بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
التحليل اللفظي
{ الحمد للَّهِ } : الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل .
قال القرطبي : الحمد في كلام العرب معناه : الثناء الكامل ، والألف واللام لاستغراق الجنس ، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه ، والثناء المطلق . والحمد نقيض الذم . وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد ، تقول : حمدت الرجل على شجاعته ، وعلى علمه ، وتقول : شكرته على إحسانه . والحمد يكون باللسان ، وأمّا الشكر فيكون بالقلب ، واللسان ، والجوارح . قال الشاعر :
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبّا
وذهب الطبري : إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء ، لأنك تقول : الحمد لله شكراً .
قال القرطبي : وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي ، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان ، وعلى هذا يكون { الحمد } أعمّ من الشكر .
{ رَبِّ العالمين } : الربّ في اللغة : مصد بمعنى التربية ، وهي إصلاح شؤون الغير ، ورعاية أمره ، قال الهروي : يقال لمن أقام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربّه ، ومنه سميّ ( الربانيون ) لقيامهم بالكتب .
وفي « الصحّاح » : ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه ، والمربون : جمع المربّي .
والرّب : مشتقٌ من التربية ، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم ، ويطلق الربّ على معان وهي : ( المَالك ، والمصلح ، والمعبود ، والسيّد المطاع ) تقول : هذا ربّ الإبل ، وربّ الدار ، أي مالكها ، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة ، ففي الحديث الشريف : « لا يقل أحدُكم : أطعمْ ربّك ، وضّيْء ربّك ، ولا يقل أحدكم ربيّ ، وليقل سيّديّ ومولاي » .
والربّ : المعبود ، ومنه قول الشاعر :
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
والربّ : السيّد المطاع ، ومنه قوله تعالى : { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } [ يوسف : 41 ] أي سيّده .
والربّ : المصلح ، ومنه قول الشاعر :
يربّ الذي يأتي من الخير إنّه ... إذا سئل المعروف زاد وتممّاً
{ العالمين } : جمع عالَم ، والعالم : اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام .
قال أبو السعود : العالَم : اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تبارك وتعالى من المصنوعات .
قال ابن الجوزي : العالم عند أهل العربية : اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم ، فأمّا أهل النظر ، فالعالَم عندهم : اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك ، وسماءٍ ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان :
أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوّي قول أهل اللغة .
والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوّي قول أهل النظر .
فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع ، المدبّر ، الحكيم كما قال الشاعر :
فيا عجباً كيف يُعْصى الإله ... أم كيف يَجْحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة ... وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
قال ابن عباس : ( ربّ العالمين أي ربّ الإنس ، والجنّ ، والملائكة ) .(1/1)
وقال الفرّاء وأبو عبيدة : العالَمُ عبارة عمن يعقل ، وهم أربعة أمم : ( الإنس ، والجنّ ، والملائكة ، والشياطين ) ولا يقال للبهائم : عالَم لأن هذا الجمع جمع من يعقل خاصةً ، قال الأعشى : ( ما إن سمعت بمثلهم في العالمين ) .
وقال بعض العلماء : كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ ، فالإنس عالم ، والجنّ عالم ، والملائكة عالم ، والطير عالم ، والنبات عالم ، والجماد عالم . . الخ فقيل : ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم .
{ الرحمن الرحيم } : اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة ، ومعنى { الرحمن } : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى { الرحيم } : المنعم بدقائقها .
ولفظ { الرحمن } مبنيّ على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها ، لأن بناء ( فعلان ) في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشبَع : شبعان .
قال الخطّابي : ف { الرحمن } ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمّت المؤمن والكافر .
و { الرحيم } خاص للمؤمنين كما قال تعالى : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] .
ولا يجوز إطلاق اسم ( الرحمن ) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا ، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضاً قال تعالى : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] قال القرطبي : « وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمّى به غيره ، ألا تراه قال : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره : { أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ ، وقد تجاسر ( مسيلمة الكذاب ) لعنه الله فتسمى ب ( رحمان اليمامة ) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب ، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَماً يُعرف به » .
{ يَوْمِ الدين } : يوم الجزاء والحساب ، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، والدينُ في اللغة : الجزاءُ ، ومنه قوله عليه السلام : « إفعل ما شئت كما تدين تدان » أي كما تفعل تجزى .
قال في « اللسان » : والدينُ : الجزاء والمكافأة ، ويومُ الدين : يوم الجزاء ، وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] أي مجزيّون محاسبون ، ومنه الديّان في صفة الله عز وجل قال لبيد :
حصادك يوماً ما زرعت وإنما ... يُدان الفتى يوماً كما هو دائن
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : نعبدُ : نذلّ ونخشع ونستكين ، لأن العبودية معناها : الذلّة والاستعانة ، مأخوذ من قولهم : طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام ، وذلّلته بكثرة الوطء ، حتى أصبح ممهداً .
قال الزمخشري : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم . فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع .
والمعنى : لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال ، ولا نعبد أحداً سواك .
{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : الاستعانة : طلب العون ، قال الفراء : أعنتهُ إعانةً ، واستعنتهُ واستعنت به ، وفي الدعاء : ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ ، ورجل معوان : كثير الإعانة للناس ، وفي حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )
والمعنى : إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها ، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك ، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك ، فنحن لا نستعين إلا بك .(1/2)
{ اهدنا } : فعل دعاء ومعناه : دلّنا على الصراط المستقيم ، وأرشدنا إليه ، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك .
والهداية في اللغة : تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . . } [ القصص : 56 ] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان . وفعل هدى يتعدى ب ( إلى ) وب ( اللام ) كقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقوله : { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا { اهدنا الصراط } .
{ الصراط المستقيم } : الصّراط : الطريقُ ، وأصله بالسين ( السّراط ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك .
قال « الجوهري » : الصّراط ، والسّراط ، والزّراط : الطريق قال الشاعر :
وأحملهم على وَضِح الصّراط ... أي على وضح الطريق .
قال القرطبي : أصلُ الصراط في كلام العرب : الطريق ، قال الشاعر :
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى ... تركناهم أذلّ من الصراط
والعرب تستعير ( الصراط ) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج ، والمراد به هنا ملّة الإسلام .
{ المستقيم } : الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، ومنه قوله تعالى : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه . . . } [ الأنعام : 153 ] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيماً .
ومعنى الآية : ثبّتنا يا ألله على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال ، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام ، الموصل إلى جنّات النعيم .
{ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } : النعمةُ : لينُ العيش ورغده ، تقولُ : أنعمتُ عينَه أي سررتها ، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه ، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه ، تقول : ( أنعمتُه ) أي جعلته صاحب نعمة ، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
قال ابن عباس : هم النبيّون ، والصدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
{ المغضوب عَلَيْهِم } : هم اليهود لقوله تعالى فيهم : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 112 ] وقوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير . . . } [ المائدة : 60 ] .
{ الضآلين } : الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد ، وطريق الحق ، والانحراف عن النهج القويم ، ومنه قولهم : ضلّ اللبن في الماء أي غاب ، قال تعالى : { وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض . . . } [ السجدة : 10 ] أي غبنا بالموت فيها وصرنا تراباً ، وقال الشاعر :(1/3)
ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ ... عن الحيّ المضلّل أين ساروا
والمراد بالضالين ( النّصارى ) لقوله تعالى فيهم : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .
وقال بعض المفسّرين : الأولى أن يُحمل { المغضوب عَلَيْهِم } على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق ، ويُحمل { الضالّون } على كل من أخطأ في الاعتقاد ، لأنّ اللفظ عامٌ ، والتقييد خلاف الأصل ، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ ديناً من اليهود والنّصارى ، فكان الاحتراز عن دينهم أولى ، وهذا اختيار الإمام الفخر .
وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين ب ( اليهود والنصارى ) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه .
وقال القرطبي : « جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى ، وجاء ذلك مفسّراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ( عديّ بن حاتم ) وقصة إسلامه » .
وقال أبو حيان : وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب المصير إليه .
أقول : ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور ، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملاً لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله ، وضلّ عن شرعه القويم ، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين ، وإليك نصّ كلام الإمام « الفخر » .
قال رحمه الله : « ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار ، والضّالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة ، ثم أتبعه بذكر الكفار ، ثمّ أتبعه بذكر المنافقين ، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : { وَلاَ الضآلين } .
آمين : كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعاً ، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف ، ومعناها : استجب دعاءنا يا رب .
قال الألوسي : ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ ( آمين ) لحديث أبي ميسرة » أنّ جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فلما قال : { وَلاَ الضآلين } قال له : قل : آمين فقال آمين « .
قال ابن الأنباري : وأمّا ( آمين ) فدعاء ، وليس من القرآن ، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه : اللهمّ استجب ، وفيه لغتان : القصرُ ( أمين ) والمدّ ( آمين ) فالأول على وزن ( فعيل ) والثاني على وزن ( فاعِل ) .
قال الشاعر :
يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدَاً ... ويرحمُ اللهُ عبداً قال آميناً
وقال ابن زيدون :
غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا ... بأن نَغَصَّ فقال الدهر : آمِنا
المعنى الإجمالي
علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه ، ونثني عليه بما هو أهله ، فقال ما معناه : يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا : الحمد لله رب العالمين ، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم ، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، ربّ الإنس والجن والملائكة ، وربّ السماوات والأرضين ، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، وعمّ فضله جميع الأنام ، فالثناء والشكر لله رب العالمين ، دون ما يعبد من دونه ، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح ، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد ، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام ، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان ، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت ، ومن غذاءٍ به قوام البشر ، ومياه بها حياة النبات والحيوان ، وأنا المالك للجزاء والحساب ، المتصرف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، فخصوني بالعبادة دون سواي ، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع ، ونستكين ونخشع ، ونخصّك بالعبادة ، ولا نعبد أحداً سواك ، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك ، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم ، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك .(1/4)
فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق ، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك ، وأرسلت به خاتم المرسلين ، وثبتنا على الإيمان ، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين ، طريق النبيّين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً . ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل ، السالكين غير المنهج القويم ، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية ، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك ، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين . . اللهمّ آمين .
معاني الفاتحة في « ظلال القرآن »
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره « الظلال » ما نصه :
( يردّد المسلم هذه السورة القصيرة ، ذات الأيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة .
تبدأ السورة ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله ( الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه ، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه ، فباسمه إذن يكون كل ابتداء ، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه .
وإذا كان البدء باسم الله ، وما ينطوي عليه من توحيد لله ، وأدبٍ معه ، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي ، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي ( الرحمن الرحيم ) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور ، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } يجيء التوجه إلى الله بالحمد ، ووصفُه بالربوبية المطلقة ، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله ، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن ، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية ، وفي كل لمحة ، وفي كل لحظة ، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله ، وتغمر الخلائق كلها ، وبخاصة هذا الإنسان .(1/5)
والربوبية المطلقة : هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغَبَش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة ، وشمولُ هذه الربوبية للعالمين جميعاً ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة ، لتتّجه العوالم كلها إلى ربّ واحد ، تقرّ له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة .
وتبدوا العقيدة الإسلامية : في كمالها وتناسقها رحمة . . رحمةً حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقربٍ وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
ثم تأتي هذه الصفة { الرحمن الرَّحِيمِ } التي تستغرق كلّ معاني الرحمة ، وحالاتها ومجالاتها ، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة ، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه ، وبين الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة والرعاية ، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة ، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة .
والتعبير بقوله : { مالك يَوْمِ الدين } يمثّل الكليّة الضخمة ، العميقة التأثير ، كلية الاعتقاد بالآخرة . والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر ، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا ، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال ، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر ، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها . وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ ، ولا خُلُق ، ولا سلوك ، ولا عمل ، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق ، وطبيعتان متميّزتان ، لا تلتقيان في الأرض في عمل ، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق .
وقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة ، فلا عبادة إلاّ لله ، ولا استعان إلاّ بالله .
وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري ، الكامل الشامل .
ولقد درج ( الغربيون ) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : « قهر الطبيعة » ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية ، المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله ، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين ، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى ، غير علاقة القهر والجفوة ، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعاًِ ، خلقها كلها وفق ناموس واحد ، وسخّرها للإنسان ابتداءً ، ويسّر له كشف أسرارها ، ومعرفة قوانينها ، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها ، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها(1/6)
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] .
وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي ، يبدأ في التطبيق العملي { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته ، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين ، وهذا الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه ، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله ، الذي ينسّق بين حركة الإنسان ، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين ، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهو طريق الذين قسم لهم نعمته ، لا طريق الذين غضب الله عليهم . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين .
ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
قال جعفر الصادق : « إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها ، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة ، والنميمة ، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً ، فيقرأ بلسان طاهر ، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر » .
اللطيفة الثانية : المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر ، قال الشاعر :
لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها ... فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ
وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا ، وقد جاء في الحديث الشريف : « كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر » أي ناقص .
فإن قيل : لماذا نقول بسم الله ، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود : هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك ، فقول القائل : بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك . فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى ، ويقطع احتمال إرادة القسم .
اللطيفة الثالثة : يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى ، فقول القائل : ( بسم الله ) كقوله : ( بالله ) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة :
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
أي ثمّ السلام عليكما ، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري .
قال ابن جرير الطبري : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال : رأيت اسم زيد ، وأكلتُ اسم الطعام ، وشربت اسم الدواء ، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله ، ويقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يُقال : أكلتُ اسم العسل ، يعني أكلتُ العسل؟
أقول : الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك .(1/7)
قال العلامة أبو السعود : وإنما قال ( بسم الله ) ولم يقل ( بالله ) وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن ، يعني ( التبرك ) ، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة ، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى ، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك .
اللطيفة الرابعة : الفرق بين لفظ ( الله ) ولفظ ( الإله ) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره ، ومعناه المعبود بحق ، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره ، وهو مشتق من ( ألَهَ ) ومعناه المعبود ، سواءً كان بحق أو غير حق ، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى ( آلهة ) جمع ( إله ) لأنها عُبدت بباطل من دون الله ، وما كان أحد يسمى الصنم ( الله ) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل : من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول : الله ، وفيهم يقول القرآن الكريم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . . } [ لقمان : 25 ] .
اللطيفة الخامسة : في قولنا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فوائد جليلة ، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى ، والتعظيم لله عز وجل ، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله ، وفيها إظهار لمخالفة المشركين ، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم ، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى ، وفيها إقرار بالألوهية ، واعتراف بالنعمة ، واستعانة بالله تعالى ، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما ( الله ) و ( الرحمن ) .
اللطيفة السادسة : الألف واللام في ( الحمد ) لاستغراق الجنس ، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل ، والحمد التام الوافي ، إلاّ الله ربّ العالمين ، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال ، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس ، والصيغة وردت معرّفة ( الحمدُ لله ) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر ، لا حادث متجدّد ، فتدبره فإنه دقيق .
اللطيفة السابعة : فائدةٌ ذكر { الرحمن الرَّحِيمِ } : عقب لفظ { رَبِّ العالمين } هي أن لفظ ( الربّ ) ينبئ عن معنى الكبرياء ، والسيادة ، والقهر ، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع ، واليأس ، والقنوط ، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم ، وأن رحمته وسعت كل شيء .
قال أبو حيّان : بدأ أولاً بالوصف بالربوبيّة ، فإن كان الرب بمعنى السيّد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ ، ويقوى رجاؤه إن هفا .(1/8)
قال ابن القيم : « وأما الجميع بين ( الرحمن الرحيم ) ففيه معنى بديع ، وهو أنّ ( الرحمن ) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه ، و ( الرحيم ) دالّ على تعلقها بالمرحوم ، وكأنّ الأول الوصفُ ، والثاني الفعلُ ، فالأول : دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه ، والثاني : دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن ( رحمن ) هو الموصوف بالرحمة ، ورحيم هو الراحم برحمته » .
ثم قال رحمه الله : وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب .
ومجمل القول : أنَّ معنى ( الرحمن ) المنعم بجلائل النعم ، ومعنى ( الرحيم ) المنعم بدقائقها .
وقيل : إنهما بمعنى واحد ، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال ، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري : لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود .
والراجح : ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه ، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم .
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام ، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس ، واستجلاب القلوب ، وهذا ( الإلتفات ) ضرب من ضروب البلاغة ، ولو جرى الكلام على الأصل لقال ( إيّاه نعبد ) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة ( الإلتفات ) ومثله قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم قال : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [ الإنسان : 22 ] وقد يكون الإلتفات من ( الخطاب ) إلى ( الغيبة ) كما في قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] فقد كان الكلام مع المخاطبين ، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات .
قال أبو حيان في « البحر » : « ونظير هذا أن تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة ، مخبراً عنه إخبار الغائب ، ويكونذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : إيّاك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ، ما لا يكون في لفظ ( إيّاه ) » .
اللطيفة التاسعة : وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } ولم يقل : ( إياّاك أعبد وإيّاك أستعين ) وذلك لنكتةٍ لطيفة ، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا ، وطلبه الاستعانة والهداية مفرداً دون سائر العرب ، فكأنه يقول : يا رب أنا عبد حقير ، ذليل ، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي ، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين ، وأدعوك معهم ، فتقبّل دعائي معهم ، فنحن جميعاً نعبدك ونستعين بك .
وتقديم المفعول على الفعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يفيد القصر والتخصيص كما في قوله : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] كما يفيد التعظيم والاهتمام به .(1/9)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك .
قال القرطبي : إن قيل : لم قدَّم المفعول { إِيَّاكَ } على الفعل { نَعْبُدُ } ؟ قيل له : اهتماماً ، وشأنُ العرب تقديم الأهم ، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له السابّ : إيّاك عني ، فقال له الآخر : وعنك أُعرض ، فقدّما الأهم ، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ، فلا يجوز نعبدك ، ونستعين ، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك ، وإنما يتبع لفظ القرآن ، قال العجّاج :
إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي ... واغفر خطايايَ وكثّر ورقي
وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك .
اللطيفة العاشرة : نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل : ( غضبت عليهم ) وأضللتهم ، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل ، حيث لا ينسب الشرّ إليه ( أدباً ) وإن كان منه ( تقديراً ) كما قال بعضهم : الخير كله بيديك ، والشرّ ليس إليك .
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78-80 ] فلم يقل : ( وإذا أمرضني ) أدباً . وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] فلم يقولوا : أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق .
الدقائق البيانية في سورة الفاتحة
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » : « وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب ، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتتان الكلام ، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام ، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :
النوع الأول : حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع ، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله ، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة .
النوع الثاني : المبالغة في الثناء وذلك العموم ( أل ) في الحمد المفيد للاستغراق .
النوع الثالث : تلوين الخطاب في قوله : { الحمد للَّهِ } إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا : الحمد لله .
النوع الرابع : الاختصاص باللاّم التي في ( لله ) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا .
النوع الخامس : الحذف وذلك كحذف ( صراط ) من قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } التقدير : غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين .
النوع السادس : التقديم والتأخير في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وكذلك في قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } وقد تقدم الكلام على ذلك .
النوع السابع : التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } حيث فسّر الصراط .
النوع الثامن : الإلتفات وذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم } .(1/10)
النوع التاسع : طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أي ثبتنا عليه .
النوع العاشر : التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى : { الرحمن الرحيم . . . الصراط المستقيم } وقوله { نَسْتَعِينُ . . . وَلاَ الضآلين } .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { الحمد للَّهِ } بضمّ دال الحمد ، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة ( الحمدَ الله ) بالنصب ، قال ابن الأنباري : ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله .
قال أبو حيان : وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره .
ثانياً : قرأ الجمهور { ربّ العالمين } بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ { ربَّ العالمين } بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين ، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره .
قال القرطبي : يجوز الرفع والنصب في { ربّ } فالنصبُ على المدح ، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين .
ثالثاً : قرأ الجمهور { مَالِك يومِ الدّينِ } على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء { مَلِك } بفتح الميم مع كسر اللام .
قال ابن الجوزي : وقراءة ( مَلِك ) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً .
وقال ابن الأنباري : وفي مالك خمسُ قراءات وهي : مالك ، ومَلِك ، ومَلْك ، ومليك ، ومَلاَك .
رابعاً : قرأ الجمهور { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } بضم الباء ، وقرأ زيد بن علي { نعبِد } بكسر النون ، وقرأ الحسن وأبو المتوكل { إيّاك يُعبد } بضم الياء وفتح الباء .
خامساً : قرأ الجمهور { اهدنا الصراط المستقيم } بالصّاد وهي لغة قريش ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ( السّراط ) بالسّين على الأصل .
قال الفرّاء : اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى ، وعامة العرب يجعلونها سيناً ، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان .
وجوه الإعراب
أولاً : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } الجار والمجرور في { بِسمِ الله } اختلف فيه النحويون على وجهين :
أ - مذهب البصريين : أنه في موضع رفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : ابتدائي بسم الله .
ب - مذهب الكوفيين : أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره : ابتدأتُ بسم الله .
ثانياً : قوله تعالى : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره : الحمد مستحق لله ، و { رَبِّ العالمين } صفة ، ومثله { الرحمن الرحيم } و { مالك يَوْمِ الدين } كلها صفات لاسم الجلالة .
ثالثاً : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اختلف المفسّرون في { إِيَّاكَ } فذهب المحققون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله ( نعبدك ) و ( نستعينك ) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً ، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب .
وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده ، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره .(1/11)
قال أبو السعود : وما ادّعاه الخليل من الإضافة ، محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشوابّ ، فممّا لا يعوّل عليه . وذكر ابن الأنباري وجوهاً عديدة ثمّ قال : والذي اختاره الأول ، وقد بيّنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم ب « الانصاف في مسائل الخلاف » .
رابعاً : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . . . } { اهدنا } فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة ( ن ) في إهدنا ، و { الصراط } هو المفعول الثاني ، و { المستقيم } صفة للصراط ، و { صِرَاطَ } بدل من الصراط الأول .
خامساً : آمين : اسم فعل أمر بمعنى استجب .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل البسملة آية من القرآن؟
أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [ 30 ] هي جزء من آية في قوله تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة ، ومن أول كل سورة أم لا؟ على أقوال عديدة :
الأول : هي آية من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله .
الثاني : ليست آية لا من الفاتحة ، ولا من شيء من سور القرآن ، وهو مذهب مالك رحمه الله .
الثالث : هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور ، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رحمه الله .
دليل الشافعية :
استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً - حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين ، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ، إنها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبعُ المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها » .
ثانياً - حديث ابن عباس رضي الله عنهما « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم » .
ثالثاً - حديث أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءته مدّاً . . ثمّ قرأ { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين . . . } .
رابعاً : حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : ( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة ، ثمّ رفع رأسه متبسّماً ، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : نزلت عليّ آنفاً سورة ، فقرأ : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } [ الكوثر : 1-3 ] .
قالوا : فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأها في سورة الكوثر .(1/12)
خامساً : واستدلوا أيضاً بدليل معقول ، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة ، وفي أول كل سورة من سور القرآن ، ما عدا سورة ( براءة ) ، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه ، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن ، وكانوا يتشدّدون في ذلك ، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير ، ومن أسماء السّور ، ومن الإعجام ، وما وُجِد من ذلك أخيراً فقد كتب بغير خطّ المصحف ، وبمداد غير المداد ، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه ، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة ، وفي أوائل السور دلّ على أنه آية من كل سورة من سور القرآن .
دليل المالكية :
واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين »
ثانياً : حديث أنس كما في « الصحيحين » قال : « صلّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين » .
وفي رواية لمسلم : ( لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لا في أول قراءة ولا في آخرها ) .
ثالثاً : ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجل : « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل .
فإذا قال العبد : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } . قال الله تعالى : حمدني عبدي .
وإذا قال العبد : { الرحمن الرحيم } . قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي .
وإذا قال العبد : { مالك يَوْمِ الدين } . قال الله تعالى : مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي - .
فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل .
فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » .
قالوا : فقوله سبحانه : « قسمت الصلاة » يريد الفاتحة ، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي .
رابعاً : لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في { الرحمن الرحيم } في وصفين وأصبحت السورة كالآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، الحد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل .
خامساً : كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك ، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور ، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور ، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها .
قال القرطبي : « الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك ، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه .(1/13)
قال ابن العربي : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن ( البسملة ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها .
ثم قال : إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول ، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرّت عليه الأزمنة ، والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قطّ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) اتّباعاً للسُنّة ، وهذا يردّ ما ذكرتموه ، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك « .
دليل الحنفية :
وأما الحنفية : فقد رأوا أنّ كتابتها في ( المصحف ) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة ، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة ، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة - في غير سورة النمل - أنزلت للفصل بين السور .
ومما يؤيد مذهبهم : ما روي عن الصحابة أنهم قالوا : » كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه « بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال الإمام أبو بكر الرازي : « وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا ، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها ، ولم يعدّها قرّاء البصريين ، وقال الشافعي : هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة ، وحكى شيخنا ( أبو الحسن الكرخي ) عدم الجهر بها ، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها ، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة ، وما سبقه إلى هذا القول أحد ، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من ( فاتحة الكتاب ) أو ليست بآية منها ، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور » .
ثم قال : « ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } [ الملك : 1 ] » واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة ( الكوثر ) ثلاث آيات ، وسورة ( الإخلاص ) أربع آيات ، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا « .(1/14)
الترجيح :
وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول : لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال ، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين ، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن ، والمالكية يقولون : ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف ، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد - مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآناً - يدلّ على أنها قرآن ، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة ، أو آية من سورة الفاتحة بالذات ، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور ، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام ، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة ، لا سيّما في افتتاحاتها ، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد ، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن .
وقول المالكية : لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر - كما يقول الجصّاص - إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك ، بل يكفي أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن ، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى ، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح ، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم .
الحكم الثاني : ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة :
أ - فذهب مالك رحمه الله : إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة ، جهراً كانت أو سرّاً ، لا في استفتاح أم القرآن ، ولا في غيرها من السور ، وأجاز قراءتها في النافلة .
ب - وذهب أبو حنيفة رحمه الله : إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وإن قرأها مع كل سورة فحسن .
ج - وقال الشافعي رحمه الله : يقرؤها المصلي وجوباً . في الجهر جهراً ، وفي السرّ سراً .
د - وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها .
وسبب الخلاف : هو اختلافهم في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول .(1/15)
وشيء آخر : هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب .
قال ابن الجوزي في « زاد المسير » : وقد اختلف العلماء هل البسملة ، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان ، فأمّا من قال : إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة ، ما عدا مالكاً رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسُن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، ومذهب الثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة .
وذهب الشافعي : إلى أن الجهر بها مسنون ، وهو مرويّ عن معاوية ، وعطاء ، وطاووس .
الحكم الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين :
أ - مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة ، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته .
ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة : أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته ، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار ، أو آية طويلة .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي :
أولاً : حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
ثانياً : حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج ، فهي خداج غير تمام » .
ثالثاً : حديث أبي سعيد الخدري : « أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر » .
قالوا : فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، فإنّ قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » يدل على نفي الصحة ، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عليه الصلاة والسلام ثلاثاً يدل على النقص والفساد ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة .
استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة .
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] قالوا : فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن ، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } إلى قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل ، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ .(1/16)
وأما السنّة : فما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أن رجلاً دخل المسجد فصلّى ، ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام وقال : » ارجع فصلّ فإنك لم تصل « فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام : » إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثمّ استقبل القبلة فكبّر ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثمّ فاعل ذلك في صلاتك كلها « » .
قالوا : فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير ( اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ) ويقوّي ما ذهبنا إليه ، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن .
وأما حديث عبادة بن الصامت : فقد حملوه على نفي الكمال ، لا على نفي الحقيقة ، ومعناه عندهم ( لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ولذلك قالوا : تصح الصلاة مع الكراهية ، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » .
وأما حديث أبي هريرة : ( فهي خداج ، فهي خداج . . . ) الخ فقالوا : فيه ما يدلّ لنا لأنّ ( الخداج ) الناقصة ، وهذا يدل على جوازها مع النقصان ، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان ، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها ، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء .
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : سردناها لك بإيجاز ، وأنت إذا أمعنتَ النظر ، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً ، وأقوى قيلاً ، فإنّ مواظبته عليه الصلاة والسلام على قراءتها في الفريضة والنفل ، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها ، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة ، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمته التوضيح والبيان ، لما أجمل من معاني القرآن ، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام .
وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويُسمعنا الآية أحياناً ، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر ، ويقصر الثانية ، وكذلك في الصبح » .
وفي رواية : « ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب » .
قال الطبري : يقرأ بأم القرأن في كل ركعة ، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها .
قال القرطبي : والصحيح من هذه الأقوال ، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر ، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عليه الصلاة والسلام :(1/17)
« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وأُبِيّ بن كعب ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » فهؤلاء الصحابة القُدرة ، وفيهم الأسوة ، كُلّهم يوحبون الفاتحة في كل ركعة .
قال الإمام الفخر : « إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة ، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : { واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الأعراف : 158 ] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب ( مسح الناصية ) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سُباطة قوم فبال وتوضأ ، ومسح على ناصيته وخفيه ، في ( أنه عليه السلام مسح على الناصية ) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة!! وهاهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ، ثمّ قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب! » .
الحكم الرابع : هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟
اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة ، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام ، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
أ - فذهب الشافعي وأحمد : إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية .
ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام ، ولا يقرأ في الجهرية .
ج - وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية .
استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم ، سواء كانت الصلاة سرية جهرية ، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته .
واستدل الإمام مالك : على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور ، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
وقد نقل القرطبي : عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام ، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب ، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه .
وأمّا الإمام أبو حنيفة : فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا } [ الأعراف : 204 ] ولحديث « من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة » .
واستدل أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/18)
« إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا » .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة ( سورة الفاتحة ) وقفة العبد الخاشع ، المعترف بالعجز ، المقر بالتقصير ، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله ، وهي من كلام ربّ العالمين ، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان ، أو يدرك أسراره العميقة بشر ، مهما أوتي من النبوغ والذكاء ، وسعة العلم والاطلاع .
وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم ، وسمو معانيه ، وجمال ألفاظه ، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته ، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز ، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم ، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال ، فهي تتناول أصول الدين وفروعه ، تتناول العقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والاعتقاد بالجزاء والحساب ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة ، والاستعانة ، والدعاء ، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين ، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف .
قال العلامة القرطبي : « سميت الفاتحة ( القرآن العظيم ) لتضمنها جميع علومه ، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ، وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيان عاقبة الجاحدين ، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم » .
يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله في رسالته القيّمة « مقدمة في التفسير » ما نصه :
« لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة - وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة ، وفي صلاته خاصة - رأى من غزارة المعاني ، وجمالها ، وروعة التناسب ، وجلاله ، ما يأخذ بلبه ، ويضيء جوانب قلبه . فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة ، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء ، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء . فإذا استشعر هذا المعنى ، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله ( الرحمن الرحيم ) وذكّره الحمد بعظيم نعمه ، وكريم فضله ، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً ، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له ، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة ، والتربية الجليلة ، ليست عن رغبة ولا رهبة ، ولكنّها عن تفضل ورحمة ، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم ، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن ( الرحمن ) ب ( العدل ) ويذكّر بالحساب بعد الفضل ، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده ، ويحاسب خلقه يوم الدين(1/19)
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة ، والترهيب بالعدالة ، والحساب ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير ، والبحث عن وسائل النجاة ، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل ، ويرشده إلى الصراط المستقيم ، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه ، فليلجأ إليه ، وليعتمد عليه ، وليخاطبه بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه ، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء ، والنكوص بعد الاهتداء ، وغير الضالين التائهين ، الذين يضلون عن الحق ، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين .
ولا جرم أن ( آمين ) براعة مقطع في غاية الجمال والحسن ، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب ، والتوجه إلى الله بالدعاء؟
فهل رأيت تناسقاً أدق ، أو ارتباطاً أوثق ، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل » الخ وأدم هذا التدبر والإنعام ، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل ، وخشوع وتذلّل ، وأن تقف على رؤوس الآيات ، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات ، من غير تكلف ولا تطريب ، واشتغال بالألفاظ عن المعاني ، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية ، أو الصلاة الجهرية ، فإنّ ذلك يعين على الفهم ، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع ، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع « .(1/20)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
2 - سورة البقرة
[ 1 ] موقف الشريعة من السحر
التحليل اللفظي
{ نَبَذَ } : النبذ : الطرح والإلقاء قال تعالى : { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } [ القصص : 40 ] ومنه النبيذ للشيء المسكر ، وسميَ نبيذاً ، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً فينبذه في وعاء أو سقاء ، ويتركه حتى يصير مسكراً ، والمنبوذُ : ولد الزنى ، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق ، قال أبو الأسود .
وخبّرني من كنتُ أرسلتُ أنما ... أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ... كنبذكَ نعلاً أخْلقتْ من نعالكا
وقال آخر :
أنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
{ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } : هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة ، تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ، ودبر أذنه ، قال تعالى : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] وأنشد الفرّاء :
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهرٍ ولا يعيا عليك جوابها
{ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : تشبيه لهم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة .
والمعنى : نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به ، على سبيل العناد والمابرة ، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .
{ واتبعوا } الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود .
قال الزمخشري : أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين .
والمراد بالاتباع : التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة ، وقيل : الاقتداء .
{ تَتْلُواْ } : بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي ، فهو حكاية لحال ماضية ، قال الشاعر :
وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها ... فلقد يكونُ أخا دمٍ وذبائحِ
أي فلقد كان .
وتتلو يعني : تُحدّث ، وتروي ، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة .
قال الطبري : ولقول القائل « هو يتلو كذا » في كلام العرب معنيان :
أحدهما : الاتباع كما تقول : « تلوت فلاناً » إذا مشيت خلقه وتبعت أثره .
والآخر : القراءة والدراسة كما تقول : فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه ، كما قال ( حسان بن ثابت ) :
نبيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
والمعنى : طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم ، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان .
{ الشياطين } : المتبادر من لفظ ( الشياطين ) أن المراد بهم مردة الجن ، وبه قال بعض المفسرين وقال بعضهم : المراد بهم شياطين الإنس ، والأرجح أن المراد بهم شياطين ( الإنس والجن ) كما قال تعالى : { شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] .
{ على مُلْكِ سليمان } : أي على عهد مكله وفي زمانه ، فهو على حذف مضاف .
قال المبرّد : « على » بمعنى « في » أي في عهد ملكه ، كما أنّ « في » بمعنى « على » كما في قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي على جذوع النخل . ( سليمان ) اسم عبراني ، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية ، واستعمله الحطيئة ، اضطراراً فجعله بلفظ ( سلاّم ) حين قال :(1/21)
فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلاّم
قال الألوسي : وسليمان اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة ، ونظيره ( هامان ) و ( ماهان ) و ( شامان ) وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون .
{ السحر } : في اللغة : كلّ ما لطف مأخذه ودقّ ، قال الأزهري : وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره ، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ ، وخيّل الشيء على غير حقيقته ، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه .
وقال الجوهري : والسّحر : الأُخْذةُ ، وكلّ ما لُطف مأخذه ، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضاً بمعنى خدعه .
وقال القرطبي : السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء ، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته ، قال لبيد :
فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإنّنا ... عصافيرُ من هذا الأنام المسحّر
وقال امرؤ القيس :
أُرانا مُوضعين لأمر غيبٍ ... ونُسحَرُ بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ ... وأجراً من مجلّحة الذئاب
وقال الألوسي : السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى ، وهو من المصادر الشاذة ، ويستعمل بما لطف وخفي سببه ، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق . وفي الحديث « إنّ من البيان لسحراً » .
{ فِتْنَةٌ } : الفتنةُ الاختبار والابتلاء ، ومنه قولهم : فتنتُ الذهب في النار ، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته .
قال الأزهري : جِماعُ معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان ، والاختبار ، قال تعالى : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] وقال تعالى { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ العنكبوت : 3 ] أي اختبرنا وابتلينا .
قال الجصّاص : الفتنةُ : ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر ، تقول العرب : فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه ، والاختبار كذلك أيضاً لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها .
{ فَلاَ تَكْفُرْ } : أي بتعلم السّحر واستعماله ، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ .
قال الزمخشري : { فَلاَ تَكْفُرْ } أي فلا تتعلم السّحر معتقداً أنه حق فتكفر .
{ بِإِذْنِ الله } : أي بإرادته ومشيئته ، وفيه دليل على أن في السحر ضرراً مودعاً ، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور ، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له ، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات .
{ لَمَنِ اشتراه } : قال الألوسي : أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع ، ودخولها على الماضي مع ( قد ) كثير ، كقوله تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
{ خلاق } : الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى : { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } [ آل عمران : 77 ] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر :
فما لكَ بيتٌ لدى الشامخات ... وما لك في غالب من خلاق
قال الزّجاج : هو النصيب الوافر من الخير ، وأكثر ما يستعمل في الخير ، ويكون للشر على قلّة .(1/22)
{ شَرَوْاْ } : أي باعوا أنفسهم به ، يقال : شرى بمعنى اشترى ، وشرى بمعنى باع من الأضداد ، قال الشاعر :
وشربتُ بُرْداً ليتني ... من بعد بُرْدٍ كنتُ هامة
{ لَمَثُوبَةٌ } : المثوبة : الثواب والجزاء ، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله ( موسى ) عليه السلام وهو التوراة ، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، مع أنّ الرسول جاء مصدّقاً لما بين أيديهم من التوراة ، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد ، في الاستكبار والعناد ، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي ، والإفساد ، والعناد .
لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان ، وما كان ( سليمان ) عليه السلام ساحراً ، ولا كفر بتعلمه السحر ، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب ، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس .
وكما اتبّع رؤساء اليهود ( السحر ) و ( الشعوذة ) كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين ، أو الملكَيْن : ( هاروت ) و ( ماروت ) بمملكة بابل ، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض ، لتعليم السحر ، ابتلاءً من الله للناس ، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر ، وإنّما من أجل إبطاله ، ليُظْهرا للناس الفرق بين ( المعجزة ) و ( السّحر ) ، ولله أن يبتلي عباده بما شاء ، كما امتحن قوم طالوت بالنهر ، وقد كثر السحر في ذلك الزمان ، وأظهر السّحَرة أموراً غريبة وقع بسببها الشكّ في ( النبوّة ) ، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر ، حتى يزيلا الشّبَه ، ويميطا الأذى عن الطريق . . ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر ، وكانا إذا علَّما أحداً قالا له : إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار ، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان ، ومن تعلّمه معتقداً صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر ، فكان الناس فريقين : فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس ، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله ، وبين الصديق وصديقه ، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم ، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية ، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك .
ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله ، وخافوا عذابه ، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم ، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلاّ بالويل والخسار والدمار .(1/23)
سبب النزول
قال ابن الجوزي رحمه الله : في سبب نزول هذه الآية قولان :
أحدهما : أن اليهود كانوا لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم ، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة : ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ( ابن داود ) كان نبيّاً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآية { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ . . . } ذكره ابن إسحاق .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } .
قرأ الجمهور : ( ولكنّ الشياطينَ ) بتشديد نون ( لكنّ ) ونصب نون ( الشياطين ) وقرأ حمزة والكسائي : ( ولكن الشياطينُ ) بتخفيف النون من ( لكن ) ورفع نون ( الشياطين ) .
ثانياً : قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين } .
قرأ الجمهور : ( المَلَكَيْن ) بفتح اللام والكاف مثنّى ( مَلَك ) وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ( الملِكَيْن ) بكسر اللام مثنىّ ( ملِك ) قال ابن الجوزي : وقراءة الجمهور أصح .
قال القرطبي : وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ : { وما أُنْزل على الملِكَيْن } يعني به رجلين من بني آدم .
ثالثاً : قوله تعالى : { هاروت وماروت } قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير ( هما هاروتُ وماروتُ ) .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } الواو للعطف ، و { واتبعوا } معطوف على قوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ } من عطف الجملة على الجملة ، والضمير في { واتبعوا } لليهود ، و { مَا } اسم موصول مفعول به و { تَتْلُواْ } صلة الموصول و { الشياطين } فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول .
ثانياً - قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين . . . . } جملة { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } في محل نصب على الحال من الضمير في { كَفَرُواْ } أي كفروا معلميّن الناس السحر ، وقيل : هو بدل من { كَفَرُواْ } لأن تعليم السحر كفر في المعنى و { مَآ أُنْزِلَ } اسم الموصول { مَا } معطوف على { مَا تَتْلُواْ } فهو في موضع نصب ، والمعنى : اتبعوا ما تتلوه الشياطين ، واتبعوا ما أُنزل على الملكين ، وقيل : { مَآ أُنْزِلَ } ما : نافية أي لم ينزل على الملكين ، قال ابن الأنباري : وهذا الوجه ضعيف جداً ، لأنه خلاف الظاهر والمعنى ، فكان غيره أولى .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق } .
اللام في { لَمَنِ اشتراه } لام الابتداء ، و ( مَنْ ) بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ ، وخبره جملة { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق } و { مِنْ } في قوله : { مِنْ خلاق } زائدة لتأكيد النفي ، وتقديره : ما له في الآخرة خلاق .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تضمنت هذه الآيات الكريمة ما كان عليه اليهود من الخبث وفساد النيّة ، والسعي للإضرار بعباد الله ، فالسّحر لم يُعرف إلاّ عند اليهود ، فتاريخه مشتهر بظهورهم ، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر ، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر ، والشعوذة ، والتضليل ، وهذا يدل على أنّ اليهود أصل كل شرّ ، ومصدر كلّ فتنة وقد صوّر القرآن الكريم نفسيّة اليهود بهذا التصوير الدقيق(1/24)
{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } [ المائدة : 64 ] .
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : كما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمّن الوعيد في قوله تعالى : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 98 ] وقوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } [ البقرة : 99 ] وذكر نبذ العهود من اليهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشاطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى . فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب ، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها ، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ولا مارس { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] صلى الله وسلّم عليه ، وأوصل أزكى تحية إليه .
اللطيفة الثالثة : قَوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور ، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود ، حيث تركوا العمل بكتاب الله ، وأعرضوا عنه بالكلّية ، شأن المستخف بالشيء ، المستهزئ به ، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة .
يقول سيّد قطب رحمه الله : « والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به ، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن ، إلى دائرة الحسن ، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة ، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً ، ينضح بالكنود والجحود ، ويتسّم بالغلظة والحماقة ، ويفيض بسوء الأدب والقحة ، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة ، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور » .
اللطيفة الرابعة : وجه المقارنة بين ذكر { الشياطين } و { السحر } في الآية الكريمة ، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن ، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك ، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون ، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] ولهذا اشتهر السّحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة .
أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إنّ الشياطين كانوا يسترقون السّمع من السّماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة ، كذب عليها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك » سليمان بن داود « فأخذها وقذفها تحت الكرسي ، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممنّع؟ قالوا : نعم فأخرجوه فإذا هو سحر ، فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر » .(1/25)
اللطيفة الخامسة : عبّر القرآن الكريم عن ( السحر ) ب ( الكفر ) في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سليمان } وسياقُ اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي : وما سحر سليمان وإنما عبّر عنه بالكفر تقبيحاً وتشنيعاً ، كما قال تعالى فيمن ترك الحجّ مع القدرة عليه { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] .
وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر ، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات ، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .
اللطيفة السادسة : روي أنّ رجلاً تكلّم بكلام بليغ عند ( عمر بن عبد العزيز ) فقال عمر : هذا والله السّحر الحلال . ورُوي « أنّ ( الزبرقان بن بدر ) و ( عَمْر بن الأهتم ) و ( قيس بن عاصم ) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعَمْرو : خبّرني عن الزبرقان؟ فقال : مُطاع في ناديه ، شديد العارضة ، مانعٌ لما وراء ظهره . . فقال الزبرقان : هو والله يعلمُ أني أفضلُ منه ، فقال عمرو : إنه زمر المروءة ، ضيّق العَطَن ، أحمقُ الأب ، لئيم الخال . . ثم قال : يا رسول الله ، صدقتُ فيهما ، أرضاني أحسن ما علمتُ ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت ، فقال عليه السلام : » إن من البيان لسحراً « » .
ورُوي أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من البيان لسحراً » فإن قيل : كيف سمّى عليه السلام روحة البيان سحراً مع أنّ السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟!
فالجواب : أنّ هذا على ( المجاز ) لا على ( الحقيقة ) فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه ، وجمال تعبيره ، كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين ، فمن هذا الوجه سمّي البيان سحراً .
اللطيفة السابعة : فإن قيل : كيف كان الملكان يعلّمان الناس السحر مع أنه حرام ، ومعتقده كافر؟!
فالجواب : أنهما ما كانا يعلمان الناس السّحر للعمل به ، وإنما للتخلُّص من ضرره ، والاحتراز منه ، لأن تعريف الشر للزجر عنه حسن وقد قيل :
عرفتُ الشرّ لا للشرّ ... لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الشرّ ... من الناس يقع فيه
وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ فلاناً لا يعرف الشر ، قال : أجدر أن يقع فيه . والصحيح كما قال الألوسي : أن ذلك كان للابتلاء والتمييز بين ( المعجزة ) و ( السحر ) والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل للسّحر حقيقة وتأثير في الواقع؟
اختلف العلماء في أمر ( السحر ) هل له حقيقة أم هو شعوذة وتخييل؟
فذهب جمهور العلماء : من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير .(1/26)
وذهب المعتزلة وبعض أهل السُنّة : إلى أنّ السحر ليس له حقيقة في الواقع وإنما هو خداع ، وتمويه ، وتضليل ، وأنه باب من أبواب الشعوذة ، وهو عندهم على ضروب .
ضروب السحر
أولاً : التخييل والخداع : وذلك كما يفعله بعض المشعوذين ، حيث يريك أنه ذبح عصفوراً ، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار ، وذلك لخفة حركته ، والمذبوحُ غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان ، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر . قالوا : وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع ، فقد كانت العصيّ مجوَّفة ، قد ملئت زئبقاً ، وكذلك الحبال كانت من أدم ( جلد ) محشوّة زئبقاً ، وقد حفروا تحت المواضع أسراباً وملؤها ناراً ، فلمّا طرحت عليها الحبال والعصيّ وحمى الزئبق تحركت ، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدّد ، فتخيّل الناس أنّ هذه الحبال والعصي تتحرك وتسير .
ثانياً : الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعله بعض العَرّافين والكُهان حيث يوكلون أناساً بالاطلاع على أسرار الناس ، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها ، ويزعمون أنها من حديث الجنّ والشياطين لهم ، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرّقي ، والعزائم ، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات فيصدقهم الناس ، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لذلك .
قال الجصاص : كانت أكثر مخاريق الحلاّج بالمواطأة ، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع يعيّنها لهم ، ثمّ يمشي مع أصحابه في البرية ، ثم يأمر بحفر هذه المواضع ، فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة ، فيعدّونها من الكرامات .
ثالثاً : وضربٌ آخر من السّحر عن طريق النميمة ، والوشاية ، والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة ، وذلك عام شائع في كثير من الناس . . وقد حُكي أنّ امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين ، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها : إنّ زوجك معرضٌ عنك ، وهو يريد أن يتزوج عليك ، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك ، ولا يريد سواك ، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها حتّى يتم سحره ، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها ، ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له : إن امرأتك قد أحبّت رجلاً وقد عزمت على أن تذبحك بالموسى عند النوم لتتخلص منك ، وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك ، فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي ، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته فجاءت زوجته بالموسى لتحلق بعض شعرات من حلقه ، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه ، فلم يشكّ في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها ، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه ، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة .(1/27)
رابعاً : وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل ، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء ، كإطعامه ( دماغ الحمار ) الذي إذا أطعمه إنسان تبلّد عقله ، وقلّت فطنته مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب ، فإذا أكله الإنسان تصرّف تصرفاً غير سليم فيقول الناس : به مسّ أو أنه مسحور .
فأنت ترى أنهم يُرجعون السحر إمّا إلى تمويه وتخييل ، وإمّا إلى مواطأة ، وإمّا إلى سعي ونميمة ، وإمّا إلى احتيال ، ولا يرون الساحر يقدر على شيء ممّا يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام ، ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن اليسير .
قال أبو بكر الجصاص : وحكمةٌ كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل ، لا حقيقة لما يدّعون لها أنّ الساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر ، وأمكنهما الطيران ، والعلم بالغيوب ، وأخبار البلدان النائية ، والخبيثات والسّرَق ، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا ، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز ، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا ينالهم مكروه ، ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس .
فإذا لم يكن كذلك ، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالاً ، وأكثرهم طمعاً واحتيالاً ، وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقراً وإملاقاً علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك « .
أدلة المعزلة :
استدل المعتزلة على أن السحر ليس له حقيقة بعدة أدلة نوجزها :
أ - قوله تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } [ الأعراف : 116 ] .
ب - قوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] .
ج - قوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } [ طه : 69 ] .
فالآية الأولى : تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب ، والثانية : تؤكد أنَّ هذا السحر كان تخييلاً لا حقيقة ، والثالثة : تثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه .
د - وقالوا : لو قدر الساحر أن يمشي على الماء ، أو يطير في الهواء ، أو يقلب التراب إلى ذهب على الحقيقة ، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء ، والتبس الحق بالباطل ، فلم يعد يعرف ( النبي ) من ( الساحر ) لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء ، وفعل السحرة ، وأنه جميعه من نوع واحد .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور من العلماء على أنّ السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - قوله تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 166 ] .
ب - قوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } [ البقرة : 102 ] .
ج - قوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] .
د - قوله تعالى : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } [ الفلق : 4 ] .
فالآية الأولى دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 166 ] والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقياً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرّقوا بين الرجل وزوجه ، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته ، والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر ، ولكنّه متعلق بمشيئة الله ، والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شرّ السّحرة الذين ينفثون في العقد .(1/28)
ه - واستدلوا بما روي « أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى لذلك أياماً ، فأتاه جبريل فقال : إنّ رجلاً من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، فأرسل صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلّها ، فقام كأنّما نَشِطَ من عقال » .
الترجيح : ومن استعراض الأدلة نرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس ، فإن إلقاء البغضاء بين الزوجين ، والتفريق بين المرء وأهله الذي أثبته القرآن الكريم ليس إلا أثراً من آثار السحر ، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شرّ النفاثات في العقد ، ولكنْ كثيراً ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأنّ له أثراً وضرراً ولكنّ أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلاّ بإذن الله ، فهو سبب من الأسباب الظاهرة ، التي تتوقف على مشيئة مسبّب الأسباب ، ربّ العالمين جل وعلا .
وأما استدلالهم : بأنه يلتبس الأمر بين ( المعجزة ) و ( السحر ) إذا أثبتنا للسّحر حقيقة فنقول : إنّ الفرق بينهما واضح فإنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها ، وظاهرُها كباطنها ، وكّلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها ، وأما السّحر فظاهره غير باطنه ، وصورته غير حقيقته ، يعرف ذلك بالتأمل والبحث ، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحرٍ عظيم ، مع إثباته أَنّ ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل .
قال العلامة القرطبي : « لا ينكر أحدٌ أن يظهر على يد الساحر خرق العادات ، بما ليس في مقدور البشر ، من مرضٍ ، وتفريق ، وزوال عقل ، وتعويج عضو ، إلى غير ذلك ممّا قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر .
قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدقّ جسم الساحر حتى يلج في الكُوّات ، والخوخات ، والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كلب وغير ذلك ، ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك ، ولا علةً لوقوعه ، ولا سبباً مولوداً ، ولا يكون الساحر مستقلاً به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرّيّ عند شرب الماء .
ثم قال : قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده من إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام ، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر .(1/29)
وقال أبو حيان : واختلف في حقيقة السحر على أقوال :
الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات كالطيران ، وقطع المسافات في ليلة .
الثاني : أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها وهو قول المعتزلة .
الثالث : أنه أمرٌ يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، كما كان فعل سحرة فرعون حيث كانت حبالهم وعصيّهم مملوءة زئبقاً ، فجّروا تحتها ناراً فحميت الحبال والعصي فتحرّكت وسعت .
الرابع : أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي .
الخامس : أنه مركب من أجسام تُجمع وتحرق ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل في أمور السحر .
السادس : أن أصله طلسمات تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسُر .
السابع : أنه مركّب من كلمات ممزوجة بكفر ، وقد ضمّ إليها أنواع من الشعبذة ، والنازنجيات ، والعزائم ، وما يجري مجرى ذلك .
ثم قال : وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء ، ولا يترتب عليه شيء ، ولا يصح منه شيء البتة ، وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها .
الحكم الثاني : هل يباح تعلّم السحر وتعليمه؟
ذهب بعض العلماء : إلى أن تعلُّم السحر مباح ، بدليل تعليم الملائكة السحر للناس كما حكاه القرآن الكريم عنهم ، وإلى هذا الرأي ذهب ( الفخر الرازي ) من علماء أهل السنة .
وذهب الجمهور : إلى حرمة تعلم السحر ، أو تعليمه ، لأنّ القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذمّ ، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالاً؟
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام عدّه من الكبائر الموبقات كما في الحديث الصحيح وهو قوله صلوات الله عليه :
« اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هنّ يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
قال الألوسي : « وقيل إنّ تعلمه مباح ، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً : اتفق المحقّقون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ولو لم يُعْرف السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، فكيف يكون تعلمه حراماً وقبيحاً؟
ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به ، فيفتي به في وجوب القصاص » . انتهى .
ثم قال الألوسي : « والحق عندي الحرمة تبعاً للجمهور ، إلاّ لداعٍ شرعي ، وفيما قاله الإمام الرازي رحمه الله نظر :
أمّا أولاً : فلأنا لا ندّعي أنه قبيح لذاته ، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه ، فتحريمه من باب ( سد الذرائع ) وكم من أمرٍ حَرُم لذلك .
وأمّا ثانياً : فلأنّ توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوعٌ ، ألا ترى أن أكثر العلماء - أو كلّهم - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر ، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول .(1/30)
وأما ثالثاً : فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح ، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر ، لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر ، وإلاّ لم يُقتل .
وقال أبو حيان : وأما حكم السحر ، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب ، والشياطين ، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً ، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به ، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء .
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ، ولا العمل به ، وما كان من نوع التخييل ، والدّجل ، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل ، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره .
الحكم الثالث : هل يُقتل الساحر؟
قال أبو بكر الجصاص : اتفق السلف على وجوب قتل الساحر ، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله عليه الصلاة والسلام : « من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول ، فقد كفر بما أُنزل على محمد » .
واختلف فقهاء الأمصار في حكمه :
فروي عن أبي حنيفة أنه قال : الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب ، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وكذلك العبد المسلم ، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وهذا كله قول أبي حنيفة .
قال ابن شجاع : فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة ، وقال - نقلاً عن أبي حنيفة - إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد ، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل .
وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب ، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام ، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل .
وقال الشافعي : لا يكفر بسحره ، فإن قتَل بسحره وقال : سحري يقتل مثله ، وتعمدت ذلك قتل قوداً ، وإن قال : قد يقتل ، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية .
وقال الإمام أحمد : يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل ، وهل تقبل توبته؟ على روايتين ، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين .
والخلاصة : فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر ، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده ، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم . والشافعي يقول : بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل .(1/31)
ومالك يرى قتل الساحر المسلم لا ساحر أهل الكتاب ويحكم بكفر الساحر ولكلٍ وجهه هو مولّيها . .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - التوراة كتاب الله الذي أنزله على موسى عليه السلام والقرآن مصدّق للتوراة .
2 - نبذ اليهود ( التوراة ) ولم يعملوا بما فيها كما نبذ أخلافهم القرآن الكريم .
3 - سليمان عليه السلام كان نبياً ملكاً . ولم يكن ساحراً محترفاً للسحر .
4 - الشياطين زينوا للناس السحر ، وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب .
5 - السحر له حقيقة وتأثير على النفس ، حتى يستطيع الشخص بواسطته أن يفرق بين الرجل وأهله .
6 - الله جل ثناؤه يختبر عباده بما شاء من الأمور ابتلاءً وتمحيصاً .
7 - من تبدل السحر بكتاب الله فليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله .
8 - مدار الثواب والجزاء في الآخرة هو الإيمان بالله تعالى وإخلاص العمل له .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
لقد حرص الإسلام في كل تشريعاته على سلامة العقيدة في قلب المسلم . ليكون دائماً وأبداً متصلاً بالله ، معتمداً عليه ، مقراً له بالربوبية ، مستعيناً به على شدائد هذه الحياة ، لا يتوجه لغيره في دعاء ، ولا يقر لسواه بأي تأثير ، أو تحكم في قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها الله تعالى ، وسيَّرها بعلمه ، وقدرته ، وإرادته .
فالنجوم ، والكواكب مسخرات بأمره - كغيرها من خلق الله - تسير وفق الخط المرسوم لها من الأزل ، لا تؤثر حركتها على الإنسان الذي خلقه الله تعالى على هذه الأرض وقدّر له أرزاقه ، وأعماره ، فلا ينتهي عمر إنسان ما بظهور كوكب ، أو اختفائه ، ولا يزيد رزق امرئ ، ولا ينقص عما قدره الله تعالى له ، فكل شأن من شؤون الحياة مدبر بأمر الله .
فإن زعم إنسان أنه يعلم الغيب باتصاله بالكواكب ، وتعظيمه لها . أو اتصاله بالجن والشياطين ، ويستطيع بذلك أن يؤثر في قوانين هذه الحياة ويحكم في مسيرتها الطبيعية بما يخرجها عمّا رسم لها ، يكون بذلك قد خالف شرعة الله التي أوضحها في كتابه ، وتجاوز الحدود التي وضعت له ، وخرج عن قانون الحنيفية السمحة ، فلا جرم أن يحكم عليه بالكفر لتعظيمه غير الله ، واستعانته بغير الخالق وإثباته التأثير في خلق الله لغير البارئ - والأذى بالناس ، وقد يصل بذلك إلى التفريق بين المرء وزوجه ، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله تعالى .
