واستدلوا أيضاً بقوله تعالى في سورة البقرة [ 233 ] { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة . . . } الآية . على أن أقصى مدة الرضاع سنتان فقط .
وهذا رأي الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) رحمهم الله تعالى .
وذهب الإمام ( أبو حنيفة ) رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرِّم سنتان ونصف ، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف [ 15 ] : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً . . . } الآية .
وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان :
الوجه الأول : أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين في بطن أمه ، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول : تحمل الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهراً ، فتكون المدة المذكورة في الآية الكريمة لشيءٍ واحد وهو الرضاع .
الوجه الثاني : أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية الكريمة أمرين وهما : ( الحمل ) و ( الفِصال ) ، وأعقبهما بذكر بيان المدة ، فتكون هذه المدة لكلٍ من الأمرين استقلالاً ويصبح المعنى على هذا التأويل : حملة ثلاثون شهراً ، وفصاله ثلاثون شهراً أي إن المدة لكلٍ منهما ( عامان ونصف ) وبذلك يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف ، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين ( لفلانٍ وفلان عندي مائة إلى سنة ) فتكون السنة هي أجل كلٍ من الدَيْنَيْن ، وكذلك هنا تكون الثلاثون شهراً مدة كلٍ من الحمل والرضاع . وهذا الرأي الذي ذهب إليه ( أبو حنيفة ) رحمة الله لم يوافقه عليه تلميذاه ( أبو يوسف ) و ( الإمام محمد ) بل قالوا بمثل قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرِّم عامان فقط .
الترجيح : ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول الجمهور ، لا سيّما وأنّ تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه ، ودليل أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أن يحتاج إلى تكلفٍ في التأويل بخلاف دليل الجمهور . والله أعلم .
الحكم الثاني : كم هي مدة الحمل الشرعي؟
أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ، وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى { وفصاله فِي عَامَيْنِ } فمن مجموع الآيتين الكريمتين يبتيَّن أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور . . قال ( ابن العربي ) في تفسيره : روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت ، فأتي بها عثمان رضي الله عنه فأراد أن يرجمها ، فقال ( ابن عباس ) لعثمان : إنها إن تخاصمْكم بكتاب الله تخصِمْكم ، قال الله عز وجل : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وقال : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة . . . } [ البقرة : 233 ] فالحمل ستة أشهر ، والفصال أربع وعشرون شهراً ، فخلّى عثمان رضي الله عنه سبيلها .
وفي رواية أنّ ( علي بن أبي طالب ) قال له ذلك .
قال ابن العربي : وهو استنباط بديع .
الحكم الثالث : هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد؟
ذهب الجمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القوَد على أحد والديه بجناية أحدهما عليه ، ولا يقتص منهما بسبب الولد ، كما لا يحدّ إذا قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه .(1/416)
ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما بالمعروف فقال { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } وليس من المعروف أن يقتص من الوالد للولد ، ولا أن يحبس في دينه ، ولا أن يحدّ إذا قذفه لأن ذلك كلّه مما يتنافى مع صحبتهما بالمعروف . ولأنهما كانا سبباً في حياته ، فلا يصح أن يكون الولد سبباً في إهلاك والديه . وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صلى الله عليه وسلم « لا يقاد للولد من والده » .
الحكم الرابع : هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور المحظورة؟
قال العلامة القرطبي : ( إن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات ، ونقل عن ( الحسن ) أنه قال : إن منعته أُمّه من شهود صلاة العشاء شفقةً فلا يطعها ) .
ثم قال : والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق . وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة فقالت : « يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال : نعم » .
وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى : { وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وهذا المعنى قد سَنّه الخليفة الراشد ( أبو بكر ) رضي الله عنه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين . فكان فيما قال :
( أما بعد . أيها الناس : إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم ، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم ) .
الحكم الخامس : هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين؟
ظاهر قوله تعالى : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ } وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين ، وتحريم السير في اتجاه يخالف اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين . وقد صرّح بهذا المعنى في قوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] . فلا بدّ من الانضواء تحت رأية أَهل التوحيد والإيمان واتباع سبيلهم ، فالخير كله في الاقتداء بهم ، والسير على منوالهم . ولقد أحسن من قال :
فكلّ خيرٍ في اتباع من سَلَف ... وكلّ شرٍّ في ابتداعِ من خلَف
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- الحكمة هبة إليهة لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح .(1/417)
2- شكر النعمة واجب على المرء . ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله .
3- الشرك من أعظم الذنوب ، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل .
4- طاعة الوالدين من طاعة الله ، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى .
5- حق الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأنّ أتعابها عليها أكثر .
6- لا تجوز الطاعة في المعصية . إنما الطاعة في المعروف كما بينَّه عليه السلام .
حكمة التشريع
أوصى الله تعالى بالوالدين إحساناً ، وأمر ببرّهما وطاعتهما والإحسان إليهما ، وخصّ ( الأم ) بمزيد من العناية والاهتمام ، فجعل حقّها أعظم من حق الأب ، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد ، ولما قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته . فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم؟! الأم التي حنت عليه فغذته بلَبَانها ، وغمرته بحنانها ، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت من أجل سعادته ، وتعبت من أجل راحته ، وتحمّلت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة ، تعيش بين أزهار الربيع ، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته ، لتطرد عنه شبح الخوف ، أو تزيل عنه ألم المرض ، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله على يديها ، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته . . . فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طريق العقوق ، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان؟!
فحق الأم على ولدها عظيم ، وفضلها عليه كبير وجسيم ، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عزّ وجلّ ، فلولا رعايتها وحنانها ، ولولا تحملها المتاعب والآلام ، لَمَا تَربّى وليد ، ولا عاش إنسان!!
وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين ، وطاعتهما وبرّهما حتى ولو كانا ( مُشْركَيْن ) ، ولكنّه جلّ ثناؤه حذّر من اتّباعهما ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك { وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عز وجلّ . . فطاعتهما مشروطة بطاعة الله ، وفي الحدود التي يقرّها الشرع الحنيف ، ولا يكون فيها تضييع لحق الخالق ، أو حقّ المخلوق ، فشكرُ الوالدين من شكر الله ، وطاعتهما - فيما ليس فيه معصية - من طاعة الله!! وصدق الله حيث يقول : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .(1/418)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
سورة الأحزاب
[ 1 ] التبني في الجاهلية والإسلام
التحليل اللفظي
{ اتق الله } : أي أثبت على تقوى الله ودم عليها ، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير ، واجتنابُ كل شر ، وأصله من ( الوقاية ) بمعنى الحفظ والصيانة .
قال في « اللسان » : التقوى ، والإتّقاء ، والتّقاة ، والتّقيّة كله واحد ، ورجل تقيّ : معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح .
قال ابن الوردي :
واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا ... جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل
ليس كم يقطعُ طرقاً بطَلاً ... إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل
{ الكافرين } : جمع كافر ، وهو الجاحد لنعم الله ، مشتق من ( الكَفْر ) وهو الستر ، وكل من ستر شيئاً فقد كفره ، ولهذا يسمّى الزارع ( كافراً ) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } [ الحديد : 20 ] أي أعجب الزرّاع . ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء .
وفي الصحاح : والكافر : الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء ، وكفر النعمة جحدها .
وقال الجوهري : ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عز وجلّ ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده .
قال بعض العلماء : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً ، ولا يعترف به ، ويكفر بقلبه ولسانه .
وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه ، ككفر إبليس ، وكفر أهل الكتاب { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
وكفر عناد وهو : أن يعترف بقلبه ، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه .
وكفر نفاق وهو : أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين .
{ والمنافقين } : جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، مشتق من ( النَّفَق ) وهو سَرَب في الأرض ، والنافقاء : جُحْرُ الضبّ واليربوع ، قال أبو عبيد : سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض ، وقيل : إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه . فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء ، فهو يدخل من ( النافقاء ) ويخرج من ( القاصعاء ) أو بالعكس ، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه .
وقال في « اللسان » : وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق ، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به ، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه ، وإن كان أصله في اللغة معروفاً .
{ وَكِيلاً } : الوكيل : الحافظ ، الكفيل بأرزاق العباد ، والمتوكل على الله : الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره ، فيركن إليه وحده ، ولا يتوكل على غيره ، وفي التنزيل : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به . والتوكل : اللجوء والاعتماد يقال : وكلتُ أمري إلى فلان أن ألجأته إليه ، واعتمدت فيه عليه قال تعالى :(1/419)
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] .
والمعنى : اعتمد على الله والجأ إليه ، وكفى به حافظاً وكفيلاً .
قال أبو السعود : { وَتَوَكَّلْ على الله } أي فوّض جميع أمورك إليه { وكفى بالله وَكِيلاً } أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور .
{ تظاهرون } : نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب ( ظاهر من زوجته ) أنه قال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة ، وكان الظّهار عندهم طلاقاً ، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه ، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته .
قال في « اللسان » : وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر ، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ ، لأنّ الظهر موضع الركوب ، فكأنه قال : ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح ، فأقام الظهر مقام الركوب ، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية .
{ أَدْعِيَآءَكُمْ } : جمع دَعيّ ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن ، وهو النبي الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام ، وقد تبنّى عليه السلام ( زيد بن حارثة ) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله .
قال في « اللسان » : والدّعي : المنسوب إلى غير أبيه ، والدِّعوة بكسر الدال : أدّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه ، وقال ابن شُميل : الدَّعوة بالفتح في الطعام ، والدِّعوة بالكسر في النسب .
وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة .
وقال الشاعر :
دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه ... ليُلحقه بذي النسب الصّميم
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم
{ أَقْسَطُ } : بمعنى أعدل أفعل تفضيل ، يقال : أقْسَط إذا عدل ، وقَسَط إذا جار وظلم ، فالرباعي ( أقسط ) يأتي اسم الفاعل منه ( مُقْسِط ) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ] والثلاثي ( قَسَط ) يأتي اسم الفاعل منه ( قاسط ) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] فكأن الهمزة في أقسط للسلب ، كما يقال : شكا إله فأشكاه ، أي أزال شكواه .
والقِسط : العدل قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } [ الرحمن : 9 ] .
{ ومواليكم } : أي أولياؤكم في الدين ، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه ، والمملوك سيّده .
ومعنى الآية : فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين ، وأولياؤكم فيه ، فليقل أحدكم : يا أخي ، أو يا مولاي ، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين .
{ غَفُوراً } : يغفر ذنوب عباده ، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] .
{ رَّحِيماً } : بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ ، ولم يؤاخذه على خطئه .
المعنى الإجمالي
أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم ، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين ، لأنهم اعداء الله ورسوله ، وأعداء المؤمنين ، لا يؤتمنون على شيء ، ولا يستشارون في أمر ، فظاهرهم غير باطنهم ، وصورتُهم غير حقيقتهم ، لذلك ينبغي الحذر منهم ، وعدم الاستجابة لهم ، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله عز وجلّ .(1/420)
والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام ، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة ، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى ، وتعمل تهدي القرآن .
وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة ، ومنكراتٍ كثيرة ، زعموا أنّها من الدين ، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع ، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل ، بالحق الساطع ، والبرهان القاطع ، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم .
يقول الله تعالى ما معناه : « يا أيها النبي تحل بالتقوى ، وتمسّك بطاعة الله ، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء ، فإنّ الله عالم بأحوال العباد ، لا تخفى عليه خافية ، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك ، من الشرع القويم ، والدين الحكيم ، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين ، فإنّ الله معك فتوكل عليه ، والجأ في جميع أمورك إليه ، فهو الحافظ والناصر . ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية ، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً ، ولا الولد المتبنّى ابناً ، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان ، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات!! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم ، مع أنهم ليسوا من أصلابهم!!
ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله ، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق .
ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم ، لأنه أعدل وأقسط فقال : فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم ، فهم إخوانكم في الدين ، وأولياؤكم فيه ، فليقل أحدكم : يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته ، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً ، يغفر لعباده زلاتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم .
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها :
أولاً : رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب ، وعكرمه بن أبي جهل ، وأبا الأعور السّلمي ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ، ومُعتّب بن قُشَيْر ، والجدّ بن قيس ، فتكلموا فيما بينهم ، وأتو رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه إلى أمرهم ، وعرضوا عليه أشياء ، وطلبوا منه أن يرفض ذكر ( اللاَّت والعُزى ) بسوء . وأن يقول : إنّ لها شفاعة ، فكره صلى الله عليه وسلم ذلك ، ونزلت هذه الآية : { ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } .
ثانياً : وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى ( جميل بن مَعْمَر الفِهْري ) كان لبيباً ، حافظاً لما سمع ، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه ، وكان يقول : » إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد « ، فلمّا كان يوم بدر ، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه ( أبو سفيان ) وهو معلّق إحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : ما حال الناس؟ فقال : انهزموا ، قال : فما بال إحدى نعليك في يدك ، والأخرى في رجلك؟
قال : ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!!
فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ .(1/421)
. . } الآية .
ثالثاً : وروى السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبنّى ( زيد بن حارثة ) وأعتقه قبل الوحي ، فلمذا تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون : تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } .
رابعاً : وروى البخاري في « صحيحه » عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما كنّا ندعو ( زيد بن حارثة ) إلاّ زيد بن محمد ، حتى نزلت الآية الكريمة { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله . . . } .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { إنّ اللَّهَ بما تَعْملون } بتاء الخطاب ، وقرأ أبو عمرو { يعملون } بياء الغَيْبة ، قال أبو حيّان : وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات .
ثانياً : قرأ الجمهور { اللاّئي تُظَاهرون منهنّ } بالهمز وياء بعدها ، وقرأ ( أبو عمرو ) بياء ساكنة { واللايْ } بدلاً من الهمزة ، وهي لغة قريش وقرأ ( ورش ) بياء مختلسة الكسرة .
ثالثاً : قرأ الجمهور { تُظَاهرون منهنّ } بضم التاء ، وفتح الظّاء ، من ظاهر وقرأ ( أبو عمرو ) بشدّ الظاهر { تَظّاهرون } وقرأ هارون { تَظْهَرون } بفتح التاء والهاء ، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره « البحر المحيط » أنّ فيها تسع قراءات .
رابعاً : قرأ الجمهور { وهو يَهْدي السّبيلَ } بفتح الياء مضارع هدى ، وقرأ قتادة { يُهَدِّي } بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال . . .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } جعل هنا بمعنى ( خلق ) فهي تنصب مفعولاً واحداً ، بخلاف قوله { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } فإنها بمعنى : ( صيّر ) تنصب مفعولين ، وقوله : ( من قلبين ) مِنْ صلة ( أي زائدة ) و ( قلبين ) مفعول جعل ، و ( في جوفه ) متعلق بجَعَل .
ثانياً : قوله تعالى : { والله يَقُولُ الحق } . . . الحقّ : منصوب لوجهين :
أحدهما : أن يكون مفعولاً ل ( يقول ) .
والثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره : والله يقول القول الحق .
ثالثاً : قوله تعالى : { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ( ما ) يجوز فيها وجهان : الجرّ بالعطف على ( ما ) في قوله تعالى : { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } .
والرفعُ على الابتداء وتقديره : ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به .(1/422)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة { ياأيها النبي } كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة { ياأيها الرسول } [ المائدة : 41 ] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الكريم بلفظ ( النبوة ) أو وصف ( الرسالة ) فيه تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء . كما فيه تعليم لنا الأدب معه ، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام ، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً . . . } [ النور : 63 ] .
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » ما نصُّه :
« نداء النبي صلى الله عليه وسلم ب ( يا أيها النبي ) ( يا أيها الرسول ) هو على سبيل التشريف والتكرمة ، والتنويه بمحلّه وفضيلته ، وجاء نداء غيره باسمه كقوله : يا آدم ، يا نوح ، يا إبراهيم ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى . . وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله ، صرّح باسمه فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } [ الفتح : 29 ] { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] أعلم أنّه رسوله ، ولقّنهم أن يسمّوه بذلك .
وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء - يعني بوصف النبوة أو الرسالة - كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { وَقَالَ الرسول يارب } [ الفرقان : 30 ] وقوله : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى ، وهو سيّد المتقين؟!
فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] أي أثبتوا على الإيمان ، وقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم .
وقيل : إن الأمر خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم موجه إليه في الظاهر . والمراد به أمته ، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
قال الإمام الفخر رحمه الله : » الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور ، بالمأمور به ، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس : اجلس ، وللساكت : اسكت ، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه أمر بالمداومة ، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس : اجلس هاهنا إلى أن أجيئك ، ويقول الفائلُ للساكت : قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ ، أي دمْ على ما أنتَ عليه .
والثاني : أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمثه ومرتبتُه ، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة . فقوله : ( اتق الله ) يراد منه الترقي الدائم ، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل ، فناسب الأمر به صلى الله عليه وسلم بالتقوى .
اللطيفة الثالثة : السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية ، هو أنه بمثابة ضرب مثل ، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية ، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع ، وجعلُ ( المُظَاهَر ) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من أمر لا حقيقة له في الواقع ، وجعلُ ( المُظَاهَر ) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية ، وجعل ( المتبنّى ) باناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع .(1/423)
ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونث الرجل له قلبان ، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك ، وضربه مثلاً للظهار ، والتبني . فكأنّ الآية تقول : كما لا يكون لرجلٍ قلبان ، لا تكون المظاهَرث منها أمّاً ، ولا المتبنّى ابناً ، والله أعلم بأسرار كتابه .
اللطيفة الرابعة : التنكير في قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ } وإدخال ( مِنْ ) على الجملة بعده في قوله ( مِنْ قلبين ) يفيد العموم والاستغراق ، ومعنى الآية : ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً ، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه . فهو نفي للشيء بطريق ( التأكيد والاستغراق ) .
وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أ ن ّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار ، والتكذيب للمدّعى ، فهو كقوله تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] .
فإذا سمع الإنسان ذلك ، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين . فسارع عقله إلى إنكاره .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { ذلكم قَوْلُكُم بأفواهكم } فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط ، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع . كما نقول : ( هذا خبرٌ على ورق ) أي ليس له وجود أو تطبيق .
قال الزمخشري : ( من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم . فلماذا ذكر قوله ( بأفواهكم ) ؟ الجواب : أنّ فيه إ شارة إلى أنّ هذا القول . ليس له من الحقيقة والواقع نصيب . إنما هو مجرد إدعاء باللسان . وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة ) والله أعلم .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { والله يَقُولُ الحق } الآية .
قال الإمام الفخر : فيه إشارة إلى معنى لطيف . وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل . وإمّا عن شرع . وفي الدّعي ( الولد المتبنّى ) لم توجد الحقيقة . ولا ورد الشرع . فإنّ قولهم : هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم . والله تعالى يقول : هي لك حلال . فقولهم لا اعتبار به لأنه قول من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم ، وقول الله حق فيجب اتباعه . وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم . فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم!؟ .
اللطيفة السابعة : صيغة ( فعيل ) في اللغة العربية تفيد المبالغة ، فقوله تعالى : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 17 ] إنما يقصد به المبالغة ، لأن الصيغة تقتضي ذلك ، ففرق في التعبير بين قولك ( عالم ، وعليم ، وعلاّم ) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم ، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة ، لأنّ ( فعّال وفعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :(1/424)
فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ ... في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ
فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل ... وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل
فالمراد في الآية الكريمة من لفظه ( عليم ) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . و ( الحكيم ) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره .
اللطيفة الثامنة : كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان ، وقد اشتهر ( جميل بن مَعْمر ) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه ، فكانوا يسمونه بذي القلبين ، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء :
وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما ... قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر
وكان هذا الجهول يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم منه . فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه ، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل . وهو يحمل إحدى نعليه بيده ، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري ، فظهر للناس كذبه . وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره .
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } . . أفعل التفضيل ليس ( على بابه ) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان ، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً .
والمعنى : دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته . وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه . . وجوّز بعضهم أن يكون ( على بابه ) جارياً على سبيل التهكّم بهم . والمعنى : دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل تقع المعصية من الأنبياء؟
من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي . فإنّ ( العصمة ) من صفاتهم . فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله عز وجلّ . لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم . فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أوصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر . لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام ، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف ( عصمة الأنبياء ) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام . فقوله تعالى هنا { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } لا يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى طاعتهم ، أو أحبّ موافقتتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال . وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } حيث جاء بصثغة الجمع وقد عرفت ما فيه .
الحكم الثاني : هل الظهارمحرّم في الشريعة الإسلامية؟
دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق .(1/425)
حيث تثبت به ( الحرمة المؤبدة ) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها - في اعتقادهم - أماً كالأم من النسب ، فأبطل الإسلام ذلك ، واعتبره بهتاناً وضلالاً ، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره . قال تعالى : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ المجادلة : 2 ] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم ، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة .
الحكم الثالث : هل يجوز التبني في الإسلام؟
كما أبطل الإسلام الظهار أبطل ( التبني ) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً » .
وجاء في الحديث الصحيح : « ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « من ادّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير - فالجنة عليه حرام » .
قال في « تفسير روح المعاني » : « وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية . . وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل ( التحنن والشفقة ) يا ابني ، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة » .
وقال ( ابن كثير ) في تفسيره : ( فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن ( ابن عباس ) رضي الله عنهما قال : قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) .
كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم أنساً فقال له : يا بنيّ .
الحكم الرابع : ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة؟
نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح ( الإثم ) عمن أخطأ ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من ( الخطأ والعمد ) في الآية الكريمة على قولين :
أ- ذهب ( مجاهد ) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان ، والعمد ما كان بعد النهي والبيان .
ب- وذهب ( قتادة ) إلى أن الخطأ هنا ما كان من غير قصد فقد أخرج ( ابن جرير ) عن قتادة أنه قال في الآية : ( لو دعوت رجلاً لغير أبيه ، وأنت ترى أي ( تظنّ ) أنه أبوه ، لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه ) أي فعليك فيه الإثم .(1/426)
فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم ( الأدعياء ) أبناء قبل ورود النهي . وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي ، ويصبح معنى الآية : ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه بعد الإسلام ، وبيان الأحكام .
وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد ، والعمد ما كان عن إصرار وقصح ، ويصبح معنى الآية : ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان ، وأمّا ما تقصّدتم نبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج .
وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره « البحر المحيط » الرأي الثاني ، وضعّف الأول وقال : ( قوله تعالى : { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } قيل : المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي ، وهذا ضعيف ، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي .
وقيل : فيما سبق إليه اللسان ، إمّا على سبيل الغلط ، أو على سبيل التحنّن والشفقة ، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير : يا بني ، كما يقول للكبير : يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم ) .
الحكم الخامس : ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية؟
الاستلحاق الذي أباحه الإسلام ، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في شيء ، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم ( المستلحق ) بكسر الحاء أنّ ( المستلحَق ) بفتح الحاء ابنه . أو يظنّ ذلك ظناً قوياً ، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه . وأحلّه له . وأثبت نسبه منه . بشروط مبينة في كتب الفقه . أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه ، وأين هذا من ذاك؟
الحكم السادس : هل يباح قول : يا أخي أو يا مولاي؟
ظاهر الآية الكريمة { فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فإخوانكم فِي الدين ومواليكم } أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه : يا أخي ، أو يا مولاي ، إذا قصد الأخوّة في الدين ، والولاية فيه ، لا أخوّة النسب وقرابته ، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم : هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين .
وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً . وكان دعاؤه ب ( يا أخي ) أو ( يا مولاي ) تعظيماً له فإنه يكون حراماً ، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق ، فمثل هذا يُدْعى باسمه ، أو بقولك : يا عبد الله ، أو يا هذا ، ففي الحديث الشريف ( لا تقولوا للمنافق يا سيّد ، فإنه إن يك سيّداً فقد إغضبتم ربكم ) .(1/427)
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - تقوى الله عز وجل زاد المؤمن . ووصية الله في الأولين والآخرين .
ثانياً - من شروط الإيمان التوكل على الله ، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات .
ثالثاً - الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها .
رابعاً - ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل .
خامساً - الاعتقاد بأن الزوجة ( المظاهَر منها ) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء .
سادساً - حرمة ( التبنّي ) في الإسلام ، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم .
سابعاً - جواز قول الإنسان يا ( أخي ) ويا ( مولاي ) إذا قصد أخوّة الدين وولايته .
ثامناً - الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صد منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
« بدعة التبني في الجاهلية »
أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية ، والمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية ، وتعيش في ضلالات وأوهام ، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ، هي من بقايا مخلّفات ( العصر الجاهلي ) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم .
وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون ، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ ، وجهالة ، وكفر ، وضلالة!!
فكان من رحمة الله تعالى أن أنتشل الأمة العربية ، من أوحال الجاهلية . وخلّصها من تلك العقائد الزائغة ، والأوهام الباطلة ، وغذاها بلَبَان الإيمان ، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس .
ولقد كانت ( بدعة التبنّي ) من أظهر بدع الجاهلية ، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً ، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد ، { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
كان العربي في الجاهلية . يتبنّى الرجل منهم ولد غيره ، فيقول له : ( أنتَ ابني أرثك وترثني ) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها . من الإرث ، والنكاح ، والطلاق ، ومحرمات المصاهرة ، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف .
ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء . جرياً على عادة العرب في التبني . ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء التبني . وإبطال تلك البدعة المنكرة ، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن .
فتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الأبناء ، هو ( زيد بن حارثة ) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبنّيه ، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل .
أخرج البخاري ومسلم في « صحيحهما » عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « إنّ زيد بن حارثة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل » .(1/428)
أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله ، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عليه الصلاة والسلام .
وخلاصة القصة : أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي ، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب ، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه ، فاشترته السيدة ( خديجة بنت خويلد ) فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه ، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه .
وكان أبوه ( حارثة بن شرحبيل ) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار ، وينشد فيه الأشعار ، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها :
بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل ... أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها ... وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل
وبلغ ( حارثةَ ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صلى الله عليه وسلم في مكة ، فقدم مع عمه ، حتى دخل على رسول الله ، فقال يا محمد : إنكم أهل بيت الله ، تفكّون العاني وتطعمون الأسير ، ابني عندك فامنن علينا فيه ، وأحسن إلينا في فدائه ، فإنك ابن سيّد قومه ، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيكم خيراً من ذلك ، قالوا ما هو؟ قال : أخيّره أمامكم ، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء ، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً ، فقالوا : أحسنتَ فجزاك الله خيراً .
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زيد : أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم ، هذا أبي ، وهذا عمي ، فقال يا زيد : هذا أبوك ، وهذا عمك ، وأنا من عرفت ، فاختر من شئت منا ، فدمعت عينا زيد وقال : ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً ، أنت مني منزلة الوالد والعم .
فقال له أبوه وعمه : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد : لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان ، ما يجعلني لا استيطع فرقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال : اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه ، ويرثني . . فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى الله عليه وسلم . فلم يزل في الجاهلية يدعى ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم . { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } فدُعي زيد بن حارثة . ونزل قوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين . . . } [ الأحزاب : 40 ] الآية .
وانتهى بذلك حكم التبني . وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد .(1/429)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
[ 2 ] الإرث بقرابة الرحم
التحليل اللفظي
{ النبي أولى } : الإخبار بلفظ النبوّة مشعر ب ( التعظيم والتكريم ) لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم وكلُّ ما ورد من الخطاب ، أو الإخبار بلفظ النبوة ، أو الرسالة فإنما هو لإظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم ورفع مقامه ، ومعنى ( أولى ) أي أحق وأجدر وهو ( أفعل تفضيل ) ، لبيان أن حق الرسول أعظم الحقوق فهو أولى بالمؤمن من نفسه ، ومهما كانت ولاية الإنسان على نفسه عظيمة فولايته صلى الله عليه وسلم عليها أعظم ، وحكمه أنفذ ، وحقه ألزم .
{ وأزواجه أمهاتهم } : أي منزّلات منزلة الأمهات في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح أما فيما عدا ذلك من الأمور كالنظير إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن فهنَّ كالأجنبيات .
قال ( ابن العربي ) : ولسن لهم بأمهات ، ولكن أنزلن منزلتهن في الحرمة ، وكلّ ذلك تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحفظاً لقلبه من التأذي بالغيْرة ، وذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم .
{ وَأُوْلُو الأرحام } : أي أهل القرابة وأصحاب الأرحام . والأرحام جمع رَحِم وهو في الأصل مكان تكوّن الجنين في بطن أمّه ثم أطلق على القرابة .
ومعنى الآية : أهل القرابة مطلقاً أحق بإرث قريبهم من المؤمنين والمهاجرين لأنّ لهم صلة القرابة به ، وقوله تعالى : { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } متعلّق ( بأولى ) أي أحق بالإرث من المؤمنين والمهاجرين ، وليست متعلقة ( بأولو الأرحام ) نبَه عليه ابن العربي والقرطبي .
{ أولى بِبَعْضٍ } : أي في التوارث ، وقد كان الإرث في صدر الإسلام بالهجرة والمؤاخاة في الدين ، فنسخ الله ذلك وجعل التوارث بالنسب والقرابة ، روي عن الزبير رضي الله عنه أنه قال : لمّا قدمنا معشرَ قريش المدينة ، قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر ( خارجة بن زيد ) وآخيتُ ( كعب بن مالك ) فوالله لو قد مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله } فرجعنا إلى موارثنا .
{ فِي كتاب الله } : المراد بالكتاب هنا ( القرآن العظيم ) أي فيما أنزله في القرآن من أحكام المواريث وقيل : المراد به ( اللوح المحفوظ ) ، والقول الأول أظهر وأرجح .
{ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } : المراد بالأولياء هنا هم ( المؤمنون والمهاجرون ) المذكورون في أول الآية والمراد بالمعروف ( الوصية ) والاستثناء في الآية هو ( استثناء منقطع ) على الرأي الراجح ، ويصبح معنى الآية : أولو الأرحام أحق بالإرث من غيرهم فلا تورّثوا غير ذي رحم لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب بأن توصوا لهم فإنّ ذلك جائز بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام الوراثين .
{ مَسْطُوراً } : أي مثبتاً بالأسطار في القرآن الكريم ، أو حقاً مثبتاً عند الله تعالى لا يُمْحَى .
المعنى الإجمالي
أخبر الباري تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن مقام النبي الرفيع ، وشرفه السامي فبيّن أنه أحق بالمؤمنين من أنفسهم ، وأن حقه أعظم من حقوق أنفسهم عليهم ، وأن أمره ينبغي أن يقدّم على كل أمر ، وحبّه ينبغي أن يفوق كل حبّ ، فلا يُعصى له أمر ، ولا يُخالف في صغيرة أو كبيرة ، لأنّ ذلك من مقتضى ولايته العامّة عليهم ، فإذا دعاهم إلى الجهاد عليهم أن يلبّوا أمره مسرعين ولا ينتظروا أمر والد أو والدة ، فإنه صلوات الله عليه بمنزلة الوالد لهم ، لا يريد لهم إلا الخير ، ولا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم .(1/430)
وكما شرّف الله رسوله الكريم فجعل حقه أعظم الحقوق كذلك فقد شرّف زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن ، وحرّم نكاحهن على الرجال ، إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظاً لحرمته في حياته وبعد وفاته ، وذلك من الخصوصيات التي خصّ الله تعالى بها رسوله الكريم ، ثم بيّن تعالى أن ذوي الأرحام أحق بإرث بعضهم البعض من الغير ، فالقريب النسيب أحق بميراث قريبه من الأجنبي البعيد إلا إذا أراد الإنسان الوصية فإنّ الأجنبي يكون أحق من القريب لأنه لا وصية لوارث ، وهذا الحكم ألا وهو توريث القريب دون الأجنبي هو حكم الله العادل الذي أنزله في دستوره وكتابه المبين ، وجعله حكماً لازماً مسطّراً لا يُمْحى ، والله تعالى أعلم .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
في الآيات السابقة أمر الله المؤمنين بالتخلي عن التبني ، كما أمر بدعوة الأبناء الأدعياء لآبائهم ونسبتهم إليهم ، وقد كان الرسول الكريم متبنياً ( زيد بن حارثة ) فلما أمر بالتخلّي عنه وبدعوته إلى أبيه أصابت زيداً وحشة ، فجاءت هذه الآية عقبها تسلية لزيد ، ولبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن تخلّى عن أبوته فإلى الولاية العامة ، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعاً دون تفريق بين ابن من الصلب وغيره ، لأن ولايته صلى الله عليه وسلم باقية دائمة ، فالرسول أحق بالمؤمن من نفسه ، وهو كذلك أحق من كل قريبٍ ، فهو الآمر الناهي بما يحقق للناس السعادة ، وهو ( الأب الروحي ) لكل مؤمن ومؤمنة ، وزوجاته الطاهرات هن أمهات للمؤمنين ، فلا ينبغي للمؤمن أن يحزن إن تخلّى النبي عن أبوّته من التبني لأن أبوّته الروحية باقية ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على لامؤمنين أن يكون الرسول أحبّ إليهم من أنفسهم ، وأن حكمه عليه السلام أنفذ من حكمها ، وحقّه آثر لديهم من حقوقها وصدق عليه السلام حين قال : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والناس أحمعين » .
اللهم ارزقنا محبته ، وارزقنا اتباعه ، واجعله شفيعاً لنا يوم الدين .
سبب النزول
1- روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهيز والخروج ، فقال أناسٌ منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا ، فأنزل الله تعالى فيهم { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .(1/431)
2- وروى القرطبي في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرته جنازة سأل هل على صاحبها دين؟ فإن قالوا : لا ، صلى عليها ، وإن قالوا نعم قال : صلوا على صاحبكم ، قال : فلما فتح الله عليه الفتوح قال صلى الله عليه وسلم : « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالاً ضويق العصبة فيه ، وإن ترك ديناً ، أو ضياعاً ( عيالاً ضياعاً ) فلياتني فأنا مولاه » .
قال ابن العربي : فانقلبت الآن الحالُ بسبب الذنوب . فإن تركوا مالاً ضويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعاً أُسْلِموا إليه . . فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتبيينه ، ولا عطر بعد عروس .
ملاحظة : الأول هو السبب والثاني أي ما رواه البخاري هو تفسير لمعنى الولاية فتنبّه .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : لم يذكر في الآية الكريمة ما تكون في الأولوية بل أطلقت إطلاقاً ليفيد ذلك أولويته صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، ثم إنه ما دام أولى من النفس فهو أولى من جميع الناس بالطريق الأولى .
اللطيفة الثانية : ذكر الله تعالى أن أزواج النبي هنّ ( أمهات المؤمنين ) فيكون النبي صلى الله عليه وسلم على هذا هو الأب للمؤمنين وقد جاء في مصحف أبيّ بن كعب ( وهو أب لهم ) وقد سمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكّها يا غلام ( أي أمحها ) فقال ابن عباس إنها في مصحف أبيّ ، فذهب إليه عمر فسأله فقال له أبيّ : إنه كان يلهيني القرآن ، ويلهيك الصفق بالأسواق .
وأمّا قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } ففيه تشبيه يسمى ( التشبيه البليغ ) فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام : أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح ، وهذا كما تقول : محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } مجاز بالحذف تقدير الكلام : أولى بميراث بعضٍ أو بنفع بعض كما قال الألوسي ، وإنما يفهم تخصيص الأولوية هنا بالميراث من سياق الكلام إذ المسلمون جميعاً بعضهم أولى ببعض في التناصر والتراحم ، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم كما ورد في الحديث الشريف؛ فلا تكون الأولوية بين أولى الأرحام إلا بالإرث إذ لا وجه لتخصيصهم بالنصرة أو الجماعة أو التعاون فإن ذلك واجب لجميع المسلمين .
تنبيه :
جمهور المفسرين على أن ( مِنْ ) في قوله تعالى : { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } هي ( ابتدائية ) وليست ( بيانية ) وأنّ المفضل عليه هم ( المؤمنون والمهاجرون ) والمفضّل هم { وَأُوْلُو الأرحام } كما تقول : زيد أفضل من عمرو ، فالمفضّل زيد والمفضّل عليه هو عمرو ، ويكون المعنى كما أسلفنا ( أولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين ) .(1/432)
وأجاز الزمخشري أن تكون ( مِنْ ) ( بيانية ) ويكون المعنى : أولو الأرحام أي الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أحق بميراث بعضهم بعضاً من الأجانب ، وقد ردّ هذا القول ( ابن العربي ) في كتابه « أحكام القرآن » . وقال ما نصه : إن حرف الجر يتعلق ( بأوْلى ) لما فيه من معنى الفعل لا بقوله ( أولو الأرحام ) بإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها ، وهذا حلّ إشكالها .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم } .
قال أبو السعود : وقُرئ : { وأزواجُه أمّهاتُهم وهو أبٌ لهم } أي في الدين ، فإنّ كلّ نبيّ أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية ، ولذلك صار المؤمنون إخوة .
أقول : هذه القراءة تحمل على أنها تفسير لقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وهي قراءة عبد الله وكذلك في مصحف ( أبيّ بن كعب ) فإذا كان أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين ، فهو عليه السلام أبٌ للمؤمنين ، ولا شك أن الأب الروحي أعظم قدراً من الأب الجسدي ، وقد قال مجاهد : كل نبيِّ أبٌ لأمته ، يعني في الدين .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } النبيّ مبتدأ و ( أولى ) خبر والجار والمجرور متعلق ب ( أولى ) لأن أفعل التفضيل يعمل عمل الفعل .
ثانياً : قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } مبتدأ وخبر ، على حدّ قولهم : أبو يوسف أبو حنيفة ، أي يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، والمعنى : إنهن بمنزلة الأم في التحريم ، فلا يجوز لأحدٍ أن يتزوج بهنّ ، احتراماً للنبي عليه السلام . أفاده ابن الأنباري .
ثالثاً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } الاستثناء هنا يحتمل أن يكون متصلاً ، ويحتمل أن يكون منقطعاً .
فعلى الأول : يكون استثناءً من أعم الأحوال ، ويكون المعنى : إن أولى الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين في جميع الأحوال . إلاّ أن يكون لكم في هؤلاء وصيٌ تريدون أن توصوا إليه فذلك جائز .
وعلى الثاني : يكون تخصيص الأولوية بالميراث ، ويكون المعنى : أولو الأرحام أولى بميراث بعضهم بعضاً ، لكن إذا أسديتم إلى أوليائكم معروفاً فذلك جائز ، بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام ، وهذا الوجه اختاره ابن الأنباري وغيره من العلماء .
قال ابن الجوزي : وهذا الاستثناء ليس من الأول أي أنه ليس متصلاً بل هو منقطع والمعنى : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز ، فالمعروف هاهنا الوصية .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجب على الإمام قضاء دين الفقراء من المسلمين؟
قال بعض أهل العلم إنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال ديون الفقراء اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال في الحديث الشريف : « وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه »(1/433)
. أي فعليّ قضاء دينه ورعاية أولاده ، والإمام خليفة عن رسول الله يجب عليه قضاء ديون الفقراء من المسلمين . ولا شك أنّ هذا استنباط دقيق فعلى الدولة أن ترعى أمور الفقراء وتكفل مصالح الناس ، وترعى شؤونهم وذريتهم .
الحكم الثاني : هل زوجات الرسول أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
قال ( ابن العربي ) : اختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء؟ أم هنّ أمهات الرجال؟ خاصة على قولين :
أ- فقيل إنه عام في الرجال والنساء .
ب- وقيل إنه خاص بالرجال فقط .
قال ابن العربي : وهو الصحيح ، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة ، والحلُّ غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة ، وقد روي أن امرأةً قالت لعائشة : يا أماه ، فقالت لها : لستُ لك بأم إنما أنا أمّ رجالكم .
قال القرطبي : قلتُ لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء ، تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء ، يدل على صدر الآية { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة ، ويدل عليه قراءة أبيّ ( وهو أب لهم ) أقول : لعلّ الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم .
الحكم الثالث : هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } [ الأحزاب : 53 ] واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواءً من طلّقت منهن ومن لم تطلّق؟ وسواءً أكانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين :
أ- ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم سواءً طلَّقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن ، وهذا ظاهر الآية الكريمة .
ب- وصحّح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط ، واستدل بما روي أنّ ( الأشعث بن قيس ) نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه ، فهمّ برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولاً بها ، فكفّ عنه ، وفي رواية : أنه همّ برجمها فقالت : ولمَ هذا؟ وما ضُرِبَ عليّ حجاب ، ولا سُمّيتُ للمسلمين أماً ، فكفّ عنها .
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أنّ الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط ، فلو طلَّقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك ، أمّا مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن « المستعيذة » وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد الدخول عليها قالت : أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذتِ بمَعاذ فألحقها بأهلها ، وكانت تقول : أنا الشقية ، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع ، شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(1/434)
الحكم الرابع : هل يورّثُ ذوو الأرحام؟
المراد من قوله تعالى : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } أنّ أصحاب القرابة مطلقاً أولى بميراث بعض الأجانب ، وهذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب ( المؤاخاة والنصرة ) أو بسبب الهجرة ، فقد كان المهاجريُّ يرث أخاه الأنصاري بعد موته ، ثم نسخ الحكم وأصبح التوارث بالقرابة النسبية .
وقد أخذ بعض الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن ( ذوي الأرحام ) - وهم الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبات - كالخال والعمة وأولاد البنات وغيرهم أحق بالإرث من بيت مال المسلمين ، وهذا هو مذهب ( الحنفية ) وجمهور الفقهاء ، ودليلهم في ذلك أنّ الآية اقتضت بأنّ ذوي القرابة مطلقاً ( سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم أصحاب قرابة رحمية ) أحقُّ بالإرث من الأجانب ، فالآية تشمل كل قريب للميت . كما استدلوا بأنّ بيت مال المسلمين تربطه مع الميت رابطة الأخوَّة في الدين ، وذوو الأرحام تربطهم معه أخوًّة الدين مع شيء آخر وهو ( قرابة الرحم ) فأصبح لهم قرابتان : قرابة الدين ، وقرابة الرحم ، وهذا يشبه ما إذا مات إنسان عن أخ شقيق ، وأخ لأب فإنّ المال كله يكون للشقيق لأنّ قرابته من جهتين : من جهة الأب ومن جهة الأم فتكون أقوى من قرابة الأخ لأب لأنه من جهة واحدة فكذلك ( ذوو الأرحام ) . وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى عدم توريث ( ذوي الأرحام ) وقال : إن بيت مال المسلمين أحق بالإرث فيما إذا لم يكن للميت عصبة أو أصحاب فروض أو من يردّ عليه منهم فيصبح المال من نصيب المسلمين ويعطى لبيت المال ، وحجته في ذلك أن التوريث لا بدّ فيه من نصّ في كتابٍ أو سنّة ولا يمكن أن يكون بالعقل أو الرأي ولم يرد في توريث ( ذوي الأرحام ) نصّ قاطع ، فلا يورّثون إذاً ويكون الإرث لبيت المال .
الترجيح : والصحيح هو ما ذهب إليه الحنفية وجمهور الفقهاء من توريث ذووي الأرحام فهو الظاهر من النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة . والبحث مفصّل في علم الفرائض فليرجع إليه .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامّة على جميع المؤمنين .
ثانياً : حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً لشأنه .
ثالثاً : تكريم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته واجب على المسلمين .
رابعاً : نسخ التوارث بالمؤاخاة والنصرة وجعله بالقرابة النسبية .
خامساً : أحكام الشريعة الغراء منزلة من عند الله مسطّرة في القرآن العظيم .
سادساً : توريث ذوي الأرحام مقدم على ميراث بيت مال المسلمين على الصحيح .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
من حكمة الباري جلّ وعلا أن ربط بين أفراد المجتمع الإسلامي برباط ( العقيدة والدين . . . ) وعزّز تلك الروابط ب ( الأخوّة الإسلامية ) التي هي مظهر القوة والعزة . وسبيل السعادة والنجاح .(1/435)
وقد كان التوارث في صدر الإسلام بسبب تلك الرابطة ( رابطة العقيدة ) و ( رابطة الدين ) وبسبب الهجرة والنصرة ، فكان الأنصاري يرث أخاه المهاجري ، ويرث المهاجري أخاه الأنصاري دون ذوي قرباه ، حتى توثّقت بين المؤمنين روابط العقيدة والإيمان ، وتمثّلت فيهم أخوة الإسلام { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ، وأصبحت لحمة الإسلام أقوى من لحمة النسب ، ورابطة الدين أقوى من رابطة الدم ، وأصبح المسلمون كالجسد الواحد ، وكالبنيان يشدّ بعضُه بعضاً .
ثم نسخ الله تبارك وتعالى التوارث بين المؤمنين بسبب الدين ، وبسبب الهجرة والنصرة ، وجعل التوارث بسبب القرابة والنسب ، وذلك تمشياً مع نظرة الإسلام المثلى ، في توطيد دعائم الأسرة ، لأنه أساس المجتمع الفاضل . فإذا تمكنت العلاقات الأخوية بين أفراد الأسرة تقوّي بنيان المجتمع . وإذا انحلّت هذه العلاقات ، تزعزع المجتمع وانحلت أواصره .
ولكنّ الله جل ثناؤه لم يورث كلّ قريب ، بل أوجب أن تكون مع القرابة رابطة الإيمان . فالابن إذا كان كافراً لا يرث أباه ، والأخ غير المسلم لا يرث أخاه ، وبذلك جمع الإسلام بين ( رابطة الإيمان ) و ( رابطة النسب ) وجعل القرابة غير نافعة إلا مع الإيمان . فحفظ للأسرة كرامتها ، وللدين حرمته ، وللقريب حقوقه ، ونزل القرآن الكريم بحكمه العادل { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 75 ] وبقوله جل ثناؤه : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين . . . } .
وبذلك نُسِخَ الإرث بسبب الهجرة والنصرة ، وأصبح بسبب النسب ، بعد أن تقوّى الإيمان وتوطّدت دعائمه .
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . . . فأيُّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا . فمن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه » .(1/436)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
[ 3 ] الطلاق قبل المساس
التحليل اللفظي
{ نَكَحْتُمُ } : يطلق النكاح تارة ويراد به العقد ، ويطلق تارةً ويراد به الوطء . والمراد به هنا العقد باتفاق العلماء بدليل قوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وأصل النكاح في اللغة : الضمّ والجمع قال الشاعر :
ضممتُ إلى صدري معطّرَ صَدْرها ... كما نَكَحَتْ أُم الغلام صَبَّيها
قال القرطبي : النكاح حقيقة في الوطء . وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه . ونظيره تسميتهم الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم ، ولم يرد لفظ النكاح في القرآن إلا في معنى العقد لأنه في معنى العقد لأنه في معنى الوطء ، وهو من آداب القرآن الكناية عنه بلفظ ( الملامسة ، والمماسّة ، والقربان ، والتغشي ، والإتيان ) .
{ المؤمنات } : فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيار الأزواج على المؤمنات . وليس لفظ الإيمان في قوله : ( المؤمنات ) للقيد أو الشرط بل هو لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات ، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء ولو كان للقيد أو الشرط لكان حكم ( الكتابيات ) مختلفاً عن حكم المؤمنات مع أن الحكم واحد .
قال الألوسي : ( وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن من شأنه أن يتخيّر لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة ، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق ) .
{ تَمَسُّوهُنَّ } : المراد بالمسّ هنا ( الجماع ) بإجماع الفقهاء . وقد اشتهرت الكناية به وبلفظ الملامسة والمماسّة ونحوها في لسان الشرع عن الجماع ، وهو كما أسلفنا من آداب القرآن لأن القرآن العظيم يتحاشى ذكر الألفاظ الفاحشة فيكني عنها مثل قوله تعالى : { أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } [ النساء : 43 ] وقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] وهكذا كنّى عن الجماع باللمس أو المماسّة ، ولو كان المراد في الآية حقيقة المسّ باليد وهي إلصاق اليد بالجسم للزمت العدّة فيما لو طلّقها بعد أمسّها بيده من غير جماع ولا خلوة ، ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء .
{ عِدَّةٍ } : العدّة في اللغة مأخوذة من العَدّ لأن المرأة تعدّ الأيام التي تجلسها بعد طلاق زوجها لها أو وفاته ، وهي شرعاً : المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها ، أو للتعبد ، أو للتفجع على زوج مات .
{ تَعْتَدُّونَهَا } : أي تعدّونها عليهن ، أو تستوفون عددها عليهن ، يقال : عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ومثله قولك : كلته فاكنلته ، ووزنته فاتّزنته .
{ فَمَتِّعُوهُنَّ } : أي اعطوهن المُتْعةُ في الأصل ما يَمتّع به من مالٍ أو ثياب ، وقد حدّدها بعض الفقهاء بأنها ( قميص وخمار ومِلْحَفةً ) والصحيح أن المتعة لا تختص بالكسوة بل هي في لسان الشرع : كل ما يعطيه الزوج لمطلقته ارضاءً لها وتخفيفاً من شدة وقع الطلاق عليها .
{ وَسَرِّحُوهُنَّ } : أي طلقوهن ، قال القرطبي : التسريح إرسال الشيء ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض ، وسرّح الماشية : أرسلها .(1/437)
وقال الألوسي : أصل التسريح أن ترعى الإبل السّرْح وهو شجر له ثمره ثم جعل لكل إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج . والمراد هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية .
{ سَرَاحاً جَمِيلاً } : أي طلاقاً بالمعروف فهو مثل قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ الطلاق : 2 ] وقوله كذلك { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } [ البقرة : 229 ] والسراح الجميل يكون بالتلطف مع المطلقة بالقول ، وترك أذاها ، وعدم حرمانها مما وجب لها من حقوق ، والإحسان إليها .
المعنى الإجمالي
يخاطب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول : يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن ، ثم طلقتموهن من قبل أن تقربوهنّ فليس لكم عليهن حق في العدّة تستوفون عددها عليهنّ لأنكم طلقتموهن قبل المِساس وهذا لا يستلزم احتباس المرأة في البيت وجلوسها في العدّة من أجل صيانة تسبكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل ، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل ، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لهن . وتكرموهنّ بشيءٍ من المال أو الكسوة تطييباً لخاطرهن وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن وأن تفارقوهنّ بالمعروف فلا تؤذوهن بقول أو عمل ، ولا تحرموهن مما وجب لهن عليكم من حقوق . فإنّ ذلك من مقتضى إيمانكم وطاعتكم لله عز وجلّ والله تعالى أعلم .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
كان الحديث في الآيات السابقة عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكنّ عليه من طاعة لله ورسوله ، وزهدٍ في الدنيا ، وطهارة وكمال ، لأنهن لسن كبقية النساء ، والله تبارك وتعالى يريد لهنّ أن يحافظن على ذلك الشرف الرفيع وهو انتسابهن إلى رسول الله حيث أصبحن أمهاتٍ للمؤمنين وزوجات الرسول الطاهرات ، وقد أعقب ذلك بذكر قصة ( زيد بن حارثة ) وتطليقه ( زينب ) رضي الله عنها التي تزوجها الرسول بعد ذلك بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى وذلك لحكمة جليلة وهي إبطال ( بدعة التبني ) ثم جاء الخطاب هنا للمؤمنين بحكم الزوجة تطلّق قبل المساس وكيف يجب على المؤمنين أن يفعلوا فيما إذا وقع منهم الطلاق قبل المعاشرة ، وما هي الأحكام الشرعية التي ينبغي عليهم أن يتمسكوا بها في مثل هذه الأحوال ، فهذا وجه الارتباط والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { نَكَحْتُمُ المؤمنات } فيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يتخيّر لنطفته وأن ينكح المؤمنة الطاهرة ، لأن إيمانها يجعلها تحافظ على عفتها ويحجزها عن الوقوع في الفاحشة والشرّ . فتصون عرض زوجها وتحفظه في حضرته وغيبته وصدق الله { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ البقرة : 221 ] .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } التعبير ( بثم ) دون الفاء أو الواو ، والعطف بها ( التراخي ) للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يكون بعد تريث وتفكير طويل ، ولضرورة ملحّة لأن الطلاق من الأمور التي يبغضها الله حيث فيه هدم وتحطيم للحياة الزوجية ولهذا قال بعض الفقهاء : إن الآية ترشد إلى أن الأصل في الطلاق الحظر ، وأنه لا يباح إلا إذا فسدت الحياة الزوجية ، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين .(1/438)
والحكم واحد لا يختلف فيمن تزوّج امرأة فطلّقها على الفور ، أو طلّقها على التراخي . ( انظر روح المعاني ) .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } كنّى بالمسّ عن الجماع وهذا - كما أسلفنا - أدب من آداب القرآن ، ينبغي على المسلم أن يتأدب به فيكنى عن كل شيء قبيح أو فاحش .
وما أجمل أدب الرسول حين قال للمرأة المطلّقة المبتوتة التي جاءت تستأذنه في العودة إلى زوجها الأول : « أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } في إسناد العدّة إلى الرجال إشارة إلى أنها حقّ للمطلّق ، فوجوب العدّة على المرأة من أجل الحفاظ على نسب الإنسان فإنّ الرجل يغار على ولده ، ويهمه ألا يُسْقَى زرعُه بماء غيره ، ولكنّها على المشهور ليست حقاً خالصاً للعبد ، بل تعلّق بها حقّ الشارع أيضاً ، فإن منع الفساد باختلاط الانساب من حق الشارع .
والصحيح أنّ وجوب العدة فيها ( حق الله ، وحق العبد ) ؛ ولهذا قال الفقهاء العدّةُ تجب لحكم عديدة : لمعرفة ( براءة الرحم ، وللتعبد ، أو للتفجع ) فتدبره .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { من قبل أن تمسّوهنّ } أي تقربوهن . وقرأ حمزة والكسائي { من قبل أن تُمَاسّوهنّ } بزيادة ألف ، والمعنى واحد .
2- قرأ الجمهور { من عدّة تَعْتَدّونها } بتشديد الدال من العدّ أي تستوفون عددها ، من قولك : عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ، وقرأ ابن كثير وغيره بتخفيف الدال { تَعْتَدُونها } قال الزمخشري : أي تعتدون فيها كقوله : ويوماً شهدناه . والمراد بالاعتداء ما في قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] .
قال أبو حيان : المعنى تعتدون عليهن فيها ، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدّة كقوله : ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ، أي شهدنا فيه .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } الآية .
( ما ) نافية حجازية تعمل عمل ليس ، و ( لكم ) جار ومجرور خبرها مقدم . و ( من ) صلة تأدباً . و ( عدة ) اسم ليس مؤخر مجرور لفظاً مرفوع محلاً . قال ابن مالك :
وزيد في نفيٍ وشبهه فجّر ... نكرة كما لباغٍ من مفر
والمعنى : ليس لكم عليهن عدّة توجبونها عليهن .
ثانياً : قوله تعالى : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .
( سراحاً ) مفعول مطلق و ( جميلاً ) صفة له منصوب .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقع الطلاق قبل النكاح؟
أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يقع قبل النكاح استدلالاً بقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فقد رتّب الطلاق على النكاح وعطفه ( بثمّ ) التي تفيد الترتيب مع التراخي ، واستدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم :(1/439)
« لا طلاق قبل النكاح » واختلفوا فيمن علّق الطلاق مثل قوله : ( إن تزوجت فلانة فهي طالق ) ، أو قوله : ( كل امرأة أتزوجها فهي طالق ) على مذهبين :
أ- مذهب الشافعي وأحمد : أنه لا يقع الطلاق وهو مروي عن ( ابن عباس ) رضي الله عنهما .
ب- مذهب أبي حنيفة ومالك : أنه يقع الطلاق بعد عقد الزواج وهو مروي عن ( ابن مسعود ) رضي الله عنه .
أدلة الشافعية والحنابلة :
أ- استدل الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله على أن التعليق مثل التنجيز ، طلاقٌ قبل النكاح ، وإذا طلّق الإنسان امرأة ، لا يملكها ( أنت طالق ) فإنه لا يقع باتفاق فكذا المعلّق من الطلاق لا يقع به طلاق .
ب- واستدلوا بحديث « لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك ، ولا طلاق له فيما لا يملك » .
وهذا الرأي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين وقد عدّ البخاري منهم أربعة وعشرين في باب ( لا طلاق قبل النكاح ) وهو منقول عن ( ابن عباس ) رحمه الله ، فقد روي أنه سئل عن ذلك أي ( عن الطلاق المعلَّق ) فقال : هو ليس بشيء . فقيل له إن ( ابن مسعود ) يخالفك يقول : إذا طلّق ما لم ينكح فهو جائز . فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، لو كان كما قال لقال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ) ولكن إنما قال { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } .
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل الحنفية والمالكية بأنّ الطلاق يعتمد الملك ، أو الإضافة إلى الملك ، لكنه في حالة الإضافة إلى الملك يبقى معلّقاً حتى يحصل شرطه ، فإذا قال للأجنبية ( إن تزوجتك فأنت طالق ) كان هذا تعليقاً صحيحاً ، ولا يقع الطلاق به الآن إنما يقع بعد أن يتزوجها ، فهو مثل قوله : ( إن دخلتِ الدار فأنت طالق ) لا يقع الطلاق إلا بعد الدخول ، فكذا هنا لا يقع الطلاق إلاّ بعد أن يعقد عقد الزواج عليها ، فيكون الطلاق واقعاً في الملك بالضرورة فكأنه أوقعه عليها حينذاك ، وقالوا : الفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية وبين تعليق طلاقها على النكاح فإن قول الرجل لامرأةٍ أجنبية ( هي طالق ) كلام لغو ، لأنها ليست زوجته وقد طلّق ما لم يملك فهو طلاق قبل النكاح لا يقع أصلاً . أما قوله : ( إن تزوجت فلانة فهي طالق ) فهو معلّق على الملك والفرق واضح بينهما . وهذا القول قال به جمع غفير من العلماء منهم ( ابن مسعود ) رضي الله عنه ودليله قوي وهو الأحوط كما نبّه عليه ( ابن العربي ) والجصاص .
والخلاصة فإنَّ الطلاق بعد النكاح يقع باتفاق الفقهاء ، والطلاق المنجّز قبل النكاح لا يقع باتفاق ، والطلاق المعلّق على النكاح يقع عند الحنفية والمالكية ولا يقع عند الشافعية والحنابلة ، ولكل وجهة هو موليها والله تعالى أعلم .(1/440)
الحكم الثاني : هل الخلوة الصحيحة توجب العدّة والمهر؟
ظاهر الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } الذي هو كناية عن الجماع أنَّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدّة والمهر ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، ودليله : أن الله سبحانه وتعالى نفى وجوب العدّة إذا طلقت قبل الجماع ، والخلوةُ ليست جماعاً فلا يجب بها العدّة ولا المهر .
وذهب الجمهور ( المالكية والحنفية والحنابلة ) إلى أن الخلوة كالجماع توجب المهر كاملاً ، وتوجب العدّة .
1- واستدلوا بما رواه الدارقطني عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كشف خمار امرأةٍ ونظر إليها وجب الصَدَاق دخل بها أو لم يدخل » .
ب- وروي عن عمر أنه قال : ( إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصَدَاق وعليها العدة ولها الميراث )
ج- وروي عن زُرَاة بن أبي أوفى أنه قال : ( قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنه إذا أرخى الستور ، وأغلق الباب ، فلها الصداق كاملاً وعليها العدّة دخل بها أو لم يدخل ) .
الترجيح : وأنت ترى أن أدلة الجمهور أقوى ، وحجتهم أظهر ، إذ يحتمل أن يبقى الرجل مع زوجته عاماً كاملاً ، يبيت معها في فراش واحد ، ولكنَّه لم يجامعها طيلة هذه المدة فلا بدَّ أن نوجب عليه دفع المهر كاملاً ، ونلزمها بالعدّة وذلك اعتباراً بالخلوة الصحيحة ودفعاً للنزاع والخلاف .
وقد اختلف القائلون بوجوب العدّة بالخلوة الصحيحة فمنهم من يقول : إنها واجبة ( يانةً ، وقضاءً ) ومنهم من يقول بوجوبها قضاءً لا ديانةً لأن القاضي إنما يحكم بالظاهر والرأي الأول أصحّ .
الحكم الثالث : ما هو حكم المطلّقة رجعياً هل تستأنف العدّة إذا راجعها زوجها ثم طلقها قبل المساس؟
اختلف الفقهاء في المرأة المطلّقة رجعياً فيما إذا طلقها زوجها بعد المراجعة قبل أن يمسّها على أقوال :
أ- مذهب الظاهرية : أنه لا عدة عليها جديدة والعدة الأولى قد بطلت بالطلاق الثاني ، فلا يجب عليه أن تكمّل العدة الأولى . ( وهذا رأي ضعيف )
ب- مذهب الشافعي : تبني على عدة الطلاق الأول وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة .
ح - مذهب مالك وأبي حنيفة : عليها أن تستأنف عدة جديدة ، قال القرطبي : وعلى هذا أكثر أهل العلم .
دليل الظاهرية : استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها ، أنه ليس عليه أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة ، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية .
دليل الشافعي : استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها ، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة ، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية .(1/441)
دليل الشافعي : استدل الشافعي رحمه الله بأن المطلّقة تبني على عدتها الأولى وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة ، بأنّ الطلاق الثاني لا عدة له لأنه طلاق قبل المساس ، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول فإنه طلاق بعد دخول يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب العدة . فطلاقه لها قبل أن يمسّها في حكم من طلّقها في عدتها قبل أن يراجعها ، ومن طلّق امرأته في كل ظهر مرةً بنَتْ ولم تستأنف .
دليل المالكية والحنفية : قالوا إن عليها أن تستأنف عدةً جديدة ، لأن الطلاق الثاني وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة مسّ ولا خلوة ، لكنه لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق ، إذا المفروض أن المرأة كان مدخولاً بها من قبل ، فيجب عليها أن تستأنف عدةً كاملة لأنها في حكم الموطوءة .
قال القرطبي : نقلاً عن الإمام مالك : إنها تنشئ عدةً مستقبلة ، وقد ظلم زوجُها نفسَه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها ، وعلى هذا أكثر أهل العلم لأنها في حكم الزوجات المدخول بهنّ في النفقة والسكنى وغير ذلك ، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام .
الحكم الرابع : هل تجب المتعة لكل مطلّقة؟
ظاهر قوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ } إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول سواءً فرض لها مهر أو لم يفرض لها مهر ، ويقوّي هذا الظاهر قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] فقد أوجبت لكل مطلقة ( المتعة ) وقد اختلف الفقهاء في وجوب المتعة على أقوال :
أ- إنها واجبة لكل مطلّقة فرض لها مهر أم لم يفرض لها مهر عملاً بظاهر الآية وهو مذهب ( الحسن البصري ) .
ب- إن المتعة واجبة للمطلّقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر وهو مذهب ( الحنفية والشافعية ) . وبهذا قال ( ابن عباس ) رضي الله عنهما . وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة .
ح - إن المتعة مستحبة للجميع وليست واجبة لأحدٍ من النساء وهو مذهب ( المالكية ) .
وسبب الخلاف بين الفقهاء في ( وجوب لمتعة ) أو استحبابها هو أنه قد ورد في القرآن الكريم آيات كريمة ظاهرها التعارض ، فمنها ما يوجب المتعة على الإطلاق ، ومنها ما يوجب المتعة عند عدم ذكر المهر المفروض لها ، ومنها ما لم ينصّ على المتعة أصلاً فلهذا وقع الخلاف بين الفقهاء . أما الآيات الكريمة فهي آية الأحزاب { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } وآية البقرة [ 236 ] { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } وآية البقرة [ 237 ] كذلك { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }(1/442)
الآية .
فالآية الأولى مطلقة . والثانية مقيّدة بقيدين ( عدم المسّ ، وعدم الفرض ) وأول الآية هو قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ } [ البقرة : 236 ] الآية .
والثالثة أوجبت نصف المهر فقط ولم تذكر المتعة ، فمن الفقهاء من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب ويكون المعنى ( فمتعوهن إن لم يكن مفروضاً لهن المهر في النكاح ) وبهذا التفسير قال ( ابن عباس ) ويؤيده أن المتعة إنما وجبت دفعاً لإيحاش الزوج لها بالطلاق ، فإذا وجب للمطلّقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابراً للوحشة فلا تجبُ لها المتعة .
الترجيح : ويظهر من الأدلة أن حجة الفريق الثاني وهم ( الحنفية والشافعية ) أقوى وأظهر وهو مذهب ابن عباس وفيه جمع بين الأدلة والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - على الإنسان أن يختار في الزواج المرأة المؤمنة الطاهرة .
