيان لكيفيته رب هب لي من لدنك الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى و من لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من عندك ذرية طيبة أي مباركة كما قال السدي وقيل : صالحة تقية نقية العمل ويجوز أن يتعلق الجار الاخير بمحذوف وقع حالا من ذرية وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلة شئ وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنة ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال : أعطني ذرية من غير وسط معتاد والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والانثى والمراد ههنا ولد واحد قال الفراء : وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة بجيئان على اللفظ (3/144)
وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الاجناس كما في قوله : أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال بخلاف الأعلام فانه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة لأن اسم العلم لا يفيد سلا ذلك الشخص فإذا كان مدكرا لم يجز فيه إلا التذكير إنك سميع الدعاء
83
- أراد كثير الاجابة لمن يدعوك من خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الاجابة وفي ذلك اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحق ربي لسميع الدعاء قيل : قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ إحداها هذه والثانية إني وهن العظم مني الخ والثالثة رب لا تذرني فردا الخ فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة ويدل على أن بين الدعاء والاجابة زمانا ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن بينهما اربعين سنة وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الايجاز وتارة على سبيل الإسهاب وأخرى على سبيل التوسط وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى إد لم يكن لسانهم عربيا ولهذا ورد عن الحسن أنه عليه السلام حين دعا قال : با رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف هب لي من لدنك ذرية ولم يذكر في الدعاء يارب قيل : ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله تعالى : فنادته الملكة وفي قوله سبحانه : فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وظاهر قوله جل شأنه في مريم : إنا نبشرك اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه واثر أن بين الدعاء والاجابة اربعين سنة لم نجد له أثرا في الصحاح نعم ربما يشعر بعض الاخبار الوقوفة أن بين الولادة ولتبشير مدة كما سنشير إلى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى والمراد من الملائكة جبريل عليه السلام فإنه المنادي وحده كما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وذكر عبدالرحمن بن ابي حماد أنه كان يقرأ فناداه جبريل فالجمع هنا مجاز عن الواحد للتعظيم أو يكون هذا من إسناد فعل البعض للكل وقيل : الجمع فيه مثله في قولك : فلان يركب الخيل ويلبس الديباج واعترض بأن هذا إنما يصح إذا أريد واحد لا بعينه وههنا أريد المعين فلعل ما تقدم اولى بالارادة وقيل : الجمع على حاله والمنادى كان جملة من الملائكة وقرأ حمزة والكسائي فناديه بالإمالة والتذكير
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : ذكروا الملائكة ثم تلا إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى وكان يقرأها فناداه الملائكة ويذكر في جميع القرآن وأخرج الخطيب عنه أن النبي كان يقرأ كذلك وهو قائم جملة حالية من مفعول النداء مقررة لما اشارت اليه الفاء على ما أشرنا اليه وقوله تعالى : يصلي حال من المستكن في قائم أو حال أخرى من المفعول على القول بجواز تعددها من غير عطف ولا بدلية أو خبر ثان للمبتدأ على رأى من يرى مثل ذلك وقيل : الجملة صفة لقائم والمراد بالصلاة ذات الأقوال والأفعال كما هو الظاهر وعليه أكثر المفسرين
وأخرج ابن المنذر عن ثابت قال : الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا افضل من الصلاة ما قال : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي وقيل : المراد بها الدعاء والاول يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم في المحراب أي في المسجد (3/145)
بيصلي أو على تقدير كون يصلي حالا من ضمير قائم لان العامل فيه وفي الحال شئ واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية كذا قوله والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فان كلا من قائم و يصلي يصح أن يتسلط على في المحراب على أي وجه تقدم من وجوه الاعراب فتدبر
ثم أعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة وإلى ذلك ذهب على كرم الله وجهه وإبراهيم رحمه الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول فعن أبي موسى الجهني قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يزال أمتي بخير مالم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى وعن عبدالله بن أبي الجعد قال : كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب والروايات في ذلك كثيرة وللإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها أن الله يبشرك بيحيى أي بان الله وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في أن وإن يجوز في المنسبك اعتبار النصب واعتبار الجر والأول مذهب سيبويه والثاني مذهب الخليل وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول وهو مذهب البصريين أو على إجراء النداء مجرى القول لأنه نوع منه وهو مذهب الكوفيين وقرأ حمزة والكسائي يبشرك من الإبشار وقرأ يبشرك من الثلاثي
أخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال : من قرأ يبشر مثقلة فإنه من البشارة ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فانه من السرور ويحيى اسم أعجمي على الصحيح وقيل : عربي منقول من الفعل والمانع من الصرف على الاول العلمية والعجمية وعلى الثاني العلمية ووزن الفعل والقول بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال أن يكون مبنيا بجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله : نبئت أخوالي بني يزيد ليس بشئ لما في ذلك الاحتمال من التكلف المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع والقائلون بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومنهم من وجه ذلك بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وروى عن قتادة وقيل : سمى بيحي لانه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وقيل : لانه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما وقيل : لان الله يحي به الناس بالهدى قال القرطبي : كان اسمه في الكتاب الأول حيا ورأيت في إنجيل متى أنه عليه السلام كان يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما يحكيه كتب النصارى وجمع م يحي م يحبون رفعا ويحيين جرا ونصبا وتثنيته كذلك يحييان ويحيين ويقال في النسب إليه : يحيى بحذف الالف ويحتوي بقلبها واوا ويحياوى بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الاصلية وفي تصغيره يحيى بوزن فعيعل قال مولانا شيخ الاسلام : وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محليا بعبارة من الله عز و جل على منهاج قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية كما يلوح به مراجعته عليه السلام في الجواب اليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجري على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء : امير المؤمنين يرسم لك كذا وللايذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى وكان الداعي إلى (3/146)
اعتبار ما هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكى من الله تعالى وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لولا ذلك والملوح غير موجب كما لا يخفى ولابد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذ التبشير لا يتعلق بالاعيان ويؤل في المعنى إلى ما هناك أي إن الله يبشرك بولادة غلام اسمه يحيى مصدقا بكلمة من الله نصب على الحال المقدرة من يحيى : والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعليه أجلة المفسرين وإنما سمى عيسى عليه السلام بذلك لانه وجد بكلمة كن من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر و من لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الايمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور
أخرج أحمد عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره وقيل : بثلاث سنين قيل : وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن صفولية مريم قبل العشر أو الثلاث عشرة وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادي الامر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه في الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام الامر وثباته زمن الصفولية وبعدها وهذا قلما يوجد في الاطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين الولادة ولتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما السلام وهو مما أتفق عليه المسلمون وغيرهم ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وحكى عن أبي عبيدة أن معنى بكلمة من الله بكتاب منه والمراد به الأنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم كلمة الحويدرة للعينية المعروفة بالبلاغة وسيدا عطف على مصدقا وفسره ابن عباس بالكريم وقتادة بالحليم والضحاك بالحسن الخلق وسالم بالتقي وابن زيد بالشريف وابن المسيب بالفقيه العالم وأحمد بن عاصم بالراضي بقضاء الله تعالى والخليل بالمطاع الفائق أقرانه وأبو بكر الوراق بالمتوكل والترمذي بالعظيم الهمة والثوري بمن لا يحسد وأبو إسحق بمن يفوق بالخير قومه وبعض أهل اللغة بالمالك الذي تجب طاعته إلى غير ذلك من الاقوال وكل ما فيها من الاوصاف مما يصلح ليحيى عليه السلام لأنها صفات كمال وأحق الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد من يسود قومه ويكون له أتباع ثم أطلق على فائق في دين أو دنيا ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث أنه عليه السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد من طرق عديدة (3/147)
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : كل ابن آدم يلقي الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فانه عليه السلام كان سيد قومه وله أتباع منهم غاية الأمر أن تلك رياسة شرعية والاتيان به إثر قوله تعالى : مصدقا للاشارة إلى أنه نبي كعيسى عليه السلام وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه : مصدقا بكلمة منه
وحصورا عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك قاله ابن عباس في إحدى الروايات عنه وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه عليه السلام كان كالأنملة وفي بعض الروايات كالقذاة وفي أخرى كالنواة وفي بعض كهدبة الثوب قيل : والاصح الاول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح والكلام مخرج مخرج المدح وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال : إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتقاعه عليه السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن تلك
ومن هنا قيل : إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا نحال يحيى عليه السلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال والذي يضل الاعمى ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا وفي رواية لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليه السلام أيضا كذلك أخرج عبدالرزاق عن قتادة موقوفا وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليه السلام من في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت ونبيا عطف هلى ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة من الصالحين 93 أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم فمن على الأول للابتداء وعلى الثاني للتبعيض قيل : ومعناه على الأول ذو نسب وعلى الثاني معصوم وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد نبيا وقد يقال : المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد في منصب النبوة ألبته من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سيلمن عليه السلام وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ولعله أولى مما قبل : قال رب أنى يكون لي غلم استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ فقيل : قال رب الخ وخاطب عليه السلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل و أنى بمعنى كيف أو من أين وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام و أنى واللام متعلقان بها ويجوز أن تكون ناقصة و لي متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما أنى لأنها بمعنى كيف أو من أين والثاني أن الخبر الجار و أنى منصوب على الظرفية وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى : إنا نبشرك بغلام ايمه يحيى وقد بلغني الكبر حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر (3/148)
في وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب
روى عن ابن عباس أنه كان عليه السلام حين بشر بالولد مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة وقيل : كان له من العمر تسع وتسعون سنة وقيل : اثنتان وتسعون وقيل وثمانون وقيل خمس وسبعوه وقيل سبعون وقيل : ستون وامرأتي عاقر جملة حالية أيضا إما من ياء لي أو ياء بلغني و العاقر العقيم التي لا تلد من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الاولاد وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة ولذلك لم تلحق تاء التأنيث قاله أبو البقاء وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما وكانت الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه السلام بعد مشاهدته عليه السلام الشواهد السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال قال الحسن وقيل : اشتبه عليه الامر أيعطي الولد من امرأته العجوز أن من امرأة أخرى شابة فقال ما قال وقيل : قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للانسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره : كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك ! تعجبا من جوده وقيل : إن الملائكة لما بشرته بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال وقيل : إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شئ وطلبه من السيد ووعده السيد باعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالاعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الاجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب وقيل : قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناءا على ما قيل : إن بين الدعاء والاجابة أربعين سنة أو ستين سنة كما حكى عن سفيان بن عيينة وكان قد نسى دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الاقوال من العبد وأبعد منها ما نقل عن السدى أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال : إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الامر عليه فقال : رب أنى يكون لي ولد وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال : أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمه ربه فقال : هل تدري من ناداك قال : نعم ناداني ملائكة ربي قال : بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه اليك كما أخفيت نداءك فقال : رب أنى يكون لي الخ واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الانبياء عليهم السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا والولد أشبه شئ بها فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال وأنت تعالم أن الاعتراض ذكر والجواب انثى ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفي عند تفسير قوله تعالى : ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته الآية
وبالجملة القول باشتباه الامر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر (3/149)
عن قتادة أنه قال : إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى قال أبي الرب والجملة استئناف على طرز ما مر كذلك الله يفعل ما يشاء
4
- أي يفعل الله ما يشلء أن يفعله من الافعال العجيبة الخارقة للعلدة فعلا مثلا ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف والاشارة لذلك المصدر وقدم الجار لا فادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار اليع واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الاشارة على ما أشير اليه من قبل في نظيره ويحتمل الكلام أوجها أخر : الأول أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك الثاني أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم و الله مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن لعجيب شأن الله تعالى وتكون جملة يفعل ما يشاء بيانا لذلك الشأن المبهم الثالث أن يكون كذلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أى الامر كذلك وتكون جملة الله يفعل ما يشاء بيانا أيضا الرابع أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام كأنه قال : رب على أي حال يكون لي الغلام فقيل له : كما أنت يكون الغلام لك وتكون الجملة جينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم
قال رب اجعل لي ءاية أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام وقول السدى : إنه سأل الآية ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ليس كما أشرنا إليه آنفا والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما آية وثانيهما لي والتقدم لانه المسوغ لكون آية مبتدأ عند الانحلال وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو آية و لي حينئذ في محل نصب على الحال من آية لانه لو تأخر عنها كان صفة لها وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده قال ءايتك الا تكلم الناس أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الانسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح وعلى كلا التقديرين عدم التكلم اضطراري وقال أبو مسلم : إنه اختياري والمعنى آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ولا يخفى بعده هنا وعليه وعلى القولين قبلة يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا وإلى ذلك ذهب عطاء وهو خلاف الظاهر ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف وإنما خص تكليم الناس للاشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى تلثة أيام أي متوالية وقال بعضهم : المراد ثلاثة أيام ولياليها وقيل : الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم : ثلاث ليال والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر ثلاثة أيام منها وأخرى على ثلاث ليال وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر قيل : وإنم قدم التبي بالأيام لأن يوم كل ليلة (3/150)
قبلها في حساب الناس يومئذ وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الاشارة إليه واعترض بأن آية الليالي متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها آية الايام مدنية وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر
فالبحث محتاج إلى تحرير بعد وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءا لحق النعمة كأنه قيل له : آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها وأحسن الجواب على ما قبل ما اخذ من السؤال كما قيل لابي تمام : لم تقول ما لا نفهم فقال : لم لا نفهم ما يقال وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب حسنات الأبرار سيآت المقربين ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول ومذهب قتادة لا آمن على الأقدام الضعيفة قتادة إلا رمزا أي إماءا وأصله التحرك يقال : ارتمز أي تحرك ومنه قيل للبحر : الراموز وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال : الاشارة باليد والوحي بالرأس فقال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت قول الشاعر : ما في السماء من الرحمن مرتمز إلا إليه وما في الأرض من وزر وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين وقيل : الكتابة على الأرض وقيل : الاشارة بالمسبحة وقيل : الصوت الخفي وقيل : كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو استثناء منقطع بناءا على أن الرمز الاشارة والافهام من دون كلام وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه وجوز أن يكون متصلا بناءا على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل به وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطبقا وادعى أن رمزا مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض والاصل أن لا تكلم الناس إلا برمز فالعامل الذي قبل إلا مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت إلا وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو ما لقيت إلا زيدا لقيت زيذا وفي ما خرج إلا زيد خرج زيد وكذا لو قلت آيتك أن تكلم الناس رمزا استقام وليس كذلك الاستثناء فلو قلت : ليس القوم في الدار إلا زيدا أو إلا زيد ثم حذفت النفي وإلا فقلت : القوم في الدار زيدا أو زيد لم يستقم فكذا المنقطع نحو ما خرج القوم إلا حمارا لو قلت : خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي وقرأ يحيى بن وثاب إلا رمزا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل وقرئ ورمزا بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين ومثله قول عنترة : متى ما تلقي فردين ترجف رواجف إليتيك وتستطارا وجوز أبو البقاء أن يكون رمزا على قراءة الضم مصدرا وجعله مسكن الميم في الاصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر وعليه لا يختلف إعرابه فافهم واذكر ربك أي في أيام الحبسة شكرا لتلك النعمة (3/151)
كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية وقيل : يحتمل أن يكون الامر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك الايام وأن يكون في جمع أيام الحمل لتعود بركاته اليه والمنساق إلى الذهن هو الاول والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها واستشكل العطف من وجهين : الاول عطف الإنشاء على الإخبار والثاني عطف المؤكد على المؤكد وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر وقيل : لا يبعد أن يجعل الامر بمعنى الخبر عطفا على لا تكلم فيكون في تقدير أن الكلام وتذكر ربك ولا يخفى ما فيه كثيرا صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا وسبح بالعشي وهو من الزوال إلى لبغروب قاله مجاهد وقيل : من العصر إلى ذهاب صدر الليل والإبكر
14
- أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة لا وقت فلا تحسن المقابلة كذا قيل : وهو مبني على أن العشي جمع عشية الوقت المخصوص واليه ذهب أبو البقاء والذي ذهب اليه المعظم أنه مصدر أيضا على فعيل لا جمع واليه يشير كلام الجوهري فافهم وقرئ والأبكار بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى وهو نادر الاستعمال قيل : والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وقبل : الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر و أل في الوقتين للعموم وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الايام الثلاثة وأبكارها والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس من باب التنازع في المشهور وجوزه بعضهم فيكون الامر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار
وهذا ومن باب البطون في الآيات أن زكريا عليه السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة عن إراداتها مقدسة من شهواتها فنادته الملائكة وهو قائم على ساق الخدمة يصلي في المحراب وهو محل المراقبة ومحاربة النفس إن الله يبشرك بيحي وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة مصدقا بكلمة من الله وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة وسيدا وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق وقال الصادق : هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه وقال ابن عطاء : هو المتحقق بحقيقة الحق وقال ابن منصور : هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلى بنعوت الربوبية وقال محمد بن علي : هو من استوت أحواله عند المنع والاعطاء وارد والقبول وحصورا وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الازلية وقال الاسكندراني : هو المنزه عن الأكوان وما فيها ونبيا أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعددا من الصالحين وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة : أنى يكون لي غلام والحال قد بلغني الكبر وهو أحد الموانع العادية وامرأتي عاقر وهو مابع آخر قال كذلك الله يفعل ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة قال رب اجعل لي آية على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الالهية قال آيتك (3/152)
ألا تكلم الناس بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجر دسرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به إلا رمزا تدفع به ضيق القلب عند الحاجة وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب واذكر ربك كثيرا بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات وسبح أي نزه ربك عن الشركة في الوجود بالعشي والابكار بالفناء والبقاء
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الانفس فتقول هنالك رعا زكريا الاستعداد ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص إنك سميع الدعاء ممن صدق في الطلب فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم منتهض لتكميل النشأة يصلي ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات أن الله يبشرك بيحيى وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الالهية مصدقا بكلمة من الله وهي ما تلقيها ملائكة الالهام من قبل الفياض المطلق وسيدا لم تملكه الشهوات النفسانية وحصورا أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية ونبيا بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا من الصالحين لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لا تصافه بالبقاء بعد الفناء قال رب أنى أي كيف يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وضعف القوى الطبيعية وامرأتي وهي النفس الحيوانية عاقر عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية قال كذلك الله في غرابة الشأن يفعل ما يشاء من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات وبقي أسيرا في سجب العادات قال رب أجعل لي آإية على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها قال آيتك ألا تكلم الناس وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة ثلاثة أيام وهي يوم الفناء بالافعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات إلا رمزا أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة اليه واذكر ربك الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية كثيرا حيث من عليك بخير كثير وسبح أي نزه ربك عن نقائض التقيد بالمظاهر بالعشي والإبكار أي وقتى الصحو والمحو
وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الانفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي أنكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ أن الله يبشرك بيحيى العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الاجرام وسيدا لجميع أصناف القوى وحصورا عن مباشرة الطبيعة ونبيا بالاخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الاخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة قال أنى يكون ذلك وقد بلغني كبر منتهى الطور وامرأتي وهي طبيعة الروح النفسانية عاقر بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له : علامة ذلك الامساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ ثلاثة أيام كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين إلا بالاشارة الخفية وأمر بالذكر في هذه الايام التي هي مع العشر الاول هي سن التمييز أربعون سنة (3/153)
انتهى وهو قريب مما ذكرته ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى وإذ قالت الملكة تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران ووقعت قصة زكريا ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء وإذ في المشهور منصوب باذكر والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لان تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه السلام والكلام هنا كالكلام فيما تقدم وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه والاول أولى والمراد اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم السلام يمريم إن الله اصطفك أي اختارك من أول الامر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية والتأكيد اعتناء بشأن الخبر وقوى الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الاخبار ونطقت به الظواهر وفي بعض ما يقتضي تكرار هذا القول من الملائكة لها فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أنه قال : كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم إن الله اصطفاك الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه السلام قال : إن لابنة عمران لشأنا وقيل : إن الملائكة عليهم السلام ألهموها ذلك ولا يخفى أن تفسير القول بالالهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا وعلى القول الأول يكون التكليم من باب الكرامة التي يمن بها الله سبحانه على خواص عباده ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه السلام أو معجزة لزكريا عليه السلام وأورد على الأول أن الارهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كاظلال الغمام لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتكلم الحجر معه وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه ويمكن أن يدفع بالعناية وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روى أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لاخيه فيه ولم يقل أحد بنبوته وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب
ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالاجماع وبقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا ولا يخفى ما فيه أما أولا فلأن حكاية الاجماع في غاية الغرابة فان الخلاف في نبوة نسوة كحواء وآسية وأم موسى وسارة وهاجر ومريم موجود خصوصا مريم فان القول بنبوتها شهير بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات وابن السيد إلى ترجيحه وذكر أن ذكرها مع الانبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك
وأما الثانية فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الأرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم وطهرك أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء (3/154)
مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد قاله الزجاج وروى عن الحسن وابن جبير أن المراد طهرك بالايمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية وقيل : نزهك عن الاخلاق الذميمة والطباع الرديئة والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الاقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية
واصطفاك على نساء العالمين
24
- يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لاحد من النساء وجعلها وإياه آية للعالمين ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبين من اصطفاها عليهن وعلى الاول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير وله نظائر قد مر بعضها وعلى الثاني لا إشكال في الترتيب وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة على البشارة الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الامر ولعل الأول أولى كما قال الإمام لما أن التأسيس خير من التأكيد والمراد من نساء العالمين قيل : جميع النساء في سائر الأعصار واستدل به على أفضليتها على فاطمة وخديجة وعائشة رضي الله تعالى عنهن وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران : ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : خير نساء ركبن الابل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول
وقيل : المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : أربع نسوة سادات عالمهن ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وأفضلهن عالما فاطمة وما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت والذي أميل اليه أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث أنها بضعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا ولا يعكر على ذلك الاحبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات وبه يجمع بين الآثار وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشئ وأين الثريا من يد المتناول ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء وقوله عليه الصلاة السلام : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاطمة يومئذ مع زوجها علي كرم الله وجهه وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومقام على كرم الله تعالى وجهه
وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء وأما أولا فلان (3/155)
قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات انها عالمه إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة السلام ولعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك ولو علم لربما قال : خذوا كل دينكم عن الزهراء وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة افضل من ابيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة و السلام : إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة كما لا يخفى كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة !
وأما الثانيا فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لان ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الافضلية لكنه قيل ولو على بعد : إن أل في النساء فيه للعهد والمراد بها الازواج الطاهرات الموجودات حين الاخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث
وأما ثالثا فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة ثم عائشة بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم افضل من عائشة لا أرى عليه بأسا وعندي بين مريم وفاطمة توقف نظرا للافضلية المطلقة وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم افضل ثم أمها ثم عائشة ووافقه في ذلك البلقيني وقد صحح ابن العماد أن خديجة ايضا افضل من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة و السلام قال لعائشة حين قالت : قد رزقك الله تعالى خيرا منها فقال لها : لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس واعطتني ما لها حين حرمني الناس وأريد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جبريل وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها وبعضهم لما رأى تعارض الادلة في هذه المسألة توقف فيها وإلى الوتقف مال القاضي ابو جعفر الاستروشني منا وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الاسلم
وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار التاطقة بخلافه تهون تأويله وتأويل واحد لكثرة أهون من تأويل كثير لواحد والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل يمريم اقنتي لربك الظاهر انه من مقول الملائكة ايضا وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له
والقنوت إطالة القيام في الصلاة قاله مجاهد أو إدامة الطاعة قاله قتادة وإليه ذهب الراغب أو الاخلاص في العبادة قاله سعيد بن جبير أو أصل القيام في الصلاة قاله بعضهم والتعرض لعنوان الربوبية للاشعار بعلة (3/156)
وجوب امتثال الأوامر واسجدي واركعي مع الراكعين
34
- يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه لها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشئ تفصيلا تقريرا ليس في الاجمال ولعل تقديم السجود على الركوع لانه كذلك في صلاتهم وقيل : لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع وفي الخبر أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد أو ااتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن اركعي بالراكعين للايذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة أما أولا فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الامام الشافعي وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين وكأنه وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر واركعي مع الراكعين واعتدضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع وقيل : واركعي مع الراكعين واسجدي يحصل ذلك المقصود ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك وقيل : المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى : وأدبار السجود والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة والاحتمال الاول هو الظاهر ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الاوزاعي قال : كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال : كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها والاكثرون على أن فائدة قوله سبحانه : مع الركعين الإرشاد إلى صلاة الجماعة واليه ذهب الجبائي وذكر بعض المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون واسجدي مع الساجدين الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الامام فقد أدرك ركعة من الصلاة وعورض بأنه لو قيل : واسجدي مع الساجدين لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الامام فقد أدرك الجماعة ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام واستلزام ذلك أن من ادرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشئ عند المنصفين وأحسن منهما ما أشار اليه صاحب الكشاف وزعم بعضهم أن مع مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع أي افعلي كفعل الركعين وإن لم توقعي الصلاة معهم قال : لأنها كانت تصلي في محرابها وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الاصل من غير داع وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعي ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعي أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا على أن الماتريدي نفي كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة وقلنا : بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ولذلك اختصموا في ضمنها وإمساكها وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب وتستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن قلنا : إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الاشكال وجاء مع الراكعين دون الراكعات (3/157)
لان هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغلب ولمناسبة رءوس الآي ولان الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا : إنها مأمورة بصلاة الجماعة
وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام ولم يقيد الامرين الاخيرين بما قيد به الامر الاول اكتفاءا بالتقييد من أول وهلة وقال شيخ الاسلام : إن تجريد الامر بالركنين الاخيرين عما قيد به الاول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الاول منها ولعل ما ذكرناه أولى لانه مطرد على سائر الأقوال في القنوت وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ واركعي واسجدي في الساجيدين ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الاخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : من أنبآء الغيب أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير اليه المقام والجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب وقوله تعالى : نوحيه إليك جملة مستقلة مبينة للاولى و الايحاء إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الانبياء وبمعنى الالهام والضمير في نوحيه عائد إلى ذلك في المشهور واستحسن عوده إلى الغيب لانه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فانه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها و من أنباء الغيب إما متعلق بنوحيه أو حال من مفعول أي نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض وجوز ابو البقاء أن يكون التقدير الامر ذلك فيكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل
وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد وما كنت لديهم أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الاخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل : إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الامور انتقاءا لا ستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن تلك هي المقصودة بالاخبار أولا وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة وروى عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة و السلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد ومع هذا هو أولى مما قيل : إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية رواية وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتقائها عند كل أحد إذ يلقون اقلمهم أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع و الاقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون (3/158)
بها التوراة واختاروها تبركا بها وقيل : هي السهام من النشاب وهي القداح وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي م وفي عدة الأقلام خلاف وعن الباقر أنها كانت ستة والظرف معمول للاستقرار العامل في لديهم وجعله ظرفا لكان كما قال أبو البقاء ليس يشئ أيهم يكفل مريم من تتمة الكلام الأول وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى ولما لم يصلح يلقون للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجل له ثلاثة أوجه : أحدها أن يقدر ينظرون أيهم يكفل وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الادراك جاز ان يتعلق باسم الاستفهام كالافعال القلبية كما صرح به ابن الحاجب وابن مالك في التسهيل وثانيها أن يقدر ليعلموا أيهم يكفل وعلى الاول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له ولا يخفى أن الالقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الاقلام وثلالثها أن يقدر يقولون أو ليقولوا أيهم واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في التقدير يقولون ولا ينساق المعنى اليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع أيهم وأجيب بأنه مفيد وينساق المعنى اليه بناءا على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين واعترض ايضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له وأجيب بتأويله كما أول في سابقه وقيل : يؤل بالحكم أي ليقولوا وليحكموا أيهم الخ والسكاكي يقدر ههنا ينظرون ليعلموا ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر او العلم يغنى عن الآخر وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل أيهم بدلا عن ضمير الجمع أي يلقي كل من يقصد الكفالة وتتأتى منه ولا يخفى أنه من التكلف بمكان وما كنت لديهم إذ يختصمون
44
- في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي وقبله في آخر وتكرير ما كنت لديهم مع تحقق المقصود بعطف إذ يختصمون على إذ يلقون للايذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك قاله شيخ الاسلام
واختلف في وقت هذا اقتراع والتشاح على قولين : أحدهما وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا اليه من قبل وثانيهما أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها وهو قول مرجوح واوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق وروى عن الصادق رضى الله تعالى عنه أنه قال : ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز و جل إلا خرج سهم المحق وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الامر إلى الله سبحانه أليس الله تعالى يقول : فساهم فكان من الدحضين وقال الباقر رضي الله تعالى عنه : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم إذ قالت الملكة شروع في قصة عيسى عليه السلام والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة و إذ المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل وقيل : بدل اشتمال ولا يضر إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا (3/159)
لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا : وترك العطف بناءا على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخىابين أو تقاربهما في الزمان وجوز ابو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا وأن يكون ظرفا ليختصمون وقيل : إنه بدل من إذ المضافة اليه واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال : إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع ان القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها قيل : ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناءا على ما روى عن الحسن أنها عليها السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه
يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه كلمة من لا بتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف افراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه اظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا : محض الجود وعلى ذلك أكثر المفسرين وأيدوا ذلك بقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وقيل : أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ففي التوراة في الفصل العشرين من السفر الخامس اقبل الله تعالى من شينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران وسينا جبل التجلي لموسى وساعير جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه وفاران جبل مكة وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به : قد جاء كلامي وقيل لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته
ومن الناس من زعم أن الكلمة بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الاقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك وفي يبشرك هنا من القراآت مثل ما فيها فيما تقدم اسمه الضمير راجع إلى الكلمة وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن ما ذكر واسم مبتدأ خبره المسيح وقوله تعالى : عيسى يحتمل أن يكون بدلا أو عطف بيان أو توكيدا بالمرادف كما أشار اليه الدنوشري أو خبرا آخر أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوبا باضمار أعني مدحا وحذف المبتدأ والفعل قيل : على سبيل الجواز ومقتضى ماذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب وقوله تعالى : ابن مريم صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في الحقيقة عيسى و المسيح لقب و ابن صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه ! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم نطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق وأن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب وقيل : المراد بالاسم معناه اللغوي وهو السمة والعلامة المميزة لا العلم (3/160)
ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة إذ التمييز بذلك اشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا كما في الانتصاف خلاص من إشكال يوردونه فيقولون : المسيح في الآية إن أريد به التسمية وهو الظاهر فما موقع عيسى ابن مريم والتسمية لا توصف بالنبوة ! وإن أريد بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه : اسمه ووجه الخلاص ظاهر ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى : اسمه والمراد التسمية وأما عيسى ابن مريم فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن المسيح والمشهور أن المسيح لقبه عليه السلام وهو له من الألقاب امشرفة مالفاروق وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وعن إبراهيم النخعي الصديق وعن أبي عمرو بن العلاء الملك و عيسى معرب أيشوع ومعناه السيد وعن كثير من السلف أن المسيح مشتق من المسح واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه السلام فقيل : لانه مسح بالبركة واليمن وروى ذلك عن الحسن وابن جبير وقيل : لانه كان يمسح عين الأكمه فيبصر وروى ذلك عن الكلبى وقيل : لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ ورواه عطاء والضحاك عن ابن عباس وقال الجبائي : لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الانبياء تتمسح به وقيل : لأن جبريل مسحه بحناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم وقيل : لانه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام فاستخرج منه ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح وقيل : وقيل : وهذه الاقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري وكثير من المحققين على الثاني واختاره أبو عبيدة وعليه لا اشتقاق لانه لا يجري على الحقيقة في الاسماء الاعجمية وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لانه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام كالخليل لا إبراهيم وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر
ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فان التوراة والانجيل والاسكندر لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا نعم قيل في عيسى : إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمى به عليه السلام لانه كان في لونه عيس أي بياض تعلوه حمرة كما يشير اليه خبر كائنا خرج من ديماس إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له وأن القائل به كالراقم على الماء
وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعا وسمى به لانه مسحت إحدى عينيه أو لأنه يمسح الارض أي يقطعها في المدة القليلة وفرق النخعي بين لقب روح الله وعدوه بأن الاول بفتح الميم والتخفيف والثاني بكسر الميم وتشديد السين كشرير وأنكره غيره وهو المعروف ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاءا أما إذا كان أشهر كما هنا فانه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الانباري ولا يختص بعير الفصيح كما فيما إدا لم يكن كذلك
والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الاول للثاني وفي المفصل تعينها وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك ومن جوز التبعية استدل بقولهم : هذا يحيى عينان إذ لو أضيف لقيل عينين وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال وكذا (3/161)
لو كانت بالفتح لانه يمكن حينئذ أن يكون اللقب مجرورا يالاضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناءا على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كمالا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي وأما أنه يثبت الاطراد فلا ولعل المانع إنما يمنع ذلك ويدعى أن المطرد هو الاضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت أل الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال : الحرث كرز بالاضافة وكذا إذ كان اللقب وصفافي الاصل نحو إبراهيم الخليل على ما نص ابن الحاجب في شرح المفصل لان الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور
ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل وهو مبني على مذهب من يقول : إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في كتبنا النحوية فليفهم وإنما قيل : ابن مريم مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا وقيل : إن فى ذلك ردا للنصارى وأبعد من ادعى أن هذه الاضافة لمدح عيسى عليه السلام لان الكلام حينئذ في قوة ابن عابدة هذا واعلم أن لفظ ابن في الآية يكتب بغير همزة بناءا على وقوعه صفة بين علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم كزيد ابن السلطان أو تقدمه غير علم وأضيف إلى علم كالسلطان ابن زيد أو وقع بين ماليسا علمين كزيد العاقل ابن الأمير عمرو كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور والكتاب كثيرا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة وغيره
ومن هنا قيل إن الرسم يرجح التبعية نعم في كون ذلك مطردا فيما إذا كان المضاف اليه علم الأم خلاف والذي أختاره الحذف أيضا إذا كان ذلك مشهورا وجيها في الدنيا والآخرة الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر وقيل : الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته وقيل وجاهته في الدنيا بقبول دعائه باحياء الموتى وإبراء الاكمة والابرص وقيل بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال : كيف كان وجيها في النيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه لا تقدح على التقادير الاول كما لا يخفى على المتأمل ونصب وجيها على أنه حال مقدرة من كلمة وسوغ مجئ الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى كما أشير اليه وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة
ومن الناس من جعل الحال من عيسى وقال أبو البقاء : لايجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من المسيح أو من ابن مريم لأنها أخبار والعامل فيها الابتداء أو المبتدأ أو هما وليس شئ من ذلك يعمل في الحال وكذا لا يجوز أيضا أن يكون حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل ومن المقربين
54
- أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة وقيل : هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة وقيل : من المقربين من الناس بالقبول والاجابة وهو معطوف (3/162)
على وجيها أي ومقربا من جملة المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع وهو في القرآن كثير والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته اعطف وكهلا عليه والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه السلام وليس فيه غرابة وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال وقيل : إن كلا منهما حال والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره و المهد مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه في المهد ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا ثم لم يتكلم حتى بلغ أو أن الكلام قاله ابن عباس وقيل : كان يتكلم دائما وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب اليه ابن الاخشيدو عليه يكون قوله : وجعلني نبيا إخبارا عما يؤول اليه وقال الجبائي : أنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك وأوحى اليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الافك إليها والقول : بأنه معجزة لها بعيد وإن قلنا بنبوتها وزعمت النصارى أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهيم له عليه السلام وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر ولما نقلوا كذبوا فسكتوا وبقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن به وهذا قريب على قول ابن عباس : أنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار وعلى القول الآخر وهو أنه بقي يتكلم يقال : إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار عن الغيوب والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الامر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن ظهره القرآن
وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد وظاهر الأخبار وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغنى من جوع عند من رسخ إيمانه وقوي إيقانه وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والكهل ما بين الشاب والشيخ ومنه اكتمل النبت إذ طال وقوى وقد ذكر غير واحد أن ابن آم ما دام في الرحم فهو جنين فاذا ولد فهو وليد ثم ما دام يرضع فهو رضيع ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم ثم إدا دب فهو دارج فاذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي فاذا سقطت رواضعه فهو مثغور فاذا نبتت أسنانه فهو م مثغر بالتاء والثاء كما قال أبو عمرو فاذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ فاذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق فاذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور واسمه في جميع هذه الاحوال غلام فإذا اخضر شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل : قد بقل وجهه فاذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ فاذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع ثم ما دام بين الثلاثين والاربعين فهو شاب ثم كهل إلى أن يستوفي الستين
ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب ثم يقال شاب ثم شمط ثم شاخ ثم كبر ثم هرم (3/163)
ثم دلف ثم خرف ثم اهتر ومحا ظله إذا مات وهذا الترتيب إنما هو في الذكور وأما في الإناث فيقال للأنثى مادامت صغيرة : طفلة ثم وليدة إذا تحركت ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد ثم معصر إذا أدركت ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الاعصار ثم خود إذا توسطت الشباب ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر وفيها بقية وجلد ثم شهربة إذا عجزت وفيها تماسك ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدها وسقطت أسنانها
وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزول من السماء وبلوغه ذلك السن بناءا على ماذهب اليه سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما أنه عليه السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الارض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الاحبار ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل ومن الصالحين
64
- أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على الاحوال السابقة قالت استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك فقيل : قالت رب أنى يكون لي ولد يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي ويحتمل أن يكون حقيقيا على معنى أنه يكون بنزوج أو غيره وقيل : يحتمل أن يكون استفهاما عن أنه من أي شخص يكون وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه السلام ولم يمسسني بشر جملة حالية محققة لما مر ومقوية له والمسيس هنا كناية عن الوطء هذا نفي عام للتزوج وغيره والبشر يطلق على الواحد والجمع والتنكير للعموم والمراد عموم النفي لا نفي العموم وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه قال استئناف كسابقه والفاعل ضمير الرب والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه : كذلك الله يخلق ما يشاء إما بلا تغيير فيكون فيه التفات وإما بتغيير وقيل : إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك والاول مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الانبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام وقيل : القائل جبريل عليه السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الكلائكة عليهم السلام قبله وحمل رب فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا بيخلق وهناك بيفعل لاختلاف القصتين في الغرابة فان الثانية أغرب فالخلق المبني عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه : إذا قضي أمرا أي أراد شيئا فالامر واحد الأمور والقضاء في الاصل الاحكام واطلق على الإرادة الآلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لايجابها نا تعلقت به البتة ويطلق على الامر ومنه وقضى ربك فانما يقول له كن فيكون
74
- أي فهو يكون أي يحدث وهذا عند الاكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المامور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة فالممثل الشئ المكون بسرعة من غير عمل وآلة والممثل به أمر الآمر (3/164)
المطاع لمأمور به مطيع على الفور وهذا اللفظ مستعار لذلك منه
وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد الكلام النفسي بالشئ الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لانه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الارادة والقدرو كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر والحيات عن الشعر المتعفن والعقارب عن البادورج والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته والقول : بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الامكان دون ما نحن فيه لان مادة الآدمى منيان وليس هناك إلا منى واحد أو لا منى أصلا فكيف يمكن الخلق ليس بشئ أما على مذهبنا فلان الايجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون منى الانثى بنفسه أو بما ينضم اليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال هذه المقامات ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المنى مقام المنى وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المنى في أصل النوع ودعوى أن الاقامة مشروطة بكون ذلك الغير خارج الرحم وأما الاقامة في الرحم فما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الامرين في الامكان وإنما يفرق بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه
ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدوح فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات فما المانع ان يقال : إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن منى الرجل ليس إلا لأجل العقد فاذا حصل الانعقاد لمى المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد انتهى وليس بشئ لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول وأنها لتنزه ساحتها عن مثل هذا التخيل كما لا يخفى وفي جواب هذه الطاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه فقد أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن وهب أنه قال : لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها : هل يكون زرع من غير بذر ! قالت : نعم قال : وكيف يكون ذلك قالت : إن الله تعالى خلق البذر الأول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر ولعلك تقول : لم يقدر أن يخلق الزرع الاول إلا بالبذر ولعلك تقول : لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته قال يوسف أعوذ بالله ان أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير يذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر قالت : ألم تعلم أن للبذر والماء والمطر والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول بولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت : بشرني الله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم إلى قوله تعالى : ومن الصالحين فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خبر أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت ان اخرجي من (3/165)
المحراب فخرجت ويعلمه الكتب عطف على يبشرك أي إن الله يبشرك بكلمة ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الكتاب ولا يرد عليه طول الفصل لانه اعتراض لا يضر مثله أو على يخلق أي كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه أو على يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير يبشرك بكلمة مكلما للناس ومعلما الكتاب أو على وجيها وجوز أن تكون جملة مستانفة ليست داخلة في حين قول الملائكة عليهم السلام و الواو تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة كما قال الشهاب إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستانفة سابقة وهي وإذ قالت الخ ولا إلى مقدرة ولا إشكال في العطف كما قال النحرير وكذا لا يدعى أن الواو زائدة كما قال أبو حيان فهذه أوجه من الاعراب مختلفة بالاولوية وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة نوحيه إليك بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه و الكتاب مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج وروى عنه أنه قال : أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط واعطى سائر الناس جزءا واحدا وذهب ابو علي الجبائي إلى ان المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والانجيل مثل الزبور وغيره وذهب كثيرون إلى أن ال فيه للجنس والمراد جنس الكتب الالهية إلا أن المأثور هو الاول والقول بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والانجيل وتجعل الواو فيما بعذ زائدة مقحمة وما بعدها دلا أو عطف بيان من الهذيان بمكان
وقرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل ويعلمه بالياء والباقون بالنون قيل : وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول اي إن الله يبشرك بعيسى ويقول : نعلمه أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب والحكمة أي الفقه وعلم الحلال والحرام قاله ابن عباس وقيل : جميع ما علمه من أمور الدين وقيل : سنن الأنبياء عليهم السلام وقيل : الصواب في القول والعمل وقيل : إتقان العلوم العقلية وقد تقدم الكلام على ذلك والتوراة والانجيا
84
- أفردا بالذكر على تقدير ان يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما وتعليمه ذلك قيل : بالالهام وقيل : بالوحي وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم وقد صح أنه عليه السلام لما ترعرع وفي رواية الضحاك عن ابن عباس لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى التعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة وذلك يويد ان علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية وذكر الانجيل لكونه كان معلوما عند الانبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل ورسولا إلى بني إسرائيل منصوب بمضمر يجر اليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا وهو الذي اختاره أبو حيان وقيل : إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على يعلمه أي ويقول عيسى أرسلت رسولا ولا يخفى أن عطف هذا القول على يعلمه إذا كان مستانفا مما ليس فيه كثير بأس وأما على تقدير عطفه على يبشرك أو يخلق فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير إن الله يبشرك أو إن الله يخلق ما يشاء ويقول عيسى كذا وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظم وفي البحر : إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال الموكدة واختار بعضهم عطفه على الاحوال المتقدمة مضمنا معنى (3/166)
النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هدا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه وجيها ورسولا ناطقا بكذا والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور وفعول هنا بمعنى مفعل واحتمال ان يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قوله الشاعر : أبلغ أبا سلمى رسولا تروعه ويجعل معطوفا على الكتاب أي ويعلمه سالة بعيد لفظا ومعنى أما الاول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية واما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم والظرف إما متعلق برسولا أو بمحذوف وقع صفة له أي رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم قيل : وتخصيصهم بالذكر للايذان بخصوص بعثته أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم
ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد وليس ذلك في الكتب المشهورة والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من امره ما قص فرقتان : فرقة ترميه وحاشاه بأفظع ما رمت به أمه نبيها وهم أكثر اليهود وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون : إنه لم يخالف التوراة ألبتة بل قررها ودعا الناس اليها وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام ومن بني إسرائيل المتعبدين وليس برسول ولا نبي ويقولون : إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آهرا ولم يعرفوا مرامه مغزاه نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية أصحاب ابي عيسى إسحق بن يعقوب الاصفهاني الذي يسميه بعضهم بعرقيد الوهيم يزعمون : إن الله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل ياتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله وكل الأقوال بعيد عما ادعاه صاحب القيل بمراحل ولعله وجد ما يوافق دعواه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ
هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل : في الصبا وهو ابن ثلاث سنين وفي البحر : أن الوحي أتناه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل : ثلاثة اشهر وثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وقيل : موسى وآخرهم عيسى على سائرهم أفضل الصلاة واكمل السلام وقرأ اليزيدي ورسولا بالجر على أنه معطوف على كلمة أي يبشرك بكلمة وبرسول أني قد جئتكم معمول لرسولا لما فيه معنى النطق ووز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة لرسول أي رسولا ناطقا أو مخبرا بأني وكونه بدلا من رسولا إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه انى قد جئتكم أو خبرا محذوف على تقدير المصدرية أيضا اي هو أنى فالمنسبك إما في محل جر او نصب أو رفع وقوله تعالى : بإاية في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية او متعلق بجئتكم والباء للملابسة أو للتعدية والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها وقرئ بآيات من ربكم متعلق بمحذوف وقع صفة لآية وجوز تعليقه بجئت و من في التقديرين لابتداء الغاية مجازا والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الاوامر أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال اليهم وقوله تعالى : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير بدل من قوله سبحانه : أني قى جئتكم أو من آية أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني أو مرفوع على (3/167)
أنه خبر لمقدر أي هي أنى الخ وقرأ نافع إني بكسر الهمزة على الاستئناف والمراد بالخلق التصويلا والإبراز على مقدار معين لا اليجاد من العدم كما يشير اليه ذكر المادة والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق وقيل : إنها اسم الحال الشئ وليست مصدرا وإنما المصدر الهئ والتهيؤ فهي على الأول جوخر وعلى الثاني عرض وفسروها بالكيفية الحاصلة : من إحاطة الحد الواحد او الحدود بالجسم والمعنى أني أقدر لاجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئة والكاف إنا اسم كما ذهب اليه أبو الحسن في موضع نصب على المفعولية لأخلق أو نعت لمفعول محذوف له وإما حرف كما ذهب اليه الجمهور فتتعلق بمحذوف وقع نعتا ايضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية وقرأ يزيد وحمزة كهيئة بتشديد الياء وكان ابن القاسم يقول : بلغني أن خلفا يقول : إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها وقرأ أهل المدينة ويعقوب الطائر ومثله في المائدة فأنفخ فيه الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشئ المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل : وصح هذا لعدم الإلباس ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناءا على أنها اسم ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت بكالاسد وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود وقرئ فيها فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور
وقرأ المفضل فتكون بتاء التانيث ويعقوب وأبو جعفر ونافع طائرا بإذن الله متعلق بيكون أو بطيرا والمراد بأمر الله واشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام وهو روح محض كما قيل : بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء قيل : وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا فذهب المعظم إلى الاول قالوا : إن يني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا : ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لانه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا واسنانا ويحيض ويلد ويطير بغير ريش وله آذان وثدي وضرع ويخرج منه اللبن ويرى ضاحكا كما يضحك الانسان ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعنين بعد غروب الشمس ساعة وبعدطلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة وقيل : خلق أنواعا من الطير
وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق ان عيسى عليع السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا قالوا : أو تستطيع ذلك قال : نعم بإذن ربي ثم هيأة حتى ذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ثم قال : كم طائرا باذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه وخرج الغلمان يذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس وأبريء الأكمة عطف على أخلق فهو (3/168)
داخل في حيز أني و الأكمه هو الذي ولد اعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة قيل : ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمة بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص الأكمه من الكمه والأبرص وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الاطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة والاقتصار على هذين الامرين لا يدل على نفي ما عداهما لقد روى أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطلق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه وكان سداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الايمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الارض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الارض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الارض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الارض كقدرتك في السماء وسلطانك فى الارض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شئ قدير : ومن خواص هذا الدعاء كما قال وهب أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى وأحي الموتى بإذنالله عطف على خبر أني وقيد الاحياء بالاذن كما فعل في الاول لانه عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه يا حي ياقيوم وخبر إنه كان إذا أراد أن يحي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأول تبارك الذي بيده الملك وفي الثانية تنزيل السجدة فاذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء ياقديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد ياصمد قال البيهقي : ليس بالقوى وقيل : إنه كان إذا أراد أن يحي ميتا ضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة فيحيا باذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا
وأخرج محي السنة عن ابن عباس أنه قال : قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لاخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي زمانا وولد له
وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى واحياها وبقيت زمانا وولد لها
وأما سام بن نوح فان عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : أقد قامت الساعة (3/169)
قال : لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الاعظم ثم قال له : مت قال : بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل وفي بعض الآثار أن إحياءه ياما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم : صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا : هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة وأحيا خشفا وشاة وبقرة ولفظ الموتى يعم كل ذلك
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ما في الموضعين موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أي تأكلونه وتدخرونه والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع والادخار الخبء وأصل تدخرون تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الاخبار وقيل : قبل فقد أخرج ابن عساكر عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال : كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لاحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها : أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شئ خبأت لك فيقول : كذا وكذا فتقول : من أخبرك ! فيقول : عيسى ابن مريم فقالوا : والله لان تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال : ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان قالوا : لا إنما هي قردة وخنازير قال : اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبدالرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال : وأنبئكم بما تأكلون من المائدة وماتدخرون منها وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازيد ويمكن أن يقال : إن كل ذلك قد وقع م وعلى سائر التقادير فالمراد الاخبار بخصوصية هذين الامرين كما يشعر به الظاهر وقيل : المراد الاخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة والسر في ذكر هذين الامرين بخصوصهما أن غالب سعى الانسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فلبفهم
وقرئ تدخرون بالذال المعجمة والتخفيف إن في ذلك أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه وقيل : هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ لآية أي جنسها وقرئ لآيات لكم دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الاطباء والمنجمون
ومن هنا يعلم أن علم الجفر وعلم الفلك ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها : إنها علم غيب ابدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك (3/170)
لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فانه لا مادة له إلا الموهبة الالهية والمنحة الازلية على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى إن كنتم مؤمنين فيه مجاز المشارقة أي إن كنتم موفقين للايمان ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك ومصدقا لما بين يدي من التوراة عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى : بآية أي قد جئتكم محتجا أو متلبسا بآية الخ ومصدقا لما الخ وإما على رسولا وفيه معنى النطق مثله وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقا الخ وقوله سبحانه : من التوراة في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه للاستقراء أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل ويجوز أن يكون حالا من ما فيكون العامل فيه مصدقا ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب وقيل : إن تصديقه لها مجيئه رسولا طبق ما بشرت به ولأحل لكم معمول لمقدر بعد الواو أي : وجئتكم لأحل فهو من عطف الجملة على الجملة أو معطوف على بآية من قوله سبحانه : جئتكم بآية لانه في معنى لأظهر لكم آية ولأحل فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به أو معطوف على مصدقا ويلتزم التأويل بما يجعلها من باب واحد وإن كان الأول حالا والثاني مفعولا له فكأنه قيل : جئتكم لأصدق ولأحل وقيل : لابد من تقدير جئتكم فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر
بعض الذي حرم عليكم أي في شريعة موسى عليه السلام
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى وفي أشياء من السمك وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له وفي أشيلء حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الانجيل
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله وهذا يدل على أن الانجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى ولا يخل ذلك بكونه نصدقا للتوراة فان النسح بيان لانتهاء زمان الحكم الاول لا رفع وإبطال كما تقرر وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض وذهب بعضهم إلى أن الانجيل لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر وما سوى ذلك من الشرائع والاحكام فمحالة على التوراة وإلى أن عيسى عليه السلام ينسخ شيئا مما في التوراة وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس ويحرم لحم الخنزير ويقول بالختان إلا أن النصارى غير واذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الاحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الاسبوع ومبدأ الفيض وصلوا نحو المشرق لما تقدم وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن لبحضرة الالهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في إنجيله أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته : ولا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في (3/171)
النوم صحيفة نزلت من السماء وفيها صور الحيوانات وصورة الخنزير وقيل له : يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه والذاهبون اليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في الانجيل : ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لاكملها ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه ويزيده بعد أنه قرئ حرم بالبناء للفاعل وهو ضمير ما بين يدي أو الله تعالى وقرئ أيضا حرم بوزن كرم وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان الانتهاء الحكم الاول ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام لى ما يل أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للاولين لا عليهم ولعل ما ذهبوا اليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان وجئتكم بأية من ربكم الكلام فيه كالكلام في نظيره وقرئ بآيات فاتقوا الله في عدم قبول ما جئتكم به واطيعون
5
- فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
15
- بيان للآية المأتي بها على معنى هي قولي : إن الله ربي وربكم
ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس اليه كان آية دالة رسالته وليس المراد بالآية على هذا المعجزذة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزذة كان هذا القول لكونه طريقة الانبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر ويقال : إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من تعظم المعجزات وخوارق العادات
أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث اليكم فإذا قال : أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من اعظم الخوارق وقرئ أن الله بفتح همزة أن على أن المنسبك بدل من آية أو أن المعنى جئتكم بآية دالة على أن الله الخ ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى : فاتقوا الله وأطيعون اعتراضا وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة جئتكم الاولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه : إن الله ربي أو للاستيعاب كقوله تعالى : فارجع البصر كرتين أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الاكمه والابرص والاحياء والإنباء بالمخفيات من ولادتي بغير أب ومن كلامي في المهد ونحو ذلك والكلام الأول لتمهيد الحجة عليهم والثاني لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جئ بالفاء في فاتقوا الله كأنه قيل : لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فاتقوا الله الخ وعلى هذا يكون قوله تعالى : إن الله اله ابتداء كلام وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل فإن الجملة الإسمية المؤكدة بأن للاشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد وقوله تعالى : فاعبدوه إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالاوامر والانتهاء عن المناهي (3/172)
وتعقيب هذين الامرين بقوله سبحانه : هذا صراط مستقيم تقرير لما سبق ببيان ان الجمع بين الامرين الاعتقاد الحق والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر لأن الله ربي وربكم فاعبدوه فهو كقوله تعالى : لا يلاف قريش الخ والإشارة إما إلى مجموع الامرين أو إلى الأمر الثاني المعلوم للأمر الاول والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض وجملة هذا الخ على ما قيل : استئناف لبيان المقتضى للدعوة هذا والاشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الانفس يحتاج إلى بيان فنقول : قال الله سبحانه : وإذ قالت الملائكة أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية إن الله اصطفاك لكمال استعدادك ووفور قابليتك وطهرك عن الرذائل والأخلاق الردية واصطفاك على نساء النفوس الشهوانية المتدرعة بجلبات الافعال الذميمة يا مريم اقنتي لربك أي داومي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى واسجدي في مساجد الذل واركعي في محاريب الخدوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية ولله تعالى در من قال : ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الحبائب ذلك من أنباء الغيب أي من أخبار غيب وجودك نوحيه إليك يا نبي الروح وما كنت لديهم أي لدى القوى الروحانية والنفسانية والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم إذ يلقون أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير أيهم يكفل ويدبر مريم النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه وما كنت لديهم إذ يختصمون في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها إذ قالت ملائكة القوى الرحانية حين غلبت يا مريم إن الله يبشرك بمقتضى التوجيه اليه بكلمة منه جامعة لحروف الاكوان وهو القلب المحيط بالعوالم اسمه المسيح لانه يمسحك بالنور أو لانه مسح به وجيها في الدنيا لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الارواح أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الافعال وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الاسماء ومن المقربين أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات وفي الخبر ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ويكلم الناس بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك وكهلا بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق قالت رب أني يكون لي ولد مثل هذا ولم يمسسنس بشر وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشرى لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات وقد شاع أن الانسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر قال كذلك الله يخلق ما يشاء فله أن يصطفى من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية وهذا شأن المرادين وبعض المريدين : رب شخص تقوده الأقدار للمعالي وما لذاك اختيار غافل والسعادة احتضنته وهو عنها مستوحش نفار ويعلمه بالتعليم الآلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الآلهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا : (3/173)
أني قد جئتكم من عالم الغيب باآية عظيمة وهي أني أخلق لكم بالتربية من طين النفوس البشرية كهيئة الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف فأنفخ فيه بنفث العلم الآلهي ونفس الحياة الحقيقية فيكون طيرا أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جنات الحق سبحانه باذن الله وابرئ الأكمه أي الأعمى المحجوب برؤية الاغيار عن رؤية نور الأنوار والابرص المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية وأحي موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون أي تتناولون من الشهوات واللذات وما تدخرون في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة إن في ذلك المذكور لآية لكم نافعة إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره وأشير بذلك إلى علم الباطن والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى : يصبكم بعض الذي يعدكم وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه فقد قال مولانا زين العابدين : ورب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا ولا استحيل أناس مسلمون دمى يرون أقبح ما يأتونه حسنا وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا وجئتكم بآية بعد أخرى من ربكم فاتقوا الله في مخالفتي وأطيعون فيما فيه كمال نشأتكم آإن الله ربي وربكم فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم فاعبدوه بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه هذا صراط مستقيم يوصلكم إليه ويفد بكم عليه فلما أحس عيسى منهم الكفر شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام وقيل : يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى : ورسولا إلى بني إسرائيل ولا يكون أني قد جئتكم الخ متعلقا بما قبله ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا ولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم الآية والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة وقيل : إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس والقول بأن المراد إحساس آثار الكفر ليس بشئ والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه مع العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة
أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزءون به ويقولون له : يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد ! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسالها فقالت : ماتت أبنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي باذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقالت : يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه أصبري واحتسي فلا حاجة لي في الدنيا باروح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت (3/174)
قدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا وروى عن مجاهد أنهم ارادوا قتله ولذلك استنصر قومه و من لابتداء الغاية متعلق بأحسن أي ابتدأ الاحساس من جهتهم وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم
قال من أنصاري إلى الله المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية الصف كما قال عيسى ابن مريم للحوار بين الآية ومونه جميع بني إسرائيل لقوله تعالى : فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ليس بشئ اذا الآية ليست بنص في المدعي إذ يكفي في تحقيق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع و الأنصار جمع نصير كالأشراف جمع شريف وقال قوم : هو جمع نصر وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصري أو تجعله مصدرا وصف به والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله وإما أن يتعلق بأنصاري مضمنا معنى الاضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار للياء إضافة ملابسة أي من جز بي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز او إضمار في نصرهم لله تعالى ويضمر ما تحصل به المطابقة نعم كون إلى بمعنى مع لا يخلو عن شئ فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شئ إلى آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال ولا تقول : وإليه مال وكذا نظائره فالسلم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الاضمار أولى و من هنا اختار بعضهم كون إى بمعنى اللام وآخرون كونها بمعنى في
وقال في الكشف : لعل الأشبه في معنى الآية والله تعالى أعلم ان يحمل على معنى من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله وجوابهم المحكى عنهم بقوله سبحانه : قال الحواريون نحن أنصار الله شديد الطباق له كأنهم قالوا : نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه ولو قالوا : مكانه نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى
وأنت تعلم أن جعل إلى بمعنى اللام أو في التعليليتين يحصل طلبه المسيح التي أشير اليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج : من أنه لا يجوز أن يقال : إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم و الحواريون جمع حواري يقال : فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون وذكر العلامة التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الافصح في امثاله والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به وبه قرئ الآية وأصله من التحوير أي التبيض ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهم البياض لعدم البروز للشمس ويطلق الحواري على القصار أيضا لانه (3/175)
يبيض الثياب وهو بلغة النبط وهو أرى بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله الضحاك واختلف في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم وهو المروي عن سعيد بن جبير وقيل : لانهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس وهو المروي عن مقاتل وجماعة وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم واليه يشير كلام قتادة وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا فقيل : قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب وشمعون ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم : أنتم تصيدون السمك فان اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية فقالوا : له من انت قال : عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه السلام بالقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ماملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام وقيل : هم اثنا عشر رجلا أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا : ياروح الله جعنا فيضرب بيده على الارض فيخرج لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الارض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أقضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك فقال : افضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون وقيل : إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك الملك فذهب اليه الملك مع اقاربه فقالوا له : من أنت قال : عيسى ابن مريم فقال الملك : إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون وقيل : إن أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا اراد أن يعلمه شيئا وجده اعلم به منه فغاب الصباغ يوما لهم وقال له : ههنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه وقال : كونى باذن الله كما اريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : أفسدت على الثياب قال : قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريون ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لانهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته
والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الانصار ويل : إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع ومنه قوله تعالى : إنه ظن أن لن يحور وكائنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فان أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث أنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى : فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الدين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة وإن اريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك
نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الانصار وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم كما قاله الحسن ومجاهد ولم يستنصر للقتال معهم على الايمان بما جاء به وهذا هو الذىي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعى أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة (3/176)
على حفظ النفس وقد روى أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقي فيه شبهي فيقتل مكاني فأجابه إلى ذلك بعضهم وفي بعض الأناجيل ان اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الاحبار عظيم فرمى باذنه فقال له عيسى عليه السلام : حسبك ثم أذنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت وقيل : يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المختالف وذلك لا يستدعي الامر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما هلى ما هو المشهور إمنا بالله مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها واشهد عطف على آمنا ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله وقيل : إن آمنا لإنشاء الإيمان ايضا فلا اختلاف بأنا مسلمون
25
- أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له أو بأن ديننا الاسلام الذي هو دين الانبياء من قبلك فهو إفرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا كما قال الكرخي بأن مرمى غرضهم السعادة الاخروية وجاء في المائدة بأننا لأن ما فيها كما قيل أول كلام الحواريين فجاء على الاصل وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع والفرع بالفرع أولى ربنا إمنا بما أنزلت عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي وقيل : مبالغة في إظهار أمرهم واتبعنا الرسول أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا فاكتبنا مع الشاهدين
35
- أي محمى وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد لهم بالصدق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما م وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الامم قبلهم وقيل : المراد من الشاهدين الانبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها وقال مقاتل : هم الصادقون وقال الزجاج : هم الشاهدون للانبياء بالتصديق وقيل : أرادوا مع المستغرقين في شهود جلا لك بحيث لا نبالي بما يصل الينا من المشاق والآةم فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك وقيل : أرادوا كتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى : إن كتاب الأبرار لفي عليين ولا يخفى ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك أو في عداد أتباعهم قيل : وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ فاكتبنا إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال وقيل : المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الازل
ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الايمان في الخاتمة والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول اكتبنا ومكروا أي الذين احس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة ومكر الله بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه اليه قال ابن عباس : لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى اصحابه يخبرهم (3/177)
أنهأنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب : أسروه ونصبوا خشبة ليصلبواه فأظلمت الارض فارسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فاخذوا رجلا يقال له يهودا وهو الذي دلهم على عيسى وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال : ما تجعلون لي إن دللتكم عليه فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فادخل البيت ورفع وقال : أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى وأني على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الارض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الارض دعاة ثم رفعه الله سبحانه وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما اصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى اليهم
وروى عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأهخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين ايكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة فقال واحد منهم : أنا يانبي الله فألقى عليه مدرعه من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه اليه ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة : كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء وقالت فرقة أخرى : كان فينا ابن الله عز و جل رفعه الله سبحانه اليه وقالت فرقة أخرى منهم : كان فينا عبدالله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الاسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وروى عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له : إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأدراهم إحياء الموتى وإبراء الاكمة والأبرص فعل وفعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وانزل المصلوب فغيبة وأخذ الخشية فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليعالسلام بنحو من اربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز
هذا واصل المكر قيل : الشر ومنه مكر الليل إذا اظلم وقيل : الالتفات ومنه المكور لضرب من الشجر ذي التفات واحده مكر والممكرة من النساء للملتفة الخلق مطريته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة وآخرون باختداع الشخص لايقاعه في الضرر وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لاظهار ما يسر من الفعل من غير قصد إلى الاضرار والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق وقالوا : لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداءا مكر الله سبحانه وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة وخالفهم الأبهري وغيره فجوزوا الاطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى : (3/178)
أفامنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله فإنه نسب إليه سبحانه ابتداءا
ونقل عن الامام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة وقال غير واحد : إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى وفي الحديث اللهم امكر لي ولا تمكر بي ومن ذهب إلى عدم الاطلاق إلا بطريق المشاكلة أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى : صبغة الله ولا يخفى ما فيه فالأولى القول بصحة الاطلاق عليه سبحانه ابتداءا بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه : والله خير الماكرين
45
- أي أقواهم مكرا وأشدهم أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة إذ قال الله ظرف لمكر أو لمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر اذكر كما في أمثاله لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن اتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت يعيسى أني متوفيك ورافعك إلى أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : هذا من المقدم والمؤخر أي رافعك إلى ومتوفيك وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرع به في الآية الاخرى وفي قوله : إن عيسى لم يمت وأنه راجع اليكم قبل يوم القيامة
وثانيها أن المراد إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الاعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لانه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك
وثالثها أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الارض من توفي المال بمعنى استوفاه وقبضه
ورابعها أن المراد بالوفاة هنا النوم لانهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر وقد روى عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام لى السماء وهو نائم رفقا به وحكى هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن
وخامسها أن المراد أجعلك كالمتوفي لانه بالرفع يشبهه وسادسها أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون ورافعك إلى كالمفسر لما قبله وسابعها أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت وثامنها أن المراد مستقبل عملك ولا يخلوا أكثر هذه الأوجه عن بعد لا سيما الأخير وقيل : الآية محمولة على ظاهرها فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال : توفي الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه اليه
وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفي عيسى سبع ساعات ثم أحياه وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس وحكاية ان الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى
ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود ويزعمون أنه في الانجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم ولا بأس بنقله ورده فان في ذلك رد عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه فنقول : قالوا : بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخر يوطي أحد الاثنى عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصى من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا : الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال : السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع : مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصى وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن (3/179)
هذه الساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمه الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره اليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال : أنا أقدر أن انقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس : ما تجيب عن نفسك بشئ فسكت يسوع فاقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح فقال انت قلت ذاك وأنا اقول لكم من الآن لا ترون ابن الانسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الانسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال : ما حاجتنا إلى الشهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره فقالوا : هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزأوا به وجعلوا يلطمونه ويقولون : بين لنا من لطمك ولما كان من الغد اسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب باسره يصلب يصلب فتحرج فيلاطس من قتله وقال : أي شر فعل هذا فقال الشيوخ : دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد إلى الابروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفروا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزأون به ويقولون : السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مدافا بمر فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوغ ملك اليهود استهزاءا به ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له : ياناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب وقال اليهود : هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تهالى فهو ينجيه مما هو فيه ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم آلوي إيما صاصا أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم عى قصبة وسقاه وقال آخر : دعوة حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه واسلم الروح والشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في فبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا : ياسيدي ذكرنا أن ذلك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا اقوم بعد ثلاثة ايام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا تأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الاولى فقال لهم القائد : اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقها لينظرن إلى القبر
وفي إنجيل مرقص إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فالقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة : لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو ههنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر (3/180)
فقالوا : لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقلبوا ذلك منهم وأشاعوا ان التلاميذ جاءوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم : اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به وهو ذا أنا معكم إلى انفضاء الدهر انتهى
وههنا أمور الأول انه يقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا او آحادا فان زعموا أنه آحادهم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فكيف يحتج بقولهم في القطعيات ! وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الاخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فان زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الانجيل الذي بايديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليه معولكم : إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا باسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم اليه فعرفته فقالت : هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بايديهم وذهب عريانا فهؤلاء اصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهم أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر
ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحرس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم اغراضهم على أن الأخباريين ذكروا ان بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لانهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى ايضا
الثاني أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه وما تضحك الثكلى منه وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة : إنكم من الآن ما ترون ابن الانسان يريدون بالانسان الرب سبحانه قانه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب وقوله : إن ناسا من القيام ههنا الخ فانه لم يرد أحد من القيام هناك قبل موته عيسى عليه السلام آتيا في ملكوته وقول الملك للنسوة : تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فانه يقال فيه : أرب يقبر وإله يلحد أف لتراب يغشى وجه هذا الاله وتبا لكفن ستر محاسنه وعجبا للسماء كيف لم تبد وهو سامكها وللارض لم تمد م وهو ما سكها وللبحار كيف لم تغض م وهو مجريها وللجبال كيف لم تسر وهو مرسيها وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه وللكون كيف لم يمحق وهو مبدعه سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود وكيف ثبت العالم على نظام والالة في الرغام إنا لله وإنا اليه راجعون هلى المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه وعدمه لا أبا لك قومه ! وقوله إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمر القضاء ويناقض التسليم لأحكام الحكيم وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوي الربوبية التي تدعمونها والألوهية التي تعتقدونها وقولهم : إنه قام كثير من القديسين من قبورهم الخ فانه كذب صريح لانه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع وقولهم : مضت الأحد عشر (3/181)
تلميذا إلى الخليل الخ فانه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح : ويل لمن يسلم ابن الانسان مع أن يسوع بزعمكم قال لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهودا الاسخر يوطي الذي اسلمه للقتل إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل وقولهم : إنهم سالهم شربة ماء فانه في غاية البعد لأن الانجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي اربعين يوما واربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه : إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك
الثالث إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه متى في إنجيله فانه قال فيه : سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال : الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطي إلا آية يونيان النبي يعني يونس عليه السلام لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الانسان يقيم في بطن الارض ثلاثة أيام وثلاث ليال الرابع أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناءا به او لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه وأراد سبحانه بقوله : ورافعك إلى رافعك إلى سمائي وقيل : إلى كرامتي وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارئ سبحانه ليس بمتحيز في جهة وفي رفعه إلى اي سماء خلاف والذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس
وفي الخازن أنه سبحانه لما رفعه عليه السلام اليه كساه الريش والبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا ارضيا سماويا وأورد بعض الناس ههنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه : وأيدناه بروح القدس ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كل يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ! وايضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والابرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم او على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصير واعاجزين من التعرض له وايضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار ولو اقدر الله تعالى جبريل أو عيسى عليهما السلام على دفع الاعداء أو رفعه غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزة إلى حد الالجاء والقول بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الامان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمه الله تعالى ليس بشئ أما أولا فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به وأعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية الاصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لانه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الامر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين وأما ثانيا فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الاعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لانهم كانوا عارفين يقينا بأن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء (3/182)
الله تعالى والقول بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر انه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر ليس بشئ ايضا أما أولا فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان والثابت ان المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن ومقدار اربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يهخفى وأما ثانيا فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لانه أدركته دهشة منعته من البيان والايضاح او لان الله تعالى آخذ على لسان فلم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام ان يفصح الرجل عن أمره أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده اليه رغبة في الشهادة ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ على ما نقلوا قبل بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من اصحاب الانبياء عليهم السلام فهو من رجال صدقوا ما عاهدوا الله تعالى ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روى أنه جعل يقول لليهود عند الصلب : لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه والقول بانه لو كان ذلك لتواتر لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل ومطرك من الذين كفروا يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل وفي الاول جعلهم كأنهم نجاسة وفي الثاني جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر وإلى الثاني ذهب الجبائي
والمراد من الموصول اليهود واتى بالظاهر على ما قيل دون الضمير : إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول اليهود والنصارى والمجوس وكفار قومه وجاعل الذين اتبعوك قال قتادة والحسن وابن جريج وخلق كثير : هم اهل الاسلام أتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الذين كفروا وهم اليهود أو سائر من شمله هذا المفهوم فان المؤمنين يعلونهم بالحجة أو السيف في غالب الامر
واخرج لبن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم وإذا اريد بالأتباع ما يشمل اتباع المسلمين وهذا الاتباع يصح ان يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجئ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ونسخ شريعته ومن آمن بزعمه بعد ذلك وقد يراد من الأتباع الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المتبعين المسلمون والقسم الأول من النصارى وتخصيص المتبعين بهذه الأمة وحمل الأتباع على المجئ بعد مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن الوقف على الذين كفروا إلى يوم القيمة متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف وليس المراد إن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الدين كفروا من الذلة بل المرد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فاما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد
ومن الناس من حمل الفوقية على العلو الرتبى والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتاييد (3/183)
كما في قولهم مادامت السماء وما دار الفلك بناءا على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل وليس بذلك ثم إلى مرجعكم أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين وفيه تغليب على الأظهر و 0 ثم للتراخي وتقديم الظرف للقصر المفيد اتأكيد الوعد والوعيد ويحتمل ان يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء
فأحكم بينكم أي فأقضى بينكم إثر رجوعكم إلى ومصيركم بين يدي فيما كنتم فيه تختلفون
55
- من أمور الديم أو من أمر عيسى عليه السلام والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل
فاما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه : فأحكم وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى : في الدنيا والآخرة ! وأجيب بوجوه الأول أن المفصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة والثاني ان المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي اي الاول والآخر ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا ابعد من الأول جدا
الثالث ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع اعم من الدنيوي والاخروي وقوله سبحانه : إلى يوم القيامة غاية الفوقية لا غاية الجعل والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك : سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الاعارة لا الخلع وعلى هذا توفيه الأجر لغنم الدارين ولا يخفى أن في لفظ كنتم في قوله جل وعلا : فيما كنتم فيه تختلفون بعض نبوة عن هذا المعنى وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا :
الربع أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم والمعنى اضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف : وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته وإدماج انها فوقية عدل لا تسلط وجود ولا يخفى انه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والا آخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أنة يقال ك أن اتخاذ الكل لا يلزم ان يكون باتخاذ كل جزء فيجوز ان يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة
الخامس أن في الدنيا والآخرة متعلق بشديد تشديدا لامر الشدة وليس بشئ كما لا يخفى والاولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى ثم على التراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متاخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه ك إلى يوم القيامة غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذ لا لهم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك ومن لم يفعل معه شئ من وجوه الإذلال على وجل إذ يعلم أن الاسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار وما لهم من نصرين
65
- أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله وصيغة الجمع كما قال مولانا مفتى الروم لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد (3/184)
وأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت بيان لحال القسم الثاني وبدأ بقسم الذين كفروا لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم اول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولانهم أقرب في الذكر لقوله تعالى : فوق الذين كفروا ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله فيوفيهم أجورهم اي فيوفر عليهم ويتمم جزاء اعمالهم القالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص
وزعم أن توفيه الاجور هي قسم المنازل في الجنة والظاهر أنها أعم من ذلك م وعلق التوفية على الايمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاءا اليها وإيذانا بعظم قبح الكفر وقرأ حفص ورويس عن يعقوب فيوفيهم م بياء الغيبة وزاد رويس ضم الهاء وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والمبرياء ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الاجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره م ذكر وموضع المحذوف بعد الصلة م كما قال ابو البقاء ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن : أما لا يليها الفعل
والله لا يحب الظلمين
75
- أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثنى عليهم او المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة والجملة تذليل لما قبل مقرر لمضمونه ذلك أي المذكور من امر عيسى عليه السلام والاتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار اليه وبعد منزلته في الشرف
نتلوه عليك أي نسرده ونذكره شيئا بعد شئ والمراد تلوناه إلا انه عبر بالمضارع استحضارا للصور الحاصلة اعتناءا بها وقيل : يمكن الحمل على الظاهر لان قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد من الأيت أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ اعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب او معلم ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي والذكر أي القرآن وقيل : اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه و من تبعيضية على الاول وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد الحكيم
85
- أي المحكم المتقن نظمه أو الممنوع من الباطل أو صاحب الحكمة وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم أو الاسناد المجازي بأن اسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة واثبت له الوصف بحكيم تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل وجوز في الآية أوجه من الاعراب الاول أن ذلك مبتدأ و نتلوه خبره و عليك متعلق بالخبر و من الآيات حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الاشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل : لان الحال لا يتقدم العامل المعنوي الثاني أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي الامر ذلك و نتلوه في موضع الحال من ذلك و من الآيات حال من الهاء والثالث أن يكون ذلك في موضع نصب بفعل دل عليه نتلو فيكون من الآيات حالا من الهاء ايضا إن مثل عيسى (3/185)
ذكر غير واحد ان وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا قال : ما أول قالوا : تقول : إنه عبدالله قال : أجل هو عبدالله ورسوله وكلمته القاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رايت إنسانا قط من غير اب فان كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى الآية
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن ابيه عن جده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان بسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى اسقف نجران واهل نجران إن اسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني ادعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وادعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فان ابيتم فالجزية فان أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع اليه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف ك ما رأيك فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يومن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة راي لو كان أمر من امر الدنيا اشرت عليك فيه وحهدت لك فبعث الأسقف واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رايهم على ان يبعثوا شرحبيل وعبدالله بن شرحبيل وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق الوفد حتى اتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسالهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا ك ما تقول في عيسى ابن مريم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما عندي فيه شئ يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فانزل الله هذه الآية إن مثل عيسى إلى قوله سبحانه : فنجعل لعنة الله على الكاذبين فابوا أن يقروا بذلك فلما اصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : إني ارى امرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك فقال : رايي أن أحكمه فإني ارى رجلا لا يحكم شططا ابدا فقالا له : أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إني رايت خيرا من ملاعنتك قال : وما هو قال حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرعنهم وصالحهم على الجزية وروى غير ذلك كما سيأتي قريبا و المثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة كما قيل به بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي إن صفة عيسى عند الله أي في تقديره وحكمه أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كهنة والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه ك كمثل ءادم أي كصفته وحاله العجيبة التي لايرتاب فيها مرتاب خلقه من تراب جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار ان في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطلافين ويحتمل أنه جئ بها لبيان ان المشبه به اغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك اقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته و من لابتداء الغاية متعلقة بما عندها والضمير المنصوب لآدم والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس ثم قال له كن فيكون أي صر بشرا فصار فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل فقد روى أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى (3/186)
على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضى اتصوير ذلك الامر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الامور المستغربة العجيبة الشأن وجوز ان يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله وذهب كثير من المحققين إلى أن ثم للتراخي في الاخبار لا في المخبر به وحملوا الكلام على ظاهره ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي كما لا يخفى والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير لمنصوب والقول بأنه عائد على عيسى ليس بشئ لما فيه من التفكيك الدي لا داعي اليه ولا قرينة تدل عليه قيل : وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لانه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام يجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا اليه فيما تقدم
والقول بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب مما لا مستند له من عقل ولا نقل ونفخنا فيه من روحنا لا يدل عليه بوجه أصلا الحق من ربك خبر لمحذوف اي هو الحق وهو راجع إلى البيان والقصص المذكور سابقا والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر وجوز أن يكون الحق مبتدأ و من ربك خبره ورجح الأول بان المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو الحق لا ما يزعمه النصارى وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا امعنى يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق او جنسه من الله تعالى ومن جملته هذا الشان أو حمل اللام على العهد بإرادة الحق المذكور ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة فلا تكن من الممترين
6
- خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة و السلام كما في قوله تعالى : فلا تكونن من المشركين بل قد ذكروا في هذا الاسلوب فائدتين
إحداهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الاريحية فيزداد في الثياب على اليقين نورا على نور وثانيهما أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لانه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل اليها الاماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب فمن حاجك أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك فيه أي في شأن عيسى عليه السلام لانه المحدث عنه وصاحب القصة وقيل : الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى من بعد ما جاءك من العلم اي الآيات الموجبة للعلم وإطلاق العلم عليها إما حقيقة لانها كما قيل : نوع منه وإما مجاز مرسل والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة والجار والمجرور الاخير حال من فاعل جاءك الراجع إلى ما الموصولة و من من ذلك تبعيضية وقيل : لبيان الجنس فقل أي لمن حاجك تعالوا أي أقبلوا بالرأي والعريمة وأصله طلب الاقبال إلى مكان مرتفع ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجئ ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان (3/187)
التلف والرجل يخاطرلهم بنفسه إيذانا بكمال امنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم ولذلك مع رعاية الاصل في الصيغة فان غير المتكلم تبع له في الاسناد قدم صلى الله تعالى عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين ثم نبتهل أي نتباهل فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع كاشتور وتشاور واجتور وتجاور والاصل في البهلة م بالضم والفتح فيه م كما قيل اللعنة والدعاء بها ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال : فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته وقال الراغب : بهل الشئ والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاستر سال في الدعاء سواء كان لعنا اولا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير اليه قوله تعالى : فنجعل لعنة الله على الكذبين
16
- أي في أمر عيسى عليه السلام فإنه معطوف على نبتهل مفسر للمراد منه اي نقول لعنة الله على الكاذبين أو اللهم العن الكاذبين
أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأرادأن يلاعنهما فقال أحدهما الصاحبه : لا تةعنه فو الله لئن كان فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له : نعطيك ما سالت فابعث معنا رجلا امينا فقال : قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الامة وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس أن ثمانية من اساقفة اهل نجران قدموا على رسول الله منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى قل تعالوا الآية فقالوا : أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة والنظير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا : هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ألف حلة في صفر والف في رجب ودراهم وروى أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين وأربعا وثلاثين فرسا
وأخرج في الدلائل ايضا من طريق الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم اربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب رايهم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أسلما قالا : أسلمنا قال : ما أسلمتما قالا : بلى قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الاسلام ثلاث فيكما عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير وزعمكما ان الله ولدا ونرل إن مثل عيسى الآية فلما قرأها عليهم قالوا : ما نعرف ونزل فمن حاجك الآية فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ك إن الله تعالى قد امرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا : يا ابا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب : قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لا عنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبث صغيرهم فان أنتم لن تتبعوا وابيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أنا دعوت فامنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية
وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه : لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة وعن جابر والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الواذي عليهما نارا
وروى أن أسقف نجران لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم قال يا معشر (3/188)
النصارى : إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى ان يزيل جبلا من مكانه لأزال فلا تباهلوا وتهلكوا
هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع ان القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه وأكمل نكاية بالعدو واوفر إضرارا به لو تمت المباهلة وفي هذه القصة اوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مومن والنصب جازم الإيمان واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله بناءا على رواية مجئ علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن والحسين وبنسائنا فاطمة وبأنفسنا الامير وإذا صار نفس الرسول وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل م تعين أن يكون المراد المساواة ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره ولا معنى للخليفة إلا ذلك واجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بانفسنا الامير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم ويجعل الأمير داخلا في الأنباء وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة ويلتزم عموم المجاز إن قلنا : إن إطلاق الإبن على ابن البنت حقيقة وإن قلنا : إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية
وقوله الطبرسي وغيره من علمائهم إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أفسنا لا تجوز لوجود ندع والشخص لايدعو نفسه هذيان من القول إذ قد شاع وذاع في القديم والحريث دعته نفسه إلى كذا ودعوت نفسي إلى كذا وطوعت له نفسه وآمرت نفسي وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل ندع انفسنا نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على ابا لو قررنا الامير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمصداق أنفسنا فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة ندع إذ لا معنى لدعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وابناءهم ونساءهم بعد قوله : تعالوا كما لا يخفى
وأما ثانيا فبأنا لو سلمنا أن المراد بانفسنا الأمير لكن لانسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة ومن ذلك قوله تعالى : يخرجون أنفسهم من ديارهم ولا تلمزوا انفسكم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنين والمؤمنات بأنفسهم خيرا فلعله لما كان للأمير اتصالا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثية إلى كافة الخلق ونحو ذلك وهو باطل بالاجماع لان التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لان المساواة في بعض صفات الافضل والاولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل واولى بالتصرف بالضرورة وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الامير كما زعموا لزم كون الامير إماما في زمنه صلى الله تعالى عايه وسلم وهو باطل بالاتفاق م وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لان أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته مالاستدلال به على افضليته الامير علي كرم الله تعالى وجهه على الانبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للافضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر (3/189)
من دعوى كون الامير ولبتول والحسن أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبدالله المشهدي في كتابه إظهار الحق
وقد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن سعد بن ابي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع الخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الاربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم أنه لما نرلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده وهذا خلاف ما رواه الجمهور
واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على ان الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لان المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين وذهب الامامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم
وذهب النواصب إلى أن المبالهة جائز لاظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولاحظ عنهم وزذرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل اولئك الكرام على نبينا وعليهم افضل الصلاة وأكمل السلام وأنت تعلم ان هذا الزعم ضرب من الهذيان واثر من مس الشيطان وليس يصح في الأذهان شئ إذا احتاج النهار إلى دليل ومن ذهب إلى جواز المبالهة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن قيس بن سعد ان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شئ فدعاه إلى المبالهة وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الايدي ترفع فيه وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذر المناكب إن هذا اي المذكور في شأن عيسى عليه السلام قاله ابن عباس لهو القصص الحق جملة اسمية خبر إن ويجوز أن يكون هو ضمير فصل لا محل له من الاعراب و القصص هو الخبر وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين و الحق صفة القصص وهو المقصود بالإفادة اي إن هذا هو الحق لاما يدعيه النصارى متن كون المسيح عليه السلام إلها وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وقيل : إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد والاول هو المشهور وعليه الجمهور ولعله الأوجه واللام لام الابتداء والاصل فيها أن تدخل على المبدا إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى الى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل اجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم
والقصص على ما في البحر مصدر قولهم : قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا وأصله تتبع الأثر يقال : (3/190)
خرج فلان يقص أثر فلان أي ينتبعه ليعرف أين ذهب ومنه قوله تعالى : وقالت لأخته قصية أي تتبعي أثره وكذلك القاص في الكلام لانه يتتبع خبرا بعد خبر أو يتتبع المعني ليوردها وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق وقرئ لهو بسكون الواو وما من إله إلا الله رد النصارى في تثليثهم وكذا فيه رد على سائر الثنوية و من زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلاةت وقد فهم أهل اللسان كما قال الشهاب أنها لتأكيد الاستغراق المغهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الاكثر وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فانها ليست وضعية وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان واعترض بأن هذا حوالة هلى مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال : إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدير وإن الله لهو العزيز أي الغالب غلبة تامة أو القادر كذلك أو الذي لا نظير له الحكيم
26
- أي المتقن فيما صنع أو المحيط بالمعلومات والجملة تذييل لما قبلها والمقصود منها أيضا قصر الالهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل : إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى فإن تولوا أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه أحدى التاءين تخفيفا وأصله تتولوا فإن الله عليم بالمفسدين
36
- أي بهم أو بكم والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقتضية للجزاء والعقاب وهي الافساد وقيل المعنى على أن الله عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه
ومن باب الاشارة في الآيات فلما أحس أي شاهد عيسى بواسطة النور الالهي المشرق عليه منهم الكفر أي ظلمته أو نفسه فان المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها
وحكى عن الباز قدس سره أنه قال : إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها قال من أنصاري في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال قال الحواريون المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة نحن أنصار الله أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليع السلام آمنا بالله الايمان الكامل فاشهد بأنا مسلمون أي مقادون لأمرك حيث أنه أمر الله سبحانه ربنا آمنا بما أنزلت وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك واتبعنا الرسول فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك فاكتبنا مع الشاهدين أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك أو الحاضرين لك المراقبين لامرك ومكروا أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لانه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه : وكذلك زينا لكل أمة عملهم فهو الماكر (3/191)
في الحقيقة وهذا معنى ومكر الله عند بعض والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله فصاح وقال : لا علة لصنعه وأنشأ يقول : فديتك قد جبلت على هواكا ونفسي لا تنازعني سواكا أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك عن رسم الحدوثية ورافعك إلى بنعت الربوبية ومطهرك من الذين كفروا بشغل سرك عن مطالعة الاغيار أو متوفيك عنك وقابضك منك ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية وقيل : إن عيسى عليه الصلاة و السلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلم الشمس وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة و السلام ويشاركه المسيح في سر النفخ
ومن قال : إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه الصلاة و السلام وهو عبارة عن روحانية فلم القمر وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه السلام ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول : بأنه يدور حول العرش لان ذلك مقام النهاية في الكمال ولهذا لم يعرج اليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة و السلام بلا ذكر بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخر قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الاخرى المنعقد وأن آدم عليه الصلاة و السلام بلا ذكر ولا أنثى من تراب أي صور قالبه من ذلك ثم قال له كن فيكون إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الامر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم فمن حاجك فيه أي الحق أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة فقل تعالوا الخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة
قال بعض العارفين : إعلم أن لمباهلة الانبياء عليهم السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر باذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه كالغضب والخوف والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فاذا اتصل نفس قدسي به أو ببعض أرواح الاحرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند اتلتوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما اراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة و السلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى
وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختةف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجيهات إلى عام التجرد وفيه كلام طويل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه هذا وتطبيق ما في الآفاق على (3/192)
ما في الانفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأولى والله تعالى الموفق
قل يا أهل الكتب نزلت في وفد نصارى نجران قاله السدى والحسن وابن زيد ومحمد بن جعفر بن الزبير وروى عن قتادة والربيع وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب واستظهره بعض المحققين لعمومه تعالوا أي هلموا إلى كلمة أي كلام كما قال الزجاج واطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء وقيل : إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد وقرئ كلمة بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل سواء أي عدل قاله ابن عباس والربيع وقتادة وقيل : إن سواء مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والانجيل والقرآن أولا اختلاف فيها بكل الشرائع وهو في قراءظة الجمهور مجرور على أنه نعت لكلمة وقري بنصبه على المصدر
بيننا وبينكم متعلق بسواء ألا نعبد أي نحن وأنتم إلا الله بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها وفي موضع أن وما بعدها وجهان كما قال أبو الابقاء الأول الجر على البدلية من كلمة والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نبعد إلا الله ولو لا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية وقيل : إن الكلام تم على سواء ثم استؤنف فقيل بيننا وبينكم أن لانعبد فالظرف خبر مقدم وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر ولا نشرك به شيئا من الاشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة وقيل : المراد لانشرك به شيئا من الشرك وهو بعيد جدا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله أي لا يطيع بعضنا بعضا في معضية الله تعالى قاله ابن جريج ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال : نعم فقال عليه الصلاة و السلام : هو ذاك قيل : وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض وقيل : هو مثل اعتقاد اليهود في عزير أنه ابن الله واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك وضمير نا على كل تقدير للناس لا للممكن وإن أمكن حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها
وفي التعبير بالبعض نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون اربابا ! فان قلت إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخدوهم آلهة معه سبحانه أجيب بأنه أريد من دون الله وحده أو يقال : بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا قاله بعضهم وللنصارى سود الله تعالى حظهنم الحظ الأوفر من هذه المنهيات وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فلاقهم وفصيل كفرهم على أتم وجه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
46
- المراد فان تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبو اعنادا فقولوا (3/193)
لهم : أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالاسلام لهم فكائنهم قالوا : إنا لسنا كذلك وإلى هذا ذهب بعض المحققين وقيل : المراد فان تولوا فقولوا : إنا لا نتحاشى عن الاسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر فاشهدوا بأنا مسلمون فإنا لا نخفي إسلامنا كمت أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعترفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى ولا يخفى أنهدا عل ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لان المنافقين هم الدين يخافون فيخفون وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم وتولوا هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لان فقولوا خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وتتولوا خطاب للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب يا أهل الكتب خطاب لليهود والنصارى لم تحاجون في إبراهيم أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعى كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه أخرج ابن إسحق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الاحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والظرف الاول متعلق بما بعده وكذا الثاني و ما استفهامية والغرض الانكار والتعجب عند السمين وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها ةبين الموصولة والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها وما أنزلت التورية على موسى عليه السلام والانجيل على عيسى عليه السلام إلا من بعده حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة وقيل : سبعماية وقيل ألف سنة وبلين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وتسعماية وخمس وعشرون سنة وقيل : ألفا سنة وهناك أقوال أخر أفلا تعقلون
56
- الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي أي ألا تتفكرون فلا تعقون بطلان قولكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا كما قال الشهاب إنه عليه السلام منهم حقيقة وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى أو دين عيسى فهو يهودي أو نصراني بهذا المعنى فتجهليهم ونفي العقل عنهم بنزول التوراة والانجيل بعده مشكل إلا أن يدعى بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتى موسى عليه السلام التوراة ولا عيسى عليه السلام الانجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم كذا قيل كذا قيل وأنت تعلم أن هذا لا يشفى الغليل إذ لقائل أن يقول : أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن مشتملة على الاحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث ثم ما قاله الشهاب إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية ابعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة وفيهم أحبار اليهود ووفد نجران وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث فقد أخرج لبن جرير عن عبدالله بن الحرث الزبيدي أنه قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الله (3/194)
إلاإلا أن يقال : إن الله تعالى اعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين او أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياى السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى أو أن القوم في حد ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب وما ذكره ابن الحرث لا يدل على علمهم كما لا يخفى وقيل : إن مراد اليهود بقولهم : إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حد ما يقوله المسلامون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به وأن مراد النصارى بقولهم : إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : وما أنزلت التورية والانجيل إلا من بعده أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم والمفخر العظيم والمنة الكبرى أفلا تعقلون ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الاخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا : هأنتم هؤلاء أي انتم هؤلاء الحمقى حججتم فيما لكم به علم كأمر موسى وعيسى عليهما السلام فلم تحجون فيما ليس لكم به علم وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم أو لا تعرض لكونه آمن بموسى وعيسى قبل بعثتهما اصلا وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر ولا رمز له في كتابكم ألبتة ! ها حرف تنبيه واطرد دهولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو ها أنا ذا وكررت هنا للتأكيد وذهب الأخفش أن الاصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاءا ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاءا في كلامهم إلا في بيت نادر ثم الفصل بين الهاء المبدلة وهمزة أنتم لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الاولى هاءا والاشارة للتحقير والتنقيص ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل وجملة حاججتهم مستأنفة مبينة للأولى وقيل : إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو ها أنا ذا قائما وهذه الحال لازمة وقيل : إن الجملة خبر عن أنتم و هؤلاء منادى حذف منه حرف منه حرف النداء وقيل هؤلاء بمعنى الذين خبر المبتدأ وجملة حاججيم صلة وإليه ذهب الكوفيون وقراؤهم يقرءون ها أنتم بالمد والهمزة وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن وقرأ ابن كثير ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز والله يعلم حال إبراهيم وما كان عليه
وأنتم لا تعلمون
663 - ذلك ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه : ما كان إبراهيم يهوديا كما قالت اليهود ولا نصرانيا كما قالت النصارى ولكن كان حنيفا أي مائلا عن العقائد الزائغة مسلما أيب منقادا لطاعة الحق أو كوحدا لأن الاسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا قيل : وينصره قوله تعالى : وما كان من المشركين
76
- أي عبده الاصنام كالعرب الذين كانوا يدعون (3/195)
أنهم على دينه أو سائر المشركين ليعم أيضا عبده النار كالمجوس وعبدة الكواكب كالصابئة وقيل : أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود : عزير ابن الله وقول النصارى : المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها وتفسير الاسلام بما ذكر هو ما اختاره جمع من المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه : وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده فيرد عليه ما ورد عليهم ويشترك الإلزام بينهما وفسره بعضهم بذلك وأجاب عن اشتراك الالزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مسلما وليس في التوراة والانجيل أنه عليه الصلاة و السلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق قال العلامة النيسابوري : فان قيل : قولكم : إن إبراهيم عليه السلام على رين الاسلام إن أردتم به الموافقة في الاصول فليس هذا مختصا بدين الاسلام وإن أرادتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله قيل : يختار الأول والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للاصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير عليه السلام إلى غير ذلك او الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم شرع موسى بشريعته التي هي موافقة لشريعة إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيكون عليه الصلاة و السلام صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريع موسى ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له ايضا : إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن نوجه اصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالبديهة ونحو ذلك كثير
وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات وقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الاخلاق كالهدى في قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده واعترض الشهاب على الجواب على الاختيار الاول بالعبد كا عتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده ايضا وذكر ان ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد بكون إبراهيم مسلما أنه على ملة الاسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الاسلام على المعنى اللغوي وادعى أنه سالم من القدح ونظر فيه بأن أخذ الاسلام لغويا لا يناسب بحث الاديان والكلام فيه فلا يخلو هذا الوجه عن بعد ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الاول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم
هذا وفي الآية وجه آخر ولعله يخرج من بين فرث ودم وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت : اليهود إبراهيم منا وقالت النصارى إنه منا أرادت كل طائفة انه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الامر موافق له زعما على معنى موافقة الاصول للاصول (3/196)
أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم ثم صرح سبحانه بما اشار أولا فقال : ما كان إبراهيم يهوديا أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الامر ولا نصرانيا أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك ولكن كان حنيفا مسلما أي على دين الاسلام الذي ليس عند الله مرضي سواه وهو دين جميع الانبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم وفي ذلك إشارة إلى أن اولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شئ لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الانبياء ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه : وما كان من المشركين فعلى هذا يكون المسلم : كما قال الجصاص وأشرنا إليه فيما مر مرارا المؤمن ولو من غير هده الامة خلافا للسيوطي في زعمه أن الاسلام مخصوص بهذه الامة هذا ما عندي في هذا المقام فتدبر فلمسلك الذهن اتساع
سن أولى الناس بإبراهيم أولى أفعل تفضيل من وليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واو فلا تكون لامه واوا إذا ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو وأصل معناه أقرب ومنه ما في الحديث لأولى رجل ذكر ويكون بمعنى أحق كما تقول : العالم بالتقديم وهو المراد هنا أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم للذين اتبعوه أي كانوا على شريعته في زمانه أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه : وهذا النبي من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي خبر إن وقرئ بالنصب عطفا على الضمير المفعول والتقدير للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي وقرئ بالجر عطفا على إبراهيم أي إن أولى الناس بإبراهيم وهذا النبي للذين اتبعوه واعترض بأنه كان ينبغي أن يثني ضمير اتبعوه ويقال : اتبعوهما وأجيب بأنه من باب والله ورسوله أحق أن يرضوه إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وقوله تعالى : والذين إمنوا إن كان عطفا على الذين اتبعوه يكون فيه ذلك أيضا وإن كان عطفا على هذا النبي فلا فائدة فيه إلا أن يدعى أنها للتنويه بدكرهم وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى ثم إن كون المتبعين لابراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولاهم به الموافقة شريعته للشريعة الابراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها وكون المؤمنين من هذه الامة كذلك لتبعيتهم فيما جاء به ومنه الموافق والله ولي المؤمنين
86
- ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي ولم يقل وليهم تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده وهو الايمان بناءا على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق
ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهودى : الله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى (3/197)
هذه الآية وأخرج عيد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال : حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص وعمارة بن ابي معيط فأرادو اعنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل اليهم النجاشي فلما أن أتوه قال : ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذا لعمرو بن العاص وعمارة بن أبي معبط يزعمان سنما جئتم لتحيلوا على ملكي وتفسدوا على أرضي فقال عثمان بن مظعون وحمزة : إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فان كان صوابا فالله يأتي به وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وتراجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه قالوا : نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف ويأمر بحسن المجاورة ويأمر باليتيم ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إله آخر فقرأ عليه سورة الروم والعنكبوت وأصحاب الكهف ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال : والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى : قال يقول : إن عيسى عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى كريم فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين فخلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثه سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعني بلسان الحبشة اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأتزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله وهو بالمدينة إن أولى الناس بإبراهيم الآية ودت طائفة من أهل الكتب لو يضلونكم المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية فالمراد بأهل الكتاب اليهود وقيل : المراد بهم ما يشمل الفريقين والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال : كل شئ في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ولعله جار مجرى الغالب و من للتبعيض والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم وقيل : لبيان الجنس والطائفة جميعأهل الكتاب وفيه بعد و لو بمعنى أن المصدرية والمنسبك مفعول ود وجوز إقرارها على وضعها ومفعول ود محذوف وكذا جواب لو والتقدير ودت إضلالكم لو يضلونكم لسروا بذلك ومعنى يضلونكم يردونكم إلى كفركم قاله ابن عباس أو يهلكونكم قاله ابن جرير الطبري أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم قاله أبو علي وهو قريب من الاول وما يضلون إلا أنفسهم الواو للحال والمعنى على تقدير إرادة الاهلاك من الاضلال أنهم ما يهلكون إلا انفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه وإن كان المراد من الاهلاك الارتفاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال : إن المراد من الاضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الاضلال ولا يعود وباله اليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجالسون لهم وفيه على ما قيل : الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أنثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم ولله تعالى الحمد وقيل : إن معنى (3/198)
إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بايضاح الحجج ولا يخلو عن شئ وما يشعرون
96
- أي وما يفطنون بكون الاضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة قاله أبو علي وقيل : وما يشعرون بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم يأهل الكتب لم تكفرون بايات الله وأنتم تشهدون
7
- أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الاقرار بها من التوراة والانجيل وقيل : المراد لم تكفرون بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وأنتم تشهدون الحججج الدالة على ذلك أو لم تكفرون بما في كتبكم من إن الدين عند الله الاسلام وأنتم تشاهدون ذلك أو لم تكفرون بالحجج الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وأنتم تشهدون أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو أنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الاسلام أو لم تكفرون بآيات الله جميعا وأنم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة
يأهل المتب لم تلبسون الحق بالبطل أي تسترونه به أو تخلطونه به والباء صلة وفي المراد أقوال : أحدها أن المراد تحريفهم التوراة والانجيل قاله الحسن وابن زيد وثانيها أن المراد إظهارهم الاسلام وإبطانهم النفاق قاله ابن عباس وقتادة وثالثها أن المراد الايمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه عن أبي علي وأب مسلم وقرئ تلبسون بالتشديد وهو بمعنى المخفف وقرأ يحيى بن وثاب تلبسون وهو من لبست الثوب والباء بمعنى مع والمراد من اللبس الاتصاف بالشئ والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة أنه صلى الله تعلى عليه وسلم ثقال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وتكتمون الحق أي نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به وأنتم تعلمون
17
- أنه حق وقيل : تعلمون الامور التي يصح بها التكليف وليس بشئ
ودت طائفة أي جماعة وسميت بها لانه يسوي بها حلقة يطاف حولها من أهل الكتب أي اليهود لبعضهم إمنوا أي أظهروا الايمان بالذي أنزل على الذين إمنوا وهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : النبي عليه الصلاة و السلام وأصحابه وجه النهار أي أوله كما في قوله الربيع بن زياد : من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار وسمي وجهها لانه أول ما يواجهك منه وقيل : لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة واكفروا آخره لعلهم يرجعون
27
- بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم قال الحسن والسدي م تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خبير وقرئ عرينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد م واكفروا آخر النهار م وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك وظهر لنا كذبة وبطلان دينه فاذا فعلتم ذلك شك (3/199)
أصحابه في دينهم فقالوا : إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الاشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا اليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون والتعبير بما أنزل على بناءا على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين وظاهر الآية يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك وأما امتثال الامر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه وعن بعضهم أن في الاخبار ما يدل على وقوعه
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين أحدها أن التقدير ولا تؤمنوا بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى وبأن يحاجوكم ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لا تباعكم وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الاسلام واتي بأو على وزان ولا تطع منهم آثما أو كفورا وهو ابلغ
والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح وأتي بقوله تعالى : قل إن الهدى هدى الله معترضا بين الفعل ومتعلقة وفائدة الاعتراض الاشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الاسلام أو زيادة التصلب فيه
ويفيد أيضا ان الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره يريدون ليطفؤ نور الله بأفواههم والله نوره فالمراد بالايمان إظهاره كما ذكره الزمخشري أو الاقرار اللساني كما ذكره الواحدي والمراد من التابعين المتصلب منهم وإلا وقع ما فروا منه وثانيها أن المراد ولا تؤمنوا هذا الايمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم اولا وهم الذين أسلموا منهم أي لاجل رجوعهم لانه كان عندهم أهم واوقع وهم فيه أرغب واطمع وعند هذا تم الكلام ثم قيل : إن الهدى هدى الله أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى : أن يؤتى الخ على هذا معللا لمحذوف أي لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم
وحاصله أن داعيكم اليه ليس إلا الحسد وإنما أتى بأو تنبيها على استقلال كل من الامرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة وأما أو فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية الحسد والاحتشاد في التدبير والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا
ويويد هذا الوجه قراءة ابن كثير أأن يؤتى بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالانكار وفيه تقييد الايمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضى فان غيرهم متبع دينهم الآن أيضا وعن الزمخشري أن أن يؤتى الخ من جملة المقول كأنه قيل : قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله كأنه قيل قل : إن الهدى هدى الله وقل لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني ويجعل أن يؤتى خبر إن و هدى الله بدل من اسمها وأو بمعنى حتى على أنها غاية سببية وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير اليه في البقرة ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام ورابعها أن يكون ولا تؤمنوا إلا لمن (3/200)
الخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون قل إن الهدى 9 الخ امرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل : إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتي حتى تحاجوا وقرينة الاضمار أن ولا تومنوا الخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فاذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن وحمل أو على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للايتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون وقرئ أن يؤتى بكسر همزة إن على أنها نافية أي قولوا لهم ما يؤتي وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود والمعنى لا إيتاء ولا محاجة فأو بمعنى حتى وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا وقوله تعالى : قل إن الهدى الخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا اليه وأرجح الاوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الاول وأقل تكلفا من باقي الاوجه وأقرب إلى المساق انتهى
وأقول ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أن يؤتى الخ هو قول قتادة والربيع والجبائي لكنهم لم يجعلوا أو بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال ان يؤتى من الهدى قول السدى وابن جريج إلا أنهم قدروا لا بين أن ويؤتى واعترض عليهما ابو العباس المبرد بأن م لا ليست مما تحذف ههنا والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة والمعنى إن الهدى كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي ممن خالف دين الاسلام لان الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين ولا يخفى أنه معنى متوعر وليس بشئ ومثله ما قاله قوم من أن أن يؤتى الخ تفسير للهدى وأن المؤتى هو الشرع وأن أو يحاجوكم عطف على أوتيتم وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال : والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الاسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة و السلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الاديان وجعل قل إن الهدى هدى الله اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة ولا يخفى ما فيه واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك إن اليهود قالوا : إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون ليس بشئ لان هذا البيان لا يتعين فيه هذا الحمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لانه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم
واستشكل ابن المنير قطع أن يؤتى عن لا تؤمنوا على ما في بعض الاوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لان الاستفهام هنا إنكار واستفهام الانكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الايمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق ثم قال : ويمكن أن يقال : روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك وفيه تأمل فتأمل وتدبر فقد قال الواحدي : إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا قل إن الفضل بيد الله رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة والمراد من الفضل الاسلام قاله ابن جريج وقال غيره : النبوة (3/201)
وقيل : الحجج التي اوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون وقيل : نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا اوليا يؤتيه من يشاء أي من عباده والله وسع رحمة وقيل : واسع القدرة يفعل ما يشاء عليم
37
- بمصالح العباد وقيل : يعلم حيث يجعل رسالته يختص برحمته من يشاء قال الحسن : هي النبوة وقال ابن جريج : الاسلام والقرآن وقال ابن عباس : هو ةكثرة الذكر لله تعالى والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال : والباء بعد الاختصاص يكثر دخولها على الذي قد قصروا وعكسه مستعمل وجيد ذكره الحبر الامام السيد والله ذو الفضل العظيم
47
- قال ابن حبير : يعني الوافر ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك شروع في بيان نوع آخر من معايبهم و تامنه من أمنته بمعنى ائتمنته والباء قيل : بمعنى على وقيل : بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم قنطار من الكلام فيه يروي أن عبدالله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه
ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك كفنحاص بن عازوراء فانه يروي أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده وقيل : المامون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الامانة والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة وروى هذا عن عكرمة و الدينار لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون واصله دنار فأبدل اول المثلين ياءا لوقوعه بعد كسرة ويدل على الاصل جمعه على دنانير فان الجمع يرد الشئ إلى اصله وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعة اثنتان وسبعون حبة قالوا ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما ومن الغريب ما أخرجه ابن ابي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال : إنما سمى الدينار دينارا لانه دين ونار ومعناه أن من أخذه بحقه فهو دينه ومن أخذه بغير حقه فله النار ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الامر كذلك كما لا يخفى على مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار وقرئ يؤده بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ وبالكسر من غير ياء وبالاسكان إجراءا للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمنها من غير واو إلا ما دمت عليه قائما استثناء من اعم الاحوال او الأوقات أي لا يؤده اليك في حال من الاحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك أو في وقت دوام قيامك والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح والسدى بالملازمة والاجتماع معه والحسن بالملازمة والتفاضي والجمهور على ضم دال دمت فهو عندهم كقلت وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة والمضارع على اللغة الاولى يدوم كيقوم وعلى الثانية يدام كيخاف ذلك أي ترك الاداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى : لا يؤده
بأنهم قالوا ضمير الجمع عائد على من في من إن تأمنه بدينار وجمع حملا على المعنى والباء للسببية اي بسبب قولهم ليس علينا في الأميين سبيل أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم (3/202)
أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن يوعهم فقالوا : ليس علينا امانة ولا قضاء لكم عندنا لانكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى : ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
57
- أي انهم كاذبون وقال الكلبي : قالت اليهود : الاموال كلها كانت لنا فما في ايدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت ومن أهل الكتاب إلى قوله سبحانه : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ك كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فأنها موداة إلى البر والفاجر والجار والمجرور متعلق بيقولون والمراد يفترون ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول وأجازه غيره لانه كالظرف يتوسع فيه مالا يتوسع في غيره بلى جواب لقولهم ليس علينا في الاميين سبيل وإيجاب لما نفوه والمعنى بلى عليهم في الاميين سبيل
من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين
67
- استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها بلى حيث افادت بمفهومه المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا و من إما موصولة أو شرطية و أوفى فيه ثلاث لغات ك إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها والضمير في عهده م عائد على من وقيل : يعود على الله فهو على الاول مصدر مضاف لفاعله وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على من من الجملة الثانية فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان المتقين من أو في وإما ان يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الاول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرءوس الآي ورجح الأول بقوة الربط فيه وقال ابن هشام ك الظاهر أنه لا عموم وأن المتقين مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا أو معنى محذوف تقديره يحبه الله ويدل عليه فان الله الخ واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة اليه وقوله : الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فان ضمير بعهده إذا كان الله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمنهم ثمنا قليلا أخرج الستة وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى وسلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود ارض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ك الك بينة قلت لا فقال لليهودي : احلف فقلت ك يارسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى إن الذين الخ
وأخرج البخاري وغيره عن عبدالله بن ابي أو في أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها مالم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية
وأخرج احمد وابن جرير واللفظ له عن عدي بن عميرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت (3/203)
خصومه فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال للحضرمي : بينتك وإلا فيمينه قال : يارسول الله إن حلف ذهب بارضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس ك يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم انها حق قال ك الجنة قال : فاني أشهدك إني قد تركتها فنرلت واخرج ابن جرير عن عكرمة قال ك نزلت هذه الآية في ابي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الامانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة وروى غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه
والمراد بيشترون وبالعهد أمر الله تعالى وما يلزم الوفاء به وقيل : ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل ك ما في عقل الانسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق و بالأيمان الأيمان الكاذبة و بالثمن القليل الأعواض النزرة أو الرشا ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب أولئك لا خلق لهم في الأخرة أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال ولا يكلمهم الله أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم قاله الجبائي أولا يكلمهم بشئ أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم وقيل : المراد إنه لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده واستظهر أن يكون هذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم
ولا ينظر إليهم يوم القيمة أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل انظر إلى م يريد ارحمني وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم وفر بن اتعمله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الجدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن اصله فيمن يجوز عليه الكناية لان من اعتد بالانسان التفت اليه واعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والاحسان وإن لم يكن ثم نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الاحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وجينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لان جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أولا غير واضحة بخلاف لمعنى المكني عنه وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصلة انه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم الحق فيطلق عليه انه كناية باعتبار اصله قبل الالحاقومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر
والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد ولا يزكيهم أي ولا يحكم عليهم بانهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة قاله القاضي م وقال الجبائي ك لا ينزلهم منرلة الازكياء وقيل ك لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة ولهم عذاب اليم
77
- أي مؤلم موجع والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاءا بالاول وقيل : إنه في الدنيا بالاهانة وضرب الجزيد يناءا على أن الآية في اليهود
وإن منهم لفريقا أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة يلون السنتهم بالكتب أي يحرفونه قاله مجاهد م وقيل : أصل اللي الفتل من قولك : لويت يده إذا فتلتها ومنه لويت الغريم إذا مطلته (3/204)
حقه قال الشاعر : تطيلين لياني وأنت ملية واحسن ياذات الوشاح التقاضيا وفي الخبر لي الواجد ظلم فالمعنى يفتلون السنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا بتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد وقريب منه ما قيل : إن المراد يميلون الالسنة بمشابه الكتاب و الألسنة جمع لسان وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويونث ونقل عن ابي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن ومن ذكره جمعه على السنة وعن الفراء أنه قال : اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى ان المثبت مقدم على النافي والباء صلة أو للآلة أو للظرفية أو للملابسة والجار والمجرور حال من الألسنة اي ملتبسة بالكتاب وقرأ اهل المدينة يلوون بالتشديد فهو على حد لووا رءوسهم وعن مجاهد وابن كثير م يلون على قلب الواو المضمومة همزةة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لا لتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همز ة إذا كانت ضمتها اصلية فهو مخالف للقياس ايضا
نعم قرئ يلؤون بالهمزة في الشواذ وهو يؤيده وعلى كل ففيه لجتماع إعلالين ومثله كثير وأما جعله من الولي بمعنى القرب أي يقربون السنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف
لتحسبوه من الكتب أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه باللي أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض انبيائه عليهم الصلاة السلام وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين
وما هو من الكتب ولكنه من قبل أنفسهم ويقولون هو من عند الله أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف او المشابه نازل من عند الله وما هو من عند الله ي وليس هو نازلا من عند الله تعالى و الواو للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر وفي جملة ويقولون الخ تاكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف والاظهار في موضع الاضمار لتهويل ماقدموا عليه واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ورد بأن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله ويخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الدي زعموا
والحاصل أن المقصود بالنفي كما اشرنا اليه نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بان أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى : ويقولون على الله الكذب اي في نسنتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا وهم يعلمون
87
- أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ وقيل : يعلمون ما عليهم في ذلك من العقارب روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والانجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود وهم كعب بن الاشرف (3/205)
ومالك وحي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر غير واما هو حجة عليهم من التوراة
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة او تأويلا باطلا للنصوص وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن ابي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : إن التوراة والانجيل كما أنزلها الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند انفسهم ويقولون : إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فانها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم : ائتوا بالتوراة فتلوها إن كنتم صادقين وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالابطال
وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال الطواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره وأما ما روى عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل أن يكون قولا عن اجتهاد أة ناشئا عن عدم استقراء تام ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الاناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض فانها اربعة اناجيل : الأول إنجيل متي وهو من الاثني عشر الحواريين وإنجيله باللغةالسريانية كتبه بارض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية واربعون إصحاحا والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين ايضا كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح كتب إنجيله بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى اصلا فمن ذلك أن متى ذكر ان المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه وذكر لوقا خلاف ذلك فقال : إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له : أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح ياسيدي اذكرني في ملكوتك فقال : حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فان اللصين عند متي كافران وعند لوقا احدهما مومن والآخر كافر واغفل هذه القصة مرقس ويوحنا ومنه ان لوقا ذكر أنه قال يسوع : إن ابن الانسان لم يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيى وخالفه أصحابه وقالوا بل قال : إن ابن الانسان لم يات ليلقي على الارض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا ولا شك أن هذا تناقض أحدهما يقول جاى رحمة للعالمين والآخر يقول : جاء نقمة على الخلائق اجمعين ومن ذلك ان متى قال : قال يسوع للتلاميذ الاثني عشر أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر (3/206)
كرسيا تدينون اثني عشر سبط إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال : مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم اليهم يسوع فقال يسوع ك الويل له خير له ان لا يولد ومنه أن متى ايضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال : اي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا : يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماءا وغسل يديه وقال : أنا برئ من دم هذا الصديق وأنتم ابصر ةأكذب يوحنا ذلك فقال : لما حمل يسوع اليه قال لليهود : ما تريدون قالوا : يصلب فضرب يسوع ثم سلمه اليهم إلى غير ذلك مما يطول فاذا وقع هذا التغيير والتحريف فى اصول القوم ومتفدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم وإذا كان في الانابيب حيف وقع الطيش في صدور الصعاد وياليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال : إن التوراة والانجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجائب !
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه وقيل : تكذيب ورد على عبدة عيسى عليه السلام
وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال ابو رافع القرظي حين اجتمعت الاحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الاسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما يعبدالنصارى عيسى ابن مريم فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فأنزل الله تعالى الآية
واخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض افلا نسجد لك قال : لا ولكن اكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فانه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فنزلت وأخرج ابن أبي حاتم قال : كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال : ما كان لبشر الخ والمعنى ما يصح وقيل : ما ينبغي وقيل : لا يجوز لأحد وعبر بالبشر إيذائا بعلة الحكم فان البشرية منافية للأمر الذي اسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام
والجاز خبر مقدم لكان والمنسبك من أن والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه وعطف الفعل على منصوب ان بثم تعظيما لهذا القول فانه إذا انتقى بعد مهلة كان انتقاؤه بدونها اولى واحرى فكأنه قيل : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول اصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة وقد تقدم معناه و العباد جمع عبد قال القاضي : وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى ولهذا يقال : هؤلاء عبيد زيد ولا يقال : عباده والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة اي عبادا كائنين لي و من دون الله متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا كما قال الجبائي فان التجاوز متحقق (3/207)
فيهما حتما ثم إن هذا الايتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى
ولكن كونوا ربنيين إثبات لما نفي سابقا وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل : ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين فالفعل هنا منصوب ايضا عطفا عليه وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول وقيل ك يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك ولكن كونوا ربانيين وفسر علي كرم الله وجهه وابن عباس الرباني بالفقيه العالم وقتادة والسدي بالعالم الحكيم وابن جبير بالحكيم التقي وابن زيد بالمدبر امر الناس وهي أقوال متقاربة م وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح
وزعم ابو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كالهي والألف والنون يزدادان في النسب للبالغة كثيرا كلحياني م لعظيم اللحية والجماني لوافر الجمة ورقباني بمعنى غليظ الرفبة وقيل : إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربي بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون
97
- الباء السببية متعلقة بكونوا أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر وقيل : متعلقة م بربانيين لان فيه معنى الفعل وقيل : بمحذوف وقع صفة له م والدراسة التكرار يقال : درس الكتاب أي كرره وتطلق على القراءة وتكرير بما كنتم للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم واستمرار القراءة المشعربة جعل خبر كان مضارعا بالفضل وتحصيل الربانية وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها أو لان الخطاب الاول لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقيل : لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن ومتعلق الدراسة الفقه وفيه بعد بعيد وإن اشعر به كلام بعض السلف
وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب وابو عمرو ومجاهد تعلمون بمعنى عالمين وقرئ تدرسون بالتشديد من التدريس وتدرسون من الإدراس بمعناه ومجئ أفعل بمعنى فعل كثير وجوز كون القراءة المشهورة ايضا بهذا المعنى على ان يكون المراد تدرسونه للناس
ولا يامركم ان تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب ولا يامركم بالنصب عطفا على يقول ولا إما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل والمعنى ما كان لبشر أن يوتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاضه بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا فهو كقولك : ما كان لزيد أن اكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي وإما غير زائدة بناءا على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهي عن عبادة الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام فلما قيل له : أنتخذك ربا قيل لهم : ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والانبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له : ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي وعلى هذا يكون المقصود من عدم الأمر م التي وإن كان أعم منه لكونه أمس بالمقصود وأوفق للواقع وقرأ باقي السبعة ولا يأمركم بالرفع على الاستئناف ويحتمل الحالية وقيل كوالرفع على الاستئناف أظهر وينصره قراءة ولن يأمركم ووجهت الأظهرية بالخلو من تكلف جعل عدم بمعنى النهي وبأن العطف يستدعي تقديمه على لكن وكذا الحالية ايضا (3/208)
وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراآت ضمير الفاعل عائد على بشر وجوز عوده في بعضها على الله تعالى وجوز الامران ايضا في قوله تعالى : أيأمركم بالكفر والاستفهام فيه للانكار وكون مرجع الضمير في احد الاحتمالين نكرة يجعله عاما بعد إذ انتم مسلمون
8
- استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين افلا نسجد لك بناءا على الظاهر ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لاهل الكتاب ك أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا والقول م بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة في غاية السقوط كما لا يخفى
وإذ أخذ الله ميثق النبين لما إتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه الظرف منصوب بفعل مخاطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي اذكر وقت ذلك واختار السمين كونه معمولا لأقررتم الآتي وضعفه عبد الباقي بأن خطاب أأقررتم بعد تحقيق أخذ الميثاق وفيه تردد وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى ك وإذ قالت الملائكة كما نقله الطبرسي بعيد
واختلف في المراد من الآية فقيل : إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية وعدم ذكر الامم فيها حينئذ إما لانهم معلومون بالطريق الأول أو لانه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين وقيل : إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة الفاعل والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : إن اصحاب عبدالله يقرءون وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم الخ ونحن نقرا ميثاق النبيين فقال ابن عباس : إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم واشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن وإذ أخذ اله ميثاق النبيين خطا من الكتاب وأن الآية كما قرأ عبدالله م وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما اسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه في الأجوبة العراقية عن الاسئلة الايرانية م وقيل : المراد أمم النبيين على حذف المضاف واليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه وقيل : المضاف المحذوف اولاد والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة اولاد الانبياء فيهم وأن السياق في شأنهم وأيد بقراءة عبدالله المشار اليها وهي قراءة ابي بن كعب أيضا وقيل : المراد وإذا أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين أي ميثاقا غليظا على الأمم ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف اداة التشبيه مبالغة وقيل : المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم تهكما لانهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شئ فخاف فيه ثم زعم الامانة : يا أمين ماذا صنعت بامانتي ! وتعقبه الحابي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك وأجيب بأن القائل به لعله (3/209)
اتخذ مقالهم المذكور قريته حالية وقيل : إن الاضافة ااتعليل لأدتي ملابسة كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين ثم بينه بقوله سبحانه : لما آتيتكم الخ ولا يخفى ان هذا ايضا من البعد بمكان وقال الشهاب : لم نر من أن الاضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل وختار كثير من العلماء القول الأول وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله تعالى عليه وسلم على مادل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله تعالى عليه وسلم والتفخيم ورفعه الشان والتنويه بالذكر مالا ينبغي إلا لذلك الجناب وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فانه بعيد كبعد ذلك الزمان كما عليه البعض م ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الانبياء الموجب لأيمان من أدركه عليه الصلاة و السلام منهم به ما أخرجه ابو يعلي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ة تسألوا أهل الكتاب عن شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق وأنه والله لو كان موسى حيا بين اظهركم ما حل له إلا أن يتبعني وفي معناه أخبار كثيرة وهي تويد بظاهرها ما قلنا ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشروع الاستقلالي وأن من سواه من الانبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له
هذا وقد عدوا الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاض النحويون في تحقيق ذلك وشقوا السعر فيه ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول : قال غير واحد : اللام في لما آتيتكم على قراءة الفتح والتخفيف وهي قراءة الجمهور م موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لانها تسهل تفهم الجواب على السامع وعرفها النحاة كما قال الشهاب : بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء إن وغيرها لكنها غلبت في م إن بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا اتؤذن أن الجواب له لا للشرط كقولك : لئن أكرمتني لاكرمنك ولو قلت أكرمك أو فاني أكرمك او ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب وخالفه الفراء فيه فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه الاول هو الصحيح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور وخالف فيه بعض النحاة قال : يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا او بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دو الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود : إنه لايجب دخولها على كلم المجازاة ونقله الأزهري عن الاخفش وذكر أن ثعلبا غاطه فيه فالمسألة خلافية و ما شرطية في موضع نصب بآتيت والمفعول الثاني ضمير المخاطب و من بيان لما واعترض بأن حمل من على البيان شائع بعد الموصولة وأما بعد الشرطية فيحتاج إلى النقل ومثل ذلك القول بزيادتها لان زيادتها بعد الموصولة ايضا كزيادتها بعد الشرطية محتاج لما ذكر وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة وفي جني الداني
ومن الناس من قال : إن من تزاد بالشروط في غير باب التمييز وأما فيه فتزداد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درك من رجل ومن هنا قال مولانا عبدالباقي : يجوز أن تكون من تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية أو زائدة داخلة على التمييز و لتومنن جواب القسم وحده على الصحيح ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادا مسد الجوابين ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الاول لا محل له والثاني له محل والقول : بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالامرين باعتبارين التزام لما لا يلزم وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبنى على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة : كما مر وهي على هذا التقدير مبتدأ والخبر (3/210)
إما مقدر أو جملة لتؤمنن مع القسم المقدر والكلام في مثله شهير وأورد عليه أن الضمير في به إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم والمقصود من الآية أخذ الميثاق بالايمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا رفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير به راجعا للرسول مع ملاحظة مصدق لما معكم القائم مقام الضميرالعائد على ما اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض وإلى ذلك يشير كلام الامام السهيلي في الروض الأنف ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكليف مبني على اتحاد ما أوتوه وما هو معهم وفي ذلك إشكال لأن آتيناكم وجاءكم م إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد بما آتيناكم القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها وحمله على القرآن يأباه الذوق لانه مع كونه ليس معهم بحسبالظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم على ذلك التقدير وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي اوجب الله تعالى عليهم الايمان به ونصرته لم يجئ إذ ذاك وإن كان الفعل الاول ماضيا والثاني مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ما ضيان لفظا وفيه نوع بعد ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا أي جاءكم به مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لان المؤتي كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى امجئ الرسول اليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة والعطف بثم كالنص بهذا المعنى وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغنى عنه فتدبر
وقرأ حمزة لما آتيتكم بكسر اللام على أن ما مصدرية واللام جارة أجلية متعلقة بلتؤمنن أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجئ رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز وأجيب بانه غير مجمع عليه فان ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لان ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره نعم الأولى حسما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف وجوز ان تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضا والجار متعلق بأخذ وروى عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ لما آتيتكم بالتشديد وفيها احتمالان : الأول أن تكون ظرفية بمعنى حين كما قاله الجمهور م خلافا لسيبويه وجوابها مقدر من جنس جواب القسم كما ذهب الزمخشري م أي لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها م أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق وكذا وقع في تفسير الزجاج و مآل معناها التعليل الثاني ان اصلها من ما فأبدلت (3/211)
النون ميما لمشابهتهاإياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها ورجحه أبوه حيان في البحر
وزعم ابن جني أنها الأولى ونظر فيه الحلبي و من إما مزيدة في الإيجاب على رأي الاخفش وإما تعليلية على ما اختارهابن جني قيل : وهو الاصح لا تضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف واللام إما زائدة أو موطئة بناءا على عدم اشتراط دخولها على اداة الشرط وقرأ نافع آتيناكم على لفظ الجمع للتعظيم والباقون آتيتكم على التوحيد ولكل من القراءتين حسن من جهة فافهم ذاك فبعيد أن تظفر بمثله يداك قال أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق أو مقول بعده للتأكيد ءأقررتم بذلك المذكور وأخذتم أي قبلتم على حد فان اوتيتم هذا فخذوه
وقيل : معناه هل أخذتم على ذلكم إصرى على الامم والإصر بكسر الهمزة العهد كما قال ابن عباس وأصله من الإصار م وهو ما يعقد به ويشد وكأنه إنما سمى العهد بذلك لأنه يشد به وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه م كعبر وعبر وفي قولهم ناقة عبر اسفار أو هو بالضم جمع م إصار استعير للعهد وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر أو للمبالغة قالوا استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا : عند ذلك فقيل : قالوا : أقررنا وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاءا بالأول قال اي الله تعالى لهم فاشهدوا أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار فاعتبر المقر بعضا والشاهد بعضا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد وقيل : الخطاب فيه للانبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم ونسب ذلك إلى علي كرم الله تعالى وجهه وقيل : للملائكة فيكون ذلك كناية عن غير مذكور ونسب إلى سعيد بن المسيب وأنا معكم من الشهدين
18
- أي على إقراركم وتشاهدكم على ما تقتضيه المعنى لأنه لابد في الشهادة من مشهود عليه وهنا ما ذكرناه للمقام وعن ابن عباس إن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم والجار والمجرور خبر أنا و معكم حال والجملة مستانفة لا محل لها من الاعراب وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير فاشهدوا فمن تولى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته قاله علي كرم الله تعالى وجهه بعد ذلك اي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة فأولئك إشارة إلى من مراعي معناه كما روعى من قبل لفظها هم النيقون
28
- أي الخارجون في الكفر إلى افحش مراتبه والمشهور عدم دخول الانبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية أو ما هي في حكمها لأنهم أجل قدرا من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى اتباعهم وجوز أن يراد العموم والآية من قبيل لئن أشركت ليحبطن عملك
أفغير دين الله يبغون ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال : اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله (3/212)
صلى الله تعالى عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها اولى بدينه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كلا الفريقين برئ من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء وقيل : على الجزاء فقط وعطف الانشاء على الاخبار مغتفر هنا عند المانعين والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوفوالمعطوف عليه للانكار وقيل : إنها معطوف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون قال ابن هشام : والاول مذهب سيبويه والجمهور وحزم به الزمخشري في مواضع وجوز الثاني في بعض ويضعفه ما فيه من التكلف م وأنه غير مطرد وأما الأول فلدعوى حذف الجملة فان قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لان المتجوز فيه على قولهم : اقل لفظا مع أن فى هذا التجوز تنبيها على اصالة شئ في شئ أي أصالة الهمزة في التصدر وأما الثاني فلإنه غير ممكن في نحو أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت انتهى
وتعقبه الشمس بن الصائغ بأنهأي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات فمن هو قائم على كل نفس على الاستفهام التقرير المقصود به تقرير ثبوت الصانع والمعنى ن أينتفي المدبر فلا أحد قائم على كل نفس لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه وجعله الهمزة للانكار التوبيخي وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال : إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل : بالتقدير وإلا قيل : بما قاله الجماعة وتقديم المفعول لأنه المقصود بالانكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله ربا ولو معه ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب فالتقديم للتخصيص والانكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب تكلف وقول أبي حيان : إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الانكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ولشبه يبغون بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الانكار إلى الذوات كما لا يخفى وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية لحفص ويعقوب يبغون بالياء التحتية وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى أتتولون أو أتفسقون وتكفرون فغير دين الله تبغون وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير وعلى تقدير التقدير يجئ قصد الانكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه وله أسلم من في السموت والأرض جملة حالية مؤكدة للانكار أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه والحالة هذه طوعا وكرها مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأن أسلم بمعنى انقاذ وأطاع قيل : وفيه نظر لأنه ظاهر في طوعا لموافقة معناه ما قبله لا في كرها والقول : بأنه يغتفر في الثواني مالا يغتفر في الاوائل غير نافع وقد يدفع بأن الكرة فيه انقياد ايضا والطوع مصدر طاع يطوع كالإطاعة مصدر اطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما وقيل : طاعة يطوعه انقاد له واطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره وطاعة بمعنى وافقه وفي معنى الآية اقول : الاول المراد من الاسلام بالطوع الاسلام الناشي عن العلم مطلقا سواء كان حاصلا للاستدلال كما في الكثير منا أو بدون استدلال وإعمار فكر كما في الملائكة ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلا بالسيف ومعانية ما يلحئ إلى الاسلام الثاني أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لامره كالملائكة والمؤمنين مسخرين لارادته كالكفرة م فانهم مسخرون لارادة كفرهم (3/213)
إذ لا يقع ما لايريده تعالى وهذا لا ينافي على ما قيل : الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولا بمذهب الجبرية ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناءا على أن الجميع لا يفعلون سلا ما اراده الله تعالى كما وهم الثالث ما أشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الاسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الانانية والاسلام كرها هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط والأول مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الاخيار والثاني مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنبا إلى جنب حتى إلى غدا يقول : لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لانهم أثبتوا صانعا أيضا إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق فلم يؤمنوا بالله إلا وهم مشركون ولئن سالتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وإلى هذا يشير كلام مجاهد وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي العالية أنه قال ك كل آدمي أقر على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن اشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعا وقرأ الاعمش كرها بالضم وإليه يرجعون
48
- أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه ولا تخالفوا الاسلام وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للاخبار بما تضمنته من التهديد وأن تكون معطوفة على وله أسلم فهي حالية أيضا وقرأ عاصم بياء الغيبة والضمير لمن او لمن عاد اليه ضمير يبغون فان بالخطاب فهو التفات وقرأ الباقون بالخطاب والضمير عائد لمن عاد اليه ضمير يبغون فعلى الغيبة فيه التفات فيه أيضا قل ءامنا بالله أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالايمان بما ذكر فضمير آمنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة وقال المولى عبد الباقي : لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة و السلام وينصروه أمر محمدا أيضا صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤمن بالانبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون آمنا في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه افضل الصلاة واكمل السلام أو لما عهد مع النبيين واممهم أن يؤمنوا أمر محمدا عليه الصلاة و السلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم
والحاصل أخذ الميثاق من الجتنبين على الايمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الايمان بالكتاب المنزل إيامن بما فيه من الحكمة أو للاشارة إلى أن شريعتهن منسوخة في زمن هذا النبي وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة و السلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف ويؤيد دعوى اخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال : أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وما أنزل علينا وهو القرآن المنزل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم أولا وعليهم بواسطة تبليغه اليهم ومن هنا أتى بضمير الجمع وقد يعتبر الإنزال عليه عليه الصلاة و السلام وحده ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجارا على ما قيل ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة (3/214)
وعدى الإنزال هنا بعلي وفي البقرة : بإلي لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهاى باعتبار آخره وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم فناسب الانتهاء كذا قيل ويرد عليه قوله تعالى : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا والتحقيق أنه لا فرق بين المعدي بإلي والمعدي بعلي إلا بالاعتبار فان اعتبرت مبدأه عديته بعلي لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاءه إلى من هو له عديته بإلي ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفننا بالعبارة وفرق الراغب بأن ما كان واصلا من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ على المختص بالعلو أولى به وما لم يكن كذلك كان لفظ إلى المختص بالإيصال أولى به وقيل : أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره وأنزل اليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال وكلا القولين لا يخلو عن نظر وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط قيل : خص هؤلاء الكرام بالذكر لان أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم والمراد بالموصول الصحف كما هو الظاهر وقدم المنزل عليه الصلاة و السلام على المنزل عليهم إما التعظيمه والاعتناء به أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات والمراد بهم على رأي ابناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم وليس كلهم انباءا خلافا لزاعمه وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والانجيل وسائر المعجزات كما يشعر به سيثار على الإنزال الخاص بالكتاب وقيل : هو خاص بالكتابين وتغيير الاسلوب للاعتناء بشأن الكتابين وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى والنبيون عطف على موسى وعيسى أي وبما أوتي النبيون على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم من ربهم متعلق بأوتي وفي التعبير بالرب مضافا إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف
لا نفرق بين أحد منهم أي بالتصديق والتكذيب كما فعل اليهود والنصارى والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز ونحن له مسلمون
48
- أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه أو مخلصون له في العبادة وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الايمان كما هو ظاهر وقيل : إن أهل الملل المخالفة للاسلام كانوا كلهم يقرون بالايمان ولم يكونوا يقرون بلفظة الاسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه
ومن يبتغ غير الاسلم دينا فلن يقبل منه نزلت في جماعة ارتدوا وكانوا اثني عشر رجلا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفادا منهم الحرث بن سويد الانصاري والاسلام قيل : التوحيد والانقياد وقيل : شريعة نبينا عليه الصلاة و السلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه وقبول الشئ هو الرضا به وإثابة فاعله عليه وانتصاب دينا على التمييز من غير وهي مفعول يبتي وجوز أن يكون دينا مفعول يبتغي و غير صفة قدمت فصارت حالا وقيل : هو بدل من غير الاسلام والجمهور على إظهار الغينين وروى عن أبي عمرو الادغام وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الاولى تدل على الياء المحذوفة وهو في الأخرة من الخسرين
58
- إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب وإما مستأنفة فلا محل لها من الاعراب و في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده أي وهو خاسر في الآخرة أو متعلق بالخاسرين على (3/215)
أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب وقيل : أصل الخسران ذهاب رأس المال والمراد به هنا تصييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار اليها في حديث كل مولود يولد على الفطرة وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقيق ضده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والتعبير بالخاسرين أبلغ من التعبير بخاسر كما اشرنا اليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله والمعنى وهو من جملة الواقعين في الخسران واستدل بالآية على أن الايمان هو الاسلام إذ لو كان غيره لم يقبل واللازم باطل بالضرورة فالملزوم ميله وأجيب بأن فلن يقبل منه ينفي قبول كل دين يباين دين الاسلام والايمان وإن كان غير الاسلام لكنه لا يغاير دين الاسلام بل هو بحسب الذات وإن كان غيره بحسب المفهوم وذكر الامام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة وقوله تعالى : قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا يدل على المغايرة ووجه التوفيق بينهما ان تحمل الآية الاولى على العرف الشرعي والثانية على الوضع اللغوي كيف يهدي الله إلى الدين الحق قوما كفروا بعد إيمنهم أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن انهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوانعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله وقال عكرمة : هم ابو عامر الراهب والحرث ابن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الاسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى اهلهم هل لنا من توبة فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم أي يدلهم دلالة موصلة لامطلق الدلالة قاله بعضهم وقيل : إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا وقيل : إن الآية على طريق التبعيد كما يقال : كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الايمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره وقيل : إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى ! وشهدوا ان الرسول وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حق لاشك في رسالته وجاءهم البينت أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه وقيل : القرآن وقيل : ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة و السلام وشهدوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى : إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله لا على التوهم كما توهم واختار بعضهم تاويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي إن شهدوا أي وشهادتهم على حد قوله : ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلى من لبس الشفوف وإلى هذا ذهب الراغب وابو البقاء وجوز عطفه على كفروا وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر او المتقدمة عليه واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله وأجيب بالمنع لانه لا يلزم تقييد (3/216)
المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر وقيل : يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معا ومن الناس من جعله معطوفا على كفروا ولم يتكلف شيئا مما ذكر وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول والاكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في كفروا وقد معه مقدرة ولا يجوز أن يكون العامل يهدي لانه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه وعلى تقدير العطف على الايمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الاقرار داخلا في حقيقة الايمان ذكره عن الفائدة ولو كان عينه يلزم تقييد الشئ بنفسه ولا يخفى ما فيه وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والامر حينئذ واضح فتدبر والله لا يهدي القوم الظلمين
68
- أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالاخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم اعرض عنه ويجوز حمل الظلم على مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولا أوليا والجملة اعتراضية أو حالية أولئك أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ وقوله سبحانه : جزآؤهم أي جزاء فعلهم مبتدأ ثان وقوله عن شأنه : أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل : وهذا بمنطوقه على جواز لعنهم ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خباثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم كشارب خمر معين مثلا مشهور والنووي على جوازه استدلالا بما ورد انه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك والاحتياط لا يخفى والمراد من الناس إما المومنون لانهم هم الذين يلعنون الكفرة أو المطلق لان كل واحد يلعن من لم يتبع الحق وإن لم يكن غير متبع بناءا على زعمه خلدين فيها حال من الضمير في عليهم والعامل فيه الاستقرار والضمير المجرور اللعنة أو للعقوبة أو للنار وإن لم يجر لها ذكر اكتفاءا بدلالة اللعنة عليها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
88
- أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر أو لا ينظر اليهم ولا يعتد بهم والجملة إما مستأنفة أو في محل نصب على الحال
إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الايمان وأصلحوا أي دخلوا في الصلاح بناءا على أن الفعل لازم من قبيل أصبحوا أي دخلوا في الصباح ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف أي أصلحوا اما افسدوا ففه إشارة كما قيل : إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق اليهم فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد وأجيب بأنه ليس بوارد لان مجرد الندم والعزم (3/217)
على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها فالمآل واحد عند التحقيق
فإن الله غفور رحيم
98
- أي فيغفر كفرهم ويثيبهم وقيل : غفور لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم رحيم بهم في الآخرة بالعفو عنهم ولا يخفى بعده والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء
إن الذين كفروا بعد إيمنهم ثم ازدادوا كفرا قال عطاء وقتادة : نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والامجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن وقيل : في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ثم ازدادوا مفرا بالإصرار ولعناد والصد عن السبيل ونسب ذلك إلى الحسن وقيل : في أصحاب الحرث بن سويد فانه لما رجع قالوا : نقيم بمكة على الكفر مابدل لنا فمتى اردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحرث وقيل في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الاسلام وروى ذلك عن ابي صالح مولى أم هانئ
و كفرا تميز محول عن فاعل والدال الأولى في ازدادوا بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي لن تقبل توبتهم قال الحسن وقتادة والجبائي : لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب وإنما كانت نفاقا وقيل : إن هذا من قبيل ولا ترى الضب بها بنجحر أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية كما قال العلامة دون المجاز حيث اريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى وقيل : إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعبونها معه فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابي العالية قال : هؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا بتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانواعلى الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة وتجئ على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول
واولئك هم الضالون
9
- عطف إما على خبر إن فمحلها الرفع وإما على أن مع اسمها فلا محل لها و الضالون المخطئون طريق الحق والنجاة وقيل : الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم أيضا إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أي على كفرهم
فان يقبل من أحدهم ملء الأرض من مشرقها إلى مغربها ذهبا نصب على التمييز وقرأ الأعمش ذهب بالرفع وخرج على البدلية من ملء و عطف البيان أو الخبر لمحذوف وقيل : عليه إنه لابد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة أو حالا ولا يخلو عن ضعف و ملء الشئ بالكسر مقدار ما يملؤه وأما ملء بالفتح فهو مصدر ملأه وأما الملأءة بالضم والمدفهي الملحقة وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر إن هنا ولم تدخل في الآية السابفة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على (3/218)
الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فانه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال : من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء كما هو معروف بين الفقهاء ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأعراض كالإيمان الى تحقق الخبر كقوله : إن التي ضربتبيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت دونها غول وقد فصل ذلك في المعاني وقرئ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ملء ومل الأرض بتخفيف الهمزتين ولو افتدى به قال ابن المنير في الانتصاف : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الاولى مثاله قولك : أكرم زيدا ولو اساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره م أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء م إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن اساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الاولى ومنه كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فان معناه والله تعالى أعلم لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان اسهل أولى بالوجوب ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه : ولو افتدى به ة يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الاولى والحالة المذكورة أعني حالة افتدائإهم بملء الارض ذهبا هي أجدر الحالات بقبول الفدية وليس وراءها حالة اخرى تكون اولى بالقبول منها خاض المفسرون بتأويلها فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الاول : أن عدم قبول ملء الارض كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على ان القبوليراد للخلاص وإنما عدل تصورا للتكثير لانه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف وفي الضمير يراد ملء الارض على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى بملء الارضذهبا ففي الاول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما وفي الثاني إلى الحقيقة او لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها وحاصل الثاني : إن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية ايضا كأنه قيل : لا يقبل ملء الارض فدية ولو ضةعف ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع وتقدير مثل بعده أي مع مثله وحاصل الثالث : إنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقا به وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكمالسابق بل يكون شرطا محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ملء الارض ذهبا لو تصدق ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق فاكلام من قبيل وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره وعندي درهم ونصفه انتهى ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف وقريب من ذلك ما قيل : إن الواو زائدة ويؤيد ذلك أنه قرئ في الشواذ يدونها وكذا القول : بأن لو ليست وصلية بل شرطية والجواب ما بعد أو هو ساد مسده وذكر ابن المنير في الجواب مدعيا أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا تكون على أحوال تارة تؤخذ قهرا كأخذ الدية وكرة يقول المفتدي : أنا افدي نفسي بكذا ولا يفعل وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية ابلغ الاحوال وأجدرها بالقبول وهي أن يفتدي بملء الارض ذهبا افتداءا محققا بأن (3/219)
يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا ومع ذلك لايقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله : أبذل المال وأقدره عليه أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا بأخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة وقوله تعالى : ولو أن لهم ما في الارض جميعا ومثله معه ليفتدر به مصرح بذلك والمراد به أنه لاخلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم انهمفي ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شئ ونظير هذا قولك : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى في يدي انتهى وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا : إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدى على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن لو تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة و السلام : أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق كأن هذه الاشياء مما لا ينبغي أن تؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطي وكذلك الظلف المحرق لاغناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به وكذلك حالة الافتداء يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لكنه لا يقبل ونظيره وما أنت بمؤمن هنا ولو كنا صادقين لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له
هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير واللفظ له عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : بحاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الارض ذهبا أكنت مفتديا به فيقول : نعم فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب اليم اسم الاشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل ويجوز أن يكون لهم خبرا مقدما و عذاب مبتدأ مؤخرا والجملة خبر عن اسم الاشارة والأول أحسن وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لان من لا يقبل منه الفداء ربما يعفي عنه تكرما وما لهم من نصرين
19
- في رفع العذاب أو تخفيفه و من مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزداد بعده سواء دخلت على مفردا أو جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد وصيغة الجمع لمراعاة الضمير وفيها توافق الفواصل والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد
ومن باب الاشارة قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوى فان ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط ما كان إبراهيم الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه ولا نصرانيا قائلا بالتثليث ولكن كان حنيفا مائلا عن الكون برؤية المكون مسلما منقادا عند جريان قضائه وقدره أو ذاهبا إلى ما ذهب اليه المسلمون المصطفون القائلون ليس كمثله شئ وهو المسميع البصير إن اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضرة القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت فقال إني برئ مما تشركون (3/220)
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض وهذا النبي العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم أولى ايضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لانه زبدة مخيض محبته وخلاصه حقيقة فطرته والذين آمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم واشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم اسراره والله ولي المومنين كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قبات العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم جعله أهل الله سبحانه خطابا للمومنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم قل إن الهدى اعني هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من علم الباطن أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر
وحاصل المعنى إن الهدى الجمع بين الظاهر والباطن وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى قل إن الفضل بيد الله فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم في أزل الآزال والله واسع عليم فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لاهل الشهود يختص برحمته الخاصة من يشاء من عباده وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت والله ذو الفضل العظيم الذي لا يكتنه بلى من أو في بعهده وهو عهد الوح بنعت الكشف وعهد القلب بتلقي الخطاب وعهد العقل بامتثال الاوامر والنواهي والتقى من خطرات النفوس وطوارق الشهوات فان الله يحب المتقين أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية إشارة إلى من مال إلى خضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة ما كان لبشر ان يؤتيه الله كتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس مونوا عبادا لي من دون الله لان الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي اليها لا يكون إلا محجوبا بها وبين الامرين تناقض ولكن يقول كونوا ربانيين أي منسوبين إلى الرب والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب ولهم في الرباني عبارات كثيرة فقال الشلبي : الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شئ إلا إليه وقال سهل : الرباني الذي لا يختار على ربه حالا وقال لقاسم : هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما وقيل : هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده وقيل : هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الاقدار على اختلافها وقيل ك وقيل : وكل الأقوال ترد من منهل واحد ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا فانها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الاطلاق أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أي ايأمركم بالاحتجاب برؤية الاشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في اسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد وإذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الازل بالانقياد والطاعة والايمان بها وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الاول ورجال الحضرة وقيل : إن الله تعالى أخذ عليهم مثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم وهذا غير الميثاق العام المشار اليه بقوله تعالى : وإذ أخذ ربك (3/221)