ثانياً - الطلاق هدم للحياة الزوجية فلا يصح أن يقع إلا في الحالات الضرورية .
ثالثاً - لا تجب العدة بالإجماع إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها .
رابعاً : على الزوج أن يجبر خاطر زوجته المطلّقة بالمتعة .
خامساً - حرمة إيذاء المطلّقة وتسريحها بالمعروف والإحسان .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الله تعالى الزواج لبقاء النوع الإنساني ، وعزّز من روابطه وأركانه وأحاط الأسرة بسياج مقدس من التكريم والتقدير . وأقام الحياة بين الزوجين على أساس التفاهم والتعاون والمحبّة والمودّة { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] .
وقد أباح الإسلام الطلاق في ظروف استثنائية ضرورية ، وذلك ليخلّص الإنسان من شقاء محتّم ، وينقذه من مشكلةٍ قد تحرمه السعادة ، أو تكلفه حياته .
والطلاق : في الإسلام أبغض الحلال إلى الله ، لأن فيه خراب البيوت ، وضياع الأسرة . وتشريد الأولاد . ولكنّه ضرورة لا بدّ منها عند اللزوم ، فلا بدّ أن تكون الأسباب فيه جليَّة . والدوافع قاهرة ، وألاّ يكونه ثمة طريق إلى الخلاص من ذلك الشقاء إلاّ بالطلاق ، وقد قيل في الأمثال : « آخر الدواء الكيّ » .
وقد أرشد الإسلام إلى الاستعمال الحكيم لهذا العلاج ، بألاّ يقدم عليه الإنسان إلاّ بعد درسٍ وتمحيص . وروّية وبصيرة . فإنّ الطلاق ما شرع إلاّ ليحقّق الطمأنينة والسعادة للإنسان . ويدفع عنه مرارة العيش ، وقساوة الحياة . وإذا لم يستعمله المرء في الطريق المأمون انقلب إلى إعصارٍ مخرّب مدمّر ، فحرم الأسرة الأمن والاستقرار . فهو إذاً سلاح ذو حدين : فإما أن يستعمله الإنسان فيما يجلب إليه الشقاء . أو يستعمله فيما يخلّصه من الشقاء .
وقد حكم الباري جلّ وعلا بأنّ من طلّق زوجه قبل المسيس . فليس له عليها حق أن يمنعها من الزواج . لأنها لا عدّة عليها . والعدّة إنما تجب لمعرفة براءة الرحم . صيانةً لحق الزوج . لئلا يختلط نسبه بنسب غيره ، أو يُسقى زرعه بماء غيره . . . ولمّا كان هذا الطلاق قبل المعاشرة والاتصال الزوجي ، إذاً فلا عدة ولا سبيل له عليها . فيجب أن يحسن معاملتها . بمنعها من الزوج { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .
وبذلك صان المولى جلّ وعلا كرامة المرأة ، ودفع عنها عدوان الزوج وطغيانه ، وحفظ لكلٍ حقّه ، فلم يظلم المرأة ، ولم يفرّط في حقّ الرجل ، وفسح المجال لكل من الزوجين في الحياة السعيدة الكريمة .
فما أسمى تعاليم الإسلام؟ وما أعدل نظمه وأحكامه!!(1/443)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
[ 4 ] أحكام زواج النبي صلى الله عليه وسلم
التحليل اللفظي
{ أَحْلَلْنَا } : الإحلال معناه الإباحة ، يقال : أحللت له الشيء : أي جعلته له حلالاً ، وكل شيء أباحه الله فهو حلال ، وما حرّمه فهو حرام . قال في « لسان العرب » : والحِلّ والحلال والحليل : نقيض الحرام . وأحلّه الله وحلّله .
وقوله تعالى في النَّسيء : { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } [ التوبة : 37 ] وهذا لك حلّ أي حلال . وقال ابن عباس عن ماء زمزم : هي حِلّ وبلّ أي حلال محلّل .
{ أُجُورَهُنَّ } : مهورهنّ ، والمراد في الآية : الأزواج اللواتي تزوجهنّ عليه السلام بصداق ، وسمّي المهر أجراً لأنه مقابل الاستمتاع بالمرأة في الظاهر . وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة ، لإظهار ( خطر المحل ) وشرفه ، كما قال تعالى : { وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً } [ النساء : 4 ] أي هبة وعطيّة عن طيب نفس . فالمهر تكريم للمرأة ، وإيناس لها ، وتطييب لخاطرها . وليس هو مقابل المنفعة أو الاستمتاع كما نبّه عليه الفقهاء .
{ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } : يعني الجواري والإماء ، لأنهنّ يُتملكْن عن طريق الحرب والجهاد ، بالجهد والتضحية ، وبذل النفس والمال في سبيل الله ، ولذلك أُطلق عليهن ( ملك اليمين ) .
{ أَفَآءَ الله } : أي ممّا غنمته منهنّ ، وممَّا ردّه الله عليك من الكفار ، كصفية وجويرية ، فإنه عليه السلام أعتقهما وتزوجهما . وأصل الفيء : الرجوع ، وسمّي هذا المال فيئاً لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكفار بدون قتال ، فكأنه كان في الأصل للمسلمين فرجع إليهم بدون حرب ولا قتال .
{ هَاجَرْنَ مَعَكَ } : المراد بالهجرة هي هجرته عليه السلام إلى المدينة المنورة ، والمعية هنا ( معك ) يراد بها الاشتراك في الهجرة ، لا في الصحبة ، فمن هاجرت حلّت له سواءً هاجرت في صحبته أو لم تهاجر في صحبته . قال أبو حيان : تقول : دخل فلان معي ، وخرج معي . أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان . وإن قلت : فرجعنا معاً اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل . والاشتراك في الزمان .
{ يَسْتَنكِحَهَا } : الاستنكاح طلب النكاح ، لأن السين والتاء للطلب ، مثل اسنتصر طلب النصرة ، واستعجل طلب العجلة ، والمراد من قوله : ( إن أراد النبي ) أي إن رغب النبي في نكاحها ، فالإرادة هنا بمعنى الرغبة في النكاح .
{ خَالِصَةً } : أي خاصة لك لا يشاركك فيها أحد ، يقال : هذا الشيء خالصة لك : أي خالص لك خاصة . قال ابن كثير في قوله : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } أي لا تحل الموهوبة لغيرك . ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل ، لم تحلّ له حتى يعطيها شيئاً . وكذا قال مجاهد والشعبي .
{ مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } : أي ما أوجبنا على المؤمنين من نفقة ، ومهر وشهود في العقد ، وعدم تحاوز أربع من النساء . وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور .
{ حَرَجٌ } : أي ضيق ومضقة ، ومعنى قوله تعالى : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك .(1/444)
حيث اختصصناك بما هو أولى وأفضل ، وأحللنا لك أجناس المنكوحات توسعة لك ، وتيسيراً عليك ، لتتفرع لشئون الدعوة والرسالة .
{ تُرْجِي } : قال في « لسان العرب » : أرجأ الأمر : أخّره ، وتركُ الهمزة لغة ، يقال : أرجأتُ الأمر وأرجيتُه إذا أخرتَه ، والإرجاء : التأخير ومنه سمّيت المرجئة ، وهم صنف من المسلمين يقولون : الإيمان قول بلا عمل ، فهم يرون أنهم لم لم يصلّوا ويصوموا لنجّاهم إيمانهم .
قال ابن عباس في معنى الآية : تطلّق من تشاء من نسائك ، وتمسك من تشاء منهن ، لا حرج عليك . وقال مجاهد والضحاك : المعنى تَقْسم لمن شئت ، وتؤخر عنك من شئت . وتقلّل لمن شئت ، وتكثر لمن شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن أنّ هذا حكم الله وقضاؤه زالت الإحنة والغيرة عنهن ، ورضين وقرّت أعينهنّ .
{ وتؤوي } : أي تضمّ ، يقال أوى وآوى بمعنى واحد قال تعالى : { آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ } [ يوسف : 69 ] أي ضمّه إليه وأنزله معن . وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار « أبايعكم على أن نُؤووني وتنصروني » أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم كذا في « اللسان » .
وقال ابن قتيبة : يقال : آويت فلاناً إليّ بمدّ الألف : إذا ضممتَه إليك ، وأويت إلى بني فلان ، بقصر الألف : إذا لجأت إليهم .
قال ابن الجوزي : ( وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحَبة نسائه كيف شاء ، من غير إيجاب والقسمة عليه والتسوية بينهنّ ، غير أنه كان يسوّي بينهن ) .
{ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } : أي تطيب نفوسهن بتلك القسمة ومعنى الآية : ذلك التخيير الذي خيّرناك في ضحبتهن ، أقرب إلى رضاهنّ وانتفاء حزنهنّ ، لأنهنّ إذا علمن أنّ هذا أمر من الله كان ذلك أطيب لأنفسهن ، فلا يشعرن بالحزن والألم .
قال أبو السعود : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي أقرب إلى قرّة عيونهن ، ورضاهنّ جميعاً ، لأنه حكم كلهنّ فيه سواء ، ثمّ إن سوّيت بينههن وجدن ذلك تفضلاً منك ، وإن رجّحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن ) .
{ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً } : أي بمالغاً في العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونهه ، حليماً لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها ، فإنه تعالى يمهل ولا يمهل .
المعنى الإجمالي
أحلّ الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم صنوفاً من النساء ، صنفاً يدفع له المهر ( المهورات ) وصنفاً يتمتع به بملك اليمين ( المملوكات ) ، وصنفاً من أقاربه من نساء قريش ، ونساء بني زُهرة ( المهاجرات ) ، وصنفاً رابعاً ينكحه بدون مهر ( الواهبات ) أنفسهنّ . . . وقد خص الباري جلّ وعلا رسوله الكريم في أحكام الشريعة بخصائص لم يشاركه فيها أحد ، وذلك توسعة عليه ، وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة ، فتزوجطه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع ، واختصاصه بنكاح الواهبات أنفسهن بدون مهر ، وعدم وجوب القَسْم عليه بين الأزواج ، كل ذلك خاص به صلوات الله عليه تشريفاً له وتكريماص ، وإظهاراً لمقامه السامي عند الله تعالى .(1/445)
روى مسلم في « صحيحه » عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( كنتُ أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل!! حتى أنزل الله تعالى { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فقلت : ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك ) .
ومعنى الآيات الكريمة : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الاتي أعطيتهن مهورهن ، وأحللنا لك ما مالكت يدك من السبي في الحرب . وأحللنا لك قريباتك من بنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك ، اللاتي هاجرن معك ، وأحللنا لك النساء المؤمنات الصالحات ، اللواتي وهبن أنفسهنّ ، حباً في الله وفي رسوله ، ورغبة في التقرب لك . إن أردت أن تتزوّج من شئت منهن ، بدون مهر خالصة لك من دون المؤمنين ، قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في زوجاتهم ورفيقاتهم من شرائط العقد ، ووجوب المهر في غير المملوكات ، وأمّا أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك ، لكيلا يكون عليك ضيق أو حرج ، ولك - أيها الرسول - أن تترك من زوجاتك من تشاء ، وتضم إليك من تشاء ، وتقسم لمن تشاء منهن ، وان تراجع بعد الطلاق من تريد ، ذلك أقرب أن ترتاح قلوبهن لعلمهنّ أنه بأمر الله وترخيصه لك ، فيرضَيْن بكل ما تفعل ، ويقبَلْن به عن طيب نفس ، وكان الله عليماً بما انطوت عليه القلوب ، حليماً لا يعاجل بالعقوبة لمن خالف أمره وعصاه .
سبب النزول
لما نزلت آية التخيير { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 28 ] . أشفق نشاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلقهنّ فقلن : يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودعنا في عصمتك فنزلت هذه الآية { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الإحلال معناه الإباحة والحلّ ، وإسناده إلى الله جل جلاله { أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } دال على أن التحليل والتحريم خاص به سبحانه والتشريع لله وحده والرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله ولا يملك أحد سلطة التشريع { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] .
اللطيفة الثانية : في وصفه تعالى النساء بقوله : { اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } تنبيه على أن الله عز وجلّ اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم الأفضل والأكمل ، فإنّ إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، والتعجيل كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره ، وقد شكا بعض الصحابه عدم القدرة على لاتزوج ، فقال له عليه السلام : ( فأين درعك الحطمية؟ ) .
وليس تأخير بعض المهر وتقسيمه إلى ( معجّل ومؤجّل ) إلا شيء استحدثه العرف ، واقتضاه التغالي بالمهور ، أو الحذر على مستقبل الفتاة من الطلاق بعد أن فسد حال الناس .(1/446)
فذكرُ الأجور ليس للقيد أو الشرط وغنما هو لبيان الأفضل .
اللطيفة الثالثة : تخصيص ما ملكت يمينه في قوله تعالى : { مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } للإشارة إلى أنها أحلّ وأطيب مما تشتري من الجلب . فما سُبي من دار الحرب قيل فيه ( سبي طيبة ) ، وما كان عن طريق العهد قيل ( سبي خبيثة ) والله تعالى لا يرغب لنبيّه إلا في الطيّب ، دون الخبيث . أفاده أبو حيان في « البحر المحيط » .
اللطيفة الرابعة : ذُكرَ العم والخال مفرداً ، وجُمعَ العمات والخالات في قوله تعالى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك } قال ابن العربي : والحكمة في ذلك أن العم ، والخال في الإطلاق ( اسم جنس ) كالشاعر ، والراجز ، وليس كذلك في العمة والخالة ، وقد جاء الكلام عليه بغاية البيان ، على العرف الذي جرى عليه العرب كما قيل : ( قالت بنات العم يا سلمى ) .
وكقولهم : ( إنّ بني عمك فيهم رماح ) وهذا دقيق فتأملوه .
اللطيفة الخامسة : العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى : ( إن أراد النبيّ ) ثمّ الرجوع إلى الخطاب في قوله ( خالصة لك ) وذكره صلى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان ( النبوّة ) للدّلالة على أنّ الاختصاص كان من الله تعالى تكرمةً له لأجل النبوَّة ، والتكريرُ للتفخيم من شأنه صلى الله عليه وسلم ، وبيان استحقاقه الكرامة لنبوته .
قال الزجّاج : وإنما قال : ( إن وهبتْ نفسها للنبيّ ) ولم يقل : لك ، لأنه لو قال : « لك » جاز أن يتوهّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاز في بنات العم وبنات العمات .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قرأ الجمهور { وامرأةً } بالنصب عطفاً على مفعول ( أحلَلْا ) و ( إنْ وهبت ) بكسر الهمزة شرطية ، وقرأ أبو حيْوة ( وامرأةٌ مؤمنةٌ ) بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف أي أحللناها لك .
وقرأ الحسن { أنْ وهبت } بفتح الهمزة وتقديره : لأن وهبت نفسها للنبيّ .
ثانياً : قرأ نافع وحمزة والكسائي { تُرجي } بغير همز ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر { تُرْجئ } مهموزاً والمعنى واحد .
ثالثاً : قرأ ابن محيصن ، والجوْني { أنْ تُقِرّ } بضم التاء وكسر القاف { أعينَهُن } بنصب النون ، وقرأ الجمهور { أنْ تَقَرّ أعينُهنّ } فالأولى من ( أقرّ ) الرباعي ، والثانية من ( قرّ ) الثلاثي فتنبه .
رابعاً : قوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء } قرأ الجمهور { يحلّ } بالياء ، وقرأ أبو عمرو ( تَحلّ ) بالتاء .
قال ابن الجوزي : والتأنيث ليس بحقيقي ، إنما هو تأنيث الجمع ، فالقراءتان حسنتان .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } اللاتي : اسم موصول للمؤنث في محل نصب صفة لقوله ( أزواجك ) و ( أجورهنّ ) مفعول ثانٍ لآتيت لأنها بمعنى أعطيت ، والمفعول الأول محذوف تقديره : آيتتُهنّ .(1/447)
ثانياً : قوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً } في نصب ( امرأةً ) وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً بالعطف على قوله ( أزواجَك ) والعامل فيه ( أحللنا ) .
والثاني : أن يكون منصوباً بتقدير فعل ، وتقديهر : ونُحلّ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، وليس معطوفاً على المنصوب ب ( أحللنا ) لأن الشرط والجزاء لا يصح في الماضي ، ألا ترى انك لو قلت : إن قُمتَ غداً قُمتُ أمسِ ، كنت مخطئاً .
قال أبو البركات بن الأنباري : وهذا الوجه أوجه الوجهين .
ثالثاً : قوله تعالى : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا } هنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، والمعنى : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تنكحها ، وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ ، متقدّم في الوقوع ما لم تدلّ قرينه على الترتيب ، أفاده أبو حيان .
رابعاً : قوله تعالى : { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } كلُّهُنَّ : مرفوع لأنه توكيد لنون النسوة في ( يرضين ) وليس توكيداً للضمير في ( آتيتهنّ ) ومعنى الآية : ويرضين كلّهنّ بما آتيتهن .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجوز النكاح بلفظ الإجارة أو الهبة؟
لا خلاف بين الفقهاء على أن عقد النكاح ينعقد باللفظ الصريح . وهو لفظ ( النكاح أو الزواج ) وبكل لفظ مشتق من هذه الصيغة ، إذا لم يقصد به الوعد لقوله تعالى : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [ النساء : 25 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه » فصيغة النكاح والتزويج وردت في الكتاب والسنة . وهي من الصيغ الصريحة في النكاح .
وقد اتفق الفقهاء أيضاً على أنّ ألفاظ ( الإباحة ، والإحلال ، والإعارة ، والرهن والتمتع ) لا يجوز بها عقد النكاح . ومثلها لفظ ( الإجارة ) فلا يجوز به عقد النكاح عند جمهور الفقهاء .
وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة لقوله تعالى : { اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } وحجته أن الله عز وجل سمّى المهر أجراً . والأجر يجب بعقد يتحقق بلفظ الإجارة ، فيصح به النكاح .
الرد على الكرخي :
والجواب : أنّ معنى ( الإجارة ) يتنافى مع عقد النكاح . إذ النكاح مبني على التأبيد . والتوقيقُ يبطله . وعقد الإجارة مبنيٌ على التوقيت . حتى لو أطلق كان مؤقتاً ويتجدّد ساعة فساعة . فكيف يصح جعل ما هو موضوع على التوقيت دالاً على ما يبطله التوقيت؟
ومن جهة ثانية فإن الإجارة عقد على لامنافع بعوض ، والمهر ليس مقابل العوض . بل هو عطية أوجبها الله تعالى إظهاراً لخطر المحل . ولذلك يصحّ النكاح مع عدم ذكر المهر . ويجب مهر المثل بالدخول . ولا يصح النكاح بلفظ الإجازة حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل . ولهذا لم يوافق أحد من فقهاء الحنفية الكرخيَّ فيما ذهب إليه .
أما النكاح بلفظ الهبة فقد أجازه الحنفية . ومنعه جمهور الفقهاء .
أدلة الحنفية :
استدل الحنفية على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بما يلي :
أ- قوله تعالى : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا } ووجه الاستدلال أنّ الله عز وجل وسمّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً فقال : ( أن يستنكحها ) فدلّ على جواز النكاح بلفظ الهبة ، وإذا جاز هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فقد جاز لنا أيضاً لأننا أمرنا باتباعه والإقتداء به .(1/448)
ب- وقالوا أيضاً : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأمتَّه في عقد النكاح بلفظ ( الهبة ) سواء . وخصوصيتُه التي أشارت إليها الآية الكريمة { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } إنما هي في جواز النكاح بدون مهر بدليل قوله تعالى في آخر الآية { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وذلك يشير إلى أنّ الخصوصية دفعت حرجاً ، والحرجُ إنما يكون في إلزام المهر؛ لأنه يلزمه مشقة السعي في تحصيل المال ، وهو عليه السلام مشغول بشؤون الرسالة ، وليس ثمة حرج أن يكون العقد بلفظ النكاح أو التزويج فتكون الخصوصية له عليه السلام في النكاح بدون مهر .
ح - وقالوا : مما يؤيد هذا ما روي عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وتقول : ( ألا تستحيي أن تعرض نفسها بغير صداق ) !! فلما نزل قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ . . . } [ إلى قوله ] { فَلاَ جُنَاحَ } قالت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . وقد تقدّم الحديث .
د- واستدلوا بحديث سهل بن سعد « أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : جئت لأهب نفسي لك . . وفيه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله : إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجْنيها ، وذكر الحديث إلى قوله : إذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن » .
ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك . والهبة من ألفاظ التمليك . فوجب أن يجوز بها عقد النكاح . فلكُّ ما كان من ألفاظ ( الإباحة ) لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة ، وكلُّ ما كان من ألفاظ ( التمليك ) ينعقد به عقد النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات .
حجة الجمهور :
واستدل الجمهور ( المالكية والشافعية والحنابلة ) على عدم جواز النكاح بلفظ الهبة بما يأتي :
أ- أنّ الله تعالى خصّ رسوله بهذه الخصوصية ، وهي جواز النكاح بلفظ الهبة بدون مهر فقال جل ثناؤه : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } .
فقوله تعالى : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } وقوله { خَالِصَةً لَّكَ } دليل على أنّ إحلال المرأة عن طريق الهبة إنما كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى { مِن دُونِ المؤمنين } فالخصوصية له عليه السلام كانت بالهبة ( لفظاً ومعنى ) لأنّ اللفظ تابع للمعنى .
ب- وقالوا : ما كان من خصوصياته عليه السلام ، فلا يجوز أن يشاركه فيها أحد .(1/449)
والآية دلت على أن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أي أن النكاح بدون مهر ، وبلفظ الهبة معاً ، من خصائصه عليه السلام ، فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟
ج - وأما استدلال الحنفية بحديث ( سهل بن سعد ) أن النبي عليه السلام زوّج الصحابي بلفظ التمليك بقوله : « اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن » فليس فيه ما يدل لهم ، فقد جاء في بعض الروايات « اذهب فقد زوّجتُكها » وليس كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح . فلفظ الإجارة يدل على التمليك ومع ذلك لا ينعقد به النكاح باتفاق .
الترجيح : أقول : أدلة الحنفية كما بسطها الإمام ( الجصاص ) وإن كانت قوّية ، إلاّ أنّ النصّ ورد بالخصوصية للرسول عليه السلام في ( نكاح الهبة ) والظاهر أنّ المراد منه ( اللفظ والمعنى ) ، وحمله على لامعنى دون اللفظ يحتاج إلى دليل . وصيَغُ النكاح لا يجري فيها القياس ، فما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح كما قال الإمام مالك رحمه الله : إنّ الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت هبة نكاح ، والله أعلم .
الحكم الثاني : هل الهجرة شرط في النكاح؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنّ من لم تهاجر معه من النساء لا يحلّ له نكاحها لقوله تعالى : { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } الآية وإلى هذا الظاهر ذهب بعض العلماء ، قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحلّ له نكاحها ، قالت أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } إلى قولك { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت : فلم أكن لأحلّ له ، لأني لم أهاجر معه ، كنتُ من الطّلقاء .
وجمهور المفسرين على أن الهجرة ليست بقيد ولا شرط ، وإنما هي لبيان الأفضل . كما في قوله تعالى : { اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } فالآية ذكرت الأصناف التي يباح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج منها ، وبيّن ما هو أفضل له وأكمل ، فكما أنّ ذكر ( الأجور ) ليس للقيد وإنما هو لبيان الأفضل فكذا هنا .
قال أبو حيّان : ( والتخصيص باللاتي هاجرن معك ، لأنّ من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات ، وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ ) .
وحكى المارودي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق .
والثاني : أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات .
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين أن تقييد القريبات بكونهنّ مهاجرات لبيان الأكمل والأفضل .(1/450)
الحكم الثالث : هل كان عند النبي امرأة موهوبة؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء ، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهنّ ، منهنّ ( أم شريك ) و ( خولة بنت حكيم ) و ( ليلى بنت الخطيم ) ولكن لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ أحد ، وقيل ( ميمونة بنت الحارث ) و ( زينب بنت خزيمة ) كذلك من الواهبات أنفسهنّ والصحيح هو الأول .
قال أبو بكر ابن العربي : ( وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة ) .
قال ابن كثير : « اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير ، كما قال البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ } قلت : ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك » .
الحكم الرابع : هل كان القسم واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقسم بينهن بالعدل ويقول : « اللهمّ هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك » يريد بقوله ( ما لا أملك ) ميل القلب نحو بعض نسائه كعائشة رضي الله عنها .
واستدلوا بأنّ القسم كان واجباً عليه بأنه عليه السلام كان يستأذن بعض نسائه فيقول : أتأذنّ لي أن أبيت عند فلانه ، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة .
وذهب أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاشرة من شاء من نسائه دون أن يكون القسم عليه واجباً ، ومع ذلك فقد كان يعدل بينهنّ ويسوّي في القسمة .
قال الجصاص : « وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان مخيراً في القسم لمن يشاء ، وترك من شاء منهن » .
وقال ابن كثير : « وذهب طائفة من العلماء من الشافعية وغيرهم ، إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة ، وقال البخاري عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذننا في يوم المرأة منا ، بعد أن نزلت هذه الآية { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فقلت لها : ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول : إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً » . والصحيح أن القسم لم يكن واجباً عليه وهو اختيار الجمهور .
شبهة والردُّ عليها
لقد درج أعداء الإسلام منذ القديم ، على التشكيك في نبي الإسلام ، والطعن في رسالته والنيل من كرامته ، ينتحلون الأكاذيب والأباطيل ، ليشككوا المؤمنين في دينهم ، ويبعدوا الناس عن الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم ، ولا عجب أن نسمع مثل هذا البهتان والافتراء والتضليل في حق الأنبياء والمرسلين ، فتلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاص .(1/451)
وصدق الله حيث يقول : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [ الفرقان : 31 ] وقبل أن نتحدث عن « أمهات المؤمنين الطاهرات » ، وحكمة الزواج بهن نحب أن نردّ على شبهة سقيمة ، طالما أثارها كثير من الأعداء ، من الصليبيين ، الحاقدين ، والغربيّين المتعصبين .
ردّدوها كثيراً ليفسدوا بها العقائد ، ويطمسوا بها الحقائق . ولينالوا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله ، صلوات الله عليه .
إنهم يقولون : « لقد كان محمد رجلاً شهوانياً ، يسير وراء شهواته وملذاته ، ويمشي مع هواه ، لم يكتف بزوجةٍ واحدة أو بأربع ، كما أوجب على أبتاعه ، بل عدّد الزوجات فتزوّج عشر نسوةٍ أو يزيد ، سيراً مع الشهوة ، وميلاً مع الهوى!
كما يقولون أيضاً : » فرقٌ كبير وعظيم بين « عيسى » وبين « محمد » ، فرقٌ بين من يغالب هواه ، ويجاهد نفسه كعيسى بن مريم ، وبين من يسير مع هواه ، ويجري وراء شهواته كمحمد { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] .
حقاً إنهم لحاقدون كاذبون ، فما كان « محمد » عليه الصلاة والسلام ، رجلاً شهوانياً ، إنما كان نبياً إنسانياً ، تزوّج كما يتزوّج البشر ، ليكون قدوة لهم في سلوك الطريق السويّ ، وليس هو إلهاً ، ولا ابن إله - كما يعتقد النصارى في نبيّهم - إنما هو بشر مثلهم ، فضّله الله عليهم بالوحي ، والرسالة { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ . . . } [ الكهف : 110 ] .
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه بدعاً من الرسل ، حتى يخاف سنتهم ، أو ينقض طربقتهم ، فالرسل الكرام قد حكى القرآن الكريم عنهم بقول الله جلّ وعلا : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً . . . } [ الرعد : 38 ] .
فعلام إذاً يثيرون هذه الزوابع الهوج في حقّ خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام؟
ولكن كما يقول القائل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وصدق الله حيث يقول : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ]
« ردُّ الشبهة »
هناك نقطتان جوهريتان ، تدفعان الشبهة عن النبي الكريم ، وتلقمان الحجر لكل مقتر أثيم ، يجب ألاّ يغفل عنهما ، وأن نضعهما نَصْبَ أعيننا حين نتحدث عن أمهات المؤمنين ، وعن حكمة تعدّد زوجاته الطاهرات ، رضوان الله عليهن أجمعين .
هاتان النقطتان هما :
أولاً : لم يعدّد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم زوجاته إلا بعد بلوغه سنَّ الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين .(1/452)
ثاناً : جميع زوجاته الطاهرات ثيبات ( أرامل ) ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فهي بكر ، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي في حالة الصبا والبكارة .
ومن هاتين النقطتين ندرك - بكل بساطة - تفاهة هذه التهمة ، وبطلان ذلك الادعاء ، الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون .
فلو كان المراد من الزواج الجريَ وراء الشهوة ، أو السيرَ مع الهوى ، أو مجرد الاستمتاع بالنساء ، لتزوّج في سنّ ( الشباب ) لا في سنّ ( الشيخوخة ) ولتزوج ( الأبكار الشابات ) ، لا ( الأرامل المسنّات ) ، وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة : « هل تزوجت؟ قال : نعم ، بكراً أم ثيباً؟ قال : بل ثيباً ، فقال له صلوات الله عليه : فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك ، وتضاحكها وتضاحكك »؟
فالرسول الكريم أشار عليه بتزوج البكر ، وهو عليه السلام يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة ، فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار . ويتزوج في سن الشيخوخة ، ويترك سنّ الصّبا ، إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟!
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهجهم وأرواحهم ، ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن شاء من الفتيات الأبكار الجميلات ، فلماذا لم يعدّد الزوجات في مقتبل العمر ، وريعان الشباب ، ولماذا ترك الزواج بالأبكار ، وتزوّج الثيبات؟
إنّ هذا - بلا شك - يدفع كل تقوّل وافتراء ، ويدحض كل شبهة وبهتان . ويردّ على كل آفّاك أثيم ، يريد أن ينال من قدسية الرسول ، أو يشوّه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد ( الهوى ) أو ( الشهوة ) وإنما كان لحكم جليلة ، وغايات نبيلة ، وأهداف سامية ، سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها ، إذا ما تركوا التعصب الأعمى ، وحكّموا منطق العقل والوجدان . وسوف يجدون في هذا الزواج ( المثل الأعلى ) في الإنسان الفاضل الكريم ، والرسول النبي الرحيم ، الذي يضحّي براحته في سبيل مصلحة غيره ، وفي سبيل مصلحة الدعوة والإسلام .
حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحكمة من « تعدّد زوجات الرسول » كثيرة ومتشعبة ، ويمكننا أن نجملها فيما يلي :
أولاً : الحكمة التعليمية .
ثانياً : الحكمة التشريعية .
ثالثاً : الحكمة الاجتماعية .
رابعاً : الحكمة السياسة .
ولنتحدث باختصار عن كلٍ من هذه الحِكَم الأربع ، ثم نعقبها بالحديث عن أمهات المؤمنين الطاهرات ، وحكمة الزواج بكل واحدة منهن استقلالاً فنقول ومن الله نستمد العون .
أولاً : الحكمة التعليمية :
لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم هي تخريج بضع معلمات للنساء ، يعلمنهن الأحكام الشرعية ، فالنساء نصيف المجتمع ، وقد فُرِضَ عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال .
وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن ، كأحكام الحيض ، والنفاس ، والجنابة ، والأمور الزوجية ، وغيرها من الأحكام ، وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل .(1/453)
كما كان من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم الحياء الكامل ، وكان - كما تروي كتب السنّة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها ، فما كان عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يجيب عن كل سؤالٍ يعرض المرأة عن طريق ( الكناية ) مراده عليه السلام .
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض ، فعلّمها صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل ، ثمّ قال لها : خذي فرصة ممسّكةً ( أي قطعة من القطن بها أثر الطيب ) فتطهّري بها ، قالت : كيف أتطهر بها؟ قال : تطهّري بها ، قالت : كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها : سبحان الله تطهّري بها! .
قالت السيدة عائشة : فاجتذبتها من يدها ، فقلت : ضعيها في مكان كذا وكذا ، وتتبعي بها أثر الدم ، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه .
فكان صلوات الله عليه يستحيي من مثل هذا التصريح ، وهكذا كان القليل أيضاً من النساء من تستيطع أن تتغلّب على نفسها ، وعلى حيائها ، فتجاهر النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عمّا يقع لها .
نأخذ مثلاً لذلك حديث ( أم سلمة ) المرويّ في « الصحيحين » وفيه تقول : ( جاءت أم سُلَيْم ( زوج أبي طلحة ) إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق ، هل على المرأة من غُسْل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : نعم إذا رأت الماء .
فقالت أم سلمة : لقد فضحتِ النساء ، ويحك أو تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي الكريم بقوله : إذاً فبم يشببها الولد؟ )
مراده عليه السلام أن الجنين يتولد من ماء الرجل ، وماءِ المرأة ، ولهذا يأتي له شبه بأمه ، وهذا كما قال الله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] .
قال ابن كثير رحمه الله : « أمشاج : أي أخلاط . والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه في بعض ، قال ابن عباس : يعني ماءَ الرجل ، وماء المرأة ، إذا اجتمعا واختلطا . . . » .
وهكذا مِثْلُ هذه الأسئلة المحرجة ، كان يتولى الجواب عنها فيما بعد زوجاتُه الطاهرات . ولهذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : « رحم الله نساء الأنصار ، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين » .
وكانت المرأة منهن تأتي إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين ، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام ، فكان نساء الرسول خيرَ معلّمات وموجهات لهن ، وعن طريقهن تفقّه النساء في دين الله .
ثمّ إنه من المعلوم أنّ السنّة المطهّرة ليست قاصرة على قول النبي صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل هي تشمل قوله .(1/454)
وفعله ، وتقريره ، وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه ، فمن ينقل لنا أخبارَه وأفعالَه عليه السلام في المنزل غيرُ هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكنّ أمهات للمؤمنين ، وزوجاتٍ لرسوله الكريم في الدنيا والآخرة؟!
لا شك أن لزوجاته الطاهرات رضوان الله عليهن أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره ، وأفعاله المنزلية عليه السلام أفضل الصلاة والتسليم .
ولقد أصبح من هؤلاء الزوجات معلّمات ومحدثات نقلن هدية عليه السلام . واشتهرن بقوة الحفظ والنبوغ والذكاء .
ونتحدث الآن عن ( الحكمة التشريعية ) التي هي جزء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة ، وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة ، ونضرب لذلك مثلاً ( بدعة التبني ) التي كا ن يفعلها العرب قبل الإسلام ، فقد كانت ديناً متوارثاً عندهم ، يتبنّى أحدهم ولداً ليس من صلبه ، ويجعله في حكم الولد الصلبي ، ويتخذه ابناً حقيقياً له حكم الأبناء من النسب ، في جميع الأحوال : في الميراث ، والطلاق ، والزواج ، ومحرمات المصاهرة ، ومحرمات النكاح ، إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان ديناً تقليدياً متبعاً في الجاهلية .
كان الواحد منهم يتبنَّى ولد غيره فيقول له : « أنت ابني ، أرثك وترثني » وما كان الإسلام ليقرّهم على باطل ، ولا ليتركهم يتخبّطون في ظلمات الجهالة ، فمهّد لذلك بأن ألهم رسوله عليه السلام أن يتبنّى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة النبوية - فتبنّى النبي الكريم ( زيد بن حارثه ) وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم ( زيد بن محمد ) .
روى البخاري ومسلم : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } [ الأحزاب : 5 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت زيد بن حارثه بن شراحبيل « .
وقد زوّجه عليه السلام بابنة عمته ( زينب بنت جحش الأسدية ) وقد عاشت معه مدةً من الزمن ، ولكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما ، فكانت تغلظ له القول ، وترى أنها أشرفُ منه ، لأنه كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول ، وهي ذات حسبٍ ونسب .
ولحكمة : يريدها الله تعالى طلّق زيد زينب ، فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل ( بدعة التبني ) ويقيم أسس الإسلام ، ويأتي على الجاهلية من قواعدها . ولكنه عليه السلام كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجّار ، أن يتكلموا فيه ويقولوا : تزوّج محمد امرأة ابنه ، فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله عليه السلام ، وفي قوله جلّ وعلا :
{ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً }(1/455)
[ الأحزاب : 37 ] .
وهكذا انتهى حكم التبني ، وبطلت تلك العادات التي كانت متبعة في الجاهلية . وكانت ديناً تقليدياً لا محيد عنه ، ونزل قوله تعالى مؤكداً هذا التشريع الإلهي الجديد : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 40 ] .
وقد كان هذا الزواج بأمرٍ من الله تعالى ، ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول بعض الأفّاكين المرجفين من اعداء الله ، وكان لغرضٍ نبيل ، وغاية شريفة هي إبطال عادات الجاهلية ، وقد صرّح الله عز وجل بغرض هذا الزواج بقوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً . . . } [ الأحزاب : 37 ] .
وقد تولى الله عزّ وجل تزويج نبيه الكريم بزينب ، امرأة ولده من التبني ولهذا كانت تفخر على نساء النبي بهذا الزواج الذي قضى به رب العزّة من فوق سبع سماواته .
روى البخاري : يسنده أن ( زينب ) رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكُنّ أهاليكن ، وزوّجني الله من فوق سبع سموات .
وهكذا كان هذا الزواج للتشريع ، وكان بأمر الحكيم العليم ، فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .
ثالثاً : الحكمة الاجتماعية :
أما الحكمة الثالثة فهي ( الحكمة الاجتماعية ) وهذه تظهر بوضوح في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بابنة الصّديق الأكبر ( أبي بكر ) رضي الله عنه وزيره الأول ، ثمّ بابنة وزيره الثاني الفاروق ( عمر ) رضي الله عنه وأرضاه ، ثمّ باتصاله عليه السلام بقريش اتصال مصاهرة ونسب . وتزوجه العديد منهن ، ممّا ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق ، وجعل القلوب تلتف حوله ، وتلتقي حول دعوته في إيمان ، وإكبار ، وإجلال .
لقد تزوّج النبي صلوات الله عليه بالسيدة ( عائشة ) بنتِ أحبّ الناس إليه ، وأعظمهم قدراً لديه ، ألاوهو أبو بكر الصدّيق ، الذي كان أسبق الناس إلى الإسلام ، وقدّم نفسه وروحه وماله ، في سبيل نصرة دين الله ، والذود عن رسوله ، وتحمّل ضروب الأذى في سبيل الإسلام ، حتى قال عليه السلام - كما في الترمذي - مُشيداً بفضل أبي بكر :
« ما لأحد عندنا يدٌ وقد كافيناه بها ، ما خلا أبا بكر ، فإنّ له عندنا يداً يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة ، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر . وما عرضت الإسلام على أحدٍ إلاّ كانت له كبوة ( أي تردد وتلكؤ ) إلا أبا بكر فإنه لم يتعلثم ، ولو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، أإلا وإنّ صاحبكم خليل الله تعالى » .
فلم يجد الرسول صلى الله عله وسلم مكافأة لأبي بكر في ادلنيا ، أعظم من أن يُقرَّ عينه بهذا الزواج بابنته ، ويصبح بينهما ( مصاهرة ) وقرابة ، تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق .(1/456)
كما تزوج صلوات الله عليه بالسيدة ( حفصة بنت عمر ) فكان ذلك قرّة عين لأبيها عمر على إسلامه ، وصدقه ، وإخلاصه ، وتفانيه في سبيل هذا الدين ، وعمر هو بطل الإسلام ، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين ، ورفع به منار الدين ، فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة ، خيّرَ مكافأة له على ما قدّم في سبيل الإسلام ، وقد ساوى صلى الله عليه وسلم بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة ، فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرفٍ لهما ، بل أعظم مكافأة ومنّة ، ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف ، فما أجلّ سياسته؟ وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين! .
كما يقابُل ذلكَ اكرامَه لعثمان وعلي رضي الله عنهما بتزويجهما ببناته ، وهؤلاء الأربع هم أعظم أصحابه ، وخلفاؤه من بعده في نشر ملته ، وإقامة دعوته ، فما أجلّها من حكمة ، وما أكرمها من نظرة؟
رابعاً : الحكمة السياسية :
لقد تزود النبي صلى الله عليه وسلم ببعض النسوة ، من أجل تأليف القلوب عليه ، وجمع القبائل حوله ، فمن المعلوم أنّ الإنسان إذا تزوج من قبيلة ، أو عشيرة ، يصبح بينه وبينهم قرابة و ( مصاهرة ) وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته ، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضّح لنا الحكمة ، التي هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج .
أولاً : تتزوّج صلوات الله عليه بالسيدة ( جويرية بنت الحارث ) سيّد بني المصطلق ، وكانت قد أُسِرت مع قومها وعشيرتها ، ثمّ بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه بشيء من المال ، فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها فقبلت ذلك فتزوجها ، فقال المسلمون : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أيدينا؟ ( أي أنهم في الأسر ) فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم ، فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو ، وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعاً ، ودخلوا في دين الله ، وأصبحوا من المؤمنين .
فكان زواجه صلى الله عليه وسلم بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها ، لأنه كان سبباً لإسلامهم وعتقهم ، وكانت ( جويرية ) أيمن امرأة على قومها .
أخرج البخاري في « صحيحه » : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءَ بني المصطلق ، فأخرج الخُمُس منه ثمّ قسمه بين الناس ، فأعطى الفرس سهمين ، والرجل سهماً ، فوقعت ( جويرية بنت الحارث ) في سهم ثابت بن قيس ، فجاءت إلى الرسول فقالت : يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيّدِ قومه ، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ ، وقد كاتبني ثابت على تسع أواق ، فأعنّي على فَكَاكي ، فقال عليه السلام : أو خير من ذلك؟ فقالت : ما هو؟ فقال : أوْدي عنك كتابَتاَك وأتزوجُك . فقالت : نعم يا رسول الله ، فقال رسول الله قد فعلت » .(1/457)
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا : أصهار رسول الله يُسْترقّون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق ، فبلغ عتقُهم مائةً بيت ، بتزوجه عليه السلام بنتَ سيدِ قومه .
ثانياً : - وكذلك تزوجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة ( صفية بنت حُيّي بن أخطب ) التي أسرت بعد قتل زوجها في ( غزوة خيبر ) ووقعت في سهم بعض المسلمين فقال أهل الرأي والمشورة : هذه سيّدة بني قريظة ، لا تصلح إلاّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا الأمر على الرسول الكريم ، فدعاها وخيّرها بين أمرين :
أ- إمّا أن يعتقها ويتزوجها عليه السلام فتكون زوجة له .
ب- وأمّا أن يُطْلِقَ سراحها فتلحق بأهلها .
فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له ، وذلك لما رأته من جلالة قدره ، وعظمته وحسن معاملته ، وقد اسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس ، روي أن ( صفية ) رضي الله عنها لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : لم يزل أبوك من أشدّ اليهود لي عداوة حتى قتله الله ، فقالت يا رسول الله : إن الله يقول في كتابه : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] .
فقال لها الرسول الكريم : اختاري ، فإن اخترَت الإسلام أمسكتك لنفسي ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك ، فقالت يا رسول الله : لقد هويتُ الإسلام ، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني إلى رَحْلك ، ومالي في اليهودية أرَب ، ومالي فيها والد ولا أخ ، وخيّرتني الكفرَ والإسلامَ ، فاللَّهُ ورسولُه احبّ إليّ من العَتْق ، وأن أرجع إلى قومي ، فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه .
ثالثاً : وكذلك تزوجه عليه الصلاة والسلام بالسيدة أم حبيبة ( رملة بنت أبي سفيان ) الذي كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك ، وألدّ الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلمت ابنته في مكة ، ثمّ هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فراراَ بدينها ، وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة ، لا معين لها ولا أنيس ، فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى ( النجاشي ) ملكِ الحبشة ليزوجه أيّاها ، فأبلغها النجاشي ذلك فسُرّت سروراً لا يعرف مقدراه إلا الله سبحانه ، لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردَّة ، أو عدبّوها عذاباً شديداً ، وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسه ، ولما عادت إلى المدينة المنورة تزوجها النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام .
ولما بلغ ( أبا سفيان ) الخبرُ أقرَ ذلك الزواج وقال : « هوالفحل لا يُقدع أنفُه » فافتخر بالرسول ولم ينكر كفاءته له ، إلى أن هداه الله تعالى للإسلام .
ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه عليه السلام بابنة أبي سفيان فقد كان هذا الزواج سبباً لتخفيف الأذى عنه وعن أصحابه المسلمين ، سيّما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة ، مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألدّ بني أمية خصومة لرسول الله ، ومن أشدّهم عداء له وللمسلمين ، فكان تزوجه بابنته سبباً لتأليف قلبه وقلب قومه وعشيرته ، كما أنه صلى الله عليه وسلم اختارها لنفسه تكريماً لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها ، فما أكرمها من سياسة ، وما أجلها من حكمة؟؟
أمهات المؤمنين الطاهرات
بعد أن تحدثنا عن حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم نتحدث الآن عن ( أمهات المؤمنين ) الطاهرات رضوان الله تعالى عليهن .(1/458)
فقد اختارهنّ الله لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأكرمهن بهذا الشرف العظيم ، شرف الانتساب إلى سيِّد المرسلين ، واختارهن من صفوة النساء ، وجعلهنَّ أمهات المؤمنين ، في وجوب الاحترام والتعظيم ، وفي حرمة الزواج بهن حتى بعد وفاته عليه السلام تكريماً لرسوله فقال وهو أصدق القائلين : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ . . . } [ الأحزاب : 6 ] .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } [ الأحزاب : 53 ] .
قال العلامة القرطبي : في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) ما نصه : « شرّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم ، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين ، أي في وجوب التعظيم ، والمبرّة ، والإجلال ، وحرمة النكاح على الرجال ، فكان ذلك تكريماً لرسوله ، وتشريفاً لهن » .
أسماء أمهات المؤمنين
وأمهات المؤمنين اللواتي تزوجهن الرسول الكريم هنَّ كالآتي :
أولاً : السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
ثانياً : السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها .
ثالثاً : السيدة عائشة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنها .
رابعاً : السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها .
خامساً : السيدة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها .
سادساً : السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها .
سابعاً : السيدة أم سلمة ( هند بنت أبي أمية المخزومية ) رضي الله عنها .
ثامناً : السيدة أم حبيبة ( رملة بنت أبي سفيان ) رضي الله عنها .
تاسعاً : السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها .
عاشراً : السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها .
وأخيراً : السيدة صفية بنت حُيّي بن أخطب رضي الله عنها .
1- السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
هي أول أزواجه عليه السلام . تزوجها الرسول الكريم قبل البعثة وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وهي ثيِّب ( أرملة ) بنت أربعين سنة ، وقد كانت عند ( أبي هالة ) ابن زرارة أولاً ، ثمّ خلف عليها بعد أبي هالة ( عتيق بن عائذ ) ثم خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في « الإصابة » .
وقد اختارها صلوات الله عليه لسداد رأيها ، ووفرة ذكائها ، وكان زواجه بها زواجاً حكيماً موفقاً ، لأنه كان زواج العقل للعقل ، ولم يكن فارق السن بينهما بالأمر الذي يقف عقبة في طريق الزواج ، لأنه لم يكن الغرض منه قضاءَ ( الوطر والشهوة ) وإنما كان هدفاً إنسانياً سامياً ، فمحمد رسول الله قد هيأه الله لحمل الرسالة ، وتحمل أعباء الدعوة ، وقد يسّر الله تعالى له هذه المرأة التقيّة النقيّة ، العاقلة الذكية ، لتعينه على المضي في تبليغ الدعوة ، ونشر الرسالة ، وهي أول من آمن به من النساء .(1/459)
ومما يشهد لقوة عقلها ، وسداد رأيها ، أن الرسول عليه السلام حين جاءه جبريل وهو في غار حراء رجع إلى زوجه يرجف فؤاده ، فدخل عليها وهو يقول : « زَمِّلوني زَمِّلوني » ، حتى ذهب عنه الروع ، فحدّث خديجة بالخبر وقال لها : لقد خشيتُ على نفسي ، فقالت له : ( أبشر ، كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) . والحديث في « الصحيحين » .
قضى الرسول مع خديجة زهرة شبابه ، فلم يتزوج عليها ، ولا أحبّ أحداً مثل حبه لها ، وكانت السيدة عائشة تغار منها مع أنها لم تجتمع معها ولم ترها ، حتى تجرأت مرة عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم لها فقالت :
« وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان ، قد أبدلك الله خيراً منها »؟ « تعني نفسها » فغضب صلى الله عليه وسلم من هذه الكلمة وقال لها : « لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، لقد آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء » قالت : « فلم اذكرها بسوءٍ بعده أبداً » .
وروى الشيخان عنها أنها قالت : « ما غرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما عرتُ على خديجة ، وما رأيتها قطَ ، ولكن النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة ، وربما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول : » إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد « .
عاشت مع الرسول خمساً وعشرين سنة ، خمس عشرة قبل البعثة ، وعشراً بعدها ، ولم يتزوج الرسول الكريم امرأة عليها ، ورُزِق منها جميع أولاده ما عدا إبراهيم . وحين انتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الخمسين من العمر ، وليس عنده سواها ، فلم يعدّد زوجاته إلا بعد وفاتها ، لبعض تلك الحكم التي ذكرناها ، رضي الله تعالى عنها وأرضاها .
2- السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد وفاة خديجة . وهي أرملة ( السكران بن عمرو الأنصاري ) ، والحكمة في اختيارها مع أنها أكبر سناً من رسول الله ، أنها كانت من المؤمنات المهاجرات ، توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، فأصبحت فريدة وحيدة ، لا معيل لها ولا معين ، ولو عادت إلى أهلها - بعد وفاة زوجها - لأكرهوها على الشرك ، أو عذّبوها عذاباً نكراً ليفتنوها عن الإسلام ، فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها فتزوجها ، وهذا هو منتهى الإحسان والتكريم لها على صدق إيمانها وإخلاصها لله ولرسوله .(1/460)
ولو كان غرض الرسول الشهوة - كما زعم المستشرقون الأفاكون - لاستعاض عنها - وهي الأرملة المسنَّة التي بلغت من العمر الخامسة والخمسين - بالنواهد الأبكار ، ولكنه عليه السلام كان المثل الأعلى في الشهامة ، والنجدة ، والمروءة ، ولم يكن غرضه إلا حمايتها ورعايتها ، لتبقى تحت كفالته عليه أفضل الصلاة والتسليم .
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وكانت بكراً ، وهي البكر الوحيدة من بين نسائه الطاهرات فلم يتزوج بكراً غيرها ، وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن ، بل كانت أعلم من أكثر الرجال ، فقد كان كثير من كبار علماء الصحابة ، يسألونها عن بعض الأحكام التي تشكل عليهم فتحلُّها لهم .
روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قطُّ ، فسألنا عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علماً ) .
وقال أبو الضحى عن مسروق : ( رأيت مشيخة أصحاب رسول الله يسألونها عن الفرائض ) .
وقال عروة بن الزبير : ( ما رأيتُ امرأة أعلم بطب ، ولا فقه ، ولا شعر من عائشة ) .
ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير ، وعقلها الكبير ، فلم يَرْو في الصحيح أحد من الرجال أكثر مما روي عنه إلا شخصان هما : أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
وكان عليه السلام يحب عائشة أكثر من بقية نسائه وكان يعدل بينهن في القسمة ويقول : اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤخذني فيما لا أملك .
ولما نزلت آية التخيير بدأ بعائشة فقال لها : إني ذاكر لك أمراً فلا تَعْجلي حتى تستأمري أبويك ، قالت : وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه فقرأ عليها : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } [ الأحزاب : 28 ] الآية ، فقالت : أوفي هذا استأمر أبوي!! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة .
ولقد كانت مصاهرة الرسول للصّديق أبي بكر ، أعظم منّة ومكافأة له في هذه الحياة الدنيا ، كما كان خير وسيلة لنشر سنته المطهّرة ، وفضائله الزوجية ، وأحكام شريعته ، ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء كما بينا عند ذكر الحكمة التعليمية .
4- السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي أرملة ، وكان زوجها ( خنيس بن حذافَة ) الأنصاري قد استشهد في غزوة بدر ، بعد أن أبلى بلاءً حسناً ، فقد كان من الشجعان الأبطال ، الذين سجّل لهم التاريخ أنصع الصفحات في البطولة والرجولة ، والجهاد .(1/461)
وقد عرضها أبوها ( عمر ) رضي الله عنه على عثمان بعد وفاة زوجته ( رقية ) بنت الرسول ، ثم تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك أعظم إكرام ومنّة وإحسان لأبيها عمر بن الخطاب .
أخرج الإمام البخاري عن عبد الله به عمر رضي الله عنهما : أنّ عمر حين تأيمت حفصة من ( خنيس بن حذافة ) - وكان شهد بدراً وتوفي بالمدينة - لقي عثمان فقال : إن شئت أنكحتك حفصة؟ قال : سأنظر في أمري ، فلبث ليالي ، فقال : قد بدا لي لا أتزوج ، قال عمر : فقلت لأبي بكر إن شئتَ أنكحتك حفصة ، فصمتَ ، فكنت عليه أوجد مني على عثمان ، فلبث ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه .
فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة ، فلم أرجع إليك شيئاً؟ قلت : نعم ، قال : إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلاّ أني علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها . « فلم أكن لأفشي سرّه ، ولو تركها لقبلتها » .
أقول : هذه لعَمْرُ الحق هي الشهامة الحقة ، بل هذه هي الرجولة الصادقة ، تظهر في فعل الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه فهو يريد أن يصون عرضه ، فلا يرى في نفسه غضاضة أن يعرض ابنته على الكفء الصالح ، لأنّ الزواج خير وسيلة للمجتمع الفاضل ، فأين نحن اليوم من جهل المسلمين بأحكام الإسلام وجماله الناصع؟ يتركون بناتهم عوانس حتى يأتي الخاطب ، ذو المال الكثير ، والثراء الوفير؟!
5- السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد حفصة بنت عمر ، وهي أرملة البطل المقدام شهيد الإسلام ( عبيدة بن الحارث ) بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه ، الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر ، وقد كانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى ، وتضميد جراحهم ، لم يشغلها استشهاد زوجها عن القيام بواجبها ، حتى كتب الله النصر للمؤمنين في أول معركة خاضوها مع المشركين . ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بصبرها وثباتها وجهادها وأنه لم يعد هناك من يعولها خطبها لنفسه وآواها ، وجبر خاطرها بعد أن انقطع عنها الناصر والمعين .
يقول فضيلة الشيخ ( محمد محمود الصواف ) في رسالته القيمة « زوجات النبي الطاهرات » بعد أن ذكر قصة استشهاد زوجها وما فيها من سموّ وعظمة : ( وكانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تعمّر عند النبي الكريم سوى عامين ، ثم توفاها الله إليه راضية مرضية . فما رأي الخراصين بهذا الزواج الشريف ، وغايته النبيلة؟ وهل يجدون فيه شيئاً مما يأفك الأفّاكون؟
أيجدون فيه أثراً للهوى والشهوة؟ أم هو النبل ، والعفاف ، والعظمة والرحمة ، والفضل ، والإحسان ، من رسول الإنسانية الأكبر ، الذي جاء رحمة للعالمين .(1/462)
فليتق الله المستشرقون المغرضون ، وليؤدوا أمانة العلم ولا يخونوها في سبيل غايات خبيثة استشرقوا ودرسوا العلوم الإسلامية خاصة للدس ، والكيد ، والنيل من سيد الأنسانية محمد عليه السلام ) .
6- السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وهي ثيب وهي ابنة عمته ، وكان قد تزوجها ( زيد بن حارثة ) ثمّ طلّقها فتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمة لا تعلوها حكمة في زواج أحدٍ من أزواجه ، وهي إبطال ( بدعة التبني ) كما مرّ معنا عند ذكر الحكمة التشريعية .
وهنا يحلو لبعض المغرضين ، الحاقدين على الإسلام وعلى نبي الإسلام ، من المستشرقين الماكرين ، وأذنابهم المارقين ، أن يتخذوا من قصة تزوج الرسول الكريم بزينب منفذاً للطعن في النبي الطاهر الزكيّ ، ويلِّفقوا الشبه والأباطيل ، بسبب بعض الروايات الإسرائيلية ، التي ذكرت في بعض كتب التفسير .
فقد زعموا - وبئسما زعموا - أن النبي عليه الصلاة والسلام مرّ ببيت زيد وهو غائب ، فرأى زينب فأحبها ووقعت في قلبه ، فقال : سبحان مقلّب القلوب ، فسمعت زينب ذلك فلما جاء زوجها أخبرته بما سمعت من الرسول ، فعلم أنها وقعت في نفسه ، فأتى الرسول يريد طلاقها فقال له : أمْسك عليك وفي قلبه غير ذلك . فطلّقها زيد من أجل أن يتزوج بها الرسول .
يقول ابن العربي رحمه الله في تفسيره ( أحكام القرآن ) رداً على هذه الدعوى الأثيمة : فأمّا قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل ، فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذٍ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ، ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ، قد وهبته نفسها ، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن ، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة ، وقد قال الله له : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] وقد تعقَّب - عليه رحمة الله - تلك الروايات الإسرائيلية وبيّن أنها كلها ساقطة الأسانيد .
إن نظرة بسيطة إلى تاريخ ( زينب ) وظروفها في زواج ( زيد ) تجعلنا نؤمن بأنّ سوء العشرة التي كانت بين زيد وزينب إنما جاءت من اختلافهما اختلافاً بيناً في الحالة الاجتماعية ، فزينب شريفة ، وزيد كان بالأمس عبداً وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ ( العصبيَّة القبليَّة ) والشرف الجاهلي ، وجعل الإسلام الشرف في ( الدين والتقوى ) فحين عرض الرسول على ( زينب ) الزواج من ( زيد ) امتنعت واستنكفت اعتزازاً بنسبها وشرفها فنزل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] .
فخضعت زينب لأمر الرسول ، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان من وراء ذلك الألم والضيق .(1/463)
ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يعرف زينب من الصغر ، لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدّم إنسان امرأة لشخص وهي ( بكر ) حتى إذا تزوجها وصارت ( ثيباً ) رغب فيها؟!
حقاً إنهم قوم لا يعقلون ، فهم يهرفون بما لا يعرفون ، ويقولون على الرسول كذباً وزوراً ، وبهتاناً وضلالاً ، ثم انظر إليهم وهم يقولون : إنّ الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب ، فهل يعقل مثل هذا البهتان؟ وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟ { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] .
ثمّ إن الآية صريحة كلّ الصراحة ، وواضحة كل الوضوح ، في هذا الشأن ، فقد ذكرت الآية الكريمة أنّ الله سيظهر ما أخفاه الرسول : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] فماذا أظهر الله تعالى؟ هل أظهر حبّ الرسول أو عشقه لزينب؟ كلا ثم كلا ، إنما الذي أظهره هو رغبته عليه السلام في تنفيذ أمر الله بالزواج بها لإبطال ( حكم التبني ) ، ولكنه كان يخشى من ألسنة المنافقين أن يقولوا : تزوج محمد حليلة ابنه ، ولهذا صرّح الباري جلّ وعلا بهذا الذي أخفاه الرسول : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ . . . } [ الأحزاب : 37 ] . وهكذا تبطل مزاعم المفترين أمام الحجج الدامغة ، والبراهين الساطعة ، التي تدل على عصمة سيِّد المرسلين ، وعلى نزاهته وطهارته مما ألصقه به الدسّاسون المغرضون .
7- السيدة هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها
تزوج الرسول الكريم بأم سلمة وهي أرملة ( عبد الله بن عبد الأسد ) وكان زوجها من السابقين الأولين إلى الإسلام ، وهاجر إلى الحبشة ، وكانت زوجته معه خرجت فراراً بدينها ، وولدت له ( سلمة ) في أثناء ذلك ، واستشهد زوجها في غزوة أحد ، فبقيت هي وأيتامها الأربعة بلا كفيل ولا معيل ، فلم ير عليه السلام عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها غير أن يتزوج بها . ولما خطبها لنفسه اعتذرت إليه ، وقالت : « إني مسنّة ، وإني أم أيتام ، وإني شديدة الغيرة » .
فأجابها عليه السلام وأرسل لها يقول : أما الأيتام فأضمهم إليّ ، وأدعو الله أن يذهب عن قلبك الغيرة ، ولم يعبأ بالسنّ ، فتزوجها عليه السلام بعد موافقتها ، وقام على تربية أيتامها ، ووسعهم قلبه الكبير ، حتى أصبحوا لا يشعرون بفقد الأب ، إذ عوّضهم أباً أرحم من أبيهم صلوات الله وسلامه عليه .
وقد اجتمع لأم المؤمنين النسب الشريف ، والبيت الكريم ، والسبق إلى الإسلام ، على أنّ لها فضيلة أخرى هي ( جودة الرأي ) ويكفينا دليلاً على ذلك استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما حزَنه وأهمّه من أمر المسلمين ، وما أشارت به عليه ، وذلك في ( صلح الحديبية ) فقد تأثر المسلمون بالغ التأثر من ذلك الصلح مع المشركين ، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط التي قدَّموها ، ورأوا في ذلك هضماً لحقوقهم ، مع أنهم كانوا ف يأوج عظمتهم ، وكان من أثر هذا الاستياء ، أنهم تباطئوا عن تنفيذ أمر الرسول حين أمرهم بالحلق أو التقصير لأجل العودة إلى المدينة المنورة ، فلم يمتثل أمره أحد ، فدخل الرسول على زوجه ( أم سلمة ) وقال لها هلك الناس ، أمرتُهم فلم يمتثلوا فهوّنت عليه الأمر ، وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق رأسه أمامهم ، وجزمت بأنهم لا يتردّدون حينذاك عن الاقتداء به .(1/464)
لأنهم يعلمون أنه صار أمراً مبرماص لا مرد له ، وكذلك كان ، فما أن خرج الرسول وأمر الحلاق بحلق رأسه ، حتى تسابقوا إلى الاقتداء به صلوات الله عليه فحلقوا وتحلّلوا وكان ذلك بإشارة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها .
8- السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
وفي سنة سبع من الهجرة تزوج الرسول الكريم بالسيدة ( أم حبيبة ) رضي الله عنها وهي أرملة ( عبيد الله بن جحش ) مات زوجها بأرض الحبشة ، فزَّوجها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة ، وقد تقدمت الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها فيما سبق .
9 - 10 - السيدة جويرية بنت الحارث والسيدة صفية بنت حيي رضي الله عنهما
وتزوج الرسول الكريم بالسيدة ( جويرية بنت الحارث بن ضرار ) سيَّد بني المصطلق ، وهي أرملة ( مُسَافع بن صفوان ) الذي قتل يوم المريسيع ، وترك هذه المراة فوقعت في الأسر بيد المسلمين ، وكان زوجها من ألدّ أعداء الإسلام وأكثرهم خصومة للرسول ، وقد تقدم معنا الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها ، كما تقدم الحديث عن ( صفية بنت حُيّي بن أخطب ) عند الكلام على الحكمة السياسية .
11- السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
كان اسمها برّه فسمّاها عليه السلام ( ميمونة ) وهي آخر أزواجه صلوات الله عليه ، وقد قالت فيها عائشة : أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم ، وهي أرملة ( أبي رهم بن عبد العزى ) وقد ورد أن العباس رضي الله عنه هو الذي رغّبه فيها ، ولا يخفى ما زواجه بها من البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروا الرسول ونصروه .
خاتمة البحث :
وبعد :
فهذه لمحة عن أمهات المؤمنين ، زوجات الرسول الطاهرات ، اللواتي أكرمهن الله بصحبة رسوله ، وجعلهن أمهات للمؤمنين ، وخاطبهن بقوله جل وعلا :
{ يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [ الأحزاب : 32 ] وقد كان زواج الرسول بهنَّ لحكم كثيرة ، راعى فيها الرسول مصلحة الدين والتشريع ، وقصد تأليف القلوب ، فجذب إليه كبار القبائل ، وكرام العشائر .
وجميع زوجات الرسول ( أرامل ) ما عدا السيدة عائشة ، وقد عدّد الرسول زوجاته بعد الهجرة في السنة التي بدأت فيها الحروب بين المسلمين والمشركين ، وكثر فيها القتل والقتال ، وهي من السنة الثانية للهجرة إلى السنة الثامنة التي تمّ فيها النصر للمسلمين ، وفي كل زواج ظهر لنا الدليل الساطع على نبل الرسول ، وشهامته ، وسموّ غرضه ، وجميل إحسانه ، خلافاً لما يقوله الأفّاكون الدسّاسون فلو كان للهوى سلطان على قلب النبي لتزوج في حال الشباب ، رؤية ضياء الحق الساطع ، وصدق الله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] .(1/465)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
[ 5 ] من آداب الوليمة
التحليل اللفظي
{ يُؤْذَنَ لَكُمْ } : أي تُدْعوا إلى تناول الطعام ، والأصل أن يتعدى ب ( في ) تقول : أذنت لك في الدخول ، ولا تقول أذنت لك إلى الدخول ، ولكنّ اللفظ لما ضُمّن معنى ( الدعوة ) عُدّي ب ( إلى ) بدل ( في ) ومعنى الآية : لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ إذا دعيتم إلى تناول الطعام .
قال الزمخشري : ( إلا أن يُؤذن ) في معنى الظرف تقديره : وقت أن يُؤذن لكم .
{ ناظرين إِنَاهُ } : أي متظرين نصجه ، قال في اللسان : وإنى الشيء : بلوغُه وإدراكه ، وفي التنزيل : { غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ } أي غير منتظرين نضجه وإدراكه وبلوغه ، تقول : أنى يأني إذا نضِج إنىً أي نضجاً ، والإنى بكسر الهمزة والقصر : النضجُ . فهو على هذا مصدر مضاف إلى الضمير .
ويرى بعض المفسّرين أنه ظرف بمعنى ( حين ) وهو مقلوب ( آن ) بمعنى ( حان ) فعلى الأول يكون المعنى : غير منتظرين نضجه ، وعلى الثاني يكون المعنى : غير منتظرين وقته أي وقت إدراكه ونضجه ، وهما متقاربان .
{ فانتشروا } : أي اخرجوا وفترقوا ، يقال انتشر القوم : أي تفرقوا ومنه قوله تعالى :
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } [ الجمعة : 10 ] أي تفرقوا في الأرض لطلب الرزق والكسب .
{ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } : معنى الاستئناس : طلب الأنس بالحديث لأن السين والتاء للطلب تقول استأنَسَ بالحديث : أي طلب الأنس والطمأنينة والسرور به . وتقول : ما بالدار أنيس ، أي ليس بها أحد يؤانسك أو يسليّك ، وقد كان من عادة الناس أنهم يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلاً ، ويأنسون بحديث بعضهم بعضاً فعلّمهم الله الأدب ، وهو أن يتفرقوا بعد تناول الطعام ، ولا يثقلوا على أهل البيت ، لأن المكث بعده فيه نوع من الإثقال .
{ إِنَّ ذلكم } : اسم الإشارة راجع إلى الدخول بغير إذن ، والمكث عقب الطعام للاستئناس بالحديث ، وقيل : هو راجع إلى الأخير خاصة ، ومعنى الآية : إن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي .
{ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } : أي يستحي من إخراجكم من بيته ، والله لا يستحي من بيان الحق فهو على حذف مضاف .
{ متاعا } : المتاع : الغرض والحاجة كالماعون وغيره ، وهو في اللغة : ما يستمتع به حسياً كان كالثوب والقدر والماعون ، أو معنوياً كمعرفة الأحكام الشرعية والسؤال عنها ، وقد يأتي المتاع بمعنى التمتع بالشيء والانتفاع به كما قال تعالى : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } [ الحديد : 20 ] وفي الحديث الشريف : « الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة » .
{ حِجَابٍ } : أي ساتر يستره عن النظر ، قال في « اللسان » : حجبَ الشيءَ يحجبُه أي ستره ، وقد احتجب وتحجّب إذا اكتنّ من وراء حجاب ، وامرأة محجوبة قد سترت بستر ، والحجاب : اسم ما احتجب به ، وكل ما حال بين شيئين فهو حجاب . قال تعالى : { بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] .
ومعنى الآية : إذا سألتموهن شيئاً مما يستمتع به وينتفع فاسألوهن من وراء ستر وحجاب .(1/466)
{ أَطْهَرُ } : أي أسلم وأنقى ، أفعل تفضيل من الطهارة بمعنى النزاهة والنقاء ، والمعنى : سؤالكم للنساء من وراء حجاب أكثر نقاءً وتنزيهاً لقلوبكم وقلوبهن من الهواجس والخواطر التي تتولد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء ، وأبعد عن الريبة وسوء الظنّ .
المعنى الإجمالي
أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يتأدبوا بالآداب الإسلامية الكريمة ، ويتمسكوا بما شرعه لهم من التوجيهات والإرشادات الحكيمة ، التي بها صلاح دينهم ودنياهم وخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمقام النبوّة لا يعادله مقام ، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم - سواء كان بالقول أو الفعل - منأعظم الكبائر عند الله ، وقد ألزمنا الله سبحانه بتلك الآداب الفاضلة ، وأمرنا بالتمسك بها ، حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام ، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمرين هامين :
الأول : الأدب في أمر الطعام والاستئذان ودخول البيوت ( أدب الوليمة ) .
الثاني : الأدب في مخاطبة النساء ، وعدم الاختلاط بهن أو الخلوة أدب ( الحجاب الشرعي ) .
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اي أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي إلا بعد الإذن ، ولا تترقبوا أوقات الطعام فتدخلوا عليه فيها ، أو تنتظروا أن يحين وقت نضج الطعام فتستأذنوا عليه في الدخول ، إلا إذا كنتم مدعوَّين إلى وليمة قد أعدّها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك إذا دعيتم وطعمتم فاخرجوا وتفرقوا ولا تثقلوا على الرسول الكريم بالجلوس بعد الطعام ، فإن حياءه يمنعه أنيأمركم بالانصراف ، أو يظهر لكم الامتعاض من جلوسكم في بيته ، فهو ذو الخلق الرفيع ، والقلب الرحيم ، لا يصدر منه إلا ما يسرّكم ، فلا يليق بكم أن تثقلوا عليه ، أو تؤذوه في نفسه أو أهله ، وإذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات ، فاسألوهن من وراء حاجز وحجاب ، لأن ذلك أزكى لقلوبكم وقلوبهن ، وأنفى للريبة ، وأبعد عن التهمة ، وأطهر لبيت النبوة .
ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تؤذوا رسولكم ، الذي هداكم الله به وأخرجكم من الظلمات إلى النور ، فهو كالوالد لكم ، وأزواجه كالأمهات لكم ، وهل يصح لمؤمن أن يتزوج أمه؟ فلا تؤذوه في حياته ولا بعد مماته ، ولا تتزوجوا بأزواجه من بعده أبداً ، فإن إيذاء الرسول ، ونكاح أزواجه من بعد وفاته ، ذنب عظيم عند الله لا يغفره الله لكم أبداً ، وهو عند الله بالغ الذنب والعقوبة .
سبب النزول
تعرضت الآية الكريمة لأمرين هامين هما « آداب الدعوة » و « مشروعية الحجاب » ولكل منهما سبب نزول .
أما الأول : فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله فصنعت ( أم سليم ) أمي حَيْساً فجعلته في تَوْر وقالت يا أنس إذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت به إليك أمي ، وهي تقرئك السلام وتقول لك : إن هاذ منا قليل يا رسول الله!!
قال : فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له : إن أمي تقرئك السلام وتقول لك : إن هذا لك منا قليل يا رسول الله ، فقال : ضعه ثم قال : إذهب فادع لي فلاناً وفلاناً ، ومن لقيتَ وسمَّى رجالاً ، فدعوت من سَمَّى ومن لقيتُ ، قيل لأنس : عدد كَمْ كانوا؟ قال : زهاء ثلاثمائة ، قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنس هات التور ، قال فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه ، فأكلوا حتى شبعوا ، قال : فخرجت طائفة ، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم ، فقال لي يا أنس : ارفع ، فما أدري حين وضعتكان أكثر أم حين رفعت؟ وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وزوجُه موليَّة وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على نسائه ثم رجع فلما ، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتَدرُوا الباب وخرجوا كلهم ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحُجْرة فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزل الله هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس .(1/467)
ثانياً : وأما بالنسبة لمشروعية الحجاب فقد كان سبب النزول ما روي في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } الآية . وهذه إحدى الموافقات الثلاثة التي نزل القرآن الكريم فيها موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه .
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزل : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وفي الحجاب فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت : عسى ربه إن طلقكُنَّ أن يُبْدِلَه أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك » .
وقد ذكرت روايات أخرى في أسباب النزول ولكنها كما قال ابن العربي كلُّها ضعيفة واهية ما عدا الذي ذكرنا .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { بُيُوتَ النبي } إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف ، مثل { نَاقَةَ الله } [ الشمس : 13 ] و ( بيت الله ) الإضافة فيها للتكريم والتشريف فلبيوت النبي صلى الله عليه وسلم من الحرمة ما ليس لغيرها من البيوت ، وهذه الأحكام ملذكورة هنا خاصة ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم تكريماً له عليه السلام وتشريفاً .(1/468)
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } في الكلام باء محذوفة تسمّى ( باء المصاحبة ) أي إلاّ بأن يؤذن لكم . وتضمين ( الإذن ) معنى ( الدعوة ) للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن وجد صريح الإذن بالدخول ، حتى لا يكون الإنسان ( طفيلياً ) يحضر الوليمة بدون سابق دعوة .
وممّا يدل على هذا التضمين قوله تعالى بعدها : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } فإنها صريحة في أن المرا د بالإذن ( الدعوة ) فتنبه لهذا السّر فإنه دقيق .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } قال الإمام الرازي : « فيه لطيفة وهي أن في العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير أذن : لا تدخلها إلاّ بإذن ، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً ولا بالدعاء ، فقال : لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون ، بل كونوا طائعين سامعين ، إذا قيل لكم : لا تدخلوا فلا تدخلوا ، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا » . وهذا معنى لطيف .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } فيه إشارة لطيفة أن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ، فالأمر أمر وليمة وقد انتهت ، ولم يبق إلاّ أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم ، والبقاء بعد ذلك فيه نوع من الأثقال غير محمود .
قال بعض العلماء : هذه الآية نزلت في الثقلاء ، وقرأها بعضهم فقال : « هذا أدب من الله تعالى أدَّب به الثقلاء » ويروى عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما : « حسبُك في الثقلاء أنّ الشرع لم يحتملهم » .
وأنشد بعض الفضلاء :
وثقيلٍ أشدّ من ثِقَل المو ... ت ومن شدّة العذابِ الأليم
لو عصت ربَّها الجحيمُ لما كا ... ن سواهُ عقوبةً للجحيم
وقال آخر :
ربّما يثقُل الجليس ولو كا ... ن خفيفاً في كِفّة الميزان
ولقد قلتُ حين وتّد في البي ... تِ ثقيل أربى على سهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ ... حملت فوقها أبا سفيان؟!
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } الاستحياء لا يكون من الذات ، وإنما يكون من الأفعال ، بدليل قوله تعالى : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } ولم يقل : والله لا يستحيي منكم والكلام فيه حذف تقديره : فيستحيي من إخراجكم أو من أمركم بالانصراف والله لا يستحيي من بيان الحق ، وأطلق استحياء الله وأراد منه عدم السكوت عن بيانه ، فسمّي السكوت عليه استحياءً على ( طريق المشاكلة ) لوقوعه بجانب استحياء الرسول على حد قول القائل :
قالوا اقترحْ شيئاً نُجد لك طبخه ... قلتُ اطبخوا لي جُبّة وقميصاً
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فيه إشارة دقيقة إلى ما بين العين والقلب من صلة وثيقة ، فالعين طريق الهوى والنظرة بريد الشهوة ، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب ، وكما قال بعض الأدباء :(1/469)
وما الحبّ إلاّ نظرة إثر نظرةٍ ... تزيد نمواً إن تزدْه لَجَاجاً
فالقلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } الإشارة في قوله { ذلكم } يعود إلى ما ذُكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ، ونكاح أزواجه من بعده ، وقد جاء التعبير بلفظ { ذلكم } ولم يأت بلفظ ( هذا ) للتهويل والتعظيم .
قال أبو السعود : « وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرّ والفساد . وقوله : { كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } أي أمراً عظيماً ، وخطباً هائلاً ، لا يُقادر قدرُه ، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً ما لا يخفى ، ولذلك بالغ تعالى في الوعيد » .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { غيرَ ناظرين } بفتح راء ( غيرَ ) نصباً على الحال ، وقرأ ( ابن أبي عبلة ) بالكسر صفة لطعام ، قال الزمخشري وليس بالوجه لأنه جرى على غير من هوَ له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، قال أبو حيان : وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيّين إذا لم يلبس .
ثانياً : قرأ الجمهور ( إناه ) مفرداً ، وقرأ الأعمش ( إناءه ) بمدّة بعد النون ، وعلى الأول يكون المعنى : غير ناظرين نضجه ، وعلى الثاني يكون المعنى غير ناظرين وقته أو حِينه والله أعلم .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } الآية .
الاستثناء هنا استثناء مفرّع من عموم الأحوال ، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم ، وتكون ( باء المصاحبة ) مقدرة في الكلام .
وذهب الزمخشري : إلى عدم تقدير الباء ، وإلى أن الاستثناء مفرغ من عموم الأوقات ، والمعنى : لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلاّ وقت الإذن .
وقد ردّ ( أبو حيان ) هذا فقال : وهذا ليس بصحيح ، وقد نصوا على أنّ ( أنْ ) المصدرية لا تكون في معنى الظرف ، تقول : أجيئك صياح الديك ، وقدوم الحاج ، ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك ، ولا أن يقدم الحاج .
والمسألة خلافية في خلافيات النحاة : والأشهر أنه لا يجوز ، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال ، فتقول : ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا .
ثانياً : قوله تعالى : { غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ } الآية .
غيرَ ، منصوب على الحال من الواو في { تَدْخُلُواْ } وإن أُجري وصفاً لطعامٍ { غَيْرَ ناظرين } على القراءة الثانية وجب إبراز الضمير ، فكان ينبغي أن يقال : إلى طعامٍ غير ناظرين إناه أنتم ، وقد بينا ما فيه عند ذكر وجوه القراءات .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } الآية .(1/470)
{ مُسْتَأْنِسِينَ } عطف على { غَيْرَ ناظرين } و ( لا ) لتأكيد النفي ، وجوّز بعض المفسّرين أن تكون ( لا ) بمعنى غير معطوفة على غير ناظرين إناه ويصبح المعنى : غير ناظرين إناه ، وغير مستأنسين لحديث .
ويرى البعض أن { مُسْتَأْنِسِينَ } حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام ، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث ، واللام في قوله ( لحديث ) لام التعليل أي لأجل استماع الحديث ، أو هي لام التقوية .
رابعاً : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } الآية .
أنْ وما بعدها في تأويل مصدر اسم كان ، والتقدير : وما كان لكم إيذاء رسول الله ، وكذلك قوله تعالى : { وَلاَ أَن تنكحوا } لأنه عطف عليه ، أفاده ابن الأنباري .
خامساً : قوله تعالى : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } اسم الإشارة اسم ( إنَّ ) وجملة { كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } خبرها والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجوز تناول الطعام بدون دعوة؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن . ولا يجوز تناول طعام الإنسان إلا بإذن صريح أو ضمني ، لقوله عليه السلام : « لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفسه » .
وقد دلت الآية الكريمة على حرمة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الإذن ، وعلى حرمة ( التطفل ) وهو أن يحضر إلى الوليمة بدون دعوة ، وفاعله يسمى ب ( الطفيلي ) ، والحكم عام في جميع البيوت ، فلا يجوز لإنسان أن يدخل بيت أحد بدون إذنه ، ولا أن يتناول الطعام بدون رضى صاحبه ، وهذا أدب رفيع من الآداب الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام .
قال ابن عباس : كان ناس يتحيَّنون طعامه عليه الصلاة والسلام ، فيدخلون عليه قبل الطعام ، وينتظرون إلى أن يدرك ، ثمّ يأكلون ولا يخرجون ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت هذه الآية .
وقال ابن كثير رحمه الله : « حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك ، وذلك من إكرامه تعالى لهذه الأمة ، ومعنى الآية : أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمه . . ثمّ قال : وهذا دليل على تحريم التطفل ، وهو الذي تسميه العرب » الضيفن « .
الحكم الثاني : هل الجلوس بعد تناول طعام الوليمة حرام؟
دلّ قوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } على ضرورة الخروج بعد تناول الطعام ، وهذا من الآداب الإسلامية التي أدّب الله بها المؤمنين ، فالمكث والجلوس بعد تناول الطعام ليس بحرام ، ولكنّه مخالف لآداب الإسلام ، لما فيه من الإثقال على أهل المنزل سيما إذا كانت الدار ليس فيها سوى بيت واحد ، اللهمَّ إلا إذا كان الجلوس بإذن صاحب الدار أو أمره ، أو كان جلوساً يسيراً تعارفه الناس ، لا يصل إلى حدّ الإثقال المذموم .(1/471)
ومع ذلك فالأفضل الخروج ، ولهذا جاء التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب { فانتشروا } .
فالمكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ولم يبق إلا أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم ، والبقاء بعد ذلك نوع من الإثقال غير محمود ، يتنافى مع الأدب الرفيع ، والذوق السليم .
الحكم الثالث : هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي أم هو عام؟
الآيات الكريمة وردت في شأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، تعظيماً لرسول الله ، وتكريماً لشأنه ، ولكنّ الأحكام التي فيها عامّة تعمُّ جميع المؤمنين ، لأنها آداب اجتماعية ، وإرشادات إلهية ، يستوي فيها جميع الناس ، فالأمر بعدم الاختلاط بالنساء ، وبسؤالهن من وراء حجاب ، ليس قاصراً على أزواج الرسول ، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين ، فإذا كان نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز الاختلاط بهن ، ولا النظر إليهن ، مع أنهن ( أمهات المؤمنين ) يحرم الزواج بهن ، ولا يجوزسؤالهن إلا من وراء حجاب ، فلا شكَّ أن الاختلاط بغيرهن من النساء ، أو التحدث إليهن بدون حجاب ، يكون حراماً من باب أولى ، لأن الفتنة بالنساء متحققة .
ثمّ إنّ أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل هو عام لجميع نساء المؤمنين ، بدليل قوله تعالى في آخر السورة { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] .
فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟ وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول حتى يزعم بعض المضِلّين ، أن الحجاب مفروض على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء؟!
وسنتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن هذا الموضوع عند بحث ( الحجاب الشرعي ) ونبيّن تلك المزاعم الواهية التي احتج بها بعض المتحللين ، ونبطلها بالحجج الدامغة ، فارجع إليها هناك واله يتولاّك .
الحكم الرابع : هل الطعام المقدّم للضيف على وجه التمليك أم الإباحة؟
أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } إلى أنّ الطعام الذي يقدّم للضيف لا يكون على وجه التمليك ، وإنما هو على وجه الإباحة ، فلو أراد الضيف أن يحمل معه الطعام إلى بيته لا يجوز له ذلك لأن المضيف إنما أباح له الأكل فقط دون التملك له أو أخذه أو إعطائه لأحد .
قال العلامة القرطبي : « في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف ، لا على ملك نفسه لأنه تعالى قال : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } فلم يجعل له أكثر من الأكل ، ولا أضاف إليه سواه ، وبقي الملك على أصله » .
الحكم الخامس : هل زال النكاح عن أمهات المؤمنين بموت النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال القرطبي : ف يتفسيره « الجامع لأحكام القرآن » : اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت ، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟
فقيل : عليهن العدة ، لأنه تُوفي عنهن ، والعدة عبادة .(1/472)
وقيل : لا عدة عليهن ، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة .
قال : والقول الثاني هو الصحيح لقوله عليه السلام : « ما تركتُ بعد نفقة عيالي » وروي ( أهلي ) وهذا اسم خاص بالزوجية ، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه ، وحرمن على غيره ، وهذا هو معنى بقاء النكاح . وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره ، لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً ، بخلاف سائر الناس ، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة ، فربما كان أحدهما في الجنة ، والآخر في النار ، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق ، وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام : « كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع ، إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة » .
فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبيّة وغيرها ، فهل كان حيل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف ، والصحيح جواز ذلك ، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها ( عكرمة بن أبي جهل ) على ما تقدم ، وقيل : إن الذي تزوجها ( الأشعث بن قيس الكندي ) .
قال القاضي أبو الطيب : الذي تزوجها ( مهاجر بن أبي أمية ) ولم ينكر ذلك أحد ، فدلّ على أنه إجماع .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- النهي عن دخول بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، وبدون سابق دعوة .
2- لا ينبغي الحضور قبل نضج الطعام ، ولا المكث بعد تناول اطعام الوليمة .
3- وجوب احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ، وأمتثال أوامره وتقديم طاعته على كل شيء .
4- حرمة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالأقوال أو الأفعال ، والتأدب معه في جميع الأحوال .
5- حرمة نكاح أمهات المؤمنين من بعد وفاته لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- خلق الرسول الرفيع يمنعه من أمر الناس بالخروج من منزلة فينبغي عدم الإثقال عليه .
7- نساء الرسول صلى الله عليه وسلم هنّ القدوة والأسوة الحسنة لسائر النساء فينبغي مخاطبتهن من وراء حجاب .
8- في عدم الاختلاط بالنساء صفاء النفس ، وسلامة القلب ، ونقاء السريرة ، والبعد عن مظان التهم .
9- الآداب التي أرشد إليها القرآن ينبغي التمسك بها وتطبيقها تطبيقاً كاملاً .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرّم الله تعالى على المؤمنين دخول بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون إذن ، تكريماً لرسول الله عليه السلام وتعظيماً لشأنه ، ومنع الناس من الإثقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً بالدخول إلى بيوته دون سابق دعوة ، أو المكث فيه بعد تناول طعام الوليمة لأن في ذلك إثقالاً على الرسول الكريم ، وإيذاءً له ، والتطفلُ والإثقال على أهل الدار ليس من أوصاف المؤمنين ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، وكان - كما تقول السيدة عائشة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها ، ولم يكن من خلقة الكريم أن يجابه أحداً بما يكره ، مهما أصابه الأذى والضرر ، ولا من عادته أن يأمر الزائر بالانصراف مهما طال المكث والبقاء ، لأنّ هذا لا يتفق مع خُلُق الداعية ، فكيف بخلق النبوة وأوصاف سيد المرسلين!!(1/473)
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ]
وان بعض الناس - ممن لم تتهذب أخلاقهم بعد - يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام ، ويقعدون إلى أن ينضج ، ثم يأكلون ولا يخرجون . . فكان الناس بحاجة إلى أن يتعلموا الآداب الرفيعة ، وأن يكون عندهم ( ذوق اجتماعي ) وشعور رقيق ، يمنعهم عن ارتكاب النقائض ، وفعل ما يخل بالمروءة ، لذلك أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة تعلمياً للأمة وإرشاداً لها إلى سلوك الطريق القويم ، وقد قال إسماعيل بن أبي حكيم : « هذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء » .
وقال آخر : هذه الآية نزلت في الثقلاء ، وحسبُكَ من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم .
ولقد كان هناك من بعض المنافقين إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل أو القول ، حتى قال رجل من المنافقين حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة : ما بال محمد يتزوج نساءنا!! والله لو قد مات لأجلنا السّهام على نسائه ، يريد اقتسمناهن بالقرعة ، فنزلت الآية في هذا ، فحرّم الله نكاح أزواجه من بعده ، وجعل لهن حكم الأمهات تطييباً لخاطره الشريف وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام أب للمؤمنين ، وهل يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وهي أُمّه بنصّ القرآن الكريم!! وصدق الله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أزواجه مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } .(1/474)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
[ 6 ] الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
التحليل اللفظي
{ يُصَلُّونَ } : الصلاة في اللغة معناها : الدعاء والاستغفار ، ومنه قوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ } [ التوبة : 103 ] أي أدع لهم بالمغفرة والرحمة قال الأعشى :
عليكِ مثلَ الذي صلّيتِ فاغتمضي ... نوماً فإنّ لجنب المرء مضطجعاً
مضجعاً ... أي لك من الدعاء مثل ما دعوتِ لي به .
وسميت الصلاة المفروضة صلاة لما فيها من الدعاء والاستغفار ، وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى » ، قال الأزهري : هي بمعنى الرحمة ، أي ارحم آل أبي أوفى ، وقال الشاعر :
صلّى على عزّة الرحمن وابنتِها ... ليلى وصلّى على جاراتها الأخر
قال ابن عباس : « أراد أنّ الله تعالى يرحمه ، والملائكة يدعون له ويبرّكون » .
وقال أبو العالية : « صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاتهم دعاؤهم له » .
{ النبي } : قال الجوهري : والنبي : المخبر عن الله عز وجلّ ، لأنه أنبأ عنه وجمعه أنبياء ، وفي « النهاية » : يجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه .
قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول تنبّأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرّية والبريّة ، إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف ، ثم قال : والهمز في ( النبيّ ) لغة رديئة ، واشتقاقه من نبأ وأنبأ أي أخبر .
وجمع النبيء : أنْبِئَاء ونُبَآء .
قال ابن مرداس :
يا خاتم النّبَآء إنّك مرسلٌ ... بالخبر كلّ هُدى السبيل هُداكا
إنّ الألاه ثَنَى عليك محبةً ... في خلقِهِ ومحمّداً أسماكا
أقول : كل ما ورد في القرآن من خطاب للنبي أو الرسول فإنما يقصد به محمد عليه الصلاة والسلام ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين .
{ يُؤْذُونَ الله } : إيذاء اللَّهَ : وصفُه بما لا يليق به جلّ وعلا كقول اليهود : ( يد الله مغلولة ) ، و ( عزير بن الله ) ، وقول النصارى : المسيح ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة ، وقول كفار قريش : الملائكة بنات الله ، وسائر ما لا يرضي الله عز وجلّ من الكفر والعصيان .
وإيذاء الرسول كقولهم عنه بمجنون ، شاعر ، ساحر ، كذّاب ، أو إلحاق الأذى به كشجّ وجهه الشريف وكسر رباعيته في أُحد ، وأمثال ذلك من الأذى الحسي أو الأدى المعنوي ، الذي كان يحلقه به المنافقون والكفار .
{ لَعَنَهُمُ الله } : اللعن : الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجلّ ، قال تعالى : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] .
{ بُهْتَاناً } : البهتان : الافتراء والكذب الواضح ، وهو من البهت بمعنى التحيّر .
قال في اللسان : بهت الرجل يبهتُه بهتاناً ، وباهته : استقبله بأمرٍ يقذفه به وهو منه برئ ، والبهتان : الباطل الذي يتحير من بطلانه .
{ مُّبِيناً } : بيناً ظاهراً لأنه واضح الكذب والبهتان ، تقول : بان الشيء ، وبان الأمر ، وبان الحق ، إذا ظهر جلياً واتضح ، قال الشاعر :(1/475)
فبان للعقل أن العلم سيِّدُه ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا
وتسمّى البيّنة لأنها تكشف الحق وتظهره .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ وعلا بما ناله الرسول الكريم ، من جاهٍ عظيم ، ومنزلة سامية ، ومكانة رفيعة عند الله اتعالى ، وما له من السيادة والمقام المحمود في الملأ الأعلى ، وما خصّه الله تعالى به من الثناء العاطر ، والذكر الحسن ، فيقول الله تعالى ما معناه :
« إن الله تعالى يرحم نبيه ، ويعظم شأنه ، ويرفع مقامه ، وملائكته البرار ، وجنده الأطهار ، يدعون للنبي عليه السلام ويستغفرون له ، ويطلبون من الله أن يبارك ويمجّد عبده ونبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويُنيله أعلى المراتب ، ويُظْهر دينه على جميع الأديان ، ويُجْزل له الأجر والثواب ، على ما قدّم لأمته من خير عميم ، وفضل جسيم . . . في أيها المؤمنون : صلّوا أنتم عليه ، وعظّموا أمره ، واتبعوا شرعه ، وأكثروا من الصلاة عليه والتسليم ، فحقه عليكم عظيم ، ومهما فعلتم فلن تؤدوه حقه ، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى ، وبه أخرجكم الله من الظلمات إلى النور { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] فقولوا كلما ذكر اسمه الشريف : اللهم صل على محمد وسلّم تسليماً كثيراً ، وادعوا الله أن يجزيه عنكم خير الجزاء .
ثمّ أخبر تعالى أن الذين يؤذون الله ورسوله قد استحقوا غضب الله ولعنته عليهم في دنياهم وآخرتهم ، وأنّ الله أعدّ لهم عذاباً شديداً لا يُدْرك كنهه ولا يُعْرف هوله ، وكذلك الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات ، فنسبوا إليهم ما لم يفعلوه ، واتهموهم بالكذب ، والزور ، والبهتان ، وتقوّلوا على ألسنتهم ، ما لم يقولوه ، هؤلاء الذين فعلوا ذلك لهم أيضاً عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ما اقترفوا من سيِّئ الأعمال .
وجه الارتباط بالآيات الكريمة السابقة
في الآيات الكريمة السابقة كان الحديث عن حرمة دخول بيوت النبي . وعن حرمة نكاح أزواجه الطاهرات ، وقد بيّن تعالى فيها أن شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول عليه الصلاة والسلام ، لما له عليهم من حق عظيم ، وفي هذا توجيه وإرشاد إلى تكريمه صلى الله عليه وسلم وحياطة لمقامه الشريف وهنا بيّن تعالى أن الله يكرّم نبيّه ويرحمه ويعلى شأنه ، وملائكتُه كذلك ، فكيف لايكرّمه المؤمنون مع أن الله يصلّي عليه؟ وهو لا يستحق إلا كلّ تكريم وتمجيد ، فكأنه قيل لهم : لا ينبغي لكم أن تؤذوه ، فإن الله يصلّي عليه وملائكته ، فهذا وجه الارتباط والله تعالى أعلم .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { إنّ اللَّهَ وملائكتُه } بالرفع ويكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ الله يصلي ، وملائكته يصلّون .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { يُصَلُّونَ عَلَى النبي } الجملة الفعلية في محل رفع خبر ( إنّ ) .(1/476)
2- قوله تعالى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } ( سلّموا ) أمر ، و ( تسليماً ) مفعول مطلق منصوب .
3- قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } اسم الموصول اسم ( إنّ ) والخبر جملة { لَعَنَهُمُ الله } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ } .
ورد ذكر الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة ، فجاء الخبر مؤكداً ب ( إنّ ) اهتماماً به ، وجيء بالجملة اسمية لإفادة الدوام ، وكانت الجملة إسمية في صدرها ، { إِنَّ الله } فعليه في عجزها { يُصَلُّونَ } للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى ، والتمجيد الدائم يتجدّد وقتاً فوقتاً على الدوام ، فتدبّر هذا السرّ الدقيق .
اللطيفة الثانية : قد يقول قائل : إذا صلّى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا عليه؟
نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها ، وإلاّ فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه عليه السلام ليثيبنا الله تعالى عليه ، ولهذا قال عليه السلام : « من صلّى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشراً » فصلوات ربي وسلامه عليه .
اللطيفة الثالثة : قال الإمام الفخر : الصلاة الدعاء ، يقال في اللغة صلّى عليه : أي دعا له ، وهذا المعنى غير معقول في حقّ الله تعالى ، فإنه لا يدعو له ، لأنّ الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث ، والجوابُ : أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً ، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظٍ جائز وهذا مذهب الشافعي رحمه الله ، فالصلاة من الله بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار ، وهما يشتركان في العناية بحال المرحوم ، والمستغفر له ، والمراد هو القدر المشترك .
اللطيفة الرابعة : أمرنا الله بالصلاة على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكان يكفي أن نقول صلينا عليه أو يقول الإنسان : أصلي عليه ، فلماذا نقول عند الصلاة عليه : اللهم صلِّ على محمد؟
والجواب : أنَّ الله لما أمرنا بالصلاة عليه ، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك ، أحلناه على الله تعالى ، وقلنا : اللهم صلّ أنت على محمد ، لأنك أعلم بما يليق به ، فنحن عاجزون عن توفيته حقه ، وقاصرون عن معرفة الثناء الذي يليق بقدره ، وقد أوْكّلْنا الأمر إليك . فتدبر سرّ هذه الجملة ( اللهم صل على محمد ) فإنه نفيس ودقيق .
اللطيفة الخامسة : قال بعض العلماء : معنى قولنا : اللهم صل على محمد أي عظِّمْه في الدنيا بإعلاء ذكره ، وإظهار دعوته ، وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته ، وتضعيف أجره ومثوبته ، وإعطائه المقام المحمود .
فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
1- عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى في وجهه ، فقلنا إنّا لنرى البشرى في وجهك!! فقال : « إنه أتاني الملك فقال يا محمد : إن ربك يقول : أما يرضيك أنه لا يصل عليك أحد إلا صليت عليه عشراً ، ولا يسلّم عليك أحد إلا سلّمت عليه عشراً؟ . . . » .(1/477)
- وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة » .
- وقال صلى الله عليه وسلم : « البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصلّ عليّ » .
اللهمّ اجعل صلواتك ، ورحمتك ، وبركاتك ، على سيّد المرسلين ، وإمام المتقين ، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، إنك سميع مجيب الدعاء .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي صيغة الصلاة والتسليم على النبي عليه السلام؟
صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت فيها طرق كثيرة من السنة النبوية المطهَّرة ، وقد ذكرت فيها صور مختلفة عن كيفية الصلاة عليه من المؤمنين ، واختلافُها يشعر بأن الغرض ليس تحديد ( كيفية خاصة ) وإنما هي ألوان من التعظيم والثناء له عليه السلام ، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات ، لأنّ استيعابها يطول ، فنقول ومن الله نستمد العون :
أولاً : روى الشيخان عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال : قال رجل يا رسول الله : أمّا السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال قل : « اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد » .
ثانياً : وروى مالك وأحمد والشيخان عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : « اللهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد » .
ثالثاً : وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : أتانا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس ( سعد بن عُبادة ) فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك؟ فسكت حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال قولوا : « اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، والسلام كما علمتم » .
وفي بعض رواياته : « اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد » .
وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة .
وما دام المراد تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فأي عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها .
وأما التسليم فصيغته معروفة وهي أن يقول المؤمنون : السلام عليك يا رسول الله .
وفي التشهد يقول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
ومعنى التسليم : الدعاء بالسلامة من جميع البلايا والآفات والأسقام ، وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم : الانقياد وعدم المخالفة أي سلّموا لما يأمركم به والله أعلم .(1/478)
الحكم الثاني : ما معنى صلاة الله والملائكة على النبي عليه السلام؟
تقدّم معنا أن الصلاة في اللغة تأتي بمعنى ( الدعاء ) وتأتي بمعنى ( الرحمة ) وتأتي بمعنى ( التمجيد والثناء ) ومن الأخير قوله تعالى : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة من الله تعالى على نبيه معناها تمجيده والثناء عليه وإلى هذا ذهب البخاري وطائفة من العلماء وهو أظهر .
وقال آخرون : المراد بالصلاة على النبي رحمته ومغفرته إلى هذا ذهب الحسن البصري وسعيد بن جبير ، وقيل : المراد بها البركة والكرامة .
وأما صلاة الملائكة فمعناها : الدعاء له عليه السلام والاستغفار لأمته ، وعلى جميع الأقوال فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة .
ولما جاء اللفظ مجموعاً مضافاً إلى واو الجماعة { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } وكانت الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة لذلك فقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية على أقوال :
أ- فذهب بعضهم إلى أنّ في الآية حذفاً دلّ عليه السياق تقديره : إن الله يصلي على النبي ، وملائكته يصلون على النبي ، فتكون واو الجماعة راجعة إلى الملائكة خاصة ويؤيد هذا قراءة الرفع ( وملائكتُه ) وليس اللفظ مشتركاً بين الله تعالى وملائكته .
ب- وذهب بعضهم إلى أنه من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) وهو اختيار الفخر الرازي ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله ، فعنهد يجوز استمال اللفظ المشترك في معنييه معاً كما يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فيكون لفظ ( يُصلُّون ) عائداً إلى الله وإلى الملائكة بالمعنيين معاً ويصبح معنى الآية : ( إن الله تعالى يرحم نبيّه وملائكته يدعون له ) .
ج - وذهب جماعة إلى القول بأنه من باب ( عموم المجاز ) لا من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) فيقدِّرون معنى مجازياً عاماً ، ينتظم أفراداً كثيرة يشملها هذا اللفظ ، وهذا المعنى العام هو مثلاً ( العناية بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ) فالاعتناء يكون من الله تعالى على وجه ، ويكون من الملائكة على وجه آخر ، وهذا اختيار أبي السعود وأبي حيان والزمخشري ، وغيرهم من مشاهير المفسرين .
قال أبو السعود : قوله تعالى : { يُصَلُّونَ عَلَى النبي } قيل : الصلاة من الله تعالى الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، وقال ابن عباس : أراد أن الله يرحمه ، والملائكة يدعون له . . فينبغي أن يراد في { يُصَلُّونَ } معنى مجازي عام ، يكون كل واحد من المعاني المذكورة فرداً حقيقاً له ، أي يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره ، ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه ، وذلك من الله سبحانه بالرحمة ، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار .
وقال أبو حيان في « البحر المحيط » : « وصلاة الله غير صلاة الملائكة فكيف اشتركا؟ والجواب : اشتركا في قدّرٍ مشترك وهو إرادة وصول الخير إليهم ، فالله تعالى يريد برحمته إياهم وصول الخير إليهم ، والملائكة يريدون بالاستغفار ذلك » .(1/479)
الحكم الثالث : هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الندب أو الفرض؟
أمر الله سبحانه المؤمنين بالصلاة على نبيه الكريم ، وهذا لأمر للوجوب فتكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة ، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر ، بل لقد حكى ( القرطبي ) الإجماع على ذلك ، عملاً بما يقتضيه الأمر ( صلّوا ) من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد ، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها .
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبه ، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر ، بل لقد حكى ( القرطبي ) الإجماع على ذلك ، عملاً بما يقتضيه الأمر ( صلّوا ) من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد ، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها .
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل تجب في كل مجلس ، وكلما ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم ؟ أم هي مندوبة؟ وذلك بعد اتفاقهم على أنها واجبة في العمر مرة .
أ- فقال بعضهم : إنها واجبة كلَّما ذُكر اسم النبي عليه السلام .
ب- وقال آخرون : تجب في المجلس مرة واحدة ولو تكرَّر ذكره عليه السلام في ذلك المجلس مرات .
ج - وقال آخرون : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد أو مجلس ، ولا يكفي أن يكون في العمر مرة .
وحجة القائلين بالوجوب في المجلس ، أو كلما ذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام ، أن الله عز وجلّ أمر بها ، والأمر يفيد التكرار ، ثمّ ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يصلّ على رسول الله عليه السلام ، كقوله : « البخيل الذي من ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ » رواه الترمذي . وقوله عليه السلام : « ما من قوم يجلسون في مجلسٍ ثم يقومون منه لا يذكرون الله ولا يصلُّون على نبيه إلاّ كان تِرَةً عليهم يوم القيامة » .
وقول جبريل للنبي عليه السلام : « بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصلّ عليك ، فقلت آمين » . فهذه تفيد الوجوب عندهم .
وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قربة وعبادة ، كالذكر والتسبيح والتحميد ، وأنها واجبة في العمر مرة ، ومندوبة ومسنونة في كل وقت وحين ، وأنه ينبغي الإكثار منها لما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً » وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الشهيرة في فضل الصلاة على النبي عليه السلام ، فهي مطلوبة ولكن لا على سبيل ( الوجوب ) بل على سبيل ( الندب ) والاستحباب .(1/480)
قال العلامة أبو السعود : « والذي يقتضيه الاحتياط ، ويستدعيه معرفة علو شأنه عليه الصلاة والسلام ، أن يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع » .
وما ذهب إليه الجمهور هو الصح والأرجح والله تعالى أعلم .
الحكم الرابع : هل تجب الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على مذهبين :
أ- مذهب الشافعي وأحمد : أنها واجبة في الصلاة ولا تصح الصلاة بدونها .
ب- مذهب مالك وأبي حنيفة : أنها سنّة مؤكدة في الصلاة وتصح الصلاة بدونها مع الكراهة والإساءة .
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في الصلاة بأدلة نوجزها فيما يلي :
أ- الأمر الوارد في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } والأمر يقتضي الوجوب ، ولا وجوب في غير التشهد ، فتكون الصلاة على النبي واجبة في الصلاة .
ب- حديث كعب بن عجرة : ( قلنا يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف نصلي عليك؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد . . . ) الحديث وقد تقدم .
قال ابن كثير رحمه الله : « ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ، فإن تركه لم تصحّ صلاته ، وهو ظاهر الآية ، ومفسّر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وإليه ذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله » .
أدلة المالكية والأحناف :
واستدل المالكية والأحناف على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } قالوا : قد تضمنت هذه الآية الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وظاهره يقتضي الوجوب ، فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدّى فرضه ، وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه ، والأمر يقتضي الوجوب لا التكرار .
ب- حديث ابن مسعود حين علّمه صلى الله عليه وسلم التشهد فقال : « إذا فعلتَ هذا ، أو قلتَ هذا ، فقد تمت صلاتك ، فإن شئت أن تقوم فقم ، ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت » ولم يأمره بالصلاة على النبي عليه السلام .
ج - حديث معاوية السلمي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن » ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
د - ما روي عن كثير من الصحابة أنهم كانوا يكتفون بالتشهد في الصلاة وهو ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ولا يوجبون الصلوات الإبراهيمية .(1/481)
قال أبو بكر الرازي : « وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في الصلاة ، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم - فبما نعلمه - وهو خلاف الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لفرضها في الصلاة . . . » .
ثم ساق بعض الأدلة في تفسيره « أحكام القرآن » - وقد ذكرنا بعضها - ثم قال : وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في « شرح مختصر الطحاوي » .
الحكم الخامس : هل تجوز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
يرى بعض العلماء أن الصلاة تجوز على غير الأنبياء ، لأن الصلاة معناها الدعاء ، والدعاء يجوز للأنبياء ولغير الأنبياء ، واستدلوا بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : « اللهم صلِّ على آل أبي أوفى » .
وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة ( شعار ) وهي خاصة بالأنبياء ، فلا تجوز لغيرهم فلا يصح أن تقول : اللهم صلّ على الشافعي مثلاً أو على أبي حنيفة ، وإنما تترحم عليهما ، ويجوز الترضي عن الصحابة والتابعين ولا تجوز الصلاة عليهم لأنها شعار الأنبياء والمرسلين .
قال العلامة أبو السعود : « وأمّا الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعاً ، وتكره استقلالاً ، لأنه في العرف شعار ذكر الرسل ، ولذلك لا يجوز أن يقال : » محمدٌ عزَّ وجل « مع كونه صلى الله عليه وسلم عزيزاً جليلاً » .
والمراد بقوله تبعاً أن تقول مثلاً : اللهم صلّ على محمد وآله وذريته وأتباعه المؤمنين ، فلا يصح أن تقول : اللهم صل على ذرية محمد ، ولا اللهم صلّ على أزواج محمد ، وإنما إذا صليت على الرسول يجوز لك أن تضيف تبعاً من شئت من عباد الله الصالحين ، والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- منصب النبوة منصب عظيم ، ومكانة الرسول مكانة عظيمة عند الله تعالى .
2- ثناء الله عز وجل على نبيه الكريم وثناء الملائكة الأطهار مظهر من مظاهر رفعه الرسالة .
3- احترام الرسول وتعظيم أمره واجب على المؤمنين لأنه من تعظيم أمر الله وطاعته جلّ وعلا .
4- الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون بالصيغة الشرعية « اللهم صلي على محمد » الخ .
5- يندب للمسلم أن يصلي على الرسول كلما ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم امتثالاً للأمر الإلهي .
6- إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاء لله تعالى وهو سبب لسخط الله وغضبه .
7- إيذاء المؤمنين واتهامهم بما ليس فيهم من الكبائر التي ينبغي أن يبتعد عنها المسلم .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مجّد الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأثنى عليه الثناء العاطر ، ورفع مكانته على جميع الأنبياء والمرسلين ، وأحله المحل الرفيع الذي يليق بمنزلته السامية ، ومرتبته العالية ، وأمر المؤمنين بالتأدب مع الرسول الكريم ، وبتعظيم أمره ، وتمجيد شأنه ، وصلى عليه في الملأ الأعلى مع الملائكة الأطهار ، وكل ذلك ليعلّم المؤمنين مكانة هذا النبي العظيم ، ليجلّوه ويحترموه ، ويطيعوا أمره لأنه سبب سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة(1/482)
{ لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] .
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على الرسول الكريم ، وجعل ذلك فرضاً لازماً لا يتم إيمان بدونه ، وحرّم إيذاءه بالقول أو الفعل ، ونهى عن كل ما يمسّ مقامه الشريف من إساءة أو عدوان ، وجعل ذلك إيذاء له تعالى ، لأنّ في تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيباً لله تعالى ، وفي الاستهزاء بدعوته استهزاءً بالله تعالى ، لأنه رسول رب العالمين . فيجب أن يُطاع في كل أمر ، أن يحترم قوله لأنه مبلّغ عن الله وصدق الله حيث يقول { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] .
وقد حكم الله جلّ وعلا باللعنة والغضب على من آذى الرسول عليه السلام ، لأنه كفرانٌ للنعمة ، وجحودٌ للفضل الذي أسداه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ، وكيف يليق بالمؤمن أن يؤذي رسول الله مع أنه صلوات الله عليه سبب لإنقاذنا من الضلالة ، وإخراجنا من الظلمات إلى النور؟! وهو باب الرحمة الإلهية ، ومظهر الفضل والإحسان والجود : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والطيبين الطاهرين .
وصدق من قال :
إذا الله أثنى بالذي هو أهلُه ... عليه ، فما مقدارُ ما تمدح الورى(1/483)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
[ 7 ] حجاب المرأة المسلمة
التحليل اللفظي
{ لأزواجك } : المراد بكلمة الأزواج ( أمهات المؤمنين ) الطاهرات رضوان الله عليهن ، ولفظ الزوج في اللغة يطلق على الذكر والأنثى ، قال تعالى : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] ، { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] .
وإطلاق لفظ ( الزوجة ) صحيح ولكنه خلاف الأفصح . وأنكر الأصمعي لفظ ( زوجة ) بالهاء ، وقال : هي زوج لا غير ، واحتجّ بأنه لم يرد في القرآن إلا بدون هاء { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] والصحيح أنه خلاف الأفصح وليس بخطأ قال الفرزدق :
وإن الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كساعٍ إلى أُسْد الشّرى يستبيلها
وفي حديث عمّار بن ياسر قوله عن السيدة عائشة ( والله إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ الله ابتلاكم لها ليعلم أتطيعونه أو تطيعونها ) .
{ يُدْنِينَ } : أي يسدلن ويرخين . وأصل الإدناء التقريب ، يقال للمرأة إذا زلّ الثوب عن وجهها : أدني ثوبك على وجهك ، والمراد في الآية الكريمة : يغطين وجوههن وأبدانهن ليميزن عن الإماء والقينات ، ولما كان متضمناً معنى الإرخاء والسّدل عدّي بعلى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } .
{ جلابيبهن } : جمع جلباب ، وهو الثوب الذي يستر جميع البدن ، قال الشهاب : هو إزار يلتحف به ، وقيل : هو المِلحفة وكل ما يغطي سائر البدن .
قال في « لسان العرب » : الجلباب ثوب أوسع من الخمار ، دون الرداء ، تغطي به المرأة رأسها وصدرها ، وقيل : هو الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها :
تمشي النُّسوْر إليهِ وهي لا هيةٌ ... مشيَ العذَارَى عليهنّ الجلابيبُ
وقيل جلباب المرأة : ملاءتها التي تشتمل بها ، واحدها جلباب ، والجماعة جلابيب ، وأنشدوا :
مُجلْببٌ من سوادِ الليل جلباباً ... وفي « الجلالين » : الجلابيب جمع جلباب ، وهي المِلاءة التي تشتمل بها المرأة .
قال ابن عباس : أُمر نساءُ المؤمنين أن يغطّين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب ، إلا عيناً واحدة ليُعْلم أنهنّ حرائر .
والخلاصة : فإن الجلباب هو الذي يستر جميع بدن المرأة ، وهو يشبه الملاءة ( الملحفة ) المعروفة في زماننا ، نسأله تعالى الستر والسلامة .
{ أدنى } : أفعل تفضيل بمعنى أقرب ، من الدّنوّ بمعنى القرب ، يقال : أدناني منه أي قرّبني منه ، وقوله تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ] أي قريبة المنال ، وتأتي كلمة ( أدنى ) بمعنى أقل ، وقد جُمع المعنيان في قول الشاعر :
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
{ غَفُوراً } : أي ساتراً للذنوب ، ماحياً للآثام ، يغفر لمن تاب ما فرط منه { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] .
{ رَّحِيماً } : يرحم عباده ، ويلطف بهم ، ومن رحمته تعالى أنه لم يكلفهم ما لا يطيقون .
المعنى الإجمالي
يأمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، أن يوجه النداء إلى الأمة الإسلامية جمعاء ، بأن تعمل على التمسك بآداب الإسلام ، وإرشاداته الفاضلة ، ونظمه الحكيمة ، التي بها صلاح الفرد وسعادة المجتمع ، وخاصة في أمر اجتماعي هام ، يتعلق بالأسرة المسلمة ، ألا وهو ( الحجاب الشرعي ) الذي فرضه الله على المرأة المسلمة ، ليصون لها كرامتها ، ويحفظ عليها عفافها ، ويحميها من النظرات الجارحة ، والكلمات اللاذعة ، والنفوس المريضة ، والنوايا الخبيثة ، التي يُكِنّها الفسّاق من الرجال للنساء غير المحتشمات ، فيقول الله تعالى ما معناه .(1/484)
يا أيها النبي بلّغ أوامر الله إلى عباده المؤمنين ، وابدأ بنفسك فمر زوجاتك أمهات المؤمنين الطاهرات ، وبناتك الفضليات الكريمات أن يرتدين الجلباب الشرعي ، وأن يحتجبن عن أنظار الرجال ، ليكنّ قدوة لسائر النساء ، في التعفّف ، والتستّر ، والاحتشام ، حتى لا يطمع فيهن فاسق ، أو ينال من كرامتهن فاجر ، وأمُر سائر نساء المؤمنين ، أن يلبسن الجلباب السابغ ، الذي يستر محاسنهنّ وزينتهنّ ، ويدفع عنهنّ ألسنة السوء ، وأمُرْهنّ كذلك أن يغطين وجوههنّ وأجسامهن بجلابيبهن ، ليميّزن عن الإماء والقينات ، فلا يكنّ هدفاً للمغرضين ، وليكنّ بعيدات عن التشبه بالفواجر ، فلا يتعرض لهن إنسان بسوء ، فذلك أقرب إلى أن يعرفن بالعفة والتصون ، فلا يطمع فيهن من في قلبه مرض ، { وَكَانَ الله غَفُوراً } يغفر لمن امتثل أمره ، رحيماً بعباده حيث لا يشرّع لهم إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أنّ الحرة والأمة كانتا تخرجان ليلاً لقضاء الحاجة في الغيطان ، وبين النخيل ، من غير تمييز بين الحرائر والإماء ، وكان في المدينة فسّاق ، لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية يتعرضون للإماء ، وربّما تعرضوا للحرائر ، فإذا قيل لهم يقولون : حسبناهنّ إماءً . فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزيّ فيتسترن ليحتشمن ويُهَبْن فلا يطمع فيهن ذوو القلوب المريضة ، فأنزل الله { ياأيها النبي قُل لأزواجك . . . } الآية .
وقال ابن الجوزي : « سبب نزولها أن الفسّاق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل ، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا : هذه حرّة ، وإذا رأوها بغير قناع قالوا : أمة ، فآذوها ، فنزلت هذه الآية : قاله السدي » .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { ياأيها النبي . . . } أيّ : منادى ، والهاء للتنبيه ، و { النبي } صفة ل { أَيُّ } قال ابن مالك : وأيّها مصحوبَ أل بعدُ صفة .
2- قوله تعالى : { قُل لأزواجك . . . } قلْ : أمر ، و { يُدْنِينَ } مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ، وجملة { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } مقول القول في محل جزم جواب الطلب .
3- قوله تعالى : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ } أي بأن يُعْرفن مجرور بحرف جر محذوف ، واسم الإشارة مبتدأ ، وما بعده خبر ، والتقدير : ذلك أقرب بمعرفتهنّ أنهنّ حرائر ، والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : بدأ الله تعالى بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته في الأمر ب ( الحجاب الشرعي ) وذلك للإشارة إلى أنهنّ قدوة لبقية النساء فعليهن التمسك بالآداب الشرعية ليقتدي بهنّ سائر النساء ، والدعوة لا تثمر إلاّ إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله ، ومن أحقّ من ( بيت النبوة ) بالتمسك بالآداب والفضائل؟ وهذا هو السرُّ في تقديمهنَّ في الخطاب في قوله تعالى : { قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ } .(1/485)
اللطيفة الثانية : الأمر بالحجاب إنما جاء بعد أن استقرّ امر الشريعة على وجوب ( ستر العورة ) ، فلا بدّ أن يكون الستر المأمور به هنا زائداً على ما يجب من ستر العورة ، ولهذا اتفقت عبارات المفسّرين على - اختلاف ألفاظها - على أن المراد بالجلباب : الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب ، وهو ما يسمّى في زماننا ب ( الملاءة ) أي الملحفة ، وليس المراد ستر العورة كما ظنّ بعض الناس .
اللطيفة الثالثة : في هذا التفصيل والتوضيح ( أزواجك ، بناتك ، نساء المؤمنين ) ردّ صريح على الذين يزعمون أن الحجاب إنما فرض على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فإنّ قوله تعالى { وَنِسَآءِ المؤمنين } يدل دلالة قاطعة على أنّ جميع نساء المؤمنين مكلفات بالحجاب ، وأنهن داخلات في هذا الخطاب العام الشامل ، فكيف يزعمون أن الحجاب لم يفرض على المرأة المسلمة؟!
اللطيفة الرابعة : أمرُ الحرائر بالتستّر ليُميّزن عن الإماء ، قد يفهم من أنّ الشارع أهمل أمر الإماء ، ولم يبال بما ينالهن من الإيذاء ، وتعرّض الفُسّاق لهن ، فكيف يتفق هذا مع حرص الإسلام على طهارة المجتمع؟
والجواب : أنّ الإماء بطبيعة عملهن ، يكثر خروجهنّ وتردّدهن في الأسواق ، لقضاء الحاجات وخدمة سادتهن ، فإذا كُلّفن بلبس الجلباب السابغ كلمَّا خرجن ، كان في ذلك حرج ومشقة عليهنّ ، وليس كذلك الحرائر لأنهن مأمورات بالاستقرار في البيوت { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] وعدم الخروج إلاّ عند الحاجة ، فلم يكن عليهن من الحرج والمشقة في التستر ما على الإماء ، وقد وردت الآية السابقة { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 58 ] وهي تتوعد المؤذين بالعذاب الأليم ، وهذا يشمل الحرائر والإماء .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } فيه ذكر للعلة أي ( الحكمة ) التي فُرض من أجلها الحجاب ، والأحكامُ الشرعية كلها مشروعة لحكمة وجمهورُ المفسّرين موجهاً إلى جميع النساء ، سواء منهن ( الحرائر والإماء ) وفسّر قوله تعالى : { أَن يُعْرَفْنَ } أي يعرفن بالعفة والتستر والصيانة ، فلا يطمع فيهنّ أهل السوء والفساد ، وإليك نصّ كلامه كما في « البحر المحيط » :
« والظاهر أن قوله تعالى : { وَنِسَآءِ المؤمنين } يشمل الحرائر والإماء ، والفتنةُ بالإماء أكثر لكثرة تصرفهنّ بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهنّ من عموم النساء إلى دليل واضح . وقوله : { أدنى أَن يُعْرَفْنَ } أي يعرفن لتسترهنّ بالعفة فلا يُتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر بالعفة فلا يُتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر والانضمام لم يقدم عليها ، بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها » .
وهو رأي تبدو عليه مخايل الجودة ، والدقة في الاستنباط .(1/486)
وما اختاره ( أبو حيان ) هو الذي نختاره لأنه يحقّق غرض الإسلام في التستّر والصيانة والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجب الحجاب على جميع النساء؟
يدل ظاهر الآية الكريمة على أنّ الحجاب مفروض على جميع المؤمنات ( المكلفات شرعاً ) وهنّ : ( المسلمات ، الحرائر ، البالغات ) لقوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين . . . } الآية .
فلا يجب الحجاب على الكافرة لأنها لا تكلّف بفروع الإسلام ، وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون ، ولأنّ ( الحجاب ) عبادة لما فيه من امتثال أمر الله عزّ وجلّ ، فهو بالنسبة للمسلمة كفريضة الصلاة والصيام ، فإذا تركته المسلمة جحوداً فهي ( كافرة ) مرتدة عن الإسلام ، وإذا تركته - تقليداً للمجتمع الفاسد - مع اعتقادها بفرضيته فهي ( عاصية ) مخالفة لتعاليم القرآن { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية } [ الأحزاب : 33 ] .
وغير المسلمة - وإن لم تُؤمر بالحجاب - لكنّها لا تُترك تفسد في المجتمع ، وتتعرّى أمام الرجل ، وتخرج بهذه الميوعة والانحلال الذي نراه في زماننا ، فإنّ هناك ( آداباً اجتماعية ) يجب أن تُراعى ، وتطبّق على الجميع ، وتستوي فيها المسلمة وغير المسلمة حماية للمجتمع ، وذلك من السياسات الشرعية التي تجب على الحاكم المسلم .
وأمّا الإماء فقد عرفتَ ما فيه من أقوال للعلماء ، وقد ترجّح لديك رأي العلاّمة ( أبي حيّان ) : في أنّ الأمر بالستر عام يشمل الحرائر والإماء ، وهذا ما يتفق مع روح الشريعة في صيانة الأغراض ، وحماية المجتمع ، من التفسخ والانحلال الخلقي ، وأمّا البلوغ فهو شرط التكليف كما تقدم .
أقول : يطلب من المسلم أن يعوّد بناته منذ سنّ العاشرة على ارتداء الحجاب الشرعي حتى لا يصعب عليهن بعدُ ارتداؤه ، وإن لم يكن الأمر على وجه ( التكليف ) وإنما هو على وجه ( التأديب ) قياساً على أمر الصلاة ( مُروا أولادكم بالصلاة وهم أنباء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
الحكم الثاني : ما هي كيفية الحجاب؟
أمر الله المؤمنات بالحجاب وارتداء الجلباب صيانة لهنّ وحفظاً ، وقد اختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر على أقوال :
أ- فأخرج ابن جرير الطبري عن ابن سيرين أنه قال : ( سألتُ عَبيدةَ السّلماني ) عن هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } فرفع مِلْحفة كانت عليه فتقنّع بها ، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين ، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر .
ب- وروى ابن جرير وأبو حيّان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( تلوي الجلباب فوق الجبين ، وتشدّه ثمّ تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنّه يستر الصدر ومعظم الوجه ) .
ج - وروي عن السّدي في كيفيته أنه قال : ( تغطّي إحدى عينيها وجبهتها ، والشقّ الآخر إلا العين ) . قال أبو حيّان : « وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلاّعينها الواحدة .
د- وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : » لما نزل هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغُربان من أكسية سودٍ يلبسنها « .(1/487)
الحكم الثالث : هل يجب على المرأة ستر وجهها؟
تقدّم معنا في سورة النور أنّ المرأة منهية عن إبداء زينتها إلا للمحارم { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ } [ النور : 31 ] الآية ولمّا كان الوجه أصل الزينة ، ومصدر الجمال والفتنة ، لذلك كان ستره ضرورياً عن الأجانب ، والذين قالوا إن الوجه ليس بعورة اشترطوا ألاّ يكون عليه شيء من الزينة كالأصباغ والمساحيق التي توضع عادة للتجمّل ، وبشرط أمن الفتنة ، فإذا لم تؤمن الفتنة فيحرم كشفه .
وممّا لا شك فيه أن الفتنة في هذا الزمان غير مأمونة ، لذا نرى وجوب ستر الوجه حفاظاً على كرامة المسلمة ، وقد ذكرنا بعض الحجج الشرعية على وجوب ستره في بحث ( بدعة كشف الوجه ) من سورة النور ، ونزيد هنا بعض أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه .
طائفة من أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه
أولاً : قال ابن الجوزي في قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } أي يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليعلم أنهن حرائر ، والمراد بالجلابيب : الأردية قاله ابن قتيبة .
ثانياً : وقال أبو حيّان في « البحر المحيط » : وقوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } شامل لجميع أجسادهن ، أو المراد بقوله { عَلَيْهِنَّ } أي على وجوههنّ ، لأنّ الذي كان يبدوا منهنّ في الجاهلية هو الوجه .
ثالثاً : وقال أبو السعود : الجلباب : ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء ، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها ، ومعنى الآية : أي يغطين بها وجوههنّ وأبدانهنّ إذا برزن لداعية من الدواعي .
وعن السّدي : تغطّي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين .
رابعاً : وقال أبو بكر الرازي : وفي هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } دلالة على أنّ المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبييين . وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع فيهن أهل الريب .
خامساً : وفي « تفسير الجلالين » : الجلابيب جمع جلباب ، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة ، قال ابن عباس : أمر نساء المؤمنين أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب إلاّ عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر .
سادساً : وفي « تفسير الطبري » : عن ابن سيرين أنه قال : « سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } فرفع ملحفة كانت عليه فتقنّع بها وغطّى رأسه كله حتى الحاجبين ، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما » وقد تقدّم الحديث سابقاً .
فهذا وأمثاله كثير من أقوال مشاهير المفسّرين ، يدل دلالة واضحة على وجوب ستر الوجه وعدم كشفه أمام الأجانب ، اللهم إلاّ إذا كان الرجل خاطباً ، أو كانت المرأة في حالة إحرام بالحج ، فإنه وقت عبادة والفتنة مأمونة ، فلا يقاس على هذه الحالة كما يفعل بعض الجهلة اليوم ، حيث يقولون : إذا جاز لها أن تكشف عن وجهها في حالة الإحرام فمعناه أنه يجوز لها أن تكشف في غيره من الأوقات لأن الوجه ليس بعورة ، فهذا كلام من لم يفقه شريعة الإسلام .(1/488)
ومن درس حياة السلف الصالح ، وما كان عليه النساء الفضليات - نساء الصحابة والتابعين - وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر ، والتحفظ ، والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس ، الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه ، ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة ، لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم ، وما دروا أنها مكيدة دبّرها لهم أعداء الدين ، وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي ، الذي عمل له الأعداء زمناً طويلاً ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
الحكم الرابع : ما هي شروط الحجاب الشرعي؟
يشترط في الحجاب الشرعي بعض الشروط الضرورية وهي كالآتي :
أولاً : أن يكون الحجاب ساتراً لجميع البدن لقوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } . وقد عرفت معنى ( الجلباب ) وهو الثوب السابغ الذي يستر البدن كله ، ومعنى ( الإدناء ) وهو الإرخاء والسدل فيكون الحجاب الشرعي ما ستر جميع البدن .
ثانياً : أن يكون كثيفاً غير رقيق ، لأنّ الغرض من الحجاب السترُ ، فإذا لم يكن ساتراً لا يسمّى حجاباً لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر ، وفي حديث عائشة أنّ ( أسماء بنت أبي بكر ) دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . الحديث .
ثالثاً : ألاّ يكون زينة في نفسه ، أو مبهرجاً ذا ألوان جذابه يلفت الأنظار لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ] الآية ومعنى { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي بدون قصد ولا تعمد ، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه ، ولا يسمى ( حجاباً ) لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب .
رابعاً : أن يكون فضفاضاً غير ضيّق ، لا يشفّ عن البدنن ولا يجسّم العورة ، ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم ، وفي « صحيح مسلم » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صنفان من أهل النار لم أرهما : قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساءٌ كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » . وفي رواية أخرى : وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام . « رواه مسلم » .
ومعنى قوله عليه السلام : « كاسيات عاريات »(1/489)
أي كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة ، لأنهنّ يلبسن ملابس لا تستر جسداً ، ولا تخفي عورة ، والغرض من اللباس السترُ ، فإذا لم يستر اللباس كان صاحبه عارياً .
ومعنى قوله : « مميلات مائلات » أي مميلات لقلوب الرجال مائلات في مشيتهن ، يتبخترن بقصد الفتنة والإغراء ، ومعنى قوله : « كأسنمة البخت » أي يصفّفن شعورهن فوق رؤوسن ، حتى تصبح مثل سنام الجمل ، وهذا من معجزاته عليه السلام .