من بني آدم الخ فمن تولى بعد ذلك أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الانبياء اليه ما عهد اليهم فأولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما أفغير دين الله يبغون وله اسلم من في السموات والارض أي من في عالم الارواح وعالم النفوس أو من في عالم الملكوت وعالم الملك طوعا باختياره وشعوره وكرها من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الاغيار ولهذا سقط عن درجة القبول واليه ترجعون في العاقبة حين يكشف عن ساق ومن يبتغ غير الاسلام وهو التوحيد دينا له فلن يقبل منه لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب وهو فى الآخرة ويوم القيامة الكبرى من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم كيف يهدي الله قوما الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المغرفة وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فان من لم يكن له استعداد لم يقع فى أنوار التجلي ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب والله غالب على أمره ولله در من قال ك إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ظنون مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم : إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم و تنال من نال نيلا إذا أصاب ووجد ويقال : نال العلم إذا وصل اليه واتصف به والبر الاحسان وكمال الخير وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا وضد البر العقوق وضد الخير الشر و أل فيه إما للجنس والحقيقة والمراد لن تكونوا أبرارا حتى تنفقوا وهو المروي عن الحسن وإما لتعريف العهد والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير البر بالجنة وروى مثله عن مسروق والسدى وعمرو بن ميمو وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي لن تنالوا ثوابالبر و حتى بمعنى إلى و من تبعيضية ويؤيده قراءة عبد الله بعض ما تحبون وقيل : بيانه وعليه ايضا لا تخالف بين القراءتين معنى و ما موصولة أو موصوفة وجعلها مصدرية بمعنى المفعول جائز على رأي ابي علي
وفي المراد من قوله سبحانه ك ما تحبون أقوال فقيل المال وكنى بذلك عنه لأن جميع الناس يحبون وقيل : نفائس الأموال وكرائمها وقيل : ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الانسان ويهواها والانفاق على هذا مجاز وعلى الأولين حقيقة وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال ابو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول ك لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن احب اموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة الله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث اراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها ابو طلحة (3/222)
في اقاربه وبنى عمه وفي رواية لمسلم وابيداود فجعلها بين حسان بن ثابت وابي بن كعب
وأخرج ابن ابي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب اليه منها فقال : هي صدقة فقبلها رسول الله وحمل عليها ابنه اسامة فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال : إن الله تعالى قد قبلها منك
واخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية لن تنالوا البر الخ فذكرت ما اعطاني الله تعالى فلم اجد احب إلى من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعود في شئ جعلته الله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعا وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له ك لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا فيقول : أنا اعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون 9 وأن ابن عمر يحب السكر
وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب وروى عن ابن عباس ان المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الاوال فكأنه قيل : لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة اموالكم م وهو مبني على ان المراد من ما تحبون المال لا كرائمه فقول النيسابوري : إنه يرد عليه انه لا يحب على المزكي أن يخرج أشرف اواله وأكرامها ناشئ من قلة التامل ولو تأمل نا اعترض على ترجمان القرآن وحبر الامة ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله بر الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الانفاق وهو مقيد بالامكان وإنما اطلق على سبيل المبالغة في الترغيب وقيل ك الأولى أن يكون المراد لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله بر الله تعالى الكامل بأهل طاعته وقيل : الأولى من هذا الأولى أن يقال : إن المراد ل تنالوا البر على الانفاق حتى تنفقوا مما تحبون وحاصله ان الانفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الانفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الانفاق من المحبوب ونفي ترتب البر على فعل آخر من الافعال المأمور بها وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارا أو نائلا بر الله تعالى بأهل طاعته من جهة اخرى وربما تستدعي افعاله الخالية عن إنفاق المال من البر ما هو اكمل واوفر مما يستدعيه الانفاق المجرد منه وينجر الكلام إلى مسالة تفضيل الفقر الصابر على الغني الشاكر وهي مسألة طويلة الذيل قد الفت فيها الرسائل وما تنفقوا من شئ أي اي شئ تنفقون من الأشياء أو أي شئ تنفقوا طيب تحبونه او خبيث تكرهونه فمن على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط وعلى الثاني في محل نصب على التمييز فإن الله به عليم
29
- تعليل لجوب الشرط واقع موقعه م أي فيجازيكم يحسبه فإنه تعالى عليم بكل ما تنفقونه وقيل ك إنه جواب الشرط والمراد أن الله تعالى يعلمه موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها وتقديم الظرف لرعاية الفواصل وفي الآية ترغيب وترهيب قيل : وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة 4 (3/223)
بسم الله الرحمن الرحيم كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل روى الواحدي عن الكلبي أنه حين قال النبي : أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام فتحن نحله فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى إنتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم والطعام بمعنى المطعوم ويراد به هنا المطعومات مطلقا أو المأكولات وهو لكونه مصدرا منعوتا به معنى يستوي فيه الواحد المذكر وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضى : إنه يقال : رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى ودكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الإستغراق شأن الجمع المعرف باللام والحل مصدر أيضا أريد منه حلالا والمراد الأخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الإنفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام
و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وعن أبي مجلز أن ملكا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قال مجاهد : حرم لحوم الأنعام وروى عكرمة عن إبن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن إبن عباس أنه عليه الصلاة و السلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبان بليلة يزقو فحل أن لا يأكله أبدا وقيل : حرمه على نفسه تعبدا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك ونسب هذا إلى الحسن وقيل إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذائذ على نفسه
وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه وقال بعض : كان ذلك عن إجتهاد ويؤيده ظاهر النظم وبه أستدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإستغناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده وقيل : منقطع والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول من قبل أن تنزل التوراة الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى : كان رجلا ولا يضر الفصل بالإستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو جارا أو مجرورا أو حالا وقيل : متعلق بحرم وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه وأعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجا وتضييقا وأختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف والتقدير كان حلا (4/2)
من قبل أن تنزل التوراة في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل : متى كان حلا فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدا للحل
ولا يخفى ما فيه والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعى عليهم قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم وقوله سبحانه : وعلى الذين هادوا حرمنا الآيتين وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول
وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها إقتداءا بأبيهم يعقوب عليه السلام وقال الكلبي : لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة وأنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا وصب عليهم رجزا وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئا من ذلك في التوراة ولا بعدها وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم إتباعا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد قل فأتوا بالتوراة فأتلوها أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار أسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله وقوله تعالى : إن كنتم صادقين 39 أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فأتلوها روى أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا
وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي فمن أفترى على الله الكذب أي أخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فمن عبارة عن أولئك اليهود ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذ دخولا أوليا وأصل الإفتراء قطع الأديم يقال : فرى الأديم يفريه فريا إذا قطعه وأستعمل في الإبتداع والإختلاق والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة فأتوا فتدخل تحت القول ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناه من بعد ذلك أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة
فأولئك أي المفترون المبعدون عن عز القرب هم الظالمون 49 لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم وقيل : هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما قيد بالبعديةمع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال للدلالة على كمال القبح وقيل : لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى وقيل : إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكل لحوم الإبل وأدعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة قل صدق الله أي ظهر وثبت صدقه في أن (4/3)
كل الطعام كان حلا لبني إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وقيل : في أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام وقيل : في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وفيه كما قيل : تعريض بكذبهم الصريح فأتبعوا ملة إبراهيم وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون وقيل : أتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي أضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم وقيل : أتبعوا ملته في إستباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلا له حنيفا أي مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق أو مستقيما على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك
وما كان من المشركين 59
أي في أمر من أمور دينهم أصلا وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين والجملة تذييل لما قبلها إن أول بيت وضع للناس
أخرج إبن المنذر وغيره عن إبن جريج قال : بلغنا أن اليهود قالت : بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله فنزلت إلى مقام إبراهيم
وروى مثل ذلك عن مجاهد ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة بإتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك وقيل وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية أدعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها والمعنى إن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيء وجعل متعبدا والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قزا وضع بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذ أن يكون الضمير راجعا إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحا في الآية بناءا على أنها مستأنفة وإحتمال عوده إلى إبراهيم عليه السلام لإشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر وجملة وضع في موضع جر على أنها صفة بيت و للناس متعلق به واللام فيه للعلة وقوله تعالى : للذي ببكة خبر إن واللام من حلقة وأخبر بالمعرفة عن النكرة لتخصيصها وهذا في باب إن وبكةلغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا ومنه نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم وقيل : هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة البلد بأسرها وأصلها من البك بمعنى الزحم يقال بكه يبكه بكا إذا زحمه وتباك الناس إذا أزدحموا وكأنها إنما سميت بذلك لأزدحام الحجيج فيها وقيل : بمعنى الدق وسميت بذلك لدق أعناق الجبابرة إذا أرادوها بسوء وإذ لا لهم فيها ولذا تراهم في الطواف كآحاد الناس ولو أمكنهم الله تعالى من تخلية المطاف لفعلوا وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها قيل : ومن هنا سميت البلد مكة أيضا أخذا لها من أمتك الفصيل ما في الضرع إذا أمتصه ولم يبق فيه من اللبن شيئا وقيل : هي من مكه الله تعالى إذا أستقصاه بالهلاك ثم المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان وقيل : بحسب الشرف ويؤيد الأول ما أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل : كم بينهما فقال : أربعون سنة وأستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام وباني الأقصى داؤد ثم إبنه سليمان عليهما السلام ورفع قبته ثمانية عشر ميلا وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها (4/4)
وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء قبل داؤد وإبنه عليهما السلام ثم بنياه بعد ذلك ولا بد من هذا التأويل قاله الطحاوي وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام وأنه بنى الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وأدعى فهم ذلك من الحديث فتدبر
وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه السلام بألفي عام وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يويد ذلك وحكى أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيت ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبدالله بن الزبير ثم الحجاج وأستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام وقيل : إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء وقيل : بنى قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة وقيل : الرابعة وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر مباركا أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله إبن عباس وقيل : لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به وأعتكف عنده
وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : يجبي إليه ثمرات كل شيء وقيل : بركته دوام العبادة فيه ولزومها وقد جاءت البركة بمعنيين : النمو وهو الشائع والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل ووجه الكرماني كونه مباركا بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولاشك أن فيهم أشخاصا أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الآلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن بفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرا فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائما كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة
وجوز أبو البقاء جعله حالا من الضمير في وضع وهدى للعالمين 69 أي هاد لهم إلى الجنة التي أرادها سبحانه أو هاد إليه جل شأنه بما فيه من الآيات العجيبة كما قال تعالى : فيه آيات بينات كإهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه وعدم نفرة الطير من الناس هناك وإن أي ركن من البيت وقع الغيث في مقابلته كان الخصب فيما يليه من البلاد فإذا وقع في مقابلة الركن اليماني كان الخصب باليمن وإذا كان في مقابلة الركن الشامي كان الخصب بالشام وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وكقلة الجمرات على كثرة الرماة إلى غير ذلك وعدوا منه إنحراف الطير عن موازاته على مدى الإعصار وفيه كلام للمحدثين لأن منها ما يعلوه وقيل : لا يعلوه إلا ما به علة للإستشفاء وأعترض بأن العقاب علته لأخذ الحية وقيل : إن الطير المهدر دمها تعلوه والحمام مع كثرته لا يعلوه وبه جمع بعضهم بين الكلامينومع هذا في القلب منه شيءفقد نقل بعض الناس أنه شاهد أن الطير مطلقا تعلوه في بعض الأحايين (4/5)
والضمير المجرور عائد على البيت والظرفية مجازية وإلا لما صح عد هذه الآيات والجملة إما مستأنفة جيء بها بيانا وتفسيرا للهدى وإما حال أخرى ولا بأس في ترك الواو في الجملة ألأسمية الحالية على ما أشار إليه عبدالقاهر وغيره وجوز أن تكون حالا من الضمير في العالمين والعامل فيه هدى أو من الضمير في مباركا وهو العامل فيها أو يكون صفة لهدى كما أن العاملين كذلك وقوله تعالى : مقام إبراهيم مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ أي منها أو أحدها مقام إبراهيم وأختار الحلبي الأخير وقيل : بدل البعض من الكل وإليه ذهب أبو مسلم وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان وصح بيان الجمع بالمفرد بناءا على إشتمال المقام على آيات متعددة لأن أثر القدمين في الصخرة الصماء آية وغوصهما فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية وإبقاؤه على ممر الزمان آية وحفظه من الأعداء آية أو على أن هذه الآية الواحدة لظهور شأنها وقوة دلالتها على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام منزلة آيات كثيرة وأيد ذلك بما أخرجه إبن الأنباري عن مجاهد أنه كان يقرأفيه آية بينة بالتوحيد وفيه أن هذا وإن ساغ معنى إلا أنه يرد عليه أن آيات نكرة و مقام إبراهيم معرفة وقد صرح أبو حيان أنه لا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين ثم إن سبب هذا الأثر في هذا المقام ما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير أنه لما أرتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه وقد تقدم غير ذلك في ذلك أيضا ومن دخله كان آمنا الضمير المنصوب عائد إلى مقام إبراهيم بمعنى الحرم كله على ما قاله إبن عباس لا موضع القدمين فقط ويمكن أن يكون هناك إستخدام وقال الجصاص : أورد الآيات المذكورات في الحرم ثم قال : ومن دخله إلخ فيجب أن يكون المراد جميع الحرم والجملة إما إبتدائية وليست بشرطية وإما شرطية عطف كما قال غير واحد من حيث المعنى على مقام لأنه في المعنى أمن من دخله أي ومنها أو ثانيها أمن من دخله أوفيه آيات مقام إبراهيم وأمن من دخله وعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلف في توجيه الجمعية لأن الآيتين نوع من الجملة كالثلاثة والأربعة ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر ألآيات ومثل هذا الطي واقع في الأحاديث النبوية والأشعار العربية فالأول كرواية حبب إلى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة على ما هو الشائع وإن صححوا عدم ذكر ثلاث وأما الثاني فمنه قول جرير : كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها و من إما للعقلاء أولهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات فحينئذ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات فقد أخرج إبن أبي حاتم عن الحسن في الآية أنه قال : كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه إبن المقتول أو أبوه فلا يحركه
وأخرج إبن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه
وأخرج إبن جرير عن إبنه أنه قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته وعن إبن عباس لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم (4/6)
ولا يؤذي ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ماجر فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم والروايات عنه في ذلك كثيرة وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عن يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمنا من النار وأخرج البيهقي عن إبن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من دخل البيت دخل في حسنه وخرج من سيئة مغفورا له وروى من غير طريق عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة وفي رواية عن إبن عمر قال : من قبر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ
ولله على الناس حج البيت جملة إبتدائية المبتدأ فيها حج والخبر لله و على الناس متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الإستقرار
وجوز أن يكون على الناس خبرا و لله متعلق بما تعلق به ولا يجوز أن يكون حالا من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذ يكون معنى والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور وجوزه إبن مالك إذا كان الحال ظرف أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية وأل في البيت للعهد وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حج بالكسر كعلم وهو لغة نجد من إستطاع إليه سبيلا بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البل مقدر أي منهم وقيل : بدل الكل من الكل والمراد من الناس خاص ولا يحتاج إلى ضمير وقيل : خبر لمحذوف أي هم من إستطاع أو الواجب عليه من إستطاع
وجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل أعني أعني وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أيولله على الناس أن يحج من إستطاع منهم البيت وفيه مناقشة مشهورة و من على هذه الأوجه موصولة
وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على الناس والتقدير من إستطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء وقدم عليه للإهتمام بشأنه والإستطاعة في الأصل إستدعاء طواعية الفعل وتأتيه والمراد بالإستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقا أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما وإلى الأول ذهب الإمام مالك فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق وإلى الثاني ذهب الإمام الشافعي ولذا أوجب الإستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه وإلى الثالث ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه ويؤيده ما أخرجه البيهقي وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به
وأستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بما أخرجه الدارقطني عن جابر بن عبدالله قال : لما نزلت (4/7)
هذه الآية ولله على الناس حج البيت من إستطاع إليه سبيلا قام رجل فقال : يارسول الله ما السبيل قالك الزاد والراحلة وروى هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي حيث قصر الإستطاعة على المالية دون البدنية وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام مالك مخالفة ظاهرة وأما إمامنا فيؤل ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الإستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلا لم يجب الحج عليه والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الإقتصار على واحد مما فيه فقد أخرج الدارقطني أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبي سئل عن السبيل فقال : أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد
هذا وأستدل بالآية على أن الإستطاعة قبل الفعل وفساد القول بأنها معه ووجه الإستدلال ظاهر وأجيب بأن الإستطاعة التي ندعى أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الإستطاعة على معنى آخر هو سلامة الأسباب والآلات والجوارح أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ولا نزاع لنا في أن هذه الإستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا : إن المشهور عن الأشعري أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ولا توجد قبله فضلا عن تعلقها به ووافقه على ذلك كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وإبن الراوندي وأبي عيسى الوراق وغيرهم وقال أكثر المعتزلة : القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه ثم أختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال : ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ومنهم من نفاه ودليلهم على ذلك وجوه
الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال : أوجده فوجد وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسيلمه يقال : إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لإستعمال الفاء بينهما
الثاني إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كون متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من إحتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضى دون الباقي فلو لم تتعلق بالأول لبقى على عدمه وقد فرض وجوده هذا خلف ولو لم تتعلق بالثاني لبقى على الوجود وهو المطابق للواقع : أو ننقض الدليل أولا بتأثير العلم أو العالمية بالإتفاق فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه وثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في ذلك حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا لا يؤثر حال البقاء وثالثا بمقارنة الإزادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة (4/8)
الثالث أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ولو كان ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القدرة القديمة وليس فليس وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها
الراب أنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول : يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة وأيضا لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والإعراض وأجيب بأنه يجوز تكليف المحال عندنا فيلتزم جواز التكليف بالخلق المذكور ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والإعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا فلا يجوز التكليف به وأما ماذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه
ودليل ما شاع عن الأشعري قيل : هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الإختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من إمتناع بقاء الإعراض وأعترض عليه بما في أدلة إمتناع بقاء الإعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الإمتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة وأجيب بأنا إنما ندعى لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد أعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة ثم إن أدعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان
وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه وذكر في المواقف دليلا آخر للأشعري على ما أدعاه ونظر فيه أيضاهذا كلامهموالحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند إنضمام الإرادة التابعة لإرادة الله تعالى لقوله سبحانه : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ماأقتضته رحمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر وأطال الكلام فيه أبو عبدالله الدمشقي في شفاء العليل (4/9)
ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الإمتثال وينهي عنه من لا يقدر على الإجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا أنضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها إنضمام الإرادة إليها وبهذا جمع الإمام الرازيكما في المواقفبين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل والمعتزلة القائلين بأنها قبله وقال : لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح وقول السيد قدس سره في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال : إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثيرمدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته
والمعتمد من كتبه كما صرح به إبن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا إستقلالا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده وأما قوله في شرح المواقف : إن أفعال العباد الإختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة وإختيارا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلا له وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ففيه بحث من وجوه
أما أولا فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي أستقر عليها الإعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحا مرجوعا عنه وأما ثانيا فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرا أو نهيا بالأفعال الإختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الإختياري والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلا فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما أقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة ويزيده وضوحا حديث أبي هريرة أنه لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا يارسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها الحديث فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك وأما ثالثا فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الإختياري مقارنا لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورا للعبد أصلا لأن معنى كون الشيء مقدورا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث من كظم غظيه وهو قادر على أن ينفذه وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورا له إبتداءا (4/10)
لزم أن لا يكون مترتبا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورا للعبد واللازم باطل بشقيه بعد القول بنفي التأثير أصلا فكذا الملزوم وأما رابعا فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لأستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك وأعترض هذا من وجوه
الأول أن القول بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الإمتثال يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بد فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بد أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه إطلاع من دونه على وجه الحقيقةكما قاله القفال في محاسن الشريعةوحينئذ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا ثابت بقوله تعالى : صنع الله الذي أتقن كل شيء وقوله سبحانه : أحسن كل شيء خلقه وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤل هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الإصلاع عليه
والثاني أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق إلخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي سختيارية في الظاهر بإعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وإدعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور وجوابه ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسببالتعلق الذي لا تأثير معه مردا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقطمصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الإختيارية بإذن الله تعالى ولا دليل على خلافه يوجب العدول والله خالق كل شيء لا ينافي التأثير بالأذن على أن تعلق القدرة تابع للأرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادي الأفعال الإختيارية ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الأحياء وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى وكان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والإستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الإقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة وإلارادة تعلقت أزلا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقا فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة (4/11)
والحاصل أن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلا على القول بنفي التأثير عنها كليا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة
والثالث أن القول في الإعتراض الثالث أنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا إلخ يقال فعليه : نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فإلتزام وقوعه عنده إلتزام ما لم يقل به لا صريحا ولا إلتزاما والقول أنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فإلتزامه مصادمة للنص رأى محذور أشنع من هذا
والرابع أن القول هناك أيضا أن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل وإن شئت قلت : قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبا وهو المكلف به ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه وإن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلفا به قطعا لإمتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة إنتفاء الحاصل بالمصدر عند إنتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية والخامس أن القول في الإعتراض أن المقارنة لكونها أمرا مترتبا على فعل الله تعالى لا تختلف إلخ فيه أمران : الأول أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الإختلاف وأي مانع من أن تكون مختلفة بإعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرا وعزما وتارة جزعا وفتورا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الأعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب ألما أو لذة الثاني أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الإختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان ويجاب أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم إختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا والإيراد بتجويز إختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم إختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الإختلاف وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى : كانوا أكثر منهم وأشد قوة وقوله سبحانه : كانوا هم أشد قوة وآثارا وقوله عز شأنه : فأهلكنا أشد منهم بطشا وبإختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لإستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الإختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم (4/12)
وإنما أستطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فأحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق والله تعالى الموفق لارب غيره
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين 79 يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا ومثله ما روى بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناءا على ما أخرج إبن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة أنه لما نزلت ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية قال اليهود : فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل ومن كفر الآية
ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال : إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه ومن كفر إلخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب إبن عباس فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : ومن كفر بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما وروى إبن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال : يارسول الله من تركه كفر قال : من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك وعلى كلا الإحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر و من تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة وعلى الإحتمالين أستغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الإظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم
ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفي عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والإستغناء في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل ولهذا صح جعله جزاءا وإن أبيت فهو دليله وفي الآيةكما قالوا فنون من الإعتبارات المعربة عن كمال الإعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه مالا مزيد عليه وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الأسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولا وتخصيصه ثانيا وتسمية ترك الحج كفرا من حيث أنه فعل الكفرة وذكر الإستغناء والعالمين
وذكر الطيبي أن في تخصيص أسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الأشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا وفي تذييل ومن كفر فإن الله غني عن العالمين لأنها في المعنى تأكيدا لإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشره مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة (4/13)
إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة وأستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناءا على ما روى أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا وأن جبريل قال له : إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة وأدعى إبن إسحاق أنه لم يبعث الله تعالى نبيا بعد إبراهيم إلا حج والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافا لمن أستثنى هودا وصالحا عليهما الصلاة والسلام وفي وجويه على من قبلنا وجهان قيل : الصحيح أنه لم يجب إلا علينا وأستغرب وأدعى جمع أنه أفضل العبادات لإشتماله على المال والبدن وفي وقت وجوبه خلاف فقيل : قبل الهجرة وقيل : أول سنيها وهكذا إلى العاشرة وصحح أنه في السادسة نعم حج صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا لا يدري عددها والتسمية مجازية بإعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا في التاسعة لكن الوجه خلافه لأه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها عتاب بن أسيد أمير مكة وبعد ذلك حجة الوداع لا غير قل يأهل الكتاب لم تكفرون بإيات الله خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والإستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل : هاتوا عذركم إن أمكنكم
والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها وسبب نزولها ما أخرجه إبن إسحاق وجماعة عن زيد إبن أسلم قال : مر شماس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد أجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا أجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا معه من يهود فقال : أعمد إليهم فأجاس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان يوم بعاث يوما أقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركبأوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرجفتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا السلام السلاح موعدكم الظاهرةوالظاهرة الحرةفخرجوا إليها وأنضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يامعشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية وأستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم أنصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس وأنزل الله تعالى في شأن شماس وما صنع قل ياأهل الكتاب لم تكفرون إلى قوله سبحانه : (4/14)
وما الله بغافل عما تعملون وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الآية وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهرا اليهود
وقيل : المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى والله شهيد على ما تعملون 89 جملة حالية العامل فيها تكفرون وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة والشهيد العالم المطلع وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه و ما إما عبارة عن كفرهم وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلا قل ياأهل الكتاب لم تصدون أي تصرفون عن سبيل الله أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام من آمن أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للإهتمام به تبغونها أي السبيل عوجا أي إعوجاجا وميلا عن الإستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض ومنه لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتضب كالقناة والحائط مثلا وهو أحد مفوليتبغونفإن بغي يتغدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله : فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيد كم أم حمارا أراد أصيد لكم وقال إبن المنير : الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار و عوجا حال وقع موقع الأسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الططريقة القويمة نفس المعوج وأدعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون عوجا هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير الجار وفيه تأمل وقيل : عوجا حال من فاعلتبغونوالكلام فيه كالكلام في سابقه وجملةتبغونعلى كل حال إما حال من ضمير تصدون أو منالسبيلوإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد والأكثرون على أنه كان بالتحريش والأغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والإستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل : لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين وقيل : الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلموإلى هذا ذهب الحسن وقتادةوعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم قالوا : لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال
وقريء تصدون من أصد وأنتم شهداء حال إما من فاعل تصدون أو من فاعل تبغونوالإستئناف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة صلى الله تعالى عليه وسلم مطلعون (4/15)
على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه وما الله بغافل عما تعملون 99 تهديد لهم على ما صنعوا قيل : لما كان كفرهم ظاهرا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم أو ما هو بمنزلتهوصدهم عن سبيل اللهوما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلا من الآيتين بما ختم
ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 001 خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول بتقدير قل لهم
والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شماس بن قيس اليهودي وفي الإقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل وقال بعضهم : هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية و كافرين إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير كما في قوله
رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا أو حال من مفعوله قالوا : والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر وبعد يجوز أن يكون ظرفاليردوكموأن يكون ظرفالكافرينوإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه وإستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه وكيف تكفرون أي على أي حال يقع منكم الكفر وأنتم تتلى عليكم آيات الله الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وفيكم رسوله يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه والجملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في تكفرون والمراد إستبعاد أن يقع منهم الكفر وعدنهم ما يأباه
وقيل : المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها وليس المراد إنكار الواقع كما في كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية وقيل : المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الإستفهام لإنكار الواقع والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله أو الأوس والخزرج منهم ومنهم من جعله عاما لسائر المؤمنين وجميع الأمة وعليه معنى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم إن آثاره وشاهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة و السلام إشارة إلى إستقلال كل من الأمرين في الباب وإيذانا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت (4/16)
ومن يعتصم بالله إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله والإعتصام بمعنى التمسك إستعارة تبعية وإما أن لا يقدر فيجعل الإعتصام بالله إستعارة للإلتجاء إليه سبحانه قال الطيبي : وعلى الأول تكون الجملة معطوفة على وأنتم تتلى عليكم أيكيف تكفرونأي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه وعلى الثاني تكون تذييلا لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا إلخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكايدهم فلا تخافوهم وألتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من ألتجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه فعلى الأول جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوى المفهوم من قوله تعالى : وأنتم تتلى عليكم إلخ وعلى الثاني للحث على الإلتجاء ويحتمل على الأول التذييل وعل ىالثاني الحال أيضا فأفهم و من شرطية وقوله تعالى : فقد هدى إلى صراط مستقيم 101 جواب الشرط ولكونه ماضيا مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل قيل : والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالإستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والإهتداء إليه هو الإعتصام به بعينه لكن لما أختلف الإعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز إنتهى
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الإعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله إبن جريج وأ إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والإلتجاء إليه كما روى عن أبي العالية فيبعد الإحتياج وعلى هذا يكون المراد من الإهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال : أوحى الله تعالى داؤد عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجا وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تخحت قدميه
ياأيها الذين آمنوا كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفا لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب أتقوا الله حق تقاته أي حق تقواه روى غير واحد عن إبن مسعود موقوفا ومرفوعا هو أن يطاع فلا يعصي ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر وأدعى كثير نسخ هذه الآية وروى ذلك عن إبن مسعود
وأخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت أشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فأتقوا الله ما أستطعتم فنسخت الآية الأولى ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن إبن عباس وروى إبن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من حق تقاته ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن حق من حق الشيء بمعنى وجب وثبت والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل أتقوا الله إتقاءا حقا أي (4/17)
ثابتا وواجبا على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى : فأتقوا الله ما أستطعتم بيانا لقوله تعالى : أتقوا الله حق تقاته وأدعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى : أتقوا الله حق تقاته على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال ثم اباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر حق تقاته على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنيا على ما ذهب إليه المعتزلة من إمتناع التكليف بما لا يطاق إبتداءا كما لا يخفى وأصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاءا كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه : تقاة ووقاة وإقاة ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون 201 أي مخلصون نفوسكم لله عزوجل لا تجعلون فيها شركة لسواه اصلا وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولا والإيمان ثانيا لما أن لكل مقام مقالا والإستثناء من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الأسمية ولو قيل : إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلا لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه وفي التحبير للإمام السيوطي : ومن عجيب ما أشتهر في تفسير مسلمون قول العوام : أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه إنتهى وقرأ أبو عبدالله رضي الله تعالى عنه مسلمون بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منقادون له وفي هذه الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب وأعتصموا بحبل الله أي القرآن وروى ذلك بسند صحيح عن إبن مسعود
وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض
وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عزوجل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة وقيل : المراد بحبل الله الطاعة والجماعة وروى ذلك عن إبن مسعود أيضا
أخرج إبن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال : سمعت إبن مسعود يخطب وهو يقول : أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به و في رواية عنه حبل الله تعالى الجماعة وروى ذلك أيضا عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنه الإخلاص لله تعالى وحده وعن الحسن (4/18)
أنه طاعة الله عزوجل وعن إبن زيد أنه الإسلام وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة
وفي الكلام إستعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من إستظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الإنقطاع من غير إعتبار مجاز في المفردات وأستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه وقد يكون في الكلام إستعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلا إستعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة ويستعار الإعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الإستعارة المصرحة التبعية والقرينة إقترانها بالإستعارة الثانية وقد يكون في أعتصموا مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق والتقييد وقد يكون مجازا بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الإستعارة في الحبل فقط ويكون الإعتصام باقيا على معناه ترشيحا لها على أتم وجه والقرينة قد تختلف بالتصرف فبإعتبار قد تكون مانعة وبإعتبار آخر قد لا تكون فلا يرد أن إحتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتى إرادة الحقيقة ليصح إلا ران في أعتصموا وقد تكون الإستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الإستعارة في الحبل مكنية وفي الإعتصام تخييلية لأن المكنية مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي ولا يخفى أنه أبعد من العيوق
وقد ذكرنا في حواشينا على رسالة إبن عصام ما يرد على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فأرجع إليه إن أردته جميعا حال من فاعل أعتصموا كما هو الظاهر المتبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى : ولا تفرقوا تأكيدا بناءا على أن المعنى ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالإعتصام به وقيل : المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم وقيل : المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وروى ذلك عن الحسن وأذكروا نعمت الله عليكم أي جنسها ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان و يحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله : إذ كنتم أعداء أي في الجاهلية فألإف بين قلوبكم بالإسلام و نعمة مصدر مضاف إلى الفاعل و لكم إما متعلق به أو حال منه و إذ إما ظرف للنعمة أو للإستقرار في عليكم إذا جعلته حالا قيل : وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقادقاله إبن إسحاقوكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم وقد فصل ذلك في الكامل وقيل : أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض ومنه حرب البسوس ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه فأصبحتم بنعمته إخوانا أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابينفأصبحناقصة و إخوانا خبره وقيل : أصبحتم أي دخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخوانا والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح وفي الإتقان الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان قاله إبن فارسوخالفه غيرهوأورد في الصداقة إنما المؤمنون إخوة وفي النسب أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بيوت إخوانكم وكنتم على شفا حفرة من النار (4/19)
أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب ويثنى على شفوان ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى ك شفا جرف هار وإلى الأسفل قيل : كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد فأنقذكم منها أي بمحمد قاله إبن عباسوالضمير المجرور عائد إما على النار أو على حفرة أو على شفا لأنه بمعنى الشفة أو لإكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله : وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضا منه أو فعلا له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند وأختار الزمخشري الإحتمال الأخير وقال إبن المنير : وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة وأما الإمتنان بالإنقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوى إلى الحفرة فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوى فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة أبلغ وأوقع مع أن إكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر خلاف رأيه في الإيضاح و ما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لولا الإنقاذ الرباني فبولغ في الإمتنان بذلك ألا ترى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإلى قوله تعالى : أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به في نار جهنم فأنظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى إنهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه : هار إنتهى ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأى الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة
وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن التار والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناءا على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا كما هو قول إبن المنيرأو بشرط كون بعضه أو كبعضه كقول جرير
أرى مر السنين أخذن مني
فإن مر السنين من جنسها وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه كذلك أي مثل ذلك التبيين الواضح يبين الله لكم آياته أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه لعلكم تهتدون 301 أي لكي تدوموا على الهدى وإزديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الإفتعال ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق بدل على أنهم ضالون مضلون والجمهور على إسكان لام الأمر وقريء بكسرها على الأصل وتكن إما من كان التامة فتكون أمة فاعلا وجملة يدعون صفته و منكم متعلقبتكنأو بمحذوف على أن يكون صفةلأمةقدم (4/20)
عليها فصار حالا وإما من كان الناقصة فتكون أمة أسمها ويدعون خبرها و منكم إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة والأمة الجماعة التي تؤم أي قصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء لإجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ومنه إن إبراهيم كان أمة وعلى الدين والملة ومنه إنا وجدنا آباءنا على أمة وعلى الزمان ومنه وأدكر بعد أمة إلى غير ذلك من معانيها والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من باب عطف الخاص على العام إيذانا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل قال إبن المنير : إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا أن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر وما أرى هذا العرف ثابتا إنتهى وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه على أنه قد أخرج إبن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ثم قال : الخير إتباع القرآن وسنتي وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا
ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله إبن المنير أيضا ويؤيده ما أخرجه إبن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للأعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حد فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج وأخرج إبن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهم الرواة والأكثرون على جعله عاما ويدخل فيه من ذكر دخولا اوليا و من هنا قيل : للتبعيض وقيل : للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان
ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء أتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر ومنهم الشيخ أبو جعفر من الإمامية قالوا : إنها من فروض الأعيان وأختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للإكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم وأستدلوا على ذلك بأثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجبا عليهم كلهم لما أثموا بالترك
وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم وأعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالإستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به (4/21)
والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه : بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور
وأعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالإستبعاد بأنه إنما يتأتى لو أرتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في إحتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون لأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في إحتمال كل ان تكون مكلفة به فالإستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما أختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في إسم الجميع ولا يصير النزاع بين الطائفتين لفظيا حيث أن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية من تعلقه بالمشترك وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه عل ىالقول بالإبتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير ومن هنا يستغني عن الجواب عما أعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل : ليس الدين نظير ما نحن فيه كليا لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر وإستوائها مع غيرها في التعلق
وأما قولهم : ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعي تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه وهو مختار إبن السبكي خلافا لأبيه إذا تحقق هذا فأعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا : إن من للتبعيض وأن القائلين بأن المكلف الكل قالوا : إنها للتبيين وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالإجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل وأولئك أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة
هم المفلحون 401 أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خير الناس قال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم
وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وخليفة كتابه وروىلتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنتصرونوالأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضا إن قلنا إن المكروه منكر شرعا وأما إن فسر (4/22)
بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجبا وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهي عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى : لم تقولون مالا تفعلون لأنه مؤل بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما أفعل كذا ولا تفعل كذا والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلا في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به قوله : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع ولا تكونوا كالذين تفرقوا وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع
وأخرج إبن ماجه عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وأفترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل : يارسول الله من هم قال : الجماعة وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعا أن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعا أيضا إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على إثنتين وسبعين فرقة تلهك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الإفتراق حصل لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر وأختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد قيل : وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد وقيل : التفرق بالعداوة والإختلاف بالديانة
من بعد ما جاءهم البينات أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لإتحاد الكلمة وقال الحسن : التوراة وقال قتادة وأبو أمامة : القرآن وأولئك إشارة إلى المذكورين بإعتبار إتصافهم بما في حيز الصلة لهم عذاب عظيم 501 لا يكتنه على تفرقهم وإختلافهم المذكور وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب ثم إن هذا الإختلاف المذموم محمول كما قيل على الإختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه وقيل : إنه شامل للأصول والفروع لما نرى منإختلاف أهل السنة فيهاكالماتريدي والأشعريفالمراد حينئذ بالنهي عن الإختلاف النهي عن الإختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد
وأستدل على عدم المنع من الإختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة و السلام : إختلاف أمتي رحمة وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب (4/23)
الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به أهتديتم وإختلاف أصحابي لكم رحمة وأراد بهم صلى الله تعالى عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الإجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافا لمن وهم والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة
فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال : إختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى وأخرجه إبن سعد في طبقاته بلفظ كان إختلاف أصحاب محمد رحمة للناس وفي المدخل عن عمر بن عبدالعزيز قال : ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة وأعترض الإمام السبكي بأن إختلاف أمتي رحمة ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال إختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له وأستدل على بطلانته بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الإختلاف والآيات أكثر من أن تحصى ومن الأحاديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم وإختلافهم على أنبيائهم وقوله عليه الصلاة و السلام : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم هو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال : والذي نقطع به أن الإتفاق خير من الإختلاف وأن الإختلاف على ثلاثة أقسام أحدها في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن والثاني في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمين : تطاوعا ولا تختلفا ولا شك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية والثالث في الفروع كالإختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الإتفاق خير منه أيضا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا فيه خلاف فكلام إبن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل وألاخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال : الإختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الإتفاق خير من الإختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الإختلاف رحمة ما في وقت مافي حالة ماعلى وجه مافان كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه وعلى كل تقدير لا نقول إن الإختلاف مأمور به والقول بأن الإتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا فإن قلنا : إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه وإتفاقهم عليه مطلوب والإختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطيء وأثيب على إجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داؤد والنسائي وإبن ماجه من حديث عمرو بن العاص إذا حكم الحاكم فأجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فأجتهد فأخطأ فله أجر وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين وأما إذا قلنا : كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالإجتهاد وبإتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالإتفاق ولا أن لا يكون إختلافهم منهيا عنه وإطلاق الرحمة على هذا التقدير (4/24)
في الإختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا : المصيب واحد هذا كله إذا حملنا الإختلاف في الخبر على الإختلاف في الفروع وأما إذا قلنا المراد الإختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان لكن كان المناسب على هذا أن يقال إختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الإختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عنإبن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد إختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الإجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن طنتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه إثنان فليفهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه نصب بما في لهم من معنى الإستقرار أو منصوب بأذكر مقدرا وقيل : العامل فيه عذأب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل وقيل : عظيم وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال : إن التقييد ليس بمراد والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد والجمهور على الأول قالوا : يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع ويوسم أهل الباطل بضد ذلك والظاهر أن الأبيضاض والأسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه
وأختلف في وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور وقيل : وقت قراءة الصحف وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان وقيل : عند قوله تعالى شأنه : وأمتازوا اليوم أيها المجرمون وقيل : وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده ولا يبعد أن يقال : إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حد الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطيء كما لا يخفى وقرأتبيض وتسودبكسر حرف المضارعة وهي لغةوتبياض وتسواد
فأما الذين أسودت وجوههم تفصيل لأحوال الفريقين وإبتدأ بحال الذين أسودت وجوههم لمجاورته وتسود وجوه وليكون الإبتداء والإختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر أكفرتم بعد إيمانكم على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك وحذف القول وإستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما والإستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم والكلام حكاية لما يقال لهم فلا إلتفات فيه خلافا للسمين والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاى أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم (4/25)
كفرهم برسول الله بعد الإيمان به قبل مبعثهوإليه ذهب عكرمةوأختاره الزجاج والجبائي
وقيل : هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى وروى ذلك عن أبي بن كعب ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي وقيل : إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة وروى ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وإبن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه
فذوقوا العذاب أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه وقيل : يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه : بما كنتم تكفرون فالباء للسببية وقيل : للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد بعد إيمانكم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على إستمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا
وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذ مجازية كما يقال : في نعيم دائم وعيش رغدوفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى : هم فيها خالدون 701 وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن أستغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له : حتى أنت يارسول الله فقال : حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته وجملة هم فيها خالدون إستئنافية وقعت جوابا عما نشأ من السياق كأنه قيل : كيف يكونون فيها فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم وقيل : خبر بعد خبر وليس بشيء وتقديم الظرف للمحافظة على رؤس الآي والضمير المجرور للرحمة ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافا لمن قال به وجعل الكلام عليه بيانا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل : ما بالهم في رحمة الله تعالى فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات وقريءأبياضت وأسوادت تلك أي التي مر ذكرها وعظم قدرها آيات الله نتلوها عليك أي نقرؤها شيئا فشيئا وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه السلام بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الإلتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة
وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك و آيات بدل منه وقريء يتلوها على صيغة الغيبة
بالحق أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول وما الله يريد ظلما للعالمين 801 بأن يحلهم من العقاب (4/26)
ما لا يستحقونه عدلا أو ينقصهم من الثواب عما أستحقوه فضلا والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ظلما ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الإنتفاء وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف وألتفت إلى الأسم الجليل والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفي المستحيل كما في قوله تعالى : لم يلد ولم يولد وقيل : الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هوظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلما منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلما لا يستفاد هذا وفيه ما لا يخفى
ولله ما في السموات وما في الأرض أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتصرفا والتعبير ب ما وللإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم وإلى الله ترجع الأمور 901 أي أمورهم فيجازي كلا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو إستقلالا والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين وقيل : معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وقرأ يحيى بن وثابترجعبفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن كنتم خير أمة كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل وقيل : هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى : ياأيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي وأستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الإنقياد والطواعية وكانناقصة ولادلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على إنقطاع أو دوام وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو كان الله بكل شيء عليما وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم إنفكاكه نحو وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الإنقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن وقيل : المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك وقال الحسن : معناه أنتم خير أمة وأعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة أخرجت أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به للناس متعلق بما عنده وقيل : بخير أمة وجملة أخرجت صفة لامة وقيل : لخير والأول أولى والخطاب قيل : لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك وقيل : للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن إبن عباس وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم وأخرج إبن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج إبن جرير عن عكرمة أنها نزلت في إبن مسعود وعمار بن ياسر (4/27)
وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة ياأيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها وأشار بذلك إلى قوله سبحانه تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإنه وإن كان إستئنافا مبينا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع
وأخرج إبن المنذر وغيره عن إبن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص وتؤمنون بالله أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خير أمة أخرجت للناس وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخبرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخبرية ويجوز أن يقال قدمهما عليه للإهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما وأما ذكره فكالتتيم ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما أشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلامولو قيل قدماوأخر للإهتمام وليرتبط بقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم لم يبعد أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم والآخرة لدفع العذاب المقيم وقيل : لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما السلام وقيل : المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي بإعتبار زعمهم وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على كنتم خير أمة مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لكان خيرا لهم منهم المؤمنون كعبدالله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة
وأكثرهم الفاسقون 011 أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم وقيل : للإشارة إلى أنهم فيالكفاربمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع لن يضروكم إلا اذى إستثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الإستعمال فكأنه قيل : لن يضروكم ضررا ما إلا ضررا يسيرا وقيل : إنه منقطع لأن الأذى (4/28)
ليس بضرر وفيه نظر والآية كما قال مقاتل : نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وإبن صوريا إلى مؤمنيهم كعبدالله بن سلام وأصحابه وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاءا قوليا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره وكان ذلك الإفتراء على الله تعالى كما قاله الحسن وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء وتولية الأدبار كناية عن الإنهزام معروفة
ثم لا ينصرون 111 عطف على جملة الشرط والجزاء و ثم للترتيب والتراخي الأخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه
وقريءثم لا ينصرواوالجملة حينئذ معطوفة على جزاء الشرط و ثم للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناءا على إعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف وقراءة الرفع أبلغ لخولها عن القيد وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قنيقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح ضربت عليهم الذلة أي ذلة هدر النفس والمال والأهل وقيل : ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية قال الحسن : أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم قيل : ففيه إستعارة مكنية تخييلية وقد يشبه إحاطه الذلة وإشتمالها عليهم بذلك على وجه الإستعارة التبعية وقيل : هو من قولهم : ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها أين ما ثقفوا أي وجدوا وقيل : أخذوا وظفر بهم و أينما شرط و ما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي إلا بحبل من الله وحبل من الناس إستثناء مفرغ من أعم الأحوال والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري وإستئصال الأموال
وقيل : أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام وإتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء وباءوا بغضب من الله أي رجعوا به وهو كناية عن إستحقاقهم له وإستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقيا أن يقتل به فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك وضربت عليهم المسكنة فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى ذلك أي المذكور من المذكورات بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويقتلون الأنبياء بغير حق أصلا ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 211 إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار وقيل : معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل (4/29)
بعصيانهم وأعتدائهم والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر ثم إن جملة منهم المؤمنون وكذا جملة لن يضروكم وما عطف عليها واردتان على سبيل الإستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الإستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعا من الكلام وقال بعض المحققين : إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى : ولو آمن مبين له فقوله سبحانه : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون مبين لذلك بإعتبار أن المفروض إيمان الجميع وإلا فبعضهم مؤمنون رفعا لسوء الظن بالبعض وقوله عز شأنه : لن يضروكم بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرياسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة ولو آمنوا لنجوا من جميع ذلك إنتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالإستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له وإنما يأبى الإعتراض ولا نقول به فتأمل
هذا ومن باب الإشارة لن تنالوا البر الذي هو القرب من الله حتى تنفقوا مما تحبون أي بعضه والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم فينبغي تحري ما يرضيه ويحكي عن بعضهم أنه قال المنفقون على أقسام : فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض ومنهم من ينافي على مراقبة رفع البلاء والمحن ومنهم من ينفق إكتفاءا بعلمه ولله تعالى در من قال : ويهتز للمعروف في طلب العلا لتذكر يوما عند سلمى شمائله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قيل : فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا : إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام مباركا بما كساه من أنوار ذاته وهدى بما كساه من أنوار صفاته للعالمين على حسب إستعدادهم فيه آيات بينات مقام إبراهيم المشتمل على الرضا والتسليم والإنبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو أو جميع ذلك ومن دخله كان آمنا من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين وتطبيق ذلك على ما في الأنفس أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زيدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة إذ الألف رتبة تامة وكونه زيدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن وإتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون (4/30)
أول بيت وضع للناس للذي ببكة الصدر صورة أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع أزدحام القوى إليه ومعنى كونه مباركا إنه ذو بركة آلهية بسبب فيض الخير عليه وكونه هدى أنه يهتدي به إلى الله تعالىوالآياتالتي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق و مقام إبراهيم إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل إتصال نوره من القلب ولاشك أن من دخل ذلك كان آمنا من أعداء سعالي المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس وإختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات وإغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها ولله على الناس حج البيت من إستطاع إليه سبيلا وهم أهل معرفته عز شأنه وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا يحكى عن بعضهم أنه قال قلت للشبلي : إني حججت فقال : كيف فعلت فقلت : أغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي : عقدت به الحج فقلت : نعم قال : فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد قلت : لا قال : فما عقدت ثم قال نزعت ثيابك قلت : نعم قال : تجردت عن كل فعل فعلت قلت : لا قال : ما نزعت فقال : تطهرت قال : نعم قال : أزلت عنك كل علة فقلت : لا قال فما تطهرت قال لبيت قلت : نعم قال : وجدت جواب التلبية مثلا بمثل قلت : لا قال : ما لبيت قال دخلت الحرم قلت : نعم قال : أعتقدت بدخولك ترك كل محرم قلت : لا قال : ما دخلت قال : أشرفت على مكة قلت : نعم قال : أشرف عليك حال من الله تعالى قلت لا قال : ما أشرفت قال : دخلت المسجد الحرام قلت : نعم قال : دخلت الحضرة قلت : لا قال : ما دخلت المسجد الحرام قال : رأيت الكعبة قلت : نعم قال : رأيت ما قصدت له قلت : لا قال ما رأيت الكعبة قال رملت وسعيت قلت : نعم قال : هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت قلت : لا قال : ما فعلت شيئا قال : صافحت الحجر قلت : نعم قال : من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك قلت : لا قال : ما صافحت قال : أصليت ركعتين بعد قلت : نعم قال أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى قلت : لا قال : ما صليت قال : خرجت إلى الصفا قلت : نعم قال أكبرت قلت : نعم فقال : أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان قلت : لا قال ما خرجت ولا كبرت قال : هرولت في سعيك قلت : نعم قال : هربت منه إليه قلت : لا قال : ما هرولت قال : وقفت على المروة قلت : نعم قال : رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها : قلت لا قال : ما وقفت على المروة قال : خرجت إلى مني قلت : نعم قال أعطيت ما تمنيت قلت : لا قال : ما خرجت قال : دخلت مسجد الخيف قلت : نعم قال : تجدد لك خوف قلت : لا قال : ما دخلت قال : مضيت إلى عرفات قلت : نعم قال : عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له وهل تعرف الحق إليك بشيء قلت : لا قال ما مضيت قال : نفرت إلى المشعر الحرام قلت : نعم قال : ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه قلت لا قال : ما نفرت قال : ذبحت قلت : نعم قال : أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق قلت : لا قال : ما ذبحت قال : رميت قلت : نعم قال : رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك قلت : لا قال ما رميت قال : زرت قلت : نعم قال : كوشفت عن الحقائق قلت : لا قال : ما زرت قال : أحللت قلت : نعم قال : عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك قلت لا قال : ما أحللت قال : ودعت قلت نعم قال : خرجت من نفسك وروحك بالكلية قلت : لا قال : ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فأجتهد أن تكون كما وصفت لك إنتهى (4/31)
فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القرية على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه قل يأأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله الدالة على توحيده والله شهيد على ما تعملون إذ هو أقرب من حبل الوريد قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله بالإنكار على المؤمنين من آمن تبغونها عوجا بإيراد الشبه الباطلة وأنتم شهداء عالمون بأنها حق لا إعوجاج فيها وما الله بغافل عما تعملون فيجازيكم به ياأيها الذين آمنوا الإيمان الحقيقي إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه يردوكم بعد إيمانكم الراسخ فيكم كافرين لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم اي من يعتصم به منه فقد أهتدى إليه به قال الواسطي : ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية وحقيقة الإعتصام عند بعضهم إنجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة وقيل : الإعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي ولأهل الحقائق رفع الإعتصام لمشادتهم أنهم في القبضة ياأيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته بصون العهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا وقيل : حق التقوى عدم رؤية التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد وأعتصموا بحبل الله جميعا وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم ألست بربكم ولا تفرقوا بإختلاف الأهواء وأذكروا نعمة الله عليكم بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب إذ كنتم أعداء لإحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية فألف بين قلوبكم بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره فأصبحتم بنعمته عليكم إخوانا في الدين وكنتم على شفا حفرة من النار وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان فأنقذكم منها بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات ولتكن منكم أمة كالعلماء العارفين أرباب الإستقامة في الدين يدعون إلى الخير أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه ويأمرون بالمعروف المقرب إلى الله تعالى وينهون عن المنكر المبعد عنه تعالى وأولئك هم المفلحون الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأتبعوا الأهواء والبدع وأختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات الحجج العقلية والشرعية الموجبة للإتحاد وإتفاق الكلمة وأولئك لهم عذاب عظيم وهو عذاب الحرمان من الحضرة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قالوا : أبيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد وأسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية فأما الذين أسودت وجوههم فيقال لهم أكفرتم أي أحتججتم عن الحق بصفات النفس بعد إيمانكم أي تنوركم بنور الإستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فذوقوا العذاب وهو عذاب الإحتجاب عن الحق بما كنتم تكفرون به وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة الله الخاصة التي هي شهود الجمال هم فيها خالدون باقون بعد الفناء كنتم خير أمة أخرجت من مكان الأزل للناس أي لنفعهم تأمرون بالمعروف الموصل إلى مقام التوحيد وتنهون عن المنكر وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة ولو آمن أهل الكتاب كإيمانكم (4/32)
لكان خيرا لهم مما هم عليه منهم المؤمنون كإيمانكم وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن حرم الحق لن يضروكم إلا أذى وهو الإنكار عليكم بالقول وإن يقاتلوكم ولم يكتفوا بذلك الإيذاء يولوكم الأدبار ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم ثم لا ينصرون لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم والله تعالى الموفق
ليسوا سواء أخرج إبن إسحاق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن إبن عباس قال : لما أسلم عبدالله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بممد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى ي ذلك ليسوا سواء إلى قوله سبحانه وتعالى : وأولئك من الصالحين والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين خاصة وهو أسمليسو سواء خبره وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدرا والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الإتصاف بالقبائح لا نفي المساواة في الإتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الإتصاف ومثله كثير في الكلام
من أهل الكتاب أمة قآئمة إستئناف مبين لكفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام وقال أبو عبيدة : إنه مع الأول كلام واحد وجعل أمة أسمليسوالخبر سواء فهو على حد أكلوني البراغيث وقيل : أمة مرفوع بسواءوضعف كلا القولين ظاهر ووضع أهل الكتاب موضع الضمير زيادة في تشريفهم والإعتناء بهم والقائمةمن قام اللازم بمعنى أستقام أي أمة مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه وحكى عن إبن عباس وغيره وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة اي ذو طريقة مستقيمة وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل
والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول و جعل بعضهم أهل الكتاب عاما لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى يتلون آيات الله صفة لأمة بعد وصفها بقائمة وجوز أن تكون حالا من الضمير في قائمة أو من الأمة لأنها قد وصفت أو من الضمير في الجار الواقع خبرا عنها والمراد يقرؤن القرآن آناء الليل أي ساعاته وواحده أنى بوزن عصا وقيل : أنى كمعا وقيل : أنى بفتح فسكون أو كسر فسكون وحكى الأخفش أنوكجرو فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلقبيتلونأوبقائمةوم أبو البقاء تعلقه بالثاني بناءا على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة وهم يسجدون 311 حال من ضمير يتلون على ما هو الظاهر والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام وإعتبار حالهم عند الصلاة على الإنفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها بأسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعا لإحتمال المعنى (4/33)
اللغوي الذي لا مدح فيه والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة
وأستدل عليه بماأخرجه الإمام أحمد والنسائي وإبن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : أخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال : وأنزلت هذه الآية ليسوا سواءا حتى بلغ والله عليم بالمتقين وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة يتلون وقيل : مستنافة ويكون المدح لهم بدلك لتميزهم وإختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشأن التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم فقد روى الطبراني بسند حسن أيضا عن المنكدر أنه قال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال : أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما أنتظرتموها ثم قال : أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الإنفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالا من الضمير كما سبق وليس فليس
والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أعني بكثرة السجود وكذا في كثير من المواضع وقيل : المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة وقيل : المراد بالسجود سجود التلاوة وقيل : الخضوع كما في قوله تعالى : ولله يسجد من في السموات والأرض وأختيرت الجملة الإسمية للدلالة على الإستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم وتأكيدا له وإختيار صيغة المضارع للدلالة على التجدد يؤمنون بالله واليوم الآخر صفة أخرى لأمة وجوز أن تكون حالا على طرز ما قبلها وإن شئتكما قال أبو البقاء أستأنفتها والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهارا لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدعون أيضا الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم : عزيز إبن الله وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى ويسارعون في الخيرات أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة وإختيار صيغة المفاعلة للمبالغة قيل : ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه (4/34)
وهي مذمومة وضدها الإناة وهي محمودة وإيثار في علىإلىوكثيرا ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام : بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون منتهون إليها وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى وأولئك أي الموصوفون بتلك الصفات الجلية الشأن بسبب إتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير من الصالحين أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود : ما آمن به آلا شرارنا
وقد ذهب الجل إلى أن في الآية إستغناءا بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الإكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر والمراد ومنهم من ليسوا كذلك وما يفعلوا من خير أي طاعة متعدية أو سارية فلن يكفروه أي لن يحرموا ثوابه البتة وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدى إلى مفعولين والخطاب قيل : لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى : كنتم خير أمة وجميع ما بينهما إستطراد وقيل : لأولئك الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه إلتفات ونكتته الخاصة هنا الإشارة إلى أنهم لإتصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين والباقون بالتاى فيهما غير أبي عمرو فإنه رى عه أنه كن يخبر بهما وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة و يحتمل أن يعود للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أو لا في التعبيربأخرجتدون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل ذلك
والله عليم بالمتقين 511 اي بأحوالهم فيجازيهم وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله
والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولا أوليا وإما خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى وعلى هذا يكون قوله تعالى : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا مؤكدا لذلك ولهذا فصل
والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فأخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم وإما بنوقريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد
وروى هذا عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : مشركو قريش وقيل : وقيل : ولعل من أدعى العموموهو الظاهرقال : بدخول المذكورين دخولا أوليا والمراد من الإغناء الدفع ويقال : أغني عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئا يسيرا منه وقال بعضهم : المراد بالإغناء الأجزاء ويقال : ما يغنى عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك و من للبدل أو الإبتداء و شيئا مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئا من الأجزاء وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقيا له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ وأولئك أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم أصحاب النار أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفا
هم فيها خالدون 611 تأكيد لما يراد من الجملة الأولى وإختيار الجملة الأسمية للإيذان بالدوام والإستمرار (4/35)
وتقديم الظرف محافظة على رؤس الآي مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كالدليل لعدم إغناء الأموال ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفاراوهو الظاهركان حكمهم حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا وبغضهم لهم في الآخرة يوم تبلى السرائر ويكشف ن ساق وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى و ما موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانتوهو المروى عن مجاهدوقيل : مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لما أنفقه قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه عليه الصلاة و السلام وقيل : لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة كمثل ريح فيها صر أي برد شديد قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة وقال الزجاجالصرصوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح وقيل : أصل الصر كالصرصر الريح الباردة وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله : ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كاف أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر وإستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد وقيل : إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليلوفيه بعدلأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد وقيل : هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت أو من الصرة الضجة والصيحة وقد أستعمل هنا على أصله وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الإستعمال والريح واحدة الرياح وفي الصحاح والأرياح وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو وإنما جاءت بالياء لإنكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك : أروح الماء وتروحت بالمروحة ويقال أيضا : ريح وريحة كما قالوا : دار ودارة وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روى اللهمأجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا أصابت حرث أي زرع
قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فباؤا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل : إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها فأهلكته عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم وقيل : تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك أسم مفعول هو الحرث والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح والمنفق (4/36)
بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباءا منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما وقريءتنفقونبالتاء وما ظلمهم الله الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم أستحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : ولكن أنفسهم يظلمون 711 تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا وقريء ولكن بالتشديد على أن أنفسهم أسمها وجملة يظلمون خبرها والعائد محذوف والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف وأسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله : وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي لا تدخل عليها النواسخ وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والإستمرار
ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أخرج إبن إسحاق وغيره عن إبن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم وظاهر ما يأتي يؤيده والبطانة خاصة الرجل الذين يستنبطون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و من متعلقة ب لا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة وقيل : زائدة ودونإما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى لا تتخذوا الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته منزلتكم في الشرف والديانة والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن إتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج
وأخرج البيهقي وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين فذكر ذلك للحسن فقال : نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم ثم قال الحسن : وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لأ يألونكم خبالا أصل الألو التقصير يقال : ألا كغزايألو ألوا إذا قصر وفتر وضعف ومنه قول أمريء القيس : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آلى أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد وفي القاموس ما ألوت الشيء أي ما تركته والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان فيورثه إضطرابا كالمرض والجنون ويستعمل بمعنى الشر والفساد مطلقا ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر بل يجهدون في مضرتكم وعليه يكون الضمير المنصوب والأسم الظاهر منصوبين بنزع الخافض (4/37)
وإليه ذهب إبن عطيةوجوز أن يكون الثاني منصوبا على الحال أي مخبلين أو على التميز
وأعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح جعله فاعلا إلا على إعتبار الإسناد المجازي والنصب بنزع الخافض ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر نوعا من العامل نحو أتاني سرعة وبطئا كما نص عليه الرضى في بحث المفعول به والحالوأعتمده السيالكوتيونقل أبو حيان أن التمييز هنا محول عن المفعول نحو فجرنا الأرض عيونا وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه ! وملاحظة تعديه إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه
وأجيب بإلتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوبا على النزع مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم شيئا منه في حقكم وهو وجه وجيه والتضمين قياسي على الصحيح والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه والمعنى والإعراب على الثالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم ودوا ما عنتم أي أحبوا عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم
وقال السدي : تمنوا ضلالتكم عن دينكم وروى مثله عن إبن جرير
قد بدت البغضآء من أفواههم
أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم وقال قتادة : ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعده والأفواه جمع فم وأصله فوه فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل على ذلك أيضا تضغيره على فويه والنسبة إليه فوهي وقرأ عبدالله قد بدا البغضاء وما تخفي صدورهم من البغضاء اكبر أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا قليلا قد بينا لكم الأيات أي أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو إن كنتم تعقلون 811 أي إن كنتم من أهل العقل أو إن كنتم تعلمون الفضل بين لولي والعدو أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها وجواب إن محذوف لدلالة الكلام عليه ثم إن هذه الجمل ما عدا وما تخفى صدورهم أكبر لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جوابا عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذانا بإستقلال كل منها في ذلك وقيل : إنها في موضع النعتلبطانةإلا قد بينا لظهور أنها لا تصلح لذلك والأول أحسن لما في الإستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه وقيل : إن ودوا ما عنتم بيان وتأكيد لقوله : لا يألونكم خبالا فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالا لأنهم يؤدون شدة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من إستثناء قد بينا إذ لا يصح تعليلا لبدو البغضاء ويصلح تعليلا للنهي فأفهم ها أنتم أولآء تحبونهم ولا يحبونكم تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في إتخاذهم بطانة وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين فقال الأزهري وإبن كيسان وجماعة : إن ها للتنبيه و أنتم مبتدأ (4/38)
وجملة تحبونهم خبر و أولاء منادى أو منصوب على الإختصاص وضعف بأنه خلاف الظاهر والإختصاص لا يكون بأسم الإشارة وقيل : أنتم مبتدأ و أولاء خبره والجملة بعد مستأنفة ويؤيد ذلك ما قاله الرضى من أنه ليس المراد منها أنا ذا أفعل وها أنت ذا تفعل تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا فائدة فيه بل إستغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب فالجملة بعد أسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة وقال البصريون : هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا والحال ههنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم والعامل فيها حرف التنبيه أو أسم الإشارة
وأعترضه الرضى بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا : ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الإخبار بالحال لأنه المقصود بالإستبعاد ومدلول الضمير وأسم الإشارة متحد وإعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه وبه يندفع بحث الرضى على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك وقال الزجاج : يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ و تحبونهم في موضع الصلة وليس بشيء وقيل : أنتم مبتدأ أول و أولاء مبتدأ ثان وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول على حد أنت زيد تحبه وقيل : إن أولاء هو الخبر والجملة ما بعده خبر ثان وقيل : أولاء في محل نصب بفعل يفسره ما بعده والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فأستعملت هنا للتوبيخ كأنه أزدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الإتخاذ
والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة ومثلهاوإن كان غريبا يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه بإعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين وقيل المراد تحبونهم لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك ولا يخفى ما فيه
وتؤمنون بالكتاب كله أي الجنس كله وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف والجملة حال من ضمير المفعول في لا يحبونكم وأعترضه ف يالبحر بأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا قمت وأصك عينيه على حذف المبتدأ اي قمت وأنا أصك عينيه ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب والحملعلى أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف وبهذا يندفع ما في البحر من الإعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وإذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا وإذا خلوا أي خلا بعضهم ببعض عضوا عليكم أي لأجلكم الأنامل اي أطراف الأصابع من الغيظ أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من إئتلاف المؤمنين وإجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي وأضطروا إلى مداراتهم وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضا بالفعل (4/39)
قل يامحمد بلسانك وقيل : المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الإسلام من غير أن يكون هناك قول وقيل : هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع المحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى : موتوا يغيظكم مجرد الخطاب بما يكرهونه والصحيحخ الذي أتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه إبتلاؤه لإخفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم : قاتلك الله تعالى وقولهم : دم بعز وبت قرير عين وغيره مما لا يحصى والمراد كما قيل : الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء إزدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز أسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو إزدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به
وتعقب بأن المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافا ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية عل ىالكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق إعتباري وأيضا ماذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث أنهم قد أستحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع
إن الله عليم بذات الصدور 911 اي بما خفي فيها وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازي به وأن يكون خارجا عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناءا على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافا لمن وهم في ذلك إن تمسسكم أيها المؤمنون حسنة نعمة من ربكم كالألفة وإجتماع الكلمة والظفر بالأعداء تسؤهم أي تحزنهم وتغظهم ةإن تصبكم سيئة أي محنة كإصابة العدو منكم وإختلاف الكلمة فيما بينكم يفرحوا أي يبتهجوا بها وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة والمس قيل : مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة وقوله سبحانه : إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا والتعبير هنا بالمس مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير وقال بعض المحققين : الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل : إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المس أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقل خير نالهم فغيره أولى منه وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثى له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى سوالاتهم أصلا فكيف تتخذونهم بطانة ! والقول بأنه لا يبعد أن يقال : إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى وإن تصبروا على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله وتتقوا ما حرم عليكم لا يضركم كيدهم (4/40)
أي مكرهم وأصل الكيد المشقة وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب لا يضركم بكسر الضاد وجزم الراء على أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره وضم الراء في القراءة المشهورة لإتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف المضموم العين كمد والجزم مقدر وجوزوا في مثله الفتح للخفة والكسر لأجل تحريك الساكن وقيل : إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو تكلف مستغنى عنه شيئا نصب على المصدر أي لا يضركم كيدهم شيئا من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر والتقوى لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلي بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو وقيل : لا يضركم كيدهم لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد إن الله بما يعملون من الكيد
وقرأ الحسن وأبو حاتم تعملون بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى محيط علما أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه وإذ غدوت أي وأذكر إذ خرجت عدوة من عند أهلك والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلا مستأنف سيق للإستشهاد بما فيه من إستتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها تبويء المؤمنين أي توطنهم قاله إبن جبير وقيل : تنزلهم وقيل : تسوى وتهيء لهم ويؤيده قراءةللمؤمنينإذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة مقاعد للقتال أي مواطن ومواقف ومقامات له وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه مقام وقعود وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم وجملة تبويء حال من فاعل غدوت ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لإبتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة و مقاعد مفعول ثان لتبويء والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد ولا يجوزكما قال أبو البقاءأن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل
روى إبن إسحاق وجماعة عن إبن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبدالرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان إبن حرب بعيره مشى عبدالله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يامعشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا امال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فأجتمعت قريش لحرب رسول الله وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بلظعن إلتماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني رأيت (4/41)
بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبدالله بن أبي سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر : أخرج بنا يارسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبدالله بن أبي إبن سلول : يارسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا اصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يارسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا : أستكرهنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فأقعد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل فخرج بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا وأستعمل إبن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد إنخذل عنه عبدالله بثلث الناس وقال : أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب وأتبعهم عبدالله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول : ياقوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال : لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما أستعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف قال : أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومضى رسول الله حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فأستله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف : شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال : تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبدالله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلا وقال : أنضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان ما كان وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور والله سميع لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولا أوليا عليم 121 بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ (4/42)
والجملة إعتراض للإيذان بأنه قد قدر من الأقوال والأفعال مالا ينبغي صدوره منهم ومنذلك قول أصحاب عبدالله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلا فرجلا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبدالله سوى إثني عشر رجلا مع إيصاء رسول الله بثبوتهم مكانهم إذ همت قيل : بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير
وجوز أن يكون ظرفالتبويءأولغدوتأول عليمعلى سبيل التنازع أولهما معا في رأي وليس المراد تقييد كونه سميعا عليما بذلك الوقت طائفتان منكم أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاله إبن عباس وجابر بن عبدالله والحسن وخلق كثير وقال الجبائي : همت طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار أن تفشلا اي تضعفا وتجبنا حين رأوا إنخذال عبدالله بن أبي بن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمنسبك من أن والفعل متعلق بهما والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه الفعل الإختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله : أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي ويؤيد ذلك قوله تعالى : والله وليهما اي ناصرهما والجملة إعتراض
وجوز أن تكون حالا من فاعل همت أو من ضميره في تفشلا مفيدة لإستبعاد فشفلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى وقرأ عبدالله والله وليهم بضمير الجمع على حد وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا وعلى الله فليتوكل المؤمنون 221 أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول وإظهار الأسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في المؤمنون للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها ولقد نصركم الله ببدر بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة لإيجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه وبدركما قال الشعبي بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به وقال الواقدي أسم للموضع وقيل : للوادي وكانتكما قال عكرمةمتجرا في الجاهلية
وقال قتادة : إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة إثنتين من الهجرة والباء بمعنىفيأي نصركم الله في بدر وأنتم أذلة حال من مفعول نصركم و أذلة جمع قلة لذليل وأختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل (4/43)