خامساً : ألاّ يكون الثوب معطّراً فيه إثارة للرجال لقوله عليه الصلاة والسلام : « كلّ عينٍ نظرت زانية ، وإنّ المرأة استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية » .
وفي رواية ( أن المرأة استعطرت فمرّت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) .
وعن موسى بن يسار قال : « مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها : أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت : إلى المسجد ، قال : وتطيّبتِ؟ قالت : نعم ، قال : فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يقبل الله من امرأة صلاة ، خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل » .
سادساً : ألاّ يكون الثوب فيه تشبه بالرجال ، أو ممّا يلبسه الرجال لحديث أبي هريرة : ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة الرجل ) . وفي الحديث « لعن الله المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء » أي المتشبهات بالرجال في أزيائهن وأشكالهنّ كبعض نساء هذا الزمان نسأله تعالى السلامة والحفظ .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- الحجاب مفروض على جميع نساء المؤمنين وهو واجب شرعي محتّم .
2- بنات الرسول ونساؤه الطاهرات هنّ الأسوة والقدوة لسائر النساء .
3- الجلباب الشرعي يجب أن يكون ساتراً للزينة والثياب ولجميع البدن .
4- الحجاب لم يفرض على المسلمة تضييقاً عليها ، وإنّما بشريفاً لها وتكريماً .
5- في ارتداء الحجاب الشرعي صيانة للمرأة ، وحماية للمجتمع من ظهور الفساد ، وانتشار الفاحشة .
6- على المسلمة أن تتمسّك بأوامر الله ، وتتأدب بالآداب الاجتماعية التي فرضها الإسلام .
7- الله رحيم بعباده يشرع لهم من الأحكام ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدارين .
حكمة التشريع
قد يظن بعض الجهلة أن الحجاب لم يفرضه الإسلام على المرأة المسلمة وأنه من العادات والتقاليد التي ظهرت في العصر العباسي ، وهذا الظن ليس له نصيب من الصحة وهو إن دل فإنما يدل على أحد أمرين :
أ- أما الجهل الفاضح بالإسلام وبكتاب الله المبين .
ب- وإما الغرض الدفين في قلوب أولئك المتحللين .
وأحب أن أكشف الستار لتوضيح الحقيقة حتى لا يلتبس الحق بالباطل ولا يختلط الخبيث بالطيب ، وحتى يظهر الصبح لذي عينين . فما أكثر هؤلاء المضلين في هذا الزمان الذين يزعمون أنهم أرباب المدنية ودعاة التقدمية!! وما أشد خطرهم على الأخلاق والمجتمع لأنهم يفسدون باسم الإصلاح ويهدمون باسم البناء ، ويدجلون باسم الثقافة والعلم ، ويزعمون أنهم مصلحون .(1/490)
النصوص الواردة في الحجاب
1- يقول الله سبحانه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } [ الأحزاب : 33 ] الآية .
2- ويقول جلّ شأنه : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الأحزاب : 53 ] الآية .
3- ويقول سبحانه مخاطباً نبيه العظيم : { ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } الآية .
4- ويقول سبحانه أيضاً : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } [ النور : 31 ] الآية .
فمن هذه النصوص الكريمة نعلم أن الحجاب مفروض على المرأة المسلمة بنصوص في كتاب الله قطعية الدلالة ، وليس كما يزعم المتحلّلون أنه من العادات والتقاليد التي أوجبها العصر العباسي . . . الخ فإن حبل الكذب قصير .
ومن خلال هذه الآيات الكريمة نلمح أن الإسلام إنما قصد من وراء فرض الحجاب أن يقطع طرق الشبهات ونزغات الشيطان أن تطوف بقلوب الرجال والنساء وفي ذلك يقول الله سبحانه : { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53 ] وهدفه الأول إنما هو صون « الشرف » والمحافظة على « العفة والكرامة » ولا ننسى أن هناك كثيراً من ضعفاء القلوب ومرضى الضمائر يتربصون بالمرأة السوء ليهتكوا عنها ستر الفضيلة والعفاف .
ولا يشك عاقل أن تهتك النساء وخلاعتهن هو الذي أحدث ما يسمونه « أزمة الزواج » ذلك لأن كثيراً من الشباب قد أحجموا عن الزواج لأنهم أصبحوا يجدون الطريق معبَّداً لإشباع غرائزهم من غير تعب ولا نصب ، فهم في غنى عن الزواج ، وهذا بلا شك يعرَّض البلاد إلى الخراب والدمار ، وينذر بكارثه لا تبقي ولا تذر ، وليس انتشار الخيانات الزوجية وخراب البيوت إلا أثراً من آثار هذا التبرج الذميم .
يقول ( سيّد سابق ) في كتابه « فقه السُنّة » :
« إنّ أهم ما يتميّز به الإنسان عن الحيوان اتخاذُ الملابس ، وأدوات الزينة ، يقول الله تعالى : { يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] .
والملابسُ والزينةُ هما مظهران من مظاهر المدنيّة والحضارة ، والتجرّدُ عنهما إنما هو ردّة إلى الحيوانية ، وعودة إلى الحياة البدائية ، وإنّ أعزّ ما تملكه المرأة الشرفُ ، والحياءُ ، والعفافُ ، والمحافظةُ على هذه الفضائل محافظةٌ على إنسانية المرأة في أسمى صورها ، وليس من صالح المرأة ، ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام ، ولا سيّما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز ، وأشدّها على الإطلاق » .
امنعوا الاختلاط . . . وقيّدوا حرية المرأة
وتحت هذا العنوان نشرت صحيفة ( الجمهورية ) بالقاهرة مقالاً لصحفية أمريكية تدعى ( هيلسيان ستانسبري ) قالت هذه الكاتبة الأمريكية بعد أن مكثت شهراً في الجمهورية العربية ما نصه : « إنّ المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم ، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيّد الفتاة والشاب في حدود المعقول ، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي ، فعندكم تقاليد موروثه تحتّم تقييد المرأة وتحتّم احترام الأب والأم ، وتحتّم أكثر من ذلك عدم » الإباحيّة الغربية « التي تهدّد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا .(1/491)
إن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة صالحة ونافعة ، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، وامنعوا الاختلاط ، وقيّدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا .
امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً ، مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة ، وإنَّ ضحايا الاختلاط والحرية قبل سنّ العشرين ، يملأون السجون والأرصفة ، والبارات والبيوت السرية؛ إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار ، قد جعلت منهم عصابات أحداث ، وعصابات ( جميس دين ) وعصابات للمخدّرات والرقيق .
إن الاختلاط ، والإباحية ، والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي هدّد الأسر ، وزلزل القيم والأخلاق ، فالفتاة الصغيرة - تحت سن العشرين - في المجتمع الحديث ، تخالط الشبان ، وترقص ، وتشرب الخمر ، وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والإباحية . . . وهي تلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها ، بل وتتحدى والديها ، ومدرّسيها ، والمشرفين عليها . . تتحدّاهم باسم الحرية والاختلاط ، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق ، تتزوّج في دقائق ، وتطلّق بعد ساعات ، ولا يكلّفها أكثر من إمضاء وعشرين قرشاً وعرّيس ليلة .
أقول : هذا رأي الكاتبة الأمريكية والفضل ما شهدت به الأعداء . . ! وصدق الله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى . . . } [ الأحزاب : 33 ] .(1/492)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
سورة سبأ
[ 1 ] حكم التماثيل والصور
التحليل اللفظي
{ فَضْلاً } : أي أمراً عظيماً فضّلناه به على غريه ، والمراد به النبوة والزبور ، وقيل : ما خصّه الله تعالى به على سائر الأنبياء من النعم كتسخير الجبال ، والطير ، وإلانة الحديد ، وحسن الصوت ، وغير ذلك من النعم .
{ أَوِّبِي مَعَهُ } : أي سبّحي معه ، ورجّعي معه التسبيح قال تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق } [ ص : 18 ] .
قال القرطبي : فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل .
قال ابن قتيبة : وأصل التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً ، فكأنه أراد : ادأبي النهار كله بالتسبيح معه إلى الليل .
وقيل المعنى : سيري معه حيث شاء ، من التأويب وهو السير ، قال ابن مقبل :
لحقنا بحّيٍ أوّبوا السّيْر بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
{ سابغات } : أي دروعاً واسعات ، فذكر الصفةَ لأنها تدل على الموصوف ، والسابغات : الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرّها على الأرض .
قال أبو حيّان : السابغات : الدروع ، وأصله الوصف بالسبوغ وهو التمام والكمال ، وغلب على الدروع فصار كالأبطح قال الشاعر :
عليها أسودٌ ضارباتٌ لبَوسُهم ... سوابغُ بيضٌ لا يخرّقُها النبلُ
وقال القرطبي : أي كوامل تامات واسعة ، يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطّى كل ما هو عليه وفضل منه .
{ وَقَدِّرْ فِي السرد } : أي في النسج ، والمراد : اجعله على قدر الحاجة ، لا تجعل حِلَق الدرع صغيرة فتنفصم الحَلْقة ، ولا واسعة فلا تقي صاحبها السهم والرمح .
قال قتادة : كانت الدروع قبل داود صفائح فكانت ثقالاً ، فأُمر بأن يجمع بين الخفّة والحصانة ، ويقال لصانع الدروع سرّاد ، وزرّاد بإبدال السين بالزاي ، والسّرْد : إتباع الشيء بالشيء من جنسه قال الشمّاخ :
فظلّت تِباعاً خيلُنا في بيوتكم ... كما تابعت سرْدَ العِنَان الخوارز
والسُّراد : السّير الذي يخرز به النعل .
قال القرطبي : وأصل ذلك في سرد الدرع ، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلَقها وِلاءً غير مختلف قال لبيد :
صنع الحديدَ مضاعفاً أسرادُه ... لينال طولَ العيش غير مروم
{ عَيْنَ القطر } : قال الزجاج : القِطر الصُّفْر وهو النحاس : أذيب لسليمان وكان قبل سليمان لا يذوب لأحد .
قال المفسّرون : أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر ، حتى صنع منها ما أراد من غير نار ، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار ، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء ، وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان .
قال القرطبي : « وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدري ما حدّه ، ولعله وَهَم من الناقل ، والظاهر أنه جُعل النحاس لسليمان في معدنه عيناً تسيل كعيون المياه ، دلالة على نبوته » .
{ يَزِغْ } : أي يعدل عن أمرنا به من طاعة سليمان ، يقال : زاغ أي مالَ وانصرف .(1/493)
{ محاريب } : أي قصور عظيمة ، ومساكن حصينة ، قال القرطبي : المحراب في اللغة : كل موضع مرتفع ، وقيل للذي يُصلّى فيه : محراب ، لأنه يجب أن يرفع ويعظّم ، قال الشاعر :
جمع الشجاعة والخضوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وروي عن أبي عبيدة أنه قال : المحراب أشرف بيوت الدار ، وأنشد عدّي بن زيد :
كدُمَى العاج في المحاريب أوكالْ ... بيْض في الرّوض زهرة مستينر
وقيل : هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة ، قال تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] .
وقيل المراد بالمحاريب : المساجد ، ونقل عن قتادة : أنها المساجد والقصور الشامخة . وسمي القصر بالمحراب لأنه يحارب من أجله ، ومما يرجح هذا الرأي أن الله تعالى ذكر أنها من عمل الجن ، ولعلّ عمل القصور الضخمة الشامخة كان مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن لجهلهم بفن العمارة ، فكانت الجن مسخّرة لسليمان لتعمل له تلك الأعمال التي يعجز عنها البشر .
{ وتماثيل } : جمع تمثال وهو في اللغة : الصورة ، ومثّل الشيء : صوَّره حتى كأنه ينظر إليه ، قال في اللسان : ومثّل الشيء بالشيء ، سوّاه وشبّهه به ، وجعله مثله وعلى مثاله ، والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله ، وأصله من مثَّلْت الشيء بالشيء : إذا قدرته على قدره ، ومثال الشيء ما يماثله ويحكيه ، ولم يرد في القرآن هذا الوزن ( تِفْعال ) إلا في لفظين : ( تِلْقاء ، وتِبْيان ) .
وقال القرطبي : « التمثال : كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان ، أو غير حيوان » .
{ وَجِفَانٍ } : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة قال الشاعر :
وإذا هاجت شمالاً أطعموا ... في قدورٍ مشبعات لم تُجَع
وجفانٍ كالجوابي مُلئت ... من سمينات الذّرى فيها تَرَع
وقال الآخر :
ثقال الجفون والحلوم رحاهم ... رحا الماء يكتالون كيلاً عذمذماً
قال أبو عبيدة : كان لعبد اله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب ، وذكر المدائني أنه وقع فيها صبي فغرق .
{ كالجواب } : جمع جابية ، وهي الحوض الكبير يُجبى فيه الماء ، أي يجمع قال الأعشى :
نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقيّ تَفْهَقُ
قال المفسرون : كان الجن يصنعون لسليمان القصاع كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .
{ راسيات } : أي ثوابت ، يقال : رسا الشيء يرسو : إذا ثبت ، والمراد أنها لعظمها لا تنقل فهي ثابتة في أماكنها ، ومنه قيل للجبال : رواسي ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } [ المرسلات : 27 ] .
قال ابن العربي : « راسيات : أي ثوابت لا تُحمل ولا تُحرّك لعظمها ، وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان ، يُصعد إليها في الجاهلية بسُلم ، وعنها عبّر ( طرفة بن العبد ) بقوله :
كالجوابي لا تَني مُتْرعةً ... لِقرى الأضياف أو للمحتَضر
وقال ابن الجوزي : وفي علة ثبوتها في مكانها قولان : أحدهما أن أثافيّها منها قال ابن عباس ، والثاني : أنها لا تنزل لعظمها ، قاله ابن قتيبة .(1/494)
الأثافي ( جمع الأثفية ) : ما توضع عليها القدر من حجارة وغيرها .
{ دَابَّةُ الأَرْضِ } : هي حشرة تسمّى ( الأرَضَة ) تأكل الخشب وتنخره .
{ مِنسَأَتَهُ } : المنسأة : العصا ، وهي ( مِفْعَلة ) من نسأتُ الدابة : إذا سقتَها . قال الشاعر :
ضربنا بمنسأة وجهَه ... فصار بذاكَ مهيناً ذليلا
قال الزجّاج : وإنّما سميت منسأة لأنه يُنْسأ بها : أي يُطْرد ويُزجر ، وقال الفراء : أهل الحجاز لا يهمزون ( المنسأة ) وتميم وفصحاء قيس يهمزونها ، قال الشاعر في ترك الهمزة :
إذا دببتَ على المِنْساة من كِبَر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر مع الهمز والفتح :
أمن أجل حَبْل لا أبَاكَ ضربتَه ... بمنسَأةٍ قد جرّ حبلُك أحْبُلا
وقال أبو عمرو : وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت لا تهمز فقد احتطت ، وإن كانت تهمز فيجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز .
{ خَرَّ } : سقط على الأرض أي سقط ميتاً .
{ العذاب المهين } : المراد به التكاليف والأعمال الشاقة التي كلّف سليمان عليه السلام بها الجن .
قال المفسرون : كانت الإنس تقول : إن الجن يعلمون الغيب ، الذي يكون في المستقبل ، فوقف سليمان عليه السلام في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه ، فمات ومكث على ذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته ، حتى أكلت الأرَضة عصا سليمان ، فسقط على الأرض فعلموا موته ، وعلم الإنس أن الجنّ لا تعلم الغيب ، ولو علموا الغيب لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى تعالى بما أنعم على عبده ورسوله ( داود ) عليه السلام ، من الفضل المبين ، والجاه العظيم ، حيث جمع له بين ( النبوة والملك ) والجنود ذوي العَدَد والعُدَد ، وما منحه إياه من الصوت الرخيم ، الذي كان إذا سبّح به تسبّح معه الجبال الراسيات ، وإذا قرأ الزبور تقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات ، تكفّ عن طيرانها ثم تردّد معه الزبور مع التسبيح والتمجيد معجزة له عليه السلام ، وقد ألان الله تعالى له الحديد ، حتى كان بين يديه كالعجين يصنع منه الدروع السابغة ، التي تقي الإنسان شر الحروب ، كما قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } [ الأنبياء : 80 ] .
وكما أنعم الله على ( داود ) أنعم على ولده ( سليمان ) عليهما الصلاة والسلام ، فسخّر له الريح ، وسخَّر الجن ، وعلّمه لغة الطير ، وأسال له عين النحاس فكانت عيناً جارية تسيل بقدرة الله ، وكانت الريح تقطع به المسافات الشاسعة الواسعة ، في ساعات معدودات ، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلد إلى بلد ، ، وتسير به مسيرة شهرين في أقل من نهار واحد { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي تغدو به مسيرة شهر إلى نصف النهار ، وترجع به مسيرة شهر آخر النهار ، وكأنها ( طائرة نفاثة ) تحمل ذلك الجيش العرمرم وتنتقل به في ساعات محدودات ، تقطع به مسيرة شهرين . كما سخّر له الجن تعمل بأمره وإرادته ، ما يعجر عنه البشر ، من القصور الشامخة ، والتماثيل العجيبة والقصاع الضخمة التي تشبه الأحواض ، والقدور الراسيات التي لا تتحرك لكبرها وضخامتها ، وأمره أن يشكر الله على هذه النعم .(1/495)
ثمّ أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان عليه السلام ، وكيف عمّى الله موته على الجانّ المسخّرين له في الأعمال الشاقة ، فإن مكث متوكئاً على عصاه نحو سنة وهو ميت ، والجن لا تعلم ذلك حتى أكلت الأرَضة العصا فكُسرت وسقط على الأرض فعلموا حينئذٍ موته ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما مكثوا هذه المدة الطويلة مسخرين في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان عليه السلام .
وجه المناسبة لما سبق من الآيات
مناسبة قصة ( داود ) وولده ( سليمان ) عليهما السلام لما سبق من الآيات الكريمة هي : أن الكفار لما أنكروا البعث والنشور لاستحالته في نظرهم ، أخبرهم الله عزّ وجل بوقوع ما هو مستحيل في العادة ، مما لا يمكنهم إنكاره من تأويب الجبال والطير ، وإلانة الحديد لداود حتى كان بين يديه كالشمع أو كالعجين مع أنه جرم صلب ، وكذلك تسخير الريح لسليمان تحمله مع جنده ، وإسالة النحاس له حتى كان يجري بقدرة الله كجري الماء ، وتسخير الجن تعمل له ما شاء من الأعمال الشاقة ممّا ليس في طاقة البشر ، وكل هذا أثر من آثار قدرة الله عزّو وجلّ ، فلا استحالة إذاً لأنّ الله على كل شيء قدير ، وهذه هي وجه المناسبة بين هذه الآيات الكريمة والآيات السابقة ، والله أعلم .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { أوّبي } بالتشديد من التأويب أي رجّعي معه التسبيح ، وقرأ بعضهم { أُوبي } بضم الهمزة وتخفيف الواو ، من الأوب ، أي عودي معه في التسبيح كلّما عاد .
قال أبو السعود : « كان كلّما سبّح عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبّح معجزة له » .
ثانياً : قرأ الجمهور { والطّيرَ } بالنصب ، وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة { والطيرُ } بالرفع ، فأمّا قراءة النصب فهي عطف على قوله ( فضلاً ) أي وسخرنا له الطيرَ ، وأما قراءة الرفع فله وجهان : الأول : أن يكون عطفاً على الجبال ، والمعنى : يا جبال رجّعي التسبيح معه أنتِ والطيرُ ، والثاني : أن يكون على النداء ، والمعنى : يا جبالُ ويا أيّها الطيرُ سبّحي معه .
ثالثاً : قوله تعالى : { أَنِ اعمل سابغات } قراءة الجمهور بالسين ، وقرئ بالصاد { صابغات } مثل : ( سوط و ( صوط ) ، و ( مسيطر ) و ( مسيطر ) تبدل من الصاد السين .
رابعاً : قوله تعالى : { ولسليمان الريح } قرأ الجمهور بنصب الريح على معنى : وسخرنا لسليمان الريحَ ، وقرأ المفضّل عن عاصم ( الريحُ ) بالرفع على معنى : لسليمان الريحُ مسخرةٌ ، وقرأ أبو جعفر { الرياحُ } على الجمع .
خامساً : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل { يَزغْ } وقرئ بالبناء للمفعول { يُزَغ } من أزاغ الرباعي .
سادساً : قوله تعالى : { وَجِفَانٍ كالجواب } قرأ الجمهور { كالجواب } بدون ياء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { كالجوابي } بياء ، إلاّ أنَّ ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف ، وأبو عمروا يثبتها في الوصل دون الوقف .(1/496)
قال الزجّاج : « وأكثر القراء على الوقف بدون ياء ، وكان الأصل الوقف بالياء ، إلاّ أن الكسرة تنوب عنها » .
سابعاً : قوله تعالى : { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قرأ لجمهور بالهمز { منسأته } وقرأ نافع وأبو عمرو { منساته } من غير همز وهي لغة أهل الحجاز .
ثامناً : قوله تعالى : { تَبَيَّنَتِ الجن } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل ، وقرأ يعقوب { تُبُيّنت } بالبناء للمفعول .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } آتى : تنصب مفعولين لأنها بمعنى أعطى ، و { دَاوُودَ } مفعول أول ، و { فَضْلاً } مفعول ثان ، و { مِنَّا } الجار والمجرور متعلق بمحذوف متعلق بمحذوف صفة ل { فَضْلاً } أي فضلاً كائناً منا .
ثانياً : قوله تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد * أَنِ اعمل سابغات } قال أبو البركات ابن الأنباري : ( أنْ ) فها وجهان :
أحدهما : أن تكون مفسِّرة بمعنى أي ، ولا موضع لها من الإعراب .
والثاني : أن تكون في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : لأن تعمل ، أي ألنّا له الحديد لهذا الأمر ، و { سابغات } أي دروعاً سابغات فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامة .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي بعضهم لأنّ { مِنَ } للتبعيض . والجار والمجرور { مِنَ الجن } في محل رفع خبر مقدم ، و { مَن يَعْمَلُ } الجملة في محل رفع مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومن الجن عمّال مسخرون له ، وجوّز النحاة أن يكون قوله : { مَن يَعْمَلُ } في موضع نصب بفعل محذوف مقدر ، والتقدير : سخّرنا من الجنّ من يعمل بين يديه .
أقول : وفيه تكلف والوجه الأول أوضح .
رابعاً : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } { مَن } : شرطية في موضع رفع على الابتداء ، و { نُذِقْهُ } جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر المبتدأ .
خامساً : قوله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } . . { شُكْراً } منصوب لأنه مفعول له أي أعملوا من أجل شكر الله ، ويحوز أن تكون حالاً أي اعملوا شاكرين لله .
أقول : وهذا أرجح ، قال ابن مالك :
ومصدرٌ منكرٌ حالاً يقع ... بكثرة كبغتةً زيد طلع
وجوّز بعض النحاة : أن تكون مفعولاً به أي أعملوا الشكر ، وردّ ابن الأنباري هذا الوجه فقال : « ولا يكون منصوباً ب ( اعملوا ) لأن ( اشكروا ) أفصح من ( اعملوا الشكر ) ا ه ، وهذا القول وجيه فتدبره .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : خصّ الله تعالى نبيه ( داود ) عليه السلام ببعض الخصوصيات فسخّر له الجبال والطير تسبح معه ، وألان له الحديد ، وجمع له بين ( النبوة والملك ) كما جمع ذلك لولده ( سليمان ) عليه السلام ، وذلك من الفضل الذي أعطيه آل داود .
قال ابن عباس : كانت الطير تسبّح مع داود إذا سبّح ، وكان إذ قرأ لم تبق دابة إلاّ استمعت لقراءته ، وبكت لبكائه .(1/497)
وقال وهب بن منبّه : كان يقول للجبال : سبّحي ، وللطير : أجيبي ثمّ يأخذ ف تلاوة الزبور بصوته الحسن ، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه .
اللطيفة الثانية : التنكير في قوله تعالى : { فَضْلاً } للتفخيم أي فضلاً عظيماً خصصناه به من بين سائر الأنبياء ، وقوله : { مِنَّا } فيه إشارة إلى أن هذا الفضل هائل ، لأنه صادر من الله تعالى مباشرةً تكريماً لنبيه داود ، كما قال تعالى عن العبد الصالح : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
قال أبو السعود : وتقديم داود على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم ، والتشويق إلى المؤخر ، فإنّ ما حقه التقديم إذا أُخّر ، تبقى النفس مترقبة له ، فإذا ورد يتمكن عندها فَضْل تمكن .
اللطيفة الثالثة : ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة ، ولم يجئ ذكره لتوفيه قصة بتمامها ، وإنما هو لتعداد آلاء الله على سليمان ، فمنها ذكاؤه وبصره النافذ في الحكم والقضاء { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث } [ الأنبياء : 78 - 79 ] إلى قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [ الأنبياء : 78 - 79 ] ومنها تعليمه منطق الطير { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير } [ النمل : 16 ] ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب ، وفي القرآن إشارة إلى عملية صهر المعادن الصلبة { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } ومنها تسخير الجن يعملون له ما يعجز عنه البشر { والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ ص : 37 ] وقوله : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } وقد أعطاه الله الجاه الكبير ، والسلطان الواسع ، والملك العظيم الذي لم يُعطَه أحد بعده { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } [ ص : 35 ] .
وكلّ هذا من الفضل الذي خصّ الله تبارك وتعالى به آل داود عليه السلام .
اللطيفة الرابعة : قال العلامة أبو السعود رحمه الله : قوله تعالى : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير } . « في تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المخاطبين ، المطيعين لأمره تعالى ، المذعنين لحكمه ، المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق ، إلاّ وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته ، من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى ، وكمال كبرياء سلطانه ما لا يخفى على أولى الألباب » .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } فيه إيجاز بالحذف أي مسيرة شهر فهو على حذف مضاف والتقدير : غدوّها مسيرة شهر ، ورواحها مسيرة شهر ، وإنما وجب هذا التقدير لأنّ الغدوّ والرواح ليسا بالشهر ، وإنما يكونان فيه ، فتنبه له فإنه دقيق .
قال قتادة : « كانت الريح تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار ، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار ، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين » .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الآية فإن قيل : إن الاجماع بالجن فيه مفسدة للإنسان ولهذا قال تعالى :(1/498)
{ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97 - 98 ] فكيف سخّرت الشياطين لسليمان عليه السلام؟
فالجواب : أن ذلك الاجتماع والتسخير كان بأمر الله عز وجل وتسخيره بدليل قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِ } فلم يكن فيه مفسدة وإنما كان فيه مصلحة لسليمان عليه السلام ، ولفظ الرب ينبئ عن التربية والحفظ والرعاية ، فسليمان عليه السلام كان في حفظ الله ورعايته ، فلذلك لم يصله ضرر من جهتهم .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } في الآية الكريمة إشارة دقيقة إلى أنّ الجن الذين كانوا مسخّرين لسليمان ، لم يكونوا من المؤمنين وإنما كانوا من المردة الكافرين ، لأنّ سليمان لا يعذِّب المؤمنين ولا يذيقهم أنواع العذاب ، لأن كلّ رسول يكون رحيماً بأتباعه . ودلّ على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى : { مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين .
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } فيه إشارة إلى أن الشكر الوافر الكامل ، بالقلب واللسان والجوارح لا يمكن أن يتحقق ، لأن التوفيق لشكر الله تعالى نعمة من الله تستدعي شكراً آخر ، لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر ، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه و { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . ومع ذلك فإن الشكر بقدر الطاقة قليل في الناس ، والكفرانَ لنعم الله أكثر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل كانت التماثيل مباحة في شريعة سليمان عليه السلام؟
يدل ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن محاريب وتماثيل } على حل اتخاذ التماثيل ، وعلى أنها كانت مباحة في شريعة سليمان عليه السلام ، فالقرآن الكريم صريح في امتنان الله تعالى على ( سليمان ) بأن سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء من ( محاريب ، وتماثيل ، وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ) وتخصيصُ هذه الأشياء بالذكر في معرض الإمتنان دليل على جوازها ، وإذنٌ من الله تعالى باتخاذها ، وللعلماء في هذه الآية الكريمة أقوال -نجملها فيما يلي :
أ- إن التماثيل الي أشار إليها القرآن كانت مباحة في شريعة سليمان ، وقد نسخت في الشريعة الإسلامية ، ومن المعلوم أن شريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يرد ناسخ ، وقد وجد هذا الناسخ فيكون اتخاذ التماثيل محرماً في شريعتنا قطعاً .
ب- إن التماثيل التي كانت في عهد نبي الله سليمان عليه السلام ، لم تكن تماثيل لذي روح من إنسان أو طير أو حيوان ، وإنما كانت تماثيل لما لا روح له كالأشجار والبحار والمناظر الطبيعية ، فتكون شريعته عليه السلام موافقة لشريعتنا كما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى .(1/499)
الحكم الثاني : ما هو حكم التماثيل والصور في الشريعة الإسلامية؟
نعى القرآن الكريم على التماثيل وشنذع على من كان يعكف عليها { مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] وندّد بمن يتخذ الأصنام والأوثان آلاهة { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] ؟ .
وفي القرآن الكريم من قصص إبراهيم عليه السلام في تحطيم الأصنام ما هو معروف ، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم حطّم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة ، والتي كانت على الصفا والمروة .
والدين الإسلامي دين التوحيد ، وعدوّ الشرك ، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك ، ولذلك فقد كانت حملته شديدة على الوثنية وعبادة الأصنام ، وحرّمت الشريعة الإسلامية ( التماثيل ) لأنها تؤدي إلى ذلك المنكر الفاحش .
والسنَّةُ المطهّرة جاءت بالنعي على التصوير والمصورين ، والنهي عن اتخاذ الصور والتنفير منها ، ولذلك فإنّ من المقطوع به أن الإسلام حرّم التماثيل والتصاوير تحريماً قاطعاً جازماً .
وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على التحريم ، حتى كادت تبلغ حد التواتر ، وسنعرض إلى ذكر بعض هذه النصوص فنقول ومن الله نستمد العون .
الأدلة القاطعة على تحريم التصوير
النص الأول : روى البخاري ومسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » .
النص الثاني : روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن اصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيو ما خلقتم » .
النص الثالث : روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي زُرعة قال : دخلتُ مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم ، فرأى فيها تصاوير وهي تُبنى ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجلّ :
« ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو فليخلقوا حبة ، أو فليخلقوا شعيرة » .
النص الرابع : روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إني أصوّر هذه الصور فأفْتني فيها ، فقال له : ادن مني فدنا ، ثم قال : ادن مني فدنا ، حتى وضع يده على رأسه وقال : إنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : « كلّ مصوّر في النار ، يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس فيعذبه في جهنم » .
قال ابن عباس : ( فإن كنت لا بدّ فاعلاً فصوّر الشجر ، وما لا روح فيه ) .
وفي رواية أخرى عنه : سمعته يقول : « من صوّر صورة فإنّ الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً » ثم قال له ابن عباس : ( إن أبيت إلاّ أن تصنع ، فعليك بهذه الشجر ، كل شيء ليس فيه روح ) .
النص الخامس : روى الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير ، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل ، قالت : فعرفت في وجهه الكراهية ، فقلت يا رسول الله : أتوب إلى الله ورسوله ماذا أذنبت؟ فقال : ما بال هذه النمرقة؟ قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسّدها ، فقال : إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، فيقال لهم : أحيوا ما خلقتم ، وقال : إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة .(1/500)
النص السادس : روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ رضي الله عنه : « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته » .
النص السابع : ( روى الستة عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نمطاً فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه وقال : « إنّ الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين!! » قالت عائشة : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً ، فلم يعب ذلك عليّ ) .
النص الثامن : روى الشيخان والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعضُ نسائه كنيسةً يقال لها ( مارية ) وكانت أم سلمة ، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة ، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : « أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ ، بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور ، أولئك شرارُ خلق الله » « .
أقول : هذه النصوص وأمثَالها كثير ، تدل دلالة قاطعة على حرمة التصوير ، وكلُ من درس الإسلام علِمَ عِلْمَ اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم التصوير ، واقتناء الصور وبيعها ، وكان يحطّم ما يجده منها ، وقد ورد تشديد الوعيد على المصوّرين ، واتفق أئمة المذاهب على تحريم التصوير لم يخالف في ذلك أحد ، ولبعض العلماء استثناء شيء منها ، سنذكره فيما بعد ، كما نذكر علة التحريم ، ونعرّج بعد ذلك على حكم التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) وننقل آراء العلماء فيه على ضوء النصوص الكريمة .
العلة في تحريم التصوير
يظهر لنا من النصوص النبوية السابقة ، أنّ العلة في تحريم التماثيل والصور ، هي ( المضاهاة ) والمشابهة لخلق الله تعالى ، يدل على ذلك :
أ- حديث : » أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله « .
ب- وحديث : » إن أصحاب هذه الصور يُعذّبون . . . يقال لهم : أحيوا ما خلقتم « .
ج - وحديث : » ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي . . . فليخلقوا حبة ، أو فليخلقوا شعيرة « .
فالعلة هي إذاً : التشبه بخلق الله ، والمضاهاة لصنعه جل وعلا .
كما أن الحكمة أيضاً في تحريم التصوير هي : البعد عن مظاهر الوثنية ، وحماية العقيدة من الشرك ، وعبادة الأصنام ، فما دخلت الوثنيّة إلى الأمم الغابرة إلاّ عن طريق ( الصور والتماثيل ) كما دل عليه حديث أم سلمة وأم حبيبة السابق وفيه قوله عليه الصلاة والسلام :(1/501)
« أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار خلقِ الله يوم القيامة » .
وقد روي أن الأصنام التي عبدها قوم نوح ( وَدّ ، وسُوَاغٌ ، ويغُوثُ ، ويعُوقُ ، ونسْرُ ) التي ذكرت في القرآن الكريم ، كانت اسماءً لأناسٍ صالحين من قوم نوح ، فلما ماتوا اتخذ قومُهم لهم صوراً ، تذكيراً بهم وبأعمالهم ، ثمّ انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم .
ذكر الثعلبي عن ابن عباس : في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] أنه قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ، أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً ، وسموها بأسمائهم تذكروهم بها ، ففعلوا ، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ، ونُسخ العلم عبدت من دون الله « .
قال أبو بكر ابن العربي : » والذي أوجب النهي في شريعتنا - والله أعلم - ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصوّرون ويعبدون ، فقطعَ اللَّهُ الذريعة ، وحَمَى الباب « .
قال ابن العربي : » وقد شاهدت بثغر الإسكندرية ، إذا مات ميّت صوّروه من خشب في أحسن صورة ، وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزيّه إن كان رجلاً ، وحليتها إن كانت امرأة ، وأغلقوا عليه الباب ، فإذا أصاب واحداً منهم كرب أو تجدّد له مكروه ، فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه ، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ، ثمّ يغلق الباب عليه وينصرف ، وإن تمادى بهم الزمان تَعْبدوها من جملة الأصنام « .
أنواع الصور
قسم العلماء الصّور إلى قسمين :
أ- الصور التي لها ظل وهي المصنوعة من جبس ، أو نحاسٍ ، أو حجر أو غير ذلك وهذه ( التماثيل ) .
ب- الصور التي ليس لها ظل ، وهي المرسومة على الورق ، أو المنقوشة على الجدار ، أو المصوَّرة على البساط والوسادة ونحوها وتسمى ( الصور ) .
فالتمثال : ما كان له ظل ، والصورة : ما لم يكن لها ظل ، فكل تمثال صورة ، وليس كل صورة تمثالاً .
قال في » لسان العرب « : » والتمثال : الصورة ، والجمع التماثيل ، وظلّ كل شيء تمثاله ، والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبّهاً بخلقٍ من خلق الله ، وأصله : من مثّلت الشيء بالشيء إذا قدّرته على قدره ، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهاً به ، واسم ذلك الممثّل تمثال « .
وقال القرطبي : قوله تعالى : { وتماثيل } جمع تمثال ، وهو كلّ ما صُوّر على مثل صورة من حيوان ، وقيل : كانت من زجاج ، ونحاس ، ورخام ، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصوّر في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة واجتهاداً .(1/502)
فإن قيل : كيف استجاز الصور المنهيّ عنها؟
قلنا : كان ذلك جائزاً في شرعه ، ونسخ ذلك بشرعنا .
ما يحرم من الصور والتماثيل
يحرم من الصور والتماثيل ما يأتي :
أولاً : التماثيل المجسّمة إذا كانت لذي روح من إنسان أو حيوان يحرم بالإجماع للحديث الشريف : « إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ، ولا صورة ، ولا تماثيل ، ولا جنب » .
ثانياً : الصورة المصوّرة باليد لذي روح : حرام بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم » ولحديث : « من صوّر صورة أُمر أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ » .
ثالثاً : الصورة إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح حرام كذلك بالاتفاق لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق : « أُمِرَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ » .
ولحديث عائشة : ( دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرامٍ فيه صورة ، فتلوّن وجهه ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : « إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشبّهون خلق الله » قالت عائشة : فقطعته فجعلت منه وسادتين ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما ) .
فهتْكُه عليه السلام للستر يدلُّ على التحريم ، وتقطيع عائشة له وجعله وسادتين بحيث انفصلت أجزاء الصورة ولم تعد صورة كاملة يدل على الجواز ، فمن هنا استنبط العلماء أن الصورة إذا لم تكن كاملة الأجزاء فلا حرمة فيها .
رابعاً : الصورة إذا كانت بارزة تشعر بالتعظيم ، ومعلّقة بحيث يراها الداخل حرام أيضاً بلا خلاف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان له ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حوّلي عني هذا ، فإني كلّما رأيته ذكرتُ الدنيا ) .
ولحديث أبي طلحة عن عائشة قالت : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نَمَطاً فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النّمَط عرفت الكراهية في وجهه ، فجذبه حتى هتكه وقال : إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ، قالت : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً ، فلم يعب ذلك عليَّ ) .
ما يباح من الصور والتماثيل
ويباح من الصور والتماثيل ما يأتي :
أ- كل صورة أو تمثال لما ليس بذي روح كتصوير الجمادات ، والأنهار والأشجار ، والمناظر الطبيعية التي ليست بذات روح فلا حرمة في تصويرها لحديث ابن عباس السابق حين سأله الرجل إني أصوّر هذه الصور فأفتني فيها؟ . . . فأخبره بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له ابن عباس : ( إن كنت لا بدَ فاعلاً فصوّر الشجر ، وما لا روح له ) .(1/503)
ب- كل صورة ليست متصلة الهيئة كصورة اليد وحدها مثلاً ، أو العين ، أو القدم ، فإنها لا تحرم لأنها ليست كاملة الخلق ، لحديث عائشة : ( فقطتعها فجعلت منها وسادتين فلم يعب صلى الله عليه وسلم ذلك علي ) وقد تقدم .
ح - ويستثنى من التحريم ( لعب البنات ) لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين ، وزُفَت إليه وهي بنت تسع ولُعَبُها معها ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة .
وروي عنها أنها قالت : « كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسرّبُهنّ إليّ فيلعبن معي .
قال العلماء : وإنما أبيحت لعب البنات للضرورة إلى ذلك ، وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهنّ ، ثم إنه لا بقاء لذلك ، ومثله ما يصنع من الحلاوة أو العجين لا بقاء له ، فرُخّص في ذلك والله أعلم .
أقوال العلماء في التصوير
قال القاضي ابن العربي : مقتضى الأحاديث يدل على أن الصور ممنوعة ، ثم جاء : » إلاّ ما كان رقماً في ثوب « فخُص من جملة الصور ، ثمّ ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب المصوّر ، » أخّريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا « ، ثمّ بهتكه الثوب المصوّر على عائشة منع منه ، ثمّ بقطعها له وسادتين تغيّرت الصورة وخرجت عن هيئتها ، فإنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النّمرقة المصورة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوَسّدها ، فمنع منه وتوعدّ عليه ، وتبيّن بحديّث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ، ثم نسخه المنع منه ، فهكذا استقرّ الأمر فيه .
وقال أبو حيان : » والتصوير حرام في شريعتنا ، وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها ، وفي حديث ( سهل بن حنيف ) : لعن الله المصورين ، ولم يستثن عليه السلام ، وحكي أن قوماً أجازوه ، قال ابن عطية : وما أحفظ من إئمة العلم من يجوّزه « .
وقال الألوسي : » الحقُّ أنَّ حرمة تصوير الحيوان كاملاً لم تكن في شريعة سليمان عليه السلام ، وإنما هي في شرعنا ، ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل ، أو لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد ، أو جدارٍ مثلاً ، وقد ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصوّرين ما ورد ، فلا يُلْتفت إلى غيره ، ولا يصح الاحتجاج بالآية « .
وقال القرطبي : » لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن ، وقال : « إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم »(1/504)
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خرج عُنق من النار يوم القيامة ، له عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق يقول : إني وكّلت بثلاث : بكلّ جبَّارٍ عنيد ، وبكلّ من دعا مع الله إلها آخر ، وبالمصورين » .
وفي البخاري « أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون » يدل على المنع من تصوير أيّ شيء كان .
وقال الإمام النووي : إنَّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظل لها ، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس ، أو يمتهن بالاستعمال كالوسائد .
وقال العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري : « حاصل ما في اتخاذ الصور إنها إن كانت ذات أجسام حَرُمَ بالإجماع ، وإن كانت رقماً في ثوب فأربعة أقول :
الأول : يجوز مطلقاً عملاً بحديث إلا رقماً في ثوب .
الثاني : المنع مطلقاً عملاً بالعموم .
الثالث : إن كانت الصورة باقية بالهيئة ، قائمة الشكل حرم ، وإن كانت مقطوعة الرأس ، أو تفرقت الأجزاء جاز ، قال : وهذا هو الأصح .
الرابع : إن كانت مما يمتهن جاز وإلاّ لم يجز ، واستثني من ذلك لعب البنات . ا ه .
حكم التصوير الفوتوغرافي
يرى بعض المتأخرين من الفقهاء أن التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) لا يدخل ( دائرة التحريم ) الذي يشمله التصوير باليد المحرّم ، وأنه لا تتناوله النصوص النبوية الكريمة التي وردت في تحريم التصوير ، إذ ليس فيه ( مضاهاة ) أو مشابهة لخلق الله ، وأن حكمة حكم الرقم في الثوب المستثنى بالنص .
يقول فضيلة الشيخ السايس ما نصه : » ولعلك تريد أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي فنقول : يمكنك أن تقول إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب ، وقد علمت استثناءه نصاً ، ولك أن تقول : إنّ هذا ليس تصويراً ، بل حبساً للصورة ، وما مَثَلُه إلا كمثل الصورة في المرآة ، لا يمكنك أن تقول إن ما في المرآة صورة ، وإن أحداً صوّرها .
والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة ، غايةُ الأمر أن المرآة ( الفوتوغرافيه ) تثبت الظل الذي يقع عليها ، والمرآة ليست كذلك ، ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت ( العفريته ) في حمض خاص فيخرج منها عدة صور ، وليس هذا بالحقيقة تصويراً ، فإنه إظهار واستدامة لصور موجودة ، وحبس لها عن الزوال ، فإنهم يقولون : إن صور جميع الأشياء موجودة غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ، ما لم يمنع من انتقالها مانع ، والحمض هو ذلك المانع ، وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور ، كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها خصوصاً وقد ظهر أن الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها « ا ه .
أقول : إن التصوير الشمسي ( الفوتوغرافي ) لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع التصوير ، فما يخرج بالآلة يسمّى ( صورة ) ، والشخص الذي يحترف هذه الحرفة يسمى في اللغة والعرف ( مصوّراً ) فهو وإن كان لا يشمله النص الصريح ، لأنه ليس تصويراً باليد ، وليس فيه مضاهاة لخلق الله ، إلاّ أنه لا يخرج عن كونه ضرباً من ضروب التصوير ، فينبغي أن يقتصر في الإباحة على ( حدّ الضرورة ) ، وما يتحقق به من المصلحة ، قد يكون إلى جانبها مفسدة عظيمة ، كما هو حال معظم المجلات اليوم ، التي تنفث سمومها في شبابنا وقد تخصّصت للفتنة والإغراء ، حيث تُصَوَّر فيها المرأةُ بشكل يندى له الجبين ، بأوضاع وأشكال تفسد الدين والأخلاق .(1/505)
فالصور العارية ، والمناظر المخزية ، والأشكال المثيرة للفتنة ، التي تظهر بها المجلات الخليعة ، وتملأ معظم صفحاتها بهذه الأنواع من المجون ، مما لا يشك عاقل في حرمته ، مع أنه ليس تصويراً باليد ، ولكنه في الضرر والحرمة أشد من التصوير باليد .
ثمّ إن العلة في التحريم ليست هي ( المضاهاة ) والمشابهة لخلق الله فحسب ، بل هناك نقطة جوهرية ينبغي التنبه لها وهي أن ( الوثنية ) ما دخلت إلى الأمم السابقة إلاّ عن طريق ( الصور ) ، حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح ، صوّروه تخليداً لذكراه ، واقتداءً به ، ثمّ جاء مَنْ بعدَهم فعبدوا تلك الصورة من دون الله ، فما يفعله بعض الناس من تعليق الصور الكبيرة المزخرفة في صدر البيت ، ولو كانت للذكرى ، وليست تصويراً باليد ، مما لا تجيزه الشريعة الغراء ، لأنه قد يجر في المستقبل إلى تعظيمها وعبادتها ، كما فعل أهل الكتاب بأنبيائهم وصلحائهم .
فإطلاق الإباحة في التصوير الفوتوغرافي ، وأنه ليس بتصوير وإنما هو حبس للظلّ ، مما لا ينبغي أن يقال ، بل يقتصر فيه على حد الضرورة ، كإثبات الشخصية ، وكلِّ ما فيه مصلحة دنيوية مما يحتاج الناس إليه والله تعالى أعلم .
الشبه الواردة على تحريم التصوير
يذهب بعض أدعياء العلم ، ممن تأثروا بالثقافة الغربية ، إلى إثارة بعض الشبه على تحريم التصوير ، بقصد التزلف إلى الحضارة الغربية ، والاندماج فيما خيّل لهم أنه فنّ راق ، وذوق سليم ، أو بقصد التقرب إلى المترفين ومسايرتهم على أهوائهم ، لينالوا بعض المناصب .
الشبهة الأولى :
يزعمون أنّ ما ورد من نصوص في تحريم التصوير ، إنما هو إجراء مؤقت اقتضته ظروف الدعوة الإسلامية ، لمجابهة الشرك والوثنية ، وأنّ الغاية هي قطع الطريق على الوثنية ، فلمّا زال الخوف من عباده الأوثان والأصنام زالت الحاجة إلى تحريم التصوير .
وللرد على هذه الشبهة سنكتفي بنقل كلام فضيلة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في دحض هذه الشبهة ، حيث جاء في تعليقه على الحديث ( 7166 ) من « المسند » ما نصه :
« وكان من حجة أولئك . . أن تأولوا النصوص بعلة لم يذكرها الشارع ، ولم يجعلها مناط التحريم - في ما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد بالوثنية . أمّا الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل ، فقد ذهبت علة التحريم ، ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان .(1/506)
وقد نسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة ، بالتقريب إلى القبور وأصحابها ، واللجوء إليها عند الكروب والشدائد ، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر بها أصحابها .
وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة : أن ملئت بلادنا بمضاهر الوثنية الكاملة ، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد ، تكريماً لذكرى من نسبت إليه وتعظيماً ، ثمّ يقولون لنا : إنها لم يقصد بها التعظيم ، ثم صنعت الدولة - وهي تزعم أنها إسلامية - معهداً للفنون الجميلة . . . معهداً للفجور الكامل الواضح ، يدخله الشبان الماجنون ، من الذكور والإناث ، يقفن عرايا ، ويجلسن عرايا ويصطجعن عرايا ، وعلى كل وضع من الأوضاع الفاجرة ، لا يسترون شيئاً ، ثمّ يقولون لنا : هذا فن . . !؟ .
الشبهة الثانية :
يقولون : إن الأحاديث الدالة على التحريم ، هي أحاديث آحاد ولا تفيد القطع ، وإنه لا يمكن أن ننسب إلى الإسلام تحريم ( فنّ ) من الفنون ما لم يكن هناك نصٌ قطعيٌ بالحرمة .
وللرد على هذه الشبهة نقول :
« هذا جهل فاضح بأحكام الشريعة الغراء ، فإن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول ، أو فعل ، أو عمل ، يجب الأخذ به سواء كان النقل بطريق الآحاد ، هذا متفق عليه بين العلماء ، ومن المعلوم بالضرورة أن أكثر الأحكام الفقهية الشرعية إنما ثبتت بخبر الآحاد ، فلو كانت أخبار الآحاد لا تفيد القطع - كما زعموا - لضاعت أكثر أحكام الشريعة ، وهذا كلام لا يصدر عن فقيه عالم ، إنما يصدر عن جاهل بأصول الشريعة الغراء ، وطرق استنباط الأحكام .
ومن المفارقات العجيبة أنّ الذين يحتجون بأمثال هذه الحجج الواهية ، يأخذون بأحاديث - لإثبات رأيهم - لا تصلح للاحتجاج لنكارتها ، وضعف سندها ، وجهل رواتها ، ولكنها لما كانت موافقة لأهوائهم يتمسكون بها ، لأن في إبطالها إبطالاً لأكثر أحكام الشريعة .
ومن جهة ثانية : فإنّ النصوص الواردة في تحريم التصوير بلغت حدّ التواتر ، وتناقلها المسلمون جيلاً عن جيل ، فلا مجال للمتشككين أن يدخلوا من هذا الباب ، ونزيدك علماً بأن الشعوب الإسلامية لم يوجد فيها تصوير أو نحت بقدر كبير ، وأنّ الفنّانين المسلمين انصرفوا عن التصوير ، وصنع التماثيل ، إلى استخدام النقش الهندسي ، والتزيين العربي ، والتشكيل النباتي وغيرها . . وكلّ ذلك بسبب ما يعلمون من تحريم الإسلام للتصوير ، فلو لم يكن في اعتقادهم محرماً لما تركوه وانصرفوا إلى غيره ، ويكفي هذا للرد على أولئك الزاعمين .
الشبهة الثالثة :
يستشهدون على إباحة التصوير بآيات من القرآن الكريم ، لا يصح الاحتجاج بها لأنها ليست من شريعتنا ، وإنما هي من الشرائع السابقة المنسوخة بشريعة الإسلام ، منها الآية الكريمة التي هي موضوع بحثنا وهي قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور }(1/507)
[ سبأ : 13 ] .
فإن هذه الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على حل التصوير ، لأنها إخبار عمّا كان يعمله الجن لسليمان عليه السلام ، وليس فيها ما يدل على أن التماثيل كانت لذي روح ، ومع ذلك فإنها شريعة سابقة ، وقد نصّ العلماء على أنّ ( شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم يرد ناسخ ) ، وقد ورد الناسخ في الشريعة الإسلامية فلا حجة فيها .
وهذه القاعدة : متفق عليها علماء المسلمين ، فالسجود بقصد التحية لغير الله تعالى كان جائزاً في شريعة يوسف عليه السلام ، وقد حرّمه شرعنا فلا يصح الاحتجاج بما ذكره الله من سجود أخوة يوسف له على إباحة السجود لغير الله ، وشريعتنا ناسخة لما قبلها من الشرائع وقد حرمت التماثيل فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية الكريمة والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : الفضل العظيم الذي خصّ الله تعالى به نبيه داود عليه السلام .
ثانياً : تسبيح الجبال والطير مع النبي ( داود ) كان معجزة له عليه السلام .
ثالثاً : الصناعات والحِرَف لا تحط من قدر الأنبياء ، فداودُ عليه السلام علّمه الله صنعة الدروع .
رابعاً : سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره ، كما سخر لأبيه الجبال والطير تكريماً له عليه السلام .
خامساً : الجن كانت تعمل لسليمان عليه السلام ما يعجز عنه البشر من الأعمال بأمر الله تعالى .
سادساً : صنعُ التماثيل كان مباحاً في شريعة النبي سليمان عليه السلام ثم نسخ في الشريعة الإسلامية .
سابعاً : منصب « النبوّة » أعلى من منصب « المُلْك » وقد جمع الله لسليمان بين النبوة والملك .
ثامناً : فضل الله عظيم على عباده وخاصة منهم الأنبياء فعليهم أن يشكروا الله على نعمه .
تاسعاً : الجن لا تعلم الغيب ولو كانت تعلمه لعرفت موت سليمان عليه السلام وما بقيت في الأعمال الشاقة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء ، والناس في وثنيّة غارقة ، قد تدهورت أحوالهم ، وانحطت أوضاعهم ، حتى وصلوا إلى درجة عبادة ( الأوثان والأصنام ) ، وقد كان حول الكعبة المعظمة ثلاثمائة وستون صنماً - بعدد أيام السنة - كلُّها آلهة تُعْبد من دون الله ، فلما فتح عليه الصلاة والسلام مكة حطَّمها بنفسه فلم يبق لها أثراً وهو يردّد قوله تعالى : { جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ] .
وقد دخلت هذه الوثنية إلى العرب ، عن طريق أهل الكتاب ، وبسبب التماثيل والتصاوير ، وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم ، حتى غدت الجزيرة العربية مهداً للوثنيّة ، ومركزاً لعبّاد الأوثان والأثنام ، فلمّا جاء الإسلام حرّم الصور والتماثيل ، وكال ما يدعو إلى ( الوثنية ) من قريب أو بعيد ، وحمل حملة شعواء على المصورين ، فمنع من تصوير كل ذي روح ، حماية للعقيدة ، وصيانة للأمة ، وتطهيراً للمجتمع من لوثة الشرك وعبادة الأوثان ، وبذلك اقتلع الإسلام الوثنية من جذورها ، وقضى على الشرك في مهده ، وطهّر الجزيرة من كل مظاهر الوثنية والإشراك .(1/508)
وقد يقول قائل : إن الوثنية قد انقضى زمانها بالتقدم الفكري عند الإنسان ، فلم يعد هناك من يعبد الأصنام والأوثان ، فَلِمَ إذن تبقى حرمة التصوير؟!
والجواب : أنَّ العقل البشري معرّض للانتكاس في كل حين وزمان ، ولا يستبعد أبداً أن يؤدي نصب التماثيل في الشوارع العامة ، وانتشار الصور في المحلات والبيوت ، إلى تعظيمها وعبادتها في المستقبل ، كما فعل من سبقنا من الأمم حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح صوّروه ونصبوا هذه الصور في أماكن بارزة ليتذكروا سيرته وأعماله ، ثمّ جاء من بعدهم فعظَّموها ثمّ جاء من بعدهم فعبدوها من دون الله .
وإذا كنا نجد في هذا العصر بالذات من المتناقضات ما يطير له عقل الإنسان فرقاً ، حيث طغت الرذائل على الفضائل ، وتبدّلت المفاهيم والقيم الأخلاقية ، وأصبحت مظاهر ( الهمجية ) من التكشف والعري ، والخلاعة والمجون ، تعبر في هذا العصر من مظاهر ( الرقي والتقدمية ) ، فأي إنسان لا يخاف على مستقبل البشرية وهو يرى هذه العجائب والغرائب ، تتمثل لعينيه والصور المضحكة والمبكية!!
ثمّ إننا لا نزال نرى في هذا العصر الذي يسمونه - عصر النور - من لا يزال يعبد البقر ويتبرّك بأرواثها ، فكيف نطمئن على العقلية البشرية من التردي نحو الهاوية؟! إن الذي يعبد البقر لا يستبعد عليه أن يعبد الصور؟! لذلك فإن التحريم شريعة الله وسيظل هذا التشريع فوق عقول البشر لأنه شرع الله ودينه الخالد .(1/509)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
سورة ص
[ 1 ] موقف الشريعة من الحيل
التحليل اللفظي
{ بِنُصْبٍ } : النُصْب بضم النون وسكون الصاد بمعنى التعب كالنّصَب . قال الفراء : هما كالرُشْد والرَشد ، والحُزْن والحزن معناهما واحد .
قال في اللسان : والنَّصْب ، والنّصْب والنُّصُب : والبلاء والشر ، والنّصَب : الأعياء من العناء . وفي التنزيل : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } [ الحجر : 48 ] أي تعب .
وقال أبو عبيدة : النُصْب : الشر والبلاء ، والنّصَب : التعب والإعياء .
والمراد في الآية : مرضُ أيوب وما كان يقاسيه من أنواع البلاء في جسده .
{ اركض } : الركض : الدفع بالرجل ، يقال : ركض الدابةَ إذا ضربها برجله لتعدو ، وقال المبرّد : الركض التحريك والضرب ، ولهذا قال الأصمعي : يقال رُكِضَت الدابةُ ، ولا يقال : ركَضَت هي ، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك . والمراد في الآية : اضرب برجلك ينبع الماء فتغتسل وتشرب منه .
{ مُغْتَسَلٌ } : المغتسل الماء الذي يُغتسل به ، وقيل : الموضع الذي يغتسل فيه ، والصحيح الأول .
{ ضِغْثاً } : الضّغْث في أصل اللغة : الشيء المختلط ومنه ( أضغاث أحلام ) للرؤيا المختلطة .
قال في اللسان : الضغث : قبضة من قضبان مختلفة يجمعها أصل واحد مثل الأسَل والكرّاث قال الشاعر :
كأنّه إذْ تدلّى ضِغْث كُرّاث ... وقيل : هي الحزمة من الحشيش ، مختلطة الرطب باليابس .
وقال ابن عباس : هو عُشْكال النخل الجامع بشماريخه . أي عنقود النخل المتفرّع الأغصان .
والمعنى : أمره الله أن يأخذ حزمة من العيدان فيها مائة عود ، ويضربها بها ضربة واحدة ، ليبرّ في يمينه ولا يحنث فيها .
{ تَحْنَثْ } : الحنثُ : الخُلْف في اليمين ، يقال : حنث في يمينه ، يحنث إذا لم يبرّ بها .
قال في اللسان : الحنيث في اليمين : نقضُها والنكثُ فيها ، وهو من الحِنْث بمعنى الإثم وفي الحديث : « اليمين حنْثٌ أو مندمة » ومعناه : إمّا أن يندم على ما حلف عليه ، أو يحنث فتلزمه الكفارة . والحنْث : الذنب العظيم ، وفي التنزيل العزيز : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } [ الواقعة : 46 ] .
{ أَوَّابٌ } : الأوْب : الرجوع ، والأوّاب : التّوَّاب ، الرجّاع ، الذي يرجع إلى التوبة والطاعة ، ويرجع إلى الله في جميع أمورة ، وهي من صيغ المبالغة مثل ( ظلاّم ) و ( قتّال ) .
المعنى الإجمالي
اذكر يا محمد لقومك قصة عبدنا ( أيوب ) إذ نادى ربه مستغيثاً به ، ضارعاً إليه ، فيما نزل به من البلاء ، راجياً أن يكشف الله عنه الضر حيث قال : ربّ إني أُصبتُ ببلاء وشدّة ، وتعب وضنى ، وأنت أرحم الراحمين ورب المستضعفين . . . فاستجاب الله الحليم الكريم دعاءه ، وكشف عنه شدته ، فأذهب عنه الآلام والأسقام ، وأمره أن يضرب برجله الأرض ، حتى تنبع له عين ماء يكون فيها شفاؤه ، وقلنا له : هذا مغتسل بارد وشراب ، تغتسل منه وتشرب فتشفى بإذن الله ، فلما ضرب الأرض نبعث له عين ماء ، فاغتسل منها فذهب الداء من ظاهره ، ثم شرب منها فذهب الداء من باطنه ، فعادت إليه الحياة الطبيعية التي كان يعيشها ، وشعر بأهله وأولاده ، ونعم بأسرته التي كانت بالنسبة إليه كالمفقودة ، ومتّعه الله بصحته وقواه حتى كثر نسله وتضاعف عدد أولاده ، ورزقه من الأموال فضلاً منه ونعمة ، وإكراماً لعبده الصابر الطائع ، وتذكيراً لعباد الله بفضل الله وإكرامه لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب - وهو أفضل أهل زمانه - وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا ومصائبها ، واللجوء إلى الله عز وجلّ فيما يحيق بهم كما لجأ أيوب ليفعل الله بهم ما فعل به من حسن العاقبة ، وعظيم الإكرام .(1/510)
وما كان الله - جلت حكمته - ليكرمه ويدع زوجه التي أحسنت إليه ، وأعانته في بلائه ومحنته ، وكان قد حلف لأمر فعلته ليضربنها مائة جلدة ، فجزاها الله بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها تسهيلاً عليه وعليها فأمره أن يجمع لها ( مائة عود ) ويضربها ضربة واحدة ، لا يحنث في يمينه .
ثم شهد الله تعالى لأيوب عليه السلام شهادة تبقى على مر الأزمان ، مظهره أنه كان في بلائه صابراً ، لا تحمله الشدة على الخروج عن طاعة ربه ، والدخول في معصيته ، فكان من خيره خلق الله وعبّاده ، مقبلاً على طاعته ، رجَّاعاً إلى رضاه ، فلم يكن دعاؤه عن تذمر وشكوى ، وإنما كان لجوءاً إلى الله العليّ القدير الذي بيده مقاليد السموات والأرض .
الغرض من ذكر القصة
المقصود من ذكر قصة ( أيوب ) عليه السلام ، وما قبلها من قصص الأنبياء الاعتبار بما يقع في هذه الحياة ، كأنّ الله تعالى يقول : يا محمد ، إصبر على سفاهة قومك ، وشدتهم في معاملتك ، ومقابلة دعوتك بالصدود والإعراض ، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالاً وجاهاً من ( داود ) و ( سليمان ) - عليهما السلام - وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب - عليه السلام - فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد ، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { أَنِّي مَسَّنِيَ } قرأ الجمهور بفتح همزة { أنّي } وقرأ عيسى بن عمر ( إنّي ) بكسرها على تقدير : قال إني .
ثانياً : قوله تعالى : { بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } قرأ الجمهور { بنُصْبٍ } بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ الحسن { بنَصَبٍ } بضمهما .
وقرأ بعضهم { بنَصْب } بفتح النون وسكون الصاد ، ونسبها جماعة إلى أبي جعفر .
قال الطبري : « والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراءة الأمصار وذلك الضم في النون والسكون في الصاد »
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } عطف على قوله { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] من عطف جملة على جملة .
و ( أيوب ) عطف بيان ، أو بدل من ( عبدنا ) بدل كل من كل .
ثانياً : قوله تعالى : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر } [ الأنبياء : 83 ] منصوب بنزع الخافض أي ( بأني مسَّني ) حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك قوله لقال : بأنه مسّه ، لأنه غائب .(1/511)
ثالثاً : قوله تعالى : { رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى } رحمة مفعول لأجله ، ومثلها { وذكرى } أي لرحمتنا إيّاه وليتذكّر أرباب العقول بما يحصل للصابر من الفضل والأجر .
رابعاً : قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } عطف على { اركض } أو على { وَهَبْنَا } بتقدير قلنا خذ بيدك ضغثاً .
قال الألوسي : « والأول أقرب لفظاً ، وهو أنسب معنى ، فإنَّ الحاجة إلى هذا الأمر لا تكون إلا بعد الصحة واعتدال الوقت » .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : في قصة أيوب عليه السلام كان قد حصل له نوعان من البلاء : ( المشقة الشديدة ) بسبب زوال النعم والخيرات ، وحصول المكروه و ( الألم الشديد ) في الجسم ، ولما كان كل منهما قد لحق به وأصابه الضرُّ بسببه ، أحدهما مادي ، والآخر جسدي ، ذكر الله تعالى في الآية الكريمة لفظين ( النُّصْب ) و ( العذاب ) ليقابل بذلك الضر الذي أصابه ، فالنُّصْب الضرُّ في الجسد ، والعذاب البلاء في الأهل والمال .
اللطيفة الثانية : وصف الله تعالى نبيّه ( أيوب ) عليه السلام بالصبر ، وأثنى عليه بقوله : { إِنَّا وجدناه صَابِراً } مع أن أيوّب كان قد اشتكى إلى ربه من الضر الذي أصابه فقال : { مَسَّنِيَ الضر } في سورة الأنبياء [ 83 ] ، وقال هنا : { مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } فدلّ ذلك على أنّ الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر ، وقد قال يعقوب عليه السلام : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] ولهذا مدحه الله بقوله : { نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } ولو كانت الشكوى إلى الله تعالى تنافي الصبر لما استحق هذا الثناء .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان } أسند الضُرَّ الذي أصابه في جسمه وأهله ، وماله ، إلى الشيطان أدباً مع الله تعالى ، مع أن الفاعل الحقيقي هو الله رب العالمين ، فالخيرُ والشرُ ، والنفع والضُّر ، بيد الله جلَّ وعلا . ولكن لا ينسب الشر إلى الله وإنما ينسب إلى النفس أو الشيطان ، ولهذا راعى عليه السلام الأدب في ذلك فنسبه إلى الشيطان ، وهو على حدّ قول إبراهيم عليه السلام : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 79 - 80 ] حيث نسب الإطعام إلى الله ونسب المرضَ إلى نفسه أدباً .
قال الزمخشري : « لمّا كانت وسوسته إليه ، وطاعته له فيما وسوس ، سبباً فيما مسّه الله به من النّصب والعذاب نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو » .
اللطيفة الرابعة : سئل سفيان عن عبدين ، ابتلى أحدهما فصبر ، وأُنْعم على الآخر فشكر ، فقال : كلاهما سواء ، لأن الله تعالى أثنى على عبدين : أحدهما صابر ، والآخر شاكر ثناءً واحداً فقال في وصف أيوب { نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } وقال وفي وصف سليمان { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] .
وفضّل بعض العلماء : الغنيّ الشاكر ، على الفقير الصابر ، لأن الغنَى ابتلاء وفتنة ، والشاكرُ من عباد الله قليل(1/512)
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] بخلاف الصابر فإنه كثير والمسألة فيها نظر .
اللطيفة الخامسة : يضرب المثل بصبر أيوب عليه السلام فيقال : ( صبرٌ كصبر أيوب ) وقد صبر على البلاء في جسمه ، وأهله ، وولده مدة ثمان عشرة سنة على الراجح من الأقوال ، ويروى أن زوجه لما طلبت منه أن يدعو الله أن يشفيه سألها : كم مكثنا في الرخاء؟ قالت سبعين عاماً ، فقال لها : ويحك كنّا في النعيم سبعين عاماً ، فاصبري حتى نكون في الضُرّ سبعين عاماً .
ويروى أنه قال لها : إني لأستحيي من الله أن أسأله أن يشفيني وما قضيتُ في بلائي ما قضيتُه في رخائي!!
ولهذا يضرب به المثل في الصبر .
اللطيفة السادسة : روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بينما أيوب يغتسل عرياناً خرّ عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب ، فجعل يحثي في ثوبه ، فناداه ربه يا أيوب : ألم أكن أغنيك عمّا ترى؟ قال : بلى يا رب ، ولكن لا غنى لي عن بركتك » .
قال بعض العلماء : حين صبر أيوب أكرمه الله بالمال الوفير ، والأجر الجزيل ، وعوّضَه عن الأهل والولد ، بضعفهم وبارك فيهم كما قال تعالى : { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ } [ الأنبياء : 84 ] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو سبب حلف أيوب عليه السلام بضرب أهله؟
دلّ ظاهر قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } على أن أيوب عليه السلام كان قد صدر منه يمين على ضرب أهله ، ويقول المفسّرون إنه حلف لئن شفاه الله ليجلدنّ زوجته مائة جلدة ، فأمره الله أن يأخذ قبضة من حشيش ، أو حزمة من الخلال والعيدان ، فيضرب بها ليبرّ بيمينه ولا يحنث ، ولم تذكر الآية سبب هذا الحلف ، وقد ذكر بعض المفسرين كلاماً طويلاً في سبب هذا اليمين ، فقيل : إن امرأة أيوب كانت تخدمه وضجرت من طول مرضه ، فتمثّل لها الشيطان بصورة طبيب ، وجلس في طريقها فقالت له : يا عبد الله إنّ هاهنا إنساناً مبتلى ، فهل لك أن تداويه؟ قال : نعم إن شاء شفيته ، على أن يقول إذا برأ : أنتَ شفيتني ، فجاءت إلى أيوب فأخبرته فقال : ذاك الشيطان ، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة .
وزعم بعضهم أن إبليس لقي زوجه أيوب فقال لها : أنا الذي فعلتُ بأيوب ما فعلت ، وأنا إله الأرض ، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله ، فجاءت فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله .
وكتابُ الله تعالى لم يأت فيه تفصيل للقصة ، ولهذا انطلقت الخيالات تنسج قصصاً في سبب بلائه وفي سبب حلقه على زوجه ، منها ما هو باطل لا يصح اعتقاده ومنها ما هو ضعيف واهن .(1/513)
يقول أبو بكر ابن العربي : « ما ذكره المفسّرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة ، وأنه طلب من ربه أن يسلّطه على أيوب فقال له : قد سلّطتك على أهله وماله . . إلخ إن هذا قول باطل ، لأن إبليس أهبط منها بلعنة الله وسخطه ، فكيف يرقى إلى محل الرضا ، ويجول في مقامات الأنبياء ، ويخترق السموات العلى!!
إنَّ هذا لخطب من الجهالة عظيم .
وأما قولهم : إن الله تعالى قال له : هل قدرت من عبدي أيوب على شيء؟ فباطل قطعاً ، لأن الله عز وجلّ لا يكلِّم الكفار الذين هم من جند إبليس اللعين ، فكيف يكلّم من تولّى إضلالهم؟!
وأما قولهم : إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده ، فذلك ممكن في القدرة ، ولكنه بعيد في هذه القصة ، وكذلك قولهم : إنه نفخ في جسده حين سلّطه عليه فهو أبعد ، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان كسب فيه حتى تقر له - لعنةُ الله عليه - عينٌ بالتمكن من الأنبياء في أموالهم ، وأهليهم ، وأنفسهم .
وأما قولهم : إنه قل لزوجته أنا إله الأرض ، ولو تركت ذكر الله وسجدت لي لعافيته . . فاعلموا أنه لو عَرَض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ، ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض ، وأنه يسجد له ، وأنه يعافى من البلاء ، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟ ولو كانت زوجة سوادي أو فَدْم بربريّ ما ساغ ذلك عندها » .
ثم قال : « ولم يصّح عن أيوب في أمره إلاّ ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين : الأولى قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر } [ الأنبياء : 83 ] والثانية في ص : { أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصحّ عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله : » بينا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رِجْلٌ من جرادٍ من ذهب « الحديث وقد تقدم .
وإذا لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلاّ ما ذكرناه ، فمن الذي يوصل السامعَ إلى أيوب خبره ، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيلياتُ مرفوضة عند العلماء على البتات ، فأعرضْ عن سطورها بصرك ، وأصمم عن سمعها أُذنيك ، فإنها لا تعطي فكرك إلا خَيالاً ، ولا تزيد فؤادك إلاّ خبالاً » .
أقول : « ليس بلازم في ثبوت صبر أيوب اعتقاد أمثال هذه القصص الإسرائيلية ، التي حشا بها بعض المفسّرين كتبهن ، ولا أمثال هذه الغرائب التي لا يصح سندها ولا نسبتها إلى الأنبياء الكرام لأنها تنافي » العصمة « ولا تتفق من المناصب الرفيعة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم ، ويكفي أن نقتصر على ما ذكره الله تعالى في كتابه ، ونعرض عن مثل هذه الخرافات والأباطيل ، كزعم بعضهم أنّ أيوب تساقط لحمه من شدة المرض ، وأصبح الدود يخرج من جسمه حتى استقذره القريب والبعيد ، وملّه الصديق والغريب ولم يصبر عليه إلا امرأته ، وأنه عظم بلاؤه حتى أخرج من بيته وألقي على كُناسة ( مزبلة ) .(1/514)
. . إلى آخر ما هنالك من حكايات مكذوبة وقصص إسرائيلية تلقّفها بعض القُصّاص ، ودخلت إلى بعض كتب التفسير وهي مما تنافي ( عصمة الأنبياء ) .
والذي ينبغي أن يقتصر عليه المسلم أنّ ما أصاب ( أيوب ) من ضر إنما كان مرضاً من الأمراض المستعصية ، التي ينوء بحملها الناس عادة ، ويضجرون من ثقلها ، وخصوصاً إذا امتد الزمن بها ، وأن هذا المرض لم يصل إلى حدّ الاستقذار والنفرة ، وأنه غضب على زوجه لأمرٍ من الأمور فحلف ان يضربها مائة جلدة ، فجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً ، وسهّل عليه الأمر فجمع لها ( مائة عود ) فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه ، وكشف الله عنه ضُرّه وبلاءه .
الحكم الثاني : هل يباح للرجل ضرب امرأته تأديباً؟
استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على جواز ضرب الرجل امرأته تأديباً ، وذلك لأن امرأة أيوب أخطأت في حق زوجها فحلف ليضربنّها مائة جلدة ، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخيل أو بحزمةٍ من العيدان ، وذلك ليبرّ في يمينه ولا يحنث ، ولو كان الضرب غير جائز لما أقرَّه القرآن عليه ودلّه على ما هو أرحم .
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز ضرب المرأة فوق حدود الأدب ، ولهذا قال عليه السلام في حجة الوداع : « واضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح » ، والجوازُ لا ينافي الكراهة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تضربوا إماء الله » فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ذأرن النساء على أزواجهن ، فرخّص في ضربهن ، فأطاف بآل النبي صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لقد طاف بآل محمد نساء يشكون أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم » .
قال الجصاص : « والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزاً بقوله : { والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } [ النساء : 34 ] إلى قوله { واضربوهن } [ النساء : 34 ] وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديباً لغير نشوز وقوله تعالى : { الرجال قوامون عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب ، لأنه روي أن رجلاً لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أهلها القصاص فأنزل الله : { الرجال قوامون عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] .
الحكم الثالث : هل الحكم خاص بأيوب أم هو عام لجميع الناس؟
اختلف العلماء في هذا الحكم الذي أرشده الله تعالى إليه نبيّه ( أيوب ) عليه السلام هل هو خاص به أم عام لجميع الناس؟
فذهب ( مجاهد ) إلى أنه خاص بأيوب عليه السلام ، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو مذهب ( مالك ، وأحمد بن حنبل ) رحمهما الله تعالى .(1/515)
وذهب عطاء بن أبي رباح : وابن أبي ليلى إلى أن الحكم عام ، وأنّ هذه الرخصة لجميع الناس فضلاً من الله تعالى وكرماً ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى .
الحكم الرابع : هل يشترط في الضرب أن يكون مفرّقاً؟
وبناءً على ما سبق فقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط ، فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة ، هل يكفي ذلك أم لا بدّ في الضرب أن يكون مفرقاً؟
فقال مالك وأحمد : لا يبرّ بيمينه حتى يفرّق الضرب .
وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا أصابه واحد منها فقد برّ في يمينه ولا يشترط التفريق .
حجة المذهب الأول :
1- إن هذا الأمر خاص بأيوب وزوجه لأن الله تعالى قال : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] ولأن زوجة أيوب لم تفعل أمراً تستحق معه جلد مائة ، فجعل الله سبحانه لأيوب فرجاً ومخرجاً بذلك .
2- ولأنه إذ أقسم بالضرب إنما أراد الإيلام ، وليس في الضرب بالجميع إيلام .
3- الأيمان مبناها على النية ، فإن لم توجد فعلى اللغة والعرف ، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضارباً مرات بعدد الشعب ، وكذا العرف فوجب أن تجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة .
حجة المذهب الثاني :
1- عموم قصة أيوب عليه السلام ، وشرعُ من قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ ، وقد جاء في الشرع ما يؤيدها ، ولم يثبت الناسخ .
2- واستدلوا بحديث أبي أمامة عن بعض الصحابة من الأنصار : أنه أشتكى رجل منهم فعاد جلدةً على عظم ، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهشَّ لها ، فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك ، وقال : استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكروا له ذلك ، وقالوا : ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به ، ولو حملناه لك لتفسَّخت عظامه ، ما هو إلا جلدٌ على عظم .
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة سمراخ فيضربونه بها ضرة واحدة .
ودلالة الآية ظاهرة على صحة هذا القول .
وذلك لأن فاعل ذلك يسمى ضارباً لما شرط من العدد ، وذلك يقتضي البر في يمينه .
3- وقالوا : إن القرآن حكم بأنه لا يحنث بفعله لقوله تعالى : { فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } .
ولكن يجب أن لا يطبق ذلك في الحدود إلا مقيداً بما ورد الحديث به ، فيكون ذلك حد المريض الذي وصل من المرض إلى الحد الذي وصف في الحديث الشريف .
الحكم الخامس : هل تجوز الحيلة في الشريعة الإسلامية؟
3- قال الجصاص : في تفسيره « أحكام القرآن » : ( وفي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ، ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر ) .(1/516)
أقول : هذا هو الحد المقبول من الحيل الشرعية التي توصل إلى ما يجوز فعله وتدفع المكروه عن نفسه وغيره . أما الحيل التي يتوصل بها إلى الهرب من فرائض الله ، والتخلص مما أوجبه الله على الإنسان ، فهذه لا يقبلها ذو قلب سليم ولا يقرها مسلم عاقل ، لأنَّ فرائض الله إنما فرضت لتؤدَّى ، والواجبات إنما شرعت لتقام على وجه الأرض ، لا لتكون طريقاً للتلاعب في أحكام الله .
وقد استدل بعض العلماء على جواز الحيلة مطلقاً بهذه الآية . وبقول الله تعالى في قصة يوسف : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [ يوسف : 70 ] ، وليس الأمر كما زعموا فإن ذلك بإذن الله ليظهر فضله على سائر إخوته بدليل قوله تعالى : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ يوسف : 76 ] .
قال الألوسي : « وعندي أنَّ كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة ( سقوط الزكاة ) وحيلة ( سقوط الاستبراء ) وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوِّزُ الحيلة مطلقاً ومنهم من لا يجوِّزها مطلقاً » .
الحكم السادس : هل أفعال الإله جلّ وعلا تابعة للمصالح؟
قال الإمام الفخر رحمه الله : ( وفي قصة أيوب عليه السلام دلالة على أن أفعال ذي الجلال والإكرام منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . وذلك لأن أيوب لم يقترف ذنباً حتى يكون ابتلاؤه في مقابلة ذلك الجرم ، وإن كان البلاء ليجزل له الثواب ، فإن الله تعالى قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام والأسقام ، وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة . وهذه كلمات ظاهرية جلية والحق الصريح أنه لا يُسأل عما يفعل ) .
الحكم السابع : هل البرّ في اليمين أفضل أم الكفارة عن اليمين؟
في الآية الكريمة دليل على أن البر باليمين ما لم يكن في إثم أفضل من الكفارة .
وقد قال ابن تيمية - رحمه الله - إن الكفارة لم تكن مشروعة في زمنه وإلا لأمره الله تعالى بها . . . وذكره ابن العربي قبله .
قال القرطبي : قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة ، ليس بصحيح ، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة - كما في حديث ابن شهاب - قال له صاحباه : لقد أذنبتَ ذنباً ما أظن أحداً بلغه . فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : ما أدري ما تقولان ، غير أن ربي عز وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكلٌّ يحلف بالله ، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفِّر عن أيمانهم إرادة أن لا يأثم أحد يذكره ، ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه :(1/517)
{ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } [ الأنبياء : 83 ] . فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب ، وأن من كفّر عن غيره بغير إذه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إبتلاء الله تعالى لنبيّه أيوب عليه السلام كان امتحاناً لإيمانه ، ورفعاً لمقامه .
ثانياً : الإنسان يُبتلى في هذه الحياة على قدر إيمانه ، ولهذا كان الأنبياء أعظم الناس ابتلاءً .
ثالثاً : التضرع إلى الله والشكوى إليه سبحانه لا ينافي مقام الصبر الممدوح .
رابعاً : كما يبتلي الله سبحانه بالفقر يبتلي بالغنى ، والمؤمن من يشكر الله في السراء والضراء .
خامساً : إذا اتقى الإنسان ربه جعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً ، كما صنع بأيوب عليه السلام .
سادساً : زوجة أيوب جازاها الله بحسن صبرها ، فأفتاه في ضربها بمائة عود جملة واحدة .
سابعاً : اتخاذ الحيلة جائز إذا لم يكن فيها إبطال حق أو هدم أمرٍ من أمور الشرع الحنيف .
ثامناً : على الإنسان أن يبرّ في يمينه أو يكفر عنها إذا كان ثمة مصلحة وكان الحنث أفضل من البر .
حكمة التشريع
لقد نزل الإسلام بتشريعاته وتعالميه ليحكم المجتمع البشري في كل ظروفه وأحواله ، فلهذا أعطى لكل أمر حكماً ، وراعى المصالح في أحكامه وتشريعاته كما راعى اختلاف الطباع الإنسانية ، فعندما أجاز الشارع ضرب المرء زوجه إنما أجازه أولاً وقبل كل شيء في حدود ، وأن يكون الضرب مبرِّحاً ، ولا يتعدى حدود التأديب والتهذيب ، ومع ذلك فقد اعتبر ضرب الأزواج غير ممدوح فاعله ، وتبدو حكمة الترخيص بالضرب جلية في نساء مخصوصات تعوَّّدن عليه ، ونشأن في ظلاله ، فلم يعد من الممكن تأديبهن إلا بهذه الطريق فأجازها الشارع لذلك .
يقول شهيد الإسلام سيد قطب في كتابه « الظلال » ما نصه :
« وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة ، وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها ، والحد المأمون في هذه القصَّة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً ، وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه ، وثقته به ، ورضاه بما قسم له .
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له ، ومنهم زوجته بأنَّ اللَّهَ لو كان يحب أيوب ما ابتلاه ، وكانوا يحدِّثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء . فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربها عدداً عيَّنه ، قيل مائة .
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان ، ومداخله إلى نفوس خلصائه ، ووقع هذا الإيذاء في نفسه : { أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } .(1/518)
فلما عرف ربُّه منه صدقه وصبره ، ونفوره من محاولات الشيطان وتأذيه بها ، أدركه برحمته ، وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } .
ويقول القرآن الكريم : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب } .
وتقول بعض الروايات : إن الله أحيا له أبناءه ، ووهب له مثلهم ، وليس في النص ما يحتِّم أنه أحيا له من مات ، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين ، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدارك .
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه ، وترضى نفوسهم بقضائه .
فأما قسمه ليضربن زوجه ، فرحمة من الله ، وبزوجه التي قامت على رعايته ، وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده فيضربها به ضربة واحدة تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } هذا التيسير وذلك الإنعام ، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء { إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } .(1/519)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
سورة محمد
[ 1 ] الحرب في الإسلام
التحليل اللفظي
{ أَثْخَنتُمُوهُمْ } : أكثرتم فيهم القتل والجراح ، يقال : أثخن العدو : إذا أكثر فيه الجراح ، قال في « اللسان » : والإثخان في كل شيء قوّته وشدّته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه ووهَنه ، وأثخنته الجراحة : أوهنته ، وقوله تعالى : { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه .
{ الوثاق } : الوَثاق : في الأصل مصدر كالخلاص ، وأريد به هنا ما يوثق به أي ما يربط كالحبل وغيره .
قال في اللسان : والوَثاق اسم الإيثاق ، تقول : أوثقته إيثاقاً ووَثاقاً ، والحبل أو الشيء الذي يوثق به ( وِثاق ) والجمع الوُثُق بمنزلة الرّباط والرّبُط .
وقال الجوهري : وأوثقه في الوَثَاق : أي شدّه ، ومنه قوله تعالى { فَشُدُّواْ الوثاق } والوِثاق بكسر الواو لغة فيه . ا ه .
والمراد في الآية الكريمة : أسر الأعداء لئلا يفلتوا .
{ مَنًّا } : مصدر منّ ومعناه : أن يطلق سَراح الأسير بدون فداء ، وبدون مقابل . قال الشاعر :
ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما ... منّ الفتى وهو المَغيط المُحْنَقُ
{ فِدَآءً } : مصدر فادى : والفداء أن يطلق الأسير مقابل مالٍ يأخذه منه .
قال في اللسان : الفِداء بالكسر : فكاك الأسير ، والعرب تقول : فاديت الأسير وتقول : فديته بمالي ، وفديته بأبي وأمي ، إذا لم يكن أسيراً ، وإذا كان أسيراً مملوكاً قلتَ : فاديته ، قال الشاعر :
ولكنّني فاديتُ أمّي بعدما ... علا الرأسَ منها كَبْرةٌ ومشيبُ
{ أَوْزَارَهَا } : الأوزار جمع وِزْر ، وهو في الأصل : الإثم والذنب ، ويطلق على الحمل الثقيل ، والمراد به آلات الحرب وأثقالها من السلاح ، والخيل ، والعتاد ، وسمي السلاح « أوزاراً » لأنه يُحمل لثقله ، قال الأعشى :
وأعددتُ للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً ، وخيلاً ذكوراً
وإنما جاء الضمير مؤنثاً ( أوزارها ) لأن الحرب مؤنثة .
ومعنى الآية : حتى تنتهي الحرب ، وتضع سلاحها ، فلا يكون قتال مع المشركين لضعف شوكتهم .
{ ذلك } : اسم الإشارة « ذلك » جيء به للفصل بين كلامين ، وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين والانتقال من الكلام الأول للثاني ، كأنه قيل : ذلك ما كنا نريد أن نقول في هذا الشأن ، ونقول بعده كذا . . وكذا .
{ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } : أي انتصر منهم بدون أن يكلِّفكم بحرب أو قتال ، فالله سبحانه قادر على إهلاك الكفار بدون حرب المسلمين لهم ، ولكنه ابتلاء من الله سبحانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] .
قال الألوسي : قوله تعالى : { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسفٍ ، أو رجفةٍ ، أو غرقٍ ، أو موتٍ جارف .
{ لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } : أي أمركم سبحانه بالحرب { لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فيثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة ، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب ، والابتلاء في اللغة : الامتحان والاختبار .
{ يُضِلَّ أعمالهم } : أي فلن يضيع أعمالهم بل ستحفظ وتخلّد لهم ، ويُجزون عليها الجزاء الأوفى يوم الدين .(1/520)
{ عَرَّفَهَا لَهُمْ } : أي بيّنها لهم وأعلمهم منازلهم فيها فلا يخطئونها ، أو عرّفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها كما قال تعالى : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ . . . } [ محمد : 15 ] الآية .
المعنى الإجمالي
يأمر الله سبحانه المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب ، الاّ تأخذهم شفقة عليهم ، بل ينبغي أن يُحكِّموا السلاح في رقابهم ، ويحصدونهم بسيوفهم حصداً ، حتى إذا غلبوهم ، وقهروهم ، وكسروا شوكتهم ، عند ذلك عليهم أن يشدوا الوثاق وهو كناية عن وقوعهم أسرى في أيدي المؤمنين ، فإذا انتهت الحرب فالمؤمنون عند ذلك بالخيار ، إمّا أن يمنّوا على الأسرى فيطلقوا سراحهم بدون عوض ، وإمّا أن يأخذوا منهم الفداء ليستعين به المسلمون على مصالحهم ، بعد أن تضعف عزائم المشركين وتكسر شوكتهم .
ثم بيّن الله سبحانه الحكمة من مشروعية القتال مع قدرته تعالى أن ينتصر من أعدائه من غير أن تكون حرب بين المؤمنين والكافرين ، وتلك الحكمة هي امتحان الناس ، واختبار صبرهم على المكاره ، واحتمالهم للشدائد في سبيل الله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] .
ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين أكرمهم الله بالشهادة في سبيله ، ستحفظ أعمالهم .
وتخلّد لهم ، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يُحبرون وفي ذلك حضّ على الجهاد ، وترغيب للخروج في سبيل الله لينال المؤمن إحدى الحسنَيْين : إما النصر والعزة في الدنيا ، وإمّا الشهادة في سبيل الله .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { فَشُدُّواْ الوثاق } قرأ الجمهور { الوَثَاق } بفتح الواو ، وقرئ { الوِثاق } بالكسر وهو اسم لما يوثق به .
قال الألوسي : « ومجيء ( فِعال ) اسم آلة كالحِزام والركاب نادر على خلاف القياس ، وظاهر كلام بعضهم أنّ كلاً من المفتوح والمكسور اسم بما يوثق به » .
ثانياً : قوله تعالى : { وَإِمَّا فِدَآءً } قرأ الجمهور بالمدّ ، وقرأ ابن كثير { وإمّا فَدَى } بالفتح والقصر كعصا .
قال أبو حاتم : لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته .
قال الشهاب : ولا عبرة به فقد حكى الفراء فيه أربع لغات الفتح والكسر ، مع المد والقصر .
ثالثاً : قوله تعالى : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } قرأ الأعمش وحفص عن عاصم { قُتلوا } بتخفيف التاء مبنياً للمجهول ، وقرأ الجمهور { قاتلوا } بألف مبيناً للمعلوم .
رابعاً : قوله تعالى : { فَلَن يُضِلَّ أعمالهم } قرأ عليّ كرم الله وجهه { يُضَل } مبنياً للمفعول ، و { أعمالُهم } بالرفع نائب فاعل ، وقرئ { يَضلّ } بفتح الياء من ضلّ وأعمالُهم فاعل . وقراءة الجمهور { يُضِلَّ أعمالَهم } أي لن يُضلّ الله أعمالهم بمعنى لن يضيِّعها .
خامساً : قوله تعالى : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } قرأ الجمهور بتشديد الراء ، وقرأ أبو رجاء وابن محيصن { عَرَفها لهم } بتخفيف الراء .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } منصوب على المصدرية ، أي اضربوا ضرب فهو مفعول مطلق لفعل محذوف ، وهو من إضافة المصدر للمفعول ، والأصل : اضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقُدّم المصدر ، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ، وحذف الفعل في مثله واجب كما نبّه عليه علماء النحو .(1/521)
ثانياً : قوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } مناً وفداء منصوبان على المصدر إمّا أن تمنوا عليهم مناً ، أو تفادوهم فداءً ، فهو كسابقه مفعول مطلق لفعل محذوف . وحذف الفعل الناصب للمصدر واجب كذلك ومنه قول الشاعر :
لأجهدَنّ فإمّا درءَ واقعةٍ ... تُخشى وإمّا بلوغَ السُّؤل والأمل
وجوّز أبو البقاء كون كل من ( منّاً ) و ( فداءً ) مفعولاً به لمحذوف تقديره : تولوهم مناً ، أو تقبلوا منهم فداءً ، ولكنّ أبا حيان ردّ هذا بأنه ليس إعرابَ نحويّ .
ثالثاً : قوله تعالى : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ } ذلك ، في موضع رفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : الأمر ذلك أو الحكم ذلك .
رابعاً : قوله تعالى : { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } جملة { عَرَّفَهَا لَهُمْ } في موضع نصب على الحال ، والتقدير ويدخلهم الجنة معرّفة لهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : عبّر القرآن الكريم عن القتل بقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } والسرّ في ذلك أنّ في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ ( القتل ) لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن ، وأشرب أعضائه ، ومجمع حواسه ، وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى ، ولو قال : ( فاقتلوهم ) لَمَا كان هذا المعنى الدقيق .
والتعبير أيضاً : يوحي بشجاعة المؤمنين وأنهم من الكفار كأنهم متمكنون من رقابهم ، يعملون فيهم سيوفهم بضرب الأعناق ، وهو ( مجاز مرسل ) علاقته السببيّة لأن ضرب الرقبة سبب الموت .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَشُدُّواْ الوثاق } كناية عن الأسر أي اجعلوهم أسرى واحفظوهم رهائن تحت أيديكم ، حتى تروا فيهم رأيكم ، ولما كانت العادة أن يربط الأسير لئلا يهرب جاء التعبير بقوله : { فَشُدُّواْ الوثاق } وفيه الإشارة إلى الكفّ عن القتل والاكتفاء بالأسر ، لأنّ الشريعة الغراء تنهى عن الإجهاز على الجريح ، وذلك من آداب الإسلام وتعاليمه الإنسانية الرشيدة .
اللطيفة الثالثة : تقوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } ذكر تعالى ( المن والفداء ) ولم يذكر القتل والاسترقاق ، وفي ذلك إرشاد من الله تعالى إلى أن الغرض من الحرب كسر ( شوكة المشركين ) ، لا إراقة الدماء والتشفي بإزهاق الأرواح ، فإذا ضعفت شوكة المشركين ووهَنت قواهم فلا حاجة إلى القتل . وتقديم ( المن ) على ( الفداء ) في الآية الكريمة للإشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال ، فالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعلاء كلمة الله ، لا للمغنم المادي والكسب الدنيوي .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإسلام يكره الحرب ويمقتها ، لأنها مخرّبة مدمّرة ، والتعبير ب { أَوْزَارَهَا } للإشارة إلى أنّ ما فيها من آثام إنما ترجع على الذين أشعلوها وهم الكفار ، المحاربون لله ورسوله ، فلولا كفرُهم وإفسادُهم في الأرض لما كانت هناك حرب .(1/522)
قال الإمام الفخر : « والمقصود من وضع الحرب أوزارها ، انقارض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر ، يحارب حزباً من أحزاب الإسلام ، وإنما قال : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } ولم يقل : حتى لا يبقى حرب ، لأن التفاوت بين العبارتين كالتفاوت بين قولك : انقرضت دولة بني أمية ، وقولك لم يبق من دولتهم أثر ، ولا شك أن الثاني أبلغ ، فكذا هاهنا » .
اللطيفة الخامسة : فإن قيل : لماذا لم يهلك الله الكافرين مع قدرته عليهم وأمرَ المؤمنين بالجهاد؟
فالجواب : أن الله عز وجلّ أراد بذلك أن يختبرعباده ، فابتلى المؤمنين بالكافرين ، ليختبر صبرهم على المكاره ، واحتمالهم للشدائد ، وابتلى الكافرين بالمؤمنين ، ليطهّر الأرض من رجسهم ، وينيل المؤمنين الشهادة في سبيله بسببهم ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة : { ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } .
فإن قيل : إن الله يعلم المؤمن من الكافر ، والبّرّ من الفاجر ، والمطيع من العاصي ، فما هي فائدة هذا الابتلاء؟ فالجواب أن الابتلاء من الله تعالى ليس بقصد العلم والمعرفة ، وإنما هو بقصد إثابة المؤمن ، وتعذيب الكافر ، بعد إقامة الحجة عليه ، حتى يقطع العذر على الإنسان ، أو نقول : إن الابتلاء غرضه الكشف للناس ، أو للملائكة ، ليظهر لهم الصادق من المنافق ، والتقي من الشقي ، وليس بالنسبة له تعالى ، لأنه بكل شيء عليم .
اللطيفة السادسة : أمر الله تعالى بالمنّ أو الفداء ، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام ، روي أن الحجّاج حين أسر أصحاب ( عبد الرحمن بن الأشعث ) وكانوا قريباً من خمسة آلاف رجل ، قتل منهم ثلاثة آلاف فجاءه رجل من ( كِنْدة ) فقال يا حجّاج : لا جزاك الله عن السُنَّة والكرم خيراً! قال : لأن الله تعالى يقول : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } في حق الذين كفروا . . . فوالله ما مننتَ ، ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقلَ الأعناق حملُ المغارم
فقال الحجاج : أفٍّ لهذه الجيف!! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام!؟ خلّوا سبيل من بقي ، فخُلّي يومئذٍ عن بقية الأسرى وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد ب { الذين كَفَرُواْ } في الآية الكريمة؟
اختلف المفسرون في المراد من قوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ } على قولين :
1- القول الأول : أن المراد بهم المشركون الكفار عبدة الأوثان . وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
2- القول الثاني : أن المراد بهم كل من خالف دين الإسلام من مشركٍ ، أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة ، فيدخل فيه كلّ الكفار بدون استثناء وهو ظاهر الآية ، واختيار جمهور المفسرين .(1/523)
قال ابن العربي : وهو الصحيح لعموم الآية فيه ، والتخصيصُ لا دليل عليه .
الحكم الثاني : ما المراد من قوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } في الآية الكريمة؟
ذهب ( السّدي ) وجمهور المفسرين إلى أن المراد منه ( قتل الأسير صبراً ) .
والراجح هو الأول : لأن الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } قد جعلت ( الإثخان ) وهو الإضعاف لشوكة العدو غايةً لضرب الرقاب ، فأين هو قتل الأسير صبراً؟ مع العلم بأنه إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه ، فيكون قول جمهور المفسرين هو الأرجحُ ، بل هو الصحيح .
الحكم الثالث : ما المراد من الفداء وما هي أنواعه؟
ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد إطلاق سراح الأسير في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم ، وقد يكون المقابل ( أسرى ) من المسلمين عند الكفار بطريق التبادل .
وقد يكون المقابل ( مالاً ) أو عتاداً يأخذه المسلمون في نظير إطلاق الأسرى .
وقد يكون العوض ( منفعة ) كما كان في غزوة بدر ، فقد كان من ليس عنده مال يفدي به نفسه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعلّم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة .
فالمراد من الفداء كل ما يأخذه المسلمون من أعدائهم من مال ، أو عتاد ، أو منفعةٍ ، أو مبادلة أسرى بأسرى وغير ذلك .
الحكم الرابع : ما معنى قوله تعالى : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } ؟
اختلف المفسرون في معنى الآية الكريمة على عدة أقوال :
أ- قال ابن عباس : تحتى لا يبقى أحد من المشركين يقاتل .
ب- وقال مجاهد : حتى لا يكون دين إلاّ دين الإسلام .
ج - وقال سعيد بن جبير : حتى ينزل المسيح بن مريم وحينئذٍ ينتهي القتال .
والقول الأخير ضعيف ، لأنّ نزول عيسى ابن مريم ليس في الآية ما يدل عليه ، وإنما يؤخذ من الأحاديث الشريفة ، فبنزوله يدخل الناس في الإسلام ولا يبقى على ظهر الأرض كافر ، كما دلت عليه السنة المطهرة ، ولكنّ الآية ليس فيها ما يشير إلى هذا المراد من قريب أو بعيد .
ومما يدل على أن المراد بالآية الكريمة ظهور الإيمان ، واندحار الكفر بحيث تكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى قوله تعالى : في سورة الأنفال [ 39 ] : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } الحكم الخامس : هل يجوز قتل الأسير؟
اتفق الفهاء على جواز قتل الأسير ، حتى قال : « الجصّاص » لا نعلم في ذلك خلافاً فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله لبعض الأسرى منها :
أ- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ( أبا عزة ) الشاعر يوم أحد .
ب- وقتل ( عُقْبة بن أبي مُعَيط ) صبراً ، و ( النضر بن الحارث ) بعد الأسر في بدر .(1/524)
ج - وقتل ( بني قُرَيظة ) بعد نزولهم على حكم ( سعد بن معاذ ) الذي حكم فيهم بالقتل ، وسبي الذرية .
د- وفتح صلى الله عليه وسلم خيبر بعضَها صُلحاً ، وبعضَها عَنْوة ، وشرط على ( ابن أبي الحُقَيْق ) ألا يكتم شيئاً ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله عليه السلام .
ه -وفتح مكة وأمر بقتل ( هلال بن خَطَل ) و ( عبد الله بن أبي سَرْح ) و ( مقيس بن حبابة ) وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة .
فكلُّ هذه الأخبار تدل على جواز قتل الأسير ، ولأنّ في قتله حسمَ مادة الفساد في الأرض .
قال الألوسي : « وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيراً بنفسه ، فإن فعل كان للإمام أن يعزّره ، ولكنْ لا يضمن شيئاً ، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم ، لاندفاع شرهم بالإسلام ، ولكن يجوز استرقاقهم ، فإنّ الإسلام لا ينافي الرق جزاءً على الكفر الأصلي ، بخلاف ما لو اسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحراراً ، لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم . . » .
وقال القرطبي : « وقيل : ليس للإمام أن يقتل الأسير ، وقد روي عن الحجّاج أنه دفع أسيراً إلى ( عبد اله بن عمر ) ليقتله فأبى وقال : ليس بهذا أمَرنا اللَّهُ ، وقرأ { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } .
قلنا : قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفَعَله ، وليس في تفسير الله للمنّ والفداء منع من غيره ، ولعلّ ابن عمر كره ذلك من بد الحجّاج فاعتذر بما قال وربك أعلم » .
الحكم السادس : هل يجوز أخذ الفداء من الأسير؟
اختلف الفقهاء في أخذ الفاء من الأسير على أقوال :
أولاً : مذهب الحنفية : أن الأسير لا يُفادى بالمال ، ولا يباع لأهل الحرب ، لأنه يرجع حرباً علينا ، أمّا فداؤه بأسرى من المسلمين فجائز عند الصاحبين ( أبي يوسف ومحمد ) وقال : ( أبو حنيفة ) : لا يُفادَوْن بأسرى المسلمين أيضاً .
ثانياً : مذهب الجمهور ( الشافعي ومالك وأحمد ) جواز أخذ الفداء من الأسرى .
دليل الحنفية :
استدل الحنفية على عدم جواز الفداء بما يلي :
أ- قالوا : إن الآية الكريمة : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وبقوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] نُقل ذلك عن مجاهد .
وروي عن ( قتادة ) أنه قال : نسختها آية الأنفال [ 57 ] : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ووجه الاستدلال : أنّ سورة براءة من آخر ما نزل ، فوجب أن يُقتل كل مشرك ، إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن يؤخذ منه الجزية ، والمتأخر ينسخ المتقدم كما هو المعلوم من أصول الشريعة الغراء .
ب- وقالوا : لا يجوز المنّ ولا الفداء ، لأن فيه تقوية لأهل الشرك على أهل الإسلام ، حيث يرجعون حرباً علينا ، وقد أُمرنا بتطهير الأرض من الكفر ومن رجس المشركين .(1/525)
ج - وقالوا : إنّ ما روي في ( أسرى بدر ) منسوخ أيضاً بما تلونا ، سيّما وأنه قد نزل العتاب في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] .
فلا يجوز الاستدلال به على جواز أخذ الفداء .
د - وقالوا : إنّ ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية : « أنّ من جاء منهم رددناه عليهم » إنما كان في بدء الدعوة ، وقد نسخ ذلك ، ونَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال : « من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمة » .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على جواز فداء الأسير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- قوله تعالى : { فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقاً بدون قيد ولا شرط ، فللإمام أن يمنّ أو يفدي ، أو يسترقَّ ، عملاً بالآية الكريمة .
ب- وقالوا : إنَّ الآية محكمة ولا نسخ فيها ، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع ، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ ، والجمعُ ممكن فإنّ آية براءة وهي قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] أمرٌ لنا بقتل المشركين عند اللقاء ، فإذا وقعوا في الأسر كففنا عن القتل إلى المنّ أو الفداء عملاً بقوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } .
ج - واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسرى بدر بالمال ، ومن لم يكن عنده مال منهم أمره عليه السلام بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ، وهذا قد ثبت بفعله عليه الصلاة والسلام .
د- واستدلوا بما روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال : « أسرَتْ ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عامر بن صعصعة فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأسر فقال الأسير : علام أُحبس؟ فقال : بجريرة حلفائك ، فقال : إني مسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه الأسير ، فقال : إني جائع فأطعمني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم هذه حاجتك . . ثمّ فداه بالرجلين اللّذين كانت ثقيف أسرتهما » .
قالوا : فهذا دليل على جواز فداء المسلم بغيره من المشركين .
ه - واستدلُوا با رواه مسلم عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين .
و - واستدلوا بما رواه مسلم أيضاً عن ( إياس بن سلمة ) عن أبيه قال : « خرجنا مع أبي بكرِ رضي الله عنه ، وأمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال يا سَلَمة : هبْ لي المرأة - يعني التي نفّله أبو بكر إيّاها - فقلت يا رسول الله : لقد أعجبتني وما كشفتُ لها ثوباً .(1/526)
ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق ، فقال يا سلمة : هب لي المرأة لله أبوك!! فقلت : هي لك يا رسول الله ، فوالله ما كشفتُ لها ثوباً . . فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناساً من المسلمين أُسرُوا بمكة « .
ز- واستدلوا بالمعقول وهو : أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر ، للانتفاع بالمسلم ، لأنّ حرمته عظيمة ، وأما الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إلى المشركين ، فيدفعه نفع المسلم الذي يتخلّص من فتنتهم وعذابهم ، وضررُ واحد يقوم بدفعه واحد مثله فيتكافئان ، وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى ، وفيها زيادة ترجيح .
هذه خلاصة أدلة الجمهور بالنسبة ( للفداء ) سواءً كان بالمال أو بالرجال على ما عرفت .
وأمّا ( المنّ ) على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز ( عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ) وأجازه الإمام الشافعي لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على ( ثُمامة بن أُثال ) سيّد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه ، وقال صلى الله عليه وسلم : » لو كان المطعم بن عدي حيّاً ثمّ كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركتهم له « . فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك دليل على جواز المنّ على الأسرى .
الترجيح :
وبعد استعراض هذه الأدلة من الفريقين نرى أنَّ الأرجح أن يفوّض أمر الحرب لأهل الاختصاص من ذوي الرأي والبصر ، يفعلون ما تقتضي به المصلحة العامة ، فإن رأوا قتل الأسرى قتلوهم ، وإن رأوا أخذ الفداء بالمال أو بالأسرى ، فادْوهم ، وإن رأوا إبقاءهم في الأسر تركوهم تحت أيدي المسلمين ، فيترك لهم تقدير المصلحة حسب الظروف التي هم فيها ، وهذه من ( السياسة الحكيمة ) التي ينبغي أن تتوفر في قادة المسلمين .
والرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك كلّه ، فأسر من أسر ، وقتل من قتل ، وفادى منهم ، وأطلق سراح من أطلق دون مالٍ ولا فداء . وما نزل من آيات العتاب في سورة الأنفال فإنما كان بتوجيهٍ إلهي حكيم - حسب المصلحة أيضاً - حيث نزلت هذه الآيات الكريمة في ( غزوة بدر ) وهي أول حرب يخوضها المسلمون مع أعدائهم ، فكانت المصلحة تقضي بترجيح جانب الشدّة على جانب الرحمة ، بالقتل ، والإثخان ، وإراقة الدماء ، حتى لا يطمع المشركون بالإقدام على حرب المسلمين مرة أخرى ، وحتى تُقَلَّم أظافر الكفر منذ اللحظة الأولى ، فإذا علم المشركون أن لا رحمة في قلوب المسلمين عليهم ، هابوهم وتخوّفوا من الإقدام على حربهم ، وهذا ما كان قد أشار به الفاروق عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن موافقاً لرأية .(1/527)
ولمّا كثر عدد المسلمين ، وقويت شوكتهم ، وأصبحت الدولة بأيديهم نزل القرآن الكريم بالمنّ والفداء على الأسرى ، بعد أن توطّدت دعائم الدولة الإسلامية ، وأصبح صرح الإسلام شامخاً عتيداً ، فكان المنّ عن قوّة ، لا عن ضعف ، وعن عزة ، لا عن ذلة واستكانة .
فالمصلحة العامة هي التي ينبغي أن تراعى في مثل هذه الحالات ، والحربُ مكر وخديعة ، ولا عزة للضعفاء المستكينين .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : المؤمن يقاتل في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، فينبغي أن يكون شجاعاً مقداماً .
ثانياً : إثخان العدو بكثرة القتل فيهم والجروح ، من أجل إضعاف شوكتهم وتوهين قوتهم .
ثالثاً : الحرب في الإسلام حرب مقدسة ، غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين .
رابعاً : الاكتفاء بالأسر بعد إثخان العدو مظهر من مظاهر رحمة الإسلام بأعدائه .
خامساً : إطلاق سراح الأسرى بدون عوض ، أو أخذ الغداء منهم يبنغي أن تراعى فيه مصلحة المسلمين .
سادساً : الجهاد في سبيل الله ماضٍ في هذه الأمة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك .
سابعاً : الله جل ثناؤه قادر على أن ينتقم من المشركين ولكنه أراد أن يُنيل المؤمنين أجر الاستشهاد في سبيله .
ثامناً : الحياة ابتلاء للمؤمن والكافر ، يبتلي بعضهم ببعض ليعذب الكافر ويثيب المؤمن .
حكمة التشريع
أقر الإسلام الحرب - مع علمه بما تجره على البلاد من ويلات ونكبات - لضرورة وقائية ، وعلاج اضطراري ، لا مناص منه لمجابهة الطغيان ، ودفع الظلم والعدوان ، وتطهير الأرض من رجس المشركين الغادرين ، على حد قول القائل :
إذا لم تكن إلاّ الأسنّة مركباً ... فلا بدّ للمضطر إلاّ ركوبُها
ولكنّ الإسلام في الوقت الذي يدعو فيه إلى الجهاد ، ويحض على القتال ، ويبيح الحرب كضرورة من الضرورات ، تجده يأمر بالرحمة والشفقة في ( معاملة الأسرى ) الواقعين في أسر العبودية ، فيحرّم تعذيبهم أو إيذاءهم كما يحرم التمثيل بالقتلى ، أو الإجهاز على الجرحى ، أو تقتيل النساء والصبيان .
إن الغرض من الجهاد ليس إراقة الدماء ، وسلب الأموال ، وتخريب الديار ، ولكنه غرض إنساني نبيل ، هو حماية المستضعفين في الأرض ، ودفع عدوان الظالمين ، وتأمين الدعوة ، والوقوف في وجه الاستعلاء والطغيان كما قال جل ثناؤه { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] .
ولقد كان من وصايا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ، للجند والجيش المجاهدين في سبيل الله ، أن يأمرهم بطاعة الله ، وعدم الغدر والخيانة حتى بالأعداء . فقد روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال :(1/528)
« أُغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، أُغزوا ولا ، تَغُلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً » .
وكذلك فعل الخلفاء الراشدون ، ففي وصية أبي بكر رضي الله عنه لأسامة بن زيد حين بعثه إلى الشام : « لا تخونوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تحرّقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكله ، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم له » .
وهكذا كانت رحمة الإسلام في الحرب ، ممثلة بمبادئه الإنسانية الرحيمة ، فالإسلام حين يبيح الحرب يجعلها مقدرة بقدرها ، فلا يقتل إلاّ من يقاتل في المعركة ، وأمّا من تجنّب الحرب فلا يحل قتله أو الاعتداء عليه { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] .
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ البقرة : 190 ] .
لقد حرّم الإسلام قتل النساء ، والشيوخ ، والأطفال ، وقتل المرضى والرهبان .
وحرّم ( المُثْلَة ) والإجهاز على الجريح ، وتتبّع الفارَّة ، وتحريق البيوت والأشجار . وذلك تمشياً مع نظرته الإنسانية المثلى ، في حماية المستضعفين ، ودفع الظلم والعدوان ، ولأن الحرب كعملية جراحية ، يجب ألاّ تتجاوز موضع المرض من جسم الإنسان .
فلا عجب أن نرى هذه الرحمة ممثّلة في تعاليم القرآن ، تدعو إلى الإحسان إلى الأسرى ثمّ إلى المنّ عليهم والفداء ، حتى تنتهي المعركة لما فيه خير الإنسانية بانتصار الحق واندحار الباطل وصدق الله العظيم : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } .
فللَّه ما أرحم الإسلام! وما أسمى مبادئه وأحكامه!!(1/529)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
[ 2 ] ترك العمل بعد الشروع
التحليل اللفظي
{ تبطلوا } : تضيعوا ثوابها من بَطَل الشيء يَبْطُل بُطْلاً وبطلاناً : ذهب ضياعاً وخسراً .
{ وَصَدُّواْ } : أعرضوا من الصد : وهو الإعراض والصدوف ، قال تعالى : { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ]
{ فَلاَ تَهِنُواْ } : أي لا تفْتُروا ، ولا تضعُفُوا ، ولا تجبُنوا عن قتال العدو من الوهن أي الضعف في النفس والعمل قال تعالى : { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } [ آل عمران : 146 ] .
{ وَلَن يَتِرَكُمْ } : أي لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً ، ولن يظلمكم من وتَرَه حقَّه وماله نقصه إياه وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله » .
قال أبو عبيدة : وترثُ الرجل إذا قتلتَ له قتيلاً من ولدٍ أو أخ ، أو حميم ، أو قريب ، أو ذهبتَ بماله .
المعنى الإجمالي
نادى الله سبحانه وتعالى المؤمنين مخاطباً إياهم بوصف الإيمان تذكيراً لهم بأن هذا الوصف يدعوهم إلى طاعة أوامر الله تعالى ، الآتية بعد هذا النداء ، ثم جاء الأمر بطاعة الله جل جلاله في أوامره ونواهيه ، فطاعته هي السبيل إلى الفلاح في الدنيا والآخرة ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة المولى سبحانه فعلى المؤمن أن يتَّبعه في كل سُنَّة سنَّها .
ثم نهى الله المؤمن عن إبطال عمله ، فقد يقدِّم أعمالاً كثيرة من الطاعة ، ولكنه قد يضيع عمله بالمعاصي والرياء والعجب . . . إلى غير ما هنالك ، فنهاه الله عن ذلك ، فعلى المؤمن أن يحافظ على ما يقدم من الطاعات .
ثم بين الله تعالى أنه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، حتى لا يظن الظان أن المؤمن إن أبطل عمله بالمعاصي فقد هلك ، بل فضلُ الله باق يغفر له بفضله ، وإن لم يغفر له بعمله .
وإذا كان أمر الكفار في الآخرة هذا ، فأمرهم في الدنيا كذلك من الذلة والحقارة ، فلا تضعفوا أيها المؤمنون في ملاقاتهم ، ولا تجنبوا عن قتالهم ، فالنصر لك آجلاً أو عاجلاً ، فلا تدعوا الكفار إلى الصلح خوراً ، وإظهاراً للعجز فإن ذلك إعطاء للدنية ، وأنتم الأعلون عزةً وقوةً ورفعة مكانة ، وذلك لأن الله معكم يؤيدكم بنصرة ، ويؤيدكم بقوته ، ولن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل يعطيكم ثوابها كاملاً خير منقوص .
فائدة
أولاً : أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : « كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع ( لا إله إلا الله ) ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أعمالكم } فخافوا أن يبطل الذنب العمل . ولفظ عبد بن حميد » فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالكم « .(1/530)
ثانياً : وأخرج ابن نصر المروزي وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
كنا معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولاً حتى نزلت { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أعمالكم } فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات ، والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { وتدعوا إِلَى السلم } قرأ الأكثرون بفتح السين { السّلْم } . وقرأ الحسن وحمزة وغيرهما بكسر السين { السِّلْم } .
ثانياً : قوله تعالى : { تدعوا } قرأ الجمهور تدعوا مضارع دعا . وقرأ السّلمي بتشديد الدال تدَّعوا : أي تفتروا .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { وَأَنتُمُ الأعلون } جملة حالية وكذا ( والله معكم ) .
ويجوز أن يكونا جملتي استئناف أخبر أولاً بقوله أنتم الأعلون فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم .
فلا تهنوا : الفاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله أي إذا علمتم أن الله مبطل أعمالهم ومعاقتهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ، ولا تظهروا ضعفاً .
وقيل : هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة .
وتدعوا إلى السلم : عطف على تهنوا داخل في حيّز النهي .
وجُوِّز أن يكون منصوباً بإضمار أن فيعطف المصدر المسبوك على مصدر متصيّد مما قبله .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال الفخر الرازي : « قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الرسول } العطف ها هنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش ، لأن طاعة الله تَحْمل على طاعة الرسول » .
وقال الألوسي : « وإعادة الفعل في قوله : { وَأَطِيعُواْ الرسول } للاهتمام بشأن إطاعته عليه الصلاة والسلام » .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أعمالكم } الآية .
قال الفخر الرازي : يحتمل وجوهاً :
أحدها : دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم قال تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
الوجه الثاني : لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة الرسول كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه ويؤيده قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] .
الثالث : لا بتطلوا أعمالكم بالمنّ والأذى كما قال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } [ الحجرات : 17 ] .
وقد اختلف فيما يبطل الأعمال على أقوال :
قال الحسن : المعاصي والكبائر .(1/531)
وقال عطاء : الشك والنفاق ونقل عن ابن عباس .
وقال ابن عباس : الرياء والسمعة ونقل عن ابن جريج .
وقال مقاتل : المن .
وقيل : العُجْب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
وقيل المراد بالأعمال الصدقات أن تعطلوها بالمن والأذى .
قال القرطبي : وكله متقارب وقول الحسن يجمعه .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَأَنتُمُ الأعلون } : استعمال العلو في رفعة المنزلة مجاز مشهور ، أي أنتم أعز منهم لأنكم مؤمنون والحجة لكم ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات وذلك كقوله تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
وقيل { وَأَنتُمُ الأعلون } : أي أنتم أعلم بالله منهم .
وقال الجصاص : أي وأنتم أعلم بالله منهم .
وقال الجصاص : أي وأنتم أولى بالله منهم .
وكلها متقاربة فالإيمان يرفع منزلة أهله ويعزهم .
اللطيفة الرابعة : قال الفخر الرازي : قوله { وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم } وعد لأن الله تعالى لما قال : { والله مَعَكُمْ } كان فيه أن النصر بالله لا بكم ، فكأَن القائل يقول : لم يصدر مني عمل له اعتبار ، فلا استحق تعظيماً ، فقال : هو ينصركم ومع ذلك لا يَنْقُص من أعمالكم شيئاً ، ويجعل كأن النُصرة جعلت بكم ، ومنكم ، فكأنكم مستقلون في ذلك ، ويعطيكم أجر المستبد .
اللطيفة الخامسة : في الآية الكريمة دعوة إلى العزّة والكرامة ، وتشجيع للمؤمنين للجهاد والنصال ، لمجابهة أعدائهم دون وهن أو خور ، لأن المؤمن لا يرضى بحياة الذلك والهوان ، وقد أحسن من قال :
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أعمالكم } يدل على أن كل من دخل في قُربة ، لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها .
واختلف العلماء في هذا الحكم على مذهبين .
فذهب ( الشافعي وأحمد ) إلى أن للمرء أن يترك النافلة إذا شرع فيها ولا شيء عليه ما عدا الحج فيجب عليه الإتمام ، وأما في الصلاة والصوم فيستحب له الإتمام ولا يجب .
وذهب ( أبو حنيفة ومالك ) إلى أنه ليس له ذلك ، فإذا أبطله وجب عليه القضاء .
أدلة المذهب الأول :
قالوا : هو تطوع ، والمتطوع أمير نفسه ، وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع قال تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 ] .
وقالوا في جواب الاستدلال بالآية : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض . فنهي الرجل عن إحباط ثوابه ، فأما ما كان نفلاً فلا ، لأنه ليس واجباً عليه .
واللفظ في الآية وإن كان عاماً ، فالعام يجوز تخصيصه ، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع والتطوع يقتضي تخييراً .
أدلة المذهب الثاني :
قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أعمالكم } أفاد أن التحلل من التطوع بعد التلبس به لا يجوز لأن فيه إبطال العلم وقد نهى الله عنه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أنا وحفصة صائمين فأهدي لنا طعام ، فأكلنا منه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت حفصة وبدرتني ، وكانت بنت أبيها : يا رسول الله ، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه فقال : « اقضيا مكانه يوماً » .(1/532)
وقالوا في جواب دليل المذهب الأول : المتطوع أمير نفسه ، ولا سبيل عليه قبل أن يشرع أما إذا شرع فقد ألزم نفسه ، وعقد عزمه على الفعل ، فوجب أن يؤدي ما التزم وأن يوفي بما عقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
ثم اللفظ عام في الآية يشمل التطوع وغيره .
الحكم الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } .
فيه دلالة على أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين ، فأما إذا كان في الكفار قوة وكثرة بالنسبة إلى جمع المسلمين ، ورأى الإمام المسلم في المهادنة ، والمعاهدة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوة إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك .
فائدة :
دلّ قوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون . . . } الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحاً ، وإنما فتحها عَنوةً ، لأن الله تعالى قد نهاه عن الصلح في هذه الآية .(1/533)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
سورة الحجرات
[ 1 ] التثبت من الأخبار
التحليل اللفظي
{ فَاسِقٌ } : الفاسق : الخارج من حدود الشرع ، والفسقُ في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى ( الخروج ) مأخوذ من قولهم : فسقت الرُطبةُ إذا خرجت من قشرها ، وسمّي الفاسق فاسقاً لانسلاخه عن الخير .
وفي اللسان : الفسق : العصيان والترك لأمر الله عز وجل ، والخروج عن طريق الحق ، ومنه قوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] أي خرج من طاعة ربه ، والفواسق من النساء : الفواجر قال الشاعر :
فواسقاً من أمره جوائراً ... قال الراغب : والفسق أعم من الكفر ، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب ، ولكن تعورف فيما كان بالكثير ، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمناً ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها .
{ بِنَبَإٍ } : النبأ في اللغة : الخبر ، والجمع أنباء كذا في « القاموس » و « اللسان » ، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر : نبأ حتى يكون هامّاً ، ذا فائدة عظيمة ، فكل خبر هام يسمّى ( نبأ ) قال تعالى : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] وقال عز وجلّ { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ ص : 67 - 68 ] وأمّا إذا لم يكن هاماً فلا يقال له نبأ .
قال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل ( نبأ ) حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن .
{ فتبينوا } : التبيّن : طلب البيان والتعرّف ، وقريب من التثبت ، والمراد به هنا التحقق والتثبت من الخبر حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره .
ومعنى الآية الكريمة : إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة ، فلا تقبلوا قوله حتى تتثبّتوا وتتحققوا من صدقه ، لتأمنوا العاقبة .
{ بجهالة } : أي جاهلين حالهم ، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم .
{ نادمين } : الندم : الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه ، يقال : ندم على الشيء ، وندم على ما فعل ندماً وندامة ، وتندّم أسِف ، كذا في « اللسان » .
والمراد بالندم : الهمّ الدائم ، والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قولهم : أدمن في الشرب ، ومَدَنَ أي أقام ومنه المدينة .
{ لَعَنِتُّمْ } : أي لوقعتم في العَنَت ، قال ابن الأثير : العنت : المشقة ، والفساد ، والهلاك . وقال في « اللسان » : العنت : الهلاك ، وأعنَتَه : أوقعه في الهلكة ، وقوله تعالى : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } أي لوقعتم في الفساد والهلاك .
يقال : فلان يتعنّت فلاناً أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك ، ويقال أعنَتَ العظمُ إذا كسر بعد الجبر .
{ الراشدون } : جمع راشد ، وهو المهتدي إلى محاسن الأمور ومنه سمي الخلفاء الراشدون ، والرَشَد الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب فيه ، من الرشّاد وهو الصخر .
{ بَغَتْ } : البغي : التطاول والفساد قال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ }(1/534)
[ القصص : 76 ] . وأصل البغي : مجاوزة الحد في الظلم والطغيان ، والفئة الباغية : هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل وفي الحديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) .
قال في اللسان : وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغيٌ ، وفي التنزيل : { بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } [ ص : 22 ] .
{ تفياء } : أي ترجع إلى الطاعة ، وفاء إلى الشيء : رجع إليه ومنه قوله تعالى : { فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 226 ] أي رجعوا . والفيء : ما رجع إلى المسلمين من الكفار بدون حرب .
{ المقسطين } : العادلين المحقين ، من الرباعي ( أقسط ) بمعنى عدل ، وأمّا ( قَسَطَ ) فمعناه ظلم وقد تقدّم .
المعنى الإجمالي
يقول الله تبارك وتعالى ما معناه : يا أيها المؤمنون ، يا من أتصفتم بالإيمان ، وصدّقتم بكتاب الله ، وآمنتم برسوله ، وعلمتم علم اليقين أنّ ما جاءكم به الرسول حق لأنه من عند الله ، لا تسمعوا لكل خبر ، ولا تصدّقوا كل إنسان ، بل تحقّقوا وتثبتوا من الأمر ، قبل أن تصيبوا إخوة لكم مؤمنين ، بسبب خبر لم تتحققوا من صحته ، وكلام لم تتأكدوا من صدقه ، فتندموا على ما فرط منكم ، ولكن لا ينفعكم حينئذٍ الندم .
واعلموا - أيها المؤمنون - أن فيكم السيّد المبجّل ، والنبيّ المعظّم ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، الذي يطلعه الله على الخفايا ، فلا تحاولوا أن تستميلوه لرأيكم ، ولو أنه استجاب لكم ، وأطاعكم في غالب ما تشيرون به عليه ، لوقعتم في الجهد والهلاك ، ولكنّ الله - بمنّة وفضله - حفظه وحفظكم ، ونوّر بصائر أتباعه المؤمنين ، وحبّب إليهم الإيمان ، وبغّض إليهم الكفّر والفسوق والعصيان ، وأرشدهم إلى سبيل الخير والسعادة .
ثمّ عقّب تعالى بما يترتب على سماع مثل هذه ( الأنباء المكذوبة ) من تخاصم ، وتباغض ، وتقاتل ، فقال : إذا رأيتم أيها المؤمنون طائفتين من إخوانكم جنحتا إلى القتال والعدوان ، فابذلوا جهدكم للتوفيق بينهما ، وادعوهما إلى النزول على حكم الله ، فإن اعتدت إحدى الطائفتين على الأخرى وتجاوزت حدّها بالظلم والطغيان ، وأرادت أن تبغي في الأرض ، فقاتلوا تلك الطائفة الباغية ، حتى تثوب إلى رشدها ، وترضى بحكم الله عز وجلّ ، وتقلع عن البغي والعدوان ، فإذا كفّت عن العدوان فأصلحوا بينهما بالعدل ، لأنهم إخوتكم في الدين ، ومن واجب المسلمين أن يَصْلحوا بين الإخوان ، لا أن يتركوا البغضاء تدبّ ، والفرقة تعمل عملها ، لأنّ المؤمنين جميعاً إخوة ، جمعتهم ( رابطة الإيمان ) وليس ثمة طريق إلى إعادة الصفاء إلاّ بالإصلاح بين المتخاصمين ، فهو سبيل الفلاح وطريق الفوز والنجاح ، واتقوا الله لتنالكم رحمته ، وتسعدوا بمرضاته ولقائه .
سبب النزول
أولاً : روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي أنه قال :
« قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام ، فدخلتُ فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبّان كذا ، وكذا ، ليأتيك بما جمعت من الزكاة .(1/535)
. فلمّا جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ زمان الوعد الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس الرسول فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطه من الله ورسوله ، فدعا سَرَوَات قومه فقال لهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ وقَّت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطةٍ عليَّ ، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وبعث رسول الله ( الوليد بن عقبة ) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جُمع من الزكاة ، فلمّا سار حتى بلغ بعض الطريق ، فَرِق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البَعْث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتى استقبله البعث وقد فصل عن المدينة ، قالوا : هذا الحارث . فلما غشيهم قال إلى أين؟ قالوا : إليك ، قال : ولم ، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلتُ إلاّ حين احتبس عليّ رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، خشية من أن تكون سخطة من الله ورسوله عليّ ، فنزلت الآية : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } .
قال الإمام الفخر : ما ذكره المفسّرون من أنها نزلت بسبب ( الوليد بن عقبة ) حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم . . . الخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت في خبر الفاسق ، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد ، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهذا ضعيف ، لأن الوليد لم يتقصّد الإساءة إليهم ، ورواية الإمام أحمد تدل على أنّ الوليد خاف وفَرق حين رأى جماعة الحارث - وقد خرجت في انتظاره - فظنّها خرجت لحربة فرجع وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله .
يقول الإمام الفخر : « ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي عليه السلام لم ينقل عنه أنه بيّن أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية ، ويتأكد ما ذكرنا أن اطلاق لفظ ( الفاسق ) على الوليد شيء بعيد ، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المرادُ به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى :(1/536)
{ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المنافقون : 6 ] وقوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وقوله تعالى : { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار } [ السجدة : 20 ] إلى غير ذلك .
ب- وأمَّا قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } فقد ذُكِر في سبب نزولها ما يأتي :
أولاً : أخرج البخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس رضي الله عنه أنه قال : « قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتَ ( عبد الله بن أُبَي ) فانطلَقَ إليه وركب حماراً ، وانطلق معه المسلمون يمشون ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : واللَّهِ لحمارُ رسول الله أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب للأنصاري آخرون من قومه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنّعال ، فأنزل الله فيهم : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } .
ثانياً : وروى الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود ( سعد بن عُبادة ) فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أُبَيّ ، وعبد الله بن رواحة ، فخمّر ابن أُبيّ وجهه برادائه ، وقال : لا تغبّروا علينا ، فقال عبد الله بن رواحة : لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فتعصّب لكل أصحابه فتقاتلوا حتى كان بينم ضرب بالنعال والأيدي والسّعف فنزلت الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : سورة الحجرات تسمّى سورة ( الأخلاق والآداب ) فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق ، وجاء فيها النداء بوصف الإيمان بقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا } خمس مرات ، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم ، وفضيلة من الفضائل ، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات وهي :
1- وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التقدم عليه برأي أو قول : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ . . . } [ الحجرات : 1 ] أي لا تَعْجَلوا بقولٍ أو فعل قبل أن يقول فيه رسول الله أو يفعل .