دخول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به وقيل لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد وأنتم أذلة في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك فأتقوا الله بإجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر إكتفاءا بما سبق وما لحق مع الإشعارعلى ما قيلبشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مباديها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الإخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى : لعلكم تشكرون 321 لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه ويحتمل أن يكون كناية أو مجازا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل : فأتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه إذ تقول للمؤمنين ظرف لنصركم والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهارا لكمال العناية وقيل : بدل ثان من إذ غدوت وعلى الأول يكون هذا القول ببدر وعلى ذلك الحسن وغيره
وأخرج إبن أبي شيبة وإبن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ألن يكفيكم إلخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين وعلى الثاني يكون القول بأحد وكان مع إشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه
ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلف من الملائكة منزلين الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناءا على أنه الزيادة على نفي الحاجة والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال ويقال مد في السير إذا أستمر عليه وأمتد بهم السير إذا طال وأستمر وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه : مده مدا وقيل : يقال : مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك وأتى بلن لتأكيد النفي بناءا على ما ذهب إليه البعض وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار و أن يمدكم في تأويل المصدر فاعلبيكفيكم و من الملائكة بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه و منزلين صفة لثلاثة آلاف وقيل : حال من الملائكة وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من اشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في الفتوحات وقريء منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج وقريء مبنيا للفاعل من الصيغتين على معنى منزلين الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاءا أيضا على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد بلى إيجاب لما بعد لن أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى : إن تصبروا على مضض الجهاد وما أمرتم به وتتقوا ربكم بالإجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له ويأتوكم اي المشركين أو أصحاب كرز كما قال الشعبي (4/44)
من فورهم هذا أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا أشتد غليانها ومنه أن شدة الحر من فور جهنم ويطلق عل ىالغضب لأنه يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء ثم إنه أستعير للسرعة ثم أطلق على الحال التي لابطء فيها ولا تراخي والمعنى ويأتوكم في الحال ووصف بهذا لتأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق الإمداد لا محالة أسرعوا أو أبطأوا إيذانا بتحقق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله أو البيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المدد عادة فمتى علق به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو غير مناف له كذا قيل وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على الشرط في قوله تعالى يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر كما هو المعتمد فقد وقع الإختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة الآلاف أو لا فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها بناءا على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر والتقوى وإيتاء أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه أولا فلم يوجد المجموع لإنعدامه بإنعدام بعض أجزائه فلم يوجد الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي نعم ذهب جمع إلى خلافه ولعله مبني صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير متعين بل لم يوجد صريحا في كلام السلف والذي ذهب إليه عكرمة ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانيء أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون من للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم والإشارة إما لتعظيم ذلك الغضب من حيث أنه شديد ومتمكن في القلوب وإما لتحقيره من حيث أنه ليس على الوجه اللأئق والطريق المحمود فإنه إنما كان على مخالفة المسلمين لهم في الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما أوقعوا فيهم وحطموا رؤس رؤسائهم يوم بدر وإلى الثاني ذهب عكرمةوهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد
وذهب إبن عباس فيما أخرجه عنه إبن جرير إلى تفسيره بالسفر أي وأتوكم من سفرهم هذا قيل : وهو مبني أيضا على ما بني عليه سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد إنصرافهم حيث لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم ثم قال : إن صبرتم على الجهاد وأتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا أمدكم الله بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مر برسول الله أنه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد ألتأم إليهم من كان تأخر عنهم وأنضم إليهم غيرهم فدسوا نعيما الأشجعي حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة ثم إن تفسير الفور بالسفر مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور بمعنى الحال التي لابطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى وذهب الحسن والربيع والسىي وقتادة وغيرهم أن من فورهم بمعنى وجههم وليس بنص فيما ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها المسافر ويحتمل أن يكون من وجه الدهر (4/45)
بمعنى أوله اللهم إلا أن يقال : إنه وإن لم يكن نصا لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور كذلك في حيز المنع وإحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يرجع إلى ما قالوا فتدبر
وأعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجا فكان أولا بألف ثم صاروا ألفين ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف لا غير فمعنى يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف وإليه ذهب الحسن وقال غيره : كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة آلاف أخر مسومين 521 من التسويم وهو إظهار علامة الشيء و المراد معلمين أنفسهم أو خيلهم وقد أختلفت الروايات في ذلك فعن عبدالله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر وأخرج إبن إسحاق والطبراني عن إبن عباس أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمر وفي رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر
وأخرج إبن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق وأخرج إبن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر وأخرج إبن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها فيها الصوف والعهن وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين أنفسهم وخيولهم أيضا وهذا على قراءة إبن كثير : وأبي عمرو وعاصم مسومين بكسر الواو وأما على قراءة الباقين مسومين بفتح الواو على أنه أسم مفعول فقيل : المراد به معلمين من جهة الله تعالى وقيل : مرسلين مطلقين ومنه قولهم : ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى وإليه ذهب السدي والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم وأما أنها كانت لخيلهم فغير ظاهر وما جعله الله أي الإمداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل : فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد إلا بشرى لكم وقيل : الضمير للوعد بالإمداد وقيل : للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره وقيل : للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين والكل ليس بشيء كما لا يخفى والبشرى إما مفعول له وجعلمتعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لإثنين وعلى الأول الإستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا البشارة لكم بأنكم تنصرون وعلى الثاني مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشرى لكم
والجملة إبتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى فإن حقيقة النصر مختص به عز أسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بأنهم هم المحتاجون لما ذكر وأما رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فغني عنه بما من به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني ولتطمئن قلوبكم به أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عدكم وهذا إما معطوف على بشرى بإعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب (4/46)
الأول لإجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها وقيل : للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى : لتركبوها وزينة وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء والثاني متعين على الإحتمال الثاني في الأول
وما النصر أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولا أوليا إلا من عند الله المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وما النصر المعهود إلا من عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل إستقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من إنضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى والآية على هذا لا تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لابها وقد مر تحقيقه فتذكر وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لإحتمالها الأمرين وبكل قال بعض
والمختار ما روى عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول فعن إبن إسحاق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فنى النبل أتاه به وقال له : أرم أبا إسحاق فلما أنجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار وأيضا أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين وأيضا إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة ولم يقل بذلك أحد وهو أيضا خلاف قوله تعالى : ويقللكم في أعينهم ولو كانوا في غير صورة إبن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل البتة وعلى الثاني يلزم حز الرؤس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث أنه لم يشتهر دل على أنه لم يكن وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل إنتهى
ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه وقد روى عبد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين : إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب وكذا هو قادر (4/47)
على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج بواسطة الدعوة وبطريق الإبتلاء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة و السلام كان بعد إنقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجرى الأمر فيها كما أجرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافي التكليف ونوط الثواب والعقاب ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية
وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير إنقلاب العين وتبدل الماهيةكما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلى الله تعالى لأهل المواقف بصورة فيقول لهم : أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ومن سلم هذاولا يسلمه إلا ذو قلب سليملم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليها حسبما تقتضيه الحكمة الآلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل دي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى البعض وزمام ذلك الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الإستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى العزيز أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به وقيل : القادر على إنتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذانا بعلة إختصاص النصر به سبحانه الحكيم 621 اي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة وفي الإتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم ليقطع طرفا من الذين كفروا متعلق بقوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وما بينهما تحقيق لحقيته وبيان لكيفية وقوعه وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل إذ تقول ظرفا لنصركم لا بد لا من إذ غدوت لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد
والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والإطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله سبحانه : وما النصر إلا من عند الله على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والإطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده وقيل : هو متعلق بنفس الصبر وأعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى وليس المراد (4/48)
إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر المعهود كما في الثاني على ذلك والقول بأنه متعلق بمحذوف والتقدير فعل ذلك التدبير أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن القبول والقطع الإهلاك والمراد منالطرف طائفة منهم قيل : ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله تعالى : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وقيل : للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ففي الأساس هو من أطراف العرب أي أشرافها ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير ومن ذلك قالوا : الأطراف منازل الأشراف فلا يرد أن الوسط أيضا يشعر بالشرف فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون وإعتبار ذلك في أحد حيث قتل فيه ثمانية عشر رجلا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد أستبعدوه كما أشرنا إليه أو يكبتهم أي يخزيهم قاله قتادة والربيع : ومنه قول ذي الرمة : لم أنس من شجن لم أنس موقفنا في حيرة بين مسرور ومكبوت وقال الجبائي والكلبي : أي يردهم منهزمين وقال السدي : أي يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر وقيل : صرع الشيء على وجهه وقيل : إن كبته يكون بمعنى كبده أي أصاب كبده كرآه بمعنى أصاب رئته ومنه قوله المتنبي : لأكبت حاسدا وأرى عدوا كأنهما وداعك والرحيل والآية محمولة على ذلك ويؤيد هذا القول أنه قريء أو يكبدهم وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين فينقلبوا خائبين 721 أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة إنقطاع الأمل وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل واليأس يكون بعده وقبله ونقيض الخيبة الظفر ونقيض اليأس الرجاء ليس لك من الأمر شيء أخرج غير واحد أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كيف يفلح صنعوا هذا بنبيهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يوم أحد اللهم ألعن أبا سفيان اللهم ألعن الحرث بن هشام اللهم ألعن سهيل بن عمرو اللهم ألعن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية ليس لك من الأمر شيء إلخ فتيب عليهم كلهم وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أستأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنه صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية وقال محمد بن إسحاق والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت وعن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية (4/49)
وهذه الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين
وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين وقيل : سبعين رجلا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم فأستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخابني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل أو يتوب عليهم أو يعذبهم عطف إما على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة
وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة و السلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العامكما قال العلامة الثانيلكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة أو نظر وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأنولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب فليس هناك عطف الخاص على العام وفيه أن الحمل على التكليف تكلف والحمل على الشأن أرفع شأنا
ونقل عن الفراء وإبن الأنباري أن أو بمعنى إلا أن والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح أو يعذبهم فتشتفي بهم وأياما كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث أن كلا منهما مبني على إختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه وقيل : إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه وقيل : إن قوله تعالى : أو يتوب إلخ عطف على ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم إنقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم أو عطف على يكبتهم و ليس لك من الأمر شيء إعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الإنتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الإعتراف بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة والمعنى إن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم
والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروى المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلانمطلق التعذيب الأخروى متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر وإستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق وكذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه : فإنهم ظالمون فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب (4/50)
وأكثر ما يعلل به التعذيب الأخروي نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وإبن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث أن قبول توبتهم فرع تحققها الناشيء من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه وأستشكلت هذه الآية بناءا على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى إختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناءا على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه إجتهاده المأذون به
وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الأذن وأياما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فأفهم
ولله ما في السموات وما في الأرض كلام مستأنف سيق لبيان إختصاص مكلية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان إختصاص طرف من ذلك من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة الخبر للقصر وما عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا وإقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة من في الموضعين لإختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه
وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدعى أن التقييد مناف للسوق إذ هو لإثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلحوهو مذهب الجماعةوذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراءا للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة وقالوا : إن المراد يغفر لمن يشاء إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : أؤ يعذبهم بقوله جل شأنه : فإنهم ظالمون وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر لمن يشاء وأيدوا كون المراد ذلك بما روى عن الحسن في الآية يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين وبما روى عن عطاء يغفر لمن يتوب عليه ويعذب من لقيه ظالما والجماعة (4/51)
تمسكوا بإلاق الآيات وأجابوا عن متمسك المخالف أما عن الأول فبان تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد وأما عن الثاني قبأن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن الجزن به وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرا وإغراءا عل ىالذنب مع هذا الزاجر
وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم إشتراك الإلزام بأن يقال : إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراءا للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله : ولله ما في السموات وما في الأرض فإنه معطوف معنى على قوله جل أسمه : ليس لك من الأمر شيء ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفي أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الإستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عزوجل : فإنهم ظالمون لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرا لمن يشاء وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا في الجملة وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلا ومن أدعاه فليأت به إن كان من الصادقين ومما يدل على كذبه أن فيه حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالإتباع
فإن قال الخصم : نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا : يكن رجوع إلى الإستدلال بالمعقول وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها وهو مطلوبنا هناعلى أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عنه قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن أستدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل
والله غفور رحيم 921 تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى : يغفر لمن يشاء مع زيادة وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة
هذا ومن باب الإشارة ليسوا سواء من حيث الإستعداد وظهور الحق فيهم من أهل الكتاب الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الآلهي الأزلي أمة قائمة بالله تعالى له يتلون آيات الله أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار آناء الليل أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة وهم يسجدون أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الإنانية إنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون يؤمنون بالله واليوم الآخر (4/52)
أي بالمبدأ والمعاد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حسبما إقتضاه الشرع ولكون ما تقدم نظرا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر ويسارعون في الخيرات من تكميل أنفسهم وغيرهم وأولئك من الصالحين القائمين بحقوق الحق والخلق وما تفعلوا من خير يقربكم إلى الله تعالى فلن تكفروه فقد جاء من تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة والله عليم بالمتقين أي الذين أتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب إن الذين كفروا وأحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار وأشركوا بالله تعالى مالا وجود له في عير ولا نفير لن تغني لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله أي عذابه شيئا من الدفع لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوها وأولئك أصحاب النار وهي الحجاب والبعد عن الحضرة هم فيها خالدون لإقتضاء صفة الجلال مع إستعدادهم ذلك مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى كمثل ريح فيها صر أي برد شديد أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم بالشرك والكفر فأهلكته عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ولكن أنفسهم يظلمون لسوء إستعدادهم الغير المقبول ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة أي خاصة تطلعونه على أسراركم من دونكم كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور الأغراض ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف وأنى يتجانس النور والظلمة وكيف يتوافق مشرق ومغرب ! أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما أستقلت وسهيل إذا أستقل يماني ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقة وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه : قد بدت البغضاء من أفواههم لإمتناع إخفاء الوصف الذاتي وما تخفي صدورهم أكبر لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار قد بينا لكم الآيات وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما إن كنتم تعقلون وتفهمون من فحوى الكلام ها أنتم أولاء تحبونهم بمقتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرا لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد أشتغل بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وأبتلى بالقدر وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفا عند التأمل ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم وتؤمنون بالكتاب أي جنسه كله لما أنتم عليه من التوحيد المقتضى لذلك وهم لا يؤمنون بذلك للإحتجاب بما هم عليه وإذا لقوكم قالوا آمنا لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الكامن في صدورهم إن تمسسكم حسنة كآثار تجلي الجمال تسؤهم ويحزنوا لها وإن تصبكم سيئة أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال يفرحوا بها وإن تصبروا على ما أبتليتم به وتثبتوا على التوحيد وتتقوا الإستعانة بالسوي لا يضركم كيدهم شيئا لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض (4/53)
عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى والمخذول من إستعان بغيره وقصد سواه كما قيل : من إستعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان إن الله بما يعملون من المكايد محيط فيبطلها ويطفيء نارها لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة لعلكم تشكرون ذلك وبالشكر تزاد النعم إذ تقول للمؤمنين لما رأيت من حالهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين على صيغة أسم الفاعل السكينة عليكم أو منزلين على صيغة أسم المفعول من جانب الملكوت إليكم بلى إن تصبروا على صدمات تجليه سبحانه وتتقوا من سواه ويأتوكم من فورهم هذا أي بلا بطء يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة أو مسومين على صيغة المفعول بعمائم بيض وهي إشارة إلى الأنوار الآلهية الظاهرة عليهم وتخصيصالخمسة آلافبالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الأمداد الكامل حيث أنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداءوأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيكلا يكون إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب مثلا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية
وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك المناسبة وأنقطع المدد ولم تنزل الملائكة وما جعله الله إلا بشرى لكم أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق ولتطمئن به قلوبكم فيتحقق الفيض بقدر التصفية وما النصر إلا من عند الله لا من الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة وبالخلق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه العزيز فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء الحكيم الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة ليقطع أي يهلك طرفا من الذين كفروا وهم أعداء الله تعالى أو يكبتهم يخزيهم ويذلهم فينقلبوا خائبين فيرجعوا غير ظافر بما أملوا ليس لك من حيث أنت من الأمر شيء وكله لك من حيثية أخرى أو يتوب عليهم إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أو يعذبهم لأجلك فتشتفي بهم من حيث أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون بتلك المخالفة ولله ما في السموات من عالم الأرواح وما في الأرض من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت والله غفور رحيم كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا إبتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الإكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه (4/54)
وقدمه على الأمر إعتناءا به وليجيء ذلك الأمر بعد سد ما يخدشه وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد أجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضا ويتمكنوا من الإنتقام من عدوهم فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم وقيل : إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لأستحقوا عليه العقابوهو الرباوخصه بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك وللإعتناء بذلك لم يكتف بمادل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا بشدة الحظر
والمراد من الأكل الأخذ وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع وقد تقدم الكلام في الربا أضعافا مضاعفة حال من الربا والأضعاف جمع ضعف وضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله وقال بعض المحققين : الضعف أسم ما يضعف الشيء كالثني أسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوفعلى ما نقله الراغببمعنى ضعفته وهو أسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل : هو أخو زيد إقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناءا على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور
وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي كما قال الأرهري
ومن هنا ظهر أنه لو قال : له على الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الإخوان ثم قال والحاصل إن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأن المتيقن ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لايكون فيكون إثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع فقد روى غير واحدا أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية وقريء مضعفةبلا ألإف مع تشديد العين
وأتقوا الله أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا لعلكم تفلحون 031 أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن إقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى حضائر القدس وأتقوا النار أي أحترزوا عن متابعة المرابين وتعاطي ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار ألتي أعدت أي هيئت (4/55)
للكافرين 131 وهي الطبقة التي أشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها دون ذلك وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة ويحتمل أن يقال : إن النار مطلقا مخلوقة للكافرين معدة لهم أولا وبالذات وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص وإلى هذا ذهب الجل من العلماء روى عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول : إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في إجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص وأطيعوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر بالتقوى السابق والرسول أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى
لعلكم ترحمون 231 اي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أوراجين رحمته وعقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة قال محمد بن إسحاق : هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز وسارعوا عطف على أطيعوا أو أتقوا
وقرأ نافع وإبن عامر بغير واو على وجه الإستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا وقريء بالأخير إلى مغفرة من ربكم وجنة أي أسبابهما من الأعمال الصالحة وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض وعن إبن عباس إلى الإسلام وعن أبي العالية إلى الهجرة وعن أنس بن مالك إلى التكبير فالأولى وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات وعن يمان إلى الصلوات الخمس وعن الضحاك إلى الجهاد وعن عكرمة إلى التوبة والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع و تقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية وقيل : لأنها كالسبب لدخول الجنة و من متعلقة بمحذوف وقع نعتالمغفرةوالتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح أن المسلمين قالوا : يارسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة داره أجدع أنفك أجدع أذنك أفعل كذا وكذا فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف وكذا في جنة ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه : عرضها السموات والأرض والمراد كعرض السموات والأرض فهو على حد قوله : حسبت بغام راحلتي عناقا وما هي ويب غيرك بالعناق فإنه أراد كصوت عناق والعرض أقصر الإمتدادين وفي ذكره دون ذكر الطول مبالغة وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصوير السامعين والعرب كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة ومنه قولهم : أعرض في المكارم إذا توسع فيها والمراد من السموات والأرض السموات (4/56)
السبع والأرضون السبع فعن إبن عباس من طريق السدي أنه قال : تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها ببهض فذاك عرض الجنة والأكثرون على أنها فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروى عن أنس بن مالك وقيل : إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة وقيل : إنها خارجة عن هذا العالم حيث شاء الله تعالى ومعنى كونها في السماء أنها في جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال السموات والأرض بأضعاف مضاعفة ولا ينافي هذا خبر أنها في السماء الرابعة إن صح ولا ما حكى عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك : في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فأنه لا ينافي خروج البستان عنها وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر أيضا كون عرض الجنة كعرض السموات والأرض من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من السموات السموات السبع كما قيل به
ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها ما يزيد
وحكى ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل : وبذلك يدفع السؤال بأنه إذا كان عرض الجنة كعرض السموات والأرض فأين تكون النار ووجه الدفع أن ذلك يوم القيامة وأما الآن فهي دون ذلك بكثير ويوم يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض المشبه بعرضهما عرضها ولا يخفى أن القول : بالزيادة في السعة يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل والسؤال المذكور أجاب عنه رسول الله بغير ذلك
فقد أخرج إبن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال : قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء وإلى ذلك يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرض ههنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك عرضت المتاع للبيع والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع وربما يستغنى على هذا عن تقدير ذلك المضاف ولا يخفى أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن المراد وصفها بأنها واسعة أعدت للمتقين أي هيئت للمطيعين لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والاطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى
وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع ولعلها الفردوس المصرح بها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا سألتم الله الجنة فأسألوه الفردوس وفيه تأمل والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه الفعل الماضي وجعله من باب ونفخ في الصور خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين في محله ومثل ذلك أعدت السابق في حق النار (4/57)
وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناءا على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم
والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور : أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها الذين ينفقون في محل الجر على أنه نعت للمتقين مادح لهم وقيل : مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول ينفقون محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم : فلان يعطى
في السراء والضراء اي في اليسر والعسر قاله إبن عباس وقيل : في حال السرور والإغتمام وقيل : في الحياة وبعد الموت بأن يوصى وقيل : فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء وقيل : في ضيافة اغنى والأهاء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر والمتبادر ما قاله الحبر والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي أنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل وقد روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة وفي الخبر أتقوا النار ولو بشق تمرة وردوا السائل ولو بظلف محرق والكاظمين الغيظ أصل الكظم شد رأس القربة عند إمتلائها ويقال : فلا كظيم أي ممتليء حزنا و الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل : إن الغضب يتبعه إرادة الإنتقام البتة ولا كذلك الغيظ وقيل : الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير إختيار والغيظ ليس كذلك وقيل : هما متلازمان إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك
والمراد والمتجر عين للغيظ الممسكين عليه عند إمتلاء نفوسهم منه فلا ينفقون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والإنتقام وهذا هو الممدوح فقد أخرج عبدالرزاق وإبن جرير عن أبي هريرة مرفوعا من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا
وأخرج أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على رؤس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء وفي الأول جزاء من جنس العمل وفي الثاني ما هو من توابعه وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا للدلالة على الإستمرار وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث والعافين عن الناس أي المتجاوزين عن عقوبة من أستحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك إخلال بالدين وقيل : عن المملوكين إذا أساؤا والعموم أولى
أخرج إبن جرير عن الحسن أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ليقم من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه (4/58)
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك في الآية إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله تعالى وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت والإستثناء منقطع إن كانت القلة على ظاهرها ومتصل إن كانت بمعنى العدم وكون بعض الخصائص كثيرا في الأمم السابقة لا يقتضي تفضيلهم على هذه الأمة من كل الوجوه ومن ظن ذلك تكلف في توجيه الحديث بأن المراد أن الكاظمين الغيظ في أمتي قليل إلا بعصمة الله تعالى لغلبة الغيظ عليهم وقد كانوا كثيرا في الأمم السالفة لقلة حميتهم ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم قليلا ولما تمرنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى وألتزموا الإجتناب عن المداهنة صار إنفاذ الغيظ عادتهم فلا يكظمون إذا أبتلوا إلا بعصمة الله تعالى فالقليل في الخبر هم الذين يكظمون لقلة الحمية وهم الكثيرون في الأمم السالفة فلا إختصاص لهم بمزية ليتوهم تفضيلهم على هذه الأمة ولو من بعض الوجوه ولا يخفى أن هذا التوجيه مما تأباه الإشارة والعبارة وأحسن منه بل لا نسبة أن الكثرة نظرا إلى مجموع الأمم لا بالنسبة إلى كل أمة أمة ولا يضر قلة وجود الموصوفين بتلك الصفة فينا بالنظر إلى مجموع الخلائق من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن هذه الأمة بأسرها قليلة بالنظر إلى مجموع الأمم فضلا عن خيارها فتدبر وفي ذكر هذين الوصفين كما قال بعض المحققين : إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة و السلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وندب له عليه الصلاة و السلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله تعالى عنه حتى قال : حين رآه قد مثل به لأمثلن بسبعين مكانك ولعل التعبير هنا بصيغة الفاعل أيضا دون الفعل لأن العفو أشبه بالكظم منه بالإنفاق والله يحب المحسنين 431 تذييل لمضمون ما قبلهوألإما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل : إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال عل ىالوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله تعالى عليه وسلمبأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراكويمكن أن يقال : الإحسان هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط
ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الأبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت : إن الله تعالى يقول والكاظمين الغيظ فقال لها : قد كظمت غيظي قالت : والعافين عن الناس قال : قد عفا الله تعالى عنك قالت : والله يحب المحسنين قال : أذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل قوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم من تتمة ما نزل حين قال المسلمون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا إلخ على ما أشرنا إليه فيما تقدم وعن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية
وفي رواية الكلبي أن رجلين أنصاريا وثقفيا آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا (4/59)
لا يفترقان فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف الأنصاري في أهله وحاجته فكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم فأبصر أمرأة صاحبه قد أغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى إنتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم وأستحيا فأدبر راجعا فقال : سبحان الله تعالى خنت خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصل إلى حاجتك قال : وندم على صنيعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول : رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له : قم يافلان فأنطلق إلى رسول الله فأسأله عن ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا والذين إذا فعلوا إلى قوله سبحانه وتعالى ونعم أجر العاملين فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يارسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة فقال عليه الصلاة و السلام : بل للناس عامة
وفي رواية عطاء عن إبن عباس أن تيهان التمار أتته أمرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية
وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول وأيا ما كان فبإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الرماة إنتظاما أوليا وأخرج الترمذي عن عطاف بن خالد أنه قال : بلغني أنها لما نزلت صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا : مالك ياسيدنا قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب قالوا : وما هي فأخبرهم قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضى منهم بذلك والموصول إما مفصول عما قبله على أنه مبتدأ وقيل : إنه معطوف على ما قبله من صفات المتقين وقوله سبحانه : والله يحب المحسنين إعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أو في أو على المتقين فيكون التفاوت أظهر واكثر والفاحشةالكبائر وظلم النفس الصغائر قاله القاضي عبدالجبار الهمداني وقيل : الفاحشة المعصية الفعلية وظلم النفس المعصية القولية وقيل : الفاحشة ما يتعدى ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب إجتراء الناس عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك وقيل : الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال وكثيرا ما ترد بمعنى الزنا وأصل الفحش مجاوزة الحد في السوء ومنه قول طرفة
عقيلة مال الفاحش المتشدد يعني الذي جاوز الحد في البخل فلعل المراد منها هنا المعصية البالغة في القبح والظلم الذنب مطلقا وذكره بعدها من ذكر العام بعد الخاص وأو على الوجوه للتنويع ولا يرد أنه على بعض الوجوه الترديد بين الخاص والعام وقد توقف في قبوله لأنهم قالوا : إن هذا ترديد بين فرقتين من يستغفر للفاحشة ومن يستغفر لأي ذنب صدر عنه وكم بينهما وجواب إذا قوله تعالى شأنه : ذكروا الله أي تذكروا حقه العظيم ووعيده أو ذكروا العرض عليه أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة أو نهيه أو غفرانه وقيل : ذكروا جماله فأستحيوا وجلاله فهابوا وقيل : ذكروا ذاته المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له بالتطهير من الذمائم وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد ذكر أسمه عز أسمه (4/60)
فأستغفروا أي طلبوا المغفرة منه تعالى لذنوبهم كيفما كانت ومفعول فأستغفروا محذوف لفهم لمعنى أي أستغفروه وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالإستهزاء بالرب جل شأنه ومن هنا قالت رابعة العدوية : إستغفارنا هذا يحتاج إلى إستغفار ومن يغفر الذنوب إلا الله إعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد
أما الأول فعلى وجوه : أحدها دلالة أسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الأخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء وثانيها تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره لأنه إعتراض بين المبتدأ وهو الذين والخبر الآتي ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الإهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الإستغفار لم يتخلف الغفران وثالثها الإتيان بالجمع المحلي باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالإستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له ورابعها دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله وذلك أن من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا وخامسها إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الإستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة
وأما الثاني فيه وجوه أيضا : الأول إن في إبداء سعة الرحمة وإستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والإهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها والثالث أن في ضمن معنى الإستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى : لا تقنطوا من رحمة الله بقوله جل شأنه : إن اله يغفر الذنوب جميعا والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر والخامس أن الأسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه
وقد ألتزم بعضهم كونألفي الدنوب للجنس لتفيد الآية إمتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل الذنوب وحينئذ يزداد أمر المبالغة وأما جعل الجملة حالية بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى و من مبتدأ ويغفر خبره والأسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له ولم يصروا على ما فعلوا عطف على فأستغفروا أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم وأصل الإصرار الشد من الصر وقيل : الثبات على الشيء ومنه قول الحطيئة يصف الخيل
عوابس بالشعث الكماة إذا أبتغوا غلالتها بالمحصدات أصرت ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير إستغفار ورجوع بالتوبة والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا (4/61)
المعنى لئلا يتكرر ما في المفهوم مع ما في المنطوق فلعله فيه بمعنى الإقامة وإذا حمل الإستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الإستغفار لأنه دال عليها في الظاهر وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الإعتناء به كما قالوا في ذكر الخاص بعد العام أخرج البيهقي عن إبن عباس موقوفا كل ذنب أصر عليه العبد كبير وليس بكبير ما تاب منه العبد وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن إبن عمر مرفوعا أرحموا ترحموا وأغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين وهم يعلمون 531 قيل : الجملة حال من ضمير أستغفرواوفيه بعد لفظي والمشهور أنها حال من ضمير أصرواومفعول يعلمون محذوف أي يعلمون قبح فعلهم وقد ذكر أن الحال بعد الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء مشتغلا بذلك وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك راكبا ولهذا معنيان : أحدهما وهو الأكثرأن يكون النفي راجعا إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى إنتفاء كل من الأمرين فالمعنى في المثال لا مجيء ور ركوب وقد يكون النفي متوجها للفعل فقط من غير إعتبار لنفي القيد وإثباته
قيل : وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم يعلمون قيدا للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم وكذا لا يصح توجهه إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم والظاهر أن المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير إعتبار لنفي القيد وإثباته والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق البتة
ولك أن تقول : لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن الحال قد يجيء في معرض التعليل
وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر مجاب عنه بأنه ليس بالمقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب فيكون مدحا لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح وأدعى بعض المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفى وأن النفي راجع إلى القيد والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتناسى لم تخطر بباله ولا يخفى ما في قوله : وغير المصر إلخ وقوله : لأن الجزاء إلخ من النظر وكأن من جعله حالا من ضميرأستغفرواأراد الفرار من هذه الدغدغة وأنا أقول : إن الحال قيد للنفي ومتعلق العلم وليس هو القبح بل إنه يغفر لمن أستغفر ويتوب على من تاب وهو المروى عن مجاهد كما أخرجه جماعة عنه وحكى عن الضحاك أيضا والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم وهو إيذان بأنهم لا ييأسون من روح (4/62)
الله سبحانه ولا يرد على هذا دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولعل مدحهم بأنهم يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل وربما يقال : إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة ومن يغفر الذنوب إلا الله لما سيقت له وأما جعلها معطوفة على جملة لم يصرواورب شيء يصح تبعا ولا يصح إستقلالا فليس بالذي تميل النفس إليه أولئك إشارة إلى المذكورين أخيرا بإعتبار إتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة والبعد للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل وإلى هذا ذهب المعظم وقيل : هو إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة وهو مبتدأ وقوله تعالى : جزاؤهم بدل إشتمال منه أو مبتدأ ثان وقوله تعالى : مغفرة خبر أولئك أو خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول وهذه الجملة خبر والذين إذا فعلوا إلخ على الوجه الأول وأدعى مولانا شيخ الإسلام أنه الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبثة عن سابقة الذنب في س لك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين أولئك إلخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف الأولين ما فيه شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لهما المفرة وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع إشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر إنتهى
والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه إبن جرير عن الحسن أنه قرأ الذين ينفقون في السراء والضراء الآية ثم قرأ والذين إذا فعلوا فاحشة الآية فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار إليهما بل الأول منهما وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في مطلع الجزاء من ربهم متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم مع التشريف وجنات تجري من تحتها الأنهار عطف على مغفرة والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر سبحانه أن عرضها السموات والأرض وليس جنات وراءها على ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا تنصيصا على وصفها بإشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار الجارية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم وهذا فوق الأخبار بالإعداد أو مؤكدة له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه وأدعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه وفيه تردد خالدين فيها حال مقدرة من الضمير المجرور في جزاؤهم لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لأبرز الضمير على ما عليه الجمهور ونعم أجر العاملين 63 المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة وعلى ذلك أقتصر مقاتل وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات (4/63)
وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات : أحدها أنها كالتذييل للكلام السابق فيفيد مزيد تأكيد للإستلذاذ بذكر الوعد وثانيها في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل ونعم هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطا للعامل وثالثها في تعميم العاملين وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني
والمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام الذي في شأن التائبين أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي ذكرناه آنفا ومن ذهب إلى الأول قال : وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها وأجتنبوا المعاصي برمتها والمستغفرون لذنوبهم بعدما أذنبوا وأرتكبوا الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه وتعالى : والله يحب المحسنين المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى وفصل آية الآخرين بقوله جلا وعلا : ونعم أجر العاملين المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم وأين هذا من ذاك وبعيد ما بين السمك والسماك ولا يخفى أنه على تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكى عن الحسن يمكن أن يقال : إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي مانع من الأخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى منجز ما وعدهم به ولا بد وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الإنعام على الغير فظاهر وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق أو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك كما صرح به في الصحيح فلأن ذلك لو نافي لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم وأستغفر سيد الإستغفار ولا أظن أحدا يقول بذلك فتدبر
ثم إن في هذه الآياتعلى ما ذهب إليه المعظم دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات متقين وتائبين : ومصرين وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عد بعض ودال على المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أفله تعييرهم بما أذنبوه مفصلاوياله من فضيحةوهذا مالابد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا وهذا على أصل المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوبا وعدم وجوب وأما على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان : قسم مترتب على العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجرا وجزءا وقسم لا يترتب على العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كما أو كيفا كما وعده من الأضعاف وغير ذلك ومنه ما هو محض التفضل حقيقة وأسما كالعفو عن أصحاب الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى قاله بعض المحققين وذكر العلامة الطيبي أن قوله تعالى : وأتقوا النار التي أعدت للكافرين وردت خطابا لآكلي الربا من المؤمنين وردعا لهم عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين وتحريضا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من المتقين والتائبين فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لازجر ولا ترهيب فبين بالآيات (4/64)
معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثا لهم على الإنخراط في سلكهم ولابد من ذكر التائبين وإستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفا لهؤلاء وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى : ومن يغفر الذنوب إلا الله تدخل في المعنى فعلم من هذا أن دلالة ولم يصروا على ما فعلوا مهجورة لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا منتف فلا يصح الإحتجاج بذلك للمعتزلة أصلا قد خلت أي مضت من قبلكم سنن أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته وقال المفضل : إن المراد بها الأمم وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم ومنه قوله : ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن وقال عطاء : المراد بها الشرائع والأديان فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبقكما قيل وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادي الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي وذكر مضى الأديان ليس له كثير إرتباط بذلك وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتا للمؤمنين على دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود أن دين موسى عليه السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضا لليهود وحثا على قبول دين الإسلارم وإنذارا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين نعم إطلاق السنة عل ىالشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة ومنه قولهم : سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من سنن أي سنن كائنة من قبلكم فسيروا في الأرض أي بأقدامكم أو بأفهامكم فأنظروا أي تأملوا
كيف كان عاقبة المكذبين 731 أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما وقيل : المعنى على الشرط أي إن شككتم فسيروا إلخ والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين وقال النقاش : للكفاروفيه بعدو كيف خبر مقدملكانمعلق لفعل النظر والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل إستعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين 831 ألإشارة إما إلى القرآن وهو المروى عن الحسن وقتادةوخدش بأنه بعيد عن السياق وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين وقوله سبحانه : قد خلت الآية إعتراض للحث على الإيمان والتقوى والتوبةكما قيلووجه الإعتراض لدفع الإعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعد من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص وأعترض عليه بأنه تعسف وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه : قد خلت إلخ وهو المروى عن أبي إسحاق وأختاره الطبري والبلخي وكثير من المتأخرينوألفي الناس للعهد والمراد بهم المكذبون والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف (4/65)
وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر السابق وإن كان خاصا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين
والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناءا على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم وقدم بيان كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم وأما الهدى فأمر مترتب عليه والإقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي وقيل : أل في الناس للجنس
والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظهوليس بالبعيدوجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة وإن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى إعتبار ما يعم الإبتداء والزيادة فيه ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لإرتكاب خلاف الظاهر في موضعين وأما الأول ففيه بعد من جهة الإرتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما أرتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما أرتكبوه بل إعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف
ولا تهنوا ولا تحزنوا أخرج الواحدي عن إبن عباس أنه قال : إنهزم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح
وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فأشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية وأيا ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى : سيروا في الأرض بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود التفصيل وبما تقدم من قصة أحدإن لم نقل ذلكوبه قال جمع وجعلوا توسيط حديث الربا إستطرادا أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضا
ومن الناس من جعل إرتباط هذه الآية لفظا بمحذوف أي كونوا مجدين ولا تهنوا ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه والوهنالضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن عبدالمطلب ومصعب عن بن عمير صاحب راية رسول الله صلى تعالى عليه وسلم وعبدالله بن جحش (4/66)
إبن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم وسبعون من الأنصار وقيل : لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الإختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك وأنتم الأعلون جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال أنكم الأعلون الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر
حكى القرطبي أنهم لم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه الصلاة و السلام وكذا في كل عسكر كان بعد ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو المراد والحال أنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار وإشتراكهم على هذا في العلو بناءا على الظاهر وزعمهم وإذا أخذ العلو بمعنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين وقيل : المراد وأنتم الأعلون حالا منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها معترضة بين النهي المذكور وقوله سبحانه : إن كنتم مؤمنين 931 لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوفا أيإن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوافإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه ولا يخفى أن دعوى التعلق مما لا بأس بها لكن الحكمبكون تلك الجملة معترضة معترض بالبعد ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقابالأعلونوالجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مؤمنينفأنتم الأعلونفإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة ويحتمل أن يراد بالإيمان التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة والظفر على أعداء الله تعالى ولا إختصاص لهذا الإحتمال بالإحتمال الأخير من إحتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني أج ري أو من قبيل قولك لولدك : إن كنت إبني فلا تعصني وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا تهنوا ولا تحزنوا لإجل كونكم مؤمنين أو وأنتم الأعلون لأجل ذلك والقول بأن المراد إن بقيتم على الإيمان ليس له كمال ملاءمة للمقام إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله قرأ حمزة والكسائي وإبن عياش عن عاصم بضم القاف والباقون بالفتح وهما لغتانكالدف والدف والضعف والضعفوقال الفراء : القرح بالفتح الجراحة وبالضم ألمها ويقرأ بضم القاف والراء على الإتباع كاليسر واليسر والطنب والطنبوقرأ أبو السمال بفتحهما وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله تعالى مالا يرجون والمضارع على ما ذهب إليه العلامة التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى وأما إستعمال إنفبتقدير كان أعي إن كان مسكم قرح و إن لا تتصرف فيكانلقوة دلالته على المضي أو على ما قيل : إن إن قد تجيء لمجرد التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل وما وقع في موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط بل دليل الجواب والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم (4/67)
مثله وهم على ما هم عليه أو يقال : إن مسكم قرح فتسلوا فقد مس القوم قرح مثله والمثلية بإعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين وألتزم بعضهم تفسير القرح بمجرد الإنهزام دون تكثير القتلى فرارا من هذا الإيراد وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى فقال : الأوجه أن يقال : إن المراد إن يمسسكم قرح فلا تهنوا لأنه مس القوم أي الرجال قرح مثله والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى له وبهدذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره وكذا يندفع ما قيل : إن قرح لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج إلى ما تقدم من الجواب
وقيل : إن كلا المسين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله فإنهم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا احدهم صاحب لوائهم وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل وقيل : إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين
وتلك الأيام أسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحوربه رجلا ومثله يفيد التفخيم والتعظيم و الأيام بمعنى الأوقات لا الأيام العرفية وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولا أوليا
نداولها بين الناس نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال : تداولته الأيدي إذا أنتقل من واحد إلى واحد و الناس عام وفسره إبن سيرين بالأمراء وأسم الإشارة مبتدأ و الأيام خبره و نداولها في موضع الحال والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر ويجوز أن تكون الأيام صفة أو بدلا أو عطف بيان و نداولها هو الخبر و بين الناس ظرف لنداولها وجوز أن يكون حالا من الهاء وصيغة المضارع الدالة على التجدد والإستمرار للأعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم : الأيام دول والحرب سجال وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين وقريءيداولها
وليعلم الله الذين آمنوا تعليل لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل وهي المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق بإعتبار وقوعه بينهما والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل : نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور وأن العبد يسؤوه ما يجري عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف كأنه قيل : نجعلها دولا بينكم لتكون حكما وفوائد جمة وليعلم إلخ وفيه من تأكيد التسلية ما لا يخفى وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعيينا أو إيهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببيانها ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل : (4/68)
نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الإفراد وليعلم إلخ فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق بإعتبار تقييده بتلك الأفراد والثانية بإعتبار تقييده بالفرد المعهودقاله مولانا شيخ الإسلاموجوزوا أن يكون الفعل معطوفا على ما قبله بإعتبار المعنى كأنه قيل : داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وليعلم إلخ وقيل : إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخرا والتقدير وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك ومنهم من زعم زيادة الواو وهم من ضيق المجال والكلام من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق أسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل وأختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه الجراء وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة
وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإشعار بأن أسم الإيمان لا ينطلق على غيره
وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه أستغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه ومثله القول بحذف المضاف أي صبر الذين والإلتفات إل الغيبة بإسناده إلى الأسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل منأفعاله تعالى بإعتبار منشأ معين من صفاته التي أستجمعها هذا الأسم الأعظم مغاير لمنشأ الآخر ويتخذ منكم شهداء جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وإبن إسحاق و من إبتدائية أو تبعيضية متعلقةبيتخذأو بمحذوف وقع حالا من شهداء وقيل : جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة و من على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويؤيد الأول ما أخرجه إبن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما أبطأ عل ىالنساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت أمرأة من الأنصار : من هذان قالوا : فلان وفلان أخوها وزوجها أو زوجها وإبنها فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا : حي قالت : فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت : و يتخذ منكم شهداء وكنى بالإتخاذ عن الإكرام لأن من إتخذ شيئا لنفسه فقد أختاره وأرتضاه فالمعنى ليكرم أناس منكم بالشهادة والله لا يحب الظالمين 041 أي يبغضهم والمراد من الظالمين إما المنافقون كإبن أبي وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر وأيا ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغلبه أحيانا إستدراجا وإبتلاءا للمؤمن وأيضا لو كانت النصرة دائما للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل والمقصود غير ذلك وليمحص الله الذين آمنوا أي ليطهرهم من (4/69)
وأصل التمحيص كما قال الخليل : تخليص الشيء من كل عيب يقال : محصت الذهب إذا أزلت خبثه
والجملة معطوفة على يتخذ وتكرير اللام للإعتناء بهذه العلة ولذلك أظهر الأسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالإعتراض وهذه الأمور الثلاثةكما قال مولانا شيخ الإسلام علل للمداولة المعهودة بإعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الإعتراض لئلا يتوهم إندراج المذنبين في الظالمين أو لنقترن بقوله عزوجل : ويمحق الكافرين 141 لما بينهما من المناسبة حيث أن في كل من التمحيص والمحقإزالة إلا أن في الأول إزالة الآثار وإزاحة الأوضار وفي الثاني إزالة العين وإهلاك النفس وأصلالمحقتنقيص الشيء قليلا قليلا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين ولا يبقى منهم أحدا ينفخ النار وهذا علة للمداولة بإعتبار كونها عليهم والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعا وقيل : يجوز أن يكون هذا علة للمداولة بإعتبار كونها على المؤمنين أيضا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانا أغتروا وأوقعهم الشيطان في أو حال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول و أم منقطعة مقدرة ببل وهمزة الإستفهام الإنكاري وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادي الفوز بالمطلب الأسني والمقام الأعلى والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا انكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول ولهذا قيل : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب وإنتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وإرتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ونفي العلم بإعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأى
ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال : ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا فيه تردد والذي قطع به صاحب الإنتصاف الثاني وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المرادوهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهملما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان إنتفاء ذلك وعدم تحققه أصلا وكيف تحقق صفة بدون موصوف وفي إختيار لما على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءا على ما يفهم من كلام سيبويه إن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل : قد فعل فلان فجوابهلما نفعل وإذا قيل : فعل فجوابه لم يفعل فإذا قيل : لقد فعل فجوابه ما فعل كأنه قال : والله لقد فعل فقال المجيب : والله (4/70)
ما فعل وإذا قيل : هو يفعل يريد ما يستقبل فجوابه لا يفعل وإذا قيل : سيفعل فجوابه لن يفعل فقول أبي حيان : إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعد به نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الأنكار وقريء ويعلم بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا ومن ذلك قوله : إذا قلت قدني قال بالله حلفة لتغني عني ذا أنائك أجمعا على رواية فتح اللام وقيل إن فتح الميم لإتباع اللام ليبقى تفخيم أسم الله عز أسمه و منكم حال من الذين و من فيه للتبعيض فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية ويعلم الصابرين 241 نصب بإضمار إن وقيل : بواو الصرف والكلام على طرزلا تأكل السمك وتشرب اللبنأي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الإستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤس الآي وقيل : الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لإلتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والإتباع ويؤيد ذلك قراءة الحسن ويعلم الصابرين بكسر الميم وقريء ويعلم بالرفع على أن الواو للإستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم وصاحب الحال الموصول كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون ولقد كنتم تمنون الموت خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون : ليتناول نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما أستشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم
فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته وقد وقع هذا التمني من عبدالله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمني الحرب لا الموت من قبل أن تلقوه متعلق ب تمنون مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هو له وقريء بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل إشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك و قريء تلاقوه من المفاعلة التي تكون بين إثنين وما لقيك فقد لقيته ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى الموت وقيل : إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء فقد رأيتموه أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى إنهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه : وأنتم تنظرون 341 لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له وهذا على حد قولك : رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لإخفاء فيها ولا شبهة وقيل : تنظرون بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي وقيل : معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين (4/71)
على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها تم جبنهم وإنهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل روى أنه لما ألتقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول : أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النحيل أن لا أقوم الدهر في الكبول أضرب بسيف الله والرسول فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالا شديدا حتى ألتوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد أنكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قليلا منهم فأنطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة وإشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله من خلفهم في مائتين وخمسين فارسا ففرقوهم وقتلوا نحوا من ثلاثين رجلا ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله إبن قميئة
وقيل : إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إني قتلت محمدا وضصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل : إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فأنكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو : إلي عباد الله فأجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى أندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنانته وكان يقول أرم فداك أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيداله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما أنصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يارسول الله ألا يعطف عليه رجل منا فقال : دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحرث بن الصمة ثم أستقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول : قتلني محمد وكان أبي قبل ذلك يلقي رسول الله فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له : بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فأحتمله أصحابه وقالوا : ليس عليك قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي : أقتلك فلو بزق على بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه (4/72)
ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمينوأبرأ إليك عما قال هؤلاءيعني المنافقينثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه
وروى أن أول من عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن مالك قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران بأعلى صوتي يامعشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأشار إلي أن أسكت فأنحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الفرار فقالوا : يارسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية و محمد علم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم منقول من أسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبدالمطلب السابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ومعناه قبل النقل من يحمد كثيرا وضده المذمم وفي الخبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد
وقد جمع هذا الأسم الكريم من الإسرار مالا يحصى حتى قيل : إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الأسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ وهو مرفوع على الإبتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمللمابالإتفاق لإنتقاض نفيه بإلا وأختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنهم أعتقدوا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب إتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقى أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة قد خلت إلخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل : قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشيء من الذهول عن الوصف وقيل : الجملة في موضع الحال من الضمير في رسول والإنضباب هو الإنصباب
وذهب صاحب المفتاح إلى أنه قصر إفراد إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل إستعظامهم عدم بقائه منزلة إستبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم أعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفيا للبعد عن الهلاك وأعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة قد خلت مستأنفة لبيان أنه ليس بعيدا عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على إعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لإنصباب القصر عليه وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز أن تكون صفة أيضا مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير وقرأ إبن عباسرسلبالتنكير أفائن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم الهمزة للإنكار والفاء إستئنافية أو لمجرد التعقيب والإنقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقري وأريد به الإرتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور والغرض إنكار إرتدادهم عن الدين بخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم (4/73)
متمسكا به وأستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالإنقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك وأجيب بأنه ليس المراد إرتدادا حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والإنكشاف عن رسول الله وإلامهم إياه للهلك وقيل : الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع وقيل : هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به
وحمل بعضهم الإنقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده إحتجاجا بما أخرجه إبن المنذر عن الزهري قال : لما نزلت هذه الآية ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم قالوا : يارسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص قال : أي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى قال : نعم ثم تلا رسول الله أفئن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم والإنقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة
وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سببا لإنقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل أجعلوه سببا للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم السلام ففي إنقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كونه رسولا يخلو كما خلت الرسل وإيراد الموت بكلمة إن مع العلم البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من إستعظامهم إياه قال المولى : وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة إن في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلا ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على إعتبار حال السامع أو أمر آخر يناسب المقام والمراد منالموتالموت على الفراش وبالقتلالموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجر الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الإنقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافا لمن زعمه مستدلا بما ورد من أكلة خيبر وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية والله يعصمك من الناس على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين وبتقدير وصولها إحتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله
فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذ فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل : قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مات فخرج أبو بكر فقال : على رسلك ياعمر أنصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تالى فإن الله تعالى حي لا يموت ثم تلى هذه الآية وما محمد إلا رسول إلى آخرها فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر و قال عمر : فوالله إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى (4/74)
وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات والإعتذار بإختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما أعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يظن به ذلك وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله بما فعل من الإنقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار شيئا من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه وسيجزي الله الشاكرين 441 أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشيء عن تيقن حقيته وذلك شكر له و فيه إيماء إلى كفران المنقلبين وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه إبن جرير وكان يقول : الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين وعن إبن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار وإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمريد الإعتناء بشأن جزائهم وإتصال هذا بما قبله إتصال الوعد بالوعيد
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله إستئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبي وإشارة إلى أنه عليه السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته
والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة و السلام كما روى عن إبن إسحاق ليس بشيء والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف ولموت بالقتل كما سنحققه و كان ناقصة أسمها أن تموت ولنفس متعلق بمحذوف وقع خبرا لها والإستثناء مفرغ من أعم الأسباب
وذهب أبو البقاء إلى أن بإذن الله خبر كان و النفس متعلق بها واللام للتبيين ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس و أن تموت تبيين للمحذوف وحكى عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقديروما كان نفس لتموتثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير والمعنى ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره والأذنمجاز عن ذلك لكونه من لوازمه وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي يقدم عليها إختيارا فقد شاع ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل إختياريا لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الإختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالأذن
والمراد عدم القدرة عليه أو بتنزيل إقدام النفوس على مباديه كالقتال مثلا منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها لما إستحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر ويجوز على هذا أن يبقى الأذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به والمراد (4/75)
بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشرا كان أولا شهيدا كان أو غير شهيد برا أو بحرا حتى قيل : إنه يقبض روح نفسه وإستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة وأستدل بحديث جويبروهو ضعيف جداوفيه من طريق الضحاك إنقطاع وذهب المعتزلةإلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم وقال بعض المبتدعة : إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين الله يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفاكم ملك الموت وتوفته رسلنا لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي وإلى الملك لأنه المباشر له وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق كتابا مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتابا مؤجلا أي موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر وقيل : حكما لازما مبرما وهو ص فة كتابا ولا يضر التوصيف بكون المصدر مؤكدا بناءا على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن التأكيد ولكلما في ذلك من الخفاءأن تجعل المصدر لوصفه مبينا للنوع وهو أولى من جعله مؤكدا وجعل مؤجلا حالا من الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر
وقريء مؤجلا بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين إن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بإمتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته وأن للمقتول أجلين : أحدهما القتل والآخر الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات ألبتة في ذلك الوقت
وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظيا كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا : إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الخحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتا بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتا بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتا بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى : إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في شرح المقاصد ولعله جواب بإختيار الشق الأول وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقا بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذ يصلح محلا للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه وقد يقال : إنه يمكن أن يكون جوابا بإختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقا (4/76)
والفرق بينه وبين كونه جوابا بإختيار الأول لكن لا مطلقا إعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير إختيار الأول وعدم إعتباره فيه على إختيار الثالث وإن كان معلوما في الواقع ايضا فأفهم ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض وعند البعض الآخر هي عندهم إستدلالية
وأحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتا بأجله لم يستحق القاتل ذما ولا عقابا ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلا ولم يحدث بفعله موتا وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بإمتناع إتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعا لأجل قدره الله تعالى ومغيرا لأمر علمه وهو محال و الكعبي بقوله تعالى : أفئن مات أو قتل حيث جعل القتل قسيما للموت بناءا على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان للمقتول أجلان : أحدهما القتل والآخر الموت وأجيب عن متمسك الأولين الأول بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى : إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو إكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا ثم شاع إستعماله في آخر مدة الحياة ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه
والعمر لغة مدة الحياةكعمر زيدكذا ومدة البقاءكعمر الدنياوكثيرا ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته ومنه قولهم : ذكر الفتى عمره الثاني ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكرا حسنا وأثرا جميلا : مامات فعله أراد صلى الله تعالى عليه وسلم إن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سببا للذكر الجميل وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل : ولهذا لم يقل صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلا لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناءا على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سببا لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به
والثاني بأن إستحقاق الذم والعقاب وتوجه القصاص او غرم الدية مثلا على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما أكتسبه وأرتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم أو ظهرت الإمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء والثالث بأن العادة منقوضة أيضا بحصول موت الوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلا على أن (4/77)
التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا إستحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له وعن متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وإنزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به أفئن مات أو قتل خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده ومعنى الآية كما أشرنا إليه أفئن مات حتف أنفه بلا سبب أو مات بسبب القتل فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل : إن في المقتول معنيين قتلا هو من فعل الفاعل وموتا هو من الله تعالى وحده وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا : إن للحيوان أجلا طبيعيا بتحلل رطوبته وإنطفاء حرارته الغريزيتين وآجالا إخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما أنتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا أنتهت في الإنتقاص وتزايد الجفاف إنطفأت الحرارة كإنطفاء السراج عند نفاذ دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب إختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة
وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الإتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها إعتدال المزاج فيهلك بسبه وهذا هو الأجل الإخترامي ويرد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا وأدعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة على رأي الأستاذلفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضا وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضا لكنهم يجعلون إعتدال المزاج وإستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطا حقيقة عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسبابا عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب
ومن يرد أي بعمله كالجهاد ثواب الدنيا كالغنيمة نؤته بنون العظمة على طريق الإلتفات منها أي شيئا من ثوابها إن شئنا فهو على حد قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة رسول الله وقد تقدم تفصيل ذلك
ومن يرد أي بعمله كالجهاد أيضا والذب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
ثواب الآخرة مما أعد الله تعالى لعباده فيها من النعيم نؤته منها أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد الكريم وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والآية (4/78)
وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وسنجزي الشاكرين 541 يحتمل أنه أريد بهم المريدون للآخرة ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا
والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى وبذلك جبر إتحاد العبادتين في شأن الفريقين وأتضح الفرق لذي عينين وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء
هذا ومن باب الإشارة ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والإنقطاع إليه أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضا لإظهار العبودية وأتقوا الله من أكل الربا لعلكم تفلحون أي تفوزون بالحق واتقوا النار التي أعدت للكافرين أي أتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني وهذا ستر عين الجمع قالوا : ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص وقليل ما هم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق وجنة عرضها السموات والأرض وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض وذكر العرض دون الطول لأن الأفعال بإعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه وأما بإعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها إذ الفعل مظهر الوصف والوصف مظهر الذات والذات لا نهاية لها ولا حد وما قدروا الله حق قدره فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حد لطولها فلا يقدر قدرها طولا وعرضا أعدت للمتقين حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على إختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على إختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر
وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانك ما عرفناك حق معرفتك فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين ولهذا قيل : ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضا إلى ما يجزيهم إلى الجنة والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار ومن هنا قيل : ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصج به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الآلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضى الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه والكاظمين الغيظ الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشد عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم (4/79)
وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها والعافين عن الناس إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال أو لأنهم في مقام توحيد الصفات والله يحب المحسنين حسب مراتبهم في الإحسان والذين إذا فعلوا فاحشة أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة أو ظلموا أنفسهم بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ذكروا الله أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه فأستغفروا لذنوبهم أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله ومن يغفر الذنوب وهي رؤية الأفعال
أو النظر إلى سائر الأغيار إلا الله وهو الملك العظيم الذي لا يتعاطفه شيء ولم يصروا على ما فعلوا في غفلتهم ونقص حق نفوسهم وهم يعلمون حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه وجنات أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات تجري من تحتها الأنهار أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية خالدين فيها بلا مكث ولا قطع ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير ونعم أجر العاملين ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود قد خلت من قبلكم سنن بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد فسيروا بأفكاركم في الأرض فأنظروا وتأملوا في آثارها لتعلموا كيف كان عاقبة المكذبين أي آخر أمرهم ونهايته التي أستدعاها التكذيب ويحتمل أن يكون هذا أمرا للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف إنتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها هذا أي كلام الله تعالى بيان للناس يبين لهم حقائق أمور الكونين وهدى وموعظة يتوصل به إلى الحضرة الآلهية للمتقين وهم أهل الله تعالى وخاصته
وأختلف الحال لإختلاف إستعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول ومنهم قوم يسمعونه بأسماع الأسرار وحظ الأولين منه الإمتثال والإعتبار وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل أصطفائه فشاهدوا أنوارا تجلي وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى ولا تهنوا أي لا تضعفوا في الجهاد ولا تحزنوا على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الإخوان وأنتم الأعلون في الرتبة إن كنتم مؤمنين أي موحدين حيث أن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ولم يبالوا مع أنهم دونكم وتلك الأيام أي الوقائع نداولها بين الناس فيوم لطائفة وآخر لأخرى وليعلم الله الذين آمنوا أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم ويتخذ منكم شهداء وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم والله لا يحب الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها وليمحص الله الذين آمنوا أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية ويمحق أي يهلك الكافرين بنار أنانيتهم أم حسبتم أن تدخلوا الجنة أي تلجوا عالم القدس ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة ولقد كنتم تمنون الموت أي موت النفوس عن صفاتها من قبل أن تلقوه بالمجاهدات والرياضات فقد رأيتموه برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى وأنتم تنظرون أي تعلمون أن (4/80)
ذلك الجهاد أحد أسبابه موت النفس عن صفاتها ويحتمل أن يقال : إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكه تمنى أمورا وأدعى أحوالا حتى إذا أمتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه ومن هنا قيل : وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الإمتحان والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أي إنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم أفئن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ورجعتم القهقري والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا لفنائه الذاتي وسيجزي الله بالإيمان الحقيقي الشاكرين بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الإئتمار بأوامر الشرع والإنتهاء عن نواهيه وما كان لنفس أن تموت هذا الموت المعلوم أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية إلا بإذن الله ومشيئته أو جذبه بإشراق نوره ومن يرد بمقتضى إستعداده ثواب الدنيا جزاءا لعمله نؤته منها حسبما تقتضيه الحكمة ومن يرد ثواب الآخرة جزاءا لعمله نؤته منها وسنجزي الشاكرين ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية وأبهم جزاءهم للإشارة إلى أنه أمر وراء العبارةولعله تجلى الحق لهموهذا غاية متمني المحبين ونهاية مطلب السالكين نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه وكأين كلام مبتدأ سيق توبيخا للمنهزمين أيضا حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس
وقد أختلف في هذه الكلمة فقيل : إنها بسيطة وضعت كذلك إبتداءا والنون أصلية وإليه ذهب إبن حيان وغيره وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم وقيل وهو المشهور : إنها مركبة منأيالمنونة وكاف التشبيه وأختلف فيأيهذه فقيل : هي أي التي في قولهم : أي الرجال وقال إبن جني : إنها مصدر أوى يأوى إذا أنضم وأجتمع وأصله أوى فأجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت مثلطي وشيوحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخرفكم وكأينبمعنى واحد قالوا : وتشاركها في خمسة أمور : الإبهام والإفتقار إلى التمييز والبناء ولزوم التصدير وإفاده التكثير وهو الغالب والإستفهام وهو نادر ولم يثبته إلا إبن قتيبة وإبن عصفور وإبن مالك وأستدل عليه بقول أبي بن كعب لإبن مسعود رضي الله تعالى عنهما : كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين وتخالفها في خمسة أمور أيضا أحدها أنها مركبة في المشهور وكم بسيطة فيه خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الإستفهامية ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب والثاني أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم إبن عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم ومن ذلك قوله : أطرد اليأس بالرجاء فكائن ألما حم يسره بعد عسر والثالث أنها لا تقع إستفهامية عند الجمهور والرابع أنها لا تقع مجرورة خلافا لإبن قتيبة وإبن عصفور (4/81)
أجازا بكأين تبيع الثوب والخامس أن خبرها لا يقع مفردا وقالوا : إن بينها وبينكذاموافقة ومخالفة أيضا فتوافقها كذافي أربعة أمور : التركيب والبناء والإبهام والإفتقار إلى التمييز وتخالفها في ثلاثة أمور : الأول أنها ليس لها الصدر تقول : قبضت كذا وكذا درهما الثاني أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن إتفاقا ولا بالإضافة خلافا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال : كذا ثوب وكذا أثواب قياسا على العدد الصريح ولهذا قال فقهاؤهم : إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة وبقوله : كذا درهم ثلاثة وبقوله : كذا كذا درهما أحد عشر وبقوله : كذا درهما عشرون وبقوله : كذا وكذا درهما أحد وعشرون حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح ووافقهم على هذا التفصيلغير مسألتي الإضافة المبرد والأخفش والسيرافي وإبن عصفور ووهم إبن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه الثالث أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها كقوله : عد النفس نعمي بعد بؤسك ذاكرا كذا وكذا لطفا به نسي الجهد وزعم إبن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما وذكر إبن مالك أنه مسموع لكنه قليل قاله إبن هشام ثم إن إثبات تنوين كأين على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ أصلها وفيه لغات وكلها قد قريء به : أحدها كأين بالتشديد على الأصل وهي اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور والثانيةكائنبألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كأعن كأسم الفاعل وبها قرأ إبن كثير ومن ذلك قوله : وكائن لنا فضلا عليكم ومنة قديما ولا تدرون ما من منعم وأختلف في توجيهها فعن المبرد أنها أسم فاعل من كان يكون وهو بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير وقيل : أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصاركيئنبكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف ونظير هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغه نادرة وعملي بتقديم الراء في لعمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف فقلبت الثانية ألفا لتحركها وإنفتاح ما قبلها أو حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفا كما في آية ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفا طائي في النسبة إلى طي أسم قبيلة فإن أصله طييء بياءين مشددتين بينهما همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى والثالثةكأيبياء بعد الهمزة وبها قرأ إبن محيصن ووجهها أنها حذفت الياء الثانية وسكنت الهمزة لإختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو وحركت الياء لسكون ما قبلها والرابعةكيئنبياء ساكنة بعدها همزة مكسورة والخامسةكئنبكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ووزنه كع وورد ذلك في قوله : كئن من صديق خلته صادق الإخا أبان أختباري إنه لمداهن ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حذفت الأخرى للتنوين أو حذفتا دفعة واحدة وأحتمل ذلك لما أمتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها لخروجها عن معناها ومن قال به كالحوفي فقد تعسف وموضعهما رفع بالإبتداء وقوله تعالى : من نبي تمييز له كتمييزكم وقد تقدم آنفا الكلام في ذلك ولعل المراد من النبي (4/82)
هنا الرسول وبه صرح الطبرسي قتل معه ربيون كثير أي جموع كثيرة وهو التفسير المشهور عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأستشهد لهكما رواه إبن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرقبقول حسان : وإذا معشر تجافوا عن القص
د أملنا عليهم ربيا وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير متحققوهي الجماعةللمبالغة وخصها الضحاك بألف وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء وأخرجه إبن جبير عن إبن عباس أيضاوعليه فهو منسوب إلى الربكرباني على خلاف القياس كقراءة الضم والموافق له الفتحوبه قريءوقال إبن زيد : الربيون هم الأتباع والربانيون الولاة وقرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو ويعقوبقتلبالبناء للمفعول وفي خبر المبتدأ أوجه : أحدها أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع إلى كأين أو إلى نبي وحينئذ فمعه ربيونجملة حالية من الضمير أو من نبي لتخصيصه معنى أو معه حال و ربيون فاعله وثانيها أنه جملة معه ربيون فحينئذ تكون جملة الفعلمعمرفوعه صفة لنبي وثالثها أنه محذوف وتقديره مضى ونحوه وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي و معه ربيون حالا على ما تقدم ويجوز أن يكون الفعل مسندا لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي ورابعها أن يكون ربيون مرفوعا بالفعل فلا ضمير والجملة هي الخبر
وقريءقتلبالتشديد قال إبن جني : وحينئذ فلا ضمير في الفعل لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى الواحد وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة
وأعترض بأنه خلاف الظاهر ومن هنا قيل : إن هذه القراءة تؤيد إسنادقتلإلىالربيينوي أيضا ما أخرجه إبن المنذر عن إبن جبير أنه كان يقول : ما سمعنا قط أن نبيا قتل في القتال وقول الحسن وجماعة : لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن منأدعى إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضا على ما يشعر به المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا عل ىالنصرة بإعلاء الكلمة ونحوه لا على الأعداء مطلقا لئلا تتنافى الآيتان وهذا أحد أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر والتنوين في نبي للتعظيم
وزعم الأجهوري أنه للتكثير فما وهنوا عطف على قاتلوا على أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد ورود ما يستدعي خلافه وإن كان إستمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الأسلام : صنع جديد ومن هنا صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها ومن ذلك قولهم : وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر وأصل الوهن الضعف وفسره قتادة وإبن أبي مالك هنا بالعجز والزجاج بالجبن أي فما عجزوا أو فما جبنوا لما أصابهم في سبيل الله في أثناء القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي نعم يفهم المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وماموصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل وإن جملا للبعض الباقين بعد قتل الآخرينوهو الأنسبكما قيل : بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما أستشهد الشهداءفهي عبارة عن ذلك أيضا مع ما أعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن هذا على القراءة المشهورة وأما على القراءتين الأخيرتين أعني قتل وقتلعلى صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا : إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتما والكلام حينئذ من قبيل قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهموإن أسند إلى الضمير (4/83)
كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الإنخذال بسبب الأرجاف بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم
وإليه ذهب قتادة والربيع وإبن أبي إسحاق والسديكما قيلفهما للباقين أيضا إن أعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن أعتبر كونهم معه في القتال وما ضعفوا أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج وقيل : ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير إعتقادهم لعدم النصر وما أستكانوا أي ما أرتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة وقيل : ما خضعوا لعدوهم وإليه يشير كلام إبن عباس وكثيرا ما يستعمل إستكان بهذا المعنى وكذا بمعنى تضرع وأختلف فيه هل هو من السكون فوزنه أفتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للأشباع وهو كثير وليس بخطأ خلافا لأبي البقاء ولا يختص بالشعر خلافا لأبي حيان أو من الكون فوزنه أستفعل وألفه منقلبة عن واو والسين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره وقيل : لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود
وجوز أن يكون من قول العرب : بات فلانبكينة سوءأي بحالة سوء أو منكأنه يكينهإذا أذله وعزى ذلك إلى الأزهري وأبي علي وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء والجمهور على فتح الهاء من وهنوا وقريء بكسرها وهي لغة والفتح أشهر و قريء بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى والله يحب الصابرين 641 على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم
والمراد بالصابرين إما الربيون والإظهار في موضع الإضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا
والجملة على التقديرين تذييل لما قبلها وقوله تعالى : وما كان قولهم كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية وهو معطوف على ما قبله وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية و قولهم بالنصب خبر لكان وأسمها المصدر المتحصل من أن وما بعدها في قوله تعالى : إلا أن قالوا والإستثناء مفرغ من أعم الأشياء أيما كان قولهمفي ذلك المقام وإشتباك أسنة الشدائد والآلام إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا أي صغائرنا وإسرافنا في أمرنا أي تجاوزنا عن الحد والمراد كبائرنا وروى ذلك عن الضحاك وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب والذنب عام فيه وفي اتقصر وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم وسيأتي في هده السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فأفهم
والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برءا من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم وإستقصارا لهمهم وسسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث أنه لا يجب على الله تعالى شيء وفيه ما لا يخفى وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : وثبت أقدامنا أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك وأنصرنا على القوم الكافرين 741 (4/84)
تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الإستجابة
ومن الناس من قال : المراد منثبن أقدامناثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعولون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى وفي الأخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى وقرأ إبن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم على أنه الأسم والخبر إن وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول المنبيء عن أحاسن المحاسن قال مولانا شيخ الإسلام : وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الأخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الأخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر إشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحضور خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات في باب البيان وإنما أختار الجمهور ما أختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا أجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالإسمية ولا ريب في أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به و قولهم مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل إنتهى
وقال أبو البقاء : جعل ما بعد إلا أسما لكان والمصدر الصريح خبرا لها أقوى من العكس لوجهين : أحدهما أن أن قالوا يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف والثاني أن ما بعد إلا مثبت والمعنى كان قولهم ربنا أغفر لنا ذنوبنا إلخ دأبهم في الدعاء وقال العلامة الطيبي : كأن المعنى ما صح ولا أستقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم وهذه الخاصية يفيدها إيقاع أن مع الفعل أسما لكان وتحقيقه ما ذكره صاحب الإنتصاف من أن فائدة دخول كان المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموما بإعتبار الكون وخصوصا بإعتبار خصوصية المقال فهو نفي مرتين ثم قال : فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أن قالوا وأعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسيا منسيا في الوجه الثاني وأعتمد على ما بعد إلا إنتهى
ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن إعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الأسم غير الأعرف ضعيف قال في المغنى : وأعلم أنهم حكموا لأن وإنالمقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضا كذلك فلهذا قرأت السبعة ما كان حجتهم إلا أن قالوا فما كان جواب قومه إلا أن قالوا والرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف إنتهى وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤل بأنه لا ينكر (4/85)
وقد أعترضوا على كل من تعليلي إبن هشام والبعض أما الإعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم أسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الإسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى ولا شرطا في وجوده وأما الإعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في وما كان هذا القرآن أن يفترى أي إفتراءا قاله الشهاب
وأجيب بأن مراد من قال : إن المصدر المؤل لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤل بمصدر منكر أصلا ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة المغنى حيث يفهم منها أن أن وإنتارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير ومن هنا قال صاحب المطلع في معنى ذلك التعليل : إن قول المؤمنين إن أختزل عن الإضافة يبقى منكرا بخلاف أن قالوا بقى في كلام المغنى أمور الأول أن التقييد بأن وإنهل هو إتفاق أم إحترازي الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول إحتجاجا بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخصبأن وإنوللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى وإبن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما الثاني أنه يفهم من ظاهره أن الأداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال : لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن إمتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم
الثالث أنه يفم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث أن إبن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول الرابع أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه إبن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم ويؤيد كلام إبن مالك قوله تعالى فإن حسبك الله وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولا في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره : فتأمل فتأمل فأثابهم الله أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء ثواب الدنيا أي النصر والغنيمة قاله إبن جريج وقال قتادة الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم قيل : وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم وفيه إجلال لهم وتعظيم وقيل : تسميه ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه
وأستشكل تفسير إبن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء ! وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي وحسن ثواب الآخرة أي وثواب الآخرة الحسن وهو عند إبن جريج رضوان الله تعالى ورحمته وعند قتادة هي الجنة وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين والله يحب المحسنين 841 تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة واللام (4/86)
إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة
ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الإقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان فضائله وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الإعتناء بما في حيزه ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من الذين كفروا إما المنافقون لأن الآية نزلتكما روى عن علي كرم الله تعالى وجههحين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة : أرجعوا إلى إخوانكم وأدخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الإستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي وأما ليهود والنصار فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك وإليه ذهب إبن جريج وحكى أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون : لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له فنهوا عن الإلتفات إليها وإما سائر الكفار
وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين وأتى بأن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين
يردوكم على أعقابكم أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط
وصح ذلك بناءا على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه مع أن الكلام معه في قوة إن تطيعوا الذين كفروا في قولهم : أرجعوا إلى إخوانكم وأدخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم ويؤل إلى قولك : إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه إتحاد الشرط والجزاء بناءا على أن الإرتداد على العقب علم في إنتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور وقيل : إن المراد بالإطاعة الهم بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفط وجوز أن تكون جوابيته بإعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى : فتنقلبوا خاسرين 941 أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران بل الله مولاكم إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره وهو مبتدأ وخبر وقريء بنصب الأسم الجليل على أنه مفعول لفعل محذوف والمعنى فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله مولاكم وهو خير الناصرين 051 لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والإستعانة والجملة معطوفة على ما قبلها
وجوز على القراءة الشاذة الإستئناف والحالية سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب كالبيان لما قبل وعبر بنون العظمة على طريق الإلتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة والسين لتأكيد الإلقاء و الرعب بسكون العين الخوف والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم والمراد من الموصول أبو سفيان وأصحابه فقد أخرج إبن جرير عن السدي قال : لما أرتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجيهن نحو مكة أنطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد (4/87)
تركتموهم أرجعوا فأستأصلوا فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فأنهزموا فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له إن لقيت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسوله فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه وقيل : إن الآية نزلت في يوم الأحزاب وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : نصرت بالرعب عل ىالعدو وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي وقريء سيلقي بالياء وقرأ أبو جعفر وإبن عامر والكسائي الرعب بضم العين وهي لغة فيه وقيل : الضم هو الأصل والسكون للتخفيف وقيل : الأصل السكون والضم للإتباع
بماأشركوا بالله أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الأسم بالعظمة المنافية للشركة أتى به والجار الأول متعلق ب سنلقي دون الرعب ولا يمنع من ذلك تعلق في به لإختلاف المعنى والثاني متعلق بما عنده وكان الإشراك سببا لإلقاء الرعب لأنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب ما لم ينزل به أي بإشراكه وقيل : بعبادته و ما نكرة موصوفة أو موصولة أسمية وليست مصدرية سلطانا أي حجة والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة وسميت بذلك لأنه بها يتقوى على الخصم ويتسلط عليه والنون زائدة وقيل : أصلية وذكر عدم إنزال الحجة مع إستحالة تحققها من باب إنتفاء المقيد لإنتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها فهو على حد قوله في وصف مفازة : لا يفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر إذ المراد لا ضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعا وهذا كقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع وما ذكرنا من إستحالة تحقق الحجة على الإشراك يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة أما في الإشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه بإعتقاد أن خالق العالم إثنان مشتركان في وجوب الوجود والإتصاف بكل كمال وأما الإشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلأنه يفضي إلى الأمر بإعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وقد رده عليهم فقول عصام الملة : ونحن نقول الحجة على الإشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام الدين لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى إمكان ذلك كما لا يخفى على من أطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم أي ما يأوون إليه في الآخرة النار لا مأوى لهم غيرها
وبئس مثوى الظالمين 151 أي مثواهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه والمثوى مكان الإقامة على وزن مفعل من ثويت ولامه ياؤا المخصوص بالذم محذوف أي بئس مثواهم النار ولم يعبر بالمأوى للإيذان بالخلود إذ الإقامة مأخوذة في المثوى دونه ولقد صدقكم الله وعده أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله (4/88)
إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ما قد وعدنا الله تعالى النصر فأنزل الله تعالى الآية ووعده مفعول ثان لصدق صريحا فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر فيقال : صدقت زيدا في الحديث ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصبا بنزع الخافض والمراد بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز أسمه : إن تصبروا وتتقوا إلخ وعلى لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال للرماة : لا تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم
وفي رواية أخرى لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة قال : كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا رفع الله تعالى مدد الملائكة وأختار مولانا شيخ الإسلام الثاني وقد تقدم لك ما ينفعك هنا
والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليس بشيء كما لا يخفى وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم أحد فأنكروا ذلك فقال إبن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى إن الله تعالى يقول يوم أحد : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور وأستشهد عليه الحبر بقوله عتبة الليثي : نحسهم بالبيض حتى كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا وبقوله : ومنا الذي لاقى بسيف محمد فحس به الأعداء عرض العساكر وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفاة فأبطلها مثل كبده ولذا عبر به عن القتل ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد وقيل : هو الذي مسته النار وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الإستئصال والظرف متعلق ب صدقكم وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا للوعد بإذنه أي بتيسيره وتوفيقه والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر حتى إذا فشلتم أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم وتنازعتم في الأمر أي أمر الحرب أو أمره لكم في سد ذلك التغر على ما تقدم تفسيره وعصيتم إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة من بعد ماآراكم ما تحبون من إنهزام المشركين وغلبتكم عليهم
قال مجاهد : نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي وروى أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة إبن أبي جهل فأرسل رسول الله إلى الزبير رضي الله تعالى عنه أن أحمل عليه فحمل عليه فهزمه ومن معه فلما رأى الرماة ذلك انكفأوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فضرب بعضهم بعضا وألتبسوا وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك
منكم من يريد الدنيا وهم الرماة الذين طعموا في النهب وفارقوا المركز له ومنكم من يريد الآخرة كعبدالله بن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول الله حتى (4/89)
أستشهد ثم صرفكم عنهم أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها ليبتليكم أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ففي الكلام إستعارة تمثيلية وإلا فالإمتحان محال على الله تعالى وفيحتىهنا قولان : أحدهما أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها تحسونهم أو صدقكم أو محذوف تقديره دام لكم ذلك وثانيهما أنها حرف إبتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها وجواب إذا قيل : تنازعتم والواو زائدة وأختاره الفراء و قيل : صرفكم و ثم زائدة وهو ضعيف جدا والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون وقدره أبو البقاء : بأن أمركم وأبو حيان : إنقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده والزمخشري : منعكم نصره وإبن عطية : إنهزمتم ولكل وجهة وبعض المتأخرين أمتحنكم ورد بجعل الإبتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر وعلى كل تقدير يكون صرفكم معطوفا على ذلك المحذوف وقيل : إن إذا أسم كما في قولهم : إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو و حتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة ب صدقكم بإعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل : لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم وتنازعكم سلخ و ثم صرفكم حينئذ عطف على ذلك وهاتان الجملتان الظرفيتان إعتراض بين المتعاطفين ولقد عفا عنكم بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة قيل : والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل إلى إبن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد قال : نعم قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها قال : نعم قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها قال : نعم فكبر فقال إبن عمر : تعالى لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه وأما تغيبه عن بدر فإن كان تحته بنت رسول الله وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ماذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال : هذه يد عثمان أذهب بها الآن معك وقال البلخي : إنه عفو عن الإستئصال وروى ذلك عن إبن جريج وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بإنصرافه والكل خلاف الظاهر وقد يقال : الداعي لقول البلخي : إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه والتأسيس خير من التأكيد وكلام إبن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله تعالى عفا عن ذنب الفارين وهو صريح الآية الآتية وأما أنه يفهم منه ولو بالأشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفا يدعيه
والله ذو فضل على المؤمنين 251 تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الإبتلاء أيضا رحمة والتنوين للتفخيم والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الإستئصال كما زعمه البعض إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو يبتليكم وتعلقهبعفاكما قال الطبرسي : ليس بشيء ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء بعصيتم (4/90)
أو تنازعتم أو فشلتم وقيل : متعلق بمقدر كاذكر وأستشكل بأنه يصير المعنى أذكر يامحمد إذ تصعدون وفيه خطابان بدون عطف فالصواب أذكروا
وأجيب بأن المرادبأذكرجنس هذا الفعل فيقدرأذكروالا أذكر ويحتمل أنه من قبيل ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وأجاب الشهاب بأن أذكر متضمن لمعنى القول والمعنى قل لهم يامحمد حين يصعدون إلخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد : أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضا والإصعاد الذهاب والأبعاد في الأرض وفرق بعضهم بين الأصعاد والصعود بأن الأصعاد في مستوى الأرض والصعود في إرتفاع وقيل : لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول و قرأ الحسن فيما أخرجه إبن جرير عنه تصعدون بفتح التاء والعين وحمله بعضهم على صعود الجبل وقرأ أبو حيوة تصعدون بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقى أو من صعد في الوادي تصعيدا إذا أنحدر فيه فقد قال الأخفش : أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا أنحدر وأنشد
فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي أصعد طورا في البلاد وأفرع وقال الشماخ : فإن كرهت هجائي فأجتنب سخطي لا يدهمنك إفراعي وتصعيدي وورد عن غير واحد أن القوم لما أمتحنوا ذهبوا فرارا في وادي أحد وقال أبو زيد : يقال صعد في السلم صعودا وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيدا ولم يعرفوا فيه صعد وقرأ أبي إذ تصعدون في الوادي وهي تؤيد قول من قال : إن الأصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الأرتفاع وقريءيصعدونبالياء التحتية وأمر تعلق إذ بأذكر عليه ظاهر ولا تلوون على أحد أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيرا ما يستعمل بمعنى وقف وأنتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوى عنقه وفسر أيضا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا وقرأ الحسن تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا
وقريء تلوون بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى ويلوون بالياء كيصعدون قال أبو البقاء ويقرأ على أحد بضمتين وهو الجبل والتوبيخ عليه غير ظاهر ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة وفيه إشارة إلى إبعادهم في إستشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان
والرسول يدعوكم فيأخراكم أي ناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال : جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين روى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينادي إلي عباد الله إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين أنهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يامعشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله (4/91)
أشار إليه رسول الله عليه الصلاة و السلام أن أنصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون والجملة في موضع الحال فأثابكم عطف على صرفكم والضمير المستتر عائد على الله تعالى والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله
تحية بينهم ضرب وجيع
أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم غما بغم أي كربا بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم غما متصلا بغم والغم الأول ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم والغم الثاني ما حصل لهم من الأرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفوت الغنيمة وإلى هدا ذهب قتادة والربيع
وقيل : الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصخرة وحكى ذلك عن السدي وقيل : المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض وإما للسببية والظرف متعلق بأثابكم والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه والغم الثاني للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله بعصيانكم له ومخالفتكم أمره وقال الحسن بن علي المغربي : الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الأسد والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم وقيل : الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روى عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك وأعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فأغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما أغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم وأعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على صرفكم وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على يدعوكم نعم التعليل عليه بقوله تعالى : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك ليكلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد وكذا على ما ذهب إليه المغربي وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أوضر آت وإنما أحتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه
وقيل : لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول بزيادتها وقيل : التعليل على ظاهره و لا ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن ولا يخفى ما فيه وربما يقال : إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما حكى عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القلو بزيادةلاويوضح ذلك ما أخرجه إبن جرير عن مجاهد قال : أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما أجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه (4/92)
بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى : فأثابكم غما بغم إلخ وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر والله خبير بما تعملون 351 عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها وفي المقصد الأسنيالخبيربمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمى خبرة وسمى صاحبها خبيرا وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية ثم أنزل عليكم عطف على فأثابكم والخطاب للمؤمنين حقا والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان وتذكير عظم المنة أمنة مصدر كالمنعة وهو مفعول أنزل أي ثم أنزل عليكم أمنا نعاسا بدل إشتمال منها وقيل : عطف بيان وجوز أن يكون نعاسا منصوبا على المفعولية و أمنة حال منه والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة
وقيل : إن أمنة مفعول له لنعاسا وأعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه وإن ألتزم تقدير فعل أي نعستم أمنة ورد أنه ليس للفعل موقع حسن وقيل : إنه مفعول له لأنزل
وأعترض بأنه فاسد لإختلاف شرطه وهو إتحاد الفاعل إذ فاعل أنزل هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم ورد بأن الأمنة كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه والمراد هنا الثاني كأنه قيل : أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في إتحاد الفاعل وقريء بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للإعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام فقد أخرج إبن جرير عن السدي أن المشركين أنصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدرا من قابل فقال لهم : نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول الله رجلا فقال : أنظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فأتقوا الله تعالى وأصبروا ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله فناموا وبقى أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فذلك قوله تعالى : ثم أنزل عليكم إلخ وعن إبن عباس في الآية قال : آمنهم الله تعالى يومئذ بنعاس غشاهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام
وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه وفي رواية أخرى عنه أنه قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت انظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفتهأي ترسهمن النعاس وعن الزبير بن العوام مثله قيل : وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الآلهية يغشى طائفة منكم قال إبن عباس : هم المهاجرون (4/93)
وعامه الأنصار وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل والجملة في موضع نصب على أنها صفة لنعاسا وقرأ حمزة والكسائي تغشى الفوقانية على أن الضمير للأمنة والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابا لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنة فأجيب بأنها تغشى طائفة وقيل : إنها في موضع الصفة لأمنة وأعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه وطائفة وهم المنافقون
قد أهتمهم أنفسهم أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهما له ومقصودا والحصر مستفاد من المقام وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره و طائفة مبتدأ وجملة قد أهمتهم إلخ خبره وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله : سرينا ونجم قد اضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوء كل شارق أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله : إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي أنا صانع وجوز أن تكون الجملة نعتا لها والخبر حينئذ محذوف أي ومعكم أو وهناك طائفة وتقدير ومنكم طائفة يقتضي أن يكون المنافقون داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأياما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما إستئنافية وكونها بمعنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء يظنون بالله غير الحق في موضع الحال من ضمير أهمتهم لا من طائفة وإن تخصصت لما في مجيء الحال من المبتدأ من المقال وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة أو خبرا بعد خبر أو هي الخبر و قد أهمتهم صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو الذي يحق أن يظن به تعالى وقال بعضهم : إنه مفعول مطلق نوعي وقوله تعالى ظن الجاهلية بدل مما قبله
وقال إبن الحاجب : غير الحق و ظن مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا يظنون محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل وأبو البقاء يجعل غير الحق مفعولا أولا أي أمرا غير الحق و بالله في موضع المفعول الثاني وإضافة ظن إلى الجاهلية قيل : إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الإختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي ألمختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي إختصاصية حقيقية ايضا
يقولون هل لنا من الأمر من شيء أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار : هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أو يقول (4/94)
لحاضرون منهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صورة الإسترشاد : هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء وأختاره بعض المحققين
والجملة قيل : إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها أو بدل من يظنون وهو بدل الكل بحسب الصدق وبدل الإشتمال بحسب المفهوم وأستشكل بأن قوله : يقولون هل لنا إلخ تفسير ليظنون وترجمة له والإستفهام لا يكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول : أخبرني زيد قال : لا تذهب أو أمرني قال : لا تضرب أو نهاني قال : أضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة
وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع إستفهام ترجمة له وأجيب بأن الإستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الإستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب بإستفهام ولا يخفى أن ذا إنما هو على تقدير كون الإستفهام حقيقيا وأما على تقدير كونه إنكاريا فلا إشكال ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية وبعض من جعله إنكاريا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها بإختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء وقد قال ذلك عبدالله بن أبي حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل : وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبدالله ومن تبعه وقيل : الإستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء ولا يخفى أنه خلاف الظاهر و من الثانية سيف خطيب و شيء في موضع رفع على الإبتداء وفي خبره كما قال أبو البقاء : وجهان أحدهما لنا فمن الأمر حال والثاني من الأمر فلنا تبيين وبه تتم الفائدة قل يامحمد إن الأمر كله لله أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى وأوليائه فينصر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء ويجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء وعلى هذا لا كناية في الكلام وجاء مؤكدا لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك
وأستظهر في البحر من هذا الأمر كون الإستفهام فيما تقدمه باقيا على حقيقته إذ لو كان معناه نفى أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى ليس لنا من الأمر شيءبل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير أيضا أما إذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعارا بأن لهم تدبيرا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الإبتداء والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا له والجملة خبر إن وأما على قراءة النصب فكل توكيد لأسم إن و لله خبرها
وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون كله بدلا من الأمر وفيه بعد يخفون في أنفسهم أي يضمرون (4/95)
فيها أو يسرون فيما بينهم مالا يبدون لك اي مالا يستطيعون إظهاره لك والجملة إما إستئناف أو حال من ضمير يقولون وقوله سبحانه : قل إن الأمر كله لله إعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الإحتمال الثاني في الآية الأولى والذاهب إلى حمل الإستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الإستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضا على ما مر والجملة الجوابية إعتراضية في كل حال سوى إحتمال الإستئنافية على الصحيح وأما جعل هذه الجملة حالا من ضمير قل والرابط لك فلا يخفى حاله يقولون أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا منافقين والجملة إما بدل من يخفون أو إستئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : ما الذي أخفوه فقيل ذلك ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم هل لنا للمؤمنين ليس في حال قولهم لو كان لنا لأصحابهم وبدل الحال حال وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين وقيل : لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنيا على التضييق كما لا يخفى ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هدا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فإن
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وأدعى أن الأمر لله تعالى ولأؤليائه ما قتلنا فكأن هذا في زعمهم رد لما أجيبوا به أولا ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا إختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي إبن أبي وأتباعه ومعنى ما قتلنا ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لإستحالته ويحتمل أن يكون الإسناد مجازيا بإسناد ما للبعض للكل فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك فقد أخرج إبن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال : لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أتوا عبدالله إبن أبي فقالوا له : ما ترى فقال : إنا والله ما نؤامر لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا
وأخرج إبن إسحاق وإبن المنذر وإبن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أشتد الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ماأسمعه إلا كالحلم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله تعالى ثم أنزل إلى ههنا وقد يقال : إن هذا القول منهم كالإستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم إبتداءا وقصه الله تعالى علينا رادا له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الإستفهام إنكاريا وأما على تقدير أن يكون حقيقيا ففيه خفاء فتأمل قل يامحمد في جواب ذلك لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بحملتكم لبرز اي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز الذين كتب في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى عليهم القتل في تلك المعركة إلى مضاجعهم أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد (4/96)
وحكمه لا يعقب وفيه من المبالغة في رد مقالتهم الباطلة ما لا يخفى وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك ولأن الظاهر من عليهم أنهم مقتولون لا قاتلون وقيل : المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون ويؤل إلى قولنا : لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو إستعارة للمصرع وإن كان بمعنى محل إمتداد البدن مطلقا للحي والميت فهو حقيقة وقريء كتب بالبناء للفاعل ونصب القتل و كتب عليهم القتال و لبرز بالتشديد على البناء للمفعول وليبتلي الله ما في صدوركم أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج أو ليعاملكم معاملة المبتلى الممتحن قاله غير واحد وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل مطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللإبتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا
والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى : أنزل عليكم والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظا أو معنى وقيل : إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى : لكيلا تحزنوا أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والإبتلاء وأستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذ وهي غير ظاهرة وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى : ليبتليكم أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة وكلتا العلتين لبرز الذين كأنه قيل : لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللإبتلاء
وأعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهوال لا بيان حكمة البروز المفروض وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتد بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم
وقيل : إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق وقيل : للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم وظاهر قوله تعالى : وليمحص ما في قلوبكم أي ليخلص ما فيها من الإعتقاد من الوسواس يرجح الأول لأن المنافقين لا إعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل : لأن التمحيص متعلق بالإعتقاد على ماأشرنا إليه وقد شاع إستعمال القلب مع ذلك فيقال : أعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون أعتقد بصدره أو آمن بصدره وفي القرآن أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام ومن هنا قال بعض السادات : القلب مقر الإيمان والصدر محل الإسلام والفؤاد مشرق المشاهدة واللب مقام التوحيد الحقيقي ولعل الآية على هذا تؤل إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم وربما يقال (4/97)
عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناءا على أن المراد بالجمعين واحد
والله عليم بذات الصدور 451 اي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه وفي الآية وعد ووعيد أو أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الإبتلاء وإنما يبرز صورة الإبتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين وأختار الصدور ههنا لأن الإبتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقا بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال : إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضا
ومن هنا جوز بعض المحققين كونها حالا من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للإبتلاء والكشف والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذ سر التعبير عن الإسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال : إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلا من هذين الأمرين ملازم للصدور بإعتبار كونه حالا فيها دون الثانية لأنها لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك إن الذين تولوا الدبر عن المشركين بأحد منكم أيها المسلمون أو أن الذين هربوا منكم إلى المدينة يوم ألتقى الجمعان وهما جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجمع أبي سفيان
إنما أستزلهم الشيطان أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ببعض ما كسبوا من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فأقترفوا ذنوبا فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا وعلى هذا لا يكون الزل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه وحينئذ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقةومعنى السببية إنجرارها إليه لأن الذنب يجر الذنب كما أن الطاعة تجر الطاعة وإما قبول مازين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروى عن الحسن وإما مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالثبات في المركز فجرهم ذلك إلى الهزيمة وإما الذنوب السابقة لا بطريق الإنجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج : إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله : إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم لأن ببعض ما كسبوا يأباه ويحقق التحقيق وهو أيضا من باب الترديد للتعليق كقوله : صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء لأن إنما أستزلهم إلخ خبر إن وزيدإنللتوكيد وطول الكلام ومالتكفها عن العمل (4/98)
وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم ألتقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان أستزلهم ببعض إلخ فهو كقولك : إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الإستزلال أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى من بالعفو عن كثير ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولقد عفا الله عنهم أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين فيه ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا للظنون بأتم وجه وقد يقال : هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر إن الله غفور للذنوب صغائرها وكبائرها حليم 551 لا يعاجل بعقوبة المذنب وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبدالرحمن إبن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة إبنا عثمان من الأنصار من بني زريق وروى عن إبن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء ولعل الإقتصار عليهم لأنهم بالغوافي الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لقد ذهبتم بها عريضة وأما سائر المنهزمين فقد أجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر إبن جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة
ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وهم المنافقون كعبدالله بن أبي وأصحابه قاله السدي ومجاهدوإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسانكما يقوله الكراميةوإلا لما سمى المنافق كافرا وقيل : المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لاتكونوا كالكفرة في نفس الأمر وقالوا لإخوانهم في المذهب أو النسب واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم وجعلها إبن الحاجب بمعنى عن ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول وقول بعضهم : يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم بإعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول إذا ضربوا في الأرض أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتواقاله السديوأصل الضرب إيقاع شيء على شيء وأستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل ثم صار حقيقة فيه وقيل : أصل الضرب في الأرض الأبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر وقيل : أكتفى بذكر الأرض مرادا بها البر عن ذكر البحر وقيل : المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد وجيءبإذاوحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئة على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه (4/99)
إذا مراعاة لحكاية الحال الماضية ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع إستحضارا لصورة ضربهم في الأرض وأعترض بوجهين : الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة إستقبال لأن معنى إذا ضربوا حين يضربون فيما يستقبل الثاني أن قولهم : لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض
وأجيب عن الأول بأن إذا ضربوا في معنى الإستمرار كما في وإذا لقوا الذين آمنوا فيفسد الإستحضار نظرا للحال وعن الثاني بأن قالوا لإخوانهم في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الإستقبال وتقييد القول بالضرب إنما هو بإعتبار الجزء الأخير وهو الموت والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفا كما في قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام وكقولك إذا طلع هلال المحرم : أتيتك في منتصفه
وقال الزجاج : إذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الإستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل إذا ضربوا ظرفا لقالوا بل طرف لما يحصل للإخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل : قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني وأنت تعلم أن تجريد إذا عن معنى الإستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقا كاف في توجيه الآية مزيل لإشكالها وقصد الإستمرار منها لا يدفع الإعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للإستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جوابا إذ يصير مستقبلا فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضا ويرد على ما أقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد وأقعد منهوإن كان بعيداما قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار إذا على الإستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل على أن ضمير لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه والتقدير وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزا لو كانوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما لم يحملوا إذا هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو والليل إذا يغشى لتصفو لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الإستقبال من غير محذور وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون وقد جاء في كلامهم إستعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله : وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر وإستيجاب ما كان في غد وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل إذا على الماضي فإنها تجيء له كما جاءت إذ للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها وقوله : وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم وحينئذ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قولهم لإخوانهم إذا سافروا أو كانوا غزى (4/100)
جمع غاز كعاف وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل وأستشهد عليه بعضهم بقول أمريء القيس : ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى لها قلب عفى الحياض أجون ويجمع على غزاة كقاض وقضاة وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين وعلى غزاء مثل فاسق وفساق وأنشدوا له قول تأبط شرا
فيوما بغزاء ويوما بسرية ويوما بخشخاش من الرجل هيضل وعلى غازون مثل ضارب وضاربون وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو المحذوفة لإلتقاء الساكنين إذ أصله غزوا تحركت الواو وأنفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم حذفت وقريء بتخفيف الزاي قال أبو البقاء : وفيه وجهان الأول أن أصله غزاة فحذفت الهاء تخفيفا لأن التاء دليل الجمع وقد حصل من نفس الصيغة
والثاني أنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل : قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناءا على أن المراد به السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان بإستمرار إتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لإنقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى لو كانوا مقيمين عندنا بأن لم يسافروا أو يغزوا ما ماتوا وما قتلوا بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا والجملة الإمتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمرا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا وتقدير فماتوا أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر ليجعل الله ذلك حسرة في قلبوهم متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به والإشارة إلى القول لكن بإعتبار ما فيه من الإعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي وقيل : متعلقبلا تكونواعلى أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول وإعتقاده ليجعل إنتفاء كونكم معهم في ذلك القول والإعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة وأعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لان جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي إنما يكون سببا لحصول إمتثال النهي وهو إنتفاء المماثلة فحصول ذلك الإنتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه وأعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو وكأن القائل ألتبس عليه إستدعاء إنتفاء المماثلة بحصول الإنتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة
وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الإعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببا لدخول الجنة وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سببا لدخولها ثم قال : والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه وقيل : متعلقبلا تكونواوالإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله إنتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون وقالوا إبتداء كلام معطوفا على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم ووجه إتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين (4/101)
لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات وعلى كل من الاوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدا إلى الكافرين وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال
وجوز إبن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقةبقالواحينئذ لا غير ووجه الآية بما يقضي منه العجب والله يحيى ويميت رد لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحدة لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازي مع إقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما وقيل : المراد أنه تعالى يحيى ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الأخبار على الإنشاء
والله بما تعملون بصير 651 ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه وقرأ إبن كثير وأهل الكوفةغير عاصميعملون بالياء وضمير الجمع حينئذ للكفار والعمل عام متناول للقول المذكور والمنشئه الذي هو الإعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الأسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف
هذا ومن باب الإشارة وكأين وكم من نبي مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية قاتل معه عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة ربيون متخلفون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات وما ضعفوا في طلب الحق وما أستكانوا وما خضعوا للسوى والله يحب الصابرين على مقاساة الشدائد في جهاد النفس وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا أستر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا وإسرافنا في أمرنا أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات وثبت أقدامنا في مواطن حروب أنفسنا وأنصرنا بتأييدك وإمدادك على القوم الكافرين الساترين لربوبيتك فآتاهم الله بسبب دعائهم بألسنة الإستعدادات والإنقطاع إليه تعالى ثواب الدنيا وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وحسن ثواب الآخرة وهو مقام توحيد الذات والله يحب المحسنين في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار ياأيها الذين آمنوا الإيمان الحقيقي إن تطيعوا الذين كفروا وهم النفوس الكافرة وصفاتها يردوكم على أعقابكم إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية فتنقلبوا ترجعوا القهقري خاسرين أنفسكم بل الله مولاكم ناصركم وهو خير الناصرين لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي الخوف بما أشركوا اي بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به أي بوجوده سلطانا اي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببا عن شركهم (4/102)
لأن الشجاعة وسائر الفضائل إعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك مالا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقر ملة ومأواهم النار وهي نار الحرمان وبئس مثوى الظالمين الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب ولقد صدقكم الله وعده المشروط بالصبر والتقوى إذ تحسونهم أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلا ذريعا بإذنه وأمره لا على وفق الطبع حتى إذا فشلتم جبنتم عند تجلي الجلال وتنازعتم في الأمر وخالفتم في أمر الطلب وعصيتم المرشد المربي من بعد ما أزاكم ما تحبون من الفوز بأنوار الحضرة منكم من يريد الدنيا لقصور همته وضعف رأيه ومنكم من يريد الآخرة لطول باعه وقوة عقله ثم صرفكم عنهم أي عن أعداء نفوسكم وجنودها ليبتليكم أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال ولقد عفا عنكم بعد ذلك فأنقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال والله ذو فضل عظيم على المؤمنين في طوري التقريب والإبعاد وما ألطف قول من قال : فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم إذ تصعدون في جبل التوجه إلى الحق ولا تلوون أي لا تلتفتون على أحد من الأمرين الدنيا والآخرة والرسول أي رسول الواردات يدعوكم إلي عباد الله إلي عباد الله فأثابكم غما بغم فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا ما أصابكم من صدمات تجلي القهر والله خبير بما تعملون لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا أي وارادا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية يغشى طائفة منكم وهم الصادقون في الطلب وطائفة قد أهمتهم أنفسهم وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم وإستيفاء لذاتها يظنون بالله غير الحق بمقتضى سوء إستعدادهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا قل إن الأمر كله لله فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الإستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود زلأحد سواه يخفون في أنفسهم الخبيثة ما لا يبدون بزعمهم لك أيها المرشد الكامل يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا بسيف الشبهوات ههنا أي في هذه النشأة قل لو كنتم في بيوتكم وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات لبرز على حسب العلم الذين كتب عليهم القتل في لوح الأزل إلى مضاجعهم وهي بيداء الشهوات فقد قال سبحانه : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أي نظهرها بهذا التعين وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى وليبتلي الله تعالى ما في صدوركم أي ليمتحن ما في إستعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل وليمحص ما في قلوبكم أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه ولهذا ورد أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل والله تعالى در من قال : لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار ما كنت إلا زبرة فطبعنني سيفا وأطلع صرفهن غراري (4/103)
وذلك لأنهم حينئذ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن إستعداده كما قيل : عند الإمتحان يكرم الرجل أو يهان والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين وقيل : إن الخطاب الأول للمنافقين والثاني للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والإطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل : ولهذا قال سبحانه : والله عليم بذات الصدور بناءا على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الإتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمنا لها إن الذين تولوا منكم يوم ألتقى الجمعان جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها إنما أستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على إبن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب ولك أن تبقى الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله ولقد عفا الله عنهم حين أستنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة إن الله غفور حليم وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى
ومن هنا جاء لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم
وحكى أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله : اللهم أعصمني من الذنوب فسمع هاتفا من قلبه يقول ياإبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا برؤية الأغيار وإعتقاد تأثير السوى وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد أو كانوا غزا أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان لو كانوا مقيمين عندنا موافقين لنا ما ماتوا بمقاساة الرياضة وما قتلوا بسيف المجاهدة ولأستراحوا من هذا النصب ليجعل الله ذلك أي عدم الكون مثلهم حسرة يوم القيامة في قلوبهم حين يرون ما أعد الله تعالى لكم والله يحيى من يشاء بالحياة الأبدية ويميت من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة والله بما تعملون بصير تحذير عن الميل إلى قول المنكرين وإعتقادهم ولئن قتلتم أيها المؤمنون في سبيل الله أي في الجهاد أو متم حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلا أو نية
لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون 751 اي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى واللام الأولى هي موطئة للقسم والثانية واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناهومغفرةمبتدأ و من متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارا للإعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من اله وحذفت صفة رحمة لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناءا على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر وإما أن ذلك وارد (4/104)
على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير وجوز فيماأن تكون موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أو مصدرية ويكون المفعول حينئذ محذوفا أي من جمعهم المال وقرأ نافع وأهل الكوفةغير عاصم متم بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا ههنا وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من كان يكون وقرأ حفص عن عاصم يجمعون بالياء على صيغة الغيبة وقرأ الباقون تجمعونبالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله تعالى فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه : ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون 851 لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر والمعنى أنكم بأي سبب أتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقربكم إليه ويجر لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا ووما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه فإن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل أمريء بالسيف والله أفضل والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين وإدخال لام القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والإختصاص بأن ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك وأدعى بعضهم أن تقديم هذا المعمول لمجرد الإهتمام ويزيده حسنا وقوع ما بعده فاصلة وما أشرنا إليه أولا أولى قالوا : ولولا هذا التقديم لوجب توكيد الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده مع اللام خلافا للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما وظاهر صنيع بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدرا بقرينة ما قبله أي ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله ولعل الحمل على العموم أولى وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاث أقسام فمن عبدالله تعالى خوفا من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبدالله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله سبحانه : ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبدالله تعالى شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته وإليه الإشارة بقوله عز أسمه : لإلى الله تحشرون ولا يخفى أنه من باب التأويل لا من قبيل التفسير فبما رحمة من الله لنت لهم خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبيء عنه السياق من إستحقاق الفارين الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقةبلنتوالتقديم للقصر مامزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين وهو المأثور عن قتادة وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر فقد قال الأخفش وغيره يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء ورحمة بدل منها وجوز أن تكون صفة لها وقيل : إنها إستفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي فبما رحمة عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط (4/105)
الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة
قيل : وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين : إحداهما ما يدل على شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم والثانية ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل وقد أجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم مازجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم ولو كنت فظا أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في المعاشرة قولا وفعلا غليظ القلب اي قاسيه وقال الكلبي : فظا في الأقوال غليظ القلب في الأفعال
وذكر بعضهم أن الفظ سيء الخلق في الأمور الظاهرة من الأوقال والأفعال و غليظ القلب السيء في الأمور الباطنة والثاني سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاعة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة ولهذا ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية وكأنه لبعده صدر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظا غليظ القلب فلم تكن لهم وأغلظت عليهم لأنفضوا من حولك أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط فأعف عنهم مترتب على ما قبله أي إذا كان الأمر كذلك فأعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك وأستغفر لهم الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية وشاروهم في الأمر أي في الحرب أخرجه إبن أبي حاتم من طريق إبن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة وإليه ذهب جماعة وأختلف في مشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبي الأجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباهوهو الأصحذهب إلى جوازها وفائدتها الإستظهار برأيهم ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله قال لأبي بكر وعمر : لو أجتمعتما في مشورة ما خالفتكما أو التطييب لأنفسهم وإليه ذهب قتادة فقد أخرج إبن جرير عنه أنه قال : أمر الله تعالى نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أظيب لأنفس القوم أو أن تكون سنة بعده لأمته وإليه ذهب الحسن فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده ويؤيده ما أخرجه إبن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن إبن عباس قال : لما نزلت وشاروهم في الأمر قال رسول الله : أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن أستشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا وقيل : فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء وأدعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلا غير جائز لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا أستفرغوا مجهودهم في إستنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولا به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معول عليها وجزم بأنه لابد أن يكون لمشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة (4/106)
هي الإستظهار بما عندهم وأن يكون النبي معهم ضرب من الإجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم وفيه إرشاد للإجتهاد وجوازه بحضرته وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل إجتهاد وأن باطنهم مرضى عند الله تعالى إنتهى وفيه نظر إذ لإخفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لإكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق وما أدعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى على أن من قال : إن فائدة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده إتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالإتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل إجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد أن يشاور أهل الأراء منهم والمتدربين فيهم وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعي ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين
ويؤيد كون المراد من الصحابةالمأمور صلى الله تعالى عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن إبن عباس أنه قال في وشاروهم في الأمر : ابو بكر وعمر ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الإستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك
بقى أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما : لو أجتمعتما على مشورة ما خالفتكما وما أخرجه إبن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة و السلام عند نزول الآية أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو أجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن إجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل وكأن في قوله : ما خالفتكما دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر وقرأ إبن عباس كما أخرج البخاري في الأدب المفرد عنه وشاورهم في بعض الأمر فإذا عزمت أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء
فتوكل على الله أي فأعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح وأصل التوكل إظهار العجز والإعتماد على الغير والإكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و أعقلها وتوكل يرشد إلى ذلك وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال التدبير بالكلية وعن خالد بن زيد أنه قرأ فإذا عزمت بصيغة المتكلم والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل على ولا تشاور به أحدا والإلتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر (4/107)
به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعي للتوكل عليه سبحانه والأمر به
إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا أنتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لننزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ثم أمر بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والإنقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه إن ينصركم الله فلا غالب لكم جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لا يجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي إن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتا وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط
ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريمكما قال شيخ الإسلاموإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين فإذا قلت : لا أكرم من فلان ولا أفضل منه فالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا إختصاص بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الإستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى : فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا في مواقع كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم وإن يخذلكم أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم أحد
وقريء يخذلكم من أخذ له إذا جعله مخذولا فمن ذا الذي ينصركم إستفهام إنكاري مفيد لإنتفاء الناصر على نحو إنتفاء الغالب وقيل : وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم يجيء في الثاني كذلك تلطفا بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وإن كان الكلام مفيدا له من بعده أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه فعلى الأولبعدظرف زمان وهو الأصل فيها وعلى الثاني مستعار للمكان وعلى الله لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول فليتوكل المؤمنون 061 المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا وإما المخاطبون خاصة بطريق الإلتفات وعلى التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى والفاء كما قالوا : لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مر من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة
وما كان لنبي أن يغل أي ما صح ولا إستقام لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل الغل الأخذ بخفية ولذا أستعمل في السرقة ثم خص في اللغة بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولا أيضا قيل : وسميت بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها : جامعة أيضا وقال الرماني وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في (4/108)
خلل الشجر وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل ومن ذلك الغل للحقد والغليل لحرارة العطش والغلالة للشغار والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد فقد حكى الواحدي عن الكلبي ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذ طلبا للغنيمة قالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم ولهذا نزلت الآية أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما أتهمه به بعض المنافقين يوم بدر فقد أخرج أبو داؤد : والترمذي وإبن جرير وحسناه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس ولعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها والرواية الأولى أوفق بالمقام وإرتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه والرواية الثانية أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلو فقد أخرج إبن أبي شيبة في المصنف وإبن جرير مرسلا عن الضحاك قال بعث رسول الله طلائع فغنم النبي غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية أو تعظيما لشأنه وجعل بعضهم الكلام على هذا الإحتمال على حد لئن أشركت ليحبطن عملك خوطب به وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد انهي عنهولا يخفى بعدهوالصيغة على الإحتمال الأول إخبارا لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن إعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الإحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب وقد وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى وما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وكذا للإمتناع العقلي كقوله تعالى ما كان له أ يتذ ن ولد و ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وقرأ نافع وإبن عامر وحمزة والكسائي ويعقوبأن يغلعلى صيغة البناء للمفعول و في توجييها ثلاثة أوجه أحدها أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت : وطائفة قد أكفرتني بحبكم وطائفة قالت مسيء ومذنب والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول وثانيها أن يكون من أغللته إذا وجدته غالا كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالا وثالثها أنه من غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أي يخونه ويسرق من غنيمته ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى كذا قيل وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بماذكر بعد الإلتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد
ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال : كان رسول الله يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم ونسب آلهتهم فسألوه أن يطوى ذلك فأنزل الله تعالى الآية ولا يخفى أنه بعيد جداولا أدري كيف سند (4/109)
هذه الروايةولا أظن الخبر إلا موضوعا ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وهو جملة شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب وماموصولة والعائد محذوف أي بالذي غله وجوز أن تكون حالا ويكون التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يارسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يارسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يارسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يارسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على رؤس الأشهاد زيادة في عقوبته وإلى هذا ذهب الجبائي ولا مانع من ذلك عقلا
والإستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالإستبعاد قديما فقد أخرج إبن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له : أرأيت قول الله تعالى : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يلإتي بها أرأيت من يغل مائة بغير أو مائتي بعير كيف يصنع بها ! قال : أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار فقد أخرج إبن مردويه والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقي في جهنم فيهوى فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلو فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عزوجل : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنه قال لو كنت مستحلا من الغلول القليل لأستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم وقيل : الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما أحتمل من وباله وإثمهوأختاره البلخيوقال : يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له وله صوت ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل
وقيل : إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقى القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك
وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال : إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى إرتكاب التمثيل وجواب أبي هريرة لا يأباه وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون : إنه يلقى من غير تعذيب وبتقديره لا محذور أيضا فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم : هل من مزيد فيضعهم فيها ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول بإستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على القول بإلقائه (4/110)
ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال مالا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شيء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله وقيل : يحتمل أن يكون المرادا ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة ثم للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس ولا يخفى أن مثل هذا الإحتمال مما يصان نه كلام الملك المتعال فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر ثم عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني أو التراخي الرتبي
أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير
وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشد فظاعة من حمل ما غله والفضحية به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية وهم أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يظنون أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم أفمن أتبع رضوان الله أي سعى في تحصيله وأنتحى نحوه كمن بآء اي رجع بسخط أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر قياسي ويقال : بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط
من الله أي كائن منه تعالى
وفي المراد من الآية أقوال : أحدها أن المعنى أفمن أتبع رضوان الله تعالى في العمل بالطاعة كمن باء بسخط منه سبحانه في العمل بالمعصيةوهو المروى عن إبن إسحاقثانيها أن معناه أفمن أتبع رضوان الله في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته كمن باء بسخط من الله تعالى بفعل الغلول وروى ذلك عن الحسن والضحاك وأختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام ثالثها أن المراد أفمن أتبع رضوان الله تعالى بالجهاد في سبيله كمن باء بسخط منه جل جلاله في الفرار عنه ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج وقيل : وهو المطابق لما حكى في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين وأتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآيةوفيه بعدوإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة ومأواه جهنم أي مصيره ذلك وفي الجملة إحتمالان الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من أتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر وقيل : لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فأفهم والثاني أنها داخلة في حيز الموصول (4/111)
فتكون معطوفة على باء بسخط عطف الصلة الأسمية عل ىالصلة الفعلية وعلى كلا الإحتمالين لا محل لها من الإعراب وبئس المصير إما تذييل أو إعتراض أو معطوف على الصلة بتقدير ويقال : في حقهم ذلك وأياما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم و المصير إسم مكان ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الإنتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا والمرجع إنقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك : مرجع إبن آدم إلى التراب وأما قولهم مرجع العباد إلى الله تعالى فبإعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما ملكوا هم عائد على الموصولين بإعتبار المعنى وهو مبتدأ وقوله تعالى : درجات خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا للملزوم على اللازم أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا على سبيل الإستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة وقيل : إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي هم دوو درجات أي منازل أو أحوال متفاوتة وهذا معنى قول مجاهد والسدي : لهم درجان وذهب بعضهم أن في الآية حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول والثاني للثاني عند الله أي في علمه وحكمه والظرف متعلق بدرجات على المعنى أو بمحذوف وقع صفة لها والله بصير بما يعملون من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبهاوالبصيركما قال حجة الإسلام وهو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ومقدس عن أن يرجع إلى إنطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضى للحدثان وإذا نزه عن دلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات إنتهى ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلموهو الذي ذهب إليه الجمهور منا ومن المعتزلة والكرامية قالوا : لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين الحالتين بالبديهة وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار
وقال الفلاسفة : والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وأدعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات ومثل هذا الخلاف في السمع والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر لقد من الله أي أنعم وتفضل وأصل المن القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الإعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد من الله على المؤمنين أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنسوخير الثلاثة الوسطوإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها : فقد أخرج البيهقى وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصةوالأول خير من الثالثوأياما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري : المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان إذ بعث فيهم أي بينهم رسولا عظيم القدر جليل الشأن من أنفسهم أي من نسبهم أو من جنسهم عربيا مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا و إذ ظرفلمنوهو وإن (4/112)
كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم المحققين والجار إما متعلق ببعث أو بمحذوف وقع صفة لرسول او بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف نوع بني آدم وأما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيص المؤمنين بالإمتنان مع عموم نعمة البعثة كما يدل عليه قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين لمزيد إنتفاعهم على إختلاف الأقوال فيهم بها ونظير ذلك قوله تعالى : هدى للمتقين وقريءلمن من اللهبمن الجارة ومن المشددة النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه وحذف لقيام الدلالة وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن من اله تعالى على المؤمنين وقت بعثه ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون إذ مبتدأ والجار والمجرور خبرا وقد أعترض ذلك بأنه لم يعلم أن أحدا من النحويين قال بوقوع إذ كذلك وما في المثال إذا لا إذ وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا وإنما جوزوا فيها وجهين : النصب على أن الخبر محذوف وهي سادة مسده والرفع على أنها هي الخبر وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب في حال القيام لا كونه وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه الأول هو المشهور وجوز الثاني عبدالقاهر تمسكا بقول بعضهم : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ على إذا والمبتدأ على الخبر
وأنتصر بعضهم للزمخشري بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به وبدلا من المفعول وهذا في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الأقدام عليها من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه نعم حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه أرتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناءا على ما ذكرنا بلا خفاء وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد ثبوت المفعولية ولا على الإبتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا إلا بورود سماع في ذلك ففي صحة كلام الزمخشري تردد بين لأن مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع إذ مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا يخفى وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم من أنفسهم بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي إعتقاده لكل مؤمن وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان ثم قال : فلو قال شخص : أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن أو لا أدري هل هو من العرب أو العجم فلاشك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام ولا أعلم في ذلك خلافافلو كان غبيا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره إنتهى وهل يقاس إعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه (4/113)
منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة فيه تأمل والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين
يتلوا عليهم آياته إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به ويزكيهم أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية أو من خبائث الإعتقادات الفاسدة كالإعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراءولا يخفى بعده ومثله القريب إليه ويعلمهم الكتاب والحكمة قد تقدم الكلام في ذلك
وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى : ربنا وأبعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم لتبادر إلى الفهم عد الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن بالآيات تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزا إلى أنه بإعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام وقد يقال : المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة و السلام بالرسالة وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان بقى أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل وإن كانوا من قبل أي من قبل بعثة الرسول لفي ضلال مبين 461 ظاهر وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ
وإلى هذا ذهب بعض المحققين وذكر مثله مكي إلا أنه قال : التقدير وانهم كانوا من قبل أسمها ضميرا عائدا على المؤمنين قال أبو حيان : وكلا الوحهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت فمذهب البصريين فيها وجهان : أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددةإلا أنها لا تعمل في مضمر ومنع ذلك الكوفيونوهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العربوالوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة أسمية أرتفعت بالإبتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف وفي أولهما إن تأخر فتقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الإبتداء وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم (4/114)
وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب وقال عصام الملة إن من قال إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر ثم قال وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل أن لا بعدها كما لا يخفى وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب والأكثرون على الحالية وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها وقوله تعالى
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر والهمزة للتقريع والتقرير والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها و لما ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة في الشرط كما ذهب إليه الفارسي وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها قلتم وهو الجزاء وقد أصبتم في محل الرفع على أنه صفة لمصيبة وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغني عنه والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين وجعل ذلك مثلين بجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضى الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة
وقيل المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا يوم أحد أول الأمر وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز و أنى هذا جملة إسمية مقدمة الخبر والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول وقيل أنى منصوبة على الظرفية لأصابنا المقدر و هذا فاعل له والجملة مقول قلتم وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك رجعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله تعالى وفينا رسوله وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم أو قد وعدنا الله تعالى النصر وإليه ذهب الجبائي وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم أنى هذا وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالا لا ينبغي أن يقولوها
وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى لقد صدقكم الله وعده إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيدا كما ادعاه أبو حيان والهمزة حينئذ متخالة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم قلتم أنى هذا (4/115)
والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير والواو أصلها التقديم وهو مذهب سيبويه وغيره والجملة الإستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في البحر وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع وتذكير اسم الإشارة في أنى هذا مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الإستبعاد لكن صرح بجواب آخر يبري العليل ويشفي الغليل وتطأطىء منه الرءوس فقال سبحانه قل يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد هو أي هذا الذي أصابكم كائن من عند أنفسكم أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك قاله عكرمة أو حيث أنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر وعزى هذا إلى الحسن ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره
وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون إنا في جنة حصينة يعني بذلك المدينة فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا عرض نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا يا نبي الله خاصة أو عامة قال سترونها واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطا بما يعلم الله تعالى عدم حصوله وبأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلى الله عليه وآله وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلا إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك قوله عليه الصلاة و السلام بعد أن لبس لأمته وإنه سيكون فيكم مصيبة وقوله في جواب الإستفهام عنها خاصة أو عامة سترونها فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الإختيار نزول القضاء وبأن الخطاب في قوله تعالى قل هو من عند أنفسكم ليس نصا في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك (4/116)
الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة أنتم قتلتم فلانا والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الإنحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سببا في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال
هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير من عند أنفسكم وبالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر إن الله على كل شيء قدير 165 ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر وقيل المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي أنه سبحانه قادر على نصرتكم بعد لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناءا بشأن التطييب وإرشادا لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبيانا لبعض ما فيه من الحكم ورفعا لما عسى أن يتوهم من الجواب من استقلالهم في وقوع الحادثة رجع إلى خطابهم برفع الواسطة وجواب سؤالهم بأبسط عبارة فقال سبحانه وما أصابكم أيها المؤمنون من النكبة بقتل من قتل منكم يوم التقى الجمعان أي جمعكم وجمع أعدائكم المشركين والمراد بذلك اليوم يوم أحد وقول بعضهم لا يبعد أن يراد به يوم أحد ويوم بدر بعيدا جدا فبإذن الله أي بإرادته وقيل بتخليته وما اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع بالإبتداء وجملة أصابكم صلته وبإذن الله خبره
والمراد بإذن الله يكون ويحصل ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط ووجه السببية ليس بظاهر إذ الإصابة ليست سببا للإرادة ولا للتخلية بل الأمر بالعكس فهو من قبيل وما بكم من نعمة فمن الله أي ذلك سبب للإخبار بكونه من الله لأن قيد الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطالب وكذا الإخبار وإلى هذا ذهب كثير من المحققين وادعى السمين أن في الكلام إضمارا أي فهو بإذن الله ودخول الفاء لما تقدم ثم قال وهذا مشكل على ما قرره الجمهور لأنه لا يجوز عندهم دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط والشرط إنما يكون في الإستقبال لا في الماضي فلو قلت الذي أتاني أمس فله درهم لم يصح و أصابكم هنا ماض معنى كما أنه ماض لفظا لأن القصة ماضية فكيف جاز دخول هذه الفاء وأجابوا عنه بأنه يحمل على التبين أي وما يتبين إصابته إياكم فهو بإذن الله كما تأولوا إن كان قميصه قد من دبر بذلك ثم قال وإذا صح هذا التأويل فليجعل ما هنا شرطا صريحا وتكون الفاء داخلة وجوبا لكونها واقعة جوابا للشرط انتهى ولا يخفى ما فيه وليعلم المؤمنين 166 عطف علي بإذن الله من عطف السبب على المسبب والمراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن (4/117)
وليعلم الذين نافقوا كعبدالله بن أبي وأصحابه وهذا عطف على ما قبله من مثله وإعادة الفعل إما للإعتناء بهذه العلة أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الإنتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر كما قاله شيخ الإسلام في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الإستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث وقيل لهم عطف على نافقوا مؤذن بأن ذلك كان نفاقا خاصا أظهروه في ذلك المقام
وقيل ابتداء كلام معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة ووجهه أنه جل شأنه لما ذكر أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم فيما تقدم من الآيات وبين أن الدائرة إنما كانت للإبتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله تعالى من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام والنفاق على هذا مطلق متعارف وجوز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الإعتراض للتنبيه على كيفية ظهور نفاقهم أو عدم ثباتهم على الإيمان
وعلى كل تقدير القائل إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإليه ذهب الأصم وإما عبدالله بن عمرو بن حرام من بني سلمة وإليه ذهب الأكثر ومقول القول قوله تعالى تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قال السدي وابن جريج أو ادفعوا عنا العدو بتكثير السواد وهو المروي عن ابن عباس وقيل إنهم خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو لدفع الكفار عن أنفسهم وأموالهم أو بين الأول وبين دفع المؤمنين عن ذلك كأنه قيل قاتلوا الله تعالى أو للنفاق الدافع عن أنفسكم وأموالكم وترك العاطف الفاء أو الواو بين تعالوا و قاتلوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني وذكر الأول توطئة له وترغيبا فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون وقيل ترك العاطف للإشارة إلى أن كل واحد من الجملتين مقصود بنفسه وقيل الأمر الثاني حال ولا يخفى بعده قالوا استئناف بياني كأنه قيل فما صنعوا حين قيل لهم ذلك فقيل قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم أي لو كنا نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن شهاب وقيل أرادوا إنا لا نحسن القتال ولا نقدر عليه لأن العلم بالفعل الإختياري من لوازم القدرة عليه فعبر بنفيه عن نفيها ويحتمل أنهم جعلوا نفي علم القتال كناية عن أن ما هم فيه ليس قتالا بناء على نفي العلم بنفي المعلوم لأن القتال يستدعي التكافؤ من الجانبين مع رجاء مدافعة أو مغالبة ومتى لم يتحقق ذلك كان إلقاء الأنفس إلى التهلكة ومن الناس من جوز أن يكون المراد لو نعلم قتالا في سبيل الله لأتبعانكم أو لو نعلم قتالا معنا لاتبعناكم لكن ليس للمخالف معنا مضادة ولا قصد له إلا معكم ولا يخفى أن هذا الكلام على جميع تقاديره يصلح وقوعه جوابا لما قيل لهم على جميع تقاديره ما عدا الأول وعلى الأول يصلح هذا جوابا له على جميع تقاديره ما عدا الثاني إذ عدم المعرفة بالقتال لا يكون عذرا في عدم تكثير السواد إلا على بعد ومن كلامهم
إن لم تقاتل يا جبان فشجع
والمراد بالإتباع إما الذهاب للقتال ولم يعبروا به لأن ألسنتهم لكمال تثبط قلوبهم عنه لا تساعدهم على الإفصاح به وأما الذهاب مع المؤمنين مطلقا سواء كان للقتال أو للدفع وتكثير السواد وحمله على امتثال الأمر أي لو كنا نعلم قتالا لامتثلنا أمركم لا يخلو عن بعد (4/118)
هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان أي هم يوم إذا قالوا لو نعلم الخ أقرب للكفر منهم قبل ذلك لظهور أمارته عليهم بانخذالهم عن نصر المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الدغل والإستهزاء
والظروف كلها في المشهور عند المعربين متعلقة بأقرب ومن قواعدهم أنه لا يتعلق حر فاجر أو ظرفان بمعنى بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور إحداها أن يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول وثانيتها أن يكون الثاني تابعا للأول ببدلية ونحوها وثالثتها أن يكون المتعلق أفعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول الذي يجعله بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق وما نحن فيه من هذا القبيل كأنه قيل قربهم من الكفر يزيد على قربهم من الإيمان واللام الجارة في الموضعين بمعنى إلى بناءا على ما قيل إن صلة القرب تكون من وإلى لا غير تقول قرب منه وإليه ولا تقول له أو على حالها بناءا على ما في الدر المصون أن القرب الذي هو ضد البعد يتعدى بثلاثة أحرف اللام وإلى من وقيل إن أقرب هنا من القرب بفتح الراء وهو طلب الماء ومنه القارب لسفينته وليلة القرب أي الورود والمعنى هم أطلب للكفر وحينئذ يتعدى باللام اتفاق
وزعم بعضهم أن اللام هنا للتعليل والتقدير هم لأجل كفرهم يومئذ أقرب من الكافرين منهم من المؤمنين لأجل إيمانهم ولا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه لمزيد بعده وركاكة نظمه لو صرح بما حذف فيه
وجوز أن يقدر في الكلام مضاف وهو أهل واللام متعلقة بتمييز محذوف وهو نصرة والمعنى هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان إنخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين وهذا كما تقول أنا لزيد أشد ضربا مني لعمرو وأنت تعلم أنه يمكن تعلق اللام بالتمييز عند عدم اعتبار حذف المضاف أيضا وادعى الواحدي أن في الآية دليلا على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم
وقال الحسن إذ قال الله تعالى أقرب فهو لليقين بأنهم مشركون ولا يخفى أن الآية كالصريح في كفرهم لكنهم مع هذا لا يستحقون أن يعاملوا بذلك معاملة الكفار ولعله لأمر آخر يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت وقيل حال من ضمير أقرب وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي وإما تأكيد على حد ولا طائر يطير بجناحيه والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون وقال شيخ الإسلام إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن ما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى فالمثبت والمنفي متحدان ذاتا وصفة وإن اختلفا مظهرا وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الإتصال والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكى عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما أحدهما عدم العلم بالقتال والآخر الإتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به مصرين مع ذلك على الإنخذال عازمين على الإرتداد واختار بعضهم كون ما عبارة عن القول الملفوظ ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلا والحكم عام ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص (4/119)
التالي فقط ولا الأمران معا دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى والله أعلم بما يكتمون زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات ويجوز أن تكون الجملة الحالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم الذين قالوا مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل والله أعلم بما يكتم الذين قالوا أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل مبتدأ خبره قل فادرءوا بحذف العائد أي قل لهم الخ أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا أو بدل منه أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم أو قلوبهم وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم ومنه قول الفرزدق ... على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم ...
بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله ... يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا من كف من بخلا ...
والقائل كما قال السدي وغيره هو عبدالله بن أبي وأصحابه وقد قالوا ذلك في يوم أحد لإخوانهم أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم وقعدوا حال من ضمير قالوا وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى لو أطاعونا أي في ترك القتال ما قتلوا كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبدالله بن أبي في ثلثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له لو نعلم قتالا لاتبعناكم قالوا له ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه الذين قالوا الخ وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبي عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداءا وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به ولا يخلو عن شي بل قال مولانا شيخ الإسلام يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبي ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة قل يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم فادرءوا عن أنفسكم الموت أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى إن كنتم صادقين عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة فادرءوا عليه ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم العقود عن القتال والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود (4/120)
والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم وقيل متعلق الصدق ما صرح به من قولهم لو أطاعونا ما قتلوا والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين وحينئذ يكون فادرءوا الخ استهزاءا بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص وفي الكشاف روى أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقا بعدد من قتل بأحد
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا ياليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا وفي لفظ وقالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبدالله قال لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا جابر مالي أراك منكسرا فقلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك قلت بلى قال ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى قد سبق مني أنهم لا يرجعون قال أي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع وأنزل الله تعالى الآية لهما والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد وفي رواية ابن المنذر عن إسحق بن أبي طلحة قال حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة و السلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله إلى أن قال وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الخ
ومن هنا قيل إن الآية نزلت فيهم وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط وأن آية البقرة هي النازلة فيهم وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا
وقيل من المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا وقعدوا وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الإعتداد به وقرىء يحسبن بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب وقيل إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا
واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا (4/121)
على الصحيح بل اقتصارا و ما هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الإقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله
وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا والمراد لا يحسبن أنفسهم واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره وهو محصور في أماكن ليس هذا منها ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز لأنه مقدم معنى وتعدى أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز وقد ظن السيرافي وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض فالإعتراض عليه في غاية الغرابة ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يتسلوا بذلك ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه قاله شيخ الإسلام
وقيل هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك وإن قل أو هو نهي عن حسباتهم أنفسهم أمواتا في وقت ما وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم وقرىء ولا تحسبن بكسر السين وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين بل أحياء أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك وقرىء بالنصب وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل أحسبهم أحياء ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم نعم قال السفاقسي يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف وإن كانت دلالة اللفظ أحسن وقال العلامة الثاني لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمرا بالقياس وتحصيل الظن وقال بعضهم المراد اليقين ويقدر أحسبهم للمشاكلة ولا يخفى أنه تعسف لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد عند ربهم في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في أحياء وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده و عند هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق أي إن حياتهم متحققة لا شبهة فيها ولا يخفى أن المقام مقام مدح فتفسير العندية بالقرب أنسب به
وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم يرزقون صفة لأحياء أو حال من الضمير فيه أو في الظرف وفيه تأكيد لكونهم أحياء وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثري ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه (4/122)
فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك فرحين جوز أن يكون حالا من الضمير في يرزقون أو من الضمير في أحياء أو من الضمير في الظرف وأن يكون نصبا على المدح أو الوصفية لأحياء في قراءة النصب ومعناه مسرورين بما آتاهم الله بعد انتقالهم من الدنيا من فضله متعلق بآتاهم و من إما للسببية أو لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف العائد على الموصول و من للتبعيض والتقدير بما آتاهموه حال كونه كائنا بعض فضله
والمراد بهذا المؤتى ضروب النعم التي ينالها الشهداء يوم القيامة أو بعد الشهادة أو نفس الفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى ويستبشرون أي يسرون بالبشارة وأصل الإستبشار طلب البشارة وهو الخبر السار إلا أن المعنى هنا على السرور استعمالا للفظ في لازم معناه وهو استئناف أو معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون
وجوز أن يكون التقدير وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في فرحين أو من ضمير المفعول في آتاهم وإنما احتيج إلى تقدير مبتدأ عند جعلها حالا لأن المضارع المثبت إذا كان حالا لا يقترن بالواو
بالذين لم يلحوا بهم أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله تعالى فيلحقوا بهم من خلفهم متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم ويجوز أن يكون حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد في الدنيا
ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة وقيل إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يسبتشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم الخ فالإستبشار حينئذ ليس بالأحوال
ويؤيد هذا ما روى عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا فضمير عليهم وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول وعلى الأول إلى الثاني ومن الناس من فسر الذين لم يلحقوا بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلا عظيما بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية والمعنى لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض أو لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة أو لا خوف عليهم في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن يخاف ويحذر ولا هم يحزنون على المفارقة وقيل إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها ولا يحزنون (4/123)
من فوات محبوب من نعيمها وهو وجه وجيه
والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لابيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والإستمرار بحسب المقام وقد تقدمت الإشارة إليه يستبشرون مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجرالمؤمنين 171 فحينئذ يكون بيانا وتفسيرا لقوله سبحانه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدا ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا بنعمة من الله وفضل من غير ضم ما بعده إليه وقيل الإستبشار الأول بدفع المضار ولذا قدم والثاني بوجود المسار أو الأول لإخوانهم والثاني لهم أنفسهم ومن الناس من أعرب يستبشرون بدلا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه و من الله متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وجمع الفضل والنعمة مع أنهما كثيرا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك ونظيره قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وعطف وأن على فضل أو على نعمة وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به
وقرأ الكسائي وإن بكسر الهمزة على أنه تذييل لمضمون ما قبله من الآيات السابقة أو اعتراض بين التابع والمتبوع بناء على أن الموصول الآتي تابع للذين لم يلحقوا والمراد من المؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بذلك للإعلام بسمو مرتبة الإيمان وكونه مناطا لما نالوه من السعادة وإما كافة المؤمنين وذكرت توفية أجورهم وعدت من جملة المستبشر به على ما اقتضاه العطف بحكم الإخوة في الدين واختار هذا الوجه كثير
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء وقل ما ذكر الله تعالى فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر سبحانه ما أعطى الله تعالى المؤمنين من بعدهم وفي الآية إشعار بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة الذين استجابوا أي أطاعوا لله والرسول بامتثال الأوامر من بعد ما أصابهم القرح أي نالهم الجراح يوم أحد والموصول في موضع جر صفة للمؤمنين أو في موضع نصب بإضمار أعني أو في موضع رفع على إضمارهم أو مبتدأ أول وخبره جملة قوله تعالى للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم 172 قال الطبرسي وهو الأشبه و منهم حال من الضمير في أحسنوا ومن للتبعيض وإليه ذهب بعضهم وذهب غير واحد إلى أنها للبيان فالكلام حينئذ فيه تجريد جرد من الذين استجابوا لله والرسول المحسن المتقى المقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون قال ابن إسحق وغيره لما كان يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف منه أذن مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبدالله بن حزام فقال يا رسول الله إن (4/124)
أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إرهابا للعدو حتى انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم ثم ذهب ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا أصبنا أجل أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن عليهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط وهم يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قال ويلك ما تقول قال ما أرى والله أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فإني أنهاك عن ذلك والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر قال وما قلت قال قلت ... كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل ... ترمي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل ... فظلت عدوا كأن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول ... وقلت ويل ابن حرب من لقائهم ... إذا تغطمطت البطحاء بالخيل ... إني نذير لأهل النبل ضاحية ... لكل آربة منهم ومعقول ... من خيل أحمد ولا وخشا تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل ...
فثنى عند ذلك أبو سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا نريد المدينة قال ولم قالوا نريد الميرة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل هذه لكم غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموه قالوا نعم قال إذا وافيتمون فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وأخرج ابن هشام أن أبا سفيان لما أراد الرجوع إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم صفوان بن أمية بن خلف لا تفعلوا فإن القوم قد جربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا إلى محالكم فرجعوا فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أنهم هموا بالرجعة قال والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأنزل الله تعالى هذه الآيات وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين فقوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم بدل من الذين استجابوا أو صفة والمراد من الناس الأول ركب عبد قيس ومن الثاني أبو سفيان ومن معه فأل فيهما للعهد والناس الثاني غير الأول (4/125)
وروى عن مجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا : والخبر متداخل نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف : يامحمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران وقيل : بلغ عسفان فألقى الله تعالى عليه الرعب فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إني واعدت محمدا وأصحابه أن ناتقي بموسم بدر وأن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق المدينة فتثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتزيدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم فوالله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وقد أنصرف أبو سفيان ومن معه من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق يريدون أنكم لم تفعلوا شيئا سوى شرب السويق ولم يلق رسول الله أحدا من المشركين فكر راجعا إلى المدينة وفي ذلك يقول عبدالله بن رواحة أو كعب بن مالك : وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما وأفتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وإبنه وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم وأمركم الشيء الذي كان غاويا وإني وإن عنفتموني لقائل فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره شهابالنا في ظلمة الليل هاديا فعلى هذا المراد من الناس الأول نعيم وأطلق ذلك عليه كما يطلق الجمع وأسم الجمع المحلي بأل الجنسية على الواحد منه مجازا كما صرحوا به أو بإعتبار أن المذيعين له كالقائلين لهم لكن في كون القائل نعيما مقال
وقد ذكره إبن سعد في طبقاته وذكر بعضهم أن القائلين أناس من عبد قيس فزادهم إيمانا الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال : أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده أو لله تعالى وتعقب أبو حيان الأول بأنه ضعيف من حيث أنه لا يزيد إيمانا إلا النطق به لا هو في نفسه وكذا الثالث بأنه إذا اطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال : مفارقه شابت بإعتبار الإخبار عن الجمع ولا يجوز مفارقه شاب بإعتبار مفرقه شاب وفي كلا التعقيبين نظر أما الأول فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان وأما الثاني فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناءا على ما علم من إستقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من إعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى
والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى و أزدادوا طمأنينة وأظهروا حمية الإسلام (4/126)
وأستدل بذلك من قال : إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والإعتقاد فقد قالوا في ذلك : إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب ويعضد ذلك أخبار كثيرة ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلا للزيادة والنقصان يؤل ما ورد في ذلك بإعتبار المتعلق ومنهم من يقول : إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفى جدا لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلا ليقال : إن زيادة إيمانهم بإعتبار ذلك المتعلق وكذا إلتزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد
فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل وإن قلنا : إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظنا أوشكا ويخرج عن كونه إيمانا وتصديقا مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع
نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقا وإلى هذا أشار بعض المحققين وقالوا حسبنا الله أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه والدليل على أن حسب بمعنى محسب أسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه أسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفا كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا ومنه يعلم أن المصدر المؤل بأسم الفاعل له حكمه في الإضافة والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها ونعم الوكيل 271 أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول وقلنا : بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول قالوا لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت
وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقاكما ذهب إليه الصفارأو قلنا : بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظكما أشار إلى ذلك العلامة الثاني فالأمر أيضا ظاهر وإن قلنا : بعدم جواز ذلك كما ذهب إليه الجمهورفلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف والذاهبون إلى الأول قالوا : إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر والذاهبون إلى الثاني أختلفوا فمنهم من قدر قلنا أيوقلنا نعم الوكيل
وأعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الإخبار بأن الله تعالى كافيهم والإخبار بأنهم قالوانعم الوكيلمناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفا على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخرا لتناسب المعطوف عليه فإن حسبنا خبر و الله مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الإستعمال وإنتقال الذهن إليه وإما مقدما رعاية لقرب المرجع مع ما سبق (4/127)
وأعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤل نعم الوكيل بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضا إنشائية إذ الجملة الإسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بيننعم الرجل زيد وزيد نعم الرجلفي أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملةنعم الوكيل بل جملة متعلق خبرهانعم الوكيل والإشكال إنما هو في عطف نعم الوكيل إلا أن يقال يختار هذا ويقال : الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء وما ههنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة نعم الوكيل فيعود الإشكال ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص وهو أنه مقول في حقه نعم الوكيل وأيضا مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه بنعم الوكيل فلا بد من تقدير مقول في حقه مرة أخرى ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤل الجمهور الإنشاء الواقع خبرا بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه الله تعالى وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطفنعم الوكيل على حسبنا بإعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف جعل على فالق في قوله تعالى : فالق الأصباح وجعل الليل سكنا على رأي فحينئذ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الإخبار وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليهإلا أن أمر العطف على الخبر بناءا على ما ذكره الشيخ الرضى من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره أي رجل جيدأظهر كما لا يخفى ومن الناس من إدعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب بناءا على أن الواو من الحكاية لا غير
ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهدا على ما ذكر لجواز أن يكون قالوا مقدرا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية على الجملة الفعلية الخبرية ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الإخبار وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الأسمية وفيه أيضا خلاف مشهور كعكسه ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والإخبار يستخرج الجواب عن ذلك وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار كما أخرجه البخاري في الأسماء والصفات عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبدالرزاق وغيره عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما
وأخرج إبن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إذا وقعتم في الأمر فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل وأخرج إبن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي كان إذا أشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال : حسبي الله ونعم الوكيل
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف فانقلبوا عطف على مقدر دل عليه السياق أي فخرجوا إليهم ورجعوا بنعمة في موضع الحال من الضمير فيأنقلبواوجوز أن يكون مفعولا به والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة والتنوين على التقديرين للتفخيم أي بنعمة عظيمة لا يقدر قدرها من الله صفة لنعمة مؤكدة (4/128)
لفخامتها والمراد منها السلامةكما قاله إبن عباسأو الثبات على الإيمان وطاعة الله تعالى ورسوله كما قاله الزجاج أو إذ لا هم لهم أعداء الله تعالى على بعد كما قيل أو مجموع هذه الأمور على ما نقول وفضل وهو الربح في التجارة فقد روى البيهقي عن إبن عباس أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل
وأخرج إبن جرير عن السدي قال : أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج في غزوة بدر الصغرى ببدر أصحابه دراهم إبتاعوا بها في الموسم فأصابوا تجارة وعن مجاهد الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر لم يمسسهم سوء أي لم يصبهم قتلوهو المروى عن السديأو لم يؤذهم أحدوهو المروى عن الحبروالجملة في موضع النصب على الحال من فاعل انقلبوا أو من المستكن في بنعمة إذا كان حالا والمعنى فأنقلبوا منعمين مبرئين من السوء والجملة الحالية إذا كان فعلها مضارعا منفيا بلم وفيها ضمير ذي الحال جاز فيها دخول الواو وعدمه وأتبعوا عطف على انقلبوا وقيل : حال من ضميره بتقدير قد أي وقد أتبعوا في كل ما أوتوا أو في الخروج إلى لقاء العدو رضوان الله الذي هو مناط كل خير والله ذو فضل عظيم 471 حيث تفضل عليهم بما تفضل وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الأسم الكريم الجامع وإسناد ذو فضل إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمرا عظيما لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسرا ليس بعده إنما ذلك الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ وقوله : الشيطان بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ وقوله تعالى : يخوف أولياءه جملة مستأنفة مبينة لشيطنته أو حال كما في قوله تعالى : فتلك بيوتهم خاوية