2- احترام الرسول وتعظيم شأنه وعدم رفع الصوت في حضرته { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي . . . } [ الحجرات : 2 ] الآية .
3- وجوب التثبت من صحة الأخبار ، وعدم الاعتماد على أقوال الفسقة المفسدين { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا . . . } الآية .
4- النهي عن السخرية بالناس وعن التنابز بالألقاب { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ . . . } [ الحجرات : 11 ] الآية .
5- النهي عن التجسّس ، والغيبة ، وسوء الظن ، وعن سائر الأخلاق الذميمة { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً . . . } [ الحجرات : 12 ] الآية .
فهذه السورة الكريمة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية ، قد جمعت الفضائل والآداب الإنسانية ، فلا عجب أن تسمى ( سورة الآداب ) أو ( سورة الأخلاق ) فهي تتناول الأدب مع الله ، والأدب مع الرسول ، والأدب مع النفس ، والأدب مع المؤمنين ، والأدب مع الناس عامة ، وكلها بهذا الشكل الرتيب .(1/537)
اللطيفة الثانية : تصدير الخطاب بالنداء { ياأيها الذين آمنوا } لتنبيه المخاطبين على أنّما بعده أمر خطير ، يستدعي مزيد العناية والاهتمام بشأنه ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ، ووازع عن الإخلال به . أفاده العلامة أبو السعود .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حذراً يقظاً ، لا يقبل كلّ كلام يلقى على عواهنه ، دون أن يعرف المصدر ، وتنكير ( فاسق ) للتعميم ، لأنه نكرة في سياق الشرط ، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرّره علماء الأصول ، والمعنى إن جاءكم أيّ فاسق فتثبتوا من خبره ، وجاء بحرف التشكيك ( إن ) ولم يقل ( إذا ) التي تفيد التحقيق ، ليشير إلى أنّ وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل ( النّدرة ) إذْ الأصل في المؤمن أن يكون صادقاً ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من ( الوليد بن عقبة ) إلاّ في النّدرة قيل : { إِن جَآءَكُمْ } بحرف الشك . فتدبر أسرار الكتاب العزيز .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } تقديم خبر أنّ على اسمها ليفيد معنى الحصر ، المستتبع لزيادة التوبيخ لهم على ما فرط منهم في حقّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الكلام إشعار بأنّهم زيّنوا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم الايقاع بالحارث وقومه ، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه السلام بين أظهرهم .
قال الإمام الفخر رحمه الله : « والذي اختاره وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } أي فتثبّتوا واكشفوا قال بعده : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } .
أي الكشفُ سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه فيكم مبيّن مرشد ، وهذا كما قال القائل عند اختلاف تلاميذ شيخٍ في مسألة ، هذا الشيخ قاعد . . لا يريد به بيان قعوده ، وإنما يريد أمرهم بالرجوع إليه . فكأن الله تعالى يقول : استرشدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن يعلم ولا يطيع أحداً ، فلا يوجد فيه حيف ، ولا يروج عليه زيف ، لأنه لا يعتمد على كثير من آرائكم التي تبدونها ، وإنما يعتمد على الوحي الذي يأتيه من عند الله .
اللطيفة الخامسة : صيغة المضارع تفيد ( الاستمرار والتجدّد ) بخلاف الماضي ، فالعدول عن الماضي إلى المضارع في قوله تعالى : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } ليفيد هذا المعنى على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول لهم إطاعة مستمرة بدليل قوله تعالى : { فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر } وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار ، تقول : فلانَ يقري الضيف ، ويحمي الحريم ، تريد أن ذلك شأنه وأنه مستمر على ذلك .(1/538)
قال العلامة الألوسي : « وفي هذا التعبير { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } مبالغات من أوجه :
أحدها : إيثار ( لو ) ليدلّ على الفرض والتقدير .
والثاني : ما في العدول إلى المضارع من إرادة استمرار ما حقه أن يفرض للتهجين والتوبيخ .
والثالث : ما في لفظ ( العنت ) من الدلالة على أشدّ المحذورة ، فإنه الكسر بعد الجبر .
والرابع : ما في الخطاب ، والجدير به غير ( الكُمّل ) ليكون أردع لمرتكبه وأزجر .
وكأنّ الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ولا تكونوا أمثال هؤلاء الذين استفزهم النبأ قبل التعرف على صدقه ، ثم لم يكتفوا حتى أرادوا أن يحملوا الرسول على رأيهم ، ليوقعوا أنفسهم ويوقعوا غيرهم في العنت والإرهاق ، واعلموا جلالة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وتفادّوْا عن أمثال هذه الأخطاء .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { أولئك هُمُ الراشدون } التفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] وهذا الالتفات من المحسّنات البديعية كما قرّره علماء البلاغة ، كما قرّره علماء البلاغة ، ويقصد به التعظيم أي هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان ، وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق العصيان ، هم الذين بلغوا أرفع الدرجات وأعلى المناصب ، ونالوا هذه الرتبة العظيمة ( رتبة الرشاد ) فضلاً من الله وكرماً .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } الطائفة في اللفظ مفرد ، وفي المعنى جمع ، لأنها تدل على عدد كبير من الناس ، ولهذا جاء التعبير بقوله ( اقتتلوا ) رعايةً للمعنى فإن كلّ طائفةٍ من الطائفتين جماعة ، ثم قال تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ولم يقل بينهم رعايةَ للفظ ، والنكتة في هذا هو ما قيل : إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وهم مختلطون فلذا جمع الضمير ، وفي حال الصلح تتفّق كلمة كل طائفة حتى يكونوا كنفسين فلذا ثُنّي الضمير .
اللطيفة الثامنة : قال الإمام الفخر رحمه الله : قال تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين } ولم يقل ( منكم ) مع أنّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله : { ياأيها الذين آمنوا } تنبيهاً على قبح ذلك ، وتبعيداً لهم عنهم . كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه ، فيصير بذلك مانعاً للمخاطَب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن ، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك ، فإن فعل غيرك فامنعه ، كذلك هاهنا قال : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين } ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد .
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } فيه تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه البليغ ) وأصل الكلام : المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر فحذف وجه الشبه وأداة الشبة فأصبح بليغاً ، قال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأخ من النسب ، والإخوان جمع الأخ من الصداقة ، فالله تعالى قال : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } تأكيداً للأمر وإشارة إلى أنّ ما بينهم كما بين الإخوة من النسب ، والإسلام لهم كالأب فأخوّة ( العقيدة ) فوق أخوة ( الجسد ) ورابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب ، وقد قال الشاعر العربي :(1/539)
أبي الإسلام لا أب ليسواه ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
اللطيفة العاشرة : سئل بعض العلماء عمّا وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من قتال فقال : تلك دماء قد طهّر الله منها أيدينا ، فلا نلوّث بها ألسنتنا ، وسبيلُ ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته . وسئل ( الحسن البصري ) عن قتالهم فقال : ( قتالٌ شَهِدَهُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا ، وجهلنا ، واجتمعوا فاتّبعنا ، واختلفوا فوقفنا ) .
وقال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ولا نبتدع رأياً منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله عز وجلّ .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } قرأ الجمهور { فتبيّنوا } من التبيّن ، وقرأ خمزة والكسائي { فتثبتوا } من التثبت ، والمعنى واحد لأن التبيّن معناه في اللغة التثبت والتحقق .
2- قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } قرأ الجمهور { اقتتلوا } بصيغة الجمع ، وقرأ أُبي بن كعب ، وابن مسعود { اقتتلا } بالتثنية على فعل اثنين مذكّرين ، وقرأ أبو المتوكل ، وابن أبي عبلة { اقتتلتا } بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنتين مؤنثتين .
3- قوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } قرأ الأكثرون { بين أخويكم } بياء التثنية ، وقرأ أبي بن كعب ، وابن جُبير { بين إخوتكم } بالتاء على الجمع ، وقرأ الحسن وابن سيرين { بين إخوانكم } بالنون وألف قبلها ويكون المراد بين الأوس والخزرج .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بجهالة } في تقديره وجهان : أحدهما : أن يكون التقدير لئلا تصيبوا وهو مذهب الكوفيّين .
والثاني : أن يكون التقدير كراهية أن تصيبوا أو خشيَة أن تصيبوا وهو مذهب البصريين .
2- قوله تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } عطف على ما قبله و ( أنّ ) وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي ( اعلموا ) .
3- قوله تعالى : { فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً } في إعرابه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً على المفعول له .
والثاني : أن يكون مصدراً مؤكداً لما قبله أي تفضلاً من الله .
4- قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا }
( إنْ ) شرطية جازمة ، و ( طائفتان ) فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور تقديره : إن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، وإنما قدّرنا ذلك لأنّ الشرط في ( إنْ ) أن يليها الفعل ، فإن وليها اسم قدّروا لها فعلاً يفسّره ما بعده .
قال ابن الأنباري : ولا يجوز أن يحذف الفعل مع شيء من كلمات الشرط العاملة إلاّ مع ( إنْ ) لأنها الأصل في كلمات الشرط ، ويثبت للأصل ما لا يثبتُ للفرع .(1/540)
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يُقبل خبر الواحد إذا كان عدلاً؟
استدل العلماء بهذه الآية الكريمة { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً ووجه الاستدلال من جهتين :
الأولى : أن الله تعالى أمر بالتثبت في خبر الفاسق ، ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لم كان ثمة فائدة من ذكر التثبّت ، لأن خبر كلٍ من العدل والفاسق مردود ، فلما دلّ الأمر بالتثبت في خبر الفاسق ، وجب قبول خبر العدل ، وهذا الاستدلال كما يقول علماء الأصول من باب ( مفهوم المخالفة ) .
الثانية : أن العلة في ردّ الخبر هي ( الفسق ) لأن الخبر أمانة ، والفسقُ يبطلها ، فإذا انتفت العلة النتفى الرد ، وثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً ، وإذا ثبت ذلك وجب حينئذٍ قبوله والعمل به .
وأمّا المجهول : الذي لا تُعلم عدالته ولا فسقه فقد استدل فقهاء الحنفية على قبول خبره ، وحجتهم في ذلك أن الآية دلت علىأنّ الفسق شرط وجوب التثبت ، فإذا انتفى الفسق فقد انتفى وجوبه ، ويبقى ما وراءه على الأصل وهو قبول خبره ، لأن الأصل في المؤمن العدالة .
وأنت ترى أنّ هذا الاستدلال مبيٌ على أنّ الأصل العدالة ، ولكنّ بعض الفقهاء يعارض في هذا ويقول : الأصل الفسق لأنه أكثر ، والعدالة طارئة فلا يقبل قوله حتى يثبت من عدالته .
الترجيح : والظاهر أن مسألة قبول خبر المجهول مبنيّة على هذا ، فإن صحّ أن الأصل العدالة فهو باق على عدالته حتى يتبيّن خلافها ، وإن كان الأصل عدمها فهو داخل في حكم الفسق حتى تتبيّن عدالته ، والمسألة تطلب بالتفصيل من كتب الأصول .
الحكم الثاني : هل يجب البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية؟
استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على أنّ من الصحابة من ليس بعدل ، لأنّ الله تعالى أطلق لقب الفاسق على ( الوليد بن عقبة ) فإنها نزلت فيه ، وسببُ النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام ، وهو صحابي بالاتفاق ، وقد أمر الله بالتثبت من خبره ، فلا بدّ من البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية .
والمسألة خلافية وفيها أقوال كثيرة نذكرها بإيجاز :
الأول : أن الصحابة كلّهم عدول ، ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة ، وهذا رأي جمهور العلماء سلفاً وخلفاً .
الثاني : أن الصحابة كغيرهم يُبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين ( أبي بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما .
الثالث : أنهم عدول إلى زمن عثمان رضي الله عنه ، ويبحث عن عدالتهم من مقتله ، وهذا رأي طائفة من العلماء .
الرابع : أنهم عدول إلاّ من قاتل علياً كرّم الله وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وهذا مذهب المعتزلة .(1/541)
الترجيح : والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء سلفاً وخلفاً من أن الصحابة كلهم عدول ، ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومزيد ثناء الله عزّ وجلّ عليهم في كتابه العزيز كقوله سبحانه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] أي عدولاً ، وقوله سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقوله جلّ ذكره : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . وقوله جلّ وعلا : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون } [ الحشر : 8 ] وقوله جلّ وعلا : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] إلى آخر ما هناك من الآيات الكثيرة .
وكذلك ما ثبت في السنة المطهرة من مدحهم ، والثناء عليهم ، وبيان أنهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق ، ونحن نذكر بعض هذه الأحاديث الشريفة التي تشير إلى فضيلتهم باختصار .
أ- قال صلى الله عليه وسلم : « خير الناس قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم » الحديث .
ب- وقال صلى الله عليه وسلم : « لا تسبُّوا أصحابي فالوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه » .
ج - وقال صلى الله عليه وسلم : « اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي ، لا تتّخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبّهم فبحبي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه » .
فهذه الأخبار التي وردت في الكتاب والسنة كلها متضافرة على عدالة الصحابة وأفضليتهم على سائر الناس ، وما وقع من بعضهم من مخالفات فليس يسوغ لنا أن نحكم عليهم بالفسق ، لأنهم لا يصرّون على الذنب ، وإذا تاب الإنسان رجعت إليه عدالته ولا يحكم بفسقه على التأبيد ، فهذا ( ماعز الأسلمي ) الذي ارتكب الفاحشة يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر برجمه « لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم » .
والقولُ : بأنَّ بعض الصحابة قد وقع في الذنب والمخالفة - بناء على الاعتقاد بعدم عصمتهم - لا يعني أنهم غير عدول ، لن الفاسق الذي ترد شهادته وروايته هو الذي يصرّ على الذنب والمعصية ، وليس في الصحابة من يصر على ذلك .
وقد عرفتَ ما ذكره الإمام الفخر أنها لم تنزل خاصة بسبب ( الوليد بن عقبة ) وإنما نزلت عامة في بيان حكم كل فاسق ، وأنها نزلت في ذلك الوقت الذي حدثت فيه تلك القصة ، فهي مِثْل التاريخ لنزول الآية ، وكلامُ الإمام الفخر نفيس فارجع إليه .
الحكم الثالث : هل تقبل شهادة الفاسق أو المبتدع؟
أتفق العلماء على أن شهادة الفاسق لا تقبل عملاً بالآية الكريمة { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } ، وكذلك لا تقبل روايته ، لأن الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانة ودين ، والفسقُ يبطلها لاحتمال كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/542)
قال القرطبي : « ومن ثبتَ فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً ، لأن الخبر أمانة ، والفسق قرينة يبطلها » .
وقال الجصّاص : « وقوله تعالى : { فتبينوا } اقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقاً ، إذ كان كل شهادة خبراً ، وكذلك سائر أخباره ، فلذلك قلنا : شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق ، وكذلك أخباره في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلّ ما كان من أمر الدين ، يتعلّق به إثبات شرع ، أو حكم ، إو إثبات حق على إنسان » .
وقد استثنى العلماء من قبول خبر الفاسق أموراً تتعلّق بالمعاملات وليس فيها شهادة على الغير منها :
أ- قبول قوله في الإقرار على نفسه مثل : لفلان عندي مائة درهم فيقبل قوله كما يقبل في ذلك قول الكافر ، لأنه إقرار لغيره بحق على نفسه فلا تشترط فيه العدالة .
ب- قبول قوله في الهدية والوكالة مثل إذا قال : إنّ فلاناً أهدى إليك هذا ، يجوز له قبوله وقبضه ، ونحوه قوله : وكّلني فلان ببيع عبده هذا فيجوز شراؤه منه .
ج - وكذلك في الإذن بالدخول ونحوه كما إذا استأذن إنسان فقال له : ادخلْ لا تشترط فيه العدالة . ومثل هذا جميع أخبار المعاملات إذا لم يكن فيها شهادة على الغير .
واختلف العلماء في أمر الولاية بالنكاح ، « فذهب الشافعي » وغيره إلى أن الفاسق لا يكون وليّاً في النكاح ، لأنه يسيء التصرف ، وقد يضرّ بمن يلي أمر نكاحها بسبب فسوقه .
وقال أبو حنيفة ومالك : تصح ولايته ، لأنه يلي مالها فيلي بُضْعها كالعدل ، وهو - وإن كان فاسقاً - إلاّ أنّ غيرته موفّرة ، وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحُرمة ، وإذا ولي المال فالنكاح أولى .
أما المبتدع : وهو الفاسق الذي يكون فسقه بسبب الاعتقاد ، وهو متأول للنصوص كالجبرية والقدرية ويقال له : المبتدع بدعة واضحة ، فمن الأصوليّين من ردّ شهادته وروايته كالإمام الشافعي رحمه الله ومنهم من قبلهما ، وفرّق الحنفيّة فقالوا : تقبل منه الشهادة ، ولا تقبل منه الرواية ، لأنّ من ابتدع بدعة بسبب الدين فلا يبعد أن ينتصر لهواه ويدعو الناس إلى ذلك فنردّ روايته دون شهادته ، لأنّ الدعوة إلى مذهبه داعية إلى النقل فلا يؤتمن على الرواية . وهذا مذهب جمهور أئمة الفقه والحديث .
الحكم الرابع : هل تصحّ ولاية الفاسق؟
قال ابن العربي رحمه الله : « ومن العجب أن يجوّز الشافعيّ ونظراؤه إمامة الفاسق ، ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دَيْن؟! وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلّون بالناس ، لمّا فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استطيعت إزالتهم صُلّي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسنْ ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم .(1/543)
ثمّ كان من الناس من إذا صلى معهم تقيّة أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته ، وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة ، ولكنْ يعيدُ سرّاً في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .
وأمّا أحكامه إن كان والياً فينفذ منها ما وافق الحقّ ، ويردّ ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تُؤْثر ، أو قول يُحْكى ، فإنّ الكلام كثير ، والحقّ ظاهر « .
الحكم الخامس : هل يجب قتال أهل البغي؟
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب قتال أهل البغي ، الخارجين على الإمام أو أحد المسلمين ، ولكنْ بعد دعوتهم إلى الوفاق والصلح ، والسير بينهم بما يصلح ذات البين ، فإن أقاموا على البغي وجب قتالهم عملاً بقوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } .
وذهب جماعة منَّن يدَّعي العلم إلى عدم جواز قتال البغاة من المؤمنين ، واحتجوا بقوله عليه السلام : » سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر « .
وهذا الحديث لا ينهض حجة لهم ، لأنّ من بغى من المؤمنين فقد أمر القرآن بقتاله ، فكيف يحتج بمثل هذا الحديث لإبطال حكم الله عز وجلّ؟
قال القرطبي : وهذه الآية دليل على فساد قول من منع من قتال المؤمنين ، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر ، تعالى الله عن ذلك!! وقد قاتل الصدّيق رضي الله عنه من تمسّك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألاّ يُتبع مولٍّ ، ولا يُجهز على جريح ، ولا تَحِلّ أموالهم بخلاف الكفار .
وقال الطبري : » لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهربَ منه ولزوم المنازل ، لما أُقيم حد ، ولا أُبطل باطلٌ ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ، وسبي نسائهم ، وسفك دمائهم ، بأن يتحزّبوا عليهم ، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : « خذوا على أيدي سفهائكم » .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب قتال البغاة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- قوله تعالى : { فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } الآية .
ب- حديث : « سيخرج قوم في آخر الزمان ، حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير البرية ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز إيمانُهُم حناجِرَهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة » .
ج - حديث : « سيكون في أمتي اختلاف وفرقة ، قومٌ يحسنون القول ويسيئون العمل ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه ، هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه ، قالوا يا رسول الله : ما سيماهم؟ قال : التحليق »(1/544)
د- وقال عليه السلام في عمار : « تقتله الفئة الباغية » .
فهذه الأحاديث صريحة في وجوب قتال أهل البغي ومن شايعهم على باطلهم من أهل الفجور والضلال .
قال الجصّاص : « ولم يختلف أصحاب رسول الله في وجوب قتال ( الفئة الباغية ) بالسيف إذا لم يردعها غيره ، ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لتقلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم . فإن قيل قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم : ( سعد ، وأسامة بن زيد ، وابن عمر ) !! قيل له : لم يقعدوا عنه لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية ، وجائزٌ أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفياً بمن معه ، مستغنياً عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك ، ألا ترى أنهم قعدوا عن قتال الخوارج ، لا على أنهم لم يروا قتالهم واجباً ، لكنهم لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم » .
الحكم السادس : هل تكون أموال البغاة غنيمة للمسلمين؟
اختلف العلماء في حكم أموال البغاة هل تكون غنيمة للمسلمين؟ أم تردّ إليهم بعد الصلح وانتهاء الحرب؟
أ- فقال محمد بن الحسن الشيباني : إنّ أموالهم لا تكون غنيمة ، وإنما يستعان على حربهم بسلاحهم وخيلهم عند الاستيلاء عليه ، فإذا وضعت الحرب أوزارها رُدّ عليهم السلاح والمال .
ب- وقال أبو يوسف : إنّ ما وجد في أيدي أهل البغي من سلاح وعتاد فهو ( غنيمة ) يقسم ويخمّس .
ج - وقال مالك : لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم ، وهو مذهب الشافعي .
حجة أبي يوسف : أنهم باغون معتدون فيقسم مالهم غنيمة بين المسلمين .
حجة الجمهور : أنّ بغيهم يُحلّ قتالهم ولا يُحلّ أموالهم وذراريهم لأنهم ليسوا كفاراً ، وإنما هم مؤمنون باغون ، أو فاسقون خارجون عن الطاعة ، والأمر بقتالهم من أجل ردّهم إلى صف المؤمنين .
واستدلوا بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا عبد الله أتدري كيف حُكْم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال : الله ورسوله أعلم ، فقال : لا يُجهز على جريحها ، ولا يُقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يُقسم فيئها » .
قال القرطبي : « والمعوّل في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبراً ، ولا ذفَّفوا على جريح ، ولا قتلوا أسيراً ، ولا ضمّنوا نفساً ولا مالاً ، وهم القدوة » .
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأنهم ليسوا كفاراً ، ولأننا لو أخذنا أموالهم وسبينا ذراريهم بألبوا علينا ولم يمكن ردّهم إلى صف المسلمين والله أعلم .
فائدة هامة : حول ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .(1/545)
قال العلامة القرطبي رحمه الله : « لا يجوز أن يُنسب إلى إحدٍ من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه ، وأرادوا الله عز وجلّ ، وهم كلّهم بنا أئمة ، وقد تعبّدنا بالكف عمّا شجر بينهم ، وألاّ نذكرهم إلاّ بأحسن الذكر ، لحرمة الصحبة ، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبّهم ، وأنّ غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم » .
هذا مع قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً ، لأن الشهادة لا تكون إلا بالقتل في الطاعة .
وممّا يدل على ذلك ما قد صحّ بأن قاتل الزبير في النار ، وقوله عليه السلام : « بشّر قاتل ابن صفية بالنار » ، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن ( طلحة ) و ( الزبير ) غير عاصيين ، ولا آثمين بالقتال ، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 134 ] .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : وجوب التثبت من الأخبار وعدم الوثوق بخبر الفاسق الخارج عن طاعة الله .
ثانياً : ضرورة التريث قبل الحكم على الأشخاص لمجرد سماع الأنباء خشية الظلم والعدوان عليهم .
ثالثاً : الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع للمؤمنين ، فلا يجوز لأحدٍ من أهل الإيمان أن يقطع بأمرٍ دونه .
رابعاً : وجوب الإصلاح بين طوائف المؤمنين عند حصول النزاع خشية تصدُّعِ الصف ، وتفرُّقِ الكلمة .
خامساً : إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم يمكن الاصلاح وجبَ قبر الفتنة بحدّ السيف .
سادساً : المؤمنون إخوة جمعتهم رابطة ( العقيدة والإيمان ) وهذه الرابطة أقوى من رابطة النسب والدم .
سابعاً : يجب على المؤمنين مقاومة أهل البغي إبقاءً لوحدة الأمة الإسلامية ودفعاً للظلم عن المستضعفين .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يدعو الإسلام إلى التثبت في الخبر ، وأخذ الحيطة والحذر ، في كل أمرٍ من أمور المؤمنين ، ليجتنبوا المزالق التي يدبّرها لهم أعداؤهم ، ويكونوا على بيّنةٍ من أمرهم ، فكم من فتنة حصلت بسبب خبر كاذب ، نقله فاسق فاجر؟ وكم من دماء أريقت بسبب فتنةٍ هوجاء ، أشعلَ نارَها أناسٌ ماكرون؟ لا يريدون للأمة الخير ، ولا يضمرون للمسلمين إلاّ كل شرّ ، وبلاءٍ ، وفتنة ، ليفسدوا عليهم وحدتهم ، ويكدّروا عليهم صفاءهم وسرورهم .
لذلك أمر الإسلام بمبدأ كريم فاضل ( مبدأ التمحيص ) والتثبت من كل خبر ، وخاصة خبر الفاسق ، الذي لا يقيم حرمةً للدين ، ولا يبالي بما يحدث من جراء كذبه وبهتانه ، من أضرار فادحة ، ونتائج وخيمة ، تشلّ حركة المجتمع ، وقد تفضي إلى فجيعة عظيمة تودي بحَياة أناسٍ بريئين ، كما كان سيحدث في قصة ( الوليد بن عقبة ) لولا أنّ الله عز وجل أطلع رسوله على جليّة الأمر ، بواسطة الوحي المنزل ، فكان في ذلك صيانة الدماء البريئة ، وحفظ وحدة المسلمين . كما أمر الإسلام بمقاومة الظلم والطغيان ، أيّاً كان مصدره ، فدعا إلى الإصلاح بين الطوائف المتنازعة ، والفئات المتخاصمة ، فإن لم ينفع الصلح ، ولم تثمر دعوته ، كان السيف هو الحكم الفاصل تقاتل به الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله ، وتفيء إلى رشدها .
وهذه الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام قاعدة تشريعية وقائية ، لصيانة المجتمع المسلم من الخصام ، والتفكك ، والاندفاع وراء الأهواء الطائشة ، التي لا تجني منها الأمة إلاّ كل شر ، وبلاء .(1/546)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
سورة الواقعة
[ 1 ] حرمة مس المصحف
التحليل اللفظي
{ بمواقع النجوم } : المواقع جمع موقع وهو المسقط الذي يسقط فيه الشيء ، قال في « اللسان » : والموقع والموقوعة : موضعُ الوقوع ، ويقال : وقع الشيء موقعه ، ومواقع الغيث : مساقطه .
والمراد بمواقع النجوم : مواضعها ومنازلها من بروجها ، فلكل نجم مدار يدور فيه ، وموضع لا يتعدّاه { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] .
{ مَّكْنُونٍ } : المكنون : المستور قال تعالى : { كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } [ الواقعة : 23 ] والمراد أنه مصون مستور عن غير الملائكة المقربين لا يطّلع عليه من سواهم ، أو مصون محفوظ عن التبديل والتغيير بحفظ الله تعالى له : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ .
وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا .
{ المطهرون } : الملائكة الأطهار ، أو المطهّرون من الأحداث ، من الجنابة والبول والغائط وأشباهها مما يمنع من الصلاة ، والمراد على الثاني أنه لا يمسّ القرآن إلا طاهر من الجنابة والحدث .
{ مُّدْهِنُونَ } : متهاونون مكذّبون ، قال القرطبي : والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره ولهذا يقال للرجل المتهاون أو المتلاين في أمر الدين « مداهن » أي أنه يلين جانبه .
قال في « اللسان » : والمداهنة والإدهان : المصانعة واللين ، وقيل : المداهنة إظهار خلاف ما يضمر .
{ بَلَغَتِ الحلقوم } : أي بلغت النفس أو الروح الحلقوم ، ولم يتقدم لها ذكر لدلالة الكلام عليه ولأن المعنى معروف ، وأنشدوا في ذلك :
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
{ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] : أي محاسبين أو مجزيّين بأعمالكم ، مأخوذ من دان بمعنى جازى ومنه الحديث الشريف : « اعمل ما شئت كما تدين تُدان » أي كما تفعل تُجزى .
وقال ابن قتيبة : غير مدينين أي غير مملوكين ولا مقهورين من قولهم : دنت له بالطاعة .
وقال الفراء : دنته أي ملكته وأنشد للحطيئة :
لقد دُيّنتِ أمرَ بنيكِ حتّى ... تركتهِم أدقّ من الطحين
{ تَرْجِعُونَهَآ } : ترجعون الروح إلى الجسد ، والمعنى : إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلاَّ تردّون هذه الروح إلى الجسد؟ فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر بيد الله تعالى .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الأدلة والبراهين على ( الوحدانية ) وعلى البعث والنشور ، ثمّ أعقب ذلك بذكر الأدلة على ( النبوّة ) ومصدر الرسالة ، وصِدقِ هذا القرآن الذي نزل على خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فكان معجزة خالدة له على مدى الزمان .
وقد بيَّن تعالى أنَّ هذا القرآن ليس - كما يزعم المشركون - من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هو تنزيل الحكيم العليم ، وقد أقسم على ذلك بهذا القسم العظيم ، وهذا هو وجه الارتباط بين الآيات السابقة وبين هذه الآيات الكريمة .(1/547)
المعنى الإجمالي
يقول جلّ ثناؤه ما معناه : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } لا أقسم بهذه الأفلاك ، لا أقسم بمواضعها ومنازلها ، بمداراتها التي تدور فيها ، فإنّ الأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم ، والقسم بها - لو علمتم - شيء عظيم ، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جلّ وعلا ، ومع ذلك أقسم بأنّ هذا القرآن كتاب كريم ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو تنزيل الحكيم العليم ، في كتابٍ مصونٍ عند الله تعالى ، محفوظٍ عن الباطل ، محفوظ عن التبديل والتغيير .
وهذا الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين ، فالشياطين لا تمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه ، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار ، ولا ينبغي أن يمسّه إلاّ من كان مثلهم طاهراً ، لأنه كلام ربّ العزّة جلّ وعلا ، ومن تعظيم كلام الله ألاّ يمسّه إلا من كان طاهراً مطهّراً .
أفبهذا القرآن - أيها الناس - تكذّبون وتكفرون؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضّل عليكم؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم ، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم؟ أو تستطيعون أن تردّوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده؟
فلو كنتم غير محاسبين ، أو كان الأمر كما تقولون : لا حساب ولا جزاء ، ولا بعث ولا نشوز ، فأنتم حينئذٍ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين ، فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردّوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء ، وأنتم حولها تنظرون ، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون ، وهي ماضية إلى ( الدينونة الكبرى ) وأنتم ساكنون عاجزون ، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : السرّ في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله ، وكمل حكمته ، وبديع صنعه ، بما لا يحيط به نطاق البيان ، فإنّ عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار ، أثر من آثار قدرة الله ، التي تدل على وجود الخالق ، المبدع ، الحكيم ، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية :
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنّه واحدُ
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } جاءت هذه الجملة الاعتراضية ( لو تعلمون ) بين الصفة والموصوف ، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم ، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] .
والمقسم عليه هو ( القرآن العظيم ) وأصل الكلام : ( وإنه لقسم عظيم ، إنه لقرآن كريم ) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السرّ الدقيق .
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : أين جواب ( لَوْ ) في الجملة الاعتراضية؟
نقول : لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال : وإنه لقسم ولكن لا تعلمون ، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظّمتموه ، أو لعملتم بموجبه ، والفعل المضارع ( تعلمون ) ليس له مفعول على حدّ قولهم : فلانٌ يعطي ويمنع ، وهو أبلغ وأدخل في الحسن ممّا لو كان له مفعول فتدبره .(1/548)
اللطيفة الرابعة : قال الإمام الفخر : رحمه الله في قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } : « القرآن مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ، كما في قوله تعالى { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] أي مخلوق الله ، ووصفُه بالكريم فيه لطيفة ، وهي أنَّ الكلام إذا قرئ كثيراً يهون في الأعين ، والآذان ، ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك ، لا يذكره ثانياً ، ولو قيل لقائله لم تكرّر هذا؟
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } إطلاق الحديث على القرآن الكريم ، كثيرٌ بمعنى كونه ( اسماً ) لا ( وصفاً ) فإنّ الحديث اسمٌ لما يُتحدث به ، وهو وصفٌ يوصف به ما يتجدّد ، فيقال : أمر حادث ، ورسم حديث أي جديد ، ويقال : أعجبني حديث فلان بمعنى كلامه ، والقرآن قديم له لذة الكلام الجديد ، فصحّ أن يسمّى ( حديثاً ) .
والإدْهان : تليين الكلام لاستمالة السامع ، من غير اعتقاد صحة الكلام ، كما يقول العدوّ لعدوّه : أنا أدعو لك ، وأثني عليك ، مداهنة منه وهو كاذب ، فصار استعمال المدهن في المكذّب من هذا القبيل .
قال الزجّاج : معناه : أفبهذا القرآن أنتم تكذبون؟ .
اللطيفة السادسة : المناسبة بين المقسم به وهو ( النجوم ) ، وبين القسم عليه وهو ( القرآن ) أنّ النجوم جعلها الله ليهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر ، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الجهل والغواية ، وتلك ظلمات حسيّة ، وهذه ظلمات معنوية ، فالقسم هنا قد جمع فيه بين الهدايتين ( الحسيّة ) للنجوم ، و ( المعنوية ) للقرآن فتدبّر هذا السرّ الدقيق .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } ظاهر الكلام النفي ، ومعناه النهي كقوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] يراد منه النهي ، وكقوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] خبر بمعنى الأمر ، والمراد بالآية أنهم المطهّرون من الأحداث .
قال ابن كثير : قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } قال بعضهم : أي من الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناه الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحفُ ، كما روى مسلم في » صحيحه « عن ابن عمر : » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو « مخافة أن يناله العدوّ ، واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن حزم : » ألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر « .
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } هو على حذف مضاف أي وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم بالقرآن ، أي تضعون الكفر مكان الشكر ، فهو على حد قول القائل :(1/549)
« تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع » ... قال ابن عباس : في تفسير الآية : وتجعلون شكركم التكذيب .
قال الألوسي : « إنّ في الكلام مضافاً مقدّراً أي شكر رزقكم ، أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر » .
وقال الثعلبي المعنى : وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذِّبون .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { فلا أقسم } بمدّ ( لا ) على أنها نافية ، وقرأ الحسن { فلأقسم } بغير ألفٍ بين اللام والهمزة فتكون اللام ( لام القسم ) وهذا مبني على رأي بعض النحاة الذن يجوّزون القسم على فعل الحال فيقال : والله لَيَخرجُ زيد ، وعليه قول الشاعر : « ليَعلمُ ربيّ أنّ بيتي واسع » .
2- قرأ الجمهور { بمواقع } على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي { بموقع } على الإفراد لأنه اسم جنس .
3- قرأ الجمهور { المُطَهّرون } اسم مفعول من ( طهّر ) مشدّداً ، وقرأ نافع { المُطْهَرون } مخففاً من أطهر ، وقرأ سلمان الفارسي { المُطَّهَّرون } بشدّ الطاء والهاء أصله { المتطهرون } فأدغمت التاء في الطاء .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } لا زائدة والمعنى فأقسم ، وهذا مذهب سعيد بن جبير ، وقيل إنها ( لام القسم ) ومعناه فلأقسم وقد ردّه في « الكشاف » .
قال الزمخشري : « ولا يصح أن تكون اللام ( لام القسم ) لأمرين :
أحدهما : أنّ حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح .
والثاني : أنّ لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال .
2- قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } جملة ( لا يمسّه ) صفة ل ( قرآنٌ كريمٌ ) وقيل صفة ل ( كتابٍ مكنون ) وعلى كلا القولين تكون ( لا ) نافية ، وقيل إنها ناهية ، بمعنى ( لا يمسَسْهُ ) مثل قوله عليه السلام : » المسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُهُ . . . « الحديث .
قال ابن عطية : » والقول بأن ( لا يمسَّه ) نهي قول فيه ضعف ، وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك { تَنزِيلٌ } صفة ، فإذا جعلناه نهياً جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل في قسم حقيقي؟ وما هي طريقة هذا القسم؟
اختلف المفسرون في قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } وكيف نجمع بين هذا اللفظ الذي صورته « نفي القسم » وبين قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } الذي هو صريح في إثبات القسم؟ على عدة أقوال :
1- قال بعضهم : وهم الجمهور إنّ ( لا ) زائدة زيدت للتأكيد ، مثلها في قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم ، وقول الشاعر :
تذكَّرتُ ليلى فاعترتْني صَبَابةٌ ... وكان نياطُ القلب لا يتقطَّع
أي كاد يتقطع .
ب- وقال آخرون : إنّ ( لا ) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر : « أعوذ بالله بمن العقراب » ويكون معنى الآية : « لأَقْسِمٌ » .(1/550)
وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون : إذا كان الفعل مستقبلاً في حيّز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جداً تقول مثلاً « لأفعلنّ » ومثله قوله تعالى : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء : 57 ] ولا تقول : لأفعلُ .
ج - وقال آخرون : هي ( للنفي ) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار : إن القرآن سحر ، أو شعر ، أو كهانة ، ويكون حاصل لمعنى : لا صحة لما يقولون ، أُقْسمُ بمواقع النجوم ، ويكون الأمر فيه نفياً لكلام سابق ، وابتداءً بكلام مستأنف .
وهذا الرأي ضعيف أيضاً لأن النحاة يقولون : إنّ اسم ( لا ) وخبرها لا يصح حذفهما إلاّ إذا كانا في جواب سؤال ، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال : هل شفي فلانٌ من مرضه؟ فيقال : لا وشفاه الله . . . إلخ .
د- واختار الفخر الرازي رأياً آخر خلاصته : أنّ ( لا ) نافية باقية على معناها ، وأنّ في الكلام « مجازاً تركيبياً » وخلاصة المعنى أن نقول : لا حاجة إلى القسم لأنّ الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه ، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم .
الحكم الثاني : ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة؟
اختلف الفسرون في المراد بالكتاب المكنون .
فقيل : هو ( اللوح المحفوظ ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين ، لا يطّلع عليه إلا بعض الملائكة ، كجبريل وميكائيل عليهما السلام .
وقيل إن الكتاب : لا يراد به اللوح المحفوظ ، وإنما يراد به القرآن الكريم « المصحف » فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور ، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } [ عبس : 13 ] وعلى هذا التفسير يكون معنى { مَّكْنُونٍ } أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير ، ويكون على حدّ قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
الحكم الثالث : ما المراد من قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } ؟
اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ } هل هو راجع إلى القرآن العظيم؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم ( اللوح المحفوظ ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ } أي لا يمسّ هذا القرآن إلاّ طاهر من الحدثين : الأصغر والأكبر . ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] .
ويرى البعض أنّ ( لا ) ناهية وليست نافية ، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب ، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهّرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ }(1/551)
[ عبس : 13 - 16 ] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذاً الملائكة .
الحكم الرابع : ما هو حكم مسّ المصحف الشريف؟
القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه ، ومن تعظيمه وإجلاله ألاّ يمسه إلاّ طاهر ، ومسألة عدم جواز مسّ المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء ، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة ( التعلم والتعليم ) فالمحدث والجنب ، والحائض ، والنفساء ، كلّ هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة .
رأي ابن تيمية رحمه الله : استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال : إنّ الآية تدل على الحكم من باب « الإشارة » فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أنَّ الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُها إلا المطهّرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألاّ يمسّها إلا طاهر « انتهى .
أقول : هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه ، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مسّ المصحف الشريف بدون طهارة .
تنبيه هام
قلنا إن مسَّ المصحف لغير المتطهر حرام ، وهذا الحكم لا اعتراض عليه ، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة؟ أم مأخوذ من دليل آخر؟
فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مسّ القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة ، لأنه ( خبر ) يقصد به ( النهي ) فكأنه تعالى يقول : » لا تمسّوه إلاّ إذا كنتم على طهارة « .
وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يُرجَّح بها هذا الرأي منها :
أ- » إنّ الآيات هاهنا مكية ، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه .
ب- قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن ( الخبر ) إلى ( الإنشاء ) الذي يراد به النهي ، والأصلُ أن يحمل اللفظ على الحقيقة .
ج - قالوا إنّ لفظ « المطهّرون » يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم ( الملائكة ) وأما المتطهرين فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظراً لقوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } [ البقرة : 222 ] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } !! .
والخلاصة : فإن السنة والآثار تنصّ على وجوب الطهارة لمسّ القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى أهل اليمن وجاء فيه : « وألاّ يمسّ القرآن إلا طاهرٌ » .
وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم : ( مالك وأبو حنيفة والشافعي ) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف ، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغُنيةٌ عن التطويل .
الحكم الخامس : ما هي الحكمة من القسم؟
جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام ، والقرآنُ الكريم نزل بلغة العرب ، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعاً من القسم وضرورياً من التفنّن البديع في توكيد الكلام ، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى ، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان .(1/552)
ثمّ إنّ المخاطب أحد رجلين : إمَّا مؤمن بالقرآن ، أو مكذب به ، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدِّقٌ بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين ، والمكذّب الذي لم تغنه الآيات والنّذُر لن يصدّق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل ، فثبت أنّ المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلاّ ولفتُ النظر إلى أهمية الموضوع ، وأهمية الأمر ، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سرّ هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سرّه؟ وما معناه؟ ولم أقسم به دون غيره؟ وحينئذٍ تبحث عن الحكمة والسرِّ في ذلك القسم!!
الحكم السادس : ما هي أنواع القسم المذكورة في القرآن الكريم؟
ورد القسم في القرآن الكريم على أنواع عديدة ، وضروب شتى ، إمَّا من ناحية القسم نفسه ، أو من ناحية المقسم عليه .
1- فجاء القسم بالذات العلية مثل قوله تعالى : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] .
2- وجاء القسم بأشياء من خلقه سبحانه مثل : { والتين والزيتون } [ التين : 1 ] { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 - 2 ] .
3- وجاء القسم بالقرآن الكريم مثل : { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] { حم* والكتاب المبين } [ الزخرف : 1 - 2 ] { ق والقرآن المجيد } [ ق : 1 ] .
4- وجاء أيضاً على الشكل الذي معنا في الآيات الكريمة بلا النافية وفعل القسم مثل قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس } [ التكوير : 15 - 16 ] وقوله : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } [ القيامة : 1 ] وقوله : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] هذا من ناحية القسم .
أما من ناحية المقسم عليه فإمّا أن يكون .
1- أصول الإيمان كوحدانية الله سبحانه مثل قوله تعالى : { والصافات صَفَّا . . . إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 1 - 4 ] .
2- أو يكون المراد إثبات أن القرآن حق مثل الآية التي معنا { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم . . . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } . 3- أو يكون المراد إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : { يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 1 - 3 ] .
4- أو يكون المراد نفي صفة ذميمة أتهم بها المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قوله : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 1 - 2 ] .
الحكم السابع : هل يجوز القسم بغير الله سبحانه؟
أجمع العلماء على حرمة القسم بغير الله سبحانه ، أو صفةٍ من صفاته تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر » هذا بالنسبة للخلق ، أما بالنسبة للخالق فله أن يقسم بما شاء من خلقه ، لأن في القسم بالشيء تنبيهاً إلى عظمته وأهميته ، والله سبحانه وتعالى قد أقسم بكثير من الآيات كما مر معنا تنبيهاً إلى شرفها وما حوت من إبداع وإتقان ليكون ذلك دليلاً على عظمة خالقها جل وعلا .(1/553)
وقد قال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : القسم بالنجوم والأفلاك تنبيه على عظمة الخالق ، المدبّر الحكيم الذي أبدع هذا الكون .
ثانياً : القرآن كلام الله ليس بشعر ، ولا بسحر ، ولا كهانة ، بل تنزيل الحكيم العليم .
ثالثاً : الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين ، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار ، فلا ينبغي أن يمسّه إلا طاهر .
رابعاً : القرآن مصون عن التبديل والتغيير ، محفوظ عن الباطل ، لأنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه .
خامساً : ينبغي أن تقابل النعمة بالشكر والثناء لا بالجحود ، والإنكار ، والتكذيب .
سادساً : لو كان الإنسان غير مجازى بعمله لاستطاع أن يدفع عن نفسه شبح الموت .
سابعاً : لا بدّ من دار الجزاء وراء هذه الدنيا ليلقى فيها الإنسان نتيجة عمله .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
القرآن الكريم كتاب الله المجيد ، ودستوره إلى عباده ، ووحيه المنزل على خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر الكتب السماوية نزولاً ، وأشرفها مكانة ومنزلة ، أودع فيه منزلُهُ هداية البشرية ، وسعادة الإنسانية ، وجعله نوراً وضياء للعالمين .
ومن حقّ هذا القرآن المجيد أن يُعظم ، ومن واجب المسلمين أن يطبّقوه في حياتهم ، وأن يحلّوه محل الصدارة من أنفسهم ، تلاوة ، وعملاً وتطبيقاً؛ ليسعدوا كما سعد آباؤهم من قبل .
ومن تعظيم القرآن الكريم ألا يمسّه الإنسان إلاّ على طهارة ، لأنه كلام الله ، وكلام الله عظيم بعظمة الله ، فلا يصح للمؤمن أن يتساهل في أمره ، وأن يمسّه بدون وضوء ، فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لعمرو بن حزم « وألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر » وكفى بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر القرآن تعظيماً ، وكفى ببيانه بياناً!!
وإذا كان القرآن الكريم قد عظّم الله شأنه ، فأنزله في أفضل الشهور ( شهر رمضان ) وفي أفضل الليالي ( ليلة القدر ) واختار الواسطة له الروح الأمين ( جبريل ) عليه السلام ، وأخبر أنه { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] أفلا يكون من واجب المسلمين أن يعظّموا هذا الكتاب المبين غاية التعظيم ، ويجلّوه غاية الإجلال؟!
وإذا كان الملائكة الأطهار ، والسفرة الأبرار هم الذين تشرفوا بمسّ هذه الصحف المطهّرة ، فأولى بأهل الأرض ألا يمسّوه إلى على طهارة ، تشبهاً بالملائكة الأطهار ، وتفخيماً لشأن هذا الكتاب العظيم الذي حفظه الله وصانه من التحريف والتبديل وصدق الله : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 41 - 42 ] .(1/554)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
سورة المجادلة
[ 1 ] الظهار وكفارته في الإسلام
التحليل اللفظي
{ سَمِعَ الله } : السمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة ، والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما .
ومعنى السميع : المدرك الأصوات من غير أن يكون له أذن لأنها لا تخفى عليه .
قال أبو السعود : ومعنى سمعه تعالى لقولها : إجابة دعائها ، لا مجرد علمه تعالى بذلك : كما هو المعنيُّ بقوله تعالى : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } أي يعلم تراجعكما الكلام .
{ تجادلك } : أي تراجعك في شأن زوجها ، والمجادلة : المناظرة والمخاصمة وفي الحديث : « ما أوتي قوم الجدل إلاّ ضلّوا » والمراد بالحديث الجدل على الباطل ، وطلب المغالبة به ، لا إظهار الحق فإنّ ذلك محمود لقوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] والمراد هنا : المراجعة في الكلام .
{ وتشتكي } : الشكوى إظهار البث وما انطوت عليه النفس من الهمّ والغم ، وفي التنزيل : { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وشكا واشتكى بمعنى واحد .
{ تَحَاوُرَكُمآ } : المحاورة المراجعة في الكلام ، من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً ، ومنه حديث : « نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر » ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب . قال عنترة :
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي
يريد به فرسه أي لو كان يعلم الكلام لكلَّمني .
{ يظاهرون } : الظهار مشتق من الظهر ، وهو قول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي . ومعناه الأصلي : مقابلة الظهر بالظهر يقال : ظاهر فلان فلاناً أي قابل ظهره بظهره ، ثم استعمل في تحريم الزوجة بجعلها كظهر أمه .
قال الألوسي : الظهار لغة مصدر ظاهر ، وهو ( مفاعلة ) من الظهر ، ويراد به معانٍ مختلفة ، راجعة إلى الظهر معنى ولفظاً باختلاف الأغراض .
فيقال : ظاهر زيد عمراً أي قابل ظهره بظهره حقيقة .
وظاهره إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة ، باعتبار أن المغايظة تقتضي ذلك .
وظاهره إذا ناصره ، باعتبار أنه يقال : قوّى ظهره إذا نصره .
وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر .
وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي .
وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات .
قال في « الفتح » : « وإنما خصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء ، لأنه محل الركوب غالباً ، ولذلك سُمّي المركوب ظهراً ، فشبهت المرأة بذلك لأنها مركوب الرجل » .
{ اللائي } : جمع التي ، فيقال : اللاتي ، واللائي قال تعالى : { والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } [ النساء : 34 ] .
{ مُنكَراً } : المنكر من الأمر خلاف المعروف ، وكلّ ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر .
{ وَزُوراً } : الزور : الكذب ، والباطل الواضح ، ومنه شهادة الزور .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : حرّرته أي جعلته حراً لوجه الله . والرقبة في الأصل : العُنُق ثم اطلقت على ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه ، والمراد بها المملوك عبداً أو أمة .(1/555)
قال الألوسي : وذلك من تسمية الكل باسم الجزء .
{ يَتَمَآسَّا } : المسّ : مسكُ الشيء باليد ، ثم استعير للجماع لأنه لمس والتصاق ، لأن فيه التصاقَ الجسم بالجسم ، والتماس هنا : كناية عن الجماع .
{ مِسْكِيناً } : المسكين الذي لا شيء له ، وقيل الذي لا شيء له يكفي عياله ، وأصل المسكين في اللغة الخاضع . . .
والمراد به هنا ما يعم الفقير ، والمسكينُ أحسن حالاً من الفقير . وقد قالوا : المسكينُ والفقيرُ إذا اجتمعا يعني ( في اللفظ ) افترقا ( في المعنى ) وإذا افترقا اجتمعا .
{ حُدُودُ } : الحد : الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر وجمعه حدود .
وحدود الله : الأشياء التي بيّن تحريمها وتحليلها ، وأمرَ أن لا يتعدى شيء منها فيتجاوز إلى غير ما أمر فيها أو نهى عنه منها ومنع من مخالفتها .
وهنا قوله { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعني الحدود بين معصيته وطاعته ، فمعصيتُه الظهارُ ، وطاعتهُ الكفارة .
المعنى الإجمالي
إن الله تعالى سميع قريب ، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وهذه امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ظلم زوجها لها ، حيث حرّمها على نفسه بلفظٍ كانت الجاهلية تستعمله ، أفيبقى هذا اللفظ محرماً في الإسلام؟!
جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجّهت بالدعاء إلى المولى جلّ وعلا ، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، تشكو إليه وحدتها ، فلا أهل لها ، ولا معيل ولا نصير ، وقد كبر سنّها ، وأولادُها صغارٌ ، إن أبقتهم عنده ضاعوا ، وإن ضمّتهم إليها جاعوا . . .
ورسولُ الله صلوات الله عليه لا يشرّع من قبل نفسه ، وإنما يتّبع الوحي الذي يأتيه من ربه ، ولم يوح إليه في الظهار بشيء ، ولذلك ما كان يجزم بالتحريم ، وإنما كان يقول : « ما أُرَاك إلا قد حَرُمتِ عليه » فكانت تجادله .
استجاب الله دعاء هذه المرأة الضعيفة الوحيدة ، ونزل الوحي ليقول للزوج : زوجُكَ التي ظاهرت منها ليست بأمك ، فأمك هي التي ولدتك حقيقة ، وحرّمت عليك بذلك ، فكيف تصف ما أباحه الله لك بما حرَّمه عليك؟ إنك تقول قولاً يمقته الشرع فضلاً عن كونه كذباً وزوراً ، ومع ذلك فإن الله عفوّ عمن أخطأ ثمّ تاب ، غفور لمن وقف عند حدود الشرع ، واتَّبع أمر الله الذي أنزله على نبيّه .
فمن ظاهر من زوجه وقال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي ، ثمّ أراد أن ينقض قوله ، ويعود إلى ما أحلّه الله له من زوجه ، فالواجب عليه أن يحرّر عبداً مملوكاً قبل أن يمسّ زوجه ، هذا حكمُ مَنْ ظاهر ليتعظ به المؤمنون ، ويعلموا أن الله جلّ وعلا خبير بكل ما يعملونه ، فعليهم أن ينتهوا عما نهاهم عنه .
فمن لم يجد الرقبة بأن كان لا يملك ثمنها ، أو لا يجد عبداً يشتريه ويعتقه فليصم شهرين متتابعين من قبل أن يقرب زوجه ، فإذا كان ضعيفاً لا يقوى على الصوم ، أو مريضاً يُضعفه الصوم ، فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم ، ذلك هو حكم الله في الظهار ، لتؤمنوا بأن هذا منزّل من عند الله تعالى وتتبعوه ، وتقفوا عند حدود ما شرع لكم فلا تتعدوها .(1/556)
سبب النزول
أولاً : عن عائشة رضي الله عنها قالت :
« تبارك الذي وسمع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة ، فكلَّمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ، ويخفى عليَّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله : أَبْلى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سنِّي ، وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك .
قالت : فما برحتْ حتى نزل جبريل بهذه الآيات » .
ثانياً : وقال ابن عباس رضي الله عنهما :
« كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنتِ علي كظهر أمي ، حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام ( أوس ) ثمّ ندم ، وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه ، فأتته ، فنزلت هذه الآيات » .
ثالثاً : وعن خولة بن مالك بن ثعلبة قالت :
ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول : اتقي الله فإنه ابن عمك .
فما برحتُ حتى نزل القرآن { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تجادلك فِي زَوْجِهَا . . . } إلى الفرض قال : يعتق رقبة ، قلت لا يجد ، قال : فليطعم ستين مسكيناً .
قلت : ما عنده شيء يتصدق به ، قال : فإني سأعينه بعَرَقَ من تمر .
قلت : يا رسول الله وإني أعينه بعَرَق آخر . قال : قد أحسنتِ اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك .
قال : والعَرَق ستون صاعاً .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله } بإظهار الدال .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين .
قال الكسائي : من قرأ { قَدْ سَمِعَ } فبيَّنَ الدَّال فلسانه أعجمي ليس بعربي .
قال الألوسي : « ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر ، بل الجمهور على البيان » .
ثانياً : قوله تعالى : { تجادلك فِي زَوْجِهَا } قراءة الجمهور تجادلك من المجادلة وهي المراجعة في الكلام .
وقرئ { تحاروك } أي تراجعك الكلام .
ثالثاً : قوله تعالى : { والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ } قرأ حفص وعاصم { يُظَاهِرون } بضم الياء وكسر الهاء .
وقرأ نافع وابن كثير وعمر { يَظَّهَّرون } بتشديد الظاء والهاء وحذف الألف وفتح الياء .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { يَظّاهرون } بفتح الياء وتشديد الظاء وألف .
وقرأ الحسن وقتادة { يَظَهّرون } بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة ، والمعنى ( يقولون لهنَّ أنتُنَّ كظهور أمهاتنا ) .
رابعاً : قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } الجمهور بكسر التاء وهي لغة أهل الحجاز .
وقرأ المفضل عن عاصم { أمهاتُهم } بالرفع على لغة تميم .(1/557)
وقرأ ابن مسعود { بأمهاتِهم } بزيادة الباء .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { وتشتكي إِلَى الله } عطف على { تجادلك } فهو من عطف الجمل لا محل لها من الإعراب لكونها صلة للتي .
وجوّز بعضهم أن تكون حالاً ، أي تجادلك شاكية حالها إلى الله ويقدر مبتدأ أي وهي تشتكي؛ لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية .
ثانياً : قوله تعالى : { الذين يظاهرون مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ } اسم الموصول { الذين } مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون ، وأقيم دليله هو قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } مقامه .
وقال ابن الأنباري : خبره ( ما هن أمهاتهم ) أي ما نساؤهم أمهاتهم .
ثالثاً : قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أمهاتهم إِنْ أمهاتهم } .
قال الفراء : وانتصابُ الأمهات هاهنا بإلقاء الباء ، وهي قراءة عبد الله { ما هن بإمهاتهم } ومثله { ما هذا بشراً } أي ما هذا ببشر ، فلما ألقيت الباء أبقى أثرها ، وهو النصب ، وعلى هذا كلام أهل الحجاز ، فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا رفعوا وقالوا : ( ما هنّ أمهاتُهم ) و ( ما هذا بشرٌ ) .
وقال أبو حيان : أجرى ( ما ) مُجْرَى ( ليس ) في رفع الاسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] وقوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] .
أقول : هذا هو الصحيح لأن ( ما ) بمعنى ليس فهي نافية حجازية وهي لغة القرآن .
رابعاً : قوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } انتصب ( منكراً وزوراً ) على الوصف لمصدر محذوف ، وتقديره وإنهم ليقولون قولاً منكراً ، وقولاً زوراً .
خامساً : قوله تعالى : { والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } اسم الموصول ( الذين ) مبتدأ ، وقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة ، أو فكفارتهم تحرير رقبة .
والجملة من المبتدأ وخبره خبر الموصول ، ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
سادساً : قوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } .
قال ابن الأنباري : الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب ( يعودون ) و ( ما ) مصدرية ، وتقديره ( يعودون لقولهم ) . والمصدر في موضع المفعول كقولك ( هذا الثوب نسج اليمن ) ، أي منسوجه ، ومعناه يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلِّق .
وقيل : اللامُ في { لِمَا قَالُواْ } بمعنى ( إلى ) أي يعودون إلى قول الكلمة التي قالوها أولاً من قولهم : أنت علي كظهر أمي وهذا من مذهب أهل الظاهر .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : يقول علماء اللغة : ( قَدْ ) حرف يُوجَب به الشيء وهي إذا دخلت على الماضي تفيد ( التحقيق ) وإذا دخلت على المضارع تفيد ( التقليل ) لأنها تميل إلى الشك تقول : قد ينزل المطر ، وقد يجود البخيل ، وأمّا في كلام الله فهي للتحقيق سواءً دخلت على الماضي أو المضارع كقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } [ الأحزاب : 18 ] .
قال الجوهري : ( قد ) حرف لا يدخل إلاّ على الأفعال .
قال الزمخشري : « معنى ( قد ) التوقع لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرّج عنها » .(1/558)
ومعنى سمعه تعالى لقولها إجابة دعائها ، لا مجرد علمه تعالى بذلك ، وهو كقول المصلي : سمع الله لمن حمده .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } قال الإمام الفخر : هذه الواقعة تدل على أنّ من انقطع رجاؤه عن الخلق ، ولم يبق له فيما أهمّه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر .
وصيغةُ المضارع ( يسمع ) تفيد التجدّد ، للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدّده ، وذكْرُهَا مع الرسول في سلك الخطاب ( تحاوكما ) تشريف لها بهذا الخطاب الكريم ، وإظهارُ الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين .
اللطيفة الثالثة : قال ابن منظور : كانت العرب تطلّق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة ( أنت عليّ كظهر أمي ) وإنما خصّوا ( الظَّهر ) دون البطن ، والفخذ ، والفرج - وهذه أولى بالتحريم - لأنّ الظهر موضع الركوب ، والمرأة مركوبة إذا غشيت ، فكأنه أراد أنْ يقول : ركوُبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمّي للنكاح ، فأقام الظهر مقام الركوب ، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية .
وقال الفخر الرازي : ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد ، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء ، التي هي مواضع المباضعة والتلذذ ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] أي يعلوه ، وكلّ من علا شيئاً فقد ظهره ، ومنه سُمّي المركوب ظهراً لأنَّ راكبَه يعلوه ، وكذا امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع ، فكأن امرأة الرجل مركوب للرجل وظهر له .
ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلَّقتُها ، وفي قولهم : أنتِ عليّ كظهر أمي ( حذف وإضمار ) لأن تأويله : ظهرك عليّ أيملكي إيّاك ، وعلوّي عليك حرام ، كما أنّ علوّي على أمي وملكها حرام عليّ .
اللطيفة الرابعة : المظاهِر شبّه الزوجة بالأم ، ولم يقل هي أم ، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟
قال الإمام الفخر في الجواب عن ذلك : إن الكذب إنما لزم لأن قوله : ( أنتِ عليّ كظهر أمي ) إمّ أن يكون إخباراً ، أو إنشاءً .
فعلى الأولى : إنه كذب لأن الزوجة محلّلة ، والأم محرمة ، وتشبيه المحلّلة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب .
وعلى الإنشاء : كان ذلك أيضاً كذباً ، لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة ، فلمّا لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاءً في وقوع هذا الحكم كذباً وزوراً .
اللطيفة الخامسة : روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ في خلافته على امرأة ، وكان راكباً على حمار والناس معه ، فاستوفقته تلك المرأة طويلاً ، ووعظته وقالت له : عهدي بك يا عمر وأنت صغير تدعى عميراً ، ثمّ قيل لك : يا عمر ، ثمّ قيل لك : يا أمير المؤمنين ، فاتّق الله يا عمر في الرعيّة ، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب .(1/559)
وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟
فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ، لا زِلتُ إلاّ للصلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز؟! هذه ( خولة بنت ثعلبة ) التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمح ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! .
أقول : رضي الله عنك يا عمر فهذه أخلاق الصدّيقين .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { الذين يظاهرون مِنكُمْ } الخطاب بلفظ ( منكم ) فيه مزيد توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم في الظهار ، لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم .
اللطيفة السابعة : روى الإمام الترمذي عن ( سلمة بن صخر البياضي ) أنه قال : « كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح ، فظاهرات منها حتى ينسلخ رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء ، فما لبثتُ أن نزوتُ عليها ، فلما أصبحتُ أخبرتُ قومي ، فقلت : امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا والله .
فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال : » أنتَ بذاك يا سلمة! قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين ، وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم فيما أراك الله؟
قال : « حرّر رقبة » ، قلت : والذي بعثك بالحق ما أملك رقبةً غيرها وضربت صفحة رقبتي .
قال : « فصم شهرين متتابعين » .
قالت : وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلاّ من الصيام؟
قال : « فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً » .
قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا وَحْشين ما لنا طعام!!
قال : « فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك ، فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر ، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها » .
فرجعت إلى قومي فقلتُ : وجدت عندكم الضيق ، وسوء الرأي ، ووجدت عن النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي ، وقد أمر لي بصدقتكم « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل لاظهار مشروع كالطلاق أم هو محرَّم؟
كان الظهار في الجاهلية طلاقاً ، بل هو أشد أنواع الطلاق عندهم ، لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التيّ تحرم حرمة على التأبيد ، بل لا تجوز بحالٍ من الأحوال ، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم ، وجعل الظهّار محرّماً قربان المرأة حتى يكفّر زوجها ، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية .
فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً ، ولو طلّق يريد به الظهار كان طلاقاً ، العبرةُ باللفظ لا بالنيّة ، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر .
قال ابن القيم : » وهذا لأنّ الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ ، فلم يجز أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ ، وأيضاً فإنّ ( أوس بن الصامت ) إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه ، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق ، وأيضاً فإنه صريح في حكمه ، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه ، وقضاءُ الله أحقُّ ، وحكمُ الله أوجب « .(1/560)
وقد دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } على أن الظهار حرام ، بل لقد قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر ، فمن أقدم عليه اعتبر كاذباً معانداً للشرع .
وقد اتفق العلماء على حرمته فلا يجوز الإقدام عليه ، لأنه كذب وزور وبهتان ، وهو يختلف عن الطلاق ، فالطلاقُ مشروع ، وهذا ممنوع ، ولو أقدم الإنسان عليه يكون قد ارتكب محرماً ويجب عليه الكفارة .
الحكم الثاني : ماذا يترتب على الظهار من أحكام؟
إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتّب عليه أمران :
الأول : حرمة إتيان الزوجة حتى يكفّر كفارة الظهار لقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } .
والثاني : وجوب الكفارة بالعود لقوله تعالى : { والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ . . . } الآية وسنتحدث عن معنى العود في الحكم الثالث إن شاء الله .
وكما يحرم المسيس فإنه يحرم كذلك مقدماته ، من التقبيل ، والمعانقة وغيرها من وجوه الاستمتاع ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية والمالكية ، والحنابلة ) .
وقال الثوري والشافعي ( في أحد قوليه ) : إن المحرّم هو الوطء فقط ، لأن المسيس كناية عن الجماع .
حجة الجمهور :
أ- العموم الوارد في الآية ( من قبل أن يتماسّا ) فإنه يشمل جميع وجوه الاستمتاع .
ب- مقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة ( كظهر أمي ) فكما يحرم مباشرة الأم والاستمتاع بها بجميع الوجوه ، فكذلك يحرم الاستمتاع بالزوجة المظاهر منها بجميع الوجوه عملاً بالتشبيه .
ج - أمر الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفّر .
حجة الشافعي والثوري :
أ- الآية ذكرت المسيس وهو كناية عن الجماع فيقتصر عليه .
ب- الحرمة ليست لمعنى يُخلُّ بالنكاح فأشبه الحيض ، الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة .
أقول : رأي الجمهور أحوط لأنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، سيّما وقد نقل الإمام الفخر أنّ للشافعي فيه قولين : ( أحدهما ) أنه يحرم الجماع فقط . ( والثاني ) أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات ، قال : وهو الأظهر . وكفى الله المؤمنين القتال .
الحكم الثالث : ما المراد بالعود في الآية الكريمة؟
اختلف الفقهاء في المراد من العود في قوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } على عدة أقوال .
أ- قال أبو حنيفة : العود : هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة .
ب- وقال الشافعي : العود : هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدر على الطّلاق .
ج - وقال مالك وأحمد : العود : هو العزم على الوطء ، أو على الوطء والإمساك .(1/561)
د- وقال أهل الظاهر : العود : أن يكرّر لفظ الظهار مرة ثانية فإن لم يكرّر لا يقع الظهار .
والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى لأن العود إلى الإمساك ، أو الوطء ، أو إبقاءها بعد الظهار بدون طلاق ، كلّها تدل على معنى الندم وإرادة المعاشرة لزوجه التي ظاهر منها فاللام في ( لما ) بمعنى ( إلى ) .
والمعنى : يرجعون إلى تحليل ما حرّموا على أنفسهم بالعزم على الوطء ، وقد عدّد ( القرطبي ) فيها سبعة أقوال .
قال الفراء : معنى الآية يرجعون عمّا قالوا ، وفي نقض ما قالوا .
دليل الظاهرية :
قال أهل الظاهر : إن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته ، فلا تلزم الكفارة إلاّ إذا أعاد اللفظ - يعني ظاهر مرة ثانية - وقالوا : الذي يعقل من قولهم : عاد إلى الشيء أي أنه فعله مرة ثانية كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم .
قال الزجّاج : وهذا قول من لا يدري اللغة .
وقال أبو علي الفارسي : ليس هو كما ادّعوا ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل ، وسميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد ثم عاد الناس إليها ، قال الهُذلي :
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقّ شيئاً واستراح العواذل
وقال ابن العربي : « ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه ، وهو باطل قطعاً ، لأنه قد رويت قصص المظاهرين وليس فيه ذكرٌ لعودِ القول منهم ، وأيضاً فإن المعنى يقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور ، فكيف يقال له : إذا أعدت القول المحرّم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة » .
أقول : ما قاله جمهور الفقهاء أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ ، إنما هو العود إلى معاشرتها والعزم على وطئها هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً لأن المظاهر قد حرّم على نفسه قربان الزوجة ، فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه فيلزمه التكفير بهذا العزم .
وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل ، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبّط فيه هؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية ويكفي لبطلانه حديث ( أوس بن الصامت ) فإنه لم يكرّر الظهار وقد ألزمه صلى الله عليه وسلم الكفارة؛ وحديث ( سلمة بن صخر ) فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة مع أنه لم يكرّر اللفظ وقد تقدّما ، وكفى بذلك حجة قاطعة ، لا رأي لأحدٍ أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم .
الحكم الرابع : هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟
ذهب الجمهور ( الحنفية والمالكية والحنابلة ) إلى أن ظهار الذمي لا يقع لأن الله تعالى يقول : ( الذين يظاهرون منكم ) وظاهرُ قوله : ( منكم ) أنَّ غير المسلم لا يتناوله الحكم .
وقالوا أيضاً : إن الذميّ ليس من أهل الكفارة ، لأن فيها إعتاق رقبة ، والصوم ، ولما كان ( الصوم ) عبادة لا يصحّ من غير المسلم إذن فلا يصح ظهاره .(1/562)
فالظهار عندهم لا يكون إلاّ من الزوج العاقل البالغ المسلم .
مذهب الشافعي : قال الشافعية : كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه ، كذلك يقع ظهاره .
وقالوا : يكفّر بالإعتاق ، والإطعام ، ولا يكفّر بالصوم لأنه عبادة لا تصح إلاّ من المسلم .
قال الألوسي : والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته مع أنه يشترط النيّة في الكفارة ، والإيمان في الرقبة ، والكافر لا يملك المؤمن؟
أقول : الراجح رأي الجمهور ، واستدلالهم بالكفارة في ( العتق والصيام ) قوي ، وأمّا استدلالهم بمفهوم الصفة في الآية الكريمة ( منكم ) فليس بذاك لأن الآية وردت مورد ( التهجين والشنيع ) لما مرّ أن الظهار لم يعرف إلاّ عند العرب فليس فيها ما يدل لهم والله أعلم .
الحكم الخامس : هل يصح الظهار من الأمة؟ .
أ- ذهب ( الحنفية والحنبلية والشافعية ) إلى أن الرجل لو ظاهر من أمته لا يصح ، ولا يترتب عليه أحكام الظهار ، لقوله تعالى : { مِّن نِّسَآئِهِمْ } لأن حقيقة إطلاق النساء على ( الزوجات ) دون ( الإماء ) بدليل قوله تعالى : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } [ النور : 31 ] فقد غاير بينهنّ ، فالمراد بالنساء في الآية الحرائر .
ب- وذهب مالك : إلى صحة الظهار في الأمة مطلقاً لأنها مثل الحرّة .
ج - وروي عن الإمام أحمد : أنه لا يكون مظاهراً ، ولكن تلزمه كفارة الظهار .
الحكم السادس : هل يقع ظهار المرأة؟
اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار ، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها : ( أنت عليّ كظهر أمي فلا كفارة عليها ولا يلزمها شيء ) وكلامها لغو .
قال ابن العربي : وهو صحيح في المعنى ، لأن الحَلَّ والعقد ، والتحليل التحريم في النكاح من الرجال ليس بيد النساء منه شيء .
وروي عن الإمام أحمد ( في أحد قوليه ) أنه يجب عليها الكفارة إذا وطئها وهي التي اختارها الخرقي .
الحكم السابع : هل الظهار مختص بالأم؟
أ- ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم ، كما ورد في القرآن الكريم ، وكما جاء في السنة المطهّرة ، فلو قال لزوجته : أنتِ عليّ كظهر أمي كان مظاهراً ، ولو قال لها : أنت عليّ كظهر أختي أو بنّتي لم يكن ذلك ظهاراً .
ب- وذهب أبو حنيفة ( والشافعي في أحد قوليه ) : إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم .
فالظهار عندهم هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم ، بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب ، أو المصاهرة ، أو الرضاع ، إذ العلة هي التحريم المؤبد .
وأمّا من قال لامرأته : يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً ، ولكن يكره له ذلك لما رواه أبو داود عن ( أبي تميمة الهجيمي ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته : يا أُخَيّة ، فكرة ذلك ونهى عنه .(1/563)
الحكم الثامن : ما هي كفارة الظهار؟
الكفارة هي : عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً كما دلت عليه الآية .
أ- الإعتاق : وقد أطلقت الرقبة في الآية فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟
ذهب الحنفية : إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة ، والذكر والأنثى ، والكبير والصغير ، ولو رضيعاً لأن الاسم ينطلق على كل ذلك .
وذهب الشافعية والمالكية : إلى اشتراط الإيمان في الرقبة ، فلا يصح عتق غير المؤمن حملا للمطلق على المقيد في آية القتل لقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] بجامع عدم الإذن في السبب في كل منهما .
وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة ، لأنه حينئذٍ يلزم ذلك لزوماً عقلياً إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوباً إدخاله في الوجود مطلقاً ومقيداً ، كالصوم في كفارة اليمين ، ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها .
والمناقشة : بين القولين تنظر في كتب الأصول والفروع .
وأما الإمام أحمد : ففي المسألة عنه روايتان .
ب- صيام شهرين متتابعين : من عجز عن إعتاق الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين .
ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص ، وإن صام بغير الأهلة فلا بد من ستين يوماً عند الحنفية .
وعند الشافعية والمالكية : يصوم إلى الهلال ثم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد .
ج - إطعام ستين مسكيناً : من لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع أصل الصيام ، أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو مرض لا يرجى زواله عادة أو بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً .
واختلف الفقهاء في قدر الإطعام لكل مسكين .
قال أبو حيان : والظاهر مطلق الإطعام وتخصّصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديدٍ بمد .
ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً .
وقال أبو حنيفة وأصحابه لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه .
الحكم التاسع : هل تتغلّظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟
أ- ذهب أبو حنيفة : إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله ، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها .
ب- وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب ويمسك عن زوجه حتى يكفِّر كفارة واحدة .
قال أبو بكر الرازي : « إن الظهار لا يوجب كفارة ، وإنما يوجب تحريم الوطء ، ولا يرتفع إلا بالكفارة ، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه ، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط مؤقتاً بأداء الكفارة ، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه ، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة ، وذلك لأنه علَّق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية ، لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط ، فإنه متى فات الوقت ، وعُدِم الشرط ، لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني ، فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : استغفر الله ولا تعد حتى تكفِّر ، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة » .(1/564)
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم بهذا الفعل وتجب عليه كفارة واحدة والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : استجابة الله دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء .
ثانياً : عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد .
ثالثاً : عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار .
رابعاً : خصال الكفارة مرتبة لا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها .
خامساً : حدود الله يجب التزامها ، ولا يجوز تعديها .
حكمة التشريع
لقد شرع الإسلام الزواج عقداً دائماً غير مؤقت ، لا يقطعه إلا هاذم اللذات ، أو أبغض الحلال إلى الله ، وبالزواج يَحِلُّ للرجل كلُّ شيء من زوجه ، في حدود ما أباحه الله تعالى له ، فإذا جاء الإنسان يريد أن يغيَّر ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً ، فقد ارتكب كبيرة لا محالة ، وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له ، فلهذا كان عقابه كبيراً ، وكانت أولى خصال الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع ، ألا وهي تحرير رقاب العبيد ، وهذه إحدى سبل تحريرهم ، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه ، فليصم شهرين متتابعين ، والصوم مدرسة تهذب خلقه ، وتربيَّ نفسه ، وتقوّم ما أعوج من تربيته .
هذا إن كان صحيح الجسم ، موفور الصحة ، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم ، ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً فيطعم ستين مسكيناً ، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع ، وفائدة الرجل نفسه .
هذا جزاء من حرَّم حلالاً ، فليتعظ المؤمنون بهذا الجزاء الزاجر .(1/565)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
[ 2 ] نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم
التحليل اللفظي
{ تَفَسَّحُواْ } : توسّعوا في المجلس وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : إفسح عني أي تنحّ ، يقال : بلدة فسيحة ، ومفازه فسيحة ، ولك فيه فسحة أي سعة .
قال القرطبي : وفَسَح يَفْسَح مث مَنَع يَمْنَع ، أي وسّع في المجلس ، وفَسُح يَفْسُح مثل كَرُم يكْرُم ، أي صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح .
{ انشزوا } : انهضوا وارتفعوا ، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض ، قال في « اللسان » : النّشْز : المرتفع من الأرض ، ونشز الشيء : ارتفع ، وتلّ ناشز : مرتفع ، وفي التنزيل : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } قرأها الناس بكسر الشين ، وأهلُ الحجاز يرفعونها ، وهي لغتان ومعناه : إذا قيل انهضوا وقوموا .
{ درجات } : أي منازل رفيعة ، جمع درجة وهي الرفعة في المنزلة ، مأخوذ من الدّرج الذي يُرقى به إلى السطح .
قال في اللسان : والدّرجة : الرفعة في المنزلة ، والدّرجة واحدة الدرجات ، وهي الطبقات من المراتب ، ودرجات الجنة : منازل أرفع من منازل .
{ نَجْوَاكُمْ } : النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من ( النّجوة ) وهي ما ارتفع من الأرض ، فالمتناجيان يخلوان بسرّهما كخلوّ المرتفع من الأرض عما يتصل به .
وقيل : النجوى من المناجاة وهي الخلاص ، وكأنّ المتناجيَيْن يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر .
ومعنى الآية : إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرٍ من الأمور فتصدقوا قبلها .
{ وَأَطْهَرُ } : أي أزكى لأنفسكم وأطيب عند الله .
{ ءَأَشْفَقْتُمْ } : الإشفاق : الخوف من المكروه ، والمعنى : أخفتم وبخلتم بالصدقة ، وشقّ ذلك عليكم؟
قال ابن عباس : « أأشفقْتُم » أي أبخلتم بالصدقة . وهو استفهام معناه التقرير .
المعنى الإجمالي
يقول الله جلّ ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم توسعوا في المجلس لإخوانكم القادمين فتوسّعوا لهم ، وافسحوا لهم ، حتى يأخذ القادم مكانه في المجلس ، فإن ذلك سبب المودة والمحبة بينكم ، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس ، وإذا فسحتم لهم فإنّ الله تعالى يفسح لكم في رحمته ، وينوّر قلوبكم ، ويوسّع عليكم في الدنيا والآخرة .
وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - انهضوا إلى الصلاة ، والجهاد ، وعمل الخير فانهضوا ، أو قيل لكم قوموا من مقاعدكم للتوسعة على غيركم فأطيعوا فإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الطاعة ، ويرفع درجات المؤمنين ، والعلماء العاملين ، الذين يبتغون بعلمهم وجه الله ، فالعلماء ورثة الأنبياء ، ومن يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين ، وليست الرفعة عند الله تعالى بالسبق إلى صدور المجالس ، وإنما هي بالعلم والإيمان .
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاته عليه السلام لأمر من الأمور ، أن يتصدقوا قبل هذه المناجاة ، تعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفعاً للفقراء ، وتمييزاً بين المؤمن المخلص ، والمنافق المراوغ ، فإنّ ذلك أزكى للنفوس ، وأطهر للقلوب ، وأكرم عند الله تعالى ، فإذا لم يتيسر للمؤمن الصدقة فلا بأس عليه ولا حرج .(1/566)
ثم أخبر تعالى بأنّ عمل الخير كالصدقة وغيرها لا ينبغي أن يخاف منها الإنسان ، فقال ما معناه : أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال ، فإذا لم تفعلوا ما أُمرتم به ، وتاب الله عليكم ورخّص لكم في الترك ، فأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ولا تفرِّطوا فيهما وفي سائر الطاعات لأن الله خبير بما تعملون .
سبب النزول
أ- روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة في الصفّة ، وفي المكان ضيق ، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من ( المهاجرين والأنصار ) فجاء ناس من أهل بدر ، منهم ( ثابت بن قيس بن شمّاس ) وقد سُبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ، ويا فلان ، فأقام نفراً مقدار من قدم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ، ويا فلانن فأقام نفراً مقدار من قدم ، فشقّ ذلك عليهم ، وعرفت كراهيته في وجوههم ، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه ، وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ . . . } .
ب- وروي عن ابن عباس وقتادة : « أنّ قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام ، في غير حاجة إلاّ لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يردّ أحداً فنزلت هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول . . . } الآية .
ج - وروي عن مقاتل : أنّ الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية : { إِذَا ناجيتم الرسول } .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } قرأ الجمهور { تفسّحوا ) بتشديد السين ، وقرأ قتادة والحسن { تفاسحوا } .
2- قرأ الجمهور ( في المجلس ) بالإفراد على إرادة معنى الجمع ، وقرأ عاصم وقتادة ( المجالس ) بالجمع .
3- قوله تعالى : { انشزوا فَانشُزُواْ } : قرأ الجمهور بضم الشين فيهما ، وقرأ حمزة والكسائي { انشِزُوا فانشِزُوا } بكسر الشين فيهما ، قال الفراء : وهما لغتان مثل يعكفُون ويعرِشُون .
4- قرأ الجمهور ( فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ) بالإفراد ، وقرئ ( صدقات ) بالجمع لجمع المخاطبين .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } يفسحْ مضارع لأنه جواب الطلب ، وحرّك بالكسر للتخلُّص من التقاء الساكنيْن ، ومثله { يَرْفَعِ الله } مجزوم لأنه جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشُزوا يرفع الله عز وجلّ المؤمنين جزاء امتثالهم درجات .(1/567)
2- قوله تعالى : { والذين أُوتُواْ العلم درجات } قال أبو حيان : معطوف على الذين آمنوا عطف صفات .
والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفات لذاتٍ واحدة .
واختار الطيبي : أن يكون في اللفظ تقدير يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم .
3- قوله تعالى : { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } أنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ل { ءَأَشْفَقْتُمْ } والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : لما نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباعض والتنافر ، أمرهم في هذه الآيات بما يكون سبباً لزيادة المحبة والمودّة ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على القر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس بين يديه حرصاً على استماع كلامه ، فأمروا بالتوسعة على إخوانهم في المجلس تطييباً لقلوبهم ، وهذا هو السرّ في مجيء الآيات عقب آيات النهي عن التناجي بالإثم والعدوان .
اللطيفة الثانية : ذكر تعالى في أول الآية مكانة المؤمنين ، ثمّ عطف عليها بذكر مكانة العلماء ، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب ( عطف الخاص على العام ) تعظيماً لشأن العلماء ، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب ( عطف الخاص على العام ) تعظيماً لشأن العلماء كأنهم جنس آخر ، ولذا أعيد اسم لموصول في النظم الكريم في قوله تعالى : { والذين أُوتُواْ العلم درجات } .
اللطيفة الثالثة : الأمر للمؤمنين بالصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فوائد عديدة :
أولها : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم مناجاته .
ثانيها : نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة .
ثالثها : الزجر عن الإفراط في الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
رابعها : التمييز بين المخلص والمنافق ، ومحب الدنيا ومحب الآخرة .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } : في هذا اللفظ استعارة يسميها علماء البلاغة ( استعارة تمثيلية ) وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان كالإنسان فقد استعار اليدين للنجوى ، وقيل إنها ( استعارة مكنية ) حيث شبّه النجوى بإنسان ، وحذف المشبّه به وهو الإنسان ، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليدان على سبيل الاستعارة المكنية ومثله قوله تعالى : { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] وذكر اليدين تخييل .
اللطيفة الخامسة : أشاد القرآن بمنزلة العلماء الرفيعة ، ومكانتهم السامية عند الله تعالى ، ويكفيهم هذا الشرف والفخر وقد قال عليه الصلاة والسلام : « من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام ، فبَيْنه وبين النبيّين درجة » وقد ذكر بعض الظرفاء مناظرة رمزية بين ( العقل والعلم ) نذكرها لطرافتها قال بعض الأدباء :
علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا؟
فالعلم قال : أنا أدركتُ غايته ... والعقل قال : أنا الرحمن بي عُرفا
فأفصح العلمُ إفصاحاً وقال له : ... بأيّنا الله في فرقانه اتصفا؟
فبان للعقل أنَّ ( العلمَ ) سيّدُه ... فقبّلَ ( العقلُ ) رأسَ العلم وانصرفا(1/568)
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد ب ( المجالس ) في الآية الكريمة؟
اختلف المفسّرون في المراد بالمجلس على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد به مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهو قول مجاهد .
والثاني : أنّ المراد به مجلس الحرب ، ومقاعد القتال ، حيث كانوا لحرصهم على الشهادة يأبون التوسع ، وهو قول ابن عباس ، والحسن .
والثالث : أن المراد به مجالس الذكر كلّها ، وهو قول قتادة وهو الأرجح .
قال الطبري : « والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله تعالى ذكرهُ أمر المؤمنين ، أن يتفسّحوا في المجلس ، ولم يخصّص بذلك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال ، وكلا الموضعين يقال له : مجلس ، فذلك على جميع المجالس ، من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال » .
وقال القرطبي : « والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، فإنّ كل واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه » .
الحكم الثاني : هل يباح الجلوس مكان الشخص بدون إذنه؟
دلّت الآية الكريمة على وجوب التوسع في المجلس للقادم ، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام ، ولكن لا يباح للإنسان أن يأمر غيره بالقيام ليجلس مجلسه لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثمّ يجلس فيه ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا » .
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به ، والمجلسُ من هذا المباح ، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس ، إلاّ أن الآداب الاجتماعية تقضي على الناس بتقديم أولي ( الفضل والعلم ) وبذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث .
ولقد كان هذا الأدب السامي شأن الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يُقدّمون بالهجرة ، وبالعلم ، وبالسنِّ ، وما فعله النبي عليه السلام في جماعة ( ثابت بن قيس ) من أهل بدر ، فإنما كان لتعليم الناس مكارم الأخلاق ، وخاصة من أهل الفضل والعلم ، من المهاجرين والأنصار .
أ- روى ابن العربي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد طاف به أصحابه ، إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف وسلّم ، ثمّ نظر مجلساً يشبهه ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيّهم يوسّع له ، وكان أبو بكر جالساً على يمين النبي صلى الله عليه وسلم فتزحزح له عن محله ، وقال : ها هنا يا أبا الحسن!
فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر ، فقال يا أبا بكر : إنما يعرف الفضل ، لأهل الفضل ، ذوو الفضل » .(1/569)
ب- وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة ، فكلّموه في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إيّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ ما تعلم ، ثم قال : بهذا قدمت الفتى .
وإذا قام الإنسان من مجلسه لحاجة ثمّ رجع إليه فهو أحقّ بالمجلس لقوله عليه الصلاة والسلام : « من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به » .
الحكم الثالث : هل يجوز القيام للقادم إذا كان من أهل الفضل والصلاح؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القيام للقادم إذا كان مسلماً من أهل الفضل والصلاح على وجه التكريم لأن احترام المسلم واجب ، وتكريمه لدينه وصلاحه ممّا يدعو إليه الإسلام ، لأنه سبيل المحبّة والمودة ، وقد قال عليه السلام : « لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تُكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك » .
فالقيام للقادم جائز على وجه التكرمة ، إن لم يكن فاسقاً ، ولم يكن سبيلاً للكبرياء والخيلاء ، وما لم يصبح ديدناً للإنسان عند كل دخول أو خروج ، وفي كل حين وآن فعند ذلك يكره .
قال العلامة ابن كثير : « وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال ، فمنهم من رخّص في ذلك محتجاً بحديث ( قوموا إلي سيّدكم ) . ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث : » من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبَوّأ مقعده من النار « ومنهم من فصّل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دلّ عليه قصة ( سعد بن معاذ ) فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين : قوموا إلى سيّدكم ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم .
أقول : جمهور العلماء على جواز القيام للقادم ، إلا إذا كان فاسقاً ، أو عاصياً ، أو مرتكباً لكبيرة ، أو مشهوراً بالكبر ، وحب الظهور ، وأمّا ما استدل به بعضهم من منع القيام بحديث : » من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً . . . « الحديث فليس فيه دليل لهم ، لأن الرسول عليه السلام لم يُطْلق اللفظ وإنما قيّده بوصفٍ يدلّ على الكبرياء وحب الظهور » من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً « ولم يقل صلوات الله » من قام له الناس فليتبوأ مقعده من النار « ولا شكّ أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلا على المتكبر المغرور ، والفرق دقيق بين اللفظين فلا ينبغي أن يغفل عنه .(1/570)
وأما ما يقوله بعضهم : من أنّ القيام ركن من أركان الصلاة ، فلذلك يحرم ، لأنه يشبه العبادة . . . إلخ فهذا جهل مطبق لا يصدر من فقيه عالم يتصدى لاستنباط الأحكام!!
كيف والصلاة تشتمل على أركان كثيرة كالقعود ، وقراءة القرآن ، والتشهد ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأقوال - كما هو مذهب الإمام الشافعي - فهل يقول أحد : إن الجلوس بين يدي العالم حرام لأنه ركن من أركان الصلاة؟ وإن تلاوة القرآن لا تجوز أمام أحد لأنها ركن من أركان الصلاة؟ وإن الصلاة على النبي عليه السلام حرام في حضرة الناس لأنها ركن من أركان الصلاة؟!!
وقياسُ القيام على الركوع والسجود في الحرمة ، قياسٌ مع الفارق ، وهو قياس باطل ، لأن الركوع والسجود لا يجوز لغير الله كما قال عليه السلام : « لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » وقد ورد في تحريمه النص القاطع ، أمّا القيام ، والقعود ، والاضطجاع ، فليس من هذا القبيل ، وكفانا الله شرّ الجهل ، وحماقة المتطفلين على العلم والعلماء!!
الحكم الرابع : هل الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى : { فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } هل الأمر للوجوب أو الندب؟
فقال بعضهم : إنَّ الأمر للوجوب ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ومثل هذا لا يُقال إلا في الواجبات التي لا يصح تركها .
وقال آخرون : إن الأمر للندب والاستحباب ، وذلك لأنّ الله تعالى قال في الآية : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ومِثلُ هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره ، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض .
ومن جهة أخرى : فإنّ الله تعالى قال في الآية التي بعد هذه مباشرة { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدقات } ؟ وهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب ، ويبقى الأمر للندب .
واتفق العلماء على أن الآية منسوخة ، نسختها الآية التي بعدها { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقيل : بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ ، وقيل : ما بقي إلاّ ساعة من النهار ثم نسخ .
وقد روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال : ( إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم ، فكلّما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً ، ثمّ نُسختْ فلم يعمل بها أحد ) .
قال القرطبي : ( وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل ، وما روي عن عليّ رضي الله عنه ضعيف ، لأن الله تعالى قال : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أنّ أحداً لم يتصدّق بشيء ، والله أعلم ) .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : وجوب التوسعة في المجلس للقادم لأنها من مكارم الأخلاق .
ثانياً : التوسعة للمؤمن في المجلس سببٌ لرحمة الله عز وجلّ وطريقٌ لرضوانه .
ثالثاً : الرفعة عند الله والعزة والكرامة إنما تكون بالعلم والإيمان .
رابعاً : وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الإثقال عليه في المناجاة .
خامساً : تقديم الصدقة قبل المناجاة مظهر من مظاهر تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم .
سادساً : نسخ الأحكام الشرعية لمصلحة البشر تخفيف من الله تعالى على عباده .
سابعاً : الصلاة والزكاة أعظم أركان الإسلام ولهذا قرن القرآن الكريم بينهما في كثير من الآيات .(1/571)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
سورة الممتحنة
[ 1 ] التزاوج بين المسلمين والمشركين
{ مهاجرات } : أي من دار الكفر ، والهجرةُ في اللغة : الخروج من أرضٍ إلى أرض ، وفي الشرع : الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وفي الحديث : « لا هجرةَ بعد الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ » المراد بعد فتح مكة ، حيث أصبحت دار إسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة .
قال الأزهري : وأصل الهجرة عند العرب خروج البدويّ من باديته إلى المدن ، وسُمّي المهاجرون ومهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم ابتغاء مرضاة الله ، ولحقوا بدارٍ ليس لهم بها أهل ولا مال .
{ فامتحنوهن } : الامتحان في اللغة الاختبار ، والمراد اختبارهنّ على الإيمان ، بما يغلب على الظنّ ، أما حقيقة الإيمان فلا يمكن أن تعلم ، لأنه لا يطّلع على القلوب إلاّ علاّم الغيوب ، فلنا الظاهر والله سبحانه يتولى السرائر ، ويدل عليه قوله : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } .
{ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } : يعني أعطوا أزواجهنَّ الكفار مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور .
قال مقاتل : هذا إذا تزوجها مسلم ، فإن لم يتزوجها أحد ، فليس لزوجها الكافر شيء .
وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل العهد ، فأمّا من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يردّ إليه الصداق ، قال القرطبي : والأمر كما قاله .
{ أُجُورَهُنَّ } : يعني مهورهن ، وسمي المهر أجراً لأنه في الظاهر أجر البضع ، وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة لإظهار خطر المحل وشرفه ، كما تقدّم .
{ بِعِصَمِ الكوافر } : جمع عِصْمة ، وهي ما يعتصم به من عهد وسبب ، وأصل العصمة : الحبل ، وكلّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه ، والمراد بالعِصْمة هنا النكاح ، والكوافر : جمع كافرة .
والمعنى : لا تعتدّوا بنكاح زوجاتكم الكافرات فقد انقطعت العلاقة بينكم وبينهنّ .
قال ابن عباس : « من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّن بها ، فليست له امرأة ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين .
قال الزجاج : إنها إذا كفرت فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن أي قد انبتَّ عقد النكاح .
{ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ } : أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر على نسائكم اللاحقات بهم .
{ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } : يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم ، فليسأل أزواجهن المهر .
والمعنى : عليكم أن تغرموا لهم الصّداق كما يغرمون لكم .
{ فَاتَكُمْ } : سبقكم وانفلت من أيديكم .
{ فَعَاقَبْتُمْ } : قال الزجاج : أي أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم منهم .
{ ببهتان } : البهتانُ : الكذب والباطل ، والافتراء الذي يُتحيّر من بطلانه ، ومنه حديث ( فقد بهتّه ) أي افتريت عليه ما لم يقله .
والمراد به في الآية : اللقيط .
قال ابن عباس : لا يُلحِقْن بأزواجهنّ غيرَ أولادهم .
وقال الفراء : كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن .(1/572)
وهو قول الجمهور .
{ مَعْرُوفٍ } : المعروف : ما يستحسنه الشرع ، وترتضيه العقول السليمة وهو ضد المنكر .
{ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً } : أي لا تتخذوهم أصدقاء ، وأولياء ، تودّوهم من دون المؤمنين ، والمراد بالقوم اليهود ، أو جميع الكفرة .
{ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } : أي يئسوا من ثواب الآخرة ، واليأس : انقطاع الأمل من الشيء ، وهو ضد الرجاء .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : يا أيها المؤمنون إذا جاءكم المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان ، فراراً بدينهنّ ، وحباً في الله ورسوله ، فاختبروهنّ على هذا الإيمان ، لتعلموا هل هنّ راغبات في الإسلام حقاً؟ أم أنهنّ هاربات من أزواجهن طمعاً في دنيا ، أو حباً لرجل ، فإذا علمتم - أيها المؤمنون - بالدلائل والأمارات أنهنّ مؤمنات ، فلا يحل لكم ردّهن إلى الكفار ، لأن الله تعالى لا يبيح مؤمنة لمشرك ، وعليكم أن تدفعوا لأزواجهنّ الكفرة ما أنفقوا عليهن من مهر ، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا بهنّ بصداقٍ جديد ، بعد أن تؤدوا لهنّ حقوقهنّ كاملة .
من كانت له امرأة كافرة لم تهاجر مع زوجها ، فلا يعتدّ بهذه الزوجة ، فقد زالت عصمة النكاح بينهما بسبب الكفر ، وانبتّ عقد النكاح ، لأن الإسلام لا يبيح الزواج بالمشركة ، ومن ارتدت بعد إسلامها ولحقت بدار الكفر ، فعاملوها معاملة المشركة ، فقد زال النكاح وانفصمت الروابط الزوجية بالردّة ، وأصبحت غير صالحة لأن تبقى في عصمة المؤمن ، ولكم أن تطالبوهم بما دفعتم من مهور نساءكم اللاحقات بالكفار ، كما يطالبونكم بمهور أزواجهم المهاجرات إليكم .
ذلكم هو حكم الله الذي شرعه لكم ، فلا تحيدوا عنه ولا تعتدّوا بغيره ، لأن الله عليم حكيم ، لا يشرع إلاّ ما تقتضيه الحكمة البالغة .
وإن انفلت منكم - أيها المؤمنون - بعض النساء ، ولم يدفع لكم المشركون ما تستحقونه من مهورهن ، وأصبتموهم في القتال ، وغنمتم منهم ، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا منالمهر قصاصاً ، واتقوا الله الذي صدّقتم به ، وآمنتم بتشريعه الحكيم العادل .
وأمّا أنت - يا محمد - فإذا جاءك المؤمنات للبَيْعة ، فبايعهنّ على السمع والطاعة ، واشرط عليهن ألاّ يشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يئدن أولادهم ، كما كان يفعل أهل الجاهلية ولا يلحقن بأزواجهنّ لقيطاً من غير أولادهم ، ولا يعصينك في طاعة أو معروف ، فإذا وافقن على هذه الشروط فبايعهن على ذلك ، وعلى سائر أحكام الإسلام ، واطلب لهن من الله الرحمة والمغفرة ، إذا وفين بالبيعة ، فإن الله غفور رحيم ، مبالغ في المغفرة والرحمة لمن استقام وتاب وأناب .
سبب النزول
أولاً : روي عن ابن عباس أنه قال : إنّ مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم ، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم ، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه ، فجاءت ( سُبَيْعة بنت الحارث الأسلميّة ) بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - فقال يا محمد : أردُدْ عليّ امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا ، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد ، فنزلت هذه الآية الكريمة .(1/573)
أقول : ذكر في هذه الرواية أنها ( سبيعة ) والمشهور عند المفسّرين أنها ( أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ) كما نبّه عليه القرطبي وابن الجوزي وغيرهما .
ثانياً : وروي أنّ ناساً من فقراء المسلمين ، كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ، ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم وطعامهم فنزلت الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ . . . } الآية .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات } قرأ الجمهور { مهاجرات } بالنصب على الحال ، وقرئ { مهاجراتٌ } بالرفع على البدل من المؤمنات ، فكأنه قيل : إذا جاءكم مهاجراتٌ .
ثانياً : قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } قرأ الجمهور { تُمْسكُوا } بضم التاء والتخفيف من الإمساك ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب { تُمَسّكوا } بضم التاء والتشديد من التمسيك ، وقرأ عكرمة والحسن { تَمَسّكوا } بفتح التاء والميم والسين المشدّدة .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ } قرأ الجمهور { فعاقبتم } وقرأ ابن مسعود والنخعي { فعقبتم } بغير ألف وبالتخفيف وقرأ ابن عباس والأعمش { فعقّبتُم } بتشديد القاف .
قال الزجّاج : والمعنى في التشديد والتخفيف واحد ، أي كانت العقبى لكم بأن غلبتم ، وقرأ مجاهد { فأعقبتم } .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات } . مهاجراتٍ : حال منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم .
2- قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } لفظ الجلالة مبتدأ ، وأفعل التفضيل ( أعلم ) خبره ، والجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب .
3- قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أنْ : في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي منصوب بنزع الخافض ، والتقدير : ولا جناح عليكم في أن تنكحوهنّ .
4- قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان } : يفترينه؛ جملة فعلية وفي موضعها وجهان من الإعراب : النصب على الحال من المضمر في ( يأتين ) والجر على الوصف ل ( بهتان ) .
5- قوله تعالى : { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } من أصحاب القبور في موضع نصب لأنه يتعلق ب ( يئس ) وتقديره : يئسوا من بعث أصحاب القبور ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ما الفائدة في امتحان المهاجرات مع أنهن مؤمنات؟
الجواب : أن الامتحان إنما هو لمعرفة سبب الهجرة ، هل كان حبّاً في الله ورسوله ، أم كان من أجل الدنيا؟
قال ابن زيد : وإنما أمرنا بامتحانهن ، لأنّ المرأة إذا غضبت على زوجها بمكة قالت : لألحقنّ بمحمد .
وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحلف المرأة فيقول : « بالله الذي لا إله إلا هو ، ما خرجتِ من بغض زوج! باللَّهِ ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرض! بالله ما خرجت التماس دنيا! بالله ما خرجت إلاّ حباً لله ورسوله! فإذا حلفت على ذلك أعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يرُدّها » .(1/574)
اللطيفة الثانية : السرّ في ذكر هذه الجملة الاعتراضية ( الله أعلم بإيمانهن ) هو بيان أنه يكفي لنا العلم الظاهر ، أمّا العلم الحقيقي الذي تطمئن به النفس وهو الإحاطة بجليّة الأمر ، ومعرفة حقيقة الإيمان فإنّ ذلك مما استأثر به علاّم الغيوب ، فنحن لنا الظاهر ، والله يتولّى السرائر فسبحانه من إله عليم ، يعلم السرّ وأخفى!!
اللطيفة الثالثة : الحكمة في عدم ردّ المهاجرات هي أن النساء أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً ، وأشدّ فتنةً من الرجال ، لأنه لا صبر لهنّ على تحمّل البلاء والأذى في سبيل الله ، فرحم الله ضعفهنَّ ، ومنع من ردّهن إلى الكفرة المشركين .
اللطيفة الرابعة : أمر الله تعالى بردّ المهر على الزوج الكافر إذا أسلمت زوجته ، وذلك من الوفاء بالعهد الذي رعاه الإسلام .
قال القرطبي : وذلك لئلا يقع على الزوج خسران من الوجهين : ( الزوجة ، والمال ) ، لأنه لمّا مُنع من أهله بحرمة الإسلام ، أمر بردّ المال إليه وذلك من الوفاء بالعهد .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فيه إشارة إلى أنه لا صلة بين الإيمان والكفر ، فإذا أسلمت الزوجة وزوجها كافر حرمت عليه لعدم التجانس بينهما ، فهي مؤمنة وهو كافر ، وقد قطعت العلاقة بينهما ، وهذا يدل على أن رابطة ( العقيدة ) أقوى من رابطة ( النسب ) فتدبره .
اللطيفة السادسة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أخذ البيعة على النساء كانت ( هند بنت عتبة ) في النساء المبايعات وهي زوجة ( أبي سفيان ) وكانت مُنْتقبة خوفاً من أن يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة يوم أُحد . . . فلما قرأ قوله تعالى : { وَلاَ يَسْرِقْنَ } قالت هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصيب من ماله قوتنا ، فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها ، وقال أنتِ هند؟ فقالت : عفا الله عمَّا سلف ، أعف يا نبي الله عفا الله عنك!!
فلما قرأ : { وَلاَ يَزْنِينَ } قالت هند : أوَتزني الحُرّة؟
فلما قرأ : { وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } قالت هند : ربّيناهم صغاراً ، وقتلتموهم كباراً ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى . . . وكان حنظلة ولدها قُتل يوم بدر .
فلما قرأ : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، ولا تأمرنا إلاّ بالرَّشَدِ ومكارم الأخلاق .
فلما قرأ : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء؟!
اللطيفة السابعة : قال الفراء : كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهنّ .(1/575)
وقال الزمخشري : « كَنَى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها ، عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأنّ ( بطنها ) الذي تحمله فيه بين اليدين ، و ( فرجها ) الذي تلده به بين الرِّجْلينِ ، وقيل : كَنَى بذلك عن الولد الدعيّ ( غير الشرعي ) فَنُهينَ عن ذلك لأنه من شعار الجاهلية ، المنافي لشعار المسلمات » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل كان عقد الصلح يشمل الرجال والنساء؟
كان صلح الحديبية الذي تمّ بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ، قد نصّ على أنّ من أتى محمداً من قريش ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً من عند محمد لم يردّوه عليه ، وقد جاءت ( أم كلثوم بنت عقبة ) بعد أن كُتب عقد الصلح مهاجرةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء أهلها يطلبونها فقالت يا رسول الله : أنا امرأة ، وحالُ النساء إلى الضعف ما قد علمت ، فتردّني إلى الكفّار يفتنوني عن ديني ، ولا صبر لي؟! فقال صلى الله عليه وسلم لأهلها : كان الشرط في الرجال لا في النساء ، فأنزل الله هذه الآية فامتحنها صلى الله عليه وسلم ولم يردّها إليهم .
قال القرطبي : وقد اختلف العلماء هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً ، أو عموماً؟
فقالت طائفة : قد كان شرط ردّهن في عقد المهادنة لفظاً صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ، ومنع منه ، وبقّاه في الرجال على ما كان .
وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أُطلق العقد في ردّ من أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن من الرجال ، فبيّن الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يُحَرّمن عليهم .
الثاني : أنهنّ أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة على شركها فمردوده عليهم .
ثم قال : وأكثر العلماء على أنْ هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً ، من أنه يردُ إليهم من جاء منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء ، وهذا مذهب من يرى نسخ السنّة بالقرآن .
أقول : ذكر الإمام الفخر نقلاً عن ( الضحّاك ) أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة ، وأنه كان يشتمل على نص خاص بالنساء صورته كالتالي :
( لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلاّ رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج رددتَ على زوجها ما أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك ) .
وعلى هذا الرأي تكون الآية موافقة للعهد ، مقرّرة له ، وهذا الذي تطمئن إليه النفس وترتاح ، وما عداه من الأقوال فيحتاج إلى تمحيض وتدقيق ، لأنها تنافي روح التشريع الإسلامي ، من جهة أن الوفاء بالعهد واجب على المسلمين ، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه إو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني ، فما ذهب إليه الضحّاك هو الأولى .(1/576)
يقول سيد قطب رحمه الله : « ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء ، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان ردّ المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، خشية أن يُفتنّ في دينهن وهنّ ضعاف ، ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظّم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته ، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته ، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور ، على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية » .
الحكم الثاني : ما هو حكم المشركة إذا خرجت إلينا مسلمة؟
دلّ قوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } على أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بينها وبين زوجها ، فلا تحلّ له ، ولا يحلّ لها .
وقد اختلف الفقهاء هل تحصل الفرقة بالإسلام ، أم باختلاف الدارين؟ على مذهبين :
أ- مذهب أبي حنيفة : أن الفرقة تقع باختلاف الدارين .
ب- مذهب الجمهور ( الشافعية والمالكية والحنابلة ) : أنّ الفرقة تقع بالإسلام وذلك عند انتهاء عدتها ، فإن أسلم الزوج قبل انتهاء عدتها فهي امرأته .
دليل الحنفية :
أ- قوله تعالى : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فلو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد .
ب- قوله تعالى : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } قالوا : ولو كانت الزوجية باقية لما استحقَّ الزوج ردّ المهر ، لأنه لا يجوز أن يستحق البُضع وبدله .
ج - قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } ولو كان النكاح الأول باقياً لما جاز لأحدٍ أن يتزوج بها .
د- قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } لأن معناه عندهم : لا تتمسكوا بعصمة الكافرة ، ولا تعتدوا بها ، ولا تمنعكم من التزوج بها .
ه - وقالوا أيضاً : لقد اتفق الفقهاء على جواز وطء ( المسبيّة ) بعد الاستبراء ، وإن كان لها زوج في دار الحرب ، ولا سبب يبيح هذا إلاّ اختلافُ الدار ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السبايا : « لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تُستبرأ بحيضه » .
أدلة الجمهور :
أ- قالوا : إنّ سبب الفرقة هو الإسلام ، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشاً لكافر ، ولو كان اختلاف الدار هو سبب الفرقة ، لوجب أن تحصل الفرقة بمجيء المشركة إلينا ودخولها بعهد أمان ولو لم تسلم ، ولم يقل به أحد .
ب- ما روي عن مجاهد أنه قال : « إذا أسلم الكافر وهي في العدّة فهي امرأته ، وإن لم يسلم فُرّق بينهما » .
ج - ما روي عن ابن عباس أنه قال : ( ردّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على ( أبي العاص بن الربيع ) بالنكاح الأول ، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركاً ، ثمّ ردّها عليه بعد إسلامه ) .(1/577)
قال القرطبي : « قوله تعالى : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي لم يُحلّ الله مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن لمشركة .
وهذا أدلّ دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرُتها ، فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام ، وليس باختلاف الدار » .
والخلاصة : فإن الحنفيَّة يقولون : إن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً وبقي الآخر حربياً فقد وقعت الفرقة بينهما ، ولا يرون العدّة على المهاجرة ، ويبيحون نكاحها من غير عدّة إلاّ أن تكون حاملاً ، عملاً بالآية الكريمة { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } حيث لم تلزمها العدة ، وقد بانت من زوجها بمجرد الهجرة .
والجمهور يقولون : لا تقع الفرقة إلاّ بإسلامها ، وأمّا بمجرد الخروج فلا ، فإن أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها تنجّزت الفرقة وبانت منه لأنه لا عدة عليها ، وإن أسلمت بعد الدخول بها توقفت إلى انقضاء العدّة ، فإن أسلم قبل انقضاء العدة فهي زوجته ، وإلاّ بانت منه .
وحجتهم في ذلك : الأدلة التي سبقت وما روي أنّ ( أبا سفيان ) أسلم قبل زوجته ( هند بنت عتبة ) ثمّ أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأن عدَّتها لم تكن قد انقضت .
وقد بسطنا لك أدلة القريقين بإيجاز ، وتتمة البحث بالتفصيل يُرجع إليها في كتب الفقه والله الموفق والهادي .
الحكم الثالث : هل يجوز الزواج بالمشركة الوثنيَّة؟
دلّ قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } على حرمة النكاح بالكافرة المشركة ، لأن معنى الآية : ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات أي لا تعتدوا بنكاحهنّ فإنه باطل .
كما دلّ قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] على حرمة نكاح المشركة ، وقد اتفق العلماء على أن هذه الآيات خاصة بالمشركات من غير أهل الكتاب ، لأن الكتابيات يجوز الزواج بهن لقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ . . . } [ المائدة : 5 ] الآية .
قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحدٍ من الأوائل أنه حرم نكاح الكتابيات .
أقول : أجمع الفقهاء على حرمة الزواج بالمشركة - وهي التي لا تدين بدينٍ سماوي - وعلى جواز النكاح بالنصرانية أو اليهودية من أهل الكتاب للنصّ السابق ، اللهم إلاّ ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن زواج الرجل بالنصرانية أو اليهودية قال :
« حرّم الله المشركات على المؤمنين ، وأعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة : ربّها عيسى ، أو عبدٌ من عباد الله » .
وهذا القول : من عبد الله بن عمر محمول على ( الكراهة ) لا على ( التحريم ) ، لأن النصّ صريح بالحلّ ، ولعلَّه خشي الفتنة على الرجل في دينه ، أو خشي على الأولاد من التنصُّر فكرهه لذلك والله أعلم .
الحكم الرابع : كيف كانت بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء؟
بايع النبي صلى الله عليه وسلم النّساء بعد أن فتح مكة ، وكانت بيعته لهن بالشرائط المذكورة في هذه الآية : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً .(1/578)
. . } .
وقد صحّ في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة ، وإنما بايعهنّ بالكلام ، ودلّ ذلك على حرمة مصافحة النساء .
وقد كانت بيعة الرجال أن يضع الرجل يده في يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبايعه على الإسلام والجهاد ، والسمع والطاعة ، وأما النساء فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح امرأة ، ولا وضع يده في يدها ، إنما كانت البيعة بالكلام فقط ، ويدل عليه ما يلي :
النصوص الشرعية الدَّالة على حرمة المصافحة
أولاً : روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « كان صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية ، بقول الله تعالى { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات . . . } إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد بايعتُكِ كلاماً ، والله ما مَسّت يده يد امرأة قطّ في المبايعة ، ما يبايعهنّ إلا بقوله : » قد بايعتك على ذلك « .
ثانياً : روي الإمام أحمد عن ( أميمة بنت رقيقة ) قالت : » أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن : أن لا نشرك بالله شيئاً . . . الآية وقال : « فيما استطعتُنّ وأطقتُن » قلنا : اللَّهُ ورسولُه أرحم بنا من أنفسنا .
قلنا يا رسول الله : ألا تصافحنا؟ قال : « إني لا أصافح النساء ، إنما قول لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة » .
ثالثاً : وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها بعد أن ذكرت البيعة قالت : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهنّ : » انطلقن فقد بايعتُكنّ « ولا والله ما مَسّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن : » قد بايعتكُنّ كلاماً « .
قال الحافظ ابن حجر : قوله : » قد بايعتكِ كلاماً « أي يقول ذلك كلاماً فقط ، لا مصافحة باليد ، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة .
أقول : الروايات كلها تشير إلى أن البيعة كانت بالكلام ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح النساء في بيعة أو غيرها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنَّه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لها لسلوك طريق الاستقامة ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر ، الفاضل ، الشريف ، الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته ، وسلامة قلبه ، لا يصافح النساء ، ويكتفي بالكلام في مبايعتهنّ ، مع أن أمر البَيْعة أمر عظيم الشأن ، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء ، مع أن الشهوة فيهم غالبة؟ والفتنة غير مأمونة ، والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟!
وكيف يزعم بعض النَّاس أن مصافحة النساء غير محرَّمة في الشريعة الإسلامية؟!(1/579)
{ سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] !
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } ؟
اختلف العلماء في المراد من الآية الكريمة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد به النوح على الميّت ، قاله ابن عباس ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً .
والثاني : أن المراد : أن لا يدعون ويلاً ، ولا يخدشن وجهاً ، ولا يقطعن شعراً ، ولا يشققن ثوباً ، قاله زيد بن أسلم .
والثالث : جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه وهذا هو الأرجح .
قال العلامة القرطبي : « والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وينهى عنه ، فيدخل فيه النّوح ، وتخريق الثياب ، وجزّ الشعر ، والخلوة بغير محرم ، إلى غير ذلك ، وهذه كلها كبائر ، ومن أفعال الجاهلية ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية . . . وذكر منها النياحة « .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : امتحان المهاجرات المؤمنات للتعرف على سبب الهجرة .
ثانياً : نحن نحكم بالظاهر ، والله جلّ وعلا يتولى السرائر .
ثالثاً : حرمة نكاح المشركات اللواتي لا يؤمنّ بالله تعالى .
رابعاً : إسلام المرأة يقطع الصلة بينها وبين زوجها المشرك وتحرم عليه .
خامساً : البيعة للنساء تكون بالشرائط التي ذكرها القرآن الكريم .
سادساً : الطاعة لأولي الأمر تكون في حدود ما شرع الله تبارك وتعالى .
سابعاً : جواز نكاح الكتابيات اللاتي يؤمنّ بكتاب منزل من عند الله .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرّمت الشريعة الإسلامية الغراء نكاح المشركات ، وحظرت على المسلم أن يُبقي في عصمته امرأة لا تؤمن بالله ، ولا تعتقد بكتاب أو رسول ، وتنكر البعث والنشور ، وذلك لما يترتب على هذا الزواج من مخاطر دينية ، واجتماعية ، وأضرار عظيمة ، تلحق بالزوج والأولاد ، وبالتالي تهدّد حياة الأسرة التي هي النواة لبناء المجتمع الأكبر .
وقد قضت السنة الإلهية أن تمتزج الأرواح بالأرواح ، وتتلاءم الأنفس مع الأنفس عند الزواج ، لينعم الزوجان في حياة آمنةٍ سعيدة ، يرفرف عليها الحب ، وتظلِّلها السعادة ، ويخيِّم عليها التعاون والتفاهم والوئام .
ولمّا كان هذا الانسجام والتفاهم ، لا يكاد يوجد بين قلبين متنافرين ونفسين مختلفين ، نفسٍ مؤمنةٍ خيّرة ، ونفسٍ مشركةٍ فاجرة ، وكان هذا يؤدي بدوره إلى التنافر ، والخصام ، والنزاع ، لذلك حرّم الإسلام الزواج بالوثنية المشركة ، وعدّه زواجاً باطلاً لا يستقيم مع شريعة الله .
فالمشركة التي ليس لها دين يزجرها عن الشرّ ، ويأمرها بالخير ، ويحرّم عليها الخيانة ، ويوجب عليها الأمانة ، هذه الزوجة لا يمكن أن يسعد المرء في حياته معها ، ولا تصلح أن تكون ( رفيقة الحياة ) لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر مع الفارق الكبير بين نفسيهما .(1/580)
والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، ولا يمكن أن تقوم الحياة بدون هذا الامتزاج ، والإيمان هو قوام الحياة السعيدة الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : « الأرواح جنود مجنّدة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف » .(1/581)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
سورة الجمعة
[ 1 ] صلاة الجمعة وأحكامها
التحليل اللفظي
{ نُودِيَ } : النداء : الدعاء بأرفع الصوت تقول : ناديته نداءً ومناداة ، وفي الحديث « فإنه أندى صوتاً منك » أي أحسن وأعذب ، وقيل : أرفع وأعلى ، والمرادُ بالنداء هنا : الأذانُ والإعلام لصلاة الجمعة .
{ الجمعة } : هو اليوم المعروف ، وهو يوم عيد المسلمين الأسبوعي قال الفراء : يقال ( الجُمْعة ) بسكون الميم ، و ( الجُمُعة ) بضم الميم ، و ( الجُمَعة ) بفتح الميم فيكون صفة اليوم ، أي تجمع الناس ، كما يقال : ضُحَكة للذي يضحك الناس ، ففيها ثلاث لغات .
والأفصح الأشهر ( الجمُعة ) بضم الميم ، قال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جُمُعة .
وقد صار يوم الجمعة عَلَماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع ، وسميت جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة ، وكان العرب تسمي يوم الجمعة ( عَروبة ) وأول من سمّاها جمعة ( كعب بن لؤي ) .
قال السهيلي : ومعنى العروبة : الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم .
{ فاسعوا } : السعي : العَدْوُ في المشي والإسراع فيه ، والمراد منه في الآية : امشوا إلى الصلاة بدون إفراط في السّرعة لقوله عليه السلام : « إذا أُقيمت الصلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن ، وأتُوها وأنتم تَمْشُون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا » .
قال الفراء : المضيّ ، والسعي ، والذهاب ، بمعنى واحد واحتج بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله ، معناه يمضي بجد واجتهاد ، وليس معناه : العدو والركض .
واحتج أبو عبيدة : بقول الشاعر :
أسعى على جُلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي
وكان ابن مسعود : يقرؤها : ( فامضوا إلى ذكر الله ) ويقول : « لو كانت من السعي لسعيتُ حتى يسقط ردائي » .
قال القرطبي : وقراءةُ ابن مسعود تفسير منه ، لا قراءة قرآن منزل ، وجائزٌ قراءة القرآن بالتفسير ، في معرض التفسير .
{ ذِكْرِ الله } : المراد بذكر الله صلاةُ الجمعة ، بدليل قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة فانتشروا فِي الأرض } وقيل : المراد به الخطبة .
والصحيح الراجح : أن المراد به ( الصلاة ، والخطبة ) جميعاً لاشتمالهما على ذكر الله .
{ وَذَرُواْ البيع } : أي اتركوا البيع ، والمعاملة ، وسائر أمور التجارة والأعمال .
قال الألوسي : أي اتركوا المعاملة ، فيعمّ البيع ، والشراء ، والإجارة وغيرها من المعاملات .
وقال القرطبي : وخصّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق .
{ قُضِيَتِ الصلاوة } : أي أديتم الصلاة وفرغتم منها ، يقال : قضى الرجل عمله أي أدّاه ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] أي أديتموها ، وقضى دينه أي وفَّاه ، وليس من قضاء الفائتة في الصلاة ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على أن لفظ ( القضاء ) يطلق على ( الأداء ) وهو استدلال لطيف .
{ فانتشروا } : أي تفرقوا في الأرض لإقامة مصالحكم ، والانتشار معناه التفرق ، ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } [ الأحزاب : 53 ] .
{ وابتغوا } : أي اطلبوا من الابتغاء بمعنى الطلب ، قال تعالى :(1/582)
{ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } [ القصص : 77 ] .
{ فَضْلِ الله } : المراد به الرزق والتجارة ، والكسبُ الحلال .
وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، وإنما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله .
{ انفضوا إِلَيْهَا } : بمعنى انصرفوا إليها ، وتفرقوا عنك ، والانفضاض معناه : التفرق والانصراف ، قال ذو الرُمّة :
تكاد تنقضّ منهنّ الحيازيم ... وأعاد الضمير إلى التجارة ، لأنها كانت أهمّ إليهم ، وقال الزجّاج : المعنى : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه مثل قوله تعالى : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [ المؤمنون : 33 ] ، وكما قال الشاعر :
نحنُ بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلف
{ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } : أي على المنبر تخطب ، قال بعض العلماء : وفيه دلالة على مشروعية القيام في الخطبة .
{ خَيْرُ الرازقين } : لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده ، ومن يكفر به ويجحده ، فهو يعطي من سأل سواءً كان مؤمناً أم كافراً .
قال الطبري : { والله خَيْرُ الرازقين } : يقول : والله خير رازق ، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم ، وإيّاه فاسألوا أن يوسّع عليكم من فضله دون غيره .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : « يا أيها المؤمنون يا من صدّقتم بالله ورسوله ، إذا سمتعتم المؤذّن ، ينادي لصلاة الجمعة ويؤذّن لها ، فاتركوا أعمالكم وأشغالكم ، ودَعُوا البيع والشراء وامضوا سراعاً إلى ذكر الله وعبادته ، وإلى أداء صلاة الجمعة مع إخوانكم المسلمين ، فإنّ ذلك خير لكم وأفضل ، وأرجى لكم عند الله ، وأعود عليكم بالخيرات والبركات ، إن كنتم من أهل العلم والفهم السليم ، فإذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها ، فانبثّوا في الأرض لقضاء مصالحكم ، واطلبوا من فضل الله ، فإن الرزق بيده ، وهو المنعم المتفضّل ، الذي لا يخيّب أمل السائل ، ولا يضيع عمل العامل ، ولا يمنع أحداً من فضله وإحسانه ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون .
ثم أخبر تعالى أنّ هناك فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية ، على الآخرة الباقية ، فإذا سمعوا بتجارة رابحة ، أو صفقة قادمة ، أو شيء من لهو الدنيا ، وزينتها وبهرجها ، تفرّقوا عن رسول الله عليه السلام ، وانصرفوا إلى متاع الحياة ، وتركوا الرسول قائماً يخطب ، ولو عقلوا لعلموا أنّ ما عند الله خير وأبقى ، وأن ثوابه خير من اللهو والتجارة ، وأن الله - جلّ وعلا - هو خير الرازقين ، يرزق من يشاء بغير حساب ، وما عند الله خير للأبرار .
وصدق الله حيث يقول : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 96 ] . سبب النزول
أ- أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ، إذ قدمت عير إلى المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً أنا فيهم ، وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } إلى آخر السورة .(1/583)
ب- وروى ابن كثير عن أبي يعلى بسنده إلى جابر بن عبد الله أنه قال : « بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً « ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة . . . } .
ج - وروى أبو حيان في تفسيره » البحر المحيط « في سبب هذا الانصراف أنَّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر ، فقدم ( دحية ) بعيرٍ تحمل ميرةً وكان من عُرْفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درى بها . فدخلت بها فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً ، قال جابر : أنا أحدهم ، فنزلت { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة . . . } .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { من يوم الجُمُعة } بضم الجيم والميم ، وقرأ الزهري والأعمش بضم الجيم وسكون الميم { الجُمْعة } وهي لغة تميم ، وقرأ أبو العالية والنخعي { الجُمَعة } بضم الجيم مع فتح الميم ، وهي ثلاث لغات .
قال الزجاج : من قرأ بتسكين الميم فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين ، وأمّا فتح الميم فمعناها : الذي يجمع الناس ، كما تقول : رجلٌ لُعَنَة : يُكثر لعنة الناس ، وضُحَكَة : يكثر الضحك .
2- قرأ الجمهور { انفضّوا إليها } بضمير المؤنث عائداً إلى التجارة ، وقرأ ابن أبي عَبْلة بضمير المذكّر { انفضّوا إليه } عائداً إلى اللهو .
قال الأخفش : وكلاهما جائز عند العرب ، وقرئ { انفضُّوا إليهما } بضمير التثنية عائداً إلى التجارة واللهو .
3- قرأ الجمهور { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } وروي عن ابن مسعود وعمر أنهما كانا يقرآنها { فامضوا إلى ذكر الله } وقراءتهما محمولة على أنها وجه من وجوه التفسير ، لا أنها قراءة من القراءات وقد مرّ معك كلام القرطبي فتدبره .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة } ( إذا ) شرطية و ( نودي ) مبني للمجهول ، و ( مِنْ ) بمعنى ( في ) أي في يوم الجمعة كقوله تعالى : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] أي في الأرض .
وجوّز أبو البقاء كون ( مِنْ ) للتبعيض .
وفي » الكشاف « : هي بيان ل ( إذا ) وتفسير له ، وقد اعترض عليه في هذا ، والصحيح أنها بمعنى ( في ) .
2- قوله تعالى : { واذكروا الله كَثِيراً . . . } . ( اذكروا ) فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة ، والواو فاعل ، ولفظ الجلالة منصوب على التعظيم تأدباً ، و ( كثيراً ) صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره : ( ذكراً كثيراً ) ، وقد صرح به في سورة الأحزاب في قوله تعالى :(1/584)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الأحزاب : 41 - 42 ] .
3- قوله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } ، قائماً منصوب على الحال ، وصاحب الحال هو النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه ب ( تركوك ) أيها النبيّ حال كونك قائماً .
4- قوله تعالى : { قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة . . . } ( ما ) اسم موصول مبتدأ ، و ( خير ) خبره ، والجملة ( ما عند الله خير ) مقول القول .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية يوم ( العَروبة ) . وأوّل من سمّاه جمعة ( كعب بن لؤي ) وروي في سبب تسميته أن أهل المدينة اجتمعوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ، ونشكره ، فقالوا : يومُ السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العَروبة ، فاجتمعوا إلى ( أسعد بن زُرارة ) فصلَّى بهم يومئذٍ ركعتين ، وذكّرهم ، فسميت الجمعة حين اجتمعوا إليه ، فذبح لهم شاة فتغدّوا وتعشّوا منها ، فهي أول جمعة كانت في الإسلام .
اللطيفة الثانية : في التعبير بقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } لطيفة وهي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلى صلاة الجمعة بجدٍّ ونشاط ، وعزيمة وهمَّة ، لأن لفظ ( السعي ) يفيد القصد والجدّ والعزة ، وليس المراد منه العَدْو في المشي فإنّ ذلك منهي عنه .
قال الحسن : « والله ما هو سعي على الأقدام ، ولكنّه سعي بالقلوب وسعي بالنيّة ، وسعي بالرغبة ، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إلاّ وعليهم السكينة والوقار » .
اللطيفة الثالثة : أُطلق لفظ البيع ( وذروا البيع ) وقصد به جميع أنواع المعاملة من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغيرها من المعاملات فهو على سبيل المجاز المرسل .
قال أبو حيان : « وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرَّمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون من القرى إلى الأمصار ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأُمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونُهوا عن تجارة الدنيا حتى الفراغ من الصلاة » .
اللطيف الرابعة : كان السلف الصالح يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وحركاته وسكناته ، حتى ولوْ لم يدركوا السرّ فيه ، وذلك من فرط حبِّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن بعضهم أنه كان إذا صلَّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلَّى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فقيل له : لأيّ شيء تصنع هذا؟ قال : إني رأيت سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا يصنع ، وتلا هذه الآية : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة } .
اللطيفة الخامسة : كان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : « اللهمّ إني أجبتُ دعوتك ، وصلَّيتُ فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين » .(1/585)
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { واذكروا الله كَثِيراً } لطيفة وهي أن الله عز وجل أمر بالسعي في طلب الرزق ، والاشتغال بالتجارة ، ولمّا كان هذا قد يسوق الإنسان إلى الغفلة ، وربما دفعته الرغبة في جمع المال ، إلى الكذب ، والغش ، والاحتيال ، أُمِر المسلمُ أن يذكر الله تعالى ، ليعلم أن الدنيا ومتاعها فانية وأن الآخرة وما فيها باقية ، وأنّ ما عند الله خير وأبقى ، فلا تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة كما قال تعالى في وصف المؤمنين : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] وهذا هو السرّ في الأمر بذكر الله كثيراً فتدبره .
اللطيفة السابعة : الأصل في ( إذا ) أنها للاستقبال ، والآية الكريمة نزلت بعد تلك الحادثة وبعد انفضاض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا فقد خرجت عن الاستقبال واستعملت في الماضي ، على حدِّ قول القائل :
ونَدْمانٍ يزيدُ الكأس طيباً ... سَقَيْتُ ( إذا ) تَغَوّرتِ النَجومُ
ما ورد في فضائل يوم الجمعة
أ- يومُ الجمعة أفضل الأيام وأشرفها على الاطلاق فقد روى مسلم في « صحيحة » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خُلِقَ آدم ، وفيه أُدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة » .
ب- وروى مالك في « الموطأ » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه أهبط من الجنة ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة ، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة ، إلاَّ الإنس والجن ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي ، يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه » .
ج - وروى أبو داود في « سننه » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه قُبض ، وفيه النفخةُ ، وفيه الصعقةُ ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ ، قالوا يا رسول الله : كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ يعني ( بليتَ ) فقال صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عز وجلّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو الأذان الذي يجب السعي عنده؟
دلَّ قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } على وجوب السعي إلى المسجد ، وترك البيع والشراء ، وقد اختلف العلماء في الأذان الذي يجب السعي عنده .