ويجوز أن يكون الشيطان صفة لأسم الإشارة على التشبيه أيضا ويحتمل أن يكون مجازا حيث جعله هو ويخوف هو الخبر وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بد حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان والمراد به إبليس أيضا ولا تجوز فيه على الصحيح وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله والمستكن في يخوف إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يخوف به والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه فالمفعول الأول ليخوف محذوف أي يخوفكم اولياءه بأن يعظمهم في قلوبكم ونظير ذلك قوله تعالى : لينذر بأسا شديدا وبذكر هذا المفعول قرأ إبن عباس
وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين وإليه ذهب الزجاج وأبو علي الفارسي وغيرهما ويؤيده قوله تعالى : فلا تخافوهم أي فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم وخافون في مخالفة أمري وإما المتخلفون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأولياءه هو المفعول الأول والمفعول الثاني إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه وعلى هذا لا يصح عود ضمير تخافوهم إلى الأولياء بل هو راجع إلى الناس الثاني كضميرأخشوهمفهو رد له أي فلا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال وتجبنوا وخافون فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى إمتثال ما يأمركم به وإلى هذا الوجه ذهب الحسن والسدي وأدعى الطيبي أن النظم يساعد عليه والخطاب حينئذ لفريقي الخارجين (4/129)
والمتخلفين والقصد التعريض بالطائفة الأخيرة وقيل : الخطاب لها و أولياءه إذ ذاك من وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم بأنهم أولياء الشيطان وأستظهر بعضهم هذا القيل مطلقا معلالا له بأن الخارجين لم يخافوا إلا الله تعالى وقالوا حسبنا الله وأنت تعلم أن قيام إحتمال التعريض يمرض هدا التعليل والفاء لترتيب النهي أو الأنتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا أو قولا له مما يوجب عدم الخوف والنهي عنه وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وصلا وحذفها وقفا والباقون يحذفونها مطلقا وهي ضمير المفعول وقوله تعالى : إن كنتم مؤمنين 571 إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح وإن كان للخارجين كان مساقا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم وإن كان للجميع ففيه تغليب وأياما كان فالجزاء محذوف وقيل : إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل وإن كان للآخرين أفتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس
هذا ومن باب الإشارة في الآيات ولئن قتلتم في سبيل الله بسيف المحبة أو متم بالموت الإختباري لمغفرة أي ستر لوجودكم من الله ورحمة منه تعالى بتحليكم بصفاته عزوجل خير مما يجمعون أي أهل الكثرة فبما رحمة من الله أي بإتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الألهي لا الوجود البشرى لنت لهم ولو كنت فظا موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ لأنفضوا من حولك ولم يتحملوا مؤنة ذلك أو يقال : لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك أو يقال : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة أو يقال : لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص فأعف عنهم فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله وأستغفر لهم فيما يتعلق بحق الله تعالى لإعتذارهم أو أستغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة وشاورهم في الأمر إذا كنت في مقام الفعل إختبارا لهم وإمتحانا لمقامهم فإذا عزمت وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع فتوكل على الله فإنه حسبك فيما يرد منك وتريد منه وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لأن لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولولا ذلك لأضمحلت تلك القوى وتلاشت وأختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسانلأجلها إن ينصركم الله فلا غالب لكم تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال
وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم إن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات ونصره المحبين بنعت المدانات ونصره العارفين بكشف المشاهدات وقد قيل : إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته وأعتصم بربه في جميع أسبابه و ما كان لنبي أن يغل لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته أفمن أتبع رضوان الله أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لإتصافه بصفات (4/130)
الله تعالى كمن باء بسخط من الله وهو الغال المحتجب بصفات نفسه ومأواه جهنم وهي أسفل حضيض النفس المظلمة هم درجات عند الله أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الإستعدادات لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لأحترقوا بأول سطوات عظمته ومعنى كونه عليه الصلاة و السلام من أنفسهم كونه في لباس البشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة أو لما أصابتكم مصيبة في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم قد أصبتم قوى النفس مثليها مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات قلتم أنى أصابنا هذا ونحن في بيداء السير في الله تعالى عزوجل قل هو من عند أنفسكم لأنه بقى فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه : قل كل من عند الله لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالإستعداد ويقتضيه فبإعتبار الفاعل يكون من عند الله وبإعتبار القابل يكون من عند أنفسهم وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة أمواتا بل أحياء عند ربهم بالحياة الحقيقية مقربين في حضرة القدس يرزقون من الإرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها وثمارها الأحوال والمعارف
والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي إعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بد من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناءا على أنها جواهر مجردة وأطلق أسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها
ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث : الأطفال هم دعاميص الحنة والدعاميص جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد الإخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها ومنه خبر إن الدنيا حلوة خضرة وقول عمر رضي الله تعالى عنه : إن الغزو حلو خضر ومن أمثالهم النفس خضراء وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه وأمر الظرفية في الخبر سهل وباقي ما فيه إما على ظاهره وإما مؤل وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات ومن أنهارها ما يحصل من التجليات ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس (4/131)
وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الألهية وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سد باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة فرحين بما آتاهم الله من فضله من الكرامة والنعمة والزلفى عنده ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لفوزهم بالمأمن الأعظم والحبيب الأكرم يستبشرون بنعمة من الله عظيمة وهي جنة الصفات وفضل أي زيادة عليها وهي جنة الذات و مع ذلك إن الله لا يضيع أجر إيمان المؤمنين الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال الذين أستجابوا لله والرسول بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الإستقامة من بعدما أصابهم القرح أي كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة وأتقوا النظر إلى نفوسهم لهم أجر عظيم وراء أجر الإيمان الذين قال لهم الناس المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة إن الناس قد جمعوا لكم وتحشدوا للإنكار عليكم فأخشوهم وأتركوا ما أنتم عليه فزادهم ذلك القول إيمانا أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته وقالوا حسبنا الله فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالإستقامة و قالوا نعم الوكيل فأنقلبوا بنعمة من الله وفضل أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات لم يمسسهم سوء لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد وأتبعوا رضوان الله في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى : والله ذو فضل عظيم كما أشرنا إليه إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه المحجوبين بأنفسهمفلا تخافواالمنكرين وخافون إذ ليس في الوجود سوأى إن كنتم مؤمنين أي موحدين توحيدا حقيقيا والله تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتني بشئونه
والمراد من الموصول إما المنافقون المتخلفونوإليه ذهب مجاهد وإبن إسحاقوإما قوم من العرب أرتدوا عن الإسلام لمقاربة عبدة الأوثانوإليه ذهب أبو علي الجبائيوإما سائر الكفاروإليه ذهب الحسن وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى : ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا وإليه ذهب بعضهمومعنى يسارعون في الكفر يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وغيره وأوثر ذلك قيل : للإشعار بإستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه : يسارعون في الخيرات في حق المؤمنين وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل يحزنك وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك بل العلة هنا (4/132)
ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي
والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى : إنهم لن يضروا الله شيئا ردا وإنكارا لظن الخوف والكلام على حذف مضاف والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية و شيئا في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما وقيل : مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه ولعل المقام يدعو إلى خلافه وقرأ نافعيحزنبضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى : لا يحزنهم الفزع الأكبر فإنه فتحها وضم الزاي وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى
وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع والماضي على قراءة الفتح حزن وعلى قراءة الضم من أحزن ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة وقيل : حزنته بمعنى أحدثت له حزنا وأحزنته بمعنى عرضته للحزن وقال الخليل : خزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا وأحزنته بمعنى جعلته حزينا
وقريء يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم
يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة إستئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل : لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم فكيف لا يسارعون وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء إستعداده المقتضى إفاضة ذلك عليه وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الإعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة وإستمرارها ويرجع إلى دوام وإستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه ولهم مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية عذاب عظيم 671 لا يقدر قدره نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه وقيل : إنه لما دل قوله تعالى : إنهم لن يضروا الله شيئا على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم وإما مبتدأة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب
وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل للنهي السابق وأن المعنى ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفا على الإسلام ولا ترحما عليهم أما الأول فلأنهم لن يضروا الله شيئا فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله وأما الثاني فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم
وأستأنس له بأنه كثيرا ما وقع نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم (4/133)
وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم وخوطب بأنه ما عليك إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر ولا يخلو عن بعد إن الذين أشتروا الكفر بالإيمان أي أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ولهذا وضع أشتروا موضع بدلوا فإن الأول أظهر في الرغبة وأدل على سوء الإختيار وقوله تعالى : لن يضروا الله شيئا تقدم الكلام فيه وفيه هنا تعريض ظاهر بإقتصار الضرر عليهم كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم والمراد من الموصول هنا ما أريد منه هناك والتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة لكونه علما في الخسران الكلي والحرمان الأبدي صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا ودال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير من مضارة أولياء الله تعالى الذين تكفل سبحانه لهم بالنصر وهي أعز من جليمة وأمنع من لهاة الليث وجوز أن يراد بالموصول هنا عام ويراد به هناك خاص وهو ما عدا ما ذهب إليه الحسن فيه والجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما أندرج نحتها من جزئيات الأحكام وجوز الزمخشري أن يكون الأول عاما للكفار وهذا خاصا بالمنافقين وأفرده بالذكر لأنهم أشد منهم في الضرر والكيد وأعترض بأن إرادة العام هناك مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن علم إتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم وإعتبار كونها من مباديء حزنه عليه الصلاة و السلام ما لا وجه له ويمكن أن يقال : إن القائل بالعموم في الأول لم يرد بالكفار مقابل المؤمنين حيث كانوا وعلى أي حال وجدوا بل ما يشمل المتخلفين والمرتدين مثلا ممن يتوقع إضرارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم وحينئذ لا يرد هذا الأعتراض
وقيل : المراد من الأول المنافقون أو من أرتدوا مما هنا اليهود والمراد من الإيمان إما الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما شأن اليهود مثلا وإما الإيمان الإستعدادي الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق والدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة مما عدا ذلك وإما القدر المشترك بين الجميع كما هو دأب الجميع فتفطن ولهم عذاب أليم 771 أي مؤلم والجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه أو مقررة للضرر الذي آذنت به الجملة الأولى قيل : لما جرت العادة بإغتباط المشتري بما أشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك نقله مولانا شيخ الإسلام
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم عطف على قوله تعالى : ولا يحزنك والفعل مسند إلى الموصول و أن وما عملت فيه ساد مسد مفعوليه عند سيبويه لحصول المقصود وهو تعلق أفعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر وعند الأخفش المفعول الثاني محذوف و ما إما مصدرية أو موصولة وكان حقها في الوجهين أن تكتب مفصولة لكنها كتبت في الإمام موصولة وإتباع الإمام لازم ولعل وجهه مشاكلة ما بعده والحمل على الأكثر فيها و خير خبر وقريء خيرا بالنصب على أن يكونلأنفسهمهو الخبر و لهم تبيين أو حال من خير والإملاء في الأصل إطالة المدة والملأ الحين الطويل ومنه الملوان (4/134)
لليل والنهار لطول تعاقبهما وأما إملاء الكتاب فسمى بذلك لطول المدة بالوقوف عند كل كلمة
وقيل : الإملاء التخلية والشأن يقال : أملى لفرسه إا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء
وحاصل التركيب لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم أو أن الذي نمليه خير لأنفسهم أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم أو خيرية الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة ومآل ذلك نهيهم عن السرور بظاهر إطالة الله تعالى أعمارهم وإمهالهم على ما هم فيه أو بتخليتهم وشأنهم بناءا على حسبان خيريته لهم وتحسيرهم ببيان أنه سر بحت وضرر محض وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء والخطاب إما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأنسب بمقام التسلية إلا أن المقصود التعريض بهم إذ حسبوا ما ذكر وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم والموصول مفعول و أنا نملي إلخ بدل إشتمال منه وحيث كان المقصود بالذات هو البدل وكان هنا مما يسد مسد المفعولين جاز الإقتصار على مفعول واحد وإلا فالإقتصار لولا ذلك غير صحيح على الصحيح ويجوز أن يكون أنما نملي مفعولا ثانيا إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات فلا بد من تقدير أما في الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم وأما في الثاني أي لا تحسبن الذين كفروا أصحاب أنما نملي لهم إلخ وإنما قيد الخير بقوله تعالى : لأنفسهم لأن الإملاء خير للمؤمنين لما فيه من الفوائد الجمة ومن جعل خيرا فيما نحن فيه أفعل تفضيل وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على إعتبار الزعم والمماشاة والآية نزلت في مشركي مكةوهو المروى عن مقاتلأو في قريظة والنضيروهو المروى عن عطاء إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إستئناف بما هو العلة للحكم قبلها والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا إما لأنه غرض وإما لأنه مراد مع الفعل فيشبه العلة عند من لم يجوز تعليلل أفعاله بالأغراض وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا ولهذا جعلوا إزدياد الإثم هنا باعثا نحو قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله ولما لم يكن الأزدياد متقدما على الإملاء هنا والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه إستعارة بناءا على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه بتقدم الباعث في الخارج ولا يخفى تعسفه ولذا قيل : إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة
وأعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ولم يصلح هذا تعليلا لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا فتأمل قاله بعض المحققين
وقرأ يحيى بن وثاب بفتح أنما هذه وكسر الأولى وبياء الغيبة في يحسبن على أن الذين كفروا فاعل يحسبن و أنما نملي لهم ليزدادوا إثما قائم مقام مفعولي الحسبان والمعنى ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم لأزدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان وتدارك ما فات وإنما نملي لهم خير لأنفسهم إعتراض بين الفعل ومعموله ومعناه أن إملاءنا خير لهم إن إنتبهوا وتابوا والفرق بين القراءتين أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة والإملاء للإزدياد منفي وعلى القراءة الأخرى هو مثبت والآخر منفي ضمنا ولا تعارض بينهما لأنه عند أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة لأنه مشروط بشروط كما علمت
وزعم بعضهم أن جملة إنما نملي لهم خير إلخ حالية أي لا يحسبن في هذه الحالة هذا وهذه الحالة منافية له (4/135)
وليس بشيء ولهم عذاب مهين 871 جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا أو حال من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين في القراءة الأخيرةكما ذهب إليه غير واحد من المحققينليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال : ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب وجعلها بعضهم معطوفة على جملة ليزدادوا بأن يكون عذاب مهين فاعل الظرف بتقدير ويكون لهم عذاب مهين وهو من الضعف بمكان نعم قيل : بجواز كونها إعتراضية وله وجه في الجملة هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنهكما قال شيخ الإسلاملما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاءا وفاقاقاله شيخ الإسلامويمكن أن يقال إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهو أنهم أعزة لديه عزوجل إثر الإشارة إلى رده بنوع آخر
ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لأزدياد الآثام وفي هذا الوعد والوعيد أيضا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الكلام السابق وقيل : الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم ولا يخفى أنه بعيد فضلا عن كونه أقرب والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين : والمنافقين ففيه إلتفات في ضمن التلوين والمراد بما هم عليه إختلاط بعضهم ببعض وأستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير وقال أكثرهم : إن الخطاب للمنافقين ليس إلا ففيه تلوين فقط وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين وإلتفات أيضا
وأخرج إبن أبي حاتم من طريق علي عن إبن عباس وإبن جرير وغيره عن قتادة أنه للكفار ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدا واللام في ليذر متعلقة بمحذوف هو الخبر لكان والفعل منصوب بأن مضمرة بعدهاكما ذهب إليه البصريونأي ما كان الله مريدا لأن يذر المؤمنين إلخ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعمل كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم وأصل يذر فحذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثلهيسع ويطأ ويقعولم يستعملوا من يذر ماضيا ولا مصدرا ولا أسم فاعل مثلا إستغناءا بتصرف مرادفه وهو يترك
وقوله تعالى : حتى يميز الخبيث من الطيب غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل : ما يتركهم على ذلك الإختلاف بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية ويفهم منه كما قال السمين : إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلا على كل منهما بما يليق به وإشعارا بعلة الحكم وأفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانا بأن مدار (4/136)
إفراز أحد الفريقين من الآخر هو إتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الإختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الإستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالإعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين وقيل : إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون
وقرأ حمزة والكسائي يميز بالتشديد وماضيه ميز وماضي المخفف ماز وهماكما قال غير واحدلغتان بمعنى واحد وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد ونظير ذلك عاض وعوض وعن إبن كثير أنه قريء يميز بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز وأختلف بم يحصل هذا الميز فقيل : بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد وقيل : بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين وقيل : بالوحي إلى النبي ولهذا أردفه سبحانه بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الإستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم والإستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الإختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين أمتحن الله تعالى قلوبهم بدل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الإستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما أستأثر الله تعالى به وتعقبه بأن الإستدراك بإجتباء الرسل المنبيء عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر أثر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء
وأنت تعلم أن دعوى أن الإستدراك صريح فيما أدعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل ولهذا قيل : إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الإطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الإستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الإطلاع على الغيب لمن شاء من رسله وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار نعم ما ذكره هذا المولى أظهر وأولى وقد سبقه إليه أبو حيان والمراد من قوله سبحانه : ليطلعكم إما ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له (4/137)
فقد أخرج إبن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت
ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : عرضت على أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فأستهزؤا وقالوا : يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال الكلبي : قالت قريش : تزعم يامحمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل : والحق إتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سببا للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالا حتى قال بعض الحفاظ في بعضها : إني لم أقف عليه وقد روى عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت والتباء الإستخلاص كما روى عن أبي مالك ويؤول إلى الإصطفاء والإختيار وهو المشهور في تفسيره ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لإنكسار ما قبلها وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه ههمم الأمم وأصطفاه على الجماهير لإرشادهم و من لإبتداء الغاية وتعميم الإجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة و السلام في هذا الباب أمر مبين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم
وقيل : إنها للتبعيض فإن الإطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسبما تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم وأما كونه مختصا ببعض الرسل ففي القلب منه شيء
ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا إستقلالا وهم يقولون : إن المختص بالرسل عليهم السلام هو الثاني على انه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الإستشكال وإظهار الأسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ومثله على ما قيل ما في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله والمراد آمنوا بصفة الإخلاص فلا يضر كون الخطاب عاما للمنافقين وهم مؤمنون ظاهرا
وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والأشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة و السلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا وقد يقال : إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعا على الغيب
ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادا مجتبين إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم في أمر الشرائع وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الإختلاط حتى يميز الخبيث من الطيب بنصب العلامات وتحصيل العلم الإستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق
ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للأطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى وإن تؤمنوا أي بالله تعالى ورسله (4/138)
حق الإيمان وتتقوا المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق فلكم بمقابلة ذلك فضلا من الله تعالى أجر عظيم 971 لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة
ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وبهذا ترتبط الآية بما قبلها
وقيل : وجه الإرتباط أنه تعالى لما بلغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع ههنا في التحريض على بذل المال وبين الوعيد الشديد لمن يبخل وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه وفعل الحسبان مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه
وأعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة فلما تكرر طلبه أمتنع حذفه ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضا ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل
ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولى حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئا واحدا في المعنى كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا على القراءة بالياء التحتية ثم قال : وهذه الآية ليست كذلك فلا بد من التأويل بأن يقال : إن الذين يبخلون الفاعل لما أشتمل على البخل كان في حكم إتحاد الفاعل والمفعول ولذلك حذف وقيل : إن الزمخشري كنى عن قوة القرينة بالإتحاد الذي ذكره وكلا القولين ليسا بشيء والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة فمتى وجدت جاز الحذف ومتى لم توجد لم يجز
والقول بأن هو ضمير رفع أستعير في مكان المنصوب وهو راجع إلى البخل أو الإيتاء على أنه مفعول أولا تعسف جدا لا يليق بالنظم الكريموإن جوزه المولى عصام الدين تبعا لأبي البقاء حتى قال في الدر المصون : إنه غلط والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب لا توكيد للمظهر كما توهم وقيل : الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو ضمير من يحسب والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف أي بخل الذين والثاني خيرا كما في الوجه الأول وهو خلاف الطاهر نعم إنه متعين على قراءة الخطاب
وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف أي لا يحسبن أو لا تحسبن الذين يبخلون بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة أو خيرا لهم من الإنفاق بل هو شر عظيم لهم والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة بيان لكيفية شريته لهم والسين مزيدة للتأكيد والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية
وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ثم قرأ الآية (4/139)
وأخرج عبدالرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال : يجعل ما بخلوا به طوقا من نار في أعناقهم
وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد والمعنى كما قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون وقال أبو مسلم : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روى ذلك عن الصادق وإبن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر وأخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن إبن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها ومعنى سيطوقون ما قاله أبو مسلم أو المراد أنهم يطوقون طوقا من النار جزاء هذا الكتمان
فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وعليه يكون هذا عودا إلى ما أنجر منه الكلام إلى قصة أحد وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل : ويعضده أن كثيرا منآيات بقية السورة فيهم ولله ميراث السموات والأرض اي لله تعالى وحده لا لأحد غيره إستقلالا أو إشتراكا ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وإبتغاء مرضاته فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياءا لإنكسار ما قبلها والمراد به ما يتوارث والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج : أي إن الله تعالى يفنى أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ملكا له والله بما تعملون من المنع والبخل خبير 081 فيجازيكم على ذلك وإظهار الأسم الجليل لتربية المهابة والإلتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشد وهي قراءة نافع وإبن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون بالياء على الغيبة
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء أخرج إبن إسحاق وإبن جرير وإبن أبي حاتم من طريق عكرمة عن إبن عباس قال : دخل أبو كبر رضي الله تعالى عنه بيت المدراس فوجد يهود قد أجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى فذهب فنحاص إلى رسول الله فقال : يا محمد أنظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : ما حملك على ما صنعت قال : يا رسول الله قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى (4/140)
مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية وأنزل في أبي كبر وما بلغه في ذلك من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا الآية
وأخرج إبن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال : يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني
وأخرج الضياء وغيره من طريق سعيد بن جبير عن إبن عباس قال : أتت اليهود رسول الله حين أنزل الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فقالوا : يامحمد فقير ربك يسأل عباده القرض فأنزل الله تعالى الآية والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم الوعيد في هذا المقام فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضاكما في سمع الله لمن حمدهوإنما عبر عن ذلك بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ولهذا أنكروه ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي وفيه أيضا من التشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد مالا يخفى والعامل في موضع إن وما عملت فيه قالوا : فهي المحكية به وجوز أن يكون ذلك معمولا لقول المضاف لأنه مصدر قال أبو البقاء : وهذا يخرج على قول الكوفيين في أعمال الأول وهو أصل ضعيف ويزداد هنا ضعفا بأن الثاني فعل والأول مصدر وإعمال الفعل لكونه أقوى أولى
سنكتب ما قالوا أي سنكتبه في صحائف الكتبة فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن إعتقاد أو إستهزاء بالقرآن ! وهو الظاهر ولذلك عطف عليه قوله تعالى : وقتلهم الأنبياء بغير حق إيذانا بأنهما في العظم إخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة أرتكبوها ومعصية أستباحوها وأن من أجترأ على قتل الأنبياء بغير حق في إعتقاده أيضا كما هو في نفس الأمر لم يستبعد منه أمثال هذا القول ونسبة القتل إلى هؤلاء القائلين بإعتبار الرضا بفعل القاتلين من أسلافهم وقيل : المعنى سنجمع ما قالوا وقتلهم الأنبياء في مقام العذاب ونجزيهما جزاءا مماثلا لتشاركهما في أن في كل منهما إبطالا لما جاء به المرسلون ولا يخفى أنه مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه
ونقول ذوقوا عذاب الحريق 181 أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب
والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعلكما قاله بعض المحققينوالذوقكما قال الراغبوجود الطعم في الفم وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له : أكل ثم أتسع فيه فأستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات وذكره هناكما قال ناصر الدينلأن العذاب مرتب على قولهم الناشيء عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال ولك أن تقول : إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وإتباع الأنبياء غصصا (4/141)
وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد وقيل : لهم ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون والقائل لهم ذلك كما قال الضحاكخزنة جهنم فالإسناد حينئذ مجازي وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبيء عن اليأس فقد قال الزجاج : ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى والقول للتشفي المنبيء عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها مالا يخفى أيضا من المبالغات وقرأ حمزة سيكتب بالياء والبناء للمفعول وقتلهم بالرفع ويقول يصيغة الغيبة ذلك إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى بأسم الإشارة مقرونا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بما قدمت أيديكم أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب وأن الله ليس بظلام للعبيد 281 عطف على ما قدمت فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسيءوإليه ذهب الفحول من المفسرينوتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله : وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب
وخلاصته المعارضة بطريق القياس الإستثنايي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببا له وأجيب بأن منشأ هذا الإعتراض عدم الفرق بين السبب والعلة الموجبة والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه
فالإستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا وأما قولهم في العدل المقتضى إلخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلى وطبعه وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الإثابة والمعاقبة على ما ينبيء عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي : سبقت رحمتي غضبي وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الإستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور حينئذ
لا يقال يحتمل أن يكون مبني ذلك الإعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول : إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه : وأن الله إلخ فنقول : حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الإستدلال بإنتفاء السبب على إنتفاء المسبب فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب كما قلناويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه ومن الناس من دفع الإعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب (4/142)
عليكم ولم يترك بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببا لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سببا لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الإعتراض وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا فإن دلالة الكلام على كون الظلم سببا لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبني كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كما يكون سببا لوجود المسبب يكون عدمه سببا لعدمهكما في طلوع الشمس ووجود النهارفالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببا لعدم التعذيب وقيل : إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بإنتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم
وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله : وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى إعتبار عدمه معه وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين إنتهى ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله : أن يعذبهم والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع إحتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لإحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعا وعقلا وقوله : للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة إلخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى إلخ ناشيء عن الغفلة عن مراده فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة إحتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي إلخ ناشيء عن الغفلة أيضا لأن الإحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الإعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم
فالقول بالإحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدا ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببا وههنا قيدا للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء أعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى
والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهروسليه ذهب من ذهبويجوز أن يجعلوإليه ذهب شيخ الإسلام أن وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة إعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ومن هنا يعلم الجواب عما قيل : إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل (4/143)
الظلم وكثرته بإعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في ظلام بإعتبار الكمية لا الكيفية وبأنه إذا إنتفى الظلم الكثير إنتفى القليل لأن من يظلم يظلم للإنتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا وبأن ظلام للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما فنفى اللازم لنفي الملزوم وأعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام الذين قالوا نصب أو رفع على الذم وجوز أن يكون في موضع جر على البدلية من نظيره المتقدم
والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا هذا القول : إن الله عهد إلينا أي أمرنا في التوراة وأوصانا ألا نؤمن أي بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة إلينا من قبل الله تعالى حتى يأتينا بقربان وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرهاكما قاله غير واحدوقريء بقربان بضمتين تأكله النار أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دوى والمراد من أكل النار للقربان إحالتها إلى طبعها بالإحراق وإستعماله في ذلك إما من باب الإستعارة أو المجاز المرسل وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعا في زمن الإنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم رد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : قل يامحمد لهؤلاء القائلين تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم قد جاءكم رسل كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم من قبلي بالبينات اي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم وبالذي قلتم بعينه وهو القربان الذي تأكله النار فلم قتلتموهم أي فمالكم لم تؤمنوا بهم حتى أجترأتم على قتلهم مع أنهم جاءوا بما قلتم مع معجزات أخر إن كنتم صادقين 381 أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما أقترحتموه والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان الفعل لإسلافهم لرضاهم بهعلى ما مر غير مرةوإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم والمعجزات تابعة للمصالح ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا : من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان والظاهر عدم ثبوت هذا الشرط أصلا فإن كذبوك فيما جئتهم به (4/144)
فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به والجملة جواب للشرط لكن بإعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته من تكذيب قومه واليهود له وأقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن : كذبوك فلا تحزن وتسل وجعل بعضهم الجواب محذوفا وهذا تعليلا له ومثله كثير في الكلام
وقال عصام الملة : لا حاجة إلى التأويل والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية ونظر فيه بأن التسليةعلى ما ذهب إليه الجمهورأتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاها وصريحا وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم شفاهي وصريح وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية وعليه يجوز في من أن تتعلق بكذبوأن تتعلق بمحذوف وقع صفةلرسلأي كائنة من قبلك
وعلى الثاني يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه : جاؤا بالبينات أي المعجزات الواضحات الباهرات والزبر جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته قاله الزجاج وقيل : الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته والكتاب المنير 481 أي الموضح أو الواضح المستنير
أخرج إبن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما أشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه : وإنه لفي زبر الأولين على وجه وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالإعتبار وهو واحد وقيل : المراد به التوراة والإنجيل والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع ووجه إفراد الكتاب بناءا على القول الأول ظاهر ولعل وجه إفراده بناءا على القول الثاني والثالث وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعددت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد
وقرأ إبن عامروبالزبربإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام
ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف بإعتبار أسمائها كألف ولام وبالزبر الحروف بإعتبار مسمياتها ورسمها كأب وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلاما
وأدعى أهل هذا القول : إن لكل من ذلك معاني وأسرارا لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة بإعتبار لفظها وبإعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وبإعتبار أسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف ولا يخفى أن هذا إصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه
والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر كل نفس ذائقة الموت أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم لأن تذكر الموت وإستحضاره مما يزيل (4/145)
الهموم والأشجان الدنيوية
وفي الخبر أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره وكذأ العلم بأن وراء هذه الدار دارا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى : فصعق من في السموات ومن في الأزض إلا من شاء الله وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدا وهل تدخل الملائكة في هذا العموم قولان والجمهور على دخولهم
فعن إبن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : كل من عليها فان قالت الملائكة : مات أهل الأرض فلما نزل كل نفس ذائقة الموت قالت الملائكة : متنا ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين
ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفيء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على الحرارة الكاف ورطوبة النون ولعلهم يفرقون بين موت وموت وقد أستدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر وقرأ اليزيدي ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت على الأصل وقرأ الأعمش ذائقة الموت بطرح التنوين مع النصب كما في قوله : فألفيته غير مستعتب ولا ذاكرا لله إلا قليلا وعلى القراءات الثلاث كل نفس مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم و ذائقة الخبر وأنث على معنى كل لأن كل نفس نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ كل جاز
وإنما توفون أجوركم أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة يوم القيامة أي وقت قيامكم من القبور فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة و في لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا القبر روضة من رياض الجنة أؤ حفرة من حفر من حفر النيران وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة
فمن زحزح عن النار أي بعد يومئذ عن نار جهنم وأصل الزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعجلة وقد أريد هنا المعنى اللازم وأدخل الجنة فقد فاز أي سعد ونجا قاله إبن عباس وأصل للفوز الظفر بالبغية وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة ونيل المراد ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد وفي الخبر لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله هذه الآية
وأخرج أحمد ومسلم عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر
وما الحياة الدنيا أي لذاتها وشهواتها وزينتها إلا متاع الغرور 581 المتاع ما يتمتع به وينتفع (4/146)
به مما يباع ويشتري وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند من أمعن النظر فيها : إذا أمتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وعن قتادة هي متاع متروك أو شكت والله أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن إستطعتم ولا قوة إلا بالله وعن علي كرم الله تعالى وجهه هي لين مسها قاتل سمها وقيل : الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ وفي الخبر نعم المال الصالح للرجل الصالح والغرور مصدر أو جمع غار لتبلون جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الإبتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر والخطاب للمؤمنين أو لهم معه وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على إحتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللاواء والإستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الإبتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد وقد يقال : أتى به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والإستعداد وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم وقيل : إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وإبتلاء وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها متاع الغرور ولعل الأول أولى كما لا يخفى والواو المضمومة ضمير الرفع ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية وإنما حركت هذه الواو دفعا للثقل الحاصل من إلتقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ولم تقلب الواو ألفا مع تركها وإنفتاح ما قبلها لعروض ذلك في أموالكم بالفرائض فيها والحوائج وأقتصر بعض على الثاني مدعيا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى والزكاة لا يليق نظمه في سلك الإبتلاء لما أنه من باب الإضعاف لا من قبيل الإتلاف وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه وعن الحسن الإقتصار على الأول والأولى القول بالعموم و في أنفسكم بالقتل والجراح والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم وشدة وقعه على الأسماع حيث أنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل : والتصريح بالقبلية إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين ومن الذين أشركوا وهم كفار العرب أذى كثيرا كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والإفتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين وإن تصبروا (4/147)
على تلك الشدائد عند ورودها وتتقوا أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه فإن ذلك إشارة إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحا على ما قيل أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما
وتوحيد حرف الخطاب إما بإعتبار كل واحد من المخاطبين إعتناءا بشأن المخاطب به وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير خصوصية أحوال المخاطبين من عزم الأمور 681 أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف العز أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمركما نقله الراغبوالأشهر عزمت على الأمر ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ومما يؤيد صحة النسبة أنه قريء فإذا عزمت بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها : نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة وقولهم : عزمات الله تعالىكما نقله الأزهريومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل : وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو نحوهما فإن ذلك إلخ وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشرت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحرث إبن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبدالله بن أبيوذلك قبل أن يسلم عبدالله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبة الأوثان واليهودوفي المجلس عبدالله بن رواحة فلما غشى المجلس عجاجة الدابة خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبدالله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا أرجع إلى رحلك فمن جاءك فأقصص عليه وقال عبدالله بن رواحة : بلى يارسول الله فأغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك وأستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل البني صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : ياسعد ألم تسمع ما قال أبو حبابيريد عبدالله بن أبيقال : كذا وكذا فقال سعد : يارسول الله أعف عنه وأصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك وقد أصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله فأنزل الله تعالى الآية (4/148)
وروى الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى فأمر الله تعالى نبيه بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى ولتسمعن الآية
وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي ويشبب بنساء المؤمنين فقال : من لي بإبن الأشرف فقال محمد بن مسلمة : أنا يارسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي آخر الليل وهو قائم يصلي ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلا وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصةوإليه ذهب إبن جبيروهو المروى عن إبن عباس من طريق عكرمة وإما ما يشملهم وأحبار النصارىوهو المروى عنه من طريق علقمةوإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب مبالغة في تقبيح حالهم وقيل : رمزا إلى أن أخذ الميثاق كان في كتابهم الذي أوتوه وروى سعيد بن جبير أن أصحاب عبدالله يقرؤنوإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم لتبيننه للناس جواب ميثاق لتضمنه معنى القسم والضمير للكتاب أي بالله لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المقصود بالحكاية وظاهر كلام السدي وإبن جبير أن الضمير لمحمد وإن لم يصرح بأسمه الشريف عليه الصلاة و السلام
وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية إبن عياش ليبيننه بياء الغيبة وقد قرر علماء العربية أنك إذا أخبرت عن يمين حلف بها فلك في ذلك ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون بلفظ الغائب كأنك تخبر عن شيء كان تقول : أستحلفته ليقومن الثاني أن تأتي بلفظ الحاضر تريد اللفظ الذي قيل له فتقول : إستحلفته لتقومن كأنك قلت : قلت له : لتقومن الثالث أن تأتي بلفظ المتكلم فتقول : إستحلفته لأقومن ومنه قوله تعالى : تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله بالنون والياء والتاء ولو كان تقاسموا أمرا لم يجيء فيه الياء التحتية لأنه ليس بغائب قاله بعض المحققين ولا تكتمونه عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا وقال أبو البقاء : إكتفاء بالتوكيد في الفعل الأول
وجوز أن يكون حالا من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وإما على رأي من يجوز دخول الواو على المضارع المنفي عند وقوعه حالا أي لتظهرنه غير كاتمين والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان للمبالغة في إيجاب المأمور بهكما ذهب إليه غير واحدأو لأن المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته وبالكتمان المنهي عنه إلغاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة كما قيل
وأخرج إبن جرير عن الحسن أنه كان يفسر لتبيننه للناس ولا تكتمونه بقوله لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل وأمر النهي بعد الأمر على هذا ظاهر أيضا ولعل الكلام عليه أفيد
وقرأ إبن كثير ومن معه ولا يكتمونه بالياء كما في سابقه فنبذوه أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق وراء ظهورهم ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلا فإن النبذ وراء الظهر تمثيل وإستعارة لترك الإعتداد وعدم (4/149)
الإلتفات وعكسه جعل الشيء نصب العين ومقابلها وأشتروا به أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه وقيل : الضمير للعهد والأول أولى والمعنى أخذوا بدله ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية وأغراضها الفاسدة فبئس ما يشترون 781 أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فما نكرو منصوبة مفسرة لفاعل بئسوجملة يشترونه صفته والمخصوص بالذم محذوف وقيل : ما مصدرية فاعلبئسوالمخصوص محذوف أي بئس شراؤهم هذا الشراء لإستحقاقهم به العذاب الأليم وأستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم وإستجلاب لمسارهم وإستجذاب لمبارهم ونحو ذلك وفي الخبر من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني فقال : أما علمت أني تركت الحديث فقلت : إما إن تحدثني وإما أن أحدثك فقال : حدثني فقلت : حدثني الحكم إبن عيينة عن نجم الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول : ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية
وأخرج إبن سعد عن الحسن لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه ويؤيد الإستدلال بالآية على ماذكر ماأخرجه إبن جرير عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيهم عبدالله بن مسعود فقال : إن كعبا يقرئكم السلام ويبشركم أن هذه الآية وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلخ ليست فيكم فقال له عبدالله وأنت فأقرئه السلام أنها نزلتوهو يهودي وأراد إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أن كعبا لم يعرف ماأشارت إليه وإن نزلت في أهل الكتاب لا تحسبن خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب أي لا تظنن
الذين يفرحون بما أتوا أي بما فعلوا وبه قرأ أبي وقريء بما آتوا و بما أوتوا وروى الثاني عن علي كرم الله تعالى وجهه ويحبون أن يحمدوا أي أن يحمدهم الناس وقيل : المسلمون وقيل : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما لم يفعلوا قال إبن عباس فيما أخرجه عنه إبن أبي حاتم من طريق العوفي : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الخحق وحرفوا الكلام عن مواضعه وفرحوا بذلك وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام وفي رواية البخاري وغيره عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه وأستحدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه وأخرج إبن جرير عن سعيد إبن جبير أنهم يفرحون بكتمانهم صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي نطق بها كتابهم ويحبون أن يحمدوا بأنهم متبعون دين إبراهيم عليه السلام فعلى هذا يكون الموصول عبارة عن المذكورين سابقا الذين أخذ ميثاقكم وقد وضع موضع ضميرهم وسبقت الجملة لبيان ما يستتبع أعمالهم المحكية من العذاب (4/150)
إثر بيان قباحتها وفي ذلك من التسلية أيضا ما لا يخفى وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وفضائحهم وهو إصرارهم على القبيح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وأخرج سبحانه بذلك مخرج المعلوم إيذانا بشهرة إتصافهم به وقيل : إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي ف شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا قدم رسول الله من الغزو أعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية وروى مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت وغيرهما وقيل : المراد بهؤلاء المنافقون كافة وقد كان أكثرهم من اليهود
وأدعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين إنتظاما أوليا على أنه قد أعترض بأن إنتظام المعهودين مطلقا فضلا عن كونه أوليا غير مسلم إلا إذا عمم ما في بما أتوا بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الإنتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى ولعل الأمر في هذا سهل نعم يزيده بعدا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبدالرحمن أن مروان قال لبوابه : أذهب يارافع إلى إبن عباس فقل : لئن كان كل أمريء منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال إبن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلى آخر الآيتين فإنه لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه خبر الأمة وترجمان القرآن وأزال الإشكال بتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآيةكما قيلوهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلا ليكون ذلك قولا بعدم الحرمة كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر ! فليفهم وأيا ما كان فالموصول مفعول أوللتحسينوقوله تعالى : فلا تحسبنهم تأكيد له والعربكما قال الزجاجإذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول وتوكيد له فتقول : لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا والفاء زائدة كما في قوله :
فإذا هلكت فعند ذلك فأجزعي
والمفعول الثاني في قوله سبحانه : بمفازة من العذاب أي متلبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز والتاء ليست للوحدة لبناء المصدر عليه و من العذاب متعلق به وجوز أن تكون المفازة أسم مكان أي محل فوز ونجاة (4/151)
وأن يستعار من المفازة للقفر وحينئذ يكون من العذاب صفة له لأن أسم المكان لا يعمل ولا بد من تقدير المتعلق خاصا أي منجية من العذاب وتقديره عاماأي بمفازة كائنة من العذابغير صحيح لأن المفازة ليست من العذاب وأعترض بأن تقديره خاصا مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه وقريء بضم الباء الموحدة في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا وبياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة و السلام أو لكل من يتأتى منه الحسبان ومفعولاه في القراءتين كما ذكر من قبل
وقرأ أبو عمرو وإبن كثير بالياء وفتح الباء في الفعل الأول وبالياء وضم الباء في الفعل الثاني على أن فاعل لا يحسبن الذين بعده ومفعولاه محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤلآكده وفاعل مؤكده ضمير الموصول ومفعولاه ضميرهم و بمفازة أي لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة
ويجوز أن يكون المفعول الأولللايحسبنمحذوفا والمفعول الثاني مذكورا أي أعني بمفازة أن لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم فائزين وقوله تعالى : فلا يحسبنهم مؤكد والفاء زائدة كما مر وأن يكون كلا مفعولي لا يحسبن مذكورا الأول ضميرهم المتصل بالفعل الثاني والثاني بمفازة وهو مبني على جعل التأكيد هو الفعل والفاعل فقط على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور سابقا سواهما ورد بأن فيه إتصال ضمير المفعول بغير عامله أو فاعله المتصل بعامله ولم يقل به أحد من النحاة وإن كان فيه تحاش عن الحذف في هذا الباب وفيه نظر إذ قد صرح كثير بجواز ذلك وقد أفردت هذه المسألة بالتدوين وجوز أيضا أن يكون الفعل الأول مسندا إلى ضمير النبي أو كل حاسب والمفعول الأول الموصول والمفعولي الثاني محذوفا لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسندا إلى الضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه الصلاة و السلام أو عدم حسبان كل ما حاسب ومفعولاه الضمير المنصوب و بمفازة وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبني فرحهم وأما نهيه فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لإحتمال وقوع الحسبان من جهته
وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب ولهم عذاب أليم 881 بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الأسمية والتنكير التفخيمي والوصف
وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح
ولله ملك السموات والأرض تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة تعذيبا وإثابة ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لاراد له عما أراد بهم والله على كل شيء قدير 981 تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى إستقلال كل من الجملتين بالتقرير وقيل : مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق إن الله فقير ونحن أغنياء (4/152)
وضعف بالبعد ولو قيل : وفيه رد لهان الأمر
هذا ومن باب الإشارة في الآيات ولا يحزنك لتوقع الضرر أو لشدة الغيرة الذين يسارعون في الكفر لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية إنهم لن يضروا الله شيئا فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع يريد الله إظهارا لصفة قهره أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار إن الذين أشتروا الكفر وأخذوه بالإيمان بدله لقبح إستعدادهم وسوء إختيارهم الغير المجعول لن يضروا الله شيئا ولكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال ولهم عذاب أليم لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ونزيد في مددهم خير لأنفسهم ينتفعون به في القرب إلينا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بسبب ذلك لأزديادهم حجابا على حجاب وبعدا على بعد ولهم عذاب مهين لفرط بعدهم عن منبع العز ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان حتى يميز الخبيث من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى من الطيب وهو صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدة الروح ومناغاة السر ومسامراته وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم وما كان الله ليطلعكم على الغيب أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وإنتفاء إستعداد التلقي منه سبحانه ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه فآمنوا بالله ورسله بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم وإن تؤمنوا بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة وتتقوا الحجب والموانع فلكم أجر عظيم من كشف الحقيقة وقد يقال : إن لله تعالى غيوبا غيب الظاهر وغيب الباطن وغيب الغيب وسر الغيب وغيب السر فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال وسر الغيب هو نور الذات في الصفة وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والإطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم وأما الإطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلا فإن الأزلية منزهة عن إدراك وخاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وإبتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله من المال أو العلم أو القدرة أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين أو المستعدين أو الأنبياء والصديقين في الذب عنهم أو في الفناء في الله تعلى هو خيرا لهم بل هو شر لهم لإحتجابهم به سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى : ولله ميراث السموات والأرض وقد ذكر بعض العارفين إن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال : إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين والسخاء بالنفس وصف المحبين وبالروح وصف العارفين
وقال إبن عطاء : السخاء بذل النفس والسر والروح والكل ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقى (4/153)
معه ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وهم اليهود حيث سمعوا الإستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة وإستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الإرتداء برداء الربوبية ومن هنا تقول : أنا ربكم الأعلى أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قيل : إنه روى أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل أعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فأقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا فأقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك حتى تأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عزوجل فتأكلها نار المحبة قل ياوارد الحق قد جاءكم رسل من قبلي أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة وبالذي قلتم وهو جعل الدنيا وما فيها قربانا فلم قتلتموهم أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات إن كنتم صادقين في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك فإن كذبوك خطاب للرسول الأعظم فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات للعوام والزبر للمتوسطين والكتاب المنير للخواص ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني إلى توحيد الصفات والثالث إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى : الله نور السموات والأرض ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة كل نفس ذائقة الموت حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى ثم توفون أجوركم على إختلافها يوم القيامة فمن زحزح عن النار أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة وأدخل الجنة المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة أو الجنة بالمعنى الأعم فقد فاز وما الحياة الدنيا ولذاتها الفانية إلا متاع الغرور لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي لتبلون لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها
وقال بعض العارفين : إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال إبتلاءا وإمتحانا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل : أنا الحق ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زنية الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة ومن نظر إلى نفسه من حيث أنها نفسه وأغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى أنا ربكم الأعلى ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهذا وجه الإبتلاء بالأموال والأنفس وأي إبتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الإلتباس ولتسمعن من الذين (4/154)
أوتوا الكتاب من قبلكم وهم أهل مقام الجمع ومن الذين أشركوا وهم أهل مقام الجمع ومن الذين أشركوا وهم أهل الكثرة أذى كثيرا لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع وإن تصبروا على مجاهدة أنفسكم وتتقوا النظر إلى الأغيار فإن ذلك من عزم الأمور أي من الأمور المطلوبة التي تجر إلى المقصود والفوز بالمطلوب وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد من الذين أوتوا الكتاب آنفا ومن حمله عليه تكلف جدا فلعله باق على ظاهره أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقا وضمير فنبذوه وراء ظهورهم إلخ راجع إليهم بإعتبار البعض فتدبر ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته ويحبون أن يحمدوا أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس أو أن يكونوا محمودين عند الله بما لم يفعلوا بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم وهو عذاب الحرمان والحجاب ولله ملك السموات والأرض ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما أشتملنا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر والله على كل شيء قدير لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته إن في خلق السموات والأرض تأكيد لما قبله وإقامة دليل عليه ولذا لم يعطف وأتى بكلمة إن إعتناءا بتحقق مضمون الجملة أي إن في إيجادهما وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب والبدائع وأختلاف الليل والنهار أي تعاقبها ومجيء كل منهما خلف الآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لسباحتها في بحر قدرته سبحانه حسب إرادته وخبر الخرزتين خارج عن سلك القبول وبفرض نظمه فيه مؤل وثقب التأويل واسع وكون ذلك تابعا لحركة السموات وسكون الأرضكما قاله مولانا شيخ الإسلاممخالف لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من المحدثين وغيرهم من سكون السموات وتحرك النجوم أنفسها بتقدير الله تعالى العليم وما ذهب إليه هو مذهب الحكماء المشهور بين الناس وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره ما يخالفه أيضا حيث قال : إن الله سبحانه جعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما تسبح بها وجعل لها في سباحتها حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها تسير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية وجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبا ممكنا في حكم العقل وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح الجسم وكل ما قالوه يعطيه ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ونحوه وقالوا : إن السموات كالأكر وأن الأرض في جوفها وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان غيره وهم مصيبون في الأوزان مخطئون في أن الأمر كما رتبوه فليس الأمر إلا على ما ذكرناه شهودا إنتهى
ويؤيد دعوى أنه يجوز في الإمكان غيره ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين (4/155)
بزعمهم وبنوا عليه الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك فهذا يشعر بأنه لا قطع فيما ذهب إليه أصحاب الهيئة ويحتمل أن يراد بإختلاف الليل والنهار تفاوتهما بإزدياد كل منهما بإنتقاص الآخر وإنتقاصه بإزدياده بإختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في إختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من قطب الشمال أيامها الصيفية أطول وليالها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وإما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك وهذا مما لا شبهة فيه عند كثير من الناس وذكره شيخ الإسلام أضاوليس بالبعيدبل إختلاف الأوقات في الأماكن مشاهد محسوس لا يختلف فيه إثنان إلا أن في كرية الأرض إختلافا فقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى بعد أن خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس خلق الأرض سبع طبقات وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء فلما تم خلقها وقدر فيها أقواتها وأكتسى الهواء صورة البخار الذي هو الدخان فتق ذلك الدخان سبع سموات طباقا وأجساما شفافة وجعلها على الأرضين كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة وكرة الأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها وجعل في كل سماء من هذه واحدة من الجواري على الترتيب المعروف إنتهى والقلب يميل إلى الكرية والله لا يستحيي من الحق وما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره أمر شهودي وفيه الموافق والمخالف لما ذهب إليه معظم المحدثين وأكثر علماء الدين
والذي قطع به بعض المحققين أنه لم يجيء في الأحاديث الصحيحة المرفوعة ما يفصل أمر السموات والأرض أتم تفصيل إذ ليست المسألة من المهمات في نظر الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم والمهم في نظره منها واضح لا مرية فيه وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء والليل واحد بمعنى جمع وواحده ليلة مثل تمرة وتمر وقد جمع على ليال فزادوا فيها الياء على غير قياس ونظيره أهل وأهال ويقال : كان الأصل فيها ليلاة فحذفت لأن تصغيرها لييلية كذا في الصحاح وصحح غير واحد أنه مفرد ولا يحفظ له جمع وأن القول بأنه جمع والليالي جمع جمع غير مرضي فأفهم وقد تقدم الكلام مستوفي في الليل والنهار ووجه تقديم الأول على الثاني
لآيات أي دلالات على وحدة الله تعالى وكمال علمه وقدرته وهو أسم إن وقد دخله اللام لتأخره عن خبرها والتنوين فيه للتفخيم كما وكيفا أي آيات كثيرة عظيمة وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة قيل : وفي ذلك رمز إلى أن الآيات الظاهرة وإن كانت كثيرة في نفسها إلا أنها قليلة في جنب ما خفى منها في خزائن العلم ومكامن الغيب ولم يظهر بعد لأولي الألباب أي لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الحس والوهم ومنه خبر إن الله تعالى منع مني بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في ألباب الإبل أي خالص إبلهم وكرائمها ويقال : لب يلب كعض يعض إذا صار لبيبا وهي لغة أهل الحجاز وأهل نجد يقولون : لب يلب كفر يفر ويقال : لبب الرجل بالكسر يلب بالفتح إذا صار ذالب وحكى لبب بالضم وهو نادر لا نظير له في المضاعف
ووجه دلالة المذكورات على وحدته تعالى أنها تدل على وجود الصانع لتغيرها المستلزم لحدوثها وإستنادها إلى مؤثر قديم ومتى دلت على ذلك لزم منه الوحدة ووجه دلالتها على ما بعد أنها في غاية الإتقان ونهاية الأحكام (4/156)
لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى وللمتكلمين في الإستدلال على وجود الصانع بمثل هذه المذكورات طريقان : أحدهما طريق التغير والثاني طريق الإمكان والأكثرون على ترجيح الثاني والبحث مفصل في موضعه
وإنما أقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض وإلى الثالثة بإختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم وقال ناصر الدين : لعل ذلك لأن مناط الإستدلال هو التغير وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الإفلاك بتبدل أوضاعها وأعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولي والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لماذكر في تلك السورة من أن المقصود ههنا بيان إستبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فأكتفى بها وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان إختصاصه تعالى بالألوهية بيان إتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته
ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ماأخرجه الطبراني وإبن مردويه وغيرهما عن إبن عباس أنه قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيبسى فيكم قالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي أدع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت : إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وأخرج إبن حبان في صحيحه وإبن عساكر وغيرهما عن عطاء قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا ! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت : يارسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة إن في خلق السموات والأرض إلى قوله سبحانه : فقنا عذاب النار ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إن في خلق السموات الآية
وأخرج الشيخان وأبو داؤد والنسائي وغيرهم عن إبن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إنتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم أستيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم في موضع جر على أنه نعت لأولى ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون ربنا آمنا بعيد لما فيه من تفكيك (4/157)
النظم ويزيده بعدا ماأخرجه الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب قالوا : أي أولي الألباب تريد قال : الذين يذكرون الله قياما وقعودا إلخ عقد لهم لواء فأتبع القوم لواءهم وقال لهم أدخلوها خالدين والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل وإليه ذهب كثير وعد إبن جريج قراءة القرآن ذكرا فلا تكره للمضطجع القادر نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم وقال بعض المحققين : المراد به ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه ذكر اللسان أولا والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم بإطمئنان قلبوهم بذكره وأستغراق سرائرهم في مراقبته وعليه فيحمل ما حكى عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى يذكرون الله قياما وقعودا فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لأضطجعوا وذكروا أيضا ليتم التفسير وتحقيق المصداق
وأخرج إبن أبي حاتم والطبراني من طريق جوبير عن الضحاك عن إبن مسعود في الآية أنه قال : إنما هذا في الصلاة إذا لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب وكذلك أمر عمران بن حصين وكانت به بواسير كما أخرجه البخاري عنهوبهذا الخبر أحتج الإمام الشافعي رضضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقادم بدنه ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنفية رضي الله تعالى عنه وجعل الآية حجة على ذلك بناءا على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل وتخصيص إبن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه
والقيام والقعود جمع قائم وقاعد كنيام ورقود جمع نائم وراقد وإنتصابهما على الحالية من ضمير الفاعل في يذكرون ويحتمل أن يكونا مصدرين مؤلين بقائمين وقاعدين لتتأتى الحالية وقوله تعالى : وعلى جنوبهم متعلق بمحذوف معطوف على الحال أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين وجوز أن يقدر المتعلق المعطوف خاصا أي ومضطجعين على جنوبهم والمراد من ذكر هذه الأحوال الإشارة إلى الدوام وإنفهامه منها عرفا مما لا شبهة فيه وليس المراد الدوام الحقيقي لإستحالته بل في غالب أحوالهم وبعضهم يأخذ الدوام من المضارع الدال على الإستمرار وكيفما كان فالمراد يذكرون الله تعالى كثيرا ويتفكرون في خلق السموات والأرض عطف على يذكرون وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الإعتراف بالعبودية والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر وفي الأول إشارة إلى عبودية الثاني وفي الثاني إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح وفي بيان العبودية بعد الفراغ منآيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف وقيل : قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني وصرح مولانا شيخ الإسلام بأن (4/158)
هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعز سلطانه وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبدالله بن سلام قال : خرج رسول الله على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق
وعن عمرو بن مرة قال : مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق وعن إبن عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى وعن إبن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالىإلى غير ذلكففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر وقيل : قدم الذكر على الدوام على التفكر للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شر له وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال والخلقإما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال ويجرهم ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن إبن عباس قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة وأخرج إبن سعد عن أبي الدرداء مثله وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم أن لك ربا وخالقا اللهم أغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له وأخرج إبن المنذر عن عون قال : سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء قالت : التفكر والإعتبار
وأخرج إبن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال : سمعت غير واحدلا إثنين ولا ثلاثةمن أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمانأو نور الإيمانالتفكر وأقتصر سبحانه على ذكر التفكر في خلق السموات والأرض ولم يتعرض جل شأنه لإدراج إختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا تفكر ساعة في إختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنةإما للإيذان بظهور إندراج ذلك فيما ذكر لما أن الإختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ماأشير إليه وإما للإشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب
ربنا ما خلقت هذا باطلا الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما بإعتبار تعلق الخلق بهما في معنى (4/159)
المخلوق أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق وقيل : إليهما بإعتبار المتفكر فيه وعلى كل فأمر الأفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى أسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتني بكمال تمييزها إستعظاما لها ونظير ذلك قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو مالا فائدة فيه يعتد بها أو مالا يقصد به فائدة وقيل : الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا أو حال من المفعول
والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبيء عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك
والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون ربنا إلخ وجملة القول حال من المستكن في يتفكرون أي يتفكرون في ذلك قائلين ربنا ما خلقت هذا باطلا وإلى هذا ذهب عامة المفسرين
وأعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن ما في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادي الحكم الذي أجرى على الموصول ودواعي ثبوته له كذكركم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى إجتلاء تلك الآيات والإستدلال بها على المطلوب ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مباديء الإستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه فإعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل فاللائق أن تكون جملة القول إستئنافا مبينا لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئا مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة في خلق العالمبأولى الألبابثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في مجال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل : فماذا يكون عند تفكرهم في ذلك وما يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبيء عن وقوفهم على سر الخلق المؤدي إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وهذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا الأولى وأما على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا فتأتي الحالية من ذلك إذ لا إشتباه في أن قولهم هذا من مبادي مدحهم ومحاسن مناقبهم ويكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تردد وتلعثم في ذلك إنتهى وهو كلام تلوح عليه أمارات التحقيق ومخايل التدقيق
والقول بأن الحالية تجتمع مع كون القول المذكور من النتائج لا يخفى ما فيه ثم كون هذا القول من نتائج التفكر مما لا يكاد ينكره ذو فكر وتوضيح ذلكعلى رأيأن القوم لما تفكروا في مخلوقاته سبحانه ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم والأرض وما عليها من البحار والجبال والمعادن عرفوا أن لها ربا وصانعا فقالوا : ربنا ثم لما أعترفوا في أن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيلها الأفكار قالوا : ما خلقت هذا باطلا ثم لما تأملوا وقاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها رأوا أنه لابد وأن يكون الصانع منزها عن مشابهة شيء منها فإذن هو ليس بجسم ولا عرض ولا في حيز ولا بمفتقر ولا ولا فقالوا : سبحانك أي تنزيها لك مما لا يليق بك ثم لما أستغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم (4/160)
وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه وأتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب إستحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقالبية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا : فقنا عذاب النار 191 أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالإستعاذة من النار على ما دل عليه ربنا ما خلقت هذا باطلا من وجوب الطاعة وإجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك فقنا عذاب النار التي هي جزاء من عصاك و سبحانك مصدر منصوب بفعل محذوف والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه
وبعضهم قال : بهذا التأكيد ولم يقل بالإعتراض وجعل ما بعد الفاء مترتبا على اتنزيه المدلول عليه بسبحانك وأدعى أنه الأظهر لإندراج تنزهه تعالى عن رد سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين وقيل : إنه جواب شرط مقدر وأن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا وأستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولى الألباب الذين رضى قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه خلقا وإيجاداوفيه نظرلأن الأشياء كلها سواء من حيث أنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وتفاوتها إنما هو بإعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا بإعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها فالقبائح من حيث أنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو مالا فائدة فيه مطلقا أو مالا فائدة فيه يعتد بها أو مالا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لإشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد وتسميتها قبائح إنما هي بإعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك أنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الإستعداد الأزلي فدعوىأن هذه الأشياء كلها باطلةباطلة كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال وأستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الإستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة وأحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها وإتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الإستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص وناقشهم المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها (4/161)
وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي إستناد الكل إلى مسبب الأسباب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال وإعتقاده كفر وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر من قال : أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب ومن قال : أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب فليحفظ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته مبالغة في إستدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الإحسان كما يشعر به لفظ الرب وعن إبن عباس أنه كان يقول : أسم الله تعالى الأكبر رب رب والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة والإيذان بشدة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل وذكر الإدخال في موراد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاءكما قال الواحديجاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال : أخزى الله تعالى العدو أي أبعده وقيل : أهانه وقيل : فضحه وقيل : أهلكه ونقل هذا عن المفضل وقيل : أحله محلا وأوقفه موقفا يستحي منه
وقال إبن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بإنقطاع حجة أو بوقوع في بلاء والمراد فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه ومن القواعد المقررة انه إذا جعل الجزاء أمرا ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك أو بالإستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة ولهذا قيد الخزي بما قيد وأحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناءا على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار وجعل الثاني شرطا والأول جزاءا والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكسكما قال الإمام الرازيوأيضا المفهوم من قوله تعالى : وقنا عذاب النار طلب الوقاية منه وقوله سبحانه : ربنا إلخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منهكما قاله بعض المحققينوأحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى فقد أخزاه والمؤمن لا يخزي لقوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخزيا أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك وأيضا الآية ليست عامة لقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين أتقوا فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار وهو المروى عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وإبن جريج
وأيضا يمكن أن يقال : إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج وقوله تعالى : يوم لا يخزي إلخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفي الخزي المخلد وأيضا يحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني وحينئذ لا يلزم التنافي وأحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله سبحانه : وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا والمؤمن لا يخزي لقوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي إلخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية وأجيب بمنع المقدمات بأسرها (4/162)
أما الأولى فبإحتمال أن لايسعى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبل مومنا وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا وما للظالمين من أنصار 291 اي ليس لكل منهم ناصر ينصره ويخلصه مما هو فيه والجملة تذييل لإظهار فظاعة حالهم وفيه تأكيد للإستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم وتمسكت المعتزلة بنفي الأنصار على نفي الشفاعة لسائر المدخلين وأجيب بأن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون وقيل : نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة والشافعة تخليص بخضوع وتضرع وله وجه والقول : بأن العرف لا يساعده غير متجه
وقال في الكشف : الظاهر من الآية أن من دخل النار لا ناصر له من دخولها أما إنه لا ناصر له من الخروج بعد الدخول فلا وذلك لأنه عام في نفي الإفراد مهمل بحسب الأوقات والظاهر التقييد بما يطلب النصر أولا لأجله كمن أخذ يعاقب فقلت : ماله من ناصر لم يفهم منه أن العقاب لا ينتهي بنفسه وأنه بعد العقاب لم يشفع بل فهم منه لم يمنعه أحد مما حل به ثم إن سلم التساوي لم يدل على النفي وأجاب غير واحد على تقدير عموم الظالم وعدم الفرق بين النصر والشفاعة بأن الأدلة الدالة على الشفاعة وهي أكثر من أن تحصى مخصصة للعموم وقد تقدم ما ينفعك هنا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان على معنى القول ايضا وهو كما قال شيخ الإسلام : حكاية لدعاء آخر مبني على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبني على تفكرهم في الأدلة القطعية ولا يخفى أن ذلك التفكر مستدع في الجملة لهذا القول وفي تصدير مقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والإبتهال إلى معود الإحسان والإفضال وفي التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بوفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط والمراد بالمنادي رسول الله وهو المروى عن إبن مسعود وإبن عباس وإبن جريجوأختاره الجبائي وغيره
وقيل : المراد به القرآن وهو المحكي عن محمد بن كعب القرظي وقتادة وأختاره الطبري معلالا ذلك بأنه ليس يسمع كل واحد النبي ولا يراه والقرآن ظاهر باق على ممر الأيام والدهور يسمعه من أدرك عصر نزوله ومن لم يدرك ولأهل القول الأول أن يقولوا : من بلغه بعثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته جاز له أن يقول : سمعنا مناديا وإن كان فيه ضرب من التجوز وأيضا المراد بالنداء الدعاء ونسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أشهر وأظهر فقد قال تعالى : أدع إلى سبيل ربك أدعوا إلى الله وداعيا إلى الله وهي إليه عليه الصلاة و السلام حقيقة وإلى القرآن على حد قوله : تناديك أجداث وهن صموت وسكانها تحت التراب سكوت والتنوين في المنادي للتفخيم وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال إعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت وقد كان شأنه الرفيع في الخطب ذلك الرفع حقيقة ففي الخبر كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب أحمرت عيناه وعلا صوته وأشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم ولما كان النداء مخصوصا بما يؤدي له ومنتهيا إليه تعدى باللام وإلى تارة وتارة فاللام في للإيمان على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى أو الباء ولا إلى جعلها بمعنى العلةكما ذهب إليه البعض وجملة ينادي في موضع المفعول الثانيلسمععلى ما ذهب إليه الأخفش وكثير من النحاة من تعدىسمعهذه إلى مفعولين ولا حذف في الكلام وذهب الجمهور إلى أنها لا تتعدى إلا إلى واحد وأختاره إبن الحاجب قال (4/163)
في أماليه : وقد يتوهم أن السماع متعد إلى مفعولين من جهة المعنى والإستعمال أما المعنى فلتوقفه على مسموع وأما الإستعمال فلقولهم : سمعت زيدا يقول ذلك وسمعته قائلا وقوله تعالى : هل يسمعونكم إذ تدعون ولا وجه له لأنه يكفي في تعلقه المسموع دون المسموع منه وإنما المسموع منه كالمشموم منه فكما أن الشم لا يتعدى إلا إلى واحد فكذلك السماع فهو مما حذف فيه المضاف وأقيم الماضاف إليه مقامه للعلم به ويذكر بعده حال تبينه ويقدر في يسمعونكم إذ تدعون يسمعون أصواتكم إنتهى والزمخشري جعل المسموع صفة بعد النكرة وحالا بعد المعرفة وهو الظاهر وأدعى بعض المحققين أن الأوفق بالمعنى فيما جعله حالا أو وصفا أن يحمل بدلا بتأويل الفعل بالمصدر على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الإستعمال فلذا أوتثرت الوصفية أو الحالية
وزعم بعضهم أن السماع إذا وقع على غير الصوت فلا بد أن يذكر بعده فعل مضارع يدل على الصوت ولا يجوز غيرهوهو غير صحيحلوقوع الظرف وأسم الفاعل كما سمعته وفي تعليق السماع بالذات مبالغة في تحقيقه والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم وفي إلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه : مناديا ولم يذكر ما دعى له ثم قوله عز شأنه بعد : ينادي للإيمان مالا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادي له ولو قيل من أول الأمر مناديا للإيمان لم يكن بهذه المثابة وحذف المفعول الصريح ليناديإيذانا بالعموم أي ينادي كل واحد أن آمنوا بربكم أي أن آمنوا به على أن أن تفسيرية أو بأن آمنواعلى أنها مصدرية وعلى الأول فآمنوا تفسير لينادي لأن نداءه عين قوله : آمنوا والتقدير ينادي للإيمان أي يقول : آمنوا وليس تفسيرا للإيمان كما توهم وعلى الثاني يكونبأن آمنوامتعلقا ب ينادي لأنه المنادى به وليس بدلا من الإيمانكما زعمه البعضومن المحققين من أقتصر على إحتمال المصدرية لما أن كثيرا من النحاة يأبى التفسيرية لما فيها من التكلف ومن أختارها قال : إن المصدرية تستدعي التأويل بالمصدر وهو مفوت لمعنى الطلب المقصود من الكلام
وأجيب بأنه يقدر الطلب في التاويل إذا كانت داخلة على الأمر وكذا يقدر ما يناسب الماضي والمستقبل ذا كانت داخلة عليهما ولا ينبغي أن يجعل الحاصل من الكل بمجرد معنى المصدر لئلا يفوت المقصود من الأمر وأخويه وفي التعرض لعنوان الربوبية إشارة إلى بعض الأدلة عليه سبحانه وتعالى ورمز إلى نعمته جل وعلا على المخاطبين ليذكروها فيسارعوا إلى إمتثال الأمر وفي إطلاق الإيمان ثم تققيده تفخيم لشأنه فآمنا عطف على سمعنا والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة والمعنى فآمنا بربنا لما دعينا إلى ذلك قال أبو منصور : فيه دليل على بطلان الإستثناء في الإيمان ولا يخفى بعده ربنا تكريركما قيلللتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للإعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به فأغفر لنا مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فأستر لنا ذنوبنا أي كبائرنا وكفر عنا سيئاتنا أي صغائرنا وقيل : المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ومن السيئات ما تأخر منها وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية والثاني ما أتى به من الجهل بذلك والأول هو التفسير المأثور عن إبن عباس
وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل فأستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم ولذلك تسمى تبعة إعتبارا بما يتبعها من العقاب كما صرح به الراغب وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى (4/164)
والتكفير قد يستعمل في فعل العبدكما يقال : كفر عن يمينهوهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه إنما يقتضي مجرد الأخفية وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد
وقيل : في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة وقيل : إنه كثيرا ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك وفي ذكر لنا و عنا في الآية مع أنه لو قيل : فأغفر قلوبنا وكفر سيئاتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين وأدعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للإجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتفكير الصغائر وأنت تعلم أن المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة وأن بعضهم أحتج بهذه الآية على ذلك حيث أنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل وسيأتي تحقيق ما فيه فتدبر وتوفنا مع الأبرار اي مخصوصين بالإنخراط في سلكهم والعد من زمرتهم ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل ومن يموت بعد وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه
والأبرار جمع بر كأرباب جمع رب وقيل : جمع بار كأصحاب جمع صاحب وضعف بأن فاعلا لا يجمع على أفعال وأصحاب جمع صحب بالسكون أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف
وبعض أهل العربية أثبته وجعله نادرا ونكتة قولهم مع الأبرار دون أبرارا التذلل وأن المراد لسنا بأبرار فأسلكنا معهم وأجعلنا من أتباعهم وفي الكشف إن في ذلك هضما للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب هو من العلماء بدل عالم ربنا وآتنا أي بعد التوفي ما وعدتنا أي به أو إياه والمراد بذلك الثواب على رسلك إما متعلق بالوعد أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول وعدتنا على تصديق أو إمتثال رسلك وهو كما يقالوعد الله تعالى الجنة على الطاعة وعلى الثاني وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضا فتخف مؤنة الحذف وتعلقه باتنا كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر
وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من ما أي منزلا أو محمولا على رسلك
وأعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونا مقيدا لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا وأيضا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد وأجيب بمنع إنحصار التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه
وزعم بعضهم جواز كون على بمعنى مع وأنه متعلقباتناولا حذف لشيءأصلا والمرادآتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنافإن الدال على الخير كفاعله وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه بل ولا كلام أحد من (4/165)
فصحاء العرب و تكرير النداء لما مر غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادي هو واحد الآحاد وحده لما أن دعوته لا سيما على منبر التوحيد وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه تصديق لهم عليهم السلام وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة و السلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجاز الموعود بناءا على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناءا على ما ذكرنا في تفسير الموصول ويكاد يكون مقطوعا به ظاهر لأن الأمر أخروي
وأما إذا فسر بالنصر على الأعداءكما قيلفتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية وإما لأن الأول مما يترتب على تحقه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها والثاني ليس كذلككما لا يخفىفيكون دونه فلهذا أخر عنه وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى : ولا تخزنا يوم القيامة لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مال الأول لا تخزنا في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا : لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للإختلاف بين المطلوبين أنفسهما وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير لإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابا كاملا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمني الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيوم وهو الثواب ألتفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك لموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى وأيضا يحتمل أن يقال : إنهم طلبوا الثواب أولا بإعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناءا على أن الخزي الإهانة والتخجيل فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا : ربنا أدفع عنا العذاب الجسماني وأدفع عنا ما هو أشد منه وهو العذاب الروحاني وإن أنت أبيت هذا وذاك وأدعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول : إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعاءين وإن أستلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاحوالله تعالى يحب الملحين في الدعاءفهوأقرب إلى الإجابة وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ومن الناس من يؤل هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكا لأن المطلوب فيه أمر عظيم والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظا ويجب ذلك قطعا إن كان الكلام مؤلا أو كان الموصول عبارة عن النصر ويترجحبل يكاد يجب أيضاإذا كان الموصول عبارة عن الثواب وإحتمال أنه مما تنازع فيه آتنا ولا تخزنا على ذلك التقدير هو كما ترى إنك لا تخلف الميعاد 491 تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء وقيل : متعلق بما قبل الأخير اللازم له وإليه يشير كلام الأجهوري و الميعاد مصدر ميمي بمعنى الوعد وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة وهو الظاهر وأما تفسيره بالبعث بعد الموتكما روى عن إبن عباسفصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء وقد يرجع إلى الأول وترك العطف (4/166)
في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان بإستقلال المطالب وعلو شأنها وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الأسم وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام قال مرة : يارب فأجابه الله تعالى لبيك ياموسى فعجب موسى عليه السلام من ذلك فقال : يارب أها لي خاصة فقال : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من أحزنه أمر فقال : ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ماأرادوقرأ هذه الآية
وأخرج إبن أبي حاتم عن عطاء قال : ما من عبد يقول يارب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه فذكر للحسن فقال : أما تقرا القرآن ربنا إننا سمعنا مناديا إلخ فإن قلت إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لإستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة قلت أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود أو المقصود مجرد الإستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم : إنك لا تخلف الميعاد وبهذا يلتئم التذييل أتم إلتئام وأختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه : أدعوني فلا يضر كونه متعلقا بواجب الوقوع وما يستحيل خلافه ومن ذلك رب أحكم بالحق وقيل : إن الموعود به هو النصر لا غير والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر فالموعود غير مسئول والمسئول غير موعود فلا إشكالوإلى هذا ذهب الطبريوقال : إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأستبطأوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا : لا صبر لنا على أناتك وحلمك وقوى بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضا وفيه كلام يعلم مما قدمنا وقيل : ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرج المسألةوالمراد منه الخبرولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق ويزيده وهنا على وهن قوله سبحانه فأستجاب لهم ربهم الإستجابة الإجابة ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد والإستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع وقد تتعدى بنفسها كما في قوله : وداع دعا يامن يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب وهذا كما قال الشهاب وغيره : في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل إستجاب الله تعالى دعاءه ولهذا قيل : إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستحب دعاءه والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الإستئناف المقدر في قوله سبحانه : ربنا ما خلقت هذا باطلا ولا ضير في إختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الإستمرار المناسب لمقام الدعاء وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الإستجابة وتقررها ويجوز أن يكون معطوفا على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية فأستجاب لهم إلخ وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على يتفكرون بإعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله سبحانه : ربنا إلخ فإن الإستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة أستحقت الإنتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم (4/167)
وأما على كون الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقا وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن وفي ذكر الرب هنا مضافا مالا يخفى من اللطف وأخرج الترمذي والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قال : قلت : يارسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى فأستجاب لهم إلى آخر الآية فقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها
وأخرج إبن مردويه عنها أنها قالت : آخر آية نزلت هذه الآية فأستجاب لهم ربهم
أني لا أضيع عمل عامل منكم أي باني وهكذا قرأ أبي وأختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل : فأستجاب لهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في أني والخطاب في منكم من باب الإلتفات والنكتة الخاصة فيه إظهار كمال الإعتناء بشأن الإستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الإستجابة والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء
وقال بعض المحققين : إنها صلة لمحذوف وقع حالا إما من فاعل إستجاب أو من الضمير المجرور في لهم والتقدير مخاطبا لهم بأنى أو مخاطبين بأنى إلخ وقيل : إنها متعلقة بإستجاب لأن فيها معنى القولوهو مذهب الكوفيينويؤيد القولين أنه قريء إني بكسر الهمزة وفيها إرادة القول وموقعه الحال أي قائلا إني أو مقولا لهم إني إلخ وتوافق القراءتين خير من تخالفهما وهذا التوافق ظاهر على ماذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن أختلف فيهما شدة وضعفا وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى وقريء لا أضيع بالتشديد وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لا سيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيدا لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالىكذا قيلوالمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال : ضاع يضيع ضيعة وضياعا بالفتح إذا هلك وأستعملت هنا بمعنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم من ذكر أو أنثى بيان لعامل وتأكيد لعمومه إما على معنى شخص عامل أو على التغليب
وجوز أن يكون بدلا من منكم بدل الشيء من الشيء إذ هما لعين واحدة وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه وقوله تعالى : بعضكم من بعض مبتدأ وخبر و من إما إبتدائية بتقدير مضاف أي من أصل بعض أو بدونه لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر وإما إتصالية والإتصال إما بحسب إتحاد الأصل أو المراد به الإتصال في الإختلاط أو التعاون أو الإتحاد في الدين حتى كأن كل واحد من الآخر لما بينهما من أخوة الإسلام والجملة مستأنفة معترضة مبينة لسبب إنتظام النساء في سلك الدخول مع الرجال في الوعد
وجوز أن تكون حالا أو صفة وقوله تعالى : فالذين هاجروا ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم (4/168)
وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقا أو للدين على ما هو الشائع في إستعمال الشرع والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى : وأخرجوا من ديارهم عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر وإضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى أضطروا إلى الخروج ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذ يكون وأخرجوا إلخ تأسيسا وأوذوا في سبيلي اي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين وقاتلوا أي الكفار في سبيل الله تعالى وقتلوا أستشهدوا في القتال
وقرأ حمزة والكسائي بالعكس ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيبا وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فإعتبار الترتيب فيها أيضا لا يضر وصحح هذه الإرادة ان المعنى ليس على إتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على إتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك بإتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة أو بأثنين منها أو بأكثر فحينئذ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا أو بطريق حذف بعض الموصولات من البينكما هو رأي الكوفيينأي والذين قتلوا والذين قاتلوا ويؤيد كون المعنى على إتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على إتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من أتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك والقول بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة والجملة حاليةمما لا ينبغي أن يخرج عليه الكلام الجليل
وقرأ إبن كثير وإبن عامر قتلوا بالتشديد للتكثير لأكفرن عنهم سيئاتهم جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول وزعم قعلب أن الجملة لا تقع خبرا ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل لهوهو الثانيفإما أن يقال : إن له محلا من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتفكير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولإقتضائه بقاء الشيء المستوروهو ليس بمرادفسره هنا بعض المحققين بالمحو والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات كما نقله إبن عبدالبر عن العلماءلكن بشرط إجتناب الكبائر كما حكاه إبن عطية عن جمهور أهل السنة وأستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما أجتنبت الكبائر وقالت المعتزلة : إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد إجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها وأستدلوا عليه بقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير فإذا كان (4/169)
مجرد إجتناب الكبائر مكفرا فما الحاجة لمقاسات هذا الصوم مثلا وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقولهتعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص
وقال إبن الصلاح في فتاويه قد يكفر بعض القربات كالصلاةمثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها وقال بعضهم : إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة وأستدل عليه بقوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أتبع السيئات الحسنة تمحها وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة
ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذ تشمل حقوق العباد والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة وأيضا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة فقد روى الشيخان عن إبن مسعود أن رجلا أصاب من أمرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل : هذه له خاصة يارسول الله فقال : بل للناس عامة ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به وقال بعض أهل السنة : إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه بها خلافا للمعتزلة وقيل : الواجب الإتيان بالتوبة أو بمكفرها من الحسنةوفي المسألة كلام طويل
ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه هذا وربما يقال : إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناءا على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجب ما قبله وحينئذ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعد ما وعد ذلك بالعموم وأعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وفيه خلاف فقد قال الزركشي : إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي وأستدل عليه بقوله : إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاذ بها إذا أسلم وأجيب بأنه مع إعتبار ماذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك على أحد القولين أو رمز إلى ما سألوه بقولهم ولا تخزنا يوم القيامة على القول الآخر ثوابا مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابا موضع الإثابة وإن كان في الأصل أسما لما يثاب به كالعطاء لما يعطى وقيل : إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها أو من ضمير المفعول أي مثابا بها أو مثابين وقيل : إنه بدل من جنات وقال الكسائي : إنه منصوب (4/170)
على القطع وقوله تعالى : من عند الله صفة لثوابا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدا لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدا
وقيل : إنه متعلق بثوابابإعتبار تأويله بأسم المفعول وقوله سبحانه : والله عنده حسن الثواب 591 تذييل مقرر لمضمون ما قبله والأسم الجليل مبتدأ خبره عنده و حسن الثواب مرتفع بالظرف على الفاعلية لإعتماده على المبتدأ أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والكلام مخرج مخرج قول الرجل : عندي ما تريد يريد إختصاصه به وتملكه له وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده حسن الثواب أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره والإختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل حسن الثواب مبتدأ مؤخرا كان الإختصاص بحاله وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم
وأخرج إبن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن إبن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن أول ثلاثة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقي بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفتها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد منه أمته وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم ويحتمل أن يكون عاما للنبي وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب المخاطبين وقيل : إنه خطاب له عليه الصلاة و السلام على أن المراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى : ولا تطع المكذبين وضعف بأنه عليه الصلاة و السلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثباتوفيه نظر لا يخفىوالنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب وإغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو إغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر قالوا : وهذا على عكس قول القائل : لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب
وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان وقد صرحوا بأن القطع والإنقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة فالأولى أن يقال : علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الإغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه وفسر الموصول بالمشركين (4/171)
من أهل مكة فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية وبعض فسره باليهود وحكى أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت وإلى ذلك ذهب الفراء والقول الأول أظهر وأياما كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد ولا يغنك بالنون الخفيفة متاع قليل خبر مبتدأ محذوف أي هو يعنى \ ي تقلبهم متاع قليل وقلته إما بإعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب وفيما رواه مسلم مرفوعا ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فينظر بم ترجع وقيل : إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مؤنة السعي وتحمل المشاق فضلا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده ثم مأواهم أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد إنتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها
جهنم التي لا يوصف عذابها وبئس المهاد 791 أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم
لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لكن للإستدراك عند النحاة وهو رفع توهم ناشيء من السابق وعند علماء المعاني لقصر القلب ورد إعتقاد المخاطب وتوجيه الآية على الأول أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة وتصرفهم في البلاد لأجلها جاز أن يتوهم متوهم أن التجارة من حيث هي مقتضية لذلك فأستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وأن لهم ما وعدوا به أو يقال إنه تعالى لما جعل تمتع المتقلبين قليلا مع سعة حالهم أوهم ذلك أن المسلمين الذين لا يزالون في الجهد والجوع في متاع في كمال القلة فدفع بأن تمتعهم للإتقاء وللإجتناب عن الدنيا ولا تمتع من الدنيا فوقه لأنه وسيلة إلى نعمة عظيمة أبدية هي الخلود في الجنات وعلى الثاني رد لإعتقاد الكفرة أنهم متمتعون من الحياة والمؤمنون في خسران عظيم وعلل بعض المحققين جعل التقوى في حيز الصلة بالإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى والمراد بها الإتقاء عن الشرك والمعاصي والموصول مبتدأ والظرف خبره و جنات مرتفع به على الفاعلية لإعتماده على المبتدأ أو مرتفع بالإبتداء والظرف خبره والجملة خبر المبتدأ و خالدين حال مقدرة من الضمير المجرور في لهم أو من جنات لتخصيصها بجملة الصفة والعامل ما في الظرف من معنى الإستقرار وقرأ أبو جعفر لكن بتشديد النون نزلا من عند الله النزل بضمتين وكذا التزل بضم فسكون ما يعد للضيف أول نزوله من طعام وشراب وصلة قال الضبي : وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا ويستعمل بمعنى الزاد مطلقا ويكون جمعا بمعنى النازلين كما في قول الأعشى
أو ينزلون فإنا معشر نزل
وقد جوز ذلك أبو علي في الآية وكذا يجوز أن يكون مصدرا قيل : وأصل معنى النزل مفردا الفضل والريع في الطعام ويستعار للحاصل عن الشيء ونصبه هنا إما على الحالية من جنات لتخصيصها بالوصف والعامل فيه ما في (4/172)
الظرف من معنى الإستقرار إن كان بمعنى ما يعد إلخ وجعل الجنة حينئذ نفسها نزلا من باب التجوز أو بتقدير مضاف أي ذات نزل وإما على الحالية من الضمير في خالدين إن كان جمعا وإما على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف إن كان مصدرا وهو حينئذ بمعنى النزول أي نزلوها نزلا وجوز على تقدير مصدريته أن يكون بمعنى المفعول فيكون حالا من الضمير المجرور في فيها أي منزولة والظرف صفة نزلا إن لم تجعله جمعا وإن جعلته جمعا ففيهكما قال أبو البقاءوجهان : أحدهما أنه حال من المفعول المحذوف لأن التقدير نزلا إياها والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من عندالله أي بفضله وذهب كثير من العلماء على أن النزل بالمعنى الأولوعليه تمسك بعضهم بالآية على رؤية الله تعالى لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلابد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها وليس وراء الله تعالى شيءوهو كما ترى نعم فيه حينئذ إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى وفي ذلك كمال اللطف بهم وما عندالله من الأمور المذكورة الدائمة لكثرته ودوامه خير للأبرار 891 مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل لقلته وزواله والتعبير عنهم بالأبرار ووضع الظاهر موضع الضمير كما قيل : للأشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل وزعم بعضهم أن هذا مما يحتمل أن يكون إشارة إلى الرؤية لأن فيه إيذانا بمقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة والموصول مبتدأ والظرف صلته و خير خبره وللأبرار صفة خير
وجوز أن يكون للأبرار خبرا والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار و خير على هذا خبر ثان وقيل للأبرار حال من الضمير في الظرف و خير خبر المبتدأ وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الإختيار وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله أخرج إبن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمات النجاشي : أخرجوا فصلوا عن أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى هذه الآية
وروى ذلك أيضا عنإبن عباس وأنس وقتادة وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب إثنين وثلاثين من أزض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وروى عن إبن جريج وإبن زيد وإبن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا منهم عبدالله بمن سلام ومن معه وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشيوهو بفتح النون على المشهور كما قال الزركشي
ونقل إبن السيد كسرهاوعليه إبن دحيةوفتح الجيم مخففة وتشديدها غلطوآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليس بالنسبة ونقل إبن الأثير تشديدها ومنهم من جعله غلطاوهو لقب كل من ملك الحبشةوأسمه أصحمةبفتح الهمزة وسكون الصاد المهلمة وحاء مهملةوالحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ومعناه عندهم عطية الصنم وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن أسمه مكحول بن صعصعة والأول هو المشهور وقد توفي في رجب سنة تسع والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة وفيها أيضا تعريض بالمنافقين (4/173)
الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات وإذا لاحظت إشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجر إليهم من حيث أن الهجرة الأولى كانت إليهم كان أمر المناسبة أقوى وإذا أعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : لا يغرنك باليهود زادت قوة بعد ولام الإبتداء داخلة على أسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر وما أنزل إليكم من القرآن العظيم الشأن وما أنزل إليهم من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بذلك عز إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم يسنخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين وإتباع كل من العامة خاشعين لله أي خاضعين له سبحانه وقال إبن زيد : خائفين متذللين وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل يؤمن وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا وقيل : حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل و الله متعلق بخاشعين وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لأجل الله تعالى والأول أولى وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة في موضع الحال أيضا والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ عل ىالتحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته
أولئك اي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة وإختيار صيغة البعد للإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة لهم أجرهم عند ربهم أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه : أولئك يؤتون أجرهم مرتين وقوله تعالى : يؤتكم كفلين من رحمته وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا : إن أولئك مبتدأ والظرف خبره وأجرهم مرتفع بالظرف أو الظرف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ و عند ربهم نصب على الحالية من أجرهم
وقيل : متعلق به بناءا على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم وجوز ان يكون أجرهم مبتدأ و عند ربهم خبره ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الإستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف والأوجه من هذه الأوجه هو الشائع على ألسنة المعربين إن الله سريع الحساب 991 إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الإستحقاق وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذ تكون الجملة إستئنافا واردا على سبيل التعليل لقوله تعالى : لهم أجرهم عند ربهم أو تذييلا لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء وحينئذ تكون الجملة تكميلا لما قبلها فإنه في معنى الوعد (4/174)
كأنه قيل : لهم أجر عند ربهم عن قريب وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمةما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك الئام من الآلام ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى ويضيع بإمتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضا فقال عز من قائل : ياأيها الذين آمنوا أصبروا أي أحبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية وصابروا أي أصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرا أكثر من صبرهم وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشد فيكون أفضل فالعطف كعطف جبريل على الملائكة والصلاة الوسطى على الصلوات وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه ورابطوا أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم والمرابطة أيضا نوع من الصبر فالعطف هنا كالعطف السابق
وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وأخرج إبن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله قال : من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنا من الفزع وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال : سمعت رسول الله يقول : من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعا الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة
وروى عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين وأتقوا الله في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مر إندراجا أوليا
لعلكم تفلحون 002 اي لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان الأول ما يتعلق به وحده والثاني ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة وقد أمر سبحانهنظرا إلى الأولبالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر والإستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والإحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها وأمرنظرا إلى الثانيبالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الإنتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بد منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه إنتهى ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر وأولى منه أن يقال : إنه تعالى أمر بالصبر العام أولا لأنه كما في الخبر بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج (4/175)
وقال بعضهم : لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل وجوهر العقل الصبر وأدعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر ومن هنا قال الشاعر : لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما أنقادت الآمال إلا لصابر ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها وبهذا تم المعجون الذي يبريء العلة وروق الشراب الذي يروى الغلة
ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه : لعلكم تفلحون وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية وقد روى في بعض الآثار غير ذلك فقد أخرج إبن مردويه عن سلمة بن عبدالرحمن قال : أقبل على أبو هريرة يوما فقال : أتدري ياإبن أخي فيم أنزلت هذه الآية ياأيها الذين آمنوا أصبروا إلخ قلت : لا قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها ففيهم أنزلت أي أصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم وأتقوا الله فيما علمكم لعلكم تفلحون وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي قال : ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وإنتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط
ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام : فذلكم الرباط من قبيل زيد أسد والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد أصبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على دينكم وعن الحسن أنه قال : أصبروا على المصيبة وصابروا على الصلوات ورابطوا في الجهاد في سبيل الله تعالى وعن قتادة أنه قال : أصبروا على طاعة الله تعالى وصابروا أهل الضلال ورابطوا في سبيل الله وهو قريب من الأول والأول أولى
هذا ومن باب الإشارة إن في خلق السموات والأرض أي العالم العلوي والعالم السفلي وإختلاف الليل والنهار الظلمة والنور لآيات لأولي الألباب وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق الذين يذكرون الله قياما في مقام الروح بالمشاهدة وقعودا في محل القلب بالمكاشفة وعلى جنوبهم أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة وقال بعضهم : الإدين يذكرون الله قياما أي قائمين بإتباع أوامره وقعودا أي قاعدين عن زواجره ونواهيه وعلى جنوبهم أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال ويتفكرون بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم في خلق السموات والأرض وذلك التفكر على معنيين الأول طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود والثاني جولان القلوب بنعت التفكر (4/176)
في إبداع الملك طلبا لمشاهدة الملك فإذا شاهدوا قالوا ربنا ما خلقت هذا باطلا بل هو مرايا لإسمائك ومظاهر لصفاتك ويفصح بالمقصود قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل سبحانك أي تنزيها لك من أن يكون في الوجود سواك فقنا عذاب النار وهي نار الإحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون ربنا إنك من تدخل النار وتحجبه عن الرؤية فقد أخزيته وأذللته بالبعد عنك وما للظالمين الذين أشركوا مالا وجود له في العير ولا النفير من أنصار لإستيلاء التجلي القهري عليهم ربنا إننا سمعنا بأسماع قلوبنا مناديا من أسرارنا التي هي شاطيء وادي الروح الأيمن ينادي للإيمان العياني أن آمنوا بربكم فآمنا أي شاهدوا ربكم فشاهدنا أو إننا سمعنا في المقام الأول مناديا ينادي للإيمان والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه : ألست بربكم فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان فآمنا يعنون قولهم : بلى حين شاهدوه هناك سبحانه ربنا فأغفر لنا ذنوبنا أي ذنوب صفاتنا بصفاتك وكفر عنا سيئات أفعالنا برؤية أفعالك وتوفنا عن ذواتنا بالموت الإختياري مع الأبرار وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد ربنا وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك بقولك : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا تخزنا يوم القيامة بأن تحجبنا بنعمتك عنك إنك لا تخلف الميعاد فأستجاب لهم ربهم لكمال رحمته أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين أو أنثى النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية بعضكم من بعض إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية فالذين هاجروا من غير الله تعالى إلى الله عزوجل وأخرجوا من ديارهم وهي مألوفات أنفسهم وأوذوا في سبيلي بما قاسوا من المنكرين وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى ولهذا قال الجنيد قدس سره : جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى وقاتلوا أنفسهم في وهي أعدى أعدائهم وقتلوا بسيف الفناء لأكفرن عنهم سيئاتهم الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم ولأدخلنهم جنات ثلاث وهي جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات تجري من تحتها الأنهار أنهار العلوم والتجليات ثوابا من عند الله الجامع لجميع الصفات والله عنده حسن الثواب فلا يكون بيد غيره ثواب أصلا لا يغرنك تقلب الذين كفروا أي حجبوا عن التوحيد في البلاد في المقامات الدنيوية والأحوال متاع قليل لسرعة زواله وعدم نفعه ثم مأواهم جهنم الحرمان وبئس المهاد الذي أختاروه بحسب أستعدادهم لكن الذين أتقوا ربهم بأن تجردوا كمال التجرد لهم جنات ثلاث عوض ذلك نزلا من عند الله معدا لهم وما عند الله من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة خير للأبرار وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ويحقق التوحيد الذاتي وماأنزل إليكم من علم التوحيد والإستقامة وما أنزل إليهم من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات خاشعين لله للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له لا يشترون بآيات الله تعالى وهي تجليات صفاته ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم وهي تلك الجنات إن الله سريع الحساب فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء ياأيها الذين آمنوا أصبروا عن المعاصي وصابروا على الطاعات ورابطوا الأرواح بالمشاهدة وأتقوا الله من مشاهدة الأغيار لعلكم تفلحون بالتجرد عن همومكم وخطراتكم أو أصبروا في مقام النفس بالمجاهدة وابروا في مقام القلب مع التجليات ورابطوا (4/177)
في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة وأتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء لعلكم تفوزون بالفلاح الحقيقي نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من إمتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه
وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله تعالى عليه وسلم عليهكما أخرج ذلك إبن السني وأبو نعيم وإبن عساكر عن أبي هريرة رضي تعالى عنه
وأخرج الدارمي عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة وأخرج الطبراني من حديث إبن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس وخبرمن قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية أمانا على جسر جهنمموضوع مختلق على رسول الله وقد عابوا على من أورده من المفسرين نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل إنه جواد كريم رؤف رحيم و ليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين وهو الجلد الأول من روح المعاني ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة 4521 ألف ومائتين وأربعة وخمسين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين آمين
سورة النساء
مدنية على الصحيح وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى : إن الله يأمركم الآية نزلت بمكة إتفاقا في شأن مفتاح الكعبة وتعقبه العلامة السيوطي بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة إتفاقا وقيل : إنها نزلت عند الهجرة وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون وعند الكوفيين ست وسبعون وعند الباقين خمس وسبعون والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما أن تضلوا السبيل وثانيتهما فيعذبهم عذابا أليما فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط والشاميون يثبتون الثانية أيضا والباقون يقولون هما بعضا آية ووجه مناسبتها لآل عمران أمور منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وأفتتحت هذه السورة به وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف وقوم يسمونه بالتسبيغ وذلك كقول ليلى الإخيلية : إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها (4/178)
ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه السورة ذكر ذيلها وهو قوله تعالى : فمالكم في المنافقين فئتين فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى : الذين أستجابوا لله والرسول إلخ وأشير إليها ههنا بقوله سبحانه : ولا تهنوا في إبتغاء القوم الآية وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف إبن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الإرتباط وغاية الإحتباك
بسم الله الرحمن الرحيم ياأيها الناس خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مر تحقيقه وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا : لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص والأصل عدمه والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم : بصرف المنافع للسيد وعن الثاني بأن خروجه بدليل أقتضى خروجه وذلك كخروج المريض والمسافر والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد وذلك لا يدل على عدم تناولها إتفاقا غايته أنه خلاف الأصل أرتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لاحظ لها فيه لإختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الإمتثال وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور
وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه ثم قال : ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل وعلى العلات لفظ الناس يشمل الذكور والإناث بلا نزاع وفي شمول نحو قوله تعالى : أتقوا ربكن خلاف والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة أستدل الأولون بأنه قد روى عن أم سلمة أنها قالت : يارسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخلات لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة و السلام للنفي وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلا بإعتبار التأكيد والتأسيس خير من التأكيد وقال الآخرون : المعروف من أهل اللسان تغليبهم (4/179)
المذكر على المؤنث عند إجتماعهما بإتفاق وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة واللازم منتف بالإتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام والزكاة وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم ثم قال : أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب وأجيب أما عن الأول فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع والجمهور يقولون به لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع
وأما عن الثاني فبمنع الملازمة نعم يلزم أن لا يشاركهن في الأحكام بمثل هذه الصيغة وما المانع أن يشاركن بدليل خارج والأمر كذلك ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا نعم الأولى هنا القول بدخولهن بإعتبار التغليب وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة ودخول الإناث في الأمربالتقوىللدليل الخارجي ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاؤه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم والمأمور به إما الإتقاء بحيث يشمل ما كان بإجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى
وأما الإتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العبادوهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوصبخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الإمتثال وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه : الذي خلقكم من نفس واحدة لأن الإستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له أو باعثة عليه داعية إليه ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة أو النعمة الجسيمة ولاشك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم وأن الثاني يدعو إليها وفاءا بالشكر الواجب وإيجاب الخلق من أصل واحد للإتقاء على الإحتمال الثاني ظاهر جدا وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحدوهو أبو البشروذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم وآدم ألف سنة وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ثم عمرت خمسين ألف سنة ثم خلق أبونا آدم عليه السلاموروى إبن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج ونقل عن محمد بن علي الباقرأنه قال : (4/180)
قد إنقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره وفي كتاب الخصائص ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى إثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عزوجل عالما غيرهم وأنى للحجة عليهم ولعل هذا وأمثاله من أزض السمسمةوجابر ساوجا بلقا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد نعم إن آدمنا هدا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا بخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها
والقولبأن النفس الكلى يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألإف البعثة محمول على ذلكفمما لا أزتضيه دينا ولا أختاره يقينا والخطاب في ربكم و خلقكم للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناءا على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه : وخلق منها زوجها وهو عطف على خلقكم داخل معه في حيز الصلة وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام الأيسر كما روى ذلك عن إبن عمر وغيره وروى الشيخان أستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك وزعم أن معنى منها من جنسها والآية على حد قوله تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضا وفيه من الإستهجان ما لا يخفى وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به ومع هذا يقال عليه : إن الحور خلقن من زعفران الجنة كما ورد في بعض الآثارفإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منهكما هو نص كلام الزاعمفبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كلى يكاد يكون إفتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية ويستدعي (4/181)
بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يرد عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا بكنه فهو قريب منه وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وأيضا هو خلاف مانطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله وهذا يرد على الثاني أيضا
والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالدكما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلكولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانهكما أنه قادر على خلق آدم من الترابهو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول : بأن ذلك يجر إلى ما فيه إستهجان لا يخفى ما فيه لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الإستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي
فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما أنفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقى يعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخض وليكون في عالم الأجسام بهذا الإلتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية إنتهى
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفى الغليل نعم أخرج عبد بن حميد وإبن المنذر عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر والخلفكما في الصحاحأقصر أضلاع الجنب وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على إمتثال الأمر من تذكير خلقها وقدم الجار للإعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر وأختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل
وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبيء عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها إلخ وهذا المقدر إما إستئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا وإما صفة لنفس مفيدة لذلك وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى : وبث منهما أي نشر وفرق من تلك النفس (4/182)
وزوجها على وجه التناسل والتوالد رجالا كثيرا ونساء تكرارا لقوله سبحانه : خلقكم لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها والناس إنما خلقوا من نفس واحدة من غير مدخل للزوج ولا يلزم ذلك على العطف وجعل المخاطب بخلقكممن بعث إليهم عليه الصلاة و السلام إذ يكون وبث منهما إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عاما لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس ومن الناس من أدعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عاما من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا
والمعطوف متكفل ببيان ذلك وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى والتلوين في رجالا ونساءا للتكثير و كثيرا نعت ل رجالا مؤكد لما أفاده التنكير والإفراد بإعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل ونقل أبو البقاء أنه نعت المصدر محذوف أي بثا كثيرا ولهذا أفرد وجعله صفة حينكما قيلتكلف سمج وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره وقيل : ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى وأكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب وأحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث عل ىالمادة في جميع الصور على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعي وقريءوخالق وباثعلى حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه عل ىالصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحوزيد ركب وذاهبأي وهوخالق وباث
وأتقوا الله الذي تساءلون به تكرير للأمر الأول وتأكيد له والمخاطب من بعث إليهم أيضا كما مر وقيل : المخاطب هنا وهناك هم العرب كما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهمالأن دأبهم هذا التناشد وقيل : المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك ووضع الأسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل : أتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها
وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الإمتثال فإن قول القائل لصاحبه : أسألك بالله وأنشدك الله تعالى على سبيل الإستعطاف يقتضي الإتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه و تساءلون إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها وإما بمعنى تسألونكما قريء بهوتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورةتتساءلونبتاءين فحذفت إحداهما للثقل وقرأ نافع : وإبن كثير (4/183)
وسائر أهل الكوفة تساءلون بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس والأرحام بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما أو على محل المجرور إن كان المحل له والكلام على حد مررت بزيد وعمرا وينصره قراءة تساءلون به وبالأرحاموأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون : أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحمكما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد وهو إختيار الفارسي وعلي بن عيسى وإما معطوف على الأسم الجليل أي أتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقي وهو رواية إبن حميد عن مجاهد والضحاك عن إبن عباس وإبن المنذر عن عكرمة وحكى عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وأختاره الفراء والزجاج وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها وقرأ حمزة بالجر وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة إتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه
وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها وتبعه في ذلك جماعة منهم إبن عطيةوزعم أنه يردها وجهان : أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ولا فائدة فيها أكثر من الأخبار بأن الأرحام يتساءل بها وهذا مما يغض من الفصاحة والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها و الحديث الصحيح يرد ذلك فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت
وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادقوكان صالحا ورعا ثقة في الحديثمن الطبقة الثالثة
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفةقراءة وعربيةأبو الحسن الكسائي وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كإبن مسعود وإبن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهمكما نقله إبن يعيشفالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر وماذكر من إمتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين بإتباعهم وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الرد عليهم وأدعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما وإلى ذلك ذهب إبن مالك وحديث إن ذكر الأرحامحينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصةوهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهى عنه بل المنهي عنه ما كان مع إعتقاد وجوب البر وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به ففي الخبر أفلح وأبيه إن صدق
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الإستعطاف (4/184)
وليس هوكقول القائلوالرحم لأفعلن كذا ولقد فعلت كذا فلا يكون متعلق النهي في شيء والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهليةلا يخفى ما فيه فأفهم وقد خرج إبن جني هذه القراءة على تخريج آخر فقال في الخصائص : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك
رسم دار وقفت في طلله
أي رب رسم دار وكان رؤبو إذا قيل له : كيف أصبحت يقول : خير عافاك الله تعالىأي بخيرويحذف الباء لدلالة الحال عليها وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحوالله لأفعلن وفي نحوما مثل عبدالله ولا أخيه يقولان ذلكوالحمل على ما ثبت هو الوجه ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحوأتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليكوترك الفاء لأن الإستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن
وقرأ إبن زيد والأرحام بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي والأرحام كذلك أي مما يتقي لقرينة أتقوا أو مما يتساءل به لقرينة تساءلون وقدره إبن عطيةأهل لأن توصلوإبن جنيمما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيهولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام بأسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت : بلى قال : فذلك لك وأخرج البزار بإسناد حسن الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني وأقطع من قطعني فيقول الله تعالى : أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من أسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح إن من أربى الربا ألإستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة
والأخبار في هذا الباب كثيرة والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا إن الله كان عليكم رقيبا 1 أي حفيظا قاله مجاهدفهو من رقبه بمعنى حفظهكما قاله الراغبوقد يفسر بالمطلع ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه ومن هنا فسره إبن زيد بالعالم وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الإمتثال وإظهار الأسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل وآتوا اليتامى أموالهم شروع في تفصيل موارد الإتقاء على أتم وجه وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي واليتيم من الإنسان من مات أبوه ومن سائر الحيوانات فاقد الأممن اليتم وهو الإنفراد ومن هنا يطلق على كل شيء عز نظيره ومنه الدرة (4/185)
اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلا لا يجمع على فعالي بل على فعالككريم وكرام وفعلاءككريم وكرماءوفعلكنذير ونذروفعلىكمريض ومرضىإما لأنه أجرى مجرى الأسماء ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل وأفايل ثم قلب فقيل : يتامى بالكسر ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقلبت الياء ألفا وقد جاء على الأصل في قوله : أأطلال حسن بالبراق اليتايم سلام على أحجار كن القدايم أو لأنه جمع أولا على يتمى ثم جمع على يتامى إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع فإن فعيلا فيها يجمع على فعلى وفعلى يجمع على فعالي كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى ووجه الشبه ما فيه من الذل والإنكسار المؤلم وقيل : ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات والإشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرعوكذا العرفخصصه بالصغار وحديث لا يتم بعد إحتلام تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ
والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتي إلأ إذا كانت كذلك والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها وعدم فك الفك لأكلها وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به وقيل : المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة وإما مجاز بإعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن أسم اليتيم باق بعد غير زائل وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول وقيل : يجوز أنيراد باليتامى الصغار ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل : وآتوهم إذا بلغوا ورد بأنه قال في التلويح : إن المراد من قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم وقت البلوغ بإعتبار ما كان فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم فالورود للبلغ على كل حال
وقال بعض المحققين : تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب إتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلابد من التأويل بما مر وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التوليح لكنها ليست مسلمة وقد تردد فيها الشريف في حواشيه والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين : نسبة بين الشرط والجزاءوهي التعليقيةوهي واقعة الآن ولا تتوقف على وجودهما في الخارج ونسبة إسنادية في كل من الطرفينوهي غير واقعة في الحال بل مستقبلةوالمقصود الأولى وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ألا تراهم قالوا في نحوعصرت هذا الخلل في السنة الماضيةأنه حقيقة مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين أسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاءوقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق (4/186)
وقيل : المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا ومن اليتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات : وأبتلوا اليتامى إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك وأيضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم يقوى ذلك فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدي هذه الآيةوما سيأتي بعدكالشيء الواحد من حيث أن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الشرد ويرد على آخر الوجوه أيضا إن فيه تكلفا لا يخفى ولا يرد على الوجه الراجح أن إبن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لإبن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وآتوا اليتامى إلخ فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي والواحدي عن مقاتل والكلبي أن العم لما سمعها قال : أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم نعوذ بالله عزوجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ولعل العم لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء وإستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى : ومن يتبدل الكفر بالإيمان إلخ وقوله سبحانه : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : وبدلناهم بجنتيهم جنتين إلخ وأخرى بالعكس كما في قولك : بدلت الحلقة بالخاتم إذ أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة وأقتصر الدميري على الأول ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني ويشهد له قول الطفيل لما أسلم
وبدل طالعي نحسي بسعدي
وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى : أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه ومرة يتعدى إل مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته وقوله تعالى : فمن بدله بعد ما سمعه وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده وهذا معنى قول الجوهري : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل ومعنى التبدل الإستبدال والإستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبديلا وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال : أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده
والمرادبالخبيث والطيبإما الحرام والحلال والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أولا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه إستبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج وقيل : المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيثوهو إختزال مال اليتيمبالأمر (4/187)
الطيبوهو حفظ ذلك المالوأياما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم فقد أخرج إبن جرير عن السدي أنه قال : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة ويقول : شاة بشاة ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف ويقول : درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وإبن المسيب وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لإنخرام شرطه عنه القائل به وأعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق
وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم يصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه ولا يضر تبدل لنفسه أيضا بإعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره ومن غفل عن إختلاف الإعتبار كالزمخشري أول بما لا إشعار للفظ به وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الإنتفاع والتصرف وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم اي تنفقوهما معا ولا تسووا بينما وهذا حلال وذاك حرام فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها وقد وقع حالا وقدره أبو البقاء مضافة ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم وأختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في الذود إلى الذود إبل والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الإنتفاع أعم من أن يكون على الإنفراد أو مع أموالهم ويفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ويندفع السؤال بذلك
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب بإستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق وفي الكشف لو حمل الإنتهاء في إلى على أصلهعلى أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غايةلحصلت المبالغة والتخلص عن الإعتذار وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو ما لهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهملا يخلو عن خفاء إنه أي الأكل المفهوم من النهي وقيل : الضمير للتبدل وقيل : لهما وهو منزل منزلة أسم الإشارة في ذلك كان حوبا أي إثما أو ظلما وكلاهما عن إبن عباس وهما متقاربان وأخرج الطبراني أن رافع إبن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب فقال : هو الإثم بلغة الحبشة فقال : (4/188)
فهل تعرف العرب ذلك فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى : فإني وما كلفتموني من أمركم ليعلم من أمسى أعق وأحوبا وخصه بعضهم بالذنب العظيم وقرأ الحسن حوبا بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا
وقريء حابا وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة أسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما ووصف بقوله تعالى : كبيرا 2 للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل : إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم لكن لا رغبة فيهن بل في مالهن ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظوا في ذلك وهذا قول الحسن ورواه إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية فقالت ياإبن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيهوالربط يقتضيه و من النساء غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه والإقساط العدل والإنصاف وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف وقرأ النخعي تقسطوا بفتح التاء فقيل : هو من قسط بمعنى جار وظلم ومنه وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ولا مزيدة كما في قوله تعالى : لئلا يعلم وقيل : هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همز تستعمل إستعمال أقسط و اليتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامي والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه و إن وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران : النصب عند سيبويه والجر عند الخليل و ما موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها أو صفتها وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا وما تختصأو تغلبفي غير العقلاء فيما إذا أريد الذات وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول : مازيد في الإستفهام أي أفاضل أم كريم وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم
وحكى عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر بأسم الفاعل أيأنكحوا الطيب (4/189)
من النساءوهو تكلف مستغنى عنه وقيل : إن إيثارها على من بناءا على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روى في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن و من بيانية وقيل : تبعيضية والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم وأستطابته وقيل : ما حل لكم وروى ذلك عن عائشة وبه قال الحسن وإبن جبير وأبو مالك وأعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح وأيضا يلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية
وقال بعض المحققين : ما طاب لكم مالا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن وكفيما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الإستمالة إليهن والترغيب فيهن مالا يخفى والسر في ذلك الإعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لإنكسارهن ولهذا الإعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه من مزيد اللطف في إستنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى وإن خفتم إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى وقرأ إبن أبي عبلةمن طابوفي بعض المصاحفكما في الدر المنثورما طيب لكم بالياء وفي الآية على هذا التفسير دليل لجواز نكاخح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور
وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ وأسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر مثنى وثلاث ورباع منصوبة على الحال من فاعل طاب المستتر أو من مرجعه وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل من بيانية وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح وجوز الفراء صرفها والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة : أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو : إنه العدل والوصف وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر والثاني قول الفراء : إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها (4/190)
ولا دخول أل عليها والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عنإثنين إثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ إثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا أو حالا أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع وقال : زاد هذين إبن الصائغ في شرح الجمل وجاء آحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع ولم يسمع فيما زاد على ذلككما قال أبو عبيدةإلا في قول الكميت : ولم يستر يثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا ومن هنا أعابوا على المتنبي قوله : أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتناد ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا وليس بشيء وأختير التكرار والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها لبعض منهم والبعض الآخر لآخر ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة أولفات تجويز الإختلاف في العدد بأن ينكح واحد إثنتين وآخر ثلاثا أو أربعا وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهنلأنه لم يذهب إليه أحدلا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول وأدعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالا معللا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها إثنان ولا حالها أنها ثلاثة وكذا لو قيل : أقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهما وإثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الإنقسام كأنه قيل : فأنكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وأقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلا ومقسما إلى درهم رهم وإثنين إثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وبهذا يظهر فساد ما قيل : من أنه لا فرق بين إثنين ومثنى في صحة الحالية لأن إنفهام الإنقسام ظاهر من اثاني دون الأول كما لا يخفى وأنه إنما أتى بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين إثنين منها وذلك بناءا على أن الحال بيان لكيفية الفعل والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو و بهذا يندفع ماذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ولعل هذا مراد القطب بقوله : إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسا خمسا فقول بعضهم : (4/191)
الزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده : أفعل ما شئت أذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الإختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للأذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا وأيضا ذكر جميع الأعدادمتعذرفإذا ذكر بعض الأعداد بعد فأنكحوا ما طاب لكم من النساء كان ذلك تنبيها على حصول الأذن في جميع الأعدادكلام ليس في محله وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث
وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر وذلك أنه قال : إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز للتزوج بأي عدد وأحتجوا بالقرآن والخبر أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه : الأول إن قوله سبحانه : فأنكحوا ما طاب لكم من النساء إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح إستثناؤه منه وحكم الإستنثاء إخراج ما لولاه لكان داخلا والثاني أن مثنى وثلاث ورباع لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي والثالث أن الواو للجمع المطلقفمثنى وثلاث ورباعيفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة
وأما الخبر فمن وجهين : الأول أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا بإتباعه فقال فأتبعوه وأقل مراتب الأمر الإباحة الثاني أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من رغب عن سنتي فليس مني وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز ثم قال : وأعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين : الأول الخبر وهو ما روى أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أمسك أربعا وفارق سائرهن وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز والثاني أنه لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواق لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع وبالجملة فهذا الإحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان : الأول أن الإجماع لا ينسخ به فكيف يقال : إن الإجماع نسخ هذه الآية الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والإثنين لا ينعقد
وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الثاني أن مخالف هذا الأجماع من أهل البدعة فلا إعتبار بمخالفته فلا تضر في إنعقاد الإجماع إنتهى ولا يخفى ما في إحتجاج الشذاذ بالآية من النظر ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا
وأما الإحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون بإتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة و السلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا وأما الأمران اللذان أعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام (4/192)
والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه : إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر ! وبتقدير عدم دلالته على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غاية الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه فيكون حينئذ مجملا وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيفبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاعمما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت أختر منهن أربعا كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان وكذا في الحديث الذي أخرجه إبن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحرث الأسدي أنه قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي فقال : أختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها ان المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات فالإحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم ولو أعتبر مثلهقادحا في الدليل لم يبق دليل على وجه الأرض نعم الحديث مشكل على ما ذهب إليه الإمام الأعظم على ما نقل إبن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا إختيار وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وأنقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع إتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة و السلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي وإلا لا يوجد إجماع أصلا وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازيوهو أحد مذاهب في المسألة من أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا إعتبار بمخالفته فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربعوبه قال الإماميةورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام وشاع عنهم خلاف ذلك ولعله قول شاذ عندهم
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له أمرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ولان في تنفيذ نكاحه تعيبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى وأيضا قوله تعالى بعد : فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق مالا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح ومن الفقهاء من إدعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا وأختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يغلو طاب إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ماأبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور وقيل : للوجوب أي وجوب الإقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل (4/193)
النكاح فقد قال الإمام النووي : لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داؤد ومن وافقه من أهل الظاهر ورواية عن أحمد فإنهم قالوا : يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا : وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت وقال أهل الظاهر : إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء وأختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه
وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام : قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه فمذهب الشافعي وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا التخلي للتحلي بالعبادة أفضل ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل إنتهى المراد منه وأن تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه : ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع ويكون سنة مؤكدةفي الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الإعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة
ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه والإنكار على من رغب عنه ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم إنتهى لكن في دليل الوجوب على ماذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله هذا وقد قيل : في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النساء اليتامى أيضا وأن المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى المرباة في حجوركم فأنكحوا ما طاب لكم من يتامى قراباتكم وإلى هذأ ذهب الجبائي وهو كما ترى وقيل : إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من لحوق الحوب بترك الأقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه وإلى نحو من هذا ذهب إبن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وإبن عباس في إحدى الروايات عنه وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فأنكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له : إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله : ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لإبتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله سبحانه : وكفى بالله حسيبا ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء (4/194)
اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا إرتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام أما الأول فمن حيث أن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلا منهما جور وأما الثاني فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك ثم الظاهر من قوله سبحانه : مثنى وثلاث ورباع أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل : إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهم متسع إلى كذا وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فأحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به السياق من التوسعة وبعيد عن جزالة التنزيل كما لا يخفى وقيل : إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهي أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ونسب هذا إلى إبن عباس وعكرمة وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله
وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع وأيضا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة كأنه لما وسع عليهم أنباهم أنه قد يلزم من الإتساع خوف الميل فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة والمراد فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى أو كما لم تعدلوا في حقهن فأختاروا أو الزموا واحدة وأتركوا الجميع بالكلية وقرأ إبراهيم وثلث وربععلى القصر منثلاث ورباع وقرأ أبو جعفر فواحدة بالرفع أي فالمقنع واحدة أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة
أو ما ملكت أيمانكم أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والإختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لإستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب إتحاد المخاطبين في الموضعين وقد قالوا : لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فأنكحوا لدلالة أول الكلام عليه ويعطف هذا عليه على معنى أقتصروا على ما ملكت والكلام على حد قوله :
علفتها نبنا وماءا باردا
وأو للتسوية وسوى في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة (4/195)
والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فأنكحوا ما طاب لكم من النساء أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده وقرأ إبن أبي عبلة من ملكت وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر وإسناد الملك لليمين لما أنسببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها وقيل : لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر وذلك محتاج إلى أعمالها وقد أشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر وقيل : إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل ياليمن أيضا وعن بعضهم أن أعرابيا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم فقال : أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم وأدعى إبن الفرس أن في الآية ردا على من جعل النكاح واجبا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالإتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثما ولا يرد هذا على من يقول : الواجب أحد الأمرين ويمنع الإتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر وزعم بعضهم أن فيها دليلا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر
وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته وأدعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث وفي صحيح مسلم أنه قال للمتزوج أمرأة من الأنصار : أنظرت إليها قال : لا قال : فأذهب وأنظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا وهو مذهب جماهير العلماء وحكى عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع عل ىجواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفينوقال الأوزاعي : إلى مواضع اللحم
وقال داؤد : إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والأجماع وهل يشترط رضا المرأة أم لا الجمهور على عدم الإشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها وأستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى وقال بعضهم : إن فيها إشارة أيضا إلى إستحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل وياما أحيلى الزيادة إن أئتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربا بالضم من بين سائر الحركات وهذا لعمري أبعد من العيوق وأعز من الكبريت الأحمر وبيض الأنوق : ماكل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بمالا تشتهي السفن ذلك أي إختيار الواحدة أو التسري أو الجميعوهو الأولىوإليه يشير كلام إبن أبي زيد أدنى ألا تعولوا 3 العول في الأصل الميل المحسوس يقال : عال الميزان عولا إذا مال ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور ومنه عال الحاكم إذا جار والمراد ههنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من إختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلا محظورا لإنتفائه رأسا بإنتفاء محله في (4/196)
الأول وإنتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور : التقليل من الأزواج وإختيار الواحدة والتسري أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها والأول أظهر
وقد حكى عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه فسر أن لا تعولوا بأن لا تكثر عيالكم وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله : أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول
وأجيب بأن الإمام الشافعيلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي الله تعالى عنه الفعل في الآية عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فأستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثر العيال وأعترض بأن عال بمعنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المؤنة حتى يكنى به عن كثرة العيال وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال : عاله أي تحمل ثقل مؤنته والثقل إنما يكون في كثير الإنافق لا في قليله فيراد من لا تعولوا كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المؤنة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلا وعليه مؤنة فالكلام كالصريح فيه وإستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله إبن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين وقراءة طاوسأن لا تعيلوامؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلا باللغات والآثار وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا أي وإن كثرت ماشيته وعياله وأما ما قيل : إن عال بمعنى كثرت عياله يائي وبمعنى جار واوى فليست التخطئة في إستعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين فرد أيضا بما أقتضاه كلام البعض من أن عال له معان : مال وجار وأفتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز يقال : عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه يعيل ويعول فهو من ذوات الواو والياء على إختلاف المعاني تم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كماأشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في إختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر وأما عدم كثرتهن في التسري فبإعتبار أن ذلك صادق على عدمهن بالكلية
ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في إختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضا وأما عدم كثرتهم في التسري فبإعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا تقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة عل ىتقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزا شرعا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأخرج إبن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر أن لا تعولوا بأن لا تفتقروا وقد قدمنا أن عال يجيء بمعنى أفتقر ومن روده كذلك قوله : فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوى كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة (4/197)
جارية مما قبلها مجرى التعليل وآتوا النساء أي أعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن صدقاتهن جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال وهي كالصداق بمعنى المهر وقريء صدقاتهن بفتح اصاد وسكون الدال وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين و صدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة وقريء صدقتهن بضم الصاد والدال عل ىالتوحيد وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال إتباعا لضم الأول كما يقال : ظلمة وظلمة نحلة أي فريضة قاله إبن عباس وإبن زيد وإبن جريج وقتادة فإنتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضة من الله تعالى لهن
وقال الزجاج وإبن خالويه : تدينا فإنتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبي : هبة وعطية من الله وتفضلا منه تعالى عليهن فإنتصابها على الحالية من الصدقات أيضا وقيل عطية : من الأزواج لهن فإنتصابها على المصدر أو عل ىالحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهن
وأعترض بأن الحال قيد للعامل فيلزم هنا كون الإيتاء قيدا للإيتاء والشيء لا يكون قيدا لنفسه وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه وهو الإيتاء عن طيب نفس فالمعنى أعطوهن صدقاتهن طيبي النفوس بالإعطاء أو معاطاة عنطيب نفس و عليه فالمصدر مبين للنوع فإن قلت : إن النحلة أخذ في مفهومها أيضا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه وقيل : إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى : إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي إلخ ثم نسخ فصار ذلك عطية أقتطعت لهن فسمى نحلة وأيدغير واحدقول الكلبي : بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة منهم الرماني وجعل من ذلك النحلة لديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من الله تعالى والنحل للدبر لما يعطى من العسل والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالا بعد حال كأنه المعطيه بلا عوض والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له وحينئذ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج وإليه ذهب إبن عباس وجماعة وأختاره الطبري و الجبائي وغيرهما قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور وقيل : الخطاب لأولياء النساء فقد أخرج إبن حميد وإبن أبي حاتم عن أبي الصلح قال : كان الرجل إذا زوج أيما أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تعالى عن ذلك ونزلت وآتوا النساء إلخ وروى ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه وهذه عادة كثير من العرب اليوم وهو حرام كأكل الأزواج شيئا من مهور النساء بغير رضاهن فإن طبن لكم عن شيء منه الضمير للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم بعد ذكر الشهوات المعدودة وقد روى عن أبي عبيدة أنه قال : قلت لرؤبة في قوله : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق إن أردت الخطوط : فقل كأنها وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال : أردت كأن ذلك ويلك أو للصداق الواقع موقعه صدقاتهن كأنه قيل : وآتوا النساء صداقهنوالحمل على المعنى كثير ومنه قوله تعالى : (4/198)
فأصدق وأكن حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقا وقيل : الضمير عائد إلى الإيتاء وأعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتي ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم ثم تأويل ذلك المصدر بمعنى المفعول لا يخلو عن بعد واللام متعلقة بالفعل وكذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله :
وما كاد نفسا الفراق تطيب
ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق وفيه بعث لهن على تقليل الموهوب حتى نقل عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء و لذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف نفسا تمييز لبيان الجنس ولذا وحد وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييزكما قاله النحاةإن إتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالا كالخبر والصفة والحال وإلا فإن كان مفردا غير متعدد وجب إفراده نحو كرم بنو فلان أبا إذ المراد أن أصلهم واحد متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحوكرم الزيدون آباءاإذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسا واحدة ومجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه وهو أسم جنس والغرض هنا بيان الجنس والواحد يدل عليه كقولك : عشرون درهما والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس إيذانا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك مبتدأ وركنا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض فكلوه أي فكلوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية
هنيئا مريئا صفتان منهنؤ الطعام يهنؤ هناءة ومرؤ يمرؤ مراءةإذا لم يثقل على المعدة وأنحدر عنها طيبا
وفي الصحاح نقلا عن الأخفش يقال : هنؤ وهنيء ومرؤ ومريء كما يقال : فقه وفقهبكسر القاف وضمهاويقال : هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ وتقول : هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال : مرأني الطعام يمرأ مرءا وقال بعضهم : أمرأني وقال الفراء : يقال : هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا : أمرأني وقيل الهنيء الذي يلذه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته وقيل : ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء كأمير وهو رأس المعدة والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي إنسياغه وإنتصابهماكما قال الزمخشريعلى أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ووصف المصدر بهما كما قال السعد : على الإسناد المجازي إذ الهنيء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من الله تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم فإنهم يجعلون إنتصاب هنيئا على الحال ومريئا إما على الحال وإما (4/199)
على الوصف ويدل على فساد ما خرجه الزمخشريوصحة قول النحاةإرتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئا مريئا ولو كانا منتصبين إنتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال : في سقيا لك ورعيا سقيا الله تعالى لك ورعيا الله لك وإن كان ذلك جائزا في فعل والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير : هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ماأستحلت فإن ما مرفوعة بما تقدم من هنيئا أو مريئا على طريق الأعمال وجاز الإعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئا في الغلب لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال : هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لإحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا فإن هذا مما يقال : على تقدير إقامتهما مقام المصدر ومن هنا قال السفاقسي : إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا لقيامهما مقامه كقولك : أقائما وقد قعد الناس وأعترض بهذا على ما تقدم من إحتمال جعلهما حالا من الضمير المنصوب في كلوه إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهمابكلوامن حيث الإعراب
وأعترض أيضا على الإستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون ما مرفوعة بالإبتداء ولعزة خبره أو مرفوعة بفعل مقدر وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة وفي كتاب العياشي من الإمامية مرفوعا إلى علي كرم الله تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال : ياأمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال : ألك زوجلا قال نعم : قال أستوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم أشتر به عسلا ثم أسكب عليه من ماء السماء ثم أشربه فإني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : وأنزلنا من السماء ماء مباركا وقال تعالى : يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس وقال عز شأنه : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فإذا أجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء الله تعالى ففعل الرجل ذلك فشفى وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا أشتكى أحدكم فليسأل أمرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا وشفاء ومباركا
وأخرج إبن جرير عن حضرمي أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى أمرأته فنزلت هذه الآية وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الإحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى قضائه أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما أمرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها
وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع أمرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح : ردها عليها فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : فإن طبن لكم قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه وعنه أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع (4/200)
فيه بل ذكر إبن هبيرة إتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ماأجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال أستطرادا إذ الخطابكما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء وصرح هو وإبن جبير بأن المراد من السفهاء اليتامى ومن أموالكم أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبينتنزيلا لإختصاصها بأصحابها منزلة إختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الإتحاد الجنسي والنسبيمبالغة في حملهم على المحافظة عليها ونظير ذلك قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم أنفسهم وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه : التي جعل الله لكم قياما حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال والمراد من القيام ما به القيام والتعيش والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا وهذا حالا منه وقيل : إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم
وأعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله : إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة سهيل أذاعت غزلها في القرائب إلا أنه غير مصحح لإتصاف الأموال بما بعدها من الصفة وقيل : إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال وأعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والوحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذا لا وجه لإعتبارها أصلا وروى أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة وقيل له : كيف كانت أموالهم أموالنا فقال : إذ كنتم وارثين لهم وفيه إحتمالان : أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في رد الأموال إليهم فأقتضى ذلك أن يقال : أموالهم وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء إنتهى ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مر آنفا ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء بإعتبار خفة أحلامهم وإضطراب أرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب وأصل السفه الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر أي مالت به قال ذو الرمة : (4/201)
جرين كما أهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم وقال أيضا
على ظهر مقلات سفيه جديلها
يعني خفيف زمامها ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين وروى عن إبن عباس وإبن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان والخطاب لكل أحد كائنا من كان والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء وقيل : إن المراد بهم النساء خاصة وروى عن مجاهد وإبن عمر وروى عن أنس بن مالك أنه قال : جاءت أمرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : بأبي أنت وأمي يارسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر قال : أي شيء قلت فيكن قالت : سميتنا السفهاء فقال : الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه قالت : وسميتنا النواقص فقال : كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها ثم قال : أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمشتحط في دمه في سبيل الله تعالى فإا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت : السوداء ياله من فضل لولا ما يتبعه من الشرط
وقيل إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير وقريب منه ما روى عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الإختصاص وهو شامل لإختصاص الملكية وإختصاص التصرف وأيد ماذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم إستطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل وقرأ نافع وإبن عامر قيما بغير ألف وفيهكما قال أبو البقاءثلاثة أوجه : أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياءا حملا على قيام وعلى إعتلالها في الفعل والثاني أنها جمع قيمةكديمة وديم والمعنى إن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها وقال أبو علي : هذا لا يصح لأنه قد قريء في قوله تعالى : دينا قيما ملة إبراهيم وقوله سبحانه : الكعبة البيت الحرام قيما ولا يصح معنى القيمة فيهما
والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا وقرأ إبن عمرقوامابكسر القاف وبواو وألف وفيه وجهان : الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل والثاني أنه أسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر وقريء كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض وقريء بفتح القاف وواو وألف وفيه وجهان : أحدهما أنه أسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام وثانيهما أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى القامة يقال : جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس وقال عبدالله بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب (4/202)
حيث قصدت بها قضيت حاجتك وقال قيس بن سعد : اللهم أرزقني حمدا ومجدا فإنه لأحمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال وقيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا فقال : هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها وفي منثور الحكم من أستغنى كرم على أهله وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة وكانوا يقولون : أتجروا وأكتسبوا فإنكم في زمان إذا أحتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه وقال أبو العتاهية : أجلك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون جليل إذا مالت الدنيا على المرء رغبت إليه ومال الناس حيث يميل وليس الغني إلا غنى زين الفتى عشية يقري أو غداة ينيل وقد أكثر الناس في مدح المال وأختلفوا في تفضيل الغني والفقر وأستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين : قالوا أغتني ناس وإنا نرى عنك وأنت العلم المال مال قلت غنى النفس كمال الغنى والفقر كل الفقر فقد الكمال وله أيضا قالوا حوى المال رجال وما على كمال نلت هذا المنال فقلت حازوا بعض أجزائه وإنني حزت جميع الكمال وأرزقوهم فيها وأكسوهم أي أجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الإنفاق وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة ولو قيل : منها كان الإنفاق من نفس المال وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية
وقولوا لهم قولا معروفا 5 أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولى لليتيم : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا لغت ورشدت أعطيتك مالك وعن مجاهد وإبن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة وقال إبن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا وقال الزجاج : علموهممع إطعامكم وكسوتكم إياهمأمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل وقال القفال : إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زل صباه يرد المال إليه وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر وإحتياج
وأخرج إبن جرير عن إبن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له : عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأؤلياء وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكرقاله غير واحدوليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقليكما قيلإذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له وإن منها ما مأخذه العقل وقد برد به الشرع وإنما الخلاف فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلاهل هو مأخذه الشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول وأبتلوا اليتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق والنهي عنه عند كون (4/203)
أصحابها سفهاء قاله شيخ الإسلاموهو ظاهر على تقدير أن يراد من السفهاء المبذرين بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه بإعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء وقيل : إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الإستطراد والخطاب للأولياء والإبتلاء الإختبار أيوأختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الإهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم والإقتصار على هذا الإهتداء رأي أب يحنيفة رضي الله تعالى عنه والشافعي رحمه الله تعالى يعتبر مع هذا أيضا الصلاح في الدين وإلى ذلك ذهب إبن جبير ونسب إلى إبن عباس والحسن
وأتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الإختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية وقال الإمام مالك : إنه بعد البلوغ وفرع الإمام الأعظم على كون الإختبار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن ذلك الإختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا وقال الشافعي : الإختبار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيموهو موقوف على الشرطينوهما إنما يتحققان بعد بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس حتى إذا بلغوا النكاح أي إذا بلغوا حد البلوغ وهو إما بالإحتلام أو بالسنوهو خمس عشرة سنةعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفةوعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها والإستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا أستكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدودضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وولجارية تمام سبع عشرة سنةوله في ذلك قوله تعالى : حتى يبلغ أشده وأشد الصبي ثماني عشرة سنةهكذا قاله إبن عباسوتابعه القتبي وهذا أقل ما قيل فيه فيبني الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لإشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة وعنه في الغلام تسع عشرة سنة والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة وقيل : فيه إختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة وشنع إبن حزم الضال عليه والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومن وفداء بأسرى منا أو مال وإسترقاق أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجرء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحيته لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الإحتلام والإحبال والحيض والحبل (4/204)
في الكفار دون المسلمين فلا فإن أنستم أي أحسستمقاله مجاهدوأصل معنى الإستئناسكما قال الشهاب التظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به ثم عم في كلامهم قال الشاعر : آنست نبأة وأفزعها الق
ناص عصرا وقد دنا المساء ثم أستعير للتبين أي علم الشيء بينا وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي وقرأ إبن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى لحاء وحذفت لإلتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس وقيل : إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف أتصل بها تاء الضمير أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي : خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس منهم رشدا أي إهتداءا إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وقيل : صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة وقريء رشدا بفتحتين ورشدا بضمتين وهما بمعنى رشدا وقيل : الرشد بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية وبالفتح في الأخروية لا غير والراشد والرشيد يقال فيهما فأدفعوا إليهم أموالهم أي من غير تأخير عن حد البلوغ كما تدل عليه الفاء وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى وقد تقدم الكلام في ذلك ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله : سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وتسمى إبتدائية في ذلك ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو وذكره الكثير من الأصوليين خلافا لمن وهم فيه وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للإبتلاء وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لإبن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك : إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فأحسنت إليك جواب إن جئتني وأستغنى به عن جواب إن وعدتك وزعم إبن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال وكأنه قيل : إن جئتني في حال وعدي لك والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر فأنت حر جواب إن دخلت وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء والدليل على الجواب جواب في المعنى والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل : إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلأ إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول وهو مذهب الشافعي وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال : إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقد عز زانها كرم وعليه فصحاء المولدين وقال بعض الفقهاء : الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني والشرط الثاني وجوابه جواب الأول فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء وقال بعضهم : (4/205)
إذا أجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحوإن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليكوإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي أرتضاه جماعة منهم الزمخشري ومذهب الزجاج وبعض النحاة والمؤنة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر وإذا متمحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى وأبتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم فإستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورا وخفاءا وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا مالم يؤنس منهم الرشد وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين وبه قال مجاهد فقد أخرج إبن المنذر وغيره عنه أنه قال : لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط مالم يؤنس منه رشد ونسب إلى الشعبي وقال الإمام الأعظم إذا زادت عل ىسن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديثيدفع إليه ماله وإن لم يؤنس الرشد لآن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب أنقطع عنه الرجاء غالبا فلا معنى للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى : وآتو اليتامى أموالهم والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه بإعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه وإذا أمتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين
وقال أهل الطباع : من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ إثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر ففي هذه المدة يمكن أن يولد له إبن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لإبنه إبن
وأنت تعلم أن الإستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهرا بناءا على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع وقد مر الكلام في ذلك وأعترض على قوله : على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه وأستدل عليه بما أستدلكان الدفع حينئذ عند إيناس الرشدوهو مذهب الشافعي وقول الإمامينفلم يصح أن يقال : إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ماذاوهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألةوأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لابد وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في إشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر : لا شك (4/206)
أن المراد من إبتلاء اليتامى المأمور به إبتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر فإن آنستم منهم رشدا فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان ثم قال : والقياس الجلي يقوى الإستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الإنتفاع به فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال إبن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وتلبعه في ذلك سفهاء الشيعة كيوسف الأوالي وغيرهولا يخفى أن المسألة من الفروع وكم لإبن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أو هي وأوهن من بيت العنكبوت
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال وأعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الآلهية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب إختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم ثم هذا وإن أقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده ونظير ذلك من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا وأعتبرت الزيادة سبع سنين لأنهاكما تقدممدة معتبرة في تغير الأحوال والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع إلا أنا أعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على ان التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم فأفهم ذاك والله تعالى يتولى هداك
والإسراف في الأصل تجاوز الحد المباح إلى مالم يبح وربما كانذلك في الإفراط وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافا وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه وأصلها كما قيل : من البدار وهو الإمتلاء ومنه البدر لإمتلائه نورا والبدرة لإمتلائها بالمال والبيدر لإمتلائه بالطعام والأسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا إليه وقيل : إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة علىأبتلوالا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ (4/207)
وهذا قبله و ي كبروا بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن وأما بالضم فهو في القدرة والشرف وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الإنتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى فالإستعفاف الكف وهو أبلغ من العف وفي المختار يقال : عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف والمرأة عفة وعفيفة وأعفه الله تعالى وأستعف عن المسألة أي عف وتعفف تكلف العفة وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى ومن كان من الأولياء والأوصياء فقيرا فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية من سد الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة
وأخرج إبن المنذر والطبراني عن إبن عباس أنه قال : يأكل الفقير إذا ولى مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له مالم يسرف أو يبذر وأخرج أحمد وأبو داؤد والنسائي وإبن ماجه عنإبن عمر سأل النبي فقال : ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله وهل يعد ذلك أجرة أم لا قولان ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام وعن سعيد إبن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما أستقرض وهذا هو الأكل بالمعروف ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وإبن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن أستغنيت أستعففت وإن أحتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت وأخرج أبو داؤد والنحاس كلاهما في الناسخ وإبن المنذر من طريق عطاء عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ومن كان فقيرا الآية نسختها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إلخ وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة ورواه عكرمة عنإبن عباس وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله وحكى ذلك عن يحيى بن سعيد وهو مردودلأن قوله سبحانه : فليستعفف لا يعطي معنى ذلك والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إليهم أي اليتامى بع رعاية ماذكر لكم أموالهم التي تحت أيديكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للإهتمام به فأشهدوا عليهم بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب وأستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة وكفى بالله حسيبا 6 أي شهيدا قاله السدي وأخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وكفى بالله حسيبا أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة وقيل : إن المعنى وكفى به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حد لكم ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده وفي فاعل كفى كما قال أبو البقاء : وجهان أحدهما أنه الأسم الجليل (4/208)
والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر فالتقدير أكتفوا بالله تعالى والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير كفى الإكتفاء بالله تعالى فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به و حسيبا حال وقيل : تمييز وكفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين والتقدير وكفاكم الله حسيبا وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير وكفاكم الله شركم ونحو ذلك
هذا ومن باب الإشارة ياأيها الناس أتقوا ربكم أي أحذوره من المخالفات والنظر إلى الأغيار وألزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم الذي خلقكم من نفس واحدة وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين إبن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة : وإني وإن كنت إبن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وخلق منها زوجها وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق وبث منهما رجالا كثيرا أي كاملين يميلون إلى أبيهم ونساءا ناقصين يميلون إلى أمهم وأتقوا الله الذي تساءلون به فلا تثبتوا لأنفسكم وجودا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا وأتقوا الأرحام أي أجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادي العالية إن الله كان عليكم رقيبا ناظرا إلى قلوبكم مطلعا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حصرته أرتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها البوم وآتوا اليتامى وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم أموالهم وهي حقوقهم من الكمالات ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوا بدله الخبيث منها وتتصفوا به ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم بأن تخلطوا الحق بالباطل إنه كان حوبا كبيرا أي حجابا عظيما وإن خفتم أن لا تقسطوا أي تعدلوا في تربية القوى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة فإن خفتم أن لا تعدلوا بين النساء فتقعوا في نحو ماهربتم منه فواحدة تكفيكم في تحصيل غرضكم وآتوا النساء صدقاتهن مهورهن نحلة عطية من الله وفضلا وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم وذلك من جملة ما يربي به القوى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة ولا تؤتوا السفهاء أموالكم أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم التي جعل الله لكم قياما وأرزقوهم فيها أي غذوهم بشيء منها وأكسوهم أي حلوهم وقولوا لهم قولا معروفا لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم وأبتلوا اليتامى أي أختبروهم ولعله إشارة إلى إختبار الناقصين من السائرين حتى إذا بلغوا النكاح وصلحوا للأرشاد والتربية فإن آنستم منهم رشدا أي إستقامة في الطريق وعدم تلون فأدفعوا إليهم أموالهم التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار (4/209)
والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على ايديهم ولا تأكلوها أي تنتفعوا بتلك الأموال دونهم إسرافا وبدارا أن يكبروا بالتصدي للأرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة ومن كان منكم غنيا بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا فليستعفف عما للمريد ومن كان فقيرا لا يتحمل الضرورة فليأكل أي فلينتفع بما للمريد بالمعروف وهو ما كان بقدر الضرورة فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق وكفى بالله حسيبا لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو حسبنا ونعم الوكيل للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث والمراد من الرجال الأولاد الذكور أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا ومن الأقربين الموروثون ومن الوالدين مالم يكن بواسطة والجد والجدة داخلان تحت الأقربين وذكر الولدان مع دخولهما أيضا إعتناءا بشأنهما وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة وأعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد
وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة ومنفي مما متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مما ترك وجوز تعلقه بنصيب
وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون المراد من النساء البنات مطلقا أو الإناث كذلك وإيراد حكمهم على الإستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للإعتناءكما قال شيخ الإسلامبأمرهن والإيذان بأصالتهن في إستحقاق الأرث والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة وللرد عليهم نزلت هذه الآيةكما قال إبن جبير وغيرهوروى أن أوس بن ثابت وقيل : أوس بن مالك وقيل : ثابت بن قيس وقيل : أوس بن الصامتوهو خطألأنه توفى في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك إبنتين وإبنا صغيرا وزوجته أم كحة وقيل : بنت كحة وقيل : أم كحلة وقيل : أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد أو سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت أمرأته لهما : تزوجا بالإبنتين وكانت بهما دمامة فأبيا فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما أدري ما أقول فنزلت للرجال نصيب الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى إبني العم فقال : لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك ويستفتونك في النساء إلى قوله : عليما ثم نزل يوصيكم الله في أولادكم إلى قوله : والله عليم حكيم فدعى بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقى بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط إبني العم شيئا وفي بعض طرقهأن الميت خلف زوجة وبنتين وإبني عم فأعطى الزوجة الثمن والبنتين الثلثين وإبني العم الباقي
وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ومن عمم الرجال والنساء وقال : إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة وإستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه (4/210)
ومن لم يذهب إلى ذلك وقال : إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الإستحقاق كفهم المقدار المستحق مما سيأتي من الآيات وعلل الإقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الإهتمام بشأن اليتامى وأحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا : لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : للرجال إلخ غاية ما في الباب إن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه
مما قل منه أو كثر بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لإستلزامه إبدال منمن منوإتحاد اللفظ في البدل غير معهود
وجوز أبوالبقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في ترك أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا وفائدته دفع توهم إختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق وتقديم القليل على الكثير من باب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها نصيبا مفروضا 7 نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني امصدرية وإلا فهو أسم جامد ونقل عن بعضهم أنه مصدر وإما على الحالية من الضمير المستتر في قل و كثر أو في الجار والمجرور الواقع صفة أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه و قيل : هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا وقيل : منصوب على إضمار أعني ونصبه على الإختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على إشتراط عدم التنكير في الأسم المنصوب عليه والفرضكالضربالتوقيت ومنه فمن فرض فيهن الحج والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمى بذلك لأن له معالم وحدودا ويستعمل بمعنى القطع ومنه قوله تعالى : لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم
وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى : فأقرؤا ما تيسر من القرآن وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهو آحاد ونفي الفضيلة محتمل ظاهر وذهب الشافعية إلى ترادفهما وأحتج كل لمدعاه بما أحتج به والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد وقال بعض المحققين : لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي كحكم الكتاب وما ثبت بدليل ظني كحكم (4/211)
خبر الواحد في الشرع فإن جاحد الأول كافر دون الثاني وتارك العمل بالأول مؤلا فاسق دون الثاني وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني وهذا مجرد إصطلاح فلا معنى للإحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم إمتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ألا ترى أن قولهم : الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب ثم إستعمال الفرضفيما ثبت بظني والواجب فيما ثبت بقطعيشائع مستفيض كقولهم : الوتر فرض وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ويسمى فرضا عمليا وكقولهم : الصلاة واجبة والزكاة واجبة ونحو ذلك ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في رد إستدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون والمفروض ما علم بدليل قاطع وتريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالإتفاق فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان
وأحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وإذا حضر القسمة اي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام وقيل : قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني أولوا القربى ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله واليتامى والمساكين من الأجانب فأرزقوهم منه أي أعطوهم شيئا من المال أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة وقيل : الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم وقيل : أمر وجوب وأختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن إبن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروى ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها
وأخرج أبو داؤد في ناسخه وإبن أبي حاتم من طريق عطاء عن إبن عباس أنه قال : وإذا حضر القسمة الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مما قل منه أو كثر
وحكى عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون ومن اليتامى والمساكين غير الوارثين وأن قوله سبحانه : فأرزقوهم منه راجع إلى الأولين وقوله تعالى : وقولوا لهم قولا معروفا 8 راجع للآخرين وهو بعيد جدا والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين والمراد من القول المعروف أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم وقوله سبحانه : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فيه أقوال : أحدها أنه أمر للأوصياء بأن (4/212)
يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم وإلى ذلك يشير كلام إبن عباس فقد أخرج إبن جرير عنه أنه قال في الآية : يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد ضغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوه تعالى : للرجال إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم و قيل في وجه الإرتباط : إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم وقيل : إن الآية مرتبطة بقوله تعالى : وأبتلوا اليتامى وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضربهم بصرف المال عنهم ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير
وروى عنإبن عباس أيضا ما يؤيده فقد أخرج إبن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ماله وما عليه من دين ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس أو الربع يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغارلا يرضى أن تيركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أولا يأمروه بما يضر فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم وإتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان من حرمان ضعاف ذريتهم ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية وقد روى عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث وورد في الخبر ما يؤيده وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ مازاد من الوصية فيرتبط به ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء والورثة بأمر مرضى المؤمنين وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لاتوص لأقاربك ووفر على ذريتك وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لو بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الإستقبال وأوجبوا حمل تركوا (4/213)
على المشارفة ليصح وقوع خافوا جزاءا له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة وفي ترتيب الأمر عل ىالوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع أولادهم وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم أخرج إبن جرير عن الشيباني قال : كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبدالملك وفينا إبن محيريز وإبن الديلمي وهانيء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لإبن الديلمي : ياأبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال : ياإبن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى ثم قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك قلت : بلى فتلا وليخش الذين الآية وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن من خلفهم ظرف لتركوا و في التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة وجوز أن يكون حالا من ذرية و ضعافا كما قال أبو البقاء : يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة وجاز ذلك مع حرف الإستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه إنحدار وكذلك خافوا يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت وقريءضعفاء وضعافي وضعافي نحو سكارى وسكارى فليتقوا الله في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع إستلزامه له عادة وليقولوا لليتامى أو للمريض أو لحاضري القسمة أو ليقولوا في الوصية قولا سديدا 9 فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه مالا يؤدي إلى تجاوز الثلث والسديدعلى ما قال الطبرسي المصيب العدل الموافق للشرع وقيل : مالا خلل فيه و يقال سد قوله يسد بالكسر إذا صار سديدا وأنه ليسد في القول فهو مسد إذا كان يصيب السداد أي القصد وأمر سديد وأسد أي قاصد والسداد بالفتح الإستقامة والصواب وكذلك السدد مقصور منه وأما السداد بالكسر فالبلغة وما يسد به ومنه قولهم : فيه سداد من عوزقاله غير واحدوفي درة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السينوهو لحنوالصواب الكسر وتعقبه إبن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد فقال : يقال سداد من عوز وسداد وكذا حكاه إبن قتيبة في أدب الكاتب وكذا في الصحاح إلا أنه زادوا الكسر أفصح نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير وأنشد قول العرجي : أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر فليحفظ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إستئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي و ظلما إما حال أي ظالمين أو مفعول لأجله وقيل : منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على (4/214)
وجهه وقيل : على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الإستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما ولا الآكل ظالما وقيل : ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم وفيه منع ظاهر
إنما يأكلون في بطونهم أي ملء بطونهم وشاع هذا التعبير في ذلك وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن وفي بعض البطن دونه وهو المراد في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص ولا ينافي هذا قول الأصوليين : إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخمس لغيره فقد قال عصام الملة : إن مذهب الكوفيين والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو وقال شهاب الدين : الظاهر إن ماذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال : أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه
وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى : يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم والقول لا يكون إلا بالفم وقوله تعالى : ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والقلب لا يكون إلا في الصدر وقوله سبحانه : ولا طائر يطير بجناحيه والطير لا يطير إلا بجناح فقد قالوا : إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت إن ضربت زيدا في الدار أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه ولذا قال بعض الفقهاء لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه ولو قال إن ضربته أو جرحته أو قتلته أو رميته فشرطه كون المفعولية فيه وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر أنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصوف فعل الفاعل وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه أو يؤلمه ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك والجار والمجرور متعلق - بيأكلون - وهو الظاهر وقيل إنه حال من قوله تعالى نارا أي ما يجر إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه واستبعده بعض المحققين وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن (4/215)
ليلة أسري به قال نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وسيصلون سعيرا أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة والباقون بفتحها وقرىء وسيصلون بتشديد اللام وفي الصحاح يقال صليت اللحم وغير أصلية صليا مثل رميته رميا إذا شويته وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء - كأنك تريد الإحراق - قلت أصليته بالألف وصليته تصلية ويقال صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي
... ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين ...
وقال بعض المحققين إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه وقيل إنه يتعدى بالباء فيقال صلى بالنار وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم ولا يخفى أنه إن أراد أن حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وإن تخالطوهم الآية يوصيكم الله شروع في بيان ما أجمل في قوله عزل وجل للرجال نصيب الخ والوصية كما قال الراغب أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة في أولادكم أي في توريث أولادكم أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية وقيل في بمعنى اللام كما في خبر إن امرأة دخلت النار في هرة أي لها كما صرح به المحاة والخطاب قيل للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده وقيل الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم بيبين لكم وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاءا بعد المورث وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر
وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي فلم يرد علي شيئا فنزلت للذكر مثل حظ الأنثيين في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف والمراد أنه يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور (4/216)
والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم السمن منوان بدرهم والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه - مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث - ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث وأن يقال للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره ولذا قال سبحانه إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فقد ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث ولإيثار اسمى الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا - كما هو زعم أهل الجاهلية - حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهن أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهن ومما اشتهر
... إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة ...
وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه - أن حواء عليها السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل - ذكره بعضهم ولم أقف على صحته ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى واستثنى من العموم الميراث من النبي ص - بناء على القول بدخوله ص - في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة و السلام المتناولة له لغة والدليل على الاستثناء قوله ص - نحن معاشر الأنبياء لا نورث وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها ص - حتى قالت له بزعمهم يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا وقالوا إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى أسكنوهن فقال كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله وأيضا العام - وهو الكتاب - قطعي والخاص - وهو خبر الآحاد - ظني فيلزم ترك القطعي بالظني
وقالوا أيضا إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى وورث سليمان داود وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وابو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وقد أخرج البخاري (4/217)
عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة قالوا اللهم نعم ثم أقبل على علي والعباس فقال أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله ص - قد قال ذلك قالا اللهم نعم فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه وفي كتب الشيعة ما يؤيده فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولإبنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا دلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز إتفاقا وإن لم يثبت وبقى الخبر من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا ومنه قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله : لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك والإحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر إبنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ولذلك قال بقول إمرأة لاندري أصدقت أم كذبت فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبدالله أن سليمان ورث داؤد وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه وأيضا إن داؤد عليه السلامعلى ما ذكره أهل التاريخكان له تسعة عشر إبنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم لا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لإشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة
وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي إمتيازا لأن البر والفاجر (4/218)
يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا وهذا أفحش من الأول وإن كان المراد بعض الأولاد أو أريد من يعقوب غير المتبادر وهو إبن إسحاق عليهما السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته والإبن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي أنقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني وأتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وأنتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة وإحتمال موت الفجأة
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشى من أشرار بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الآلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر وإتصال الثواب والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة فما الضرورة هنا أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الإستعمال في العرف مختصا بالمال وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في إستعمال القرآن المجيد ومن ذلك قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب وأرثوا الكتاب إلى غير ما آية ومن الشيعة من أورد هنا بحثا وهو أن النبي إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن والجواب أنذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها وأسامة وسلمه إليهما وكان كل من بيده شيء مما بناه له رسول الله يتصرف فيه (4/219)
تصرف المالك على عهده عليه الصلاة و السلام ويدل على ماذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة أتسأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للإستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : وقرن في بيوتكن فأضاف البيوت إليهن ولم يقل في بيوت الرسول ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل أن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي بوجه وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وأنحرف مزاج رضاها رضيا لله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره ألأسلمي في الترجمةالعبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله وخبره عليه الصلاة و السلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعه واجب عليه سواء سمعه غيره أو لم يسمع وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي وسمع منه بلا واسطة فخبر نحن معاشر الأنبياء لا نورث عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه والقطعي يخصص القطعي إتفاقا ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لاتدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها وكذأ أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحق دعوى الأرث ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق رد شهادتهم بل لم يقض بها وفرق بين عدم القضاء هنا والرد فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة وإنحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هرون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر أسترضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنهكما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلويوغيرها وفي محاج السالكين وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها أنقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد أسترضاءها فأتاها فقال : صدقت يابنت رسول الله فيما (4/220)
أدعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وإبن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها فقالت : أفعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال : لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك فقالت : والله لتفعلن فقال : والله لأفعلن ذلك فقالت : اللهم أشهد ورضيت بذلك وأخذت العهد عليه فكان ابو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وإبن السبيل وبقى الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها وقد كان دفع الإلتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب أو تضييق الأمر على المسلمين
وقد ورد المؤمن إذا إبتلي ببليتين أختار أهونهما على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب فإن كن نساء الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساءا خلصا ليس معهن ذكر وبهذا يفيد الحمل وإلا لأتحد الأسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : فوق إثنتين إذا جعل صفة لنساء فهو محل الفائدة وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأنكانليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لإختصاصه بباب نعم والتنازعكما قاله الشهابوالمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم إختصاص المراد بعدد دون عدد أي فإن كن نساء زائدات على إثنتين بالغات ما بلغن
فلهن ثلثا ما ترك أي المتوفي منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه ومثله شائع سائغ وإن كانت أي المولودة المفهومة من الكلام واحدة أي أمرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت
وقرأ نافع وأهل المدينة واحدة بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل وقال إبن تمجيد : القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر فإنه إن كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فلها النصف أي مما ترك وترك إكتفاءا بالأول و النصف مثلث كما في القاموس أحد شقى الشيء وقرأ زيد بن ثابت النصف بضم النون وهي لغة أهل الحجاز وذكر أنها أقيس لأنك تقول : الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل
وأخذ إبن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر وجعل نصيب الأثنتين النصف كنصيب الواحدة وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للأثنتين وما فوقهما الثلثين وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ووجه ذلكعلى ما قاله القطبأنه لما تبين أن للذكر مع ألانثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن (4/221)
للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الإجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الإثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الإنفراد وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية وأورد أن الإستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور وأجيب بأن المستخرج هو أحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة أو الإشارة وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داؤد وإبن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : جاءت أمرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : يارسول الله هاتان إبنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله إلى عمهما فقال : أعط لإبنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك
فدل ذلك على أن إنفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ووجهه أن البنتين لما إستحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا إنفردا عنه إستحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا إنفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت فيكون قوله سبحانه : فإن كن نساء إلخ بيانا لحظ الواحدة وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فغيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها وهذا مما لا غبار عليه وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين
أما الأول فلأنها لما أستحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين وجعله العلامة ناصر الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للإستغناء عنه بما تقدم ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الإنفاق ولا يخفى ضعفه وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء بفوق إثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد والبنتان تشارك الجماعة في التعدد وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد وعدم إعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما
وقيل : إن معنى الآية فإن كن نساء إثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الإثنتين كما روى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع إثنان وأعترض على إبن عباس (4/222)
رضي الله تعالى عنه بأنه لو أستفيد من قوله سبحانه : فوق إثنتين أن حال الإثنتين ليس حال الجماعة بناءا على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد وقد قيل به وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وإن كانت واحدة وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر وأجيب بأن قوله سبحانه : نساء ظاهر في كونها فوق إثنتين فعدم الإكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف والمتيقن هو النصف والزائد مشكوك غير ثابت فتعين المصير إليه ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلككما قيل فقال ما قال وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط : صح رجوع إبن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم
وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الأثنتين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فأفهم ولأبويه أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم إختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب ولا يجوز أن يقال في إبن وبنت إبنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج لكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى : السدس والخبر وهو لأبويهوزعم إبن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ويكون أصل الكلاموالسدسلأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الإقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه : فإن كن نساء فوق إثنتين فلهن ثلثا ما ترك فأقتضى إشتراكهن فيه ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدي المبدل منه والبدل واحدا وإنما فائدته التأكيد بمجموع الأسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب وإلا لزم زيادة معنى في البدل فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله : لكل واحد منهم السدس وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من إستحقاق كل واحد منهما السدس إستحقاقهما معا للثلث ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل ولذلك أتى بالضمير ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصناعان كذا وإمتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا بل تقول : يصنع كذا إلا أنه أعترض على جعل لأبويه خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك : ما محل لأبويه من الإعراب تضطر إلى أن تقول : إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم (4/223)
ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لأبويه وأختير هذا التركيب من أن يقال : ولكل واحد من أبويه السدس لما في الأول من الإجمال والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني ودون أن يقال : لأبويه السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لإحتماله التفاضل وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة السدس بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن مما ترك متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ والعامل الإستقرار أي كائنا مما ترك المتوفي إن كان له ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر وولد الإبن كذلك ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد عل ىالبنت وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم فإن لم يكن له ولد ولا ولد إبن وورثه أبواه فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدل عليه الفحوى فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض إنحصار الوارث في أبويه وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون وقيل : إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأبوفيه تأمللأن الظأهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك ولما أن حظها أخصر وإستحقاقه أتم وأوفر هذا إذ لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين فللأم ثلث ما بقى بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لإبن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه : ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عزوجل : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا
ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول : بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل ونسب إلى إبن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لإجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم إثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر وإذا جعل لها ثلث ما بقى من فرض الزوج كان لها واحد وللأب إثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن المسألة من إثني عشر لإجتماع الثلث والربع فإذا أخذت الأم أربعة بقى للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه ورجح مذهب الجمهور على مذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء (4/224)
إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند إنفرادهما عن أحد الزوجين وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع وهذا الأفضاء ظاهر في المسألة الأولى وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لإبن عباس فقد أخرج عبدالرزاق والبيهقي عن عكرمة قال : أرسلني إبن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين فقال زيد : للزوج النصف وللأم ثلث ما بقى وللأب بقية المال فأرسل إليه إبن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا قال : لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه : إن معنى قوله تعالى : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث هو أن لها ثلث ماورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات : وإن كانت واحدة فلها النصف بعد قوله سبحانه : فإن كن نساء فوق إثنتين فلهن ثلثا ما ترك فيلزم أن يكون قوله تعالى : وورثه أبواه خاليا عن الفائدة فإن قيل : نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا : ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالإبن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأثنى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقى من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الإبن والبنت وكما في حق الأبوين إذا أنفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا وليته سمع ذلك فليفهم
وقد أختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها فمذهب إبن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق وروى ذلك اهل الكوفة عن إبن مسعود في صورة الزوج وحده إن للأم ثلث جميع المال وقول أبي يوسف وهو الرواية الأخرىعن الصديق رضي الله تعالى عنه : إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب و الوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى : فلأمه الثلث في حق الأب وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الإختلاف فيما بين الصحابة ولا إستحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك أمرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب فإن للمرأة الربع وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي فقد فضلت ههنا الانثى لزيادة قربها على الذكر وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الإختلاف في السبب بل مع الإتفاق فيه فإن كان له إخوة فلأمه السدس الجمهور على أن المراد بالأخوة عدد ممن له أخوة من غير إعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات وساء كانوا من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما
وخالف إبن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناءا على أن الأخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج إبن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن إبن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين (4/225)
لا يردان الأم عن الثلث وتلا الآية ثم قال : والأخوان ليسا بلسان قومك أخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس وقال الجمهور : إن حكم الأثنين في باب الميراث حكم الجماعة ألا يرى أن البنتين كالبنات والأختين كالأخوات في إستحقاق الثلثين فكذا في الحجب وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الأثنين وما فوقهما وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الأخوة عليه بل قال : جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الإثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له : ياأبا سعيد إن الله تعالى يقول : فإن كان له أخوة وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب تسمى الأخوين أخوة وهذا يعارض الخبر السابق عن إبن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على إثنين في لغة العرب وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه أحتج بأن إطلاق الأخوة على الأعم كان إجماعا
ومن هنا أختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة وصرح بعض الأصوليين أنها في الأثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة والنحاة على خلاف ذلك وخالف إبن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الأخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب والخلص لا ذكور معهم فيغلبون وهو كلام متين إلا أن العمل على إختلافه إعتبارا لوصف الأخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف إبن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الأخوة لام لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب ههنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة وهو أنه إن كان هناك أخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الأخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الأسم حقيقة في الأصناف الثلاثة وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الأخوة يحجبون الأم حجب نقصان وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأبوهو مذهب جمهور الصحابة أيضاويروى عن إبن عباس أنه للأخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الأخوة كفارا أو أرقاء وقد يستدل عليه بما رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة و السلام أعطى الأخوة السدس مع الأبوين
وللجمهوركما قال الشريفإن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل : فإن كان له أخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر فالأخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد وليس حال الأخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها وقد روى عن طاوس أنه قال : لقيت إبن رجل من الأخوة الذين أعطاهم رسول الله السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال : كان ذلك وصية وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للأخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي وفي الدر المنثور أن ابن
سقط من نهاية ص 226 إلى ص 229 فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهاأو دين فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا أختص بتشريف الخطاب وتقديم ذكر حكم ميراثه وكذا قياس كل رجل وأمرأة إشتراكا في الجهة والقرب ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لإستواء الذكر والأنثى منهم وإن كان رجل المراد بالرجل الميت وهو أسم كان يورث على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف كلالة هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الأعياء قال الأعشى : فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفي حتى ألاقي محمدا ثم أستعيرت وأستعملت إستعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفها بالنسبة إلى قرابتهما وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة جرير وعبد الرزاق (4/226)
7 - والبيهقي عنه وقرأ حمزة والكسائي فلإمه بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام وقيل إنه اتباع لكسرة الميم وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية الحركة عارضة وهي الإعرابية وقيل إنه لغة في الأم وأنكرها الشهاب وفي القاموس الأم - وقد تكسر - الوالدة ويقال أمه وأمهة وتجمع على أمات وأمهات وهذه لمن يعقل وأمات لما لا يعقل وحكى ذلك في الصحاح عن بعضهم من بعد وصية متعلق - بيوصيكم - والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية
وجوز أن يكون حالا من السدس والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ويقدر لما قبله مثله كالتنازع وقيل إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء من بعد وصية يوصى بها الميت
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يوصى مبنيا للمفعول مخففا وقرىء يوصى مبنيا للفاعل مشددا والجملة صفة وصية وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها وقيل التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها أو دين عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة وإيثار أو على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه عنه جماعة - لإظاهر كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث أنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت وقال ابن المنير إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ثم اقتسام ذوي الميراث فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية والدين صورة الواقع شرعا ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب للورثة و آباؤكم معطوف عليه و لا تدرون مع ما في حيزه خبر له و - أي - إما استفهامية مبتدأ وأقرب خبره والفعل متعلق عنها فهي سادة مسد المفعولين وإما موصولة وأقرب خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته وحذف صدر صلته والمفعول الثاني محذوف ونفعا نصب على التمييز وهو منقول من الفاعلية والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا وليس المراد - كما قال شيخ الإسلام - بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق (4/227)
8 - أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور وبتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى واختار كثير من المحققين كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة وجعل الخطاب للمورثين وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل وكانت الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا بعد درجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى وخص مجاهد بالنفع الدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا لماذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير وربما يقال المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضل عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة والكلام مسوق لرد ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا - كما قال السدي - لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطلق القتال وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر وقيل إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ونسب إلى أبي مسلم ولا يخفى من يده بعده فريضة من الله (4/228)
9 - مصدر مؤكد لنفسه على حد هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله وقيل إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى وقيل بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم في السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بد لهذا من دليل ولم نطلع عليه إن الله كان عليما أي بالمصالح والرتب حكيما في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة إني أعلم ما لا تعلمون والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ - كما قال الخليل - كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان وقال سيبويه القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن دخلتم بهن أولا إن لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم ولذا قال سبحانه لهن ولم يقل لكم ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن الزوجة وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء الله تعالى فإن كان لهن ولد على ما ذكر من التفصيل وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه فلكم الربع مما تركن من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر من بعد وصية يوصين بها أو دين متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره ولهن أي الأزواج تعددن أو لا الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد على التفصيل المتقدم (4/229)
وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها صفة كالهجاجة للأحمق قال الشاعر : هجاجة منتخب الفؤاد كأنه نعامة في واد وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه إستعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثني ولا تجمع وأختار كثير كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس والكل لإحاطته بالعدد وقال الحسين بن علي المغربي : أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره أخذا من الكل وهو الظهر والقفا ونصبها على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة وأختاره الزجاج أو على أنها خبر لكن و يورث صفة لرجل أي إن كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد وذكر أبو البقاء إحتمال كون كان تامة و رجل فاعلها و يورث صفة له و كلالة حال من الضمير في يورث وإحتمال نصبها على هذا الإحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر وجوز فيها الرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا وجعل نصبها على الإستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث
وقريء يورث و يورث بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل فإنتصاب كلالة إما على أنها حال من ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يورث وارثه حال كونه ذا كلالة وإما على أنها مفعول به أي يورث ذا كلالة وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا ثم إن الذي عليه أهل الكوفة وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث وروى عن آخرينمنهم إبن جبير وصح به خبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلمأنها بالمعنى الثاني ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف والأول منهما غير بعيد والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى أو أمرأة عطف على رجل مقيد بما قيد به وكثيرا ما يستغنى بتقييد المعطوف ولعل فصل ذكرها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام وقيل : لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناءا على ما روى عن جابر أنه قال : أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت : كيف الميراث وإنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض لذلك وله أي الرجل وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد أو حتى أن ماورد على خلاف ذلك مؤل عند الجمهور كقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وأتى به مذكرا للخيار بين أنيراعى المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما والتذكير للتغليب وجوز أن يكون راجعا للميت أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل وضمير المرأة محذوف والمراد وله أولها أخ أو أخت أي من الأم فقطوعلى ذلك عامة المفسرينحتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه
وأخرج غير واحد عن سعيد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم وعن أبي من الأم وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء أستند إليها بناءا على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت وللأكثر (4/230)
وهو السدس والثلث هو فرض الأم فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم ويقال لهم إخوة أخياف وبنو الأخياف والإضافة بيانية والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث أو من رجل على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة وذكر الكلالةلتحقيق جريان الحكم المذكور وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك فلكل واحد منهما أي الأخت والأخ السدس مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى ولعله إنما عدل عنفله السدسإلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فإن كانوا أي الأخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب أكثر من ذلك أي المذكور بواحد أو بما فوقه والتعبير بأسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه وبعض المحققين ألتزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد إنكشاف حال المشار إليه ولعل التعبير بأسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية والفاء لما مر من أن ذكر إحتمال الإنفراد مستتبع لذكر إحتمال العدد
فهم شركاء في الثلث يقتسمونه فيما بينهم بالسوية وهذا مما لاخلاف فيه لأحد من الأمة والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات وفيه خلاف الشيعة هذا ومن الناس من جوز أن يكون يورث في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث عل ىأن المراد به الوارث والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث أو أخيه أو أخته السدس فإن كانوا أكثر من ذلك أي من الإثنين بأن كانوا ثلاثة أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للأثنين لا يزاد عليه شيء ولا يخفى أن الكلام عليه قاصر عن بيان حكم صورة إنفراد الوارث عن الأخ والأخت ومقتض أن يكون المعتبر في إستحقاق الورثة للفرض المذكور إخوة بعضهم لبعض من جهة الأم فقط وخارج على مخرج لا عهد به وفيه أيضا ما فيه وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام قدس سره بما لا مزيد عليه
من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه ولا يوصى بأكثر من الثلث قاله إبن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية وفي يوصى قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول والبناء للفاعل و غير على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور وما حذف من المعطوف إعتمادا عليه ونظير قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقول الشاعر : ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف إكتفاءا به ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى أي يوصى بماذكر من الوصية والدين حال كونه غير مضار ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجيء الحال منه وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غير مضار وأختار بعضهم جعله حالا من وصية أو دين أي من بعد أداء وصية أو دين غير مضار ذلك الواحد وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء وجوز هذا البعض أن يكون المعنى (4/231)
على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره ويحتملكما قال جمعأن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ فقد أخرج إبن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ ومن أدعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان
وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر وأخرج أحمد وأبو داؤد والترمذي عن أب يهريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة وصية من الله مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية والتنوين للتفخيم و من متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة مؤكدا لفخامتها ونظير ذلك فريضة من الله ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله ما قاله الإمام من أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفرضية وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو حال رعاية الأولاد أولى وقيل إن الوصية أقوى من الفرض للدلالة على الرغبة وطلب سرعة الحصول فختم شرح ميراث الكلالة بها لأنها لبعدها ربما لا يعتني بشأنها فحرض على الإعتناء بها بذكر الوصية ولا كذلك ما تقدم أو منصوب بمضار على أنه مفعول به له إما بتقدير أي أهل وصية الله تعالى أو على المبالغة لأن المضارة ليست للوصية بل لأهلها فهو على حد ياسارق الليلة أهل الدار ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها مما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث أؤ به مثلا لقصد الإضرار دون القربة والإقرار بالدين كاذبا
والمراد من الأهل الورثة المذكورة ههنا ووقع في بعض العبارات أن المراد وصية الله تعالى بالأولاد ولعل المراد بهم الورثة مطلقا بطريق التعبير عن الكلي بأشهر أفراده كما عبر عن مطلق الإنتفاع بالمال بأكله وإلا فهو غير ملائم وإنما نصب مضار المفعول به لأنه أسم فاعل معتمد على ذي الحال أو منفي معنى فيعمل في المفعول الصريح ويشهد لهذا الإحتمال قراءة الحسن غير مضار وصية بالإضافة وذكر أبو البقاء في هذه القراءة وجهين : الأول أن التقدير غير مضار أهل وصية فحذف المضاف والثاني أن التقدير غير مضار وقت وصية فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ويقرب من ذلك قولهم : هو فارس حرب أي فارس في الحرب وتقول : هو فارس زمانه أي في زمانه والجمهور لا يثبتون الإضافة بمعنى في ووقع في الدر المصون إحتمال أنه منصوب على الخروج ولم يبين المراد من ذلك ووقع في همع الهوامع في المفعول به : إن الكوفيين يجعلونه منصوبا على الخروج ولم يبينه أيضا قال الشهاب : فكأن مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد فهو كقولهم : فضلة فلينظر والله عليم بالمضار وغيره وقيل : بما دبره بخلقه من الفرائض حليم 21 لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض (4/232)
بذلك والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة ثم أعلم أن الله سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات وذلك أن الوارث إما أنيتصل بالميت بنفسه من غير واسطة أو يتصل به بواسطة فإن أتصل بغير واسطة فسبب الإتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية فحصل هنا ثلاثة أقسام أشرفها وأعلاها الإتصال الحاصل إبتداءا من جهة النسب وذلك هو قرابة الولادة ويدخل فيها الأولاد والوالدان وثانيها الإتصال الحاصل إبتداءا من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي وثالثها الإتصال بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه : أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية وثانيها أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة والثابت إبتداءا أشرف من الثابت بواسطة وثالثها أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالظة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الإهتمام بأحوالهم فلهذه الأسباب وأشباهها أخر الله سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد إنطباقه على قوانين المعقولاتكما قاله الإمامتلك أي الأحكام المذكورة في شئون اليتامى والمواريث وغيرها وأقتصر إبن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث حدود الله أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شرطوه وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث أن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها
ومن يطع الله ورسوله فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه يدخله جنات نصب على الظرفية عند الجمهور وعلى المفعولية عند الأخفش
تجري من تحتها أي من تحت أشجارها وأبنيتها وقد مر الكلام في ذلك الأنهار أي ماؤها خالدين فيها حال مقدرة من مفعول يدخله لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك : مررت برجل معه صقر يصيد به غدا وصيغة الجمع لمراعاة معنى من كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها وذلك أي دخول الجنات على الوجه المذكور الفوز أي الفلاح والظفر بالخير العظيم 31 في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل والجملة أعترض ومن يعص الله ورسوله فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض وقال إبن جريج : من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث وحكى مثله عن إبن جبير
ويتعد حدوده التي جاء بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن جملتها ما قص لنا قبل أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة إستحلالا كما حكى عن الكلبي يدخله قرأ نافع وإبن عامر بالنون في الموضعين نارا أي عظيمة هائلة خالدا فيها حال كما سبق وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصيغة الإجتماع الذي هو أجلب للأنس والخلود في دار العقاب بصيغة الإنفراد الذي هو أشد في إستجلاب الوحشة وجوز الزجاج والتبريزي كون خالدين هناك و خالدا هنا صفتين لجنات (4/233)
أو نار وأعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس وله عذاب أي عظيم لا يكتنه مهين 41 أي مذل له والجملة حالية والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني نسأل الله تعالى العافية وأستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وإبن جبير وإبن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحةالإستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الإحتياط والتحري وعدم الظلم فيه وقد أخرج إبن ماجه عن أنس عن رسول الله أنه قال : من قطع ميراثا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة
وأخرج أبو منصور عن سليمان بن موسى والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك وأخرج الحاكم عن إبن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو وكأن عدم القسمة إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة وأخرج البيهقي والحاكم عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله : تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني أمرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها ولعل الإحتمال الأول أظهر
هذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات لما في فتحه من التكلف وقد تركناه لأهله
واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث واللاتي جمع التي على غير قياس وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع وموضعها رفع على الإبتداء والفاحشة ما أشتد قبحه وأستعملت كثيرا في الزنا لأنه من أقبح القبائح وهو المراد هنا على الصحيح والإتيان في الأصل المجيء وفي الصحاح يقال : أتيته أتيا قال الشاعر :
فأختر لنفسك قبل اتى العسكر
وأتوته أتوة لغة فيه ومنه قول الهذلي :
كنت إذا أتوته من غيب
وفي القاموس أتوته أتوة وأتيته أتيا وإتيانا وإتيانة بكسرهما ومأتاة وإتيا كعتي ويكسر جئته وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشى عن الفعل وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين والتعبير بذلك لمزيد التهجين وقرأ إبن مسعود يأتين بالفاحشةفالإتيان على أصله المشهور و من متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يأتين والمراد من النساءكما قال السدي وأخرجه عنه إبن جريرالنساء اللاتي قد أنكحن وأحصن ومثله عن إبن جبير فأستشهدوا أي فأطلبوا أن يشهد عليهن بإتيانهن الفاحشة أربعة منكم أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري : مضت السنة من رسول الله والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وأشتراط الأربعة في الزنا تغليظا عل ىالمدعي وسترا على العباد وقيل : ليقوم نصاب الشهادة كاملا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط وجاز الإخبار بذلك لأن (4/234)
الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعلقاله أبو البقاءوذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الإشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فأستشهدوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في اللاتي وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الإبتداء وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره أقصدوا اللاتي أو تعمدوا وقيل : الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فأستشدهوا لأنه الحكم المتلو عليهم والخطاب قيل : للحكام وقيل : للأزواج فإن شهدوا عليهن بالإتيان
فأمسكوهن أي فأحبسوهن عقوبة لهن في البيوت وأجعلوها سجنا عليهن حتى يتوفاهن الموت المراد بالتوفي أصل معناه أي الإستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالي على فلان وأستوفيته إذا قبضته وإسناده إلى الموت بإعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك فهناك إستعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أنيراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام بمنزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت أو يجعل الإسناد مجازا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله أو يجعل الله لهن سبيلا 51 أي مخرجا من الحبس بما يشرعه من الحد لهنقاله إبن جبيروأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة إبن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وأربد وجهه وفي لفظ لإبن جرير يأخذه كهيئة الغشى لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة وروى إبن أبي حاتم عن إبن جبير أنه قال : كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها
وروى إبن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن إبن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهما والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث والحديث منسوخ بآية الجلد وآية الجلد بدلائل الرجم
وقال الزمخشري : من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ويكون السبيل على هذا النكاح المغنى عن السفاح وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن : إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلا ثم إن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال : خذوا عني إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانا لما في تلك الآية لا ناسخا له وصار مخصصا لعموم آية الجلد وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره والذين يأتيانها منكم هما الزاني والزانية بطريق التغليب قاله السدي وإبن زيد وإبن جبير أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا ويؤيد ذلك كون (4/235)
عقوبتهما أخف من الحبس المخلد وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر
وقرأ إبن كثير واللذان بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان وإلتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة فأذوهما أي بعد إستشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان وترك ذكر ذلك تعويلا على ما ذكر آنفا وأختلف في الإيذاء على قولين : فعن إبن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط فإن تابا عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبيء عنه الفاء وأصلحا أي العمل فأعرضوا عنهما أي أصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إن الله كان توابا مبالغا في قبول التوبة رحيما 61 واسع الرحمة والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض والخطاب هنا للحكام وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك والوجه الأول هو المشهور والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وإبن جبير وغيرهم وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري وقال الفراء إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور وزيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية وعدم تمسكهم بها مع شدة إحتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم إختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المرادباللاتي يأتين الفاحشةالزانيات وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهدوهو من أكابر المفسرين المتقدمينوقد قال غير واحد : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن أستنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات ومطلق الإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية فلذا أختلفوا وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها وإتخاذها سجنا عليهن ومن حال السمجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الإختلاط فكان الكلام في قوة فأمنعوهن عن إختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية والتغليب خلاف الأصل ويبعده أيضا لفظ منكم فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى : أربعة منكم وأيضا لو كان كل واحد من الآيتين واردا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له وأيضا على هذا التقدير لا يحتاج إلى إلتزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحدة منهما مقررا على حاله وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى إلتزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل وأيضا على ما قالوه يكون الكتاب (4/236)
خاليا عن بيان حكم السحاق واللواطة وعلى ما قلناه يكون متضمنا لذلك وهو الأنسب بحاله فقد قال سبحانه : ما فرطنا في الكتاب من شيء وتبيانا لكل شيء وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد ففي مجمع البيان أنه حمل اللذان يأتيانها على الرجلين الزانيين وأخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان عل ىأن حمل اللاتي في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها الزانية والزاني فأجلدوا وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أب يمسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين ويحتمل أيضا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزةوقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب ولا يمكن إعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكميةليس بشيءكما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئا وقال : تؤخر عقوبته إلى الآخرة وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدا بعد أن ذكر في معرض الحد وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل وكون الكلام في قوة فأمنعوهن عن إختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى
نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى وإعتباره في منكم تبع لإعتباره في اللذان وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه ربما يؤيد إعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الإستشهاد مع إشتراطه إجماعا إكتفاءا بما ذكر في الآية الأولى لإتحاد الإستشهادين في المسألتين ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ماأشرنا إليه في تفسير الآية ودعوى الإحتياج إلى إلتزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحد نسخا في الآية الأولى مقالا يعلم مما قدمناه في البقرة وإذا جعل أو يجعل إلخ معتبرا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها إكتفاءا بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق واللواطة زنا فظاهر وأما عل ىتقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب إعتمادا عل ىالقياسكحكم النبيذ وكحكم الجد وغيرهماإعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تبيانا لكل شيء وأنه ما فرط فيه من شيء (4/237)
ومن أدعى أن جميع الأحكام الدينيةمذكورة في القرآن صريحا من غير إعتبار قياس فقد أرتكب شططا وقال غلطا وبالجملة المعول عليه ماذهب إليه الجمهور ويد الله تعالى مع الجماعة ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعول عليه ولم تحط رحال القبول لديه وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الإعتصام
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه : إنما التوبة على الله أي إن قبول التوبة و على وإن أستعملت للوجوب حتى أستدل بذلك الواجبة عليه فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة يحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال : واجب الوجود وقيل : على بمعنى من وقيل : هي بمعنى عند وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله للذين يعملون السوء أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة والتوبة مبتدأ و للذين خبره و على الله متعلق بما تعلق به الخبر من الإستقرار أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب منه رطبا وجوز أن يكون على الله متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي إنما التوبة الكائنة على الله و للذين هو الخبر وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته وذكر أبو البقاء إحتمال أن يكون على الله هو الخبر و للذين متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر ولا يخفى أن سوق الأية يؤيد جعل للذين خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف بجهالة حال من فاعل يعملون أي يعملون السوء متلبسين بها أو متعلق يعملون والباء للسببية والمراد من الجهالة الجهل والسفه بإرتكاب مالا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب وغيره : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته وأخرج عبدالرزاق وإبن جرير عن قتادة قال : أجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فزاوا أن كل شيء عصى به فهو جهالة عمدا كان أو غيره وروى مثل ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال أبو عبدالله رضي الله تعالى عنه : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى وقال الفراء : معنى قوله سبحانه : بجهالة أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة
وقال الزجاج : معنى ذلك إختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ثم يتوبون من قريب أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبيء عنه ما سيأتي من قوله تعالى : حتى إذا حضر إلخ يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها : من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم (4/238)
تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه ثم قال : وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذهوأهوى بيده الشريفة إلى حلقهتاب الله تعالى عليه
وأخرج أحمد والترمذي عن إبن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
وأخرج إبن أبي شيبة عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال : إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب إبن آدم ما دام فيه الروح قال : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح وأخرج إبن جرير عن إبن عباس قالالقريبما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت وروى مثله عن الضحاك وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيريالقريبعلى لسان أهل العلم قبل الموت وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة ولعل مرادهم إنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول وإن لم يمتنع قبول توبته و من تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانا قريبا ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب وجعلها بعضهم لإبتداء الغاية ورجح الأول بأن من إذا كانت لإبتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور والذي لإبتدائيته مذ ومنذ وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى فأولئك أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد بإعتبار كونهم بإنقضاء ذكرهم في حكم البعيد وجوز أن يكون ذلك إيذانا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث أنهم تائبون والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والفاء للدلالة على السببية وأسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى : يتوب الله عليهم وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أو لا فلا تكرار وضمن يتوب معنى يعطف فلذا عدى بعلى
وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل : التوبة كالواجب على الله تعالى وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية والآية الثانية واقعة موقع النتيجة وكان الله عليما فيعلم بإخلاص من يتوب حكيما 71 فلا يعاقب التائب والجملة إعتراض مقرر لمضمون ما قبلها والإظهار في مقام الإضمار للأشعار بعلة الحكم وليست التوبة على الله للذين يعملون السيئات أي المعاصي وجمعت بإعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وبما مر من السوء نوع منها حتى إذا حضر أحدهم الموت بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وأنقطع حبل الرجاء قال إني تبت الآن أي هذا الوقت الحاضر وذكر لمزيد تعيين الوقت وإيثار قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الإعتبار والتحاشي عن تسميته توبة ولو أكده ورغب فيه ولعل سبب ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها والدنيا دار عمل ولا جزاء والآخرة دار جزاء ولا عمل و حتى حرف إبتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي ليست التوبة لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم وقولهم : كيت وكيت ولا الذين يموتون وهم كفار عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة (4/239)
لهؤلاء ولا لهؤلاء والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا المبالغة في عدم قبول توبة المسوفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل : إشعار خفي بكون حال المسوفين في عدم إستتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والكثير من أهل العلم على أن المراد بالذين يعملون السيئات ما يشمل الفسقة والكفرة ومن الذين يموتون إلخ الكفار فقط وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة وأن يراد بهما الفسقة وحدهم وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ وأن يراد بهما ما يعم الفريقين جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب وأخرج إبن جرير عن الربيع وإبن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى نزلت في المؤمنين والثانية في المنافقين والثالثة في المشركين و في جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذم لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم فكأنهم عملوها دون غيرهم وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها وإلا فهم وغيرهم سواء هذا وأستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول وفي المسألة خلاف فقد قيل : إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم والعزم على الترك وأيضا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين وفي البزازية أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذأ أولى و صرح القاضي عبدالصمد الحنفي في تفسيره إن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضا ينتفع به عند معاينة العذاب ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره صرح في فتوحاته بصحة الإيمان عند الإضطرار وعن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرا كثيرا
وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما أخرجه أحمد : والبخاري في التاريخ والحاكم وإبن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله قال : إن الله يقبل توبة عبدهأو يغفر لعبدهمالم يقع الحجاب قيل : وما وقوع الحجاب قال : تخرج النفس وهي مشركة ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوف والمصر غير متحقق ونفي التحقق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غاية ما فيها قول إني تبت الآن وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة و لذا لم يقل وليست لتوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت تابوعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم إستيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر
أولك أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة أعتدنا لهم أي هيأنا لهم وقيل : أعددنا فأبدلت الدال تاءا عذابا أليما 81 أي مؤلما موجعا وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الإعتناء بكون العذاب مهيئا لهم والتنكير للتفخيم وتكرير الإسناد لما مر وأستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة وأجيب بأن تهيئة العذاب هو (4/240)
خلق النار التي يعذب بها وليس في الآية أن الله تعالى يدخلهم فيها البتة وكونه تعالى يدخل من مات كافرا فيها معلوم من غير هذه الآية ويحتمل أيضا أن يكون المراد أعتدنا لهم عذابا أليما إن لم نعف كما تدل على ذلك النصوص ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
وأعترض بأن أعتدنا خبر ولا نسخ في الأخبار وقيل : إن أولئك إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون وبالثاني المشركون
ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الإستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن فقد أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم من طريق على عن إبن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها وفي رواية البخاري وأبي داؤد كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بأمراته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤا زوجوها وإن شاؤا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك وأخرج إبن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة إبنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها إبنه فجاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت وروى مثله عن أبي جعفر وأخرج إبن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث أمرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك
وروى عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها فالنساء إما مفعول ثانلترثواعلى أن يكن هن الموروثات وكرها مصدر منصوب على أنه حال من النساء وقيل : من ضمير ترثوا والمعنى لا يحل لكم ان تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه أو أنتم مكروهون لهن وإما مفعول أول له والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كرها والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها و قرأ حمزة والكسائي كرها بالضم في مواضعه ووافقهما عاصم وإبن عامر ويعقوب في الأحقاف وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف وقيل : الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية وقريءلا تحلبالتاء الفوقانية لأن أن ترثوا بمعنى الوراثة كما قريء لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا لأنه بمعنى المقالة وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل فكل منهما جار في اللسان الفصيح ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ماء أتيتموهن أصل العضل التضييق والحبس ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل ويقال : عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما وعضلها منعها الزوج ظلما وعضلت الأرض بأهلها غصت قال أوس : ترى الأرض منا بالفضاء مريضة معضلة منا بجيش عرمرم (4/241)
ولا إما ناهية على ما قيل والفعل مجزوم بها والجملة مستأنفةكما قال أبو البقاءأو معطوفة على الجملة التي قبلها بناءا على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه أو بناءا على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي والفعل منصوب بالعطف على ترثوا كأنه قيل : لا يحل ميراث النساء كرها ولا عضلهن ويويد ذلك قراءة إبن مسعود ولا أن تعضلوهنوأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبلهفقد رده بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفيبلاعلى مثبت وكانا منصوبين فالقلعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفي عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها و المرادبما آتيموهنعلى هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا و إما للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهن فيضاروهن ويضيقوا عليهن ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرينوهو المروى عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والإلتئام عليه ظاهر و جوز أن يكون الخطاب الأول للورثة وهذا الخطاب للأزواج والكلام قد تم بقوله سبحانه : كرها فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد إثنان من غير نداء فلا يقال : قم وأقعد خطابا لزيد وعمرو بل يقال : قم يازيد و أقعد ياعمرو وقيل : هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم فقد أخرج إبن جرير عن إبن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها
والمراد من قوله سبحانه : لتذهبوا إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيموهن وتأخذوه منهن وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن إضطرار منهن بمنزلة العدم وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ والإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به وذكر البعضليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع إلا أن يأتين بفاحشة مبينة على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها
وقرأ إبن كثير وأبو بكر عن عاصم مبينة على صيغة المفعول وعن إبن عباس أنه قرأ مبينة على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلققاله قتادة والضحاكوإبن عباس وآخرونويؤيده قراءة أبي إلا أن يفحشن عليكم وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءةلكن بدون عليكمإلى أبي وإبن مسعود وأخرج إبن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا
وحكى ذلك عن أبي قلابة وإبن سيرين والإستثناء قيل : منقطع وقيل : متصل وهو منظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة عل ىالفعل متقدمة عليه في الوجود وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن (4/242)
وحكى عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن
وروى ذلك مثل ذلك عن عطاء فقد أخرج عبدالرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت أمرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشةوهي الزنا عند الأولوالسحاق عند الثاني فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت وعاشروهن أي خالقوهن بالمعروف وهو مالا ينكره الشرع والمرؤة والمراد ههنا النصفة في القسم والنفقة والإجمال في القول والفعل
وقيل : المعروف أن لا يضر بها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له وأستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كن ممن لا يخدمن أنفسهن والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وفيه بعد فإن كرهتموهن أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فعسى أن تكرهوا شيئا كالصحبة والإمساك
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا 91 كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة وبذلك قال إبن عباس ومجاهد وهذه الجملة علة للجزاء وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة إستلزامها إياه فإنعسىلكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر والمعنى فإن كرهتموهن فأصبروا عليهن ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح دون ما تهوى الأنفس ونكر شيئا و خيرا ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للأرشاد ولذا أستدل بالآية على أن الطلاق مكروه وقريء ويجعل بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة حال أيوهوأي ذلك الشيء يجعل الله فيه خيرا كثيرا ةقيل : تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر فالواو حينئذ حالية وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب : الأول منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ والثاني جوازه مطلقا والثالث التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر وإن أردتم أيها الأزواج إستبدال زوج إقامة أمرأة ترغبون فيها مكان زوج أي أمرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها وأتيتم أي أعطى أحدكم إحداهن أي إحدى الزوجات فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع و المراد من الإيتاء كما قال الكرخي : الإلتزام والضمان كما في قوله تعالى : إذا سلمتم ما آتيتم أي ما ألتزمتم وضمنتم ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها قنطارا أي مالا كثيرا وقد تقدمت الأقوال فيه فلا تأخذوا منه أي من القنطار المؤتى شيئا (4/243)
يسيرا أي فضلا عن الكثير أتأخذونه أي الشيء بهتانا وإثما مبينا 02 إستئناف مسوق لتقرير النهي والإستفهام للإنكار والتوبيخ والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين ويحتمل أن يكونا منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثةوما نحن فيه من الثانينحو قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم وإقترافهم المآثم فقد قيل : كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الإقتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه وقال الزجاج : الباطل الذي يتحير من بطلانه وفسر هنا بالظلم وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله :
وألفى قولها كذبا ومينا
وقيل : المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر وكيف تأخذون إنكار بعد إنكار وقد بولغ فيه على ما تقدم في كيف تكفرون وقيل : تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب وقد أفضى بعضكم إلى بعض كناية عن الجماع على ما روى عن إبن عباس ومجاهد والسدي
وقيل : المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع وأختاره الفراءوبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنهوهو أحد قولين للإمامية وفي تفسير الكلبي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهماالإفضاءالحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة والعرب إنما تستعملها فيما يستحي من ذكره كالجماع والخلوة لا يستحي من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية وأيضا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والإتصال و ذلك أنسب بالجماع ومن ذهب إلى الثاني قال : إنما سميت الخلوة إفضاءا لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحي من ذكرها والجملة حال من فاعل تأخذونه مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الإستبعاد أي على أي حال أو في أي تأخذونه والحال أنه قد وقع منكم ما وقع و قد أخذن منكم ميثاقا اي عهدا غليظا 12 أي شديدا قال قتادة : هو ماأخذ الله تعالى للنساء على الرجال فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ثم قال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وروى ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير وكثير وعن مجاهد الميثاق الغليظكلمة النكاح التي أستحل بها فروجهن وأستدل بالآية من منع الخلع مطلقا وقال : إنها ناسخة لآية البقرة وقال آخر : إنها منسوخة بها وروى ذلك عن أبي زيد وقال جماعة : لا ناسخة ولا منسوخة والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس وأستدل بهاكما قال إبن الفرسقوم على جواز المغالاة في المهور
وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فأعترضته أمرأة من قريش فقالت : أما سمعت ماأنزل الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ماأحب وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام أمرأة له وقالوا : إن الجهل مناف للإمامة وأجيب بأن الآية ليست نصا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حد قولك : إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فأعف عنه وهو لا يدل على جواز قتل الأخ سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر (4/244)
بل بطريق الهبة والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصا إذا أوحشها بالفراق وقوله تعالى : وقد أفضى لا يعين كون المؤتى مهرا سلمنا كونه مهرا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه
فقد روى إبن حبان في صحيحه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن من خير النساء أيسرهن صداقا وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها
وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعا أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا فنهى أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير وميلا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قولا وفعلا وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن وإستنباط الدقائق منه وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الإشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به فقوله رضي الله تعالى عنه : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم وإختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في إرتكاب أي الأمرين شاؤا سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه مل ذلك وهو إمام الفريقين فقد أخرج إبن جرير وإبن عبدالبر عن محمد بن كعب قال : سأل رجل عليا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا فقال الأمير : اصبت وأخطأنا وفوق كل ذي علم عليم وقد وقع لداؤد عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه : وداؤد وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى أن قال عز من قائل : ففهمناها سليمان فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى : ياداؤد إنا جعلناك خليفة في الأرض لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تالى عن لا من مطاعنه ولكن لا علاج لداء البغض والعناد ومن يضلل الله فما له من هاد
ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية
وأخرج إبن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفي عن أمرأته كان إبنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام إبنه حصن فورث نكاح أمرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : أرجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت ولا تنكحوا الآية ونزلت أيضا لا يحل لكم إلخ وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور وفي الأسود بن خلف تزوج أمرأة أبيه وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج أمرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب وفي منظور بن ريان تزوج أمرأة أبيه مليكة بنت خارجة وأسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا بإعتبار معنى يعمهما لغة لا بإعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز و في النهاية إن دلالة الأب عل ىالجد بأحد طريقين : إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع ولا يخفى أن كون (4/245)
الدلالة بالإجماع مما لا معنى له نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لإخفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعتي العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول وإلى ذلك ذهب إبن عباس فقد أخرج عنه إبن جرير والبيهقي أنه قال : كل أمرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام وروى ذلك عن الحسن وإبن أبي رباح وإن كان النكاح فاسدا فلابد في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا وإليه ذهبت الإمامية وخالفت الشافعية ف يالمحرم وتحقيق ذلك أن الناس أختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل : هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين وقيل : حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية وقيل : بالعكس وعليه أصحابنا ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ماأطلقه الأقدمون وقد تحقق إستعمال النكاح في كل من هذه المعاني ففي الوطء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ولدت من نكاح لا من سفاح أي من وطء حلال لا من وطء حرام وقوله عليه الصلاة و السلام : يحل للرجل من أمرأته الحائض كل شيء إلا النكاح وقول الشاعر : ومن أيم قد أنكحتها رماحنا وأخرى على خال وعم تلهف وقول الآخر :
ومنكوحة غير ممهورة
وقول الفرزدق : إد سقى الله قوما صوب عادية فلاسقى الله أرض الكوفة المطرا التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطى دجلة البقرا وفي القعد قول الأعشى : فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فأنكحن أو تأبدا وفي المعنى الأعم قول القائل : ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها وقول أبي الطيب : أنكحت صم حصاها خف يعملة تغشمرت بي إليك السهل والجبلا فمدعي الإشتراك اللفظي يقول تحقق الإستعمال والأصل الحقيقة والثاني يقول : كونه مجازا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الإشتراك ثم يدعى تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن أمرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير يحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا ونحن في ذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة والنظر في (4/246)
وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونا بما إذا نظر فيه إستدعى إرادة ذلك المعنى ألا يرى أن ماأدعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضا فإن قوله :
فلا تقربن جارة
نهى عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله :
فأنكحن
أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حراما
أو تأبد
أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه وأما أدعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما هو سبب السبب ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضا فثبت إلى هنا أنا لم نذره على ثبوت مجرد الإستعمال شيئا يجب إعتباره وقد علم أيضا ثبوت الإستعمال في الضم فبإعتباره حقيقة فيه يكون مشتركا معنويا من أفراده الوطء والعقد إن أعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول أو الوطء فقط فيكون مجازا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والإشتراك اللفظي كان المجاز أولى مالم يثبت صريحا خلافه ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا : نقل المبرد عن البصريين وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازا في العقدكذا في فتح القدير
إذا علمت ذلك فنقول : حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء وأستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض اصحابنا عل ىالعقد فيها وأستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء وألاجداد وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع ثم قالوا : ولو حمل عل ىالعقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى
وأعترض بأنه لا ينبغي أن يقال : ثبت حرمة الموطوأة بالآية والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقدولفظ الدليل الصالح لهكان مرادا منه بلا شبهة فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا أحتمله وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزبلعي : الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوأة والمعقود عليها كما لا يخفى
وأعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات ولا عموم للمشترك مطلقا وفي الأكمل والحق أن النفي كما أقتضاه الإثبات فإن أقتضى الثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليهوله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنثليست بإعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها و في البحر إن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه ويستدل (4/247)
لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم و ما موصول أسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه وقيل : مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وأختار الطبري إبقاء المصدر على مصدريته ويكون المراد النهي عن كل نكاخح كان لهم فاسد أي لا تنكحوا مثل نكاح آبائكم وليس بالوجيه من النساء في موضع الحال من ما أو من العائد عليها وعند الطبري متعلقة بنكح وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين وظاهره أنها بيانية ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي ونكتته مع عدم الإحتياج إليه إذ المنكوحات لا يكن إلا نساءا التعميم كأنه قيل : أي أمرأة كانت وإحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهى للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء إلا ما قد سلف اي مات كما روى ذلك عن أبي بن كعب وهو إستثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن والمقصود سد باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى : حتى يلج الجمل في سم الخياط والمعلق على المجال مجال وقيل : إنه إستثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهى عنه من العقاب كأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه وبهذا التأويل يندفع الإستشكال بأن النهي للمستقبل و ما قد سلف ماض فكيف يستثنى منه وجعل بعض محققي النحاة الإستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالإنقطاع أي لكن ما سلف لا موأخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره ولا يعد ذلك زنا وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه وزعم بعضهم على تقدير الإنقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه وحكى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج قال البلخي : وهذا خلاف الإجماع وما علم من دين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه : إنه أي نكاح ما نكح الآباء كان فاحشة ومقتا فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الأخبار بأنه فاحشة مبغوضا بإتحقار جدا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الأخبار بأنه مقت وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كان على ماذكره علي بن عيسى وغيره وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما مايهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري وأرتضاه جمع من المحققين ومن الناس من أستظهر كون هذه الجملة خبرا على تقدير الإنقطاع وليس بالظاهر ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا وليس بشيء وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت ويسمى الولد منه مقتي ويقال له أيضا : مقيت أي مبغوض مستحقر وكان من هذا النكاح (4/248)
على ماذكره الطبرسيالأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة وساء سبيلا 32 أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده والمخصوص بالذم محذوف وذم الطريق مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه ويجوزوأختاره الليثأن تكون ساء كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير به و سبيلا تمييز محول عن الفاعل والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب وإما معطوفة على خبر كان محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولا في حقه ذلك في سائر الأعصار
قال الإمام الرازي : مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي والقبح الشرعي والقبح العادي وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك فقوله سبحانه : فاحشة إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي وقوله تعالى : ومقتا إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي وقوله عزوجل : وساء سبيلا إشارة إلى مرتبة قبحه العادي و ما أجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه : ومقتا إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون المراد ومقتا عند الله تعالى وأما على تقدير أن يكون المراد ومقتا عند ذوي المروءات فليس بظاهر ومن هنا قيل : إن قوله جل شأنه : فاحشة إشارة إلى القبح الشرعي ومقتا إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة وساء سبيلا إلى العرفي وعندي أن لكل وجها ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفى ووما يدل على فظاعة أمره ما أخرجه عبدالرزاق وإبن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد قال : بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رجل تزوج أمرأة ابيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ليس المرادتحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين فالكلام على حذف مضاف بدلالة العقل والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ولو لم يكن المراد هذا كأن تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة فلا إجمال في الآية خلافا للكرخي والجملة إنشائية وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي وقال بعض المحققين : لا مانع من كونها إخبارية والفعل الماضي فيها مثله في التعاريف نحو الأسم مادل على معنى في نفسه ولم يقترن بأحد الأزمنة والفعل مادل وأقترن فإنهم صرحوا أن الجملة الماضوية هناك خبرية وإلا لما صح كونها الموصول مع أنه لم يقصد من الفعل فيها الدلالة على الزمان الماضي فقط وإلا للزم أن يكون حال المعرف في الزمان الحال والمستقبل ليس ذلك الحال وبني الفعل لما لم يسم فاعله لأنه لا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى و أمهاتكم تعم الجدات كيف كن إذ الأم هي الأصل في الأصلكأم الكتاب وأم القرىفتثبت حرمة الجدات بموضوع اللفظ وحقيقته لأن الأم على هذا من قبيل المشكك وذهب بعضهم إلى أن إطلاق الأم على الجدة مجاز وأن إثبات حرمة الجدات بالإجماع والتحقيق أن الأم مراد به ألأصل على كل حال لأنه إن أستعمل فيه حقيقة فظاهر وإلا فيجب أن يحكم بإرادته مجازا فتدخل الجدات في عموم المجاز والمعرف لإرادة ذلك في النص الإجماع على حرمتهن (4/249)
والمراد بالبنات من ولدتها أو ولدت من ولدها وتسمية الثانية بنتا حقيقة بإعتبار أن البنت يراد به الفرع كما قيل به فيتناولها النص حقيقة أو مجازا عند البعض أو عند الكل ومن منع إطلاق البنت على الفرع مطلقا قال : إن ثبوت حرمة بنات الأولاد بالإجماع و قد يستدل على تحريم الجدات وبنات الأولاد بدلالة النص المحرم للعمات والخالات وبنات الأخ والأخت ففي الأول لأن الأشقاء منهن أولاد الجدات فتحريم الجدات وهن أقرب أولى وفي الثاني لأن بنات الأولاد أقرب من بنات الأخوة ثم ظاهر النص يدل على أنه يحرم للرجل بنته من الزنا لأنها بنته والخطاب إنما هو باللغة العربية مالم يثبت نقلكلفظ الصلاة ونحوهفيصير منقولا شرعيا وفي ذلك خلاف الإمام الشافعي رضي ا لله تعالى عنه فقد قال : إن المخلوقة من ماء الزنا تحل للزاني لأنها أجنبية عنه ذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب ولقوله صلى الله تعال عليه وسلم : الولد للفراش وهو يقتضي حصر النسب في الفراش
وقال بعض الشافعية : تحرم إن أخبره نبيكعيس عليه السلاموقت نزوله بأنها من مائه ورد عليه بأن الشارع قطع نسبها عنه كما تقرر فلا نظر لكونها من ماء سفاحه وأعترضوا على القائلين بالحرمة بأنهم إما أن يثبتوا كونها بنتا له بناءا على الحقيقة لكونها مخلوقة من مائه أو بناءا على حكم الشرع والأول باطل على مذهبهم طردا وعكسا أما الأول فلأنه لو أشترى بكرا وأفتضها وحبسها إلى أن تلد فهذا اولد مخلوق من مائه بلا شبهة مع أنه لا يثبت نسبه إلا عند الإستلحاق وأما الثاني فلأن المشرقي لو تزوج مغربية وحصل هناك ولد منها مع عدم إجتماعها مع زوجها وحيلولة ما بين المشرق والمغرب بينهما فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه والثاني باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو أنتسب إليه وجب على القاضي منعه وأجيب بإختيار الشق الأول إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن المخلوقة من ماء إنسان بنته سواء كان ذلك الماء ماء حلال أو سفاح والجزئية ثابتة في الصورتين والظاهر أنها هي مبدأ حرمة النكاح ألا ترى كيف حرم على المرأة ولدها من الزنا إجماعا والتفرقة بين المسألتين بأن الولد في المسألة الثانية بعضها وأنفصل منها إنسانا ولا كذلك البنت في المسألة الأولى لأنها أنفصلت منه ذهنيا لا تفيد سوى أن البعضية في المسألة الثانية أظهر وأما إنها تنفي البعضية في المسألة الأولى فلا لأنهم يطلقون البضعةوهي تقتضي البعضيةعلى الولد المنفصل منيا من أبيه فيقولون : فلان بضعة وفلانة بضعة من فلان وإنكار وجود الجزئية في المسألتين مكابرة وعدم ثبوت التوارث مثلا بين المخلوقة من ماء الزنا وصاحب الماء ليس لعدم الجزئية وكونها ليست بنته حقيقة بل للإجماع على ذلك ولولاه لورثت كما يرث ولد الزنا أمه
وما ذكر في بيان إبطال الطرد من أنه لو أشترى بكرا فأقضتها وحبسها فولدت فالولد مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلا بالإستلحاق أخذه من قول الفقهاء في الأمة إذا ولدت عند المولى أنه لا يثبت نسب ولدها منه إلا أن يعترف به ولا يكفي أنه وطأها فولدت لكن في الهداية وغيرها إن هذا حكم فأما الديانة بينه وبين الله تعالى فالمروى عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهأنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى أن يدعيه بالإجماع لأن الظاهروالحال هذهكونه منه والعمل بالظاهر واجب وإن كان عزل عنها حصنها اولا أو لم يعزل ولكن لم يحصنها فتركها تدخل وتخرج بلا رقيب مأمون جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهروهو كونه منه بسبب أن الظاهر عدم زنا المسلمةيعارضه ظاهر آخر وهو كونه من غيره لوجود (4/250)
أحد الدليلين على ذلك وهما العزل أو عدم التحصين وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد ذكرهما في المبسوط فقال : وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد فعليه ان يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصنها تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح مالم يتبين خلافه وهذا كمذهب الجمهور لأن ماظهر بسببه يكون حالا به عليه حتى يتبين خلافه وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي أن يعتق الولد وفي الإيضاح ذكرهما بلفظ الإستحباب فقال : قال أبو يوسف : أحب أن يدعيه وقال محمد : أحب أن يعتق الولد وقال في الفتح بعد كلام : وعلى هذا ينبغي أن لو أعترف فقال : كنت أطأ لقصد الولد عند مجيئها بالولد أن يثبت نسب ما أتت به وإن لم يقل هو ولدي لأن ثبوته بقوله : هو ولدى بناءا على أن وطأه حينئذ لقصد اولد وعلى هذا قال بعض فضلاء الدرس : ينبغي أنه لو أقر أنه كان لا يعزل عنها وحصنها أن يثبت نسبه من غير توقف دعواه وإن كنا نوجب عليه في هذه الحالة الإعتراف به فلا حاجة إلى أن توجب عليه الإعتراف ليعترف فيثبت نسبه بل يثبت نسبه إبتداءا وأظن أن لا بعد في أن يحكم على المذهب بذلك إنتهى وفي المبسوط أنه إذا تطاول الزمان ألحق به لأن التطاول دليل إقراره لأنه يوجد منه حينئذ ما يدل على الإقرار من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بإقراره
ومن مجموع ما ذكر يعلم ما في كلام المعترض وأن للخصم عدم تسليمه لكن ذكر في البحر متعقبا : ظن بعض الفضلاء أنه لا يصح أن يحكم على المذهب به لتصريح أهله بخلافه ونقل نص البدائع في ذلك ثم قال فإن أراد الثبوت عند القاضي ظاهرا فقد صرحوا أنه لا بد من الدعوة مطلقا وإن أراد فيما بينه وبين الله تعالى فقد صرح في الهداية وغيرها بأن ماذكرناه من إشتراط الدعوة إنما هو في القضاء إلى آخر ماذكرناه لكن في المجتبي لا يصح إعتاق المجنون وتدبيره ويصح إستيلاده فهذا إن صح يستثنى من الحكم وهو مشكل إنتهى وعلى هذا يقال في المسألة التي ذكرها المعترض : المولود ولد للمولى في نفس الأمر لأنه مخلوق من مائه وولد الزنا كذلك وزيادة حيث أنضم إلى ذلك الإقرار والله سبحانه جعل مناط الحرمة البنوة وهي متحققة في مسألتنا فكيف يحل النكاح في نفس الأمر وعدم ثبوت التوارث ونحوه كما قلنا كان إجماعا وعدم الإستلحاق قضاءا إلا بالدعوى أمر آخر وراء تحقق البنوة في نفس الأمر فكم متحقق في نفس الأمر لا يقضى به وكم مقضى به غير متحقق في نفس الأمركما في خبر الفرس التي أشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الإعرابي وشهد له خزيمة لما أنكر الأعرابي البيعوقد حقق الكلام في بحث الإستيلاد في فتح القدير وغيره من مبسوطات كتب القوم وما ذكر في إبطال العكس من مسألة تزوج المشرقي بمغربية فلا نسلم القطع فيها بأن الولد ليس مخلوقا من مائه لثبوت كرامات الأولياء والإستخدامات فيتصور أن يكون الزوج صاحب خطوة أو جني وأنه ذهب إلى المغرب فجامعها ولولا قيام هذا الإحتمال مع قيام النكاح لم يلحق الولد به ألا ترى كيف قال الأصحاب : لو جاءت أمرأة الصبي بولد لم يثبت نسبه منه لعدم تصور ذلك هناك والتصور شرط وقيام الفراش وحده غير كاف على الصحيح ولعل إعتبار هذه البنوة قضاءا وإلا فحيث لم يكن الولد مخلوقا من مائه لا يقال له ولد الزوج في نفس الأمر وإنما أعتبروا ذلك مع ضعف الإحتمال سترا للحرائر وصيانة للولد عن الضياع وقريب من هذا ماذهب إليه الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى في باب الإستيلاد أن الجارية إذا ولدت يثبت نسب الولد من المولى إذا أقر بوطئها مع العزل كما يثبت مع عدم العزل بل لو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك ومثله عن أحمد وهو وجه مضعف للشافعية (4/251)
وقيل : إن بين هذه المسألة ومسألة تزويج المشرقي بمغربية بعدا كبعد ما بين المشرق والمغرب لأن الوطء هنا متحقق في الجملة من غير حاجة إلى قطع براري وقفار ولا كذلك هناك والله تعالى أعلم والبنات جمع بنت في المشهور وصحح أن لامها واو كأخت وإنما رد المحذوف في أخوات ولم يرد في بنات حملا لكل واحد من الجمعين على مذكره فمذكر بنات لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه بنون ومذكر أخوات رد فيه محذوفه فقالوا في جمع أخ : إخوة وأخوات وقد نظم الدنوشري السؤال فقال : أيها الفاضل اللبيب تفضل بجواب به يكون رشادي لفظ أخت ولفظ بنت إذا ما جمعا جمع صحة لإفساد فلأخت ترد لام وأما لفظ بنت فلا فأوضح مرادى مع تعويضهم من اللام تاءا فيهما لا برحت أهل إعتمادي وقد أجاب هو رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله : لفظ أخت له إنضمام بصدر ناسب الواو فأكتسي بالمعاد وقال أبو البقاء : التاء فيها ليست للتأنيث لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها وتقلب هاءا في الوقف فبنات ليس بجمع بنت بل بنه وكسرت الباء تنبيها على المحذوف قاله الفراء وقال غيره : أصلها الفتح وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها وهو بنون وإلى ذلك ذهب البصريون وما أخت فالتاء فيها بدل من الواو لأنها من الأخوة والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات لأن الأسم يشمل الكل ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات وإن علوا وكذا عمة جده وخالته وعمة جدته وخالاتها لأب وأم أو لأب أو لأم وذلك كله بالإجماع وفي الخانية وعمة العمة لأب وأم أو لأب كذلك وأما عمة العمة لأم فلا تحرم وفي المحيط : وأما عمة العمة فإن كانت العمة القربى عمة لأب وأم أو لأب فعمة العمة حرام لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأب وأم أو لأب فإن عمتها تكون أخت جدة أب الأب وأخت أب الأب حرام لأنها عمته وإن كانت القربى عمة لأم فعمة العمة لا تحرم عليه لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه فعمتها تكون أخت زوج الجدة أم الأب وأخت زوج الأم لا تحرم فأخت زوج الجدة أولى أن لا تحرم وأما خالة الخالة فإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم أو لأم فخالتها تحرم عليه وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه لأن أم الخالة القربى تكون أمرأة الجد أب الأم لا أم أمه فأختها تكون أخت أمرأة الأب وأخت أمرأة الجد لا تحرم عليه إنتهى ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر
والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان نعم ذكروا أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان وقيل : إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله وأكثر المسلمين أتفقوا على أنه كان كذابا وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسدهوقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيهوحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة
وأما حل نكاح الأخوات فقد قيل : إنه كان مباحا في زمان آدم عليه السلام للضرورة وكانت حواء عليها السلام تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول : (4/252)
إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه السلام ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل بالإجماع وأمهاتكم اللاتي أزضعنكم وأخواتكم من الرضاعة عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب ومثله الرضاعة بالكسر والرضع بسكون الضاء وفتحها والرضاع كالسحاب والرضع كالكتف وحكوا رضع ككرم ورضاعا كقتال وقد تبدل ضاده تاءا ورضاعا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة ويقال : أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت : مرضعة ومعناها لغة مص الثدي وشرعا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة وتفرد الإمام البخاريوهو سبب فتنته في قولفذهب فيما إذا أرتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالأقطار في الأذن والأحليل والجائفة والآمة وبالحقنة في ظاهر الرواية وخرج بالوصول مالو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح لأن في المانع شكا وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخواته وأخواته لأمه ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة وإبن عباس رضي الله تعالى عنهم : يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب
وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت إبنه لأم وأم أم إبنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تخل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة الأ يرى أن الأولى موطوأة أبيه والثانية بنت موطوأته والثالثة أم موطوأته والرابعة موطوأة جده الصحيح والخامسة موطوأة جده الفاسد ووقع في عبارة بعضهم إستثناء صور بعد سوق الحديث وأنهى في البحر المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة وأطال الكلام في هذا المقام وأتى بالعجب العجاب وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم وأما خبر مسلم لا تحرم المصة والمصتان وما دل على التقدير فمنسوخ صرح بنسخه إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قيل له : إن الناس يقولون : إن الرضعة لا تحرم فقال : كان ذلك ثم نسخ
وعن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم وروى عن إبن عمر أن القليل يحرم وعنه أنه قيل له : إن الزبير يقول : لا باس بالرضعة والرضعتين فقال : قضاء الله تعالى خير من (4/253)
قضاء إبن الزبير وتلا الأية وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفا وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله وأستدل على ذلك بما أخرجه إبن حبان في صحيحه من حديث الزبير أنه قال : قال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان ووجه الإستدلال بذلك بأن المصة داخلة في المصتين والإملاجة في الإملاجتين فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفي التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس
وأعترضه إبن الهمام بأنه ليس بشيء أما أولا فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس شبعات في أوقات وأما ثانيا فلأن المصة فعل الرضيع والإملاجة إلا رضاعة فعل المرضعة فحاصل المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثا واحدا بأن الإملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الإرتضاع فنفى تحريم الإملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الإملاجتان إلا لايحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث كان الحاصل لا تحرم المصتان ولا المصتان فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي الله تعالى عنهأراد أن يجمع بين ألفاظه صلى الله تعالى عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال : قال رسول الله : لا تحرم المصة والمصتان وقال أيضا : لا تحرم الإملاجة والإملاجتان
وقيل : في وجه الإستدلال طريق آخر وهو أن الحديث ناف لماذهب إليه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لعدم القائل بالفصل وأعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وإبن المنذر وداؤد وأبو عبيد وهؤلاء أئمة الحديث قالوا : المحرم ثلاث رضعات والقول بعدم إعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي
وأستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي وهي فيما يقرأ من القرآن وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها وبما روى عن عائشة أيضا قالت : جاءت سهلة بنت سهيل أمرأة أبي حذيفة إلى النبي فقالت : يارسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال : أرضعي سالما خمسا تحرمي بها عليه والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك إبن عباس فيما مر
ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ والله تعالى قد تكفل بحفظه وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال : إنها رضي الله تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبا ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكمكالشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهماليس بشيء لأن إدعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه وما نظر به لولا ما علم بالسنة والإجماع لم يثبت به ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها (4/254)
قدر ما يشبعه هذا محال عادة فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقداره خمس رضعات فيشربهكما قال القاضيوإلا فهو مشكل وقد يقال : هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة وعن مالك : سنتان وشهر وفي رواية أخرى شهران وفي أخرى سنتان وأيام وفي أخرى مادام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه وقال : زفر ثلاث سنين نعم قال بعضهم : خمس عشرة سنة وقال آخرون : أربون سنة وقال داؤد : الإرضاع في الكبر محرم أيضا ولا حد للمدةوهو مروى عن عائشة رضي الله تعالى عنهاوكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه فقد صح مرفوعا وموقوفا لا رضاع إلا ما كان في حولين وفي الموطأ وسنن أبي داؤد عن يحيى بن سعيد أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال : إني مصصت من أمرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال : أبو موسى لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال : إبن مسعود أنظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى : فما تقول أنت فقال إبن مسعود : لا رضاع إلا في حولين فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وفيه عن إبن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت أمرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت : دونك قدر الله أرضعتها قال عمر : أزجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر وروى الترمذيوقال حديث صحيحمن حديث أم سلمة أنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام وفي سنن أبي داؤد من حديث إبن مسعود يرفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم حتى إن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها ففي الصحيحين عنها أنها قالت : دخل على رسول الله وعندي رجل فقال : ياعائشة من هذا فقلت : أخي من الرضاعة فقال : ياعائشة أنظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة وأعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع إجتهادها على المحز ولهذا قيل : يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص
هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه الله تعالى سماها الدوران الفلكي علي إبن الكركيوفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه : ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار في البلد ولم يجب عنه أحد وهو الفرق بين قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وبين مالو قيل : واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة ولو قيل : الثاني لأكتفى برضعة واحدة ولقد ورد علي وسيق إلى فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابا مسددا ونوعت فيه طرائق قددا (4/255)
وأتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا وها له نحو عامين ماحلاه أحد بحرف ولارمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات وأسطرت فيه خمس مصنفات بسيط حريز ووسيط غريز ومختصر وجيز ومنظومة ذات تطريز ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز إنتهى كلامه
وأقول لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر أمهاتكم في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله : اللاتي أرضعنكم بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان القيد الأرضاع الواقع صلة معتنا به أتم إعتناء ومما يترتب على هذا الإعتناء إعتباره أينما لوحظ وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى حين أتى به فعلا والثانية حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة والثالثة حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين والرابعة حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول والخامسة حين جعل اللاتي صفة أمهاتكم لأن وصفيته لها بإعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للأرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات وهذا أحد الأسرار لإختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف من الإحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الإئتلاف وما وقع في قوله تعالى : أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه من الإدغام في يمل المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال وما وقع في قوله تعالى : كل في فلك من عدم الإستحالة بالإنعكاس المشير إلى كرية الإفلاك في رأى إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة
وليس هذا من باب الإستدلال بل من باب الإشارة المقوية له ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى إشتراط الخمس بهذه الآية ولكن أستدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه الله تعالى وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اآرأب فيما ذكر قبل فلا داعي لإعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي إعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد أمهاتكم على أنه بدل والبدل كما قالوا : هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الأرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر إستدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم حيث لم يذكر عددا ما نصه : وأعترض اصحاب الشافعي على المالكية فقالوا : إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم إنتهى ولم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي أستدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل أقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوى إلى التعدد يأبى حمل الماهية على أقل ما تتحقق فيه وفي بعض نسخ ذلك الشرحوأعترض أصحاب الشافعي على المالكيةفقالوا : إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أرضعنكم وبين أمهاتكم والظاهر أنها غلط من الناسخ وإلتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا (4/256)
هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعا من علماء عصري وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولامن أدعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق وطبقت فضائله الآفاق وما رأيت من المرؤة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل فلمسلك الذهن إتساع والحق أحق بالإتباع وأمهات نسائكم شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب
والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطيء بنتها أخرج البيهقي في سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الإبنة وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وعن إبن عباس روايتان فقد أخرج إبن المنذر عنه أنه قال : النساء مبهمة إذا طلق الرجل أمرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها
وأخرج هوأيضا عن مسلم بن عويمر أنه قال : نكحت أمرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت إبن عباس فقال : أنكح أمها وعن زيد بن ثابت أيضا روايتان فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج أمرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها فقال : لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب
وأخرج إبن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها و حكى عن إبن مسعود كان يفتي بحل أم الأمرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك فقد أخرج مالك عنه أنه أستفتى بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك ثم أنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها
وأخرج إبن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها فقال : هي بمنزلة الربيبة وإلى ذلك ذهب إبن الزبير ومجاهد ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت أمرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء وقريء وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن وربائبكم اللاتي في حجوركم الربائب جمع ربيبة ورب وربى بمعنى والربيب فعيل بمعنى مفعول ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث وهذا معنى قولهم : إن التاء للنقل إلى الأسمية والربيب ولد المرأة من آخر سمى به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده والحجور جمع حجر بالفتح والكسر وهو في اللغة حضن الإنسان أعني مادون إبطه إلى الكشح وقالوا : فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته وهو المراد في الآية ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج وفائدته تقوية علة الحرمة كماأنها النكتة في إيرادهن بأسم الربائب دون بنات النساء وقيل : ذكر ذلك للتشنيع عليهم نحو أضعافا مضاعفة (4/257)
في قوله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ولولا ما ذكر لثبتت الإباحة عند إنتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا أنتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر فقد أخرج عبدالرزاق وإبن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك ين أوس قال : كانت عندي أمرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فقال : مالك فقلت : توفيت المرأة فقال : لها بنت قلت : نعم وهي بالطائف قال : كانت في حجرك قلت : لا قال : أمكحها قلت : فأين قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك وإلى هذا ذهب داؤد والأول مذهب الجمهور وإليه رجع إبن مسعود رضي الله تعالى عنه ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الأسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه أسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الإبن وبنتها وجاز للإبن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها
وقال بعض المحققين : إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع من نسائكم اللاتي دخلتم بهن الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من ربائبكم أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي أستقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ و اللاتي صفة للنساء المذكور قبله وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالا منأمهات أيضا أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون من إبتدائية وحاليته من أمهات أو من نسائكم يستدعي كونها بيانية وإدعاء كونها إتصالية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت مني بمنزلة هرون من موسى وقوله : إذا حاولت في أسد فجورا فلست منك ولست مني وهو معنى ينتظم الإبتداء والبيان فيتناول إتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات وبالربائب لأنهن مولودات أو جعل الموصول صفة للنساءين مع إختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة والمجرور بمن بها بعيد جدا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه وأما القراءة فضعيفة الرواية وعلى تقدير الصحة محمولة عل ىالنسخ كما قاله شيخ الإسلام والباء من بهن للتعدية وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر وهو كناية عن الجماعكبني عليها وضرب عليها الحجابوكثير من الناس يقول : بنى بها ووهمهم الحريريوهو وهمواللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه قال بعض الفضلاء : وأعترض بأن ماذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعا بل ماأشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال : دخل بها إذا أمسكها وأدحلها البيت فإن قلت هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه أجيب بأنه لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته و كفى بالآثار قرينة ومنها ما روى من طريق إبن وهب عن أبي أيوب عن إبن جريج أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في الذي (4/258)
يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك : لا يتزوج إبنتها وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا أدرجوه في مدلول النظم وروى عن إبن عمر أنه قال : إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وإبنه وحرمت عليه أمها وبنتها
فإن قلت هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه أجيب بأنه داخل بدلالة النص وماذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على إعتبار مفهوم الشرط ونحن لا نقول به مع أنه غير عام وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بأمرأة حرمت عليه بنتها خلافا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور ولقوله : لا يحرم الحرام الحلال ولنا أن الوطء سبب للولد فيتعلق به التحريم قياسا على الوطء الحلال ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الإبن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء : ووطء المحرم والصائم كله حرام وتثبت به الحرمة المذكورة ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما
وروى أن رجلا قال : يارسول الله ني زنيت بأمرأة في الجاهلية أفأنكح إبنتها فقال : لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من إبنتها على ما تطلع عليه منها وهذا وإن كان فيه إرسال وإنقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون وذكره عبدالحق عن إبن عمر ثم قال : في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجرى على ظاهره أرأيت لوبال أوصب خمرا في ماء قليل ألم يكن حراما مع أنه يحرم إستعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم بإعتبار كونه حراما وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة بإعتبار كونه زنا بل بإعتبار كونه وطءا وأجاب صاحب الهداية عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنها نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء يحرم من حيث أنه سبب للولد لا من حيث ذاته ولا من حيث أنه زنا وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا أتسع الحل لرسول الله نعمة من الله سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها التي تصير الأجنبي قريبا عضدا وساعدا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا فالصهر زوج البنت مثلا لا من زنا ببنت الإنسان فأنتفت الصهرية وفائدتها أيضا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وصفا وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا فإن لم تكونوا اي فيما قبل دخلتم بهن أي بأولئك النساء أمهات الربائب فلا جناح أي فلا إثم عليكم أصلا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز مامر وفي ألإقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور وإلا لقيل : فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الإستعمال وحلائل أبنائكم أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل (4/259)
مع زوجها في فراش واحد أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة وكذا يقال للزوج حليل وقيل : إشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه وقيل : من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان فيه نوع لطافة لا تخفى والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط وأما حرمة من وطئها الإبن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر وقال إبن الهمام : إن أعتبروا الحليلة من حلول الفراش أو حل الإزار تناول الموطوأة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا ولا يتناول المعقود عليها للإبن أو بنيه وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك بإعتباره من الحل بالكسر وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للإبن على الأب فيجب إعتباره في أعم من الحل والحل ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الإبن السافل عل ىالجد الأعلى وكذا إبن البنت وإن سفل والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه وأختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة إبنه مملوكة إبنه بناءا على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الإبن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى لزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللائي وطئهن الأبناء الذين من أصلابكم صفة للأبناء وذكر لإسقاط حليلة المتبني وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج أمرأة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فقال المشركون في ذلك وليس المقصود منذلك إسقاط حليلة الإبن من الرضاع فإنها حرام أيضا كحليلة الإبن من النسب
وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك وأن تجمعوا بين الأختين في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات والمراد جمعهما ف يالنكاح لا في ملك اليمين ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا : لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما
وحكى عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لإتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور وعليه إبن مسعود وإبن عمر وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم
وأختلفت الرواية عن علي كرم الله وجهه فأخرج البيهقي وإبن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطيء إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال : لا حتى يخرجها من ملكه وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال : في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي و روى عبد بن حميد عن إبن عباس أن الجمع مما لا بأس به وحكى مثله عن عثمان رضي الله تعالى عنه وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة وإذا تزوج أخت أمته الموطوأة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوأة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمعكالبيع كلا أو بعضاوالتزوج (4/260)
الصحيح واهبة مع التسليم والإعتاق كلا أو بعضا والكتابةولو تزوج الأخت نكاحا فاسدا لم تحرم عليه أمته الموطوأة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوأة لوجود الجمع بينهما حقيقة ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب وإذا عادت الموطوأة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا وظاهر قولهم : لا يحل الوطء حتى يحرم أن النكاح صحيح وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافا إلى محله وأورد عليه أن المنكوحة موطوأة حكما بإعترافهم فيصير بالنكاح جامعا وطءا حكما وهو باطل ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال : وأخوات نسائكم للإحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه ما أخرجه الطبراني من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وما رواه أبو داؤد في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال : نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغا في بيان التحريم : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على إبنة أختها ولا على إبنة أخيها من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين
وقال آخرون : إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وإبن حبان ورواه أبو داؤد والترمذي والنسائي وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة والتابعين ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وإبن عباس وإبن عمر وإبن مسعود وأبو سعيد الخدري فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى : وأحل لكم ما رواء ذلكم بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورا وقال إبن الهمام : الظاهر أنه لا بد من أدعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص وبينه في فتح القدير فأرجع إليه إلا ما قد سلف إستثناء منقطع وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى : إن الله كان غفورا رحيما 32 لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم
والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين أخرج أحمد وأبو داؤد والترمذي وحسنه وإبن ماجه عن فيرز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي : طلق أيتهما شئت وقال عطاء والسدي : معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه السلام ولا يساعده التذييل لما أن ما فعله يعقوب عليه السلام إن صح كان حلالا في شريعته
وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله تعالى إلا أمرأة الأب والجمع بين الأختين وروى مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال : ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه : إلا ما قد سلف وهذا كما قال شيخ الإسلاميشير إلى كون الإستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه إختلاف ما بعدهما
تم الجزء الرابع من تفسير روح المعاني ويتلوه الجزء الخامس 5 (4/261)
بسم الله الرحمن الرحيم والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمنكم عطف على ما قبله من المحرمات والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الاثم وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة : على فتح الصاد هنا ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن وقيل : الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا فقد قال ابن الأعرابي : كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن وألفج إذا ذهب ماله وأسهب إذا كثر كلامه
وحكي عن الأزهري مثله وقال ثعلب : كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير ويقال : حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة وفرس حصان بالكسر بين التحصين والتحصن ويقال : إنه سمي حصانا لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا والإحصان في المرأة ورد في اللغة واستعمل في القرآن بأربعة معان : الإسلام والحرية والتزوج والعفة وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء وفائدته تأكيد عمومها وقيل : دفع توهم شمولها للرجال بناءا على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث وليس بشئ كما لا يخفى وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل أخرجه عنه ابن جرير وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال : سألت عكرمة عن هذه الآية والمحصنات إلخ فقال : لا أدري وللعلماء المتقدمين فيها أقوال : أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا
والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضى لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها فعند الشافعي رحمه الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي واحتج أهل هذا القول بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شئ وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث (5/2)
المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة أعتقتها وخيرها النبي صلى الله عليه و سلم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج فأنزل الله تعالى الآية وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم : قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا 3 تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف
وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه : ولا تمسكوا بعصم الكوافر فلا يرد ما أورد وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وإليه ذهب جمهور الإمامية وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج والملك أعم من ملك اليمين وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في الموطأ ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع
أخرج عبدالرزاق وغيره عن عبيد أنه قال في هذه الآية : احل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك وروي مثله عن كثير
وقال شيخ الإسلام : المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبي عن (5/3)
ذلك خبر أبي سعيد وليس في ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها
واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قل : يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر كتب الله مصدر مؤكد أي كتب الله تعالى عليكم تحريم هؤلاء كتابا ولا ينافيه الإضافة كما توهم والجملة مؤكدة لما قبلها و عليكم متعلق بالفعل المقدر وقيل : كتاب منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب الله و عليكم متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه وقيل : هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه وقيل : منصوب بعليكم واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشئ
وقرأ أبو السميقع كتب الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله تعالى عليكم و كتب الله بلفظ الفعل وأحل لكم قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول والباقون على البناء للمفاعل وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت وعلى الثانية معطوفا على كتب المقدر وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة كتب لتأكيد ما قبلها وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم ونظر فيه الحلبي ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور
أن تبتغوا مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء أو متروك أي تفعلوا الابتغاء بأموالكم بأن تصرفوها إلى مهورهن أو بدل اشتمال من ما وراء ذلكم بتقدير المفعول ضميرا
وجوز بعضهم كون ما عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح وجعل هذا بدل كل من كل والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان محصنين حال من فاعل تبتغوا والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى غير مسافحين حال من الضمير البارز أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد : ذات خدن ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد أن (5/4)
يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وقال بعض الشافعية : لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال ويؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم ماذا معك من القرآن قال : معي سورة كذا وكذا وعددهن قال : تقرأهن على ظهر قلبك قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليم ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده صلى الله تعالى عليه وسلم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه قاله بعض المحققين ولعل في الخبر إشارة إليه فما استمتعتم به منهن ما إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى : فءاتوهن أجورهن والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في فآتوهن ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير به واستعمال ما للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى والسين للتأكيد لا للطلب والمعنى فأي فرد أو الفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن فمن ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا و ما لما لا يعقل والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فآتوهن أجورهن لأجله أو بمقابلته والمراد من الأجور المهور وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين فريضة حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي ايتاءا مفروضا أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع ولا جناح أي لا إثم عليكم فيما ترضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة لا جناح إذا جعل 3 الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة من بعد الفريضة أي الشئ المقدر وقيل : فيما تراضيتم من نفقة ونحوها وقيل : من مقام أو فراق وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة وقيل : الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر والمراد ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة وإلى ذلك ذهبت الإمامية والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبي فما استمعتم به منهن إلى أجل مسمى وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم والكلام في ذلك شهير ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث (5/5)
تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة واستمر التحريم ولا يجوز أن يقال : إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع
وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه : إنك رجل تائه إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المتعة كذا قيل وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له علي ذلك فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل يعني ابن عباس كما قال النووي فناداه فقال إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبدالله بن الزبير وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناءا على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فكل فرج سواهما حرام ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الإضطرار والعنت في الإسفار فقد روي عن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء قال : وما قالوا قلت : قالوا : قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال : سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ولا تحل إلا للمضطر ومن هنا قال الحازمي : إنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ ونهي عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ومعنى أنا محرمها في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئه كما يزعمه الشيعة وهذه الآية لا تدل على الحل والقول بأنها نزلت في المتعة غلط وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته وقد قال بهما الشيعة ثم قال جل وعلا : محصنين غير مسافحين وفي إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب وفي كل سنة بحجر ملاعب فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة : إن المتمتع الغير الناكح (5/6)
إذ زنى لا رجم عليه ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل : فإذا استمتعتم وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة
وما دل على التحريم كآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما وليس للشيعة أن يقولوا : إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية كالميراث والعدة والطلاق والنفقة فيها وقد صرح بذلك علماؤهم
وروى ابو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع قال : لا ولا من السبعين وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشئ كما لا يخفى ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها ونقل الحل عن مالك رحمه الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه ومذهب الأكثرين أنه لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ومأخذ الخلاف على ما قال النووي : اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها فبعض قال : لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني وقال آخرون : بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول وحكى بعضهم عن زفر أنه قال : من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت وفي كونه عين نكاح المتعة بحث فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة ولفظ التزويج أو النكاح في الأول وأستمتع أو أتمتع في الثاني وقال آخرون : النكاح المؤقت من أفراد المتعة وذكر ابن الهمام أن النكاح لاينعقد بلفظ المتعة وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه وشذ الأوزاعي فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك إن الله كان عليما بما يصلح أمر الخلق حكيما
24
- فيما شرع لهم ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب ومن لم يستطع منكم من إما شرطية وما بعدها شرطها وإما موصولة وما بعدها صلتها و منكم حال من الضمير في يستطع وقوله سبحانه : طولا مفعول به ليستطع وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول
والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد وأصله الفضل والزيادة ومنه الطائل وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم : طلته أي نلته ومنه قول الفرزدق : إن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس تنالها الأوعالا قوله عز و جل : أن ينكح المحصنت المؤمنت أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء إما أن يكون متعلقا بطولا على معنى ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة لطولا أي ومن (5/7)
لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن أو لنكاحهن أو على على أن الطول بمعنى القدرة كما قال الزجاج ومحل أن بعد الحذف جر أو نصب على الخلاف المعروف وهذا التقدير قول الخليل وإليه ذهب الكسائي وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من طولا بدل الشئ من الشئ وهما لشئ واحد بناءا على أن الطول هو القدرة أو الفضل والنكاح قوة وفضل وقيل : يجوز أن يكون مفعولا ليستطع و طولا مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز أي ومن لم يستطع منكم استطاعة أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام وقوله تعالى وتقدس : فمن ما ملكت أيمنكم جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة و ما موصولة في محل جر بمن التبعيضية والجار والمجرور متلق بفعل مقدر حذف مفعوله وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم وأجاز أبو البقاء كون من زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم وقوله تعالى : من فتيتكم أي إمائكم المؤمنت في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى ما وقيل : من زائدة و فتياتكم هو المفعول للفعل المقدر قبل و مما ملكت متعلق بنفس الفعل و من لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول و من للتبعيض و المؤمنات على جميع الأوجه صفة فتياتكم وقيل : هو مفعول لذلك الفعل المقدر وفيه بعد
وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط كما ذهب إليه الشافعي وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضى من قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء وأحل لكم ما وراء ذلكم فلا يخرج منه شئ إلا بما يوجب التخصيص ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة أما أولا فالمفهومان أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود طول الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها وبالكراهة صرح في البدائع وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم
واعترض بأنهم إن عنوا أن فيها تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر أو رقيقة فرقيق وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة وهذا لأنه كان له أن لايحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد (5/8)
للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل قاله ابن الهمام وفيه مناقشة ما فتأمل
وفي هذه الآيية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده : ومن لم يستطع إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم لكل جديد لذة أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد والله أعلم بإيمنكم جملة معترضة جئ بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر
والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم وقيل : جئ بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب بعضكم من بعض أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك وأيا ما كان فبعضكم مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا له وزعم بعضهم أن بعضكم فاعل للفعل المحذوف قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك
فانكحوهن بإذن أهلهن مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء إي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب
والمراد من الأهل الموالي وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا : للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب وفي فتح القدير : للشريك المفاوض تزويج الأمة وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومحمد وقال أبو يوسف : يملكون ذلك وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي وإلى هذا ذهب مالك وهو رواية عند أحمد ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر وقال : حديث حسن عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنها يملك الطلاق فيملك النكاح وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة (5/9)
عيب عن نفسه بخلاف النكاح قال ابن الهمام : لا يقال : يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول : لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج ثم هذه الأحكام تجب جزاءا على ارتكاب المحظور شرعا فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك وهو الشارع زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب إنتهى
وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم
واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون وآتوهن أجورهن أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن ولعل ما تقدم قرينة عليه قيل : ونكتة أختيار آتوهن على آتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه
وقال الإمام مالك : الآية على ظاهرها والمهر للأمة وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية وإن حملت الأجور على النفقات استغنى عن اعتبار التقدير أولا وآخرا وكذا إن فسر قوله تعالى
بالمعروف بما عرف شرعا من إذن الموالي والمعروف فيه أنه متعلق بآتوهن والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا بأنكحوهن أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن محصنت حال إما من مفعول آتوهن فهو بمعنى متزوجات أو من مفعول فانكحوهن فهو بمعنى عفائف وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه : فتياتكم المؤمنات فليس في إعادته كثير جدوى والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى : غير مسفحت تأكيد له والمراد غير مجاهرات بالزنا كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا متخذت أخدان عطف على مسافحات ولا لتأكيد ما في غير من معنى النفي والأخدان جمع خدن وهو الصاحب والمراد هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة والمعنى ولا مسرات الزنا
وكان الزنا في الجاهلية منقسم إلى سر وعلانية وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون : إنه لؤم ويستحلون ما خفي ويقولون : لا بأس به ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى : ولا تقربوا (5/10)
الفواحش ما ظهر منها وما بطن فإذا أحصن أي بالأزواج كما قال ابن عباس وجماعة وقرأ إبراهيم أحصن بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن وأخرج عبد بن حميد أنه قرئ كذلك ثم قال : إحصانها إسلامها وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج وبعض من أراده من الآية قال : لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحر وروي ذلك مذهبا لابن عباس وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس وقال الزهري : هو فيها بمعنى التزوج
والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال : إجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جل وعلا : من فتياتكم المؤمنات فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام
وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار فإن أتين بفحشة أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك
فعليهن أي فثابت عليهن شرعا نصف ما على المحصنت أي الحرائر الأبكار من العذاب أي الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم
قال الشهاب : وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص فلا وجه لما قيل : إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الأماء فهو مقتضى الحال انتهى
والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرئ فإن أتوا وأتين بفاحشة هذا والفاء في فإن أتين جواب إذا والثانية جواب إن والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول و من العذاب في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من ما لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل ذلك أي نكاح الإماء لمن خشي العنت منكم أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله العنت فقال : الإثم فقال نافع : وهل تعرف العرب ذلك فقال : نعم أما سمعت قول الشاعر : (5/11)
رأيتك تبتغي عنتي وتسعى مع الساعي علي بغير دخل وقيل : أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة ومنه أكمة عنوت أي صعبة المرتقى وفسره الزجاج هنا بالهلاك والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثول أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : المراد به الحد لأنه إذا هو بها يخشى أن يواقعها فيحد ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الأماء عند الشافعي عليه الرحمة ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح وأن تصبروا أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين
خير لكم من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا وعلى بيعهن للحاضر والبادي وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات وذلك ذل ومهانة سارية للناكح ولا يكاد يتحمل ذلك غيور ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق
وقد أخرج عبدالرزاق وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا وعن أبي هريرة وابن جبير مثله
وأخرج بن أبي شيبة عن عامر قال : نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت وقال الشاعر : ومن لم تكن في بيته قهرمانة فذلك بيت لا أبا لك ضائع وقال الآخر : إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره والله غفور أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب رحيم
25
- أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص
وهذا من باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل : و ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم طلب السالك مقاما ناله غيره وليس له قابلية لنيله ومن هنا قوبل الكلام بالصعق لما سأله الرؤية وقال شاعر الحقيقة المحمدية : ولست مريدا أرجعن بلن ترى ولست بطور كي يحركني الصدع (5/12)
وقال سيدي ابن الفارض على لسانها : وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمع ولا تجعل جوابي لن ترى ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع وقال النيسابوري : المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلص عباده وأباح لهم بقوله إلا ما ملكت أيمانكم تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب محصنين أي حرائر من الدنيا وما فيها غير مسافحين في الطلب مياه الوجوه ثم أمرهم إذا استمتعوا بشئ من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا وكم في الزوايا من خبايا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل يريد الله ليبين لكم إستئناف مقرر لما سبق من الأحكام ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة كما قال الشهاب على مذاهب فقيل : مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف
قيل : إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله قديمة وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤل بالمصدر من غير سابك كما قيل به في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر والبصريون يمنعون ذلك ويقولون : إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها ومفعول يبين على بعض الأوجه محذوف أي ليبين وقوله تعالى : ويهديكم تنازعا في قوله سبحانه : سنن الذين من قبلكم أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السابقة كما قيل به بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح ويتوب عليكم عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور : فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة مجازا لتسببها عنها أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الإستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي
وقرر العلامة الطيبي إن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف ويتوب على ويهديكم (5/13)
إلخ على سبيل البيان كأنه قيل : ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات فوضع موضعه ويتوب عليكم وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخالف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة والله عليم مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم حكيم
26
- مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله يريد أن يتوب عليكم 3 ج 3 عله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا وأما إذا فسر يتوب أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون ليبين لكم مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الإختلاف لا محالة ويريد الذين يتبعون الشهوت يعني الفسقة لأنهم يدورون مع مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها
وروي هذا عن ابن زيد وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى وقيل : إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة وقيل : إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر ويقولون : لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه فنزلت وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين أن تميلوا عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون
وقرئ بالياء التحتانية فالضمير حينئذ للذين يتبعون الشهوات ميلا عظيما
27
- بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل يريد الله أن يخفف عنكم أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الأماء قاله طاوس ومجاهد وقيل : يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية وقيل : يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وخلق الإنسن ضعيفا
28
- أي في أمر النساء لا يصبر عنهن قاله طاوس وفي الخبر لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا وقيل : يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه وقيل : عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة وقيل : ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي
وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء وليس لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشئ (5/14)