1- قال بعض العلماء : المراد به الأذان الأول الذي هو على ( المنارة ) .(1/586)
2- وقال آخرون : المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب إذا صعد الإمام المنبر .
حجة الفريق الأول :
أ- أن المراد من النداء هو الإعلام ، والسعيُ إنما يجب عند الإعلام ، وهو ( الأذان الأول ) على المنارة ، الذي زاده عثمان رضي الله عنه ، وذلك حين رأى كثرة الناس ، وتَباعُدَ مساكنهم عن المسجد ، فأمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسوق ، يقال لها ( الزّوراء ) وقد ثبت الأمر على ذلك من عهده إلى عصرنا هذا .
ب- واستدلوا بما رواه البخاري في « صحيحه » عن ( السائب بن يزيد ) رضي الله عنه أنه قال : ( كان النداء يوم الجمعة أوَّلُه إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه وكثر الناس ، زاد النداء الثالث على الزّوراء فثبت الأمر على ذلك ) .
ج - وقالوا : السعيُ عند الأذان الثاني ، وقت صعود الخطيب المنبر ، يفوّت على الناس سماع الخطبة التي م أجلها خفّف الله تعالى الصلاة فجعلها ركعتين ، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقرب مساكنهم من المسجد ، ولحرصهم الشديد على أن بجيئوا من أول الوقت محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يُسْمعهم فيحضرون سراعاً ، ويدركون الخطبة من أولها لقرب المساكن من المسجد .
وهذا القول هو الظاهر المعتمد في مذهب الحنفية ، وقد نصّ عليه صاحب « الكنز » من أئمة فقهاء الحنفية فقال : « ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاوة } الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به ، وهذا القول هو الصحيح في المذهب .
وقيل : العبرة للأذان الثاني ، الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر ، لأنه لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم إلاّ هو - وهو ضعيف - لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السُنّة القبلية ، ومن الاستمتاع ، بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى .
حجة الفريق الثاني :
أ- الأذان الذي يجب فيه السعيُ وتركُ البيع ، هو ( الأذان الثاني ) الذي يكون بين يدي الخطيب ، لأنه هو الأذان الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وهو عليه السلام أحرص الناس على أن يؤدي المؤمنون الواجب عليهم في وقته ، فلو كان السعي واجباً قبل ذلك لبيّنه لهم ، ولجعل بين الأذان والخطبة زمناً يتسع لحضور الناس .
ب- ما روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة } قالا : » إذا خرج الإمام وأذّن المؤذن فقد نودي للصلاة « .
قالوا : وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره .
ج - وقالوا أيضاً : إن المصلي يندب له أن يجيء مبكّراً لفوائد جمّة كما دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة ، ولكنّ تحريم البيع والشراء والحكمَ بالإثم شيءٌ ، وإدراكَ الأمر المندوب شيءٌ آخر .(1/587)
ثم إن السنة القبلية - على فرض أنها بقيت مطلوبة في الجمعة - فإنه لا يمكننا أن نوجب السعي قبل وقته لتحصيل سنّة لم تثبت ، فيبقى النداء الذي يحرم عنده البيع هو ( النداء الثاني ) الذي يكون عند صعود المنبر ، وهو الذي كان في زمنه عليه السلام .
وهذا المذهب هو رأي جمهور العلماء ، وقولٌ عند فقهاء الحنفية ، ولعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم .
الحكم الثاني : هل يفسخ البيع عند الآذان؟
دلَّ قوله تعالى : { وَذَرُواْ البيع } على حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان ، وقد اختلف العلماء في عقد البيع هل هو صحيح أم فاسد؟
فقال بعضهم إنه فاسد لورود النهي { وَذَرُواْ البيع } .
وقال الأكثرون إنه حرام ولكنه غير فاسد وهو يشبه الصلاة في الأرض المغصوبة تصحُّ مع الكراهة .
قال القرطبي في تفسيره « الجامع لأحكام القرآن » : « وفي وقت التحريم قولان :
الأول : أنه من بعد الزوال إلى الفراغ من الصلاة . قاله الضحّاك ، والحسن ، وعطاء .
الثاني : من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة ، قاله الشافعي .
قال : ومذهب مالك : أن يترك البيع إذا نودي للصلاة ، ويفسخ عنده ما وقع من البيع في ذلك الوقت ، ولا يفسخ العتق ، والنكاح ، والطلاق وغيره ، إذا ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع ، قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ .
قال ابن العربي : والصحيحُ فسخ الجميع ، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به ، فكلُّ أمرٍ يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً . مفسوخ رَدْعاً .
ورأى بعضُ العلماء البيع في الوقت المذكور جائزاً ، وتأّوَّل النّهيَ عنه ندباً ، واستدل بقوله تعالى : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } ، وهذا مذهب الشافعي فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ .
وقال الزمخشري في تفسيره : إن عامة العلماء على أنّ ذلك لا يؤدي إلى فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس أنه فاسد .
قال القرطبي : والصحيح فسادُه ، وفسخُه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : » كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردّ « أي مردود ، والله أعلم .
الحكم الثالث : هل الخُطْبة شرط لصحة الجمعة؟
دلّ قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } على أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة ، لأن ذكر الله سواء قلنا إنه : ( الموعظة ) أو إنه ( الموعظة والصلاة معاً ) يدخل فيه خطبة الجمعة ، فلا بدّ أن تكون شرطاً لصحة الصلاة . ولأن صلاة الجمعة إنما خفّفت من أجل الخطبة وسماع الموعظة ، وعليه تكون الخطبة واجبة ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء .(1/588)
غير أن فقهاء الحنفية قالوا : لا يشترط في الخطبة أن تكون مشتملة على ما يسمّى ( خطبة ) عرفاً ، لأن الله تعالى ذكر الذّكر من غير تفصيل بين كونه طويلاً ، أو قصيراً ، يسمّى خطبة أو لا يسمى خطبة ، فكان الشرط هو الذكر مطلقاً ، ويكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم الذكر ، غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم هو الذكر المسمّى ب ( الخطبة ) والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنّة ، لا أنه الشرطُ الذي لا يجزئ غيره .
وفقهاء الشافعية والحنابلة : يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة منها : حمدُ الله ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة آية من كتاب الله تعالى ، والوصيةُ بتقوى الله تعالى .
وزاد الشافعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات .
وفقهاء المالكية : شرطوا في الخطبة شرطاً واحداً وهي أن تكون مشتملة على تحذير أو تبشير ممّا يسمّى في العرف موعظة وخطبة .
قال في « الروضة الندية » : « ثمّ اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم ، فهذا في الحقيقة روحُ الخطبة الذي لأجله شرعت ، وأمّا اشتراط الحمد لله ، أو الصلاة على رسوله ، أو قراءة شيء من القرآن ، فجميعُه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة ، واتفاقُ مثل ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم ، وشرط لازم .
ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان عُرْف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ، ويقول مقالاً ، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم - وما أحسن هذا وأولاه - ولكن ليس هو المقصود ، بل المقصود ما بعده ، ولو قال : إنّ من قام في محفل من المحافل خطيباً ، ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد ، والصلاة ، لما كان هذا مقبولاً بل كل طبع سليم يمجّه ويردّه ، إذا تقرّر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث ، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلاّ أنه قدّم الثناء على الله وعلى رسوله ، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن » .
الحكم الرابع : ما هو العدد الذي تنعقد به الجمعة؟
لا خلاف بين الفقهاء أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة ، لقوله عليه السلام : « الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلم في جماعة ، إلا أربعة : مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض » .
ولأن التسمية تقتضي ذلك ، فلا يقال لمن صلَّى وحده إنه صلى الجمعة . فلا بدّ من الجماعة ، وقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر قولاً ذكرها الحافظ في « الفتح » .(1/589)
والآية الكريمة لم تنصّ على عددٍ معيّن ، وكذلك السُنَّةُ المطهّرة لم يرد فيها نص صريح صحيح على العدد الذي تنعقد به ، ولهذا اختلف الفقهاء على أقوال عديدة :
أ- الحنفية قالوا : يكفي أربعة أحدهم الإمام ، وقيل : ثلاثة .
ب- الشافعية والحنابلة قالوا : لا بدّ من جمع غفير أقله أربعون .
ج - المالكية قالوا : لا يشترط عدد معيّن بل تشترط جماعة تُسْكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع ، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم .
قال الحافظ ابن حجر : ولعلّ هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل .
وهناك أحكام أخرى تطلب من كتب الفروع ضربنا صفحاً عنها لأنّ الآية الكريمة لا تدل عليها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : الجمعة فريضة على المسلمين المكلفين بالشروط المعروفة .
ثانياً : وجوب السعي للاستماع إلى الخطبة وأداء فريضة الجمعة .
ثالثاً : حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان .
رابعاً : جواز الاشتغال بأمور التجارة والمعاش قبل الصلاة وبعدها .
خامساً : الرزق بيد الله ومع ذلك ينبغي أن يأخذ الإنسان بأسباب الكسب .
سادساً : لا ينبغي للمؤمن أن تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الصلاة صلة العبد بربه ، وعبادة تشدُّ القلب ، وتقوِّي الإيمان فيه ، وهي إلى جانب هذا تزيد المجتمع ترابطاً وتآلفاً ، يلتقي فيها أفراده على الخير ، ويتعاونون على البر والتقوى ، وإذا كانت الصلوات الخمس في كل يوم وليلة مفروضة فقد يُشْغل المرء عن بعضها في شغله الدنيوي الذي يُبعده عن المسجد ، أو يتساهل في عدم المجيء إليها ، لذلك فقد فرض الله صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة واحدة ليسرع إلى الصلاة يستمع إلى كلام الله وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وموعظة الخطيب ، فيكون له زاداً إيمانياً ، ويجتمع بإخوانه المؤمنين جميعاً ، فيتفقد الغائب ، ويعين المحتاج ، ويعود المريض ، ويصالح المتخاصمين ، ويبذل نصحه للمقصِّرين . . . كما يتعلم الآداب الإسلامية في الاجتماع من السلام ، والاحترام ، والبشاشة التي تجعل المجتمع في سلام وأمان ، لهذا كله فرض الله سبحانه صلاة الجمعة على كل مسلم ، وأمره أن يسعى إليها ، وحثه على أدائها .(1/590)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
سورة الطلاق
[ 1 ] أحكام الطلاق
التحليل اللفظي
{ لِعِدَّتِهِنَّ } : أي لزمان عدتهن ، أو لاستقبال عدتهن . قال الجرجاني : اللام بمعنى ( في ) أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن ، وعدَّةُ المرأة أيام قروئها ، وأيام إحدادها على بعلها ، وأصل ذلك كله من العد لأنها تعد أيام أقرائها ، أو أيام حمل الجنين ، أو أربعة أشهر وعشر ليال .
{ وَأَحْصُواْ } : أي اضبطوا ، واحفظوا ، وأكملوا العدَّة ثلاثة قروء كوامل . وأصل معنى الإحصاء : العدُّ بالحصى كما كان معتاداً قديماً ، ثم صار حقيقة فيما ذكر .
{ اتقوا الله } : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية تحميكم وتصونكم ، وذلك بالطاعة في الأوامر ، واجتناب النواهي .
{ بفاحشة } : الفاحشة ، والفُحْش ، والفحشاء : القبيحُ من القول والفعل ، وجمعها فواحش ، وكلُّ ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي يسمى ( فاحشة ) ولهذا يسمى الزنى فاحشة قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
{ حُدُودُ الله } : الحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي ، والحدُّ في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها الشيء ، وحدودُ الله ضربان : ضرب حدَّها للناس في مطاعمهم ومشاربهم مما أحلَّ وحرم ، والضرب الثاني عقوبات جعلت لمن ركب ما نُهِيَ عنه كحد السارق .
{ ظَلَمَ نَفْسَهُ } : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
{ أَجَلَهُنَّ } : الأجل غاية الوقت ومدَّتُه . والمراد في الآية أي قاربن انقضاء أجل العدّة .
{ بِمَعْرُوفٍ } : المعروف ما يستحسن من الأفعال ، وأصل المعروف ضد المنكر . والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع ، ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات .
والمعروف في الإمساك النَّصَفة وحسن العشرة والصحبة فيما للزوجة على زوجها ، وفي المفارقة أداء المهر والتمتيع ، والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط .
{ ذَوَىْ عَدْلٍ } : أي رجلين بيّنا العدالة ، والعدل : المرضيُّ قوله وحكمه .
قال الحسن : ذوي عدلٍ من المسلمين .
{ يَتَوَكَّلْ } : يستسلم ويعتمد في أموره على الله ، لعلمه أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ، ويصرف أمره إليه .
{ حَسْبُهُ } : أي كافيه . ومنه قول المؤمن ( حسبي الله ونعم الوكيل ) .
{ بالغ } : أي نافذ أمره والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم .
{ قَدْراً } : أي تقديراً وتوقيتاً ، وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه ، لأن العبد إذا علم أن كلَّ شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى ، لا يبقى له إلا التسليم للقدر ، والتوكل على الله تعالى .
المعنى الإجمالي
يخاطب الله سبحانه نبيه المختار صلى الله عليه وسلم قائد الأمة إلى الخير ، وهاديها إلى الحق ، تشريفاً له وتعظيماً ، وتنبيهاً لأمته وتعلياً ، بأن المسلم إذا أراد أن يطلِّق زوجه فله ذلك . ولكن عليه أن يراعي في ذلك الوقت الذي يطلَّقها فيه ، فلايطلِّقْها إلا في طهر لم يجامعها فيه ، فإن فعل ذلك فعليه أن يحصي الوقت ، ويضبط أيام العدة ليعرف وتعرف انتهاء عدتها .(1/591)
وانفصام عرى الزوجية بينهما ، وعلى المؤمن أن يكون مصاحباً لتقوى الله وخشيته في كل عمل يؤديه ، وأمرٍ يقوم به ليكون عمله صحيحاً سليماً .
المعتدة تقعد في منزل زوجها لا يجوز له أن يُخرجها ، ولا يجوز لها أن تخرج ، ولو أذن لها زوجها بذلك إلا إذا ارتكبت فاحشة محققة تعذّرَ معها البقاء في منزل زوجها فتخرج لذلك ، هذا أمر الله وحكمه ، وحدُّه الفاصل الذي أقامه لطاعته فمن تعدَّاه ، فقد ارتكب ما نهاه الله عنه ، وجلب الشر والندم لنفسه ، فإنه لا يدري لعل الله يحدث في قلبه ما يغيّر حاله ، ويجعله راغباً في زوجه ، مريداً إبقاءها في بيته ، فإذا تمهّل في أمر الطلاق ، واتَّبع ما أرشده إليه الكتاب الكريم كان له سعة فيما يريد ، وإلاَّ ندم ، ولات ساعة مندم .
وإذا شارفت المعتدة على نهاية عدتها فالخيار للزوج ، والأمر إليه ، إذا أراد أن يعيدها إلى منزله فعليه أن يعاملها برفق ولين ، وإن أراد أن يفارقها فله ذلك مع توفية جميع حقوقها ، وسواء اختار المفارقة أو الإمساك فعليه أن يُشهد على ذلك رجلين عدلين في دينهما ، وخلقهما ، واستقامتهما .
وعلى الشهود أن يؤدوا الشهادة لوجه الله تعالى ، ولا يكتموها ، أمرٌ من عند الله يتبعه المؤمن ويُخْبتُ له ، ويعلم أن أمامه يوماً يسأل فيه عما قدّم وأخر .
وتقوى الله - سبحانه - تجعل للعبد مخرجاً من المضايق مادية كانت أو معنوية ، ويرزق الله - القدير - عبده التقي من حيث لا يؤمل ، ولا يتوهم ، ومن يرجع إلى الله في أموره ، ويتوكل عليه حق التوكل ، فالله كافيه همَّه ، وميسّر عليه أمره ، وأمرُ الله وحكمه في الخلائق نافذ لا محالة ، يفعل ما يشاء ويختار ، ولكن لكل أجل كتاب ، ولكل أمر وقت محدد .
وجوه القراءات
مُبيِّنَة : قرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر { مُبيَّنة } بالفتح .
قوله تعالى : { أَجَلَهُنَّ } : قرأ الجمهور { أجلهن } على الإفراد .
وقرأ الضحاك وابن سيرين { آجالهن } على الجمع .
قوله تعالى : بالغٌ أمرَه : قرأ الجمهور بالتنوين { بالغٌ } .
وروي عن حفص { بالغُ أمرِهِ } بالإضافة .
وروي { بالغٌ أمرُهُ } .
وروي { بالغاً أمرُه } .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهم .
واللام للتوقيت نحو كتبته لليلةٍ بقيت من شهر رجب .
2- قوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
نصب ( لا تدري ) على جملة الترجي ، فلا تدري معلّقة عن العمل ، والجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري .
3- قوله تعالى : { بَالِغُ أَمْرِهِ } .
من قرأ بالتنوين فعلى الأصل ، لأن اسم الفاعل هاهنا بمعنى الاستقبال و ( أمرَه ) منصوب باسم الفاعل ( بالغٌ ) لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل .(1/592)
ومن قرأ بغير تنوين ، حذف التنوين للتخفيف ، وجرّ ما بعده بالإضافة .
ومن قرأ ( أمرُه ) بالرفع على أنه فاعل ل ( بالغ ) التي هي خبر إنَّ .
أو مبتدأ وبالغ خبر مقدم له ، والجملة خبر إنَّ .
ومن قرأ ( بالغاً ) على أنها حال من فاعل جعل لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه ( وقد جعل . . . ) خبر ( إنَّ ) .
سبب النزول
أولاً : رُوي في « سنن » ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها .
وروى قتادة : عن أنس قال : طلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وقيل له راجعها فإنها قوَّامة صوَّامة ، وهي من أزواجك في الجنة .
وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسرّ إليها حديثاً ، فأظهرته لعائشة ، فطلّقها تطليقة فنزلت الآية .
ثانياً : وقال السّدي : نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضاً تطليقة واحدة ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، وتحيض ، ثمّ تطهر ، فإذا أراد أن يطلِّقَها ، فليطلِّقْها حين تطهر من قبل أن يجامعها ، فتلك العدَّةُ التي أمر الله تعالى أن يُطَلَّق لها النساء .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { ياأيها النبي } نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وخطاب له على سبيل التكريم والتنبيه .
ويحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً :
أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به ، إلا ما خص به دونهم .
والثاني : أنّ تقديره : يا أيها النبي قل لأمتك { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء . . . } .
والثالث : خص النداء به صلى الله عليه وسلم على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه . وفيه إظهار لجلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه ، ولذلك اختير لفظ ( النبي ) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته .
والرابع : الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا انه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله : ( ألا فارحموني يا إله محمد ) .
والخامس : إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له صلى الله عليه وسلم لا في الطلاق من الكراهة فلم يُخَاطبْ به تعظيماً .
والسادس : حذف نداء الأمة ، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم .
قال القرطبي : إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : { ياأيها النبي } فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : ( يا أيها الرسول ) .(1/593)
اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما السرّ في تسمية الطلاق ب ( الطلاق البدعي ) ، أو ( الطلاق السني ) ؟
فالجواب كما قال الإمام الرازي : إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها من عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء ، فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء ، وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلّقة التي لا هي معتدة ، ولا ذات بعل ، والعقولُ تستقبح الإضرار .
ففي طلاقة إيَّاها في الحيض سوء نظر للمرأة ، وفي الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه ، وقد حملت فيه سوء نظر للزوج .
فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أُمنَ هذان الأمران ، لأنها تعتدّ عقيب طلاقه إياها ، على أمان من اشتمالها على ولد منه .
اللطيفة الثالثة : قال الربيع بن خيثم : « إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكَّلَ عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له » .
وتصديق ذلك في كتاب الله { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ } [ التغابن : 17 ] { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ] { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .
اللطيفة الرابعة : قال الله تعالى : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } ولم يقل ( واتقوا الله ) .
قال الفخر الرازي : فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإن لفظ الرب ينبِّهُهم على التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذٍ خوفاً من فوت تلك التربية .
اللطيفة الخامسة : قال الرازي : ثم في هذه الآية لطيفة ، وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال ، فقال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وقريب من هذا قوله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النور : 32 ]
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَأَحْصُواْ العدة } إحصاء العدة يكون لمعانٍ :
أحدها : لما يريد من رجعة وإمساك ، أو تسريح وفراق .
والثاني : لكي يشهد على فراقها ، ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها كأختها ، أو أربعٍ سواها .
والثالث : لتوزيع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ، أي من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها . والمقصود التحريض على طلاق الواحدة ، والنهيُ عن طلاق الثلاث ، فإنه إذا طلَّق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق ، والرغبةِ في الارتجاع ، فلا يجد للرجعة سبيلاً .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الطلاق مباح أو محظور؟
لقد أباح الله تعالى الطلاق بقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/594)
« إنَّ من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق » .
وفي لفظ « ابغضُ الحلال إلى الله الطلاق » .
قال الحنفية والحنابلة : الطلاق محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله كلَّ مِذْواق مِطْلاق » وإنما أبيح للحاجة ، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات التي تتحقق فيه الحاجة المبيحة .
وقد نقل عن ابن حجر أن الطلاق :
أ- إمّا واجب كطلاق المُوْلي بعد التربص مدة أربعة أشهر وطلاقِ الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا لم يمكن الإصلاح .
ب- أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها ، أو تكون غير عفيفة .
ج - أو حرام وهو الطلاق البدعي .
د- أو مكروه بأن سَلِمَ الحالُ عن ذلك كله للحديث .
الحكم الثاني : ما هو الطلاق السّني وما هي شروطه؟
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلَّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ ، فقال : ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ، وإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسّها ، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل .
ولهذا الحديث حصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه إذا لم يجامعها فيه .
والجمهور : على أنه لو طلّق لغير العدة التي أمر الله وقع طلاقه وأثمَ ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة جدهن جد وهزلهنّ جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة » .
واختلف الفقهاء فيما يدخل في طلاق السنة .
فقال الحنفية : إن طلاق السنة من وجهين :
أحدهما : في الوقت وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، أو حاملاً قد استبان جملها .
والآخر : من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة .
وقال المالكية : طلاق السنة ما جمع شروطاً سبعة :
وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ، طاهراً ، لم يمسها في ذلك الطهر ، ولا تقدَّمه طلاق في حيض ، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض .
وقال الشافعية : طلاق السنة أن يطلقها كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثاً في طهر لم يكن بدعة .
وقال الحنابلة : طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه .
فالاتفاق واقع على أن طلاق السنة في طهر لم يجامعها فيه ، وأما من أضاف كونها حاملاً فلما ورد في حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : « مُرْه فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت ، أو وهي حامل » .
وأما العدد والخلاف فيه فبحثه عند قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان }(1/595)
[ البقرة : 229 ] .
وأما قول المالكية : « وهي ممن تحيض » فهذا شرط متفق عليه .
قال الفخر الرازي : والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها ، غير الآيسة ، والحامل ، إذ لا سنة في الصغيرة وغير المدخول بها ، والآيسة ، ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء .
وقال أبو بكر الجصاص : والوقتُ مشروط لمن يطلق في العدة لأنَّ من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض .
وأما بقية الشروط فمختلف فيها وتنظر في كتب الفروع .
الحكم الثالث : هل للمعتدة أن تخرج من بيتها؟
دلّ قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ } على أنّ المطلقة لا تخرج من مسكن النكاح ما دامت في العدة ، فلا يجوز لزوجها أن يُخرجها ، ولا يجوز لها الخروج أيضاً إلاّ لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة ، والرجعيةُ والمبتوتةُ في هذا سواء .
واختلف الفقهاء في خروج المعتدة من بيتها لقضاء حوائجها على مذاهب :
أ- قال مالك وأحمد : المعتدة تخرج في النهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل .
ب- وقال الشافعي : لا تخرج الرجعيّة ليلاً ولا نهاراً وإنما تخرج المبتوتة في النهار .
ج - وقال أبو حنيفة : المطلّقة لا تخرج ليلاً ولا نهاراً ، والمتوفّى عنها زوجها لها أن تخرج في النهار .
دليل المالكية والحنابلة :
استدل مالك وأحمد بحديث ( جابر من عبد الله ) قال : « طُلّقت خالتي فأرادت أن تَجُدَ نخلها ، فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » بلى فجُدّي نخلك ، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً « .
دليل الشافعية :
واستدل الشافعي بالآية الكريمة : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } بالنسبة للمطلقة رجعياً فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً .
وامّا المبتوتة فاستدل بحديث ( فاطمة بنت قيس ) فقد ورد في صحيح مسلم أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) قالت يا رسول الله : زوجي طلقني ثلاثاً وأخاف أن يُقْتحم عليّ قال : فأمرها فتحولت .
وفي البخاري : عن عائشة أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) كانت في مكانٍ وحش فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها .
دليل الحنفية :
واستدل أبو حنيفة بعموم قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ } فقد حرمت على المطلّقة أن تخرج ليلاً أو نهاراً ، سواءً كانت رجعية أم مبتوتة ، وأما المتوفى عنها زوجها فتحتاج للخروج نهاراً لقضاء حوائجها ولا تخرج ليلاً لعدم الضرورة .
قال الحنفية : ليس لها أن تخرج لأن السكنى حق للشرع مؤكد لا يسقط بالإذن حتى لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ، ويلزمها أن تكتري بيته ، وأما أن يحل لها الخروج فلا .
قال الشافعية : إنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما ، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن .(1/596)
وقد قال الفخر الرازي : « فلم يكن لها الخروج ، وإن رضي الزوج ، ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة » .
الحكم الرابع : ما هي الفاحشة التي تخرج بها المعتدة من المنزل؟
لقد اختلف السلف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ } وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء .
فقال أبو حنيفة : بقول ابن عمر : خُروجُها قبل انقضاء العدة فاحشةٌ . فيكون معنى الآية إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق .
والاستثناء عليه راجع إلى { لاَ يَخْرُجْنَ } والمعنى : « لا يُسمع لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة ، ومن المعلوم أنه لا يُسمع لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه .
قال ابن الهمام : كما يقال : » لا تزن إلاَّ أن تكون فاسقاً ، ولا تشتم أُمَّك إلا أن تكون قاطع رحم ، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً « .
وقال أبو يوسف بقول الحسن وزيد بن أسلم : هو أن تزني فتخرج للحد ( أي لا تُخْرجوهنَّ إلا إن زنين ) .
وعن ابن عباس قال : إلا أن تبذو على أهله ، فإذا فعلت ذلك حلَّ لهم أن يُخْرجوها ، كما ورد عن فاطمة بنت قيس أنها أخرجت لذلك .
وعنه أيضاً قال : جميع المعاصي من سرقة أو قذف أو زنا أو غير ذلك واختاره الطبري .
وقال الضحاك : الفاحشة المبينة : عصيانُ الزوج .
وقال قتادة : إلا أن تَنْشزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها .
قال أبو بكر الجصاص : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون جميعها مراداً ، فيكون خروجها فاحشة ، وإذا زنت أخرجت للحد ، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضاً .
فأما عصيان الزوج والنشوز ، فإن كان في البذاءة وسوء الخلق اللذين يتعذر القيام معها فيه فجائز أن يكون مراداً ، وإن كان إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها » .
وأما ابن العربي فقال : أما من قال إنه الخروج للزنى ، فلا وجه له لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال إنه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت عيس ، وأما من قال إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام : « لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلى أن يخرجن تعدياً » .
الحكم الخامس : ما حكم الإشهاد في الفرقة والرجعة؟
قال أبو حنيفة : الإشهاد مندوب إليه في الفرقة والرجعة لقوله تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] فإنَّ الإشهاد في البيع مندوب لا واجب فكذا هنا وهو قول مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليهما .
وقال الشافعي وأحمد : في القول الآخر : الإشهاد واجب في الرَّجعة ، مندوب إليه في الفرقة .(1/597)
أدلة الجمهور :
1- لما جعل الله تعالى للزوج الإمساك أو الفراق ، ثم عقَّبه بذكر الإشهاد ، كان معلوماً وقوع الرجعة إذا رجع ، وجوازُ الإشهاد بعد ذلك؛ إذ لم يجعل الإشهاد شرطاً في الرجعة .
2- لم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تَرْكُها حتى تنقضي عدتها ، وأن الفرقة تصح ، وإن لم يقع الإشهاد عليها ، وقد ذُكر الإشهاد عقيب الفرقة ، ثمَّ لم يكن شرطاً في صحتها فكذلك الرجعة .
3- وأيضاً لما كانت الفرقة حقاً للزوج ، وجازت بغير الإشهاد ، إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره ، وكانت الرجعة أيضاً حقاً له وجب أن تجوز بغير إشهاد .
4- وأيضاً لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك ، أو الفرقة احتياطاً لهما ، ونفياً للتهمة عنهما ، إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة ، أو لم يعلم الطلاق والفراق ، فلا يؤمن التجاحد بينهما ، ولم يكن معنى الاحتياط مقصوراً على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة ، بل يكون الاحتياط باقياً وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : الطلاق السني هو الطلاق الذي يكون في طهر لم تجامع فيه المرأة .
ثانياً : الطلاق البدعي ما كان في الطهر الذي جومعت فيه المرأة ، أو في وقت الحيض .
ثالثاً : السكنى واجبة للمطلَّقة على زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت .
رابعاً : إذا خرجت المرأة من بيت زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت .
خامساً : حدود الله تعالى يجب التزامها وعدم تعديلها لأنها شريعة الله .
سادساً : إقامة الشهادة حق لله تعالى على عباده لدفع الظلم عن الخلائق .
سابعاً : التوكل على الله والالتجاء إليه ، ملاك الأمر كله ، وراحة النفس .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الأسرة لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي ، وبها قوامه ، ففيها تلتقي النفوس على المودة والرحمة ، والتعاطف والستر ، وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ، ومنه تمتد وشائج الرحمة ، وأواصر التكافل .
ولكنّ الحياة الواقعية والطبيعة البشرية تُثْبت بين الفينة والأخرى ، أنَّ هناك حالاتٍ لا يمكن معها استمرار الحياة الزوجية ، لذلك شرع الله الطلاق كآخر حل من حلول تتقدمه ، إن لم تُجْدِ كل المحاولات ، وأباح للرجل أن يركن إلى أبغض الحلال وهو الطلاق .
ولكن ليس من السُّنة أن يُطلِّق الرجل في كل وقت يريد ، فليس له أن يطلقها وهو راغب عنها في الحيض ، وفي ذلك دعوة له ليتمهل ولا يسرع ليفصل عرى الزوجية ، ويتفكر في محاسن زوجه لعلَّها تغلب سيئاتها ، فتتغير القلوب ، وتعود إلى صفائها بعد موجة من الغضب اعترتها ، وسحابة غشيتْ المودة التي يُكنُّها الزوج لزوجه .
والطلاق يقع حيثما طلق في الوقت الذي بيَّنه الشرع أو في غيره ، لأن فكَّ الزوجية ، وهدم اللبنة الأولى للمجتمع ليس لعباً تلوكه الألسنة في كل وقت ، وعند أدنى بادرة ، بل هو الجد كل الجد فمن نطق به لزمته نتائجه وعصى الله - جلَّت حكمته - لأنه لم يقف عند حدوده ، ويتبع تعاليمه .
وأمر الله - العليم الخبير - بإحصاء العدة لضبط انتهائها ، ومعرفة أمدها بدقة لعدم إطالة الأمد على المطلَّقة ، والإضرار بها ، ولكيلا تنقص من مدتها مما لا يؤدي إلى المراد منها وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل .(1/598)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
[ 2 ] أحكام العدة
التحليل اللفظي
{ يَئِسْنَ } : اليأس : القنوط ، وقيل : اليأس نقيض الرجاء .
{ المحيض } : أي الحيض ، يقال حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً ، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً ، والحيض والمحيض : اجتماع الدم في الرحم ومنه الحوض لاجتماع الماء فيه .
{ ارتبتم } : أي أشكل عليكم من الريبة أي الشك ، وقيل تردَّدتم أو جهلتم ، وقيل : تيقنتم فهو من الأضداد .
{ يُكَفِّرْ } : أي يستر ويمحو الخطيئة ، وأصل الكَفْر : تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه .
{ وُجْدِكُمْ } : الوُجُد : المقدرة والغنى واليسار والسعة والطاقة ، والمقصود من سعتكم وما ملكتم ، وعلى قدر طاقتكم ، وقيل من مساكنكم . والوَجْد : يستعمل في الحزن والغضب والحب ، يقال : وجدت في المال أي صرت ذا مال ، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة ، ووجدت الضالة وُجْداناً ، والوُجد بالضم الغنى والقدرة يقال افتقر الرجل بعد وُجدٍ .
{ وَأْتَمِرُواْ } : افْتعَلُوا - من الأمر - يقال ائتمر القوم وتأمَّروا إذا أمر بعضهم بعضاً .
وقال الكسائي : وائْتَمروا أي تشاوروا ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] .
وقول أمرئ القيس :
أحارُ بنَ عمرو فؤادي خَمِرْ ... ويعدو علي المرء ما يأتمر
وحقيقته ليأمر بعضكم بعضاً بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن معاكسة ولا معاسرة .
{ تَعَاسَرْتُمْ } : أي تضايقتم ، وتشاكستم ، ولم يتفق الرجل والمرأة بالمشاحة من الرجل ، أو طلب الزيادة من المرأة .
{ ذُو سَعَةٍ } : السعة نقيض الضيق ، والوُسع ، والوَسع ، والسعة : الجدة والطاقة ، وأصل السعة وُسْعة فحذفت الواو ونقصت .
المعنى الإجمالي
بيّن الله سبحانه وتعالى عدة المرأة المطلّقة في سورة البقرة في قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] فربط العدة بالحيض ، وأما المرأة التي لا تحيض لكبر سنها ، أو لصغرها أو لحملها ، فقد جاءت هذه الآيات لتقول للمؤمنين : إذا جهلتم عدة التي يئست من المحيض وأشكل عليكم أمرها فعدتها ثلاثة أشهر ، وكذلك عدة التي طلقت ولم تر الحيض ثلاثة أشهر ، وأما الحامل فتنتهي بولادتها عدتها .
ومن يخشى الله في ما يفعل ، أو يذر ، ييسر الله له أمره ، ويوفقه إلى الخير ، وتلك الأحكام التي مرت في الطلاق ، والعدة فرض الله ، وحكمه ، فرضه على الناس ، ومن يتق الله بالتزام ما شرعه ، والبعد عما نهى عنه يمح الله سيئاته ، ويعطه في الآخرة أجراً عظيماً ، وثواباً كبيراً .
وعلى الرجل أن يسكن مطلقته في داره التي يسكنها على قدر طاقته ، ووسعه ، وليس له أن يضيق عليها ، ويضارها في النفقة والسكنى ليلجئها إلى الخروج من داره .
وإذا كانت المرأة حاملاً فعليه أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى تضع حملها ، فإذا ولدت ، ورضيت أن ترضع ابنها ، فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة ، وليأمر كل منهما الآخر بالمعروف في أمر الرضاع ، وأجره ، والحضانة ووقتها ، فإن عسر الاتفاق بين الأم والأب ، ولم يتوصلا إلى أمر وسط يرضيهما ، فللأب حينئذٍ أن يفتش لابنه عمن يرضعه غير أمه .(1/599)
هذا ، والإنفاق على المعتدة بحسب طاقة الرجل ، فإن كان غنياً فليعطها ما يلائم غناه ، وإن كان فقيراً ، ضيِّقَ العيش ، فليس عليه أن يدفع إلا بقدر ما يستطيع فإن الله - جلت حكمته - لم يكلف الإنسان إلا بقدر ما أعطاه من الرزق ، وليعلم أن حال الدنيا لا يبقى على حال ، فإن الله سيجعل بعد عسر يسراً .
سبب النزول
1- أخرج الحاكم وصححه وابن جرير الطبري والبيهقي في سننه وجماعة :
أنها لما نزلت عدة المطلَّقة ، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة قال أُبيُّ بن كعب : يا رسول الله إنَّّ نساءً من أهل المدينة يقلن : قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء قال : وما هو؟ قال : الصغار ، والكبار ، وذوات الحمل .
فنزلت هذه الآية { واللائي يَئِسْنَ . . . } الآيات .
2- وروى الواحدي والبغوي والخازن :
أنه لما نزل قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ . . . } [ البقرة : 228 ] الآية ، قال خلاد بن النعمان الأنصاري : يا رسول الله ، فما عدة التي لا تحيض ، وعدة التي لم تحض ، وعدة الحبلى؟ فنزلت هذه الآية : { واللائي يَئِسْنَ . . . } .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { يَئِسْنَ } : قرا الجمهور { يئسن } فعلاً ماضياً . وقرئ { ييئسن } بياءين مضارعاً .
2- قوله تعالى : { حَمْلَهُنَّ } : قرأ الجمهور { حملهن } مفرداً . وقرأ الضحاك { أحمالهن } جمعاً .
3- قوله تعالى : { وَيُعْظِمْ } : قرأ الجمهور { يُعْظم } بالياء مضارع أعظم . وقرأ الأعمش { نعظم } بالنون خروجاً من الغيبة للتكلم .
وقرأ ابن مقسم { يُعَظّم } بالياء والتشديد مضارع { عَظّم } مشدداً . 4- قوله تعالى : { مِّن وُجْدِكُمْ } : قرأ الجمهور { من وُجدكم } بضم الواو . وقرأ الحسن وغيره { من وَجدكم } بفتحها .
وقرأ يعقوب وغيره { من وِجدكم } بكسرها .
وهي لغات ثلاث بمعنى الوسع .
5- قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ } : قرأ الجمهور { لينفق } بلام الأمر .
وحكى أبو معاذ قراءة { لينفقَ } بلام كي ونصب القاف ، ويتعلق بمحذوف تقديره « شرعنا ذلك لينفقَ » .
6- قوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } : قرأ الجمهور { قُدِرَ } مخففاً .
وقرأ ابن أبي عبلة { قَدّر } مشدد الدال .
وقرأ أبي بن كعب { قُدّر } بضم القاف وتشديد الدال .
وجوه الإعراب
1- { واللائي يَئِسْنَ } مبتدأ ، خبره جملة فعتدتهن .
2- { إِنِ ارتبتم } شرط جوابه محذوف ، تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر ، والشرط وجوابه جملة معترضة .
وجوز كون ( فعدتهن ) إلخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما قوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } [ النحل : 53 ] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقدير .
3- قوله تعالى : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } :
قال الأنباري : تقديره واللائي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، إلا أنه حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه كقولك زيد أبوه منطلق وعمرو ، أي وعمرو أبوه منطلق ، وهذا كثير في كلامهم .(1/600)
قال أبو حيان : والأولى أن يقدر « مثل أولئك » أو « كذلك » فيكون المقدر مفرداً .
وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق ، وجعل الخبر لهما من غير تقدير .
والجملة معطوفة على ما قبلها فإعرابه مبتدأ كإعراب { واللائي يَئِسْنَ } .
4- قوله تعالى : { وأولات الأحمال } مبتدأ . وأجلهن : مبتدأ ثان .
وأن يضعن حملهن : خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ وخبره خبر عن المبتدأ الأول .
ويجوز أن يكون ( أجلهن ) بدلاً من ( أولات ) بدل الاشتمال وجملة ( أن يضعن ) الخبر والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال أبو حيان : لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات ، وأحكامهن ، من العدة وغيرها ، وكنَّ لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهنَّ وكراهة ، جاء عقيب بعض الجمل ( الأمرُ بالتقوى ) حيث المعنى مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله { وَمَن يَتَّقِ الله . . . } إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها ، وينفِّر الخُطَّاب عنها ، ويوهم أنه فارقها لأمر ظهر له منها ، فلذلك تكرَّر قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله } في العمل بما أنزله من هذه الأحكام ، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار ، والنفقة على المعتدات . . . وغير ذلك مما يلزمه يرتب له تكفير السيئات ، وإعظام الأجر .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من الأحكام ، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الفضل ، وإفرادُ الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى : { أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده استئناف ، وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى في قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله } .
كأنه قيل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟! فقيل : اسكنوهن مسكناً من حيث سكنتم .
اللطيف الرابعة : إذا كانت كل مطلقة يجب لها النفقة فما فائدة الشرط في قوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } ؟!
نقول : فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها بعد الطلاق ، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار من مدة الحمل ، فنقي ذلك الظن بإثبات النفقة للحامل حتى تلد .
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى : { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى « سيقضيها غيرك وأنت ملوم » .
قال اين المنبر : « وخص الأم بالمعاتبة لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو جهة الأب ، فإنه المال المضنون به عادة ، فالأم إذن أجدر باللوم ، وأحق بالعتب ، والمعنى ليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي عدة المرأة التي لا تحيض؟
المرأة غير الحائض تشمل من بلغت سن اليأس ، والصغيرة التي لم تر الحيض بعد ، أما من يئست من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر بلا خلاف ، وكذا الصغيرة التي لم تحض .(1/601)
واختلف في تقدير سن اليأس على أقوال عديدة :
فقدره بعض الفقهاء بستين سنة .
وقدَّره بعضهم بخمس وخمسين سنة .
وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة .
وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم .
وقيل : غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه ، فإن المكان إذا كان طيَّب الهواء والماء ، يبطئ فيه سن اليأس .
وأما المرأة إذا كانت تحيض ثم لم تر الحيض في عدتها ولم يُدْر سببه :
فقال الحنفية والشافعية : إن عدتها الحيض حتى تدخل في السن التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر .
ونقل عن علي وعثمان ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود .
وقال مالك وأحمد : تنتظر تسعة أشهر لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر . ونقل عن عمر أنه قضى ذلك .
الحكم الثاني : ما المراد من قوله تعالى : { إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } ؟
قال الجصاص : غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس؛ لأنَّا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدَّتُها ثلاثة أشهر .
واختلف أهل العلم في ( الريبة ) المذكورة في الآية على أقوال :
اختار الطبري : أن يكون المعنى « إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن؟ فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر » وهو قول الجصاص فقد قال : « وذكُر الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نُزل عليه الحكم فكان بمعنى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر . . . » ونقل عن مجاهد .
وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة .
وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لم يستقيم لها الحيض ، تحيض في أول الشهر مراراً وفي الأشهر مرة .
وقيل : إنه متصل بأول السورة والمعنى « لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة » .
قال القرطبي : وهو أصح ما قيل فيه .
وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضهن ، وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن .
وقيل : إن ارتبتم أي تيقنتم وهو من الأضداد .
الحكم الثالث : ما هي عدة الحامل؟
نصت الآية على أن الحامل تنتهي عدتها بولادتها ، ودل قوله تعالى في سورة البقرة : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] على أن عدةاملتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، فإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فبأي الأجليت تأخذ؟ ولم يختلف السلف والخلف أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها ، واختلفوا في المتوفى عنها زوجها .(1/602)
قال الجمهور : عدة المتوفى عنها زوجها الحامل أن تضع حملها .
وقال علي وابن عباس : { وأولات الأحمال } في المطَّلقات ، وأما المتوفى عنها فعدتها أبعد الأجلين ، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها .
حجة الجمهور :
استدل الجمهور بحديث سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت ( سعد بن خوله ) وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تَعلَّت من نفاسها تجمَّلت للخُطَّاب ، فدخل عليها رجل من بني عبد الدار فقال لها : مالي أراك متجملة ، لعلك ترتجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشراً .
قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي .
وعن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً يقول : تعتد آخر الأجلين فقال : ما شاء لاعنته ، ما نزلت : { وأولات الأحمال } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها .
قال أبو بكر الجصاص : أفاد قول ابن مسعود أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها ، غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلّقة فوجب اعتبار الحمل في الجميع ، من المطلقات ، والمتوفَّى عنهن أزواجهن « .
الحكم الرابع : هل للمطلقة ثلاثاً سكنى ونفقة؟
لا خلاف بين العلماء في إسكان المطلقات الرجعيات ، واختلفوا في المطلقة ثلاثاً على أقوال :
ذهب مالك والشافعي : ورواية عن أحمد إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها .
وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة .
وذهب أحمد وغيره إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى .
دليل المذهب الأول :
قوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وذلك أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكن مطلَّقة ، فلما ذكر النفقة قيَّدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها .
دليل المذهب الثاني :
1- قوله تعالى : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } وترك النفقة من أكبر الإضرار وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا .
2- ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية .
3- ولأنها محبوسة عليه لحقِّه فاستحقَّ النفقة كالزوجة .
4- أن السكنى لا كانت حقاً في مال ، وقد أوجبها الله لها بنص الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية ، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذا كانت السكنى حقاً في مال وهي بعض النفقة .
دليل المذهب الثالث :
1- حديث فاطمة بنت قيس : أنه طلَّقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أنفق عليها نفقة دون ، فلما رأت ذلك قالت : والله لأعلمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لي نفقة أُخذت الذي يصلحني ، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئاً .(1/603)
قالت : فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « لا نفقة لك ولا سكنى » .
وفي رواية « إنما السكنى والنفقة على من له عليها رجعة » .
2- إن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها .
وللعلماء في مناقشة الأدلة كلام طويل ينظر في كتب الفروع .
الحكم الخامس : على من يجب الرضاع؟
قال المالكية : رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية إلا لشرف الزوجة وموضعها فعلى الأب رضاعة يومئذٍ في ماله ، فإن طلقها فلا يلزمها رضاعة إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها رضاعه .
وقال الحنفية : لا يجب الرضاع على الأم بحال .
وقيل : يجب الرضاع على الأم في كل حال .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : المرأة اليائسة من الحيض ، والصغيرة التي لم تحض ، إذا طلقتا فعدتهما ثلاثة أشهر .
ثانياً : المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل .
ثالثاً : تقوى الله تعالى تيسّر أمور المؤمن في الدنيا ، وتكفّر السيئات ، وتعظم الأجر في الآخرة .
رابعاً : المرأة المعتدة تسكن في منزل زوجها حتى تنقضي عدتها .
خامساً : على الرجل أن لا يضيّق على المعتدة في النفقة أو السكنى ليجبرها على الخروج من منزله .
سادساً : نفقة الحامل تستمر حتى تضع الحمل ، وإن طالت المدة .
سابعاً : للمرأة الحق الكامل في أن تأخذ أجرة على إرضاع ولدها من الرجل .
ثامناً : الإنفاق يكون بحسب مال الرجل غنىً وفقراً .
تاسعاً : التكليف منوط بالقدرة التي مكّن الله بها عبده .
حكمة التشريع
الزواج هو الأساس في بناء المجتمع الإسلامي ، والطلاق هو السبيل لقطع علاقات الزوجين بعضهما من بعض ، ولكنَّ للزوجية آثاراً قد يتأخر ظهورها وقتاً ، فجعل الله جلّ ثناؤه العدة تمكث المرأة فيها مدة من الزمن ينفق عليها مطلقها ، ويسكنها في بيته ، ليكون في أمان واطمئنان ، وهي تحت نظره ، إن ظهر حملها ، فالولد ولده ، وإن لم يظهر الحمل في مدة العدة ، فلم يعد بين الرجل وزوجه أية علاقة تربطهما ، هو بالنسبة إليها كسائر الرجال ، وهي بالنسبة إليه كسائر النساء ، لا تستطيع أن تطالبه بنسب ، ولا نفقة ، ولا غير ذلك .
وبهذا لم يظلم الإسلام المرأة حيث فرض لها النفقة ، والسكنى ما دامت محبوسة لصالح الرجل ، وأمن الرجل من جهة زوجه حيث كمثت مدة يتبين معها شغل رحمها أو فراغه .
وأما الحوامل فقد جعل الله تعالى عدتهن الوضع طال أمد الحمل بعد الطلاق أم قصر ، وذلك لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة ، فلا حاجة إلى الانتظار .
وأمر الله عز وجل الرجال أن يسكنوا النساء مما يجدون هم من سكن ، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم ، لا أقل مما هم عليه في سكناهم ، ونهاهم أن يعمدوا إلى الإضرار بهن بالتضييق عليهن في فسحة المسكن ، أو في المعاملة أثناء إقامتهن .(1/604)
وخصت ذوات الأحمال بذكر النفقة مع وجوب النفقة لكل معتدة ، لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته ، أو بزيادة المدة إذا قصرت مدة الحمل ، فأوجب النفقة حتى الوضع ، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي .
وأما الرضاع ، فلم يجعله الله سبحانه واجباً على الأم دون مقابل ، وما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما ، فمن حقها أن تنال أجراً على رضاعة تستعين به على حياتها ، وعلى إدرار اللبن للطفل ، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة .
وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد ، ويتشاورا في أمره ، ورائدهما مصلحته - وهو أمانة بينهما - فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء .
والأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق ، واليسر بعد العسر ، فأولى لهما أن يعقدا به الأمر كله ، ويتجها إليه ، ويراقباه في كل أمرهما ، وهو المانح المانع ، القابض الباسط .
والزوجان يتفارقان - في ظل هذه التوجيهات القرآنية - وفي قلب كل منهما بذور للود لم تمت ، وربما جاءها ما ينعشها في يوم من الأيام ، إلى أدب رفيع يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ويشيع فيها أرجه وشذاه .(1/605)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
سورة المزمل
[ 1 ] تلاوة القرآن
التحليل اللفظي
{ المزمل } : قال اللغويّون : « المزّمل » الملتف في ثيابه ، وأصله ( المتزمّل ) فأدغمت التاء في الزّاي فثقّلت ، وكل من التفّ بثوبه فقد تزمّل قال امرؤ القيس :
كأنّ أبانا في أفَانينِ وَدْقِهِ ... كبيرُ أُناسٍ في بجَادٍ مزمّل
وقال ذو الرمّة : ومن نائمٍ عن ليلها متزمّل .
{ وَرَتِّلِ القرآن } : قال الزجّاج : رتّل القرآن ترتيلاً : بيّنه تبيناً ، والتبيين لا يتم إلاّ بإظهار جميع الحروف ، وتوفيتها حقها من الإشباع .
وقال المبرّد : أصله من قولهم : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، وقال الليث : الترتيل تنسيق الشيء ، وثغر رتل : حسن التنضيد .
ومعنى الآية : اقرأ القرآن على تُؤدة ، وتمهّل ، وتبيين حروف ، مع تدبر المعاني .
{ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : أوقات الليل وساعاته ، سميت بذلك لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء ، يقال : نشأ السحاب إذا ابتدأ ، فناشئة ( فاعلة ) من نشأت تنشأ فهي ناشئة ، والمراد ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف ع الاسم .
وقال الزمخشري : ناشئة الليل : النفس الناشئة بالليل ، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض ، وأنشد ابن السكيت :
فلمّا أن تَنَشّأ قام خِرْق ... من الفتيان مختَلَق هضوم
{ أَشَدُّ وَطْأً } : أي أثقلُ على المصلي من ساعات النهار ، من قول العرب : اشتدت علينا وطأةُ السلطان ، إذا ثقل عليهم ما حمَّلهم من المؤن وفي الحديث : « اللهمّ اشدُدْ وطأتك على مُضَر » فالليل وقت النوم والراحة ، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة .
والمعنى : إن قيام الليل للعبادة ، وقضاء ساعاته في الطاعة ، أشدّ ثقلاً على النفس ، وأرجى عند الله وأقوم .
{ وَأَقْوَمُ قِيلاً } : أي أشدّ استقامة واستمراراً ، وأكثر استقامة على نهج الحق والصواب ، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات ، وتنقطع فيه الحركات فتخلص فيه القراءة ، ويفرغ القلب لفهم التلاوة ، فلا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل .
{ سَبْحَاً } : قال المبرّد : سبحاً أي تقلباً وتصرفاً في المهمّات كما يتردّد السابح في الماء قال الشاعر :
أباحوا لكم شرقَ البلاد وغربَها ... ففيها لكم يا صَاحِ سبْحٌ من السّبْح
قال في « اللسان » : السّبْح : الفراغ وفي التنزيل { سَبْحَاً طَوِيلاً } إنما يعني به فراغاً طويلاً وتصرفاً ، وقيل : معناه : لك في النهار ما تقضي حوائجك .
وقال الزجاج : إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة ، فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه .
وقال ابن عباس : لك في النهار فراغ لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك .
{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } : التبتّل الانقطاع إلى العبادة ، ومنه قيل لمريم عليها السلام ( البتول ) لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة ، وأصل البتل : القطع ، ويقال للراهب ( متبتّل ) لانقطاعه عن الناس ، وانفراده بالعبادة قال امرؤ القيس :
تضيءُ الظّلامَ بالعشَاء كأنها ... مَنَارة مُمْسى راهبٍ متبتّل(1/606)
{ هَجْراً جَمِيلاً } : أي لا تتعرض لهم ، وجانبهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه مخاطباً نبيّه الكريم : يا أيها المتزمّل المتلفّف في ثيابه ، قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، قم للجهد والنصب ، والكدّ والتعب ، فقد مضى وقت الراحة ، قم فشمّر عن ساعد الجد ، وأحي الليل كلّه أو نصفه أو أقل قليلاً ، بالصلاة والتضرع ، والعبادة والتخشع ، لتستعد لنفحاتنا القدسيّة ، لأننا سنوحي إليك بهذا القرآن العظيم ، الثقيل في الوزن العظيم في الأجر ، الرصين في الجزالة والتعبير ، فاقرأه بتدبر وتبصر في قيامك بالليل ، ورتّله على مهل بخشوع وإنابة فإن قيام الليل بالصلاة ، وقضاء ساعاته في الطاعة ، أشدّ ثقلاً على النفس ، وأرجى للقبول عند الله .
ولك يا محمد في النهار تقلباً طويلاً من مهامّك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، واذكر اسم ربك لتستمدّ قوّتك منه ، وانقطع لعبادته ولا تتوجّه لأحد سواه ، فهو الناصر والمعين ، وهو رب العزّة ، ذو الجلال والإكرام الذي لا يخيب من التجأ إليه ، فاجعله وكيلاً لك في جميع الأمور .
واصبر يا محمد على تكذيب قومك لك ، وعن صدودهم وإعراضهم عن دعوتك ، ولا تتعرضّ لهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم ، واهجرهم بالحسنى حتى يجعل الله لك من أمرك فرجاً ومخرجاً ، بالنصر عليهم ونصر الله قريب .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { يا أيها المزَّمّل } بتشديد الزاي والميم ، وقرأ أبَيّ بن كعب وأبو العالية { المتزمّل } بإظهار التاء على الأصل .
2- قرأ الجمهور { هي أشدّ وَطْاً } وقرأ ابن عامر وأبو عمرو { وِطاءً } بكسر الواو مع المدّ وقرأ ابن محيصن { أشدّ وَطَاءً } بفتح الواو ، والطاء ، وبالمدّ .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } . ( المزمّلُ ) صفة ل ( أيّ ) قال ابن مالك : وأيّها مصحوبَ ( أل ) بعدُ صفة . و ( نصفَه ) بدل من الليل ، بدل بعضٍ من كلّ .
قال الزمخشري : ( نصفَه ) بدل من الليل ، و ( إلاّ قليلاً ) استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل ، والضمير في ( منه ) يعود للنصف .
2- قوله تعالى : ( أشدّ وطأ ) لفظ ( أشدّ ) خبر المبتدأ ، و ( وطأ ) تمييز ، وجملة ( هي أشدُّ وطأً ) خبر ( إنَّ ) .
3- قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } تبتّلْ : أمر و ( تبتيلاً ) مفعول مطلق وهو غير جارٍ على فعله ، والأصل فيه أن يُقال ( تبتّلاً ) ولأن وزن ( تفعيل ) إنما تجيء في مصدر ( فعَّل ) كقولهم : رتَل ترتيلاً ، وأما وزن ( تفعّل ) فيأتي المصدر ( تفعّلا ) إلا أنهم قد يُجرون المصدر على غير فعله كقول الشاعر :
وخير الأمر ما استقبلتَ منه ... وليس بأن تتّبعَه اتّباعاً
فأجرى اتباعاً مصدراً على ( تتبّع ) والقياس ( تتبّعاً ) والشواهد على هذه كثيرة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الحكمة في ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف التزمل هو إرادة ( الملاطفة والإيناس ) على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم من اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرّم الله وجهه ، لمّا غاضب فاطمة وذهب إلى المسجد فنام فيه - وكان قد لصق بجنبه التراب- : قم أبا تراب ، قم أبا تراب ، للمؤانسة والملاطفة .(1/607)
اللطيفة الثانية : سبب التزمل ما روي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« جاورتُ بحراء فلمّا قضيتُ جواري هبطت فنوديت ، فنظرتُ عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرتُ خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجُثثْتُ ( فزعت ) منه رعباً فرجعت فقلت : زمّلوني زمّلوني ، فأنزل الله { ياأيها المدثر } [ المدثر : 1 ] و { ياأيها المزمل } » .
فسببُ التزمل هو ما عراه صلى الله عليه وسلم من الرعب والفزع من رؤية الملك على صورته الملكيّة .
اللطيفة الثالثة : ذكر الله تعالى في كتابه العزيز ثلاثة أشياء وصفها ب ( الجميل ) وأمر بها نبيّه عليه الصلاة والسلام وهي : قوله تعالى : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } [ المعارج : 5 ] . . . { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } . . . { فاصفح الصفح الجميل } [ الحجر : 85 ] .
فالصبرُ الجميل الصبرُ الذي لا شكوى معه .
والهجرُ الجميل الهجرُ الذي لا أذيّة معه .
والصفح الجميل الصفحُ الذي لا عتاب معه .
اللطيفة الرابعة : « في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه ، فقالت له السيّدة عائشة : أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال لها عليه السلام : أفلا أكونُ عبداً شكوراً » !! فصلوات ربي وسلامه على نبيّه المصطفى وحبيبه المجتبى .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل قيام الليل كان فريضة على الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
ظاهر قوله تعالى : { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } أن التهجد كان فريضة عليه صلى الله عليه وسلم وأنّ فرضيته كانت خاصة به ، وممّا يدل عليه قوله تعالى في سورة الإسراء [ 79 ] { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } فإنّ قوله : { نَافِلَةً لَّكَ } بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه ، فإنه على هذا الوجه لا يكون خاصاً به عليه الصلاة والسلام ، بل معنى كونه التهجد نافلة له أنه شيء زائد على ما هو مفروض على سائر الأمة .
وقد كان المؤمنون يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ورمت أقدامهم وسوقهم من القيام ، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر السورة : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ . . . } [ المزمل : 20 ] إلى قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] الآية .
قال ابن عباس : وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة .(1/608)
وقال جماعة من المفسّرين : ليس في القرآن سورة نسخَ آخرُها أوّلَها سوى هذه الآية .
الحكم الثاني : هل تجوز قراءة القرآن بالتلحين؟
أمر الله جلّ ثناؤه بترتيل القرآن { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } أي اقرأه على تؤده وتمهل وتبين حروف ، بحيث يتمكن السامع من استيعابه وتدبر معانيه .
ولا خلاف بين العلماء أن قراءة القرآن بالترتيل بمعنى التجويد ، وهو تبيين الحروف ، وتحسين المخارج ، وإظهار المقاطع حسن مطلوب ، إنما الكلام في التغنّي به وتلحينه هل هو جائز أم ممنوع؟
وقد اختلفت فيه آراء الأئمة الفقهاء ، تبعاً لاختلاف الصحابة والتابعين ، ونحن نذكر مذاهبهم مع أدلة كلّ فريق بشيء من التفصيل ، فنقول ومن الله نستمدّ العون :
مذاهب الفقهاء في القراءة بالتلحين :
أولاً : مذهب ( المالكية والحنابلة ) : كراهة القراءة بالتلحين ، وهو منقول عن ( أنس بن مالك ) و ( سعيد بن المسيّب ) و ( سعيد بن جبير ) و ( القاسم بن محمد ) و ( الحسن البصري ) و ( إبراهيم النخعي ) و ( ابن سيرين ) .
ثانياً : مذهب ( الحنفيّة والشافعية ) : جواز القراءة بالتلحين ، وهو منقول عن : ( عمر بن الخطاب ) و ( ابن عباس ) و ( ابن مسعود ) و ( عبد الرحمن بن الأسود بن زيد ) وقد ذهب إليه من المفسرين ( أبو جعفر الطبري ) و ( أبو بكر بن العربي ) .
أدلة المذهب الأول :
أ- حديث : « أقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم ، وإيّاكم ولحونَ أهل الكتاب والفسق ، فإنه يجيءُ من بعدي أقوام يرجّعُون بالقرآن ترجّع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهُمْ ، مفتونةٌ قلوبُهم وقلوبُ الذين يعجبهم شأنُهم » .
فقد نعى عليه السلام على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح على نحو ما يفعله أكثر قرّاء هذا العصر .
ب- حديث : « يتخذون القرآن مزامير ، يقدّمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنّيَهم غناءً » .
ج - حديث : « إنّ الأذانَ سهلٌ سمحٌ ، فإن كان أذانُك سهلاً سمحاً وإلاَّ فلا تؤذّن » قالوا : فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه ، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق الأولى .
د- وقالوا أيضاً : إن التغنّي والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه ، وذلك لأنه يقتضي مدّ ما ليس بممدود ، وهمز ما ليس بمهموز ، وجعل الحرف الواحد حروفاً كثيرة وهو لا يجوز ، هذا إلى أن التلحين من شأنه أن يلهي النفوس بنغمات الصوت ، ويصرفها عن الاعتبار والتدبر لمعاني القرآن الكريم .
وقد سئل ( مالك ) عن الألحان في الصلاة فقال : لا تعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنّون به ليأخذوا عليه الدراهم .
وروي عن الإمام ( أحمد ) أنه كان يقول : قراءة الألحان ما تعجبني ، والقراءة بها بدعة لا تسمع .
وسئل : ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال للسائل : ما اسمك؟ قال : محمد ، قال له : أيسرّك أن يقال لك : يا موحامد ممدوداً؟
أدلة المذهب الثاني :
واستدل المجيزون للقراءة بالتلحين وهم ( الحنفية والشافعية ) بأدلة نوجزها فيما يلي :
أ- حديث :(1/609)
« زينوا القرآن بأصواتكم » .
ب- حديث : « ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن » .
ج - حديث عبد الله بن مغفّل قال : ( لقد أعطيتَ مزماراً من مزامير آل داود ) فقال له أبو موسى : ( لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيراً ) .
ه - حديث : « ما أذِنَ الله لشيء أذنَه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن » .
و- وقالوا أيضاً : إنّ الترنّم بالقرآن والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء ، وهو أوقع في النفس ، وأنفذ في القلب وأبلغ في التأثير .
وقد روى الطبري : عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري : ذكّرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن فيقول عمر : من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل .
وكان ابن مسعود : تعجبه قراءة ( علقمة الأسود ) - وكان حسن الصوت - فكان يقرأ له علقمة ، فإذا فرغ قال له : زدني فداك أبي وأمي .
هذه خلاصة موجزة لأدلة الفريقين ، وأنت إذا أمعنت النظر وجدت أن الخلاف بينهم يكان يكون ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) فالفقهاء جميعاً متفقون على حرمة قراءة القرآن بالأنغام ، التي لا تراعى فيها أحكام التجويد ، كمدّ المقصور ، وقصر الممدود ، وترقيق المفخّم ، وتفخيم المرقق ، وإظهار ما ينبغي إدغامه ، وإخفاء ما ينبغي إظهاره . . . إلخ ، والتي يكون الغرض منها ( التطريب ) وإظهار جمال الصوت فحسب دون تقيّد بالأحكام وآداب التلاوة ، كما يفعله بعض الجهلة من قراء هذا العصر ، فإن هذا لا يشك أحد في تحريمه .
أما إذا كان المراد ب ( التلحين ) هو تحسين الصوت بالقراءة وإخراج الحروف سليمة من مخارجها ، دون تعقر أو تمطيط ، مع تطبيق أحكام التجويد ومراعاة الوقوف والمدود فإن هذا لا يقول أحد بتحريمه ، لأن الصوت الحسن يزيد في جمال القرآن ، وله أثر في نفس الإنسان ، وقد استمع النبي عليه الصلاة والسلام إلى قراءة بعض أصحابه ، فأعجب بحسن صوته حتى قال لأبي موسى الأشعري : « لقد أعطيتَ مزماراً من مزامير آل داود » والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
تمّ بعونه تعالى الجزء الثاني من كتاب « روائع البيان » وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .(1/610)