وإذا كان السحر كفراً ، وخروجاً عن شرعة الإسلام ، فلا يمكن أن يوصف أحد من رسل الله تعالى بأنه ساحر ، أو أنه كان يحكم بالسحر ، ويأتي بالخوارق والمعجزات بهذا الأمر ، ولهذا جاء القرآن كتاب الله المبين منزهاً سليمان بن داود عليه السلام عن أن يكون ساحراً ، أو حاكماً بالسحر ، أو آمراً به ، فما زعمته بنو إسرائيل عن النبي الكريم - سليمان عليه السلام - زعم كاذب ، وقول باطل ، يدل على جهلهم ، بل على ضلالهم عن سواء السبيل ، وبعدهم عن الصراط المستقيم ، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته ، ولم يعلموا ما يجب في حق الرسل - عليهم السلام - وما يستحيل ، فالرسل الكرام منزهون عن الاستعانة بالشياطين ، وإنما كان الجن مسخرين لسليمان عليه السلام بأمر الله تعالى لا بالسحر .
هذا هو شرع الله المتين ، تنزيهٌ لله عن أن يشركه أحد من خلقه في التأثير ، وتنزيهٌ لرسله الكرام عما يبعدهم عن سواء السبيل ، وبيانٌ للمسلم عما يجب أن يعتقده .(1/32)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
[ 2 ] النسخ في القرآن
التحليل اللفظي
{ نَنسَخْ } : النسخُ يأتي بمعنى ( الإزالة ) تقول العرب : نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته ، ومنه قوله تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } [ الحج : 52 ] أي يزيل ما يلقيه الشيطان .
ويأتي بمعنى ( النقل ) من موضع ، ومنه قولهم : نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] .
ويأتي بمعنى ( التبديل ) تقول : نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره ، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى ، وإليه يشير قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ]
ويأتي بمعنى ( التحويل ) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد ، هذا من حيث اللغة .
وأما في الشرع : فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر ، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها ، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رحمه الله .
« النسخ : هو رفع الحكم الشرعي ، بدليل شرعيّ متأخر » .
{ نُنسِهَا } : نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب ، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة .
وقيل : من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب . ومنه قوله تعالى : { قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 126 ] وهو مروي عن ابن عباس .
قال ابن عباس : أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها .
وحكى الأزهري : نُنْسها : أي نأمرُ بتركها ، يقال : أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه ، ونسيتُه تركته ، قال الشاعر :
إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها ... لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها
وأما قراءة ( نَنْسَأها ) بالهمز ، فهو من النسأ بمعنى التأخير ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } [ التوبة : 37 ] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة .
وقال أهل اللغة : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله ، أي أخرّ وزاد .
قال الألوسي : « وقرئ ( ننسأها ) وأصلها من نسأ بمعنى أخّر ، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها ، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها ، وهو معنى ( نُنْسها ) فتتحّد القراءتان » .
{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } : أي بأفضل منها ، ومعنى فضلها : سهولتها وخفتها .
والمعنى : نأت بشيء هو خير للعباد منها ، أو أنفع لهم في العاجل والآجل .
قال القرطبي : لفظة « خير » هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية .
{ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } : الوليّ معناه القريب والصديق ، مأخوذ من قولهم : وليتُ أمر فلان أي قمتُ به ، ومنه وليّ العهد : أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين .
والنصيرُ : المعين مأخوذ من قولهم : نصره إذا أعانه .(1/33)
قال الإمام الفخر : وأمّا الولي والنصير فكلاهما ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) على وجه المبالغة .
والمعنى : ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب .
{ أَمْ تُرِيدُونَ } : « أم » تأتي : متصلة ، ومنقطعة ، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] وأما المنقطعة فهي بمعنى ( بل ) كقول العرب ( إنها الإبل أم شاء ) كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ السجدة : 3 ] أي بل يقولون .
ومثله قول الأخطل :
كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ ... غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً
قال القرطبي : « هذه ( أم ) المنقطعة التي بمعنى بل ، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخ » .
{ يَتَبَدَّلِ الكفر } : يقال : بدّل ، تبدّل ، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر ، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } [ البقرة : 175 ] .
{ سَوَآءَ السبيل } : السواءُ من كل شيء : الوسطُ ، ومنه قوله تعالى : { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] أي وسط الجحيم .
والسبيلُ في اللغة : الطريقُ ، والمراد به طريق الاستقامة .
ومعنى الآية : من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان ، فقد حاد عن الحق ، وعدل عن طريق الاستقامة ، ووقع في مهاوي الردي .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي ، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً ، ذكر هنا سرَّ النسخ ، وأبطل مقال الطاعنين فيه ، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد ، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم ، فهو أعلم بمصالح عباده ، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها ، وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، والأزمنة والأشخاص ، فينبغي تسليم الأمر لله ، وعدم الاعتراض عليه ، لأنه هو الحكيم العليم .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } : أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره ، أو نترك تبديله فنقره بحاله ، نأت بخير لكم منها - أيها المؤمنون - في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم ، أو بزيادة الأجر لكم والثواب ، أو بمثلها في الفائدة للعباد ، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم ، حكيم ، قدير ، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان ، وأنه - جل وعلا - شرع هذه الملة الحنيفية السمحة ، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار؟!
فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة ، أو جهل في المصلحة ، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد ، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق ، يحكم بما شاء ، ويأمر بما شاء ، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد ، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم ، أو ناصر ينصركم ، فلا تثقوا بغيره ، ولا تعتمدوا إلا عليه ، فهو نعم الناصر والمعين .
أتريدون - أيها المؤمنون - أن تسألوا رسولكم ، نظير ما سأل قوم موسى من قبل؟! فتضلّوا كما ضلّوا ، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا :(1/34)
{ أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم ، وتقترحوا عليه ما تشتهون ، فتصبحوا كاليهود الضالين؟!
ومن يستبدل الكفر بالإيمان ، والضلالة بالهدى ، فقد حاد عن الجادة ، وعدل عن طريق الاستقامة ، وتردّى في مهاوي الهلاك ، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم .
سبب النزول
أ - روي أن اليهود قالوا : ألا تعجبون لأمر محمداً؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه ، يناقض بعضه بعضاً فنزلت { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا . . . } الآية .
ب - روي الفخر الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقالوا يا محمد : والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ . . . } [ البقرة : 108 ] .
ج - وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال : نعم ، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا فأنزل الله { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ . . . } .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } بفتح النون من نسخ الثلاثي ، وقرأ ابن عامر ( نُنْسخ ) بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي .
قال الطبرسي : » لا يخلو من أن يكون ( أَفْعل ) لغة في ( فَعَل ) نحو بدأ وأبدأ ، وحلّ من إحرامه وأحلّ ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته ، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ ، وقول من فتح النون ( نَنْسخ ) أبينُ وأوضح .
2 - قرأ الجمهور ( نُنْسِها ) بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( نَنْسأها ) بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم : نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها ، ومنه قولهم : أنسأ الله أجلك .
وجوه الأعراب
1 - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } .
قال ابن قتيبة : أراد أو ( نُنْسكها ) من النسيان . ( ما ) شرطية جازمة و ( ننسخ ) مجزوم لأنه فعل الشرط ، و ( مِنْ ) صلة تأدباً ، و ( آية ) مفعول ل ( ننسخ ) والمعنى : ما ننسخ آية قال ابن مالك :(1/35)
وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ ... نكرةً كما لباغٍ من مفر
و ( نُنسها ) معطوف على ( ننسخ ) والمعطوف على المجزوم مجزوم ، و ( نأت ) جواب الشرط حذف منه حرف العلة ، و ( بخيرٍ ) جار مجرور متعلق بنأت .
قال العكبري : ومن قرأ بضم النون ( نُنْسها ) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير : نُنْسكها .
2 - قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] والخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سادّ مسدّ مفعولي ( تعلم ) عند الجمهور ، ومحل المفعول الأول عند الأخفش ، والمفعول الثاني محذوف .
3 - قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } أم منقطعة للإضراب ومعناها ( بل ) والتقدير : بل أتريدون ، { كَمَا سُئِلَ } الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال ، و ( ما ) مصدرية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى النسخ في القرآن ، وبيّن حكمته ، وهو الإتيان بما هو خير للعباد ، والخيرية تحتمل وجهين :
الأول : ما هو أخف على البشر من الأحكام .
الثاني : ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين .
قال القرطبي : والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه ، لا على ما هو أخف على طباعه ، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل ، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وذلك لخير العباد ، لأنه يكون أكثر ثواباً ، وأعظم جزاءً ، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد .
اللطيفة الثانية : أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية ( أو نُنْسها ) على النسيان ضد الذكر ، لأنّ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون .
والجواب كما قال ابن عطية : أن هذا النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً ، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة ، ومن هذا ما روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة ، فلما فرغ منها قال : أفي القوم أُبيّ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلِمَ لم تذكرني؟ قال : خشيت أن تكون قد رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها » .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في ( السهولة والخفة ) وليس المراد الأفضلية في ( التلاوة والنظم ) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض ، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين .
قال القرطبي : « لفظة ( خير ) هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كان مستوية ، وليس المراد ب ( أخير ) التفضيل ، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله :(1/36)
{ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] أي فله منها خير أي نفع وأجر « .
وقال أبو بكر الجصاص : » ( بخيرٍ منها ) في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباس وقتادة ، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة ، إذ غير جائز أن يقال : إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم ، إذ جميعه معجز كلام الله « .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته بدليل قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم ، وقدوتهم ، كقوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد . ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير ( أنّ الله ) و ( من دون الله ) لتربية الروعة والمهابة في نفوس المؤمنين ، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية ، وكذا الحال في قوله جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
قال العلامة أبو السعود : والمعنى : ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر ، والاستيلاء الباهر ، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً ، وأمراً ونهياً ، حسبما تقتضيه مشيئته ، لا معارض لأمره ، ولا معقّب لحكمه .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } معنى { دُونِ الله } أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت :
يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق ... وما على حدثان الدهر من باق
قال في » الفتوحات الإلهية « : » وقوله : { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أتى بصيغة فعيل في { وَلِيٍّ } و { نَصِيرٍ } لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير ، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة ، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور ، فبينهما عموم وخصوص من وجه « .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } السّواء : هو الوسط من كل شيء ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الطريق المستوي يعني المعتدل ، ومعنى ( ضل ) أي أخطأ ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل ، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل النسخ جائز في الشرائع السماوية؟
قال الإمام الفخر : النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، خلافاً لليهود ، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً ، لكنْ منع منه سمعاً ، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ .(1/37)
واحتج الجمهور : من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنسخ .
وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة ، وفي نفس شريعة اليهود ، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك باتفاق .
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : ( زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة ، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين ، كالسبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب ، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء ، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة ، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة ، إذ لم يسبقه إليها أحد ، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به ، ولا يجيزون فيه التأويل ، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة ، مع تعسف المعاني واستكراهها ، وأكثر ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك ، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ، ونقلته الأمة . . ) .
دليل أبي مسلم :
أ - احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل .
ب - كما تأول الآية الكريمة { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوارة والإنجيل ، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب .
ج - وقال : إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه .
والجوال عن الأول : أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل ، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وأما الثاني والثالث : فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة ، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة ، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي :
الحجة الأولى : قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ .
الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . . }(1/38)
[ النحل : 101 ] قالوا : إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام ، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات ، والمرفوع إمّا التلاوة ، وإمّا الحكم ، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ .
الحجة الثالثة : قوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا . . . } [ البقرة : 142 ] ثم قال تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام .
الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جلّ ذكره { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول . . . } [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] .
الحجة الخامسة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال ، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكتَ وأهلكت الناس .
قال العلامة القرطبي : ( معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لا تستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام ، وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوبون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة ) .
ثم قال : « لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء ، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور ، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغيّر ، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى » .
الحكم الثاني : ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم؟
ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام :
الأول : نسخ التلاوة والحكم معاً .
الثاني : نسخ التلاوة مع بقاء الحكم .
الثالث : نسخ الحكم وبقاء التلاوة .
أما الأول : وهو ( نسخ التلاوة والحكم ) فلا تجوز قراءته ، ولا العمل به ، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات . . روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( كان فيما نزل من القرآن « عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن » فنسخن بخمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن ) .(1/39)
قال الفخر الرازي : فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة ، والجزء الثاني ، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية .
وأما الثاني : ( نسخ التلاوة وبقاء الحكم ) فهو كما قال الزركشي في « البرهان » : يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ، كما روي أنه كان في سورة النور ( الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) . ولهذا قال عمر : ( لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي ) .
وأخرج ابن حيان : في « صحيحه » عن ( أُبيّ بن كعب ) رضي الله عنه أنه قال : « كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور - أي في الطول - ثمّ نسخت آيات منها » .
وأما الثالث : ( نسخ الحكم وبقاء التلاوة ) فهو كثير في القرآن الكريم ، وهو كما قال ( الزركشي ) في ثلاث وستين سورة . . ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية ، وآية العدة ، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والكف عن قتال المشركين . . الخ .
وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة « رسالة في الناسخ والمنسوخ » جاء فيها ما نصه :
« اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة ، ثم أمرُ القبلة ، ثم الصيام الأول ، ثم الإعراض عن المشركين ، ثم الأمر بجهادهم ، ثم أمره بقتل المشركين ، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث ، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم » الخ .
فائدة هامة : ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟
قال العلامة الزركشي : « وهنا سؤال وهو أن يسأل : ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى ، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيها : أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه .
الحكم الثالث : هل ينسخ القرآن بالسنّة؟
اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن ، وأن السنة تنسخ بالسنة ، والخبر المتواتر بغير المتواتر؟
فذهب الشافعي : إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله ، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده .
وذهب الجمهور : إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن ، وبالسنّة المطهرّة أيضاً ، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده .
دليل الشافعي :
استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ووجه الاستدلال عنده من وجوه :
الأول : أنه قال : { نَأْتِ } وأسند الإتيان إلى نفسه ، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً .
الثاني : أنه قال : { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن .(1/40)
الثالث : أنه قال في الآية : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير ، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات ، وذلك هو الله ربّ العالمين .
الرابع : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] حيث أسند التبديل إلى نفسه ، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته .
أدلة الجمهور :
احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين } [ البقرة : 180 ] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله صلى الله عليه وسلم « ألا لا وصية لوارث » ولا ناسخ إلا السنّة .
ب - نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالرجم فقط .
ج - وقالوا إنّ ما ورد في الكتاب أو السنة ، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء ، لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] .
د - وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رحمه الله بأنه استدلال غير واضح . لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام ، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها ، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ ، أيّاً كان الناسخ قرآناً ، أو سنة ، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم .
الترجيح : ومن هنا يترجح رأي الجمهور ، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول .
الحكم الرابع : هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل؟
قال الإمام الفخر : قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه ، واحتجوا بأن قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ينافي كونه أثقل ، لأنّ الثقل لا يكون خيراً منه ، ولا مثله .
والجواب : لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة؟
ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت ، إلى ( الجلد والرجم ) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر .
إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة ، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها ، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة .(1/41)
الحكم الخامس : هل يقع النسخ في الأخبار؟
جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي ، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى .
وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] .
قال ابن جرير الطبري : « يعني جل ثناؤه بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره ، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً . . ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي ، والحضر والإطلاق ، والمنع والإباحة ، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ » .
وقال القرطبي : والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي ، فتأمل هذا فإنه نفيس .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة .
2 - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد ، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام .
3 - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص ، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام .
4 - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى ، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم .
5 - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان .
6 - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم .
7 - الانحراف عن طريق الاستقامة ، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس ، متمشية مع تطور الزمن ، صالحة لكل زمان ومكان . . وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم « سنة التدرج » في الأحكام ، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية ، فلا تشعر بملل أو ضجر ، ولا تحسّ بمشقة أو شدة . . ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعة سمحة ، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد ، ولا شطط فيها ولا إرهاق .
ومن المعلوم : أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس ، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه ، ثم زالت تلك الحاجة ، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر ، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة ، وأنفع للعباد . . وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض ، باختلاف الأمزجة ، والقابلية ، والاستعداد .
والأنبياء صلوات الله عليهم هم ( أطباء القلوب ) ومصلحوا النفوس ، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة ، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة ، وجاءت بسنة « التدرج » في الأحكام ، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان ، فما يكون منها في وقت مصلحة ، قد يكون في وقت آخر مفسدة ، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى ، ذلك حكم العليم الحكيم .(1/42)
جاء في تفسير « محاسن التأويل » ما نصه : « إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية ، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية ، لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلاّ في قرون عديدة . . لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره ، وهذه سنة الخالق في الأفراد ، والأمم ، على حد سواء .
فإنك لو نظرتَ : في الكائنات الحية ، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس ، في الأمور المادية والأدبية معاً ، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشاب ، فكهل ، فشيخ ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل ، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق .
وإذا كان هذا النسخ : ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى؟
هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل ، أنّ من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري؟!
وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلّف الأمة وهي في دور ( طفوليتها ) بما لا تتحمله إلا في دور ( شبوبيتها ) وكهولتها . . ؟
وأيّ الأمرين أفضل : أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه ، لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان؟ أم شرائع دينية أخرى ، حرّفها كهّانها ، ونسخ الوجود أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه . . ؟! »(1/43)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
[ 3 ] التوجه إلى الكعبة في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
التحليل اللفظي
{ السفهآء } : أصل السفه في كلام العرب : الخفة والرقة ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسخ خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً ، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة :
مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ ... أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ
والسّفه : ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل ، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } [ النساء : 5 ] .
{ ولاهم } : يعني صرفهم ، يقال : ولىّ عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف ، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب .
{ قِبْلَتِهِ } : القبلة من المقابلة وهي المواجهة ، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة .
{ وَسَطاً } : أي عدولاً خياراً ، ومنه قوله تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] أي خيرهم أو عدلهم ، قال الشاعر :
هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم
وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها ، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان .
قال الجوهري في « الصحاح » : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي عدلاً ، وكذلك روي عن الأخفش ، والخليل .
وقال الزمخشري : وقيل للخيار وسطٌ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام .
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفاً
{ عَقِبَيْهِ } : العقبان : تثنية عقب ، وهو مؤخر القدم ، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع ، يُقال : انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء .
والمعنى : لنعلم من يثبت على الإيمان ، ممّن يرتد عن دين الإسلام ، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال ، والكلام فيه استعارة كما سيأتي .
{ لَكَبِيرَةً } : أي شاقة ثقيلة تقول : كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل .
{ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } : الرأفة هي الرحمة ، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه ، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب .
{ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } : تقلّبُ الوجه في السماء : ترّدده المرة بعد المرة فيها ، والسماءُ مصدر الوحي ، وقبلة الدعاء .
قال الزجاج : المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء .
وقال قطرب : تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان .
ومعنى الآية : كثيراً ما نرى تردّد وجهك ، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقاً لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة .
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } : أي لنمكننّك من استقبالها ، من قولك : وليّتُه كذا إذا جعلته والياً له ، فيكون من الولاية ، أو من التولي ، والمعنى : فلنجعلنّك متولياً جهتها ، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب .
{ شَطْرَ المسجد } : والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر :
أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « الطهور شطر الإيمان »(1/44)
والشاطر : الشاب البعيد عن أهله ومنزله ، وهو من أعيا أهله خُبْثاً ، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال : هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه .
ومعنى الآية : فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة .
{ أُوتُواْ الكتاب } : المراد بهم أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، والكتابُ : التوراةُ والإنجيل .
وجه المناسبة بين الآيات
كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة ، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملته ، وتجديد دعوته ، ولأنها أقدم القبلتين ، وقد كان اليهود يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ، ويتّبع قبلتنا ، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم البقاء على قبلتهم ، حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة .
وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال ، من اليهود المنافقين ، قبل تحويل القبلة ، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم ، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه ، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم ، وقد قيل في الأمثال « مثل الرمي يراشُ السهم » وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : سيقول السفهاء من الناس - وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين - ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم؟ قل لهم يا محمد : لله المشرق والمغرب ، الجهات كلّها لله ، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة ، يهدي من شاء من عباده ، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين .
وكما هديناكم - أيها المؤمنون - فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته ، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل ، فجعلناكم أمة عدولاً خياراً ، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله ، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف ، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة ، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه ، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين ، فينافق أو يكفر ، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات ، وما كان الله ليضيع صلاتكم ، إن الله رحيم بعباده ، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم ، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء .
كثيراً ما رأينا تردّد بصرك - يا محمد - جهة السماء ، تطلعاً للوحي وتشوقاً لتحويل القبلة ، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها ، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام ، وأنتم - أيها المؤمنون - استقبلوا بصلاتكم جهته أيضاً ، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم ، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين ، ليشككوهم في دينهم ، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم ، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن ، المحاسب على ما في السرائر .(1/45)
سبب النزول
أ - أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ( صلاة العصر ) وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
ب - وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بالمد في { رؤوف } مع الهمز على وزن فعول ، وقرأ الكسائي وحمزة { لَرَءُوفٌ } على وزن رَعُف ، ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز ، قال جرير :
ترى للمسلمين عليكَ حقاً ... كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم
ثانياً : قرأ الجمهور { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالياء في { يَعْمَلُونَ } فيكون وعيداً لأهل الكتاب ، وقرأ الحمزة والكسائي { عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالتاء فيكون وعيداًَ للفريقين : المؤمنين والكافرين .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : كما هديناكم جعلناكم أمة وسطاً ، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و ( أمة ) مفعول ثانٍ لجعلنا ، و ( وسطاً ) صفة لها .
ثانياً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ( إنْ ) مخففة من ( إنّ ) الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، واللام في قوله ( الكبيرة ) للفرق بين المخففة والنافية ، كما في قوله تعالى : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] وزعم الكوفيون أنها نافية ، واللام بمعنى إلاّ ، أي ما كانت إلا كبيرة ، قال العكبري : وهو ضعيف جداً من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة ، والإخبار فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على صدق ما جاء به ، لأنه إخبار عن أمر مغيّب ، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد .(1/46)
قال الزمخشري في « الكشاف » : « فإن قلت : أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشد ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم ، وأردّ لشَغَبه ، وقبل الرمي يُراش السهم » .
اللطيفة الثانية : ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء ( اليهود ، والمشركين ، والمنافقين ) في قوله جل وعلا : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وتقريره أنّ الجهات كلها لله تعالى ، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة ، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة ، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب ، واتباع أمره في توجه الوجوه .
فكيف يعترضون عليك يا محمد؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام ، سفهاء الأحلام .
اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى : { أُمَّةً وَسَطاً } فيه لطيفة ، وهي أن خير الأمور أوساطها ، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقصُ عنه تفريط وتقصير ، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة ، فهو شر ومذموم ، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر ، أي التوسط بينهما .
وذكر ابن جرير الطبري : « أنه من التوسط في الدين ، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود ، الذين قتلوا الأنبياء ، وبدّلوا كتاب الله ، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ، وغلوا في الترهيب غلواً كبيراً ، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها » .
اللطيفة الرابعة : في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية ، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون ، فتقول الأمم : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ فيقولون : نشهد بإخبار الله عز وجل الناطق ، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيزكيهم ويشهد بعدالتهم .
أخرج البخاري في « صحيحه » : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت فيقول : نعم ، فيقال لأمته : هل بلّغكم؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيقول : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فيشهدون أنه قد بلّغ «(1/47)
، فذلك قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول } أوّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى ( لنعلم ) لنرى . والعرب تضع العلم ماكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] بمعنى : ألم تعلم .
قال الطبري : « الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها ، وإنما تأويل الآية { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليعلم رسولي وأوليائي ، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس ، نحو فتح عمر سواد العراق ، وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه » .
وقال ابن عباس : المعنى : لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة ، ففسّر العلم ب ( التمييز ) لأن بالعلم يقع التمييز .
وقال الزمخشري في « الكشاف » : المراد بالعلم ( علم المعاينة ) الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] .
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه ، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل ، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر } [ المدثر : 23 ] .
اللطيفة السابعة : سمّى الله تعالى الصلاة ( إيماناً ) في قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها ، ولأنها تشتمل على نيّة ، وقول ، وعمل .
قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : لمّا وُجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، قالوا يا رسول الله : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
ثمّ قال : فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل .
قال مالك : وفيه رد على من قال : إن الصلاة ليست من الإيمان .
اللطيفة الثامنة : قال الزمخشري : إنّ ( قد ) هنا بمعنى ( ربما ) وهي للتكثير ، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر :
قد أتركُ القِرْنَ مصفَرّاً أناملُه ... كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد
قال أبو حيان : التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب ، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثاً لا يقال : إنه قلّب ، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير .
والتعبير بقوله تعالى : { قَدْ نرى } بمعنى قد رأينا ، لأن { قَدْ } تقلب المضارع ماضياً كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين } [ الأحزاب : 18 ] وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ } [ الحجر : 97 ] أي قد علمنا .
اللطيفة التاسعة : قال المحققون من أهل التفسير : في قوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه ، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } وفي سبب محبته عليه الصلاة والسلام التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه :
الأول : مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون : يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل .(1/48)
الثاني : أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمن .
الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام .
الرابع : منشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلتده ومنشئه .
اللطيفة العاشرة : في التعبير عن ( الكعبة ) بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، والسرّ في الأمر بالتولية خاصاً وعاماً { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ثم قال : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } مع أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة ، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم ، لأن الأمر بالصرف كان فيها ، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية .
قال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته عليه الصلاة والسلام ، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ عليه الصلاة والسلام به ، كما خُصّ في قوله { قُمِ اليل } [ المزمل : 2 ] ، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟
ورد ذكر { المسجد الحرام } في آيات متفرقة من القرآن الكريم ، وفي السنة المطهرة أيضاً ، وقصد به عدة معان :
الأول : الكعبة ، ومنه قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } أي جهة الكعبة .
الثاني : المسجد كلّه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » وقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تُشدّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » .
الثالث : مكة المكرمة كما في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من مكة المكرمة ، وقوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] وقد صدورهم عن دخول مكة .
الرابع : الحرم كله ( مكة وما حولها من الحرم ) كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] والمراد منعهم من دخول الحرم .
والمراد بالمسجد الحرام هنا هو المعنى الأول ( الكعبة ) والمعنى : فولّ وجهك شطر الكعبة .(1/49)
الحكم الثاني : هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟
استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة ، لا تصح الصلاة بدونه ، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع ، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة ، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته ، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به ، وفيه نزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] .
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة؟
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة .
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة ، هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها ، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة ، والفريق الأول يقولون : لا بدّ للمشاهد من إصابة العين ، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة ، والفريق الثاني يقولون : يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة .
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب ، والسنة ، والقياس .
أ - أما الكتاب ، فهو ظاهر هذه الآية { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ووجه الاستدلال : أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته ، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب .
وأما السنة : فما روي في « الصحيحين » عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال : « لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها ، ولم يصلّ حتى خرج منه ، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة ، وقال : هذه القبلة » .
قالوا : فهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة .
ج - وأما القياس : فهو أنّ مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة ، أمر بلغ مبلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف ، فوجب أن يكون مشروعاً .
وقالوا أيضاً : كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه ، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة .
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب ، والسنة وعمل الصحابة ، والمعقول .
أ - أما الكتاب : فظاهر قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ولم يقل : شطر الكعبة ، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام ، فقد أتى بما أمر به سواء أصابَ عين الكعبة أم لا .
ب - وأما السنة : فقوله عليه الصلاة والسلام : « ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ » .
وحديث : « البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي » .(1/50)
ج - وأما عمل الصحابة : فهو أنّ أهل ( مسجد قباء ) كانوا في صلاة الصبح بالمدينة ، مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين الكعبة ، فقيل لهم : إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، وسُمّي مسجدهم ( بذي القبلتين ) . ومعرفةُ عين الكعبة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة ، وفي ظلمة الليل؟
د - وأما المعقول : فإنه يتعذر ضبط ( عين الكعبة ) على القريب من مكة ، فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها؟ ولو كان استقبال عين الكعبة واجباً ، لوجب ألا تصحّ صلاة أحدٍ قط ، لأن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة ، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجّه إلى جهة الكعبة ولم يصب عينها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
ومن جهة أخرى : فإن الناس من عهد النبي عليه الصلاة والسلام بنوا المساجد ، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة ، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب ، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
الترجيح : هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك ، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني ( المالكية والأحناف ) أقوى برهاناً ، وأنصع بياناً ، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا ، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق ، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم ، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا : « إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً ، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً » وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً ، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة ، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها ، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
قال العلامة القرطبي : في تفسيره « الجامع لأحكام القرآن » ما نصّه :
« واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين ، أو الجهة ، فمنهم من قال بالأول ، قال ابن العربي : وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه ، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه :
الأول : أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف .
الثاني : أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
الثالث : » أنّ العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت « .
الحكم الثالث : هل تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة؟
وبناءً على الخلاف السابق : هل القبلة عين الكعبة أم جهتها؟ انبنى خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة ، هل تصح أم لا؟
فذهب الشافعية والحنابلة : إلى عدم صحة الصلاة فوقها ، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها إنما يستقبل شيئاً آخر .(1/51)
وأجاز الحنفية : الصلاة فوقها مع الكراهية ، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب ، إلا أنّ الصلاة تصحّ بناء على مذهبهم من أن القبلة هي الجهة : من قرار الأرض إلى عنان السماء ، والله تعالى أعلم .
الحكم الرابع : أين ينظر المصلي وقت الصلاة؟
ذهب المالكية : إلى أن المصلي ينظر في الصلاة أمامه .
وقال الجمهور : يستحبُ أن يكون نظره إلى موضع سجوده ، وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى حجْره .
قال القرطبي : في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه ، في أنّ المصلي حكمُه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
قال ابن العربي : « إنما ينظر أمامه ، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، وما جعل علينا في الدين من حرج » .
الترجيح :
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، فإن المصلي إذا نظر إلى مكان السجود لا يخرج عن كونه متوجهاً إلى الكعبة ، وإنما استحبوا ذلك حتى لا يتشاغل في الصلاة بغيرها وليكون أخشع لقلبه والله أعلم .
وهناك أحكام أخرى جزئية تطلب من كتب الفروع .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم .
ثانياً : الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى .
ثالثاً : الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة .
رابعاً : تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق .
خامساً : أدب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى .
سادساً : الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد .
سابعاً : أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، هو قبلة أهل الأرض ، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله .
وقد اقتضت حكمة الله أن يجمع ( أمة التوحيد ) على قبلةٍ واحدة ، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق ، ليكون مثابة للناس وأمناً ، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني ، ومكاناً لحج بيته المعظم ، يأتيه الناس من كل فج عميق(1/52)
{ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] . وقد أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة ، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس ، واختبار صدق يقينهم ، ليظهر المؤمن الصادق ، من الكاذب المنافق ، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله ، قيادة ركب الإنسانية ، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى : { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس . . . } [ الحج : 78 ] .
فالكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد - ومظهر الإيمان ، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم ، وسرّ اجتماع كلمتهم ، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم ، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ . . . } .
قال الإمام الفخر : ( وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً :
أحدها : أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم ، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه ، وألا يكون معرضاً عنه ، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ، ويبالغ في الخدمة والتضرع له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه ، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة .
وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب ، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة ، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين ، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى .
وثالثها : أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً . . . } [ آل عمران : 103 ] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية ، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً ، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة ، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك .
ورابعها : أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [ الحج : 26 ] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه { ياعبادي } [ العنكبوت : 56 ] ، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم ، فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنتَ عبدي ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي ، وبقلبك إليّ . . ) .(1/53)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
[ 4 ] السعي بين الصفا والمروة
التحليل اللفظي
{ الصفا والمروة } : الصفا في أصل اللغة : الحجرُ الأملس ، واشتقاقه من صفا إذا خلص ، ومنه الصفوان وهو الحجر الأملس الصلب قال تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } [ البقرة : 264 ] ، والصفا جمعٌ مفردة ( صفاة ) قال جرير :
إنّا إذا قرع العدو صفاتنا ... لاقوالنا حجراً أصمّ صلودا
قال المبرّد : الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين .
وأما المروة : فقال الخليل : هي من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة ، وجمعها ( مرو ) مثل تمرة وتمرٌ قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مَرْوةٌ ... بصفا المشاعر كلّ يوم يُقرع
قال الألوسي : وقد صار في العُرف علمين لموضعين ( جبلين ) معروفين بمكة
{ شَعَآئِرِ الله } : جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة ، ومنه الشعار للعلامة ، وأشعر الهدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هديٌ قال الشاعر :
نقتّلهمْ جيلاً فجيلاً تراهُمُ ... شعائر قُربانَ بهمُ يتقرب
والمراد أن هذين الموضعين من علامات دين الله ، ومن معالمه ومواضع عباداته .
والشعائر تطلق على كل معالم الدين التي تعبدنا الله تعالى بها كالطواف ، والسعي والأذان الخ .
{ حَجَّ } : الحجّ في اللغة : القصدُ وإكثار التردّد إلى الشيء ، قال الشاعر :
ألم تعلمي يا أمّ عمرةَ أنني ... تخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا
وأشهد من عوفٍ حلولاً كثيرة ... يحجّون بيتَ الزّبرقان المزغفرا
يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته .
وفي الشرع : هو قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة وسائر الأعمال .
{ اعتمر } : العمرة في اللغة : الزيارة ، والمعتمر : الزائر لأنه يعمر المكان بزيارته له قال الشاعر :
« لقد سَمَا ابنُ مَعْمرٍ حين اعتمر » ... وفي الشرع : زيارة البيت لأداء نُسك معين من الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير . وليس في العمرة وقوف بعرفة ، ولا مبيت بمزدلفة ، ولا رمي جمار إلى آخر ما هو معروف في الفقه .
{ جُنَاحَ } : الجناح بالضم : الميلُ إلى الإثم ، وقيل : هو الإثم نفسه ، سمي جناحاً لأنه ميل إلى الباطل .
قال في « لسان العرب » : جنح : مال . وجنحت الناقة : إذا مالت على أحد شقيها ، وجنحت السفينة إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض .
قال ابن الأثير : وقد تكرر الجناح في الحديث فأين ورد فمعناه الإثم والميل .
والمعنى : لا إثم عليكم ولا حرج ولا تضييق في السعي بين الصفا والمروة .
{ يَطَّوَّفَ } : أي يتطوّف أدغمت التاء في الطاء ، مثل ( المزمّل ) و ( المدّثر ) أصله المتزمل والمتدثر ، وطاف وأطاف بمعنى واحد .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : إن الصفا والمروة - أيها المؤمنون - من علامات دين الله ، التي جعلها الله لعباده معلماً ومشعراً ، يعبدونه عندها بالدعاء ، والذكر ، وسائر أنواع القربات .
والسعيُ بين هذين الجبلين شعيرة من شعائر الدين ، ومنسك من مناسك الحج لا يصح التفريط فيه ، لأنه تشريع الحكيم العليم ، الذي أمر به خليله إبراهيم عليه السلام ، حين سأل ربه أن يريه مناسك الحج(1/54)
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] .
فمن قصد منكم - أيها المؤمنون - بيت الله العتيق للحج ، أو قصده للزيارة ، فلا يتحرجنّ من الطواف بينهما ، إذ لا إثم عليه ولا حرج لأنه إنما يسعى لله ، امتثالاً لأمره ، وطلباً لرضاه ، والمشركون يطوفون للأصنام ، وأنتم تطوفون لله ربّ العالمين . فلا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين ، فهم يطوفون بهما كفراً ، وأنتم تطوفون بهما إيماناً وتصديقاً لرسولي ، وطاعة لأمري ، فلا إثم ولا جناح عليكم في الطواف بهما ، ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه ، فإن الله شاكر له طاعته ، ومجازيه عليها خير الجزاء يوم الدين .
سبب النزول
أ - عن عائشة رضي الله عنها أن عُروة بن الزبير قال لها : أرأيتِ قول الله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فما أرى على أحدٍ جُناحاً ألاّ يطّوف بهما ، فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت « فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما » ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله : إنّا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله . . . } قالت عائشة ثمّ قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحدٍ أن يدع الطواف بهما .
ب - وأخرج البخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال : « كنّا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله . . } .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور : ( ومن تَطوّعَ ) بالتاء وفتح العين على أنه ماضٍ من التطوع ، وقرأ حمزة والكسائي ( ومن يَطوّعْ ) بالياء مجزوم على أنه فعل مضارع إلا أنّ التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } .
قال العكبري : في الكام حذف مضاف تقديره : إن سعي الصفا ، وألف الصفا مبدلة عن ( واو ) لقولهم في تثنيته صفوان و ( من شعائر الله ) خبر إنّ .
2 - قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } مَنْ : اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ ، وجملة { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ } خبر المبتدأ ، وأجاز بعضهم أن تكون ( من ) شرطية والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال الإمام الفخر : » اعلم أن تعلّق هذه الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى بيّن أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ، ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه ، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم كما في قصة بناء الكعبة ، وسعي هاجر بين الجبلين ، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية « .(1/55)
اللطيفة الثانية : السعيُ بين الصفا والمروة إمّا فرض أو واجب ، أو مسنون ، فكيف نفى الله تعالى الجناح ( الإثم ) عمن سعى بينهما؟
والجواب : إنه كان على الصفا صنم يقال له : ( إساف ) وعلى المروة صنم يقال له : ( نائلة ) كما قال ابن عباس وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما ، فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية ، وتحرجوا من الطواف لهذا السبب ، فنزلت الآية تدفع الحرج عنهم ، لأنهم إنما يسعون لله لا للأصنام .
اللطيفة الثالثة : الشكر معناه مقابلة النعمة والإحسان ، بالثناء والعرفان ، وهذا المعنى محال على الله ، إذ ليس لأحد عنده يد ونعمة حتى يشكره عليها ، فقوله تعالى : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } محمول على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين .
قال العلامة أبو السعود : « المعنى أنه تعالى مجازٍ له على الطاعة ، عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان على العباد » فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكراً ، وسمى الله تعالى نفسه شاكراً ، على سبيل المجاز .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟
اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال :
1 - القول الأول : أنه ركن من أركان الحج ، من تركه يبطل حجه وهو مذهب ( الشافعية والمالكية ) وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو مروي عن ابن عمر ، وجابر ، وعائشة من الصحابة .
2- القول الثاني : أنه واجب وليس بركن ، وإذا تركه وجب عليه دم ، وهو مذهب ( أبي حنيفة والثوري ) .
3 - القول الثالث : أنه تطوع ( سنّة ) لا يجب بتركه شيء ، وهو مذهب ابن عباس ، وأنس ، ورواية عن الإمام أحمد .
دليل المذهب الأول :
استدل القائلين بأن السعي ركن وهم ( الجمهور ) بما يلي :
أ - قوله عليه الصلاة والسلام : « اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي » .
ب - ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سعي في حجة الوداع ، فلما دنا من الصفا قرأ { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } فبدأ بالصفا وقال : « أبدؤوا بما بدأ الله به » ثم أتمّ السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أن يقتدروا به فقال : « خذوا عني مناسككم » والأمر للوجوب فدل على أنه ركن .
ج - حديث عائشة : ( لعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة ) .
د - وقالوا : إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ، وهو نسك في الحج والعمرة ، فكان ركناً فيهما كالطواف بالبيت .(1/56)
دليل المذهب الثاني :
واستدلّ ( أبو حنيفة والثوري ) على أنه واجب وليس بركن بما يلي :
أ - إن الآية الكريمة رفعت الإثم عمّن تطّوف بهما { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ورفعُ الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن ، ولكنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم جعله واجباً فصار كالوقوف بالمزدلفة ، ورمي الجمار ، وطواف الصدر ، يجزئ عنه دم إذا تركه .
ب - واستدل بما روى الشعبي عن ( عروة بن مضرس الطائي ) قال : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله : جئت من جبل طي ، ما تركتُ جبلاً إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام : من صلى معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا هذا الموقف ، وقد أدرك عرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه » .
ووجه الاستدلال في الحديث من وجهين :
أحدهما : إخباره بتمام الحج وليس فيه السعي بين الصفا والمروة .
والثاني : أنه لو كان من فروضه وأركانه لبيّنه للسائل لعلمه بجهله بالحكم .
دليل المذهب الثالث :
واستدل من قال بأنه تطوع وليس بركنٍ ولا واجب بما يلي :
أ - قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } فبيّن أنه تطوع وليس بواجب ، فمن تركه لا شيء عليه عملاً بظاهر الآية .
ب - حديث ( الحج عرفة ) قالوا : فهذا الحديث يدل على أنّ من أدرك عرفة فقد تمّ حجه ، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ، العمل ترك به في بعض الأشياء ، فبقي العمل معمولاً به في السعي .
قال ابن الجوزي : « واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة ، فنقل الأثرم أنّ من ترك السعي لم يجزه حجه ، ونقل أبو طالب : لا شيء في تركه عمداً أو سهواً ، ولا ينبغي أن يتركه ، ونقل الميموني أنه تطوع » .
الترجيح : ورجّح صاحب « المغني » المذهب الثاني وقال : هو أولى لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب ، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به ، وقول عائشة مُعَارَضٌ بقول من خالفها من الصحابة .
أقول : الصحيح قول الجمهور لأن النبي عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة وقال : « خذوا عني مناسككم » والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واجب ودعوى من قال : إنه تطوع أخذاً بالآية غير ظاهر لأن معناها كما قال الطبري : أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها .
2 - السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام .(1/57)
3 - تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما .
4 - السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة .
5 - التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان .
6 - الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة ، عند الحج أو العمرة ، وجعل السعي من شعائر دين الله ، ومن معالم طاعته ، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية ، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه ( هاجر ) المؤمنة الصابرة ، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس ، ولا سمير ، ولا ساكن . . تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة ، التي لا يسكنها أحد ، لأن الله عز وجل يريد أن يعمرها بالسكان ، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق ، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر .
وكان إسماعيل طفلاً رضيعاً ، فلما أراد إبراهيم عليه السلام الرجوع ، تبعته ( أم إسماعيل ) فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الفقير ، الذي لا أنيس فيه ولا سمير!؟ فجعل لا يلتفت إليها مخافة أن تصرفه عن تنفيذ أمر الله ، ثم قالت يا إبراهيم : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذاً لا يضيّعنا الله .
ثم رجعت وانطلق إبراهيم عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنيّة بحيث يراهم ولا يرونه ، استقبل بوجهه جهة البيت ثم دعا بهذه الدعوات المباركات ، التي ذكرها القرآن الكريم { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
ثم انطلق يقطع الصحارى والقفار ، حتى عاد إلى وطنه الأول في أرض فلسطين ، بعد أن ترك زوجه وولده في رعاية الله وحفظه .
بقيت ( أم إسماعيل ) وحيدة مع طفلها ترضعه ، وتشرب من ذلك السقاء الذي معها ، وتأكل من الثمر الذي تركه لها إبراهيم عليه السلام ، حتى إذا نفذ ما في السقاء ، ولم يبق عندها ماء ، عطشت عطشاً شديداً ، وعطش ولدها ( إسماعيل ) فجعلت تنظر إليه يتلوّى من شدة العطش ، يكاد يهلكه الظمأ ، فانطلقت تفتش له عن ماء ، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ ولكنها لم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى وصلت إلى المروة فلم تر أحداً ، فأخذت تهرول وتسعى بين ( الصفا والمروة ) سبع مرات .
قال ابن عباس : « فذلك سعي الناس بينهما » حتى إذا أشرفت على الهلاك ، وتلاشت قواها سمعت صوتاً من بعيد ، فقالت : قد أسمعتَ فأغثْ إن كان عندك غواث ، ثمّ نظرت فإذا هي برجلٍ جميل الطلعة عند مكان زمزم ، فهرولت نحوه تظنه بشراً ، فإذا هو ملك من ملائكة الله ، فضرب بجناحه الأرض فإذا بالماء يفور كأنه نبع دافق ، وكانت ( زمزم ) التي هي آية من آيات الله ، ثم قال لها الملك : لا تخافي الضياع فإن لله هاهنا بيتاً سوف يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لن يضيّع أهله « .
هذه خلاصة تلك الحادثة التاريخية ، والذكرى الخالدة ، التي أراد الله أن يعمر بها بيته العتيق ، ويجعل منها مناسك للحج وشعائر لدينه الإسلامي المجيد .(1/58)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
[ 5 ] كتمان العلم الشرعي
التحليل اللفظي
{ يَكْتُمُونَ } : الكتمان : الإخفاء والستر ، قال الراغب : الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً .
قال الألوسي : « الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه ، وتحقيق الداعي إلى إظهاره ، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه ، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه ، واليهود - قاتلهم الله - ارتكبوا كلا الأمرين » .
{ البينات } : الآيات الواضحات الدالة على الحق ، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة ، عقلية كانت أو حسيّة ، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود .
والمراد بالبينات في الآية : ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عليه الصلاة والسلام .
{ والهدى } : الهدى كلّ ما يدل على الخير ، ويهدي إلى الرشد ، من الهداية وهي الدلالة على الشيء .
قال أبو السعود : المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه ، عبّر عنها بالمصدر مبالغة .
{ يَلعَنُهُمُ الله } : أي يطردهم ويبعدهم من رحمته ، وأصل اللعن : الإبعاد والطرد قال الشماخ :
مقام الذئب كالرجل اللعين ... أي الطريد .
{ اللاعنون } : قال ابن عباس : اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين .
وقال مجاهد : هم دواب الأرض وهوامّها ، تقول : مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم .
والصحيح أنهم : ( الملائكة ، والأنبياء ، وجميع الناس ) لقوله تعالى : بعد هذه الآية : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً .
{ تَابُواْ } : أي رجعوا عن الكتمان . وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان .
{ وَأَصْلَحُواْ } : أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف ، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم .
{ وَبَيَّنُواْ } : أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتموه من دين الله .
{ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } : أي المبالغ في قبول التوبة ، الرحيم بالعباد ، وهما من صيغ المبالغة .
وجه المناسبة
كان أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه ، أو السؤال عنه ، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يؤمن به الناس ، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني ، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه ، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات ، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات ، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه رسول الله ، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارية به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم أوصافه . لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل(1/59)
{ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول ، المتلاعبون بأحكام الدين ، المحرفون للتوراة والإنجيل ، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله ، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين ، إلاّ من تاب عن كتمانه ، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ، فلم يكتمه ولم يُخفه ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته ، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد ، يتغمدهم برحمته ، ويشملهم بعفوه ، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات .
سبب النزول
1 - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه ، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً . . روي السيوطي في « الدر المنثور » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ( معاذ بن جبل ) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبرونهم ، فأنزل الله فيهم { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى { فِي الكتاب } المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية ، ف ( أل ) تكون ( للجنس ) مثلها في قوله تعالى : { والعصر* إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر } [ العصر : 1-2 ] وقيل : المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل ، فتكون ( أل ) للعهد الذهني .
اللطيفة الثانية : عبّر باسم الإشارة البعيد { أولئك يَلعَنُهُمُ الله } تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام ، والإفساد ، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته ، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه ، وأبرز اسم الجلالة { يَلعَنُهُمُ الله } على سبيل الإلتفات لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال ( أولئك نلعنهم ) .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } ضربٌ من البديع يسمى ( الجناس المغاير ) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً ، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } جاء اللفظان بصيغة المبالغة ، لأن ( فعّال ) و ( فعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :
فعّال أو مفعال أو فعول ... في كثرةٍ عن فاعل بديل
والمعنى : كثير التوبة ، واسع المغفرة والرحمة .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟
الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، الذين كتموا صفات النبي عليه الصلاة والسلام كما دلّ على ذلك سبب النزول ، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله ، مخفٍ لأحكام الشريعة ، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا ( بخصوص السبب ) ، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } لذلك تعم .
قال أبو حيان : « والأظهر عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله ، يُحتاج إلى بثه ونشره .(1/60)
وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : « من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار » وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم ، وهم العرب الفُصح ، المرجوع إليهم في فهم القرآن ، كما روي عن أبي هريرة : « لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } » الآية .
الحكم الثاني : هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين؟
استدل العلماء من قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات . . . } الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن ، أو تعليم العلوم الدينية ، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه ، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه ، كما لا يستحق الأجر على الصلاة ، لأنها قربة وعبادة ، لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها .
غير أن المتأخرين من العلماء لما رأوا تهاون الناس ، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني ، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا ، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله ، وسائر العلوم الدينية ، فينعدم حفظة القرآن ، وتضيع العلوم ، لذلك أباحوا أخذ الأجور ، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين ، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة ، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين . لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز .
قال أبو بكر الجصاص : « وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم ، وترك كتمانه ، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟!
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً ، لأن قوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن ، وسائر علوم الدين » .
وقال الفخر الرازي : « احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم ، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم ، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب ، وأنه غير جائز ، وقوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً }(1/61)
[ البقرة : 174 ] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه « .
أقول : هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة ، وهي نظرة جديرة بالتقدير ، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين ، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم ، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به .
2 - كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء .
3 - يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر .
4 - من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة .
5 - لا تكفي التوبة وحدها بل لا بدّ من إصلاح السيرة ، وإخلاص العمل .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشرائع السماوية ، لهداية البشرية ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد أمرنا الإسلام بتعليم الجاهل ، وهداية الضال ، ودعوة الناس إلى الله ، حتى تقوم الحجة على الناس ، ولا يبقى لأحدٍ عذر عند الله يوم القيامة .
ولمّا كان ما أنزله الله من البينات والهدى ، لم ينزل إلاّ لخير الناس ، وهداية البشرية إلى الطريق المستقيم ، وكان كتم العلم وعدم تبليغه إلى الناس فيه تعطيل لوظيفة الرسالة ، التي بعث الله بها رسله وأنبياءه ، وفيه خيانة للأمانة التي ائتمن الله عليها العلماء { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ . . . } [ آل عمران : 187 ] لذلك فقد شدّد الله النكير على من كتم شيئاً ممّا يحتاج الناس إليه ، وخاصة من أمور الدين ، وأوعد بالعذاب الأليم لكل من كتم آيات الله ، أو أخفى أحكام الشريعة ، لأن الكتمان جرم عظيم ، يستحق مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله عز وجل .
وفي هذا دلالة واضحة ، على عناية الإسلام العظيمة ، بنشر العلم والثقافة ، لتبليغ دعوة الله إلى الناس وانتشال الأمة من براثن الجهل والضلالة ، فنشر العلم عبادة ، وكتمه جناية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : » بلّغوا عين ولو آية « وقال صلوات الله وسلامه عليه : » من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار « .(1/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
[ 6 ] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
التحليل اللفظي
{ واشكروا للَّهِ } : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين :
أحدهما : الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
والثاني : صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له .
{ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } : الإهلال رفع الصوت ، يقال : أهلّ بكذا أي رفع صوته ، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة ، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر :
يُهلّ بالفرقد ركبانُها ... كما يُهلْ الراكبُ المعتمر
وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً ، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم .
والمعنى : حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت ، وذكر عليه اسم غير الله . قال الزمخشري : وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى .
{ اضطر } : أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله .
قال القرطبي : فيه إضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو ( افتعل ) من الضرورة وأصله ( اضطرر ) .
{ بَاغٍ } : الباغي في اللغة : الطالب لخير أو لشر ومنه حديث « يا باغي الخير أقبل » وخُصّ هنا بطالب الشر .
قال الزجاج : البغي قصدُ الفساد ، يقال : بغى الجرح إذا ترامى للفساد . وبغت المرأة إذا فجرت .
{ عَادٍ } : اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد .
والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته ، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها .
قال الطبري : « وأولى هذه الأقوال قول من قال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ } بأكله ما حرم عليه من أكله { وَلاَ عَادٍ } في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى » .
المعنى الإجمالي
يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال ، والرزق الطيب ، والمتاع النافع ، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم ، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب ، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم ، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان ، عابدين الله منقادين لحكمه ، مطيعين لأمره ، لا يعبدون الأهواء والشهوات .
ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة ، التي تنفر منها الطباع السليمة ، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن ، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وسائر الخبائث ، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة ، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله ، لكنّ إذا اضطر الإنسان ، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، غير باعٍ بأكله ما حرم الله عليه ، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة ، لأن الله غفور رحيم ، يغفر للمضطر ما صدر عن غير إرادة ، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج .(1/63)
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله ، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا ، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض ، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها ، بشرط أن تكون حلالاً طيباً ، { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين ، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم ، وأحرى بالاهتداء .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل { حَرَّمَ } أي حرّم الله و { الميتة } بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالبناء للمفعول والتشديد ( إنما حرّم عليكم الميّتَة ) .
قال القرطبي : التشديدُ والتخفيف في ( ميّت ) و ( مَيْت ) لغتان ، وقد جمعا في قول الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما المْيتُ ميّتُ الأحياء
والمشهور عند أهل اللغة : ( الميْت ) بالتخفيف من مات فعلاً ، وبالتشديد ( ميّت ) من سيموت كما في قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] إنك ستموت وإنهم سيموتون .
2 - قرأ الجمهور ( فمن اضطُرّ ) بضم الطاء ، وقرأ أبو جعفر ( فمن اضطِرّ ) بكسر الطاء ، وأدغم ابن محيص الضاد في الطاء ( فمن اطرّ ) .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله .
2 - قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ } إنمّا مكفوفة عن العمل وهي حرف واحد تفيد الحصر و ( الميتة ) مفعول ل ( حرّم ) والمعنى : ما حرّم عليكم إلا الميتة . . . الخ .
3 - قوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ } غيرَ منصوب على الحال ( ولا عاد ) معطوف على باغٍ وتقديره لا باغياً ولا عادياً .
قال القرطبي : ( غيرَ ) نصبٌ على الحال ، وقيل : على الاستثناء ، وإذا رأيت ( غير ) يصلح في موضعها ( في ) فهي حال ، وإذا صلح موضعها ( إلاّ ) فهي استثناء ، فقس عليه ، و ( باغ ) أصله ( باغيٌ ) ثقلت الضمة على الياء فسكنّت ، والتنوين ساكن ، فحذفت الياء ، والكسرةُ دالة عليها « .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المرادُ من الطيبات الرزقُ الحلال ، فكل ما أحلّه الله فهو طيّب ، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث ، قال عمر بن عبد العزيز : المراد ( طيبُ الكسب لا طيبُ الطعام ) . ويؤيده الحديث الشريف : » إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعثَ أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يُستجابُ له؟ «(1/64)
فهذا هو بيان الطيّب من الرزق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عطر بعد عروس .
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : لمّا أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيّب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بيّن لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل ، فلما بيّن ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر ، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عما يلبس المحرم فقال : « لا يلبس القميص ولا السروال » فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ « .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { واشكروا للَّهِ } إلتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة ، إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال : » واشكرونا « وفائدة هذا الالتفات تربية المهابة والروعة في القلوب .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير } هو على حذف مضاف أي أكل الميتة وأكل لحم الخنزير مثل قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية .
قال الألوسي : » وإضافة الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق - وأوكده « .
وقال أبو السعود : » وإنما خصَّ لحم الخنزير مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل المحرّم في آية الميتة الأكلُ أم الانتفاع؟
ورد التحريم في هذه الآية مسنداً إلى أعيان الميتة والدم ، وقد اختلف الفقهاء هل المحرّم الأكل فقط ، أم يحرم سائر وجوه الانتفاع ، لأنه لما حرم الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة ، إلا ما استثناه الدليل ، وذهب بعض العلماء إلى أن المحرم إنما هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وبدليل ما بعده في قوله تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ } أي اضطر إلى الأكل .
قال الجصاص : » والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها ، وقد حرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم له « .
الحكم الثاني : ما هو حكم الميتة من السمك والجراد؟
تضمنت الآية تحريم ( الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أُهّل لغير الله ) .
فأمّا الميتة فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل ، أو مقتولاً بغير ذكاة شرعية ، وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة ، فلما حرمها الله تعالى جادلوا في فلك المؤمنين وقالوا : لا تأكلون مما قتله الله ، وتأكلون مما تذبحون بأيديكم!! فأنزل الله في سورة الأنعام : [ 121 ](1/65)
{ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فالميتة حرام بالنص القاطع ، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة منها الأحاديث التالية :
أ - قوله صلى الله عليه وسلم : « أُحِلّ لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال » .
ب - وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » .
ج - وفي « الصحيحين » عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع ( أبي عبيدة بن الجراح ) يتلقى عيراً لقريش ، وزودنا جراباً من تمر ، فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى ( العنبر ) قال أبو عبيدة : ميتةٌ ، ثم قال : بل نحن رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليه شهراً حتى سمنّا . . وذكر الحديث قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزقٌ أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله .
د - وحديث ابن أبي أوفى « غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد » .
فقد خصَّص جمهور الفقهاء من الآية ميتة البحر للأحاديث السابقة الذكر ، كما أباحوا أكل الجراد ، إلاّ أن الحنفية حرموا الطافي من السمك وأحلّوا ما جزر عنه البحر لحديث « ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه » .
إلاّ أن المالكية أباحوا أكل ميتة السمك ، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة : لأنه لم يصح فيه عندهم شيء .
قال القرطبي : « وأكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دوابّ البحر حيها وميتها ، وهو مذهب مالك ، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيراً . قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراماً » .
الحكم الثالث : ما هي ذكاة الجنين بعد ذبح أمه؟
اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا؟
ذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح ، لأنه ميتة وقد قال تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } .
وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد إلى أنه يؤكل ، لأنه مذكى بذكاة أمه ، واستدلوا بحديث « ذكاة الجنين ذكاة أمه » .
وقال مالك رحمه الله : إنْ تمّ خلقُه ونبت شعره أُكل وإلاّ فلا .
قال القرطبي : « إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها » .(1/66)
وقال من ينتصر لأبي حنيفة : إن الحديث يحتمل معنى آخر هو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه على حد قول القائل قولي قولُك ، ومذهبي مذهبك أي كقولك وكمذهبك وعلى حد قول الشاعر :
فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
الحكم الرابع : هل يباح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؟
ذهب عطاء إلى أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها ، كطلاء السفن ودبغ الجلود ، وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصة ، ويدل عليه قوله تعالى : { مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] .
وذهب الجمهور : إلى تحريمه واستدلوا بالآية الكريمة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] أي الانتفاع بها بأكلٍ أو غيره ، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع ، واستدلوا كذلك بقوله عليه السلام : « لعن الله اليهود ، حُرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها » فهذا الحديث يدل على أن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ، فلا يجوز البيع ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به النص .
الحكم الخامس : ما هو حكم الدم الذي يبقى في العروق واللحم؟
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد ذكر تعالى الدم هاهنا مطلقاً وقيّده في الأنعام بقوله : { أَو دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] وحمل العلماء المطلق على المقيد ، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحاً ، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( لولا أنّ الله قال أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما في العروق ) فما خالط اللحم غير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دماً .
قال القرطبي : « وأمّا الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى ، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق ، وروي عن عائشة أنها قالت : » كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم ، فنأكل ولا ننكره « .
الحكم السادس : ماذا يحرم من الخنزير؟
نصت الآية على تحريم لحم الخنزير ، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه لا شحمه ، لأن الله قال : { وَلَحْمَ الخنزير } وذهب الجمهور إلى أنّ شحمه حرام أيضاً ، لأن اللحم يشمل الشحم ، وهو الصحيح ، وإنما خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، سواء ذُكّى ذكاةً شرعية أو لم يُذكّ .
وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير .
فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز الخرازة به .
وقال الشافعي : لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير .
وقال أبو يوسف : أكره الخرز به .
قال القرطبي : » لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، لأن الخرازة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، لا نعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده ، وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه « .(1/67)
وقد اختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أبو حنيفة : لا يؤكل لعموم الآية .
وقال مالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر ، وتفصيل الأدلة ينظر في كتب الفروع .
الحكم السابع : ما الذي يباح للمضطر من الميتة؟
اختلف العلماء في المضطر ، أيأكل من الميتة حتى يشبع ، أم يأكل على قدر سدّ الرمق؟
ذهب مالك إلى الأول ، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة .
وذهب الجمهور : إلى الثاني ، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها ، وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة ، والعاد هو المعتدي حد الضرورة .
ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام ، ولكل وجهة والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين بشرط أن يكون من الكسب الحلال .
2 - شكر الله واجب على المؤمنين لنعم الله التي لا تُعد ولا تحصى .
3 - الإخلاص في العبادة لله من صفات المؤمنين الصادقين .
4 - الله جل وعلا حرّم على عباده ( الخبائث ) دون ( الطيبات ) .
5 - حالة الاضطرار تبيح للإنسان الأكل ممّا حرمه الله كالميتة وغيرها .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات ، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية ، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة .
وكان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، تعذيب النفس واحتقارها ، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واعتقاد أنه لا حياة ( للروح ) إلا بتعذيب الجسد ، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء ، وليس لها أثر في شريعة الله . وقد تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً ، تعطي الجسد حقه ، والروح حقها ، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث ، وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا ( جثمانيين ) خلّصاً كالأنعام ، ولا ( روحانيين ) خلصاً كالملائكة ، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة .
وأما الحكمة من تحريم الميتة فلما فيها من الضرر ، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة ، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة ، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ .
فأما الأول فقد خبث لحمها ، وتلوث بجراثيم المرض ، فيخشى من عدواها ، ونقل مرضها إلى الآكلين .
وأما الثانية : فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها .
وأما الدم المسفوح : فلقذارته وضرره أيضاً ، وقد أثبت الطب الحديث أنّ الدم ضار كالميتة وأنه تتجمع فيه ( الميكروبات ) والمواد الضارة .
وأما لحم الخنزير : فلأن غذاءه من القاذورات ، والنجاسات فيقذر لذلك ، ولأن فيه ضرراً فقد اكتشف الأطباء أن لحم الخزير يحمل جراثيم شديدة الفتك ، كما أن المتغذي من لحم الخنزير يكتسب من طباع ما يأكله ، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة ، وأشهرها عدم الغيرة والعفة .(1/68)
يقول شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره « الظلال » ما نصه : « والخنزير بذاته منفرّ للطبع النظيف القويم ، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ، ليكتشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيّسة ) .
ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان بويضاتها مصدر خطر ، لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توفرها وسائل الطهو الحديثة ، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة ، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حلّلت ، وهي من لدن حكيم خبير؟!
أمّا ما أهل به لغير الله ، فهو محرم لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله ، محرم لعلة روحية ، لسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك » .(1/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
[ 7 ] في القصاص حياة النفوس
التحليل اللفظي
{ كُتِبَ } : قال الفراء { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } معناه في كل القرآن : فرض عليكم قال الشاعر :
كُتب القتلُ والقتال علينا ... وعلى الغانياتِ جرّ الذيول
قال الطبري : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } بمعنى فُرض عليكم القصاصُ ، وهو في أشعارهم مستفيض ، وفي كلامهم موجود ، وهو أكثر من أن يحصى .
{ القصاص } : أن يفعل به مثل فعله من قولهم : اقتصّ أثر فلان إذا فعل مثل فعله .
قال الراغب : القصاص مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر قال تعالى : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] والقصاصُ : تتبعُ الدم بالقَوَد قال تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] .
قال في اللسان : قصصتُ الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] أي اتبعي أثره ، والقصاصُ : القَوَد وهو القتل بالقتل قال الشاعر :
فرمنا القصاصَ وكان القصا ... صُ حكماً وعدلاً على المسلمينا
{ القتلى } : جمع قتيل ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، كصرعى جمع صريع ، وجرحى جمع جريح .
قال في « اللسان » : ورجلٌ قتيل أي مقتول ، وامرأة قتيل أي مقتولة ، فإذا قلت : ( قتيلة بني فلان ) قلت بالهاء .
وقال الطبري : وإنما يجمع ( فعيل ) على ( فَعْلى ) إذا كان وصفاً دالاً على الزمانة بحيث لا يقدر معه صاحبه على البُراح من موضعه وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت ، ولكن إذا اعتبر بفعل الشخص يقال : قتلٌ ، وإذا عتبر بفوت الحياة يقال : موتٌ ، قال تعالى : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] .
{ عُفِيَ } : العفو معناه الصفح ، والإسقاط ، تقول : عفوت عنه أي صفحتُ عنه ومنه قوله تعالى : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } [ المائدة : 95 ] وقوله : { واعف عَنَّا } [ البقرة : 286 ] وعفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق أي أسقطتها عنكم .
والمعنى : فمن تُرِك له من جهة أخيه شيءٌ أي ترك له القتل ، ورُضي منه بالدية .
{ فاتباع بالمعروف } : مطالبته بالمعروف ، أي يطالبه وليّ القتيل بالرفق والمعروف ، ويؤدي إليه القاتل الدية بإحسان ، بدون مماطلة أو بخس أو إساءة في الأداء .
{ فَمَنِ اعتدى } : أي ظلم فقتل القاتل بعد أخذ الدية فله عند الله عذاب أليم .
{ الألباب } : العقول جمع لب ، مأخوذ من لب النخلة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله ، ولا يبغيّن بعضكم على بعض ، فإذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوا فقط ، وإذا قتل العبدُ العبدَ فاقتلوه به ، وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها مثلاً بمثل بالعدل والمساواة ، ودعوا الظلم الذي كان بينكم فلا تقتلوا أحراراً ، ولا بالعبد حراً ، ولا بالأنثى رجلاً ، فإن ذلك ظلم وعدوان ، واستعلاء وطغيان ، فمن تُرك له شيء من القصاص إلى الدية ، وعفا عنه وليّ القتيل فلم يقتص منه وقبل منه الدية ، فليحسن الطالب في الطلب من غير إرهاقٍ ولا تعنيف ، ولْيحسن الدافع في الأداء من غير مماطلة ولا تسويف ، ذلك الذي شرعته لكم - أيها المؤمنون - من العفو إلى الدية ، تخفيف من ربكم ورحمة ، خفَّف به عنكم ليظهر فضله عليكم ، على عكس من سبقكم من اليهود حيث لم يكن في شرعهم إلا القصاص ، فمن تجاوز منكم بعد أخذ الدية وقتل القاتل ، فله عذاب أليم عند الله ، لأنه ارتكب جريمة بنقضه العهد وغدره بالقاتل بعد أن أعطاه الأمان ، وأخذ منه المال .(1/70)
ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت لكم من القصاص حياة وأي حياة ، لأنه من علم أن من قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل ، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله ، وبذلك تصان الدماء ، وتحفظ النفوس ، ويأمن الناس على أرواحهم ، ذلك هو شرع الله الحكيم ، ودينه القويم ، الذي به حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
سبب النزول
أ - روي في سبب نزول هذه الآية عن قتادة أنَّ أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعة للشيطان ، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبدُهم عبدَ آخرين ، قالوا : لن نقتل به إلا حراً ، تعزّزاً لفضلهم على غيرهم ، وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا : لن نقتل بها إلا رجلاً ، فأنزل الله { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .
ب - وروي عن ( سعيد بن جبير ) أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتلٌ وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . . } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أكرم الله هذه الأمة المحمدية فشرع لهم قبول الدية في القصاص ، ولم يكن هذا في شريعة التوراة ، روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } إلى قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن تقبل الدية في العمد { فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يتبع الطالب بالمعروف ، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ممّا كتب على من كان قبلكم { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } قتل بعد قبول الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } الآية .
قال الزجاج : » إذا علم الرجل أنه إن قَتَل ، أمسك عن القتل ، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه ، لأنه من أجل القصاص أمسك . وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :
أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام(1/71)
يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم « .
اللطيفة الثالثة : بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص ، بأسلوب لا يُسامى ، وعبارةٍ لا تُحاكى ، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن .
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده ، وهو ( الحياة ) في ( الإماتة ) التي هي القصاص ، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية . ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز ، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها ، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها ، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم : ( القتل أنفى للقتل ) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان ، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم : ( قتل البعض إحياء للجميع ) وقولهم : ( أكثروا القتل ليقلّ القتل ) وأجمعوا على أن كلمة ( القتل أنفى للقتل ) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق .
قال الإمام الفخر : » وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة :
الأول : أن النظم الكريم ( في القصاص حياة ) أشد اختصاراً من قولهم ( القتلُ أنفى للقتل ) لأن حروفها أقل .
الثاني : أن قولهم ( القتل أنفى للقتل ) ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال .
الثالث : أنّ كلامهم فيه تكرار للفظ القتل ، وليس في الآية الكريمة هذا التكرار .
الرابع : أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل ، والآية أجمع لأنها تفيد الردع عن القتل والجراح .
الخامس : أن القتل ظلماً قتلٌ وليس نافياً للقتل ، بل هو سبب لزيادة القتل ، فظاهر قولهم باطل ، وبذلك يظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي؟
اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً ، والمسلم إذا قتل ذمياً هل يقتلان بهما أم لا؟
فذهب الجمهور : ( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن الحر لا يقتل بالعبد ، ولا المسلم بالذمي .
وذهب الحنفية : إلى أن الحر يقتل بالعبد ، وكذلك المسلم يقتل بالذمي .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على مذهبهم بالكتاب ، والسنة ، والمعقول .
أ - أما الكتاب فقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } فقد أوجب الله المساواة ، ثمّ بيّن هذه المساواة بقوله : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .
فالحرّ يساويه الحر ، والعبد يساويه العبد ، والأنثى تساويها الأنثى ، فكأنه تعالى يقول : اقتلوا القاتل إذا كان مساوياً للمقتول ، قالوا : ولا مساواة بين الحر والعبد فلا يقتل به ، وكذلك لا مساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به .
ب - وأما السنة : فما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقتل مسلم بكافر » .(1/72)
ج - وأما المعقول : فقالوا : إن العبد كالسِّلعة والمتاع بسبب الرق الذي هو من آثار الكفر ، والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليه ، وقد قال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنفال : 55 ] فكيف يُساوى المؤمن بالكافر ، وكيف يقتل به؟ .
أدلة الحنفية :
واستدل الحنفية على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . . } إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية ، وهي عامة تعم كل قاتل سواءً كان حراً أو عبداً ، مسلماً أو ذمياً ، وأما قوله تعالى : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد . . . } إلخ فإنما هو لإبطال الظلم الذي كان عليه أهل الجاهلية ، حيث كانوا يقتلون بالحر أحراراً ، وبالعبد حراً ، وبالأنثى يقتلون الرجل تعدياً وطغياناً ، فأبطل الله ما كان من الظلم ، وأكد القصاص على القاتل دون غيره كما فهم ذلك من سبب النزول وقد تقدم .
ثانياً : واستدلوا بقوله تعالى في سورة [ المائدة : 45 ] : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس . . . } قالوا : وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين ، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد ناسخ ، ولم نجد ناسخاً .
ثالثاً : واستدلوا كذلك بقوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] فإن هذه الآية انتظمت جميع المقتولين ظلماً ، عبيداً كانوا أو أحراراً ، مسلمين أو ذمّيين ، وجُعل لوليهم سلطان وهو ( القود ) أي القصاص .
رابعاً : واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم » فيكن العبد مساوياً للحر .
خامساً : واستدلوا بحديث : « من قتل عبده قتلناه ، ومن جدعه جدعناه ، ومن خصاه خصيناه » .
قالوا : فهذا نص على أن الحر يقتل بالعبد ، لأن الإسلام لم يفرّق بين حر وعبد .
سادساً : واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال : » أنا أكرم مَن وفّى بذمته « » .
سابعاً : قالوا : ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه ، فوجب أن يقاد منه ، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله .
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : عرضناها باختصار ، وسبب الخلاف في الحقيقة يرجع إلى اختلاف العلماء في فهم الآية ، فالحنفية يقولون : إن صدر الآية مكتف بنفسه ، وقد تم الكلام عند قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } وسائر الأئمة يقولون : لا يتم الكلام هاهنا ، وإنما يتم عند قوله : { والأنثى بالأنثى } فهو تفسير له وتتميم لمعناه ، والآية وردت لبيان التنويع والتقسيم .
وقد اعترض الحنفية على الجمهور بأنه ينبغي ألا يُقتل الرجل إذا قتل أنثى؟ وكذلك العبد إذا قتل حراً؟ مع أنهم يقولون أنه يقتل العبد بالحر ، والرجل بالمرأة!!
أجاب الجمهور : بأن ظاهر الآية يفيد ألا يقتل العبد بالحر ، ولكننا نظرنا إلى المعنى فرأينا أن العبد يُقتل بالعبد ، فأولى أن يقتل بالحر ، وأما قتل الرجل بالمرأة فذلك ثابت بالإجماع ، وهو دليل آخر خصّص الآية الكريمة ولولا الإجماع لقلنا لا يقتل الذكر بالأنثى .(1/73)
يقول فضيلة الشيخ السايس في كتابة « تفسير آيات الأحكام » ما نصه :
« والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة ، لأن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان ( المساواة ) المعتبرة ، قد أخرجوا منه طردا وعكساً الأنثى بالرجل ، فذهبوا إلى أن الرجلُ يقتل بالأنثى ، والأنثى تقتل بالرجل ، وذهبوا إلى أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر ، فهذا كله يُضعف مسلكهم في الآية . أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف ، وحينئذٍ يكون العبد مساوياً للحر ، ويكون المسلم مساوياً للذمي في الحرمة ، محقون الدم على التأييد » .
الترجيح :
أقول : مذهب أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد معقول المعنى ، مؤيد « من قتل عبده قتلناه . . . » فالإسلام قد ساوى بين الأحرار والعبيد في الدماء ، فحرمة العبد كحرمة الحر ، ونفس العبد كنفس الحر ، ولهذا يقتل به .
أما قتل المؤمن بالكافر : ففي النفس من قول أبي حنيفة شيء ، والراجح فيه رأي الجمهور لا سيما بعد أن تأكد بالدليل الثابت « لا يُقتل مسلم بكافر » أخرجه البخاري .
وكما يقول ابن كثير رحمه الله : لا يصح حديث ولا تأويلٌ يخالف هذا .
ثمّ كيف يتساوى المؤمن مع الكافر ، مع أن الكافر شرّ عند الله من الدابة؟ والمؤمن طيّب طاهر والله تعالى يقول : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ويقول : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] ، فكيف نقتل مؤمناً طاهراً بمشرك نجس؟! فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة قول الجمهور . وقد رأيت في بعض مراجعاتي قصة لطيفة وهي أن ( أبا يوسف ) القاضي من تلامذة الإمام أبي حنيفة ، رفعت إليه قضية ، تتلخص في أن مسلماً قتل ذمياً كافراً ، فحكم عليه أبو يوسف بالقصاص ، فبينما هو جالس ذات يوم ، إذ جاءه رجل برقعةٍ فألقاها إليه ثم خرج ، فإذا فيها هذه الأبيات :
يا قاتلَ المسلم بالكافرِ ... جرتَ وما العادلُ كالجائر
يا مَنْ ببغدادَ وأطرافِها ... من علماء الناسِ أو شاعرِ
استرجُعوا وابكُوا على دينكم ... واصطبروا فالأجرُ للصابر
جار على الدين أبو يوسف ... بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر ، وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة . . فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة الذمة وثبوتها ، فلم يستطيعوا أن يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية .
مناظرة لطيفة
ذكر العلامة أبو بكر ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » هذه المناظرة اللطيفة فقال :
« ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، فقيهٌ من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف ب ( الزوزني ) زائراً للخليل صلوات الله عليه ، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة - طهّرها الله - معه ، وشهد علماء البلد ، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال : يُقتل به قصاصاً ، فطولب بالدليل فقال : الدليل عليه قوله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } وهذا عامٌ في كل قتيل .(1/74)
فانتدب معه في الكلام فقيه الشافعية وإمامهم بها ( عطاء المقدسي ) وقال : ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله سبحانه قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } فشرط المساواة في المجازاة ، ولا مساواة بين المسلم والكافر ، فإنّ الكفر حطّ منزلته ، ووضع مرتبته .
الثاني : أنّ الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها ، وجعل بيانها عند تمامها فقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } فإذا نقص العبد عن الحر بالرق - وهو من آثار الكفر - فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر .
الثالث : أن الله سبحانه وتعالى قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر ، فدل على عدم دخوله في هذا القول .
فقال الزوزني : دليل صحيح ، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء .
أما قولك : إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول ، وأمّا دعواك أنّ المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص معدومة فغير صحيح ، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص ، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإنّ الذمي محقون الدم ، والمسلم محقون الدم ، وكلاهما في دار الإسلام ، والذي يحقّق ذلك أن المسلم يُقطع بسرقة مال الذمي ، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم ، فدلّ على مساواته لدمه ، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه .
وأما قولك : إنّ الله ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم ، فإنّ أول الآية عامٌ ، وآخرها خاصٌ ، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها ، بل يجري كلٌ حكمه من عموم أو خصوص .
وأما قولك : إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلّم ، بل يقتل به قصاصاً ، فتعلقت بدعوى لا تصح لك .
وأما قولك : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } يعني المسلم فكذلك أقول ، ولكن هذا خصوص في العفو فلا يمنع من عموم القصاص . . الخ .
قال ابن العربي : وجرت مناظرة عظيمة ، حصلنا منها فوائد جمة ، أثبتناها في « نزهة الناظر » .
الحكم الثاني : هل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟
قال الجمهور : لا يقتل الوالد إذا قتل ولده ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يُقتل وِالدٌ بولده » .
قال الجصاص : « وهذا خبرٌ مستفيض مشهور ، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه ، فكان في حيّز المتواتر » .(1/75)
وقال مالك : يُقتل إذا تعمّد قتله بأن أضجعه وذبحه .
قال القرطبي : « لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمداً ، مثل أن يضجعه ويذبحه ، أو يصبره ، أنه يُقتل به قولاً واحداً ، فأمّا إن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به وتغلّظ الدية » .
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح للنصّ الوارد الذي أسلفناه ، ولأنّ الشفقة تمنعه من الإقدام على قتل ولده متعمداً ، بخلاف الابن إذا قتل أباه فإنه يقتل به من غير خلاف ، قال فخر الإسلام الشاشي : إن الأب كان سبب وجود الابن ، فكيف يكون هو سبب عدمه؟!
الحكم الثالث : هل يقتل الجماعة بالواحد؟
اختلف الفقهاء في الجماعة إذا اشتركوا في قتل إنسان هل يقتلون به؟ على مذهبين :
مذهب الجمهور والأئمة الأربعة : أن الجماعة يقتلون بالواحد .
مذهب الظاهرية : ورواية عن الإمام أحمد : أن الجماعة لا تقتل بالواحد .
دليل الظاهرية :
أ - استدل أهل الظاهر بآية القصاص { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } فقد شرطت المساواة والمماثلة ، قالوا : ولا مساواة بين الواحد والجماعة .
ب - واستدلوا بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] فالنفس تقابلها النفس ، ولا تقتل الأنفس بالنفس الواحدة لأنه مخالف لنص الآية .
دليل الجمهور :
أولاً ما روي أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة في غلام قتل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم .
قال ابن كثير : ولا يُعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع .
ثانياً : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبّهم الله في النار » قالوا : فإذا اشتركوا في العقوبة الأخروية ، فإنهم يشتركون في العقوبة الدنيوية أيضاً .
ثالثاً : قالوا إن الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد ، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم ، ثم لم يقتلوا فتضيع دماء الناس ، وينتشر البغي والفساد في الأرض .
قال ابن العربي : « احتج علماؤنا بهذه الآية { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } على أحمد بن حنبل في قوله : لا تُقتل الجماعة بالواحد ، لأن الله شرط في القصاص المساواة ، ولا مساواة بين الواحد والجماعة .
والجواب : أن مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ ، ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا واحداً لم يقتلوا به ، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم ، وبلغوا الأمل من التشفي منهم .
وجواب آخر : أن المراد بالقصاص قَتْلُ من قَتَل ، كائناً من كان ، رداً على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قُتل من لم يَقْتُل في مقابله الواحد بمائة افتخاراً واستظهاراً بالجاه والمقدرة ، فأمر الله بالمساواة والعدل ، وذلك بقتل من قتل » .
الحكم الرابع : كيف يُقتل الجاني عند القصاص؟
اختلف الفقهاء في كيفية القتل على مذهبين :
فذهب مالك والشافعي : ورواية عن أحمد ، أن القصاص يكون على الصفة التي قَتَل بها ، فمن قتل تغريقاً قُتل تغريقاً ، ومن رضخ رأس إنسان بحجر ، قُتل برضخ رأسه بالحجر ، واحتجوا بالآية الكريمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } حيث أوجبت المماثلة فيقتص منه كما فعل .(1/76)
واحتجوا بحديث أنس : « أن يهودياً رضخ رأس امرأة بحجر ، فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر » .
وذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه : إلى أن القتل لا يكون إلا بالسيف ، لأن المطلوب بالقصاص إتلاف نفسٍ بنفس ، واستدلوا بحديث : « لا قود إلاَّ بالسيف » وحديث « النهي عن المُثْلة » وحديث « إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة » وقالوا : إذا ثبت حديث أنس كان منسوخاً بالنهي عن المُثْلة .
وقالوا : إن القتل بغير السيف من التحريق ، والتفريق ، والرشخ بالحجارة ، والحبس حتى الموت ربما زاد على المثل فكان اعتداءً والله تعالى يقول : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقد حكي أن ( القاسم بن معن ) حضر مع ( شريك بن عبد الله ) عند بعض السلاطين ، فسأله ما تقول : فيمن رمى رجلاً بسهمٍ فقتله؟ قال : يُرمى فيقتل ، قال : فإن لم يمت بالرمية الأولى؟ قال : يُرمى ثانياً ، قال : أفتتخذونه غرضاً وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتخذ شيء من الحيوان غراً؟ ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة يكون أرجح والله أعلم .
الحكم الخامس : من الذي يتولى أمر القصاص؟
قال القرطبي : « اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصَ من أحدٍ حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك للسلطان ، أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل الله السلطان ليقيض أيدي الناس بعضهم عن بعض » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تشريع القصاص فريضة من الله على عباده المؤمنين لصلاحهم وسعادتهم .
2 - القصاص يقلّل الجرائم ، ويقضي على الضغائن ويربي النجاة .
3 - في القصاص حياة النفوس ، وحماية الأفراد والمجتمعات البشرية .
4 - الاعتداء على غير القاتل من العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام .
5 - تجب المماثلة في القصاص حتى لا ينتشر البغي والظلم والعدوان .
6 - إذا عفا أولياء القتيل وقبلوا الدية فيجب دفعها لهم بدون مماطلة ولا تسويف .
7 - تخفيف العقوبة رحمة من الله على عباده المؤمنين يجب عليهم شكرها .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع المولى الحكيم العليم القصاص ، وأوجب تنفيذه على الحكام ، صيانة لدماء الناس ، ومحافظة على أرواح الأبرياء ، وقضاء على الفتنة في مهدها ، ذلك لأن أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره ، ورادعاً لأهل البغي والعدوان ، فإذا همّ أحدٌ بقتل أخيه ، أو تهيب خيفةً من القصاص ، فكفّ عن القتل ، فكان في ذلك حياةً له ، وحياة لمن أراد قتله ، وحياة لأفراد المجتمع ، وإذا بقي المعتدي يرتع ، دون جزاءٍ أو عقاب ، أدّى ذلك إلى إثارة الفتن ، واضطراب الأمن ، وتعريض المجتمع إلى سفك الدماء البريئة أخذاً بالثأر ، فإنّ الغضب للدم المراق فطرة في الإنسان ، والإسلام راعى ذلك فقرّر شريعة القصاص ، حتى يستلّ لأحقاد من القلوب ، ويقضي على أسباب البغي والخصام ، والعدوان .(1/77)
ولكن الإسلام في الوقت الذي يفرض فيه القصاص ، يحبّب في العفو ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص العدل ، دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا إلزاماً يكبت فطرة الإنسان ، ويحملها مالا تطيق { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
وقد نقل المولى - جل وعلا - بهذا التشريع الحكيم العقوبات ، من معنى انتقامي إلى معنى سام جليل ، فقد كانت العقوبات السالفة ، انتقاماً ينتقم بها المجتمع من المجرمين ، أو ينتقم بها أهل القتيل من أهل المقتول ، فلا يقبلون حتى يسفكوا مقابل الدم الواحد الدماء البريئة ويزهقوا الأرواح . وربما قتلوا بالرجل مائة رجل ، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب } ولم قل لكم فيه انتقام . ولقد رقت قلوب قوم من رجال ( التشريع الوضعي ) فاستفظعوا قتل القاتل ، ورحموه من القتل ، ولقد كان ( المقتول ظلماً ) أولى بالرحمة والشفقة والعطف ، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع من سطوة المجرمين من أهل الفساد!! وماذا نصنع مع العصابات التي كثرت في هذه الأيام واتخذت لها طريقاً إلى ترويع المجتمع بالسلب والنهب وسفك الدماء؟ لقد نظروا نظرة ضيقة بفكر غير سليم ، ولو نظروا عامة شاملة بفكر وعقل مستنير لرحموا الأمة من المجرمين ، بالأخذ بشدة على أيدي العابثين ، فإن من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم ، وكف عادية المعتدين .(1/78)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
[ 8 ] فريضة الصيام على المسلمين
التحليل اللفظي
{ الصيام } : الصم في اللغة : الإمساكُ عن الشيء والتركُ له ، يقال : صامت الخيل إذا أمسكت عن السير ، وصامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب .
قال الراغب : الصوم : الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائمٌ ، قال الشاعر :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العَجاج وأخرى تعلك الُّلجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري ، أو ممسكة عن الطعام ، وقال آخر :
حتّى إذا صام النهار واعتدل ... وسال للشمس لعابٌ فنزل
قال أبو عبيدة : كل ممسكٍ عن طعام ، أو كلام ، أو سير فهو صائم .
وفي الشرع : هو الإمساك عن الطعام ، والشراب ، والجماع ، مع النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وكمالُه باجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات .
{ فَعِدَّةٌ } : قال الراغب : العدّةُ هي الشيء المعدود ، ومنه قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } [ المدثر : 31 ] أي عددهم . والمعنى : عليه أيام عدد ما قد فاته من رمضان .
قال القرطبي : « والعِدّةُ فِعْلةٍ من العدّ وهي بمعنى المعدود ، كالطِحن بمعنى المطحون ، تقول : أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً ، ومنه عدة المرأة » .
{ أُخَرَ } : جمع أخرى ، أي أياماً أخرى ، وهي ممنوعة من الصرف لأنها معدولة عن آخر على رأي الكسائي ، وعن الألف واللام على رأي سيبويه ، مثل : الصُغَر ، والكُبَر . وإنما أوثر هنا الجمع لأنه لو جيء به مفرداً فقيل : عدة من أيامٍ أخرى لأوهم أنه وصفٌ لعدة فيفوت المقصود .
{ يُطِيقُونَهُ } : أي يصومونه بمشقة وعسر .
قال في « اللسان » : والإطاقة القدرة على الشيء ، وهو في طوقي أي وسعي ، وأطاق وإطاقة إذا قوي عليه .
وقال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وشبّه بالطوق المحيط بالشيء .
{ فِدْيَةٌ } : الفدية ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره ، بسبب تقصير وقع منه في عبادة من العبادات ، وهي تشبه الكفّارة من بعض الوجوه .
{ شَهْرُ } : الشهرُ معروف ، وأصله من الاشتهار وهو الظهور ، يقال : شهر الأمر أظهره ، وشهرالسيف استلّه ، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره ، لكونه ميقاتاً للعبادات والمعاملات ، فصار مشتهراً بين الناس .
{ رَمَضَانَ } : قال الراغب : رمضان هو الرّمض أي شدة وقع الشمس ، والرمضاء شدة حر الشمس ، ورمضت الغنم : رعت في الرمضاء فقرحت أكبادنا . وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها .
قال الزمخشري : « لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموّها بالأزموة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ فسمي رمضان » .
وقيل : إنما سمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة .
{ الرفث } : الجماع ودواعيه ، قال الراغب : الرفث : كلامٌ متضمنٌ لما يُستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه ، وقد جعل كناية عن الجماع في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } تنبيهاً إلى جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه .(1/79)
وأصل الرفث : قول الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر :
ويُرَيْن من أُنْس الحديث زوانياً ... وبهنّ عن رفث الرجال نِفَار
قال ابن عباس : الرفث هو الجماع ، إن الله عز وجل كريم حليم يكني .
{ تَخْتانُونَ } : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب ، ومعناه : مراودة الخيانة .
قال في « اللسان » : خانه واختانه ، والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة قال الشاعر :
يتحدثون مَخَانةً وملاذَةً ... ويُعاب قائلهم وإن لم يشْغب
وسئل بعضهم عن السيف فقال : أخوك وإن خانك ، وكل ما غيّرك عن حالك فقد تخوّنك .
قال الراغب : الخيانة مقابل الأمانة ، والاختيان : مراودة الخيانة ، ولم يقل : ( تخونون أنفسكم ) لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، وهو تحرك شهوة الإنسان للوقوع في الخيانة .
{ عاكفون } : العكوف والاعتكاف أصله اللزوم ، يقال : عكفت بالمكان أي أقمت به ملازماً قال تعالى : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } [ طه : 91 ] وقال الشاعر :
فبات بنات الليل حولي عُكّفاً ... عكوف البواكي بينهن صريع
وفي الشرع هو المكث في المسجد للعبادة بنيّة القربة لله تعالى .
{ حُدُودُ الله } : الحدود جمع حدّ ، والحدّ في اللغة : المنع ، ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء ، وسمي البوّاب حدّاداً لأنه يمنع من الدخول أو الخروج إلا بإذن ، وأحدّث المرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها .
قال الزجاج : « الحدودُ ما منع الله تعالى من مخالفتها ، فلا يجوز مجازوتها » .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ وعلا أنه قد فرض الصيام على عباده المؤمنين ، كما فرضه على من سبقهم من أهل الملل ، وقد علّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهي أن يُعدّ نفس الصائم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره تعالى ، واحتساباً للأجر عنده ، ليكون المؤمن من المتقين لله المجتنبين لمحارمه .
وهذا الصيام الذي فرضه الله على عباده ، إنما هو أيام معينات بالعدد ، وهي أيام رمضان ، ولم يفرض الله عليكم الدهر كله ، تخفيفاً ورحمة بهم ، ومع هذه الرحمة في الصيام فقد شرع للمريض الذي يضره الصوم ، والمسافر الذي يشق عليه أن يفطرا ويقضيا أياماً بقدر الأيام التي أفطرا فيها وذلك من التيسير على العباد والرحمة بهم ، ثم أخبر تعالى أن هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه هو شهر رمضان ، شهر ابتداء نزول القرآن ، الكتاب العظيم الذي أكرم الله به الأمة المحمدية ، فجعله دستوراً لهم ، ونظاماً يتمسكون به في حياتهم ، فيه النور ، والهدى ، والضياء ، وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها ، وقد أكدّ الباري صيام هذا الشهر ، لأنه شهر تنزّل الرحمة الإلهية على العباد ، وأنه تعالى لا يريد بعباده إلا اليُسر والسهولة ، ولذلك فقد أباح للمريض والمسافر الإفطار في أيام رمضان .
ثم بيّن تعالى أنه قريب ، يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين ، وليس بينه وبين أحدٍ من العباد حجاب ، فعليهم أن يتوجهوا إليه وحده بالدعاء والتضرع ، حنفاء مخلصين له الدين .(1/80)
وقد يسّر تعالى على عباده وأباح لهم التمتع بالنساء في ليالي رمضان ، كما أباح لهم الطعام والشراب ، وقد كان ذلك من قبل محرماً عليهم ، ولكنّه تعالى أباح لهم الطعام والشراب ، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء ، ليظهر فضله عليهم ، ورحمته بهم ، وقد شبّه المرأة باللباس الذي يستر البدن ، فهي ستر للرجل وسكن له ، وهو ستر لها ، قال ابن عباس معناه « هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكن لهنّ » وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر ، ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة ، مباشرتهن وقت الاعتكاف لأنه وقت تبتل وانقطاع للعبادة ، ثمّ ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مخالفة أوامره ، وارتكاب المحرمات والمعاصي ، التي هي حدود الله ، وقد بيّنها لعباده حتى يجتنبوها ، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله ليكونوا من المتقين .
سبب النزول
1 - روى ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر » ، ثم إن الله عز وجل فرض شهر رمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } حتى بلغ { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . . . } .
2 - وروُي عن سلمة بن الأكوع أنه قال « لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء منا صام ، ومن شاء أن يفطلر ويفتدي فعل ذلك ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
3 - وروي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . . } الآية .
4 - وروي البخاري عن ( البراء بن عازب ) أنه قال : » كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً ، وكان يعمل بالنخيل في النهار ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندكِ طعامٌ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلقُ فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبةً لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ففرحوا فرحاً شديداً ، فنزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } .(1/81)
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور ( وعلى الذين يُطيقونه ) وقرأ ابن عباس ( يُطَوّقونه ) بمعنى يكلّفونه .
2 - قرأ الجمهور ( فديةٌ طعامُ مسكينٍ ) وقرأ نافع وابن عامر ( فديةُ طعامِ مساكين ) بجمع مساكين ، وإضافة ( فدية ) إلى ( طعام ) .
3 - قرأ الجمهور ( فمن تطوّع ) على الماضي وقرأ حمزة والكسائي ( فمن تطوّعُ ) بالجزم على معنى يتطوّع ، وقرئ ( فمنّ يطّوع ) على أنه مضارع .
4 - قرأ الجمهور ( ولتُكْملوا العدّة ) بالتخفيف ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( ولتُكَمّلوا ) بالتشديد .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } الكاف للتشبيه وهي صفة لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية ، والتقدير : كُتب عليكم الصيامُ كتابةً مثل كتابته على من قبلكم .
2 - قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } قال الزجاج : منصوب على الظرف كأنه قال : كتب عليكم في هذه الأيام والعامل فيه الصيام . قال العكبري : لا يجوز أن ينتصب على الظرف ، ولا على أنه مفعول به على السّعة لأن المصدر إذا وصف لا يعمل ، والوجه أن يكون العامل محذوفاً تقديره : صوموا أياماً .
3 - قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } تقديره : فعليه عدّةٌ فيكون ارتفاع ( عدة ) على الابتداء والخير محذوف ، وأخر صفة لعدة لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام .
4 - قوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أن تصوموا في موضع مبتدأ و ( خير ) خبره والتقدير صيامكم خير لكم ، و { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرط حذف منه الجواب لدلالة ما قبله .
5 - قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } الشهرَ منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في ( فليصمْه ) ولا يكون مفعولاً به ، لأنه يلزم حينئذٍ المسافر لأنه شهد الشهر ، قال الزمخشري : « المعنى فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر فليصم في الشهر ولا يفطر » .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أشارت الآية الكريمة إلى أن الصوم عبادة قديمة ، فرضها الله على الأمم قبلنا ، ولكنّ أهل الكتاب غيّروا وبدّلوا في هذه الفريضة ، وقد كان يتفق في الحر الشديد أو البرد الشديد ، فحوّلوه إلى الربيع وزادوا في عده حتى جعلوه خمسين يوماً كفارة لذلك .
روى الطبري بسنده عن الدُّي أنه قال : « كُتب على النصارى شهرُ - رمضان ، وكُتب عليهم ألاّ يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا أن ينكحوا النساء في شهر رمضان ، فاشتد على النصارى صيام رمضان ، وجعل يُقلّب عليهم في الشتاء والصيف ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف ( يعني الربيع ) وقالوا : نزيد عشرين يوماً نكفّر بهما ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين » .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قال ابن العربي : هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره : فأفطر فعدةٌ من أيام أخر ، فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور .(1/82)
اللطيفة الثالثة : بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة ، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده ، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة ، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ، كما قيل في المثل السائر : ( المرء يسعى لغاريه : بطنه ، وفرجه ) .
اللطيفة الرابعة : قال القفال رحمه الله : « انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فقد نبّه إلى ما يلي :
أولاً : أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة .
ثانياً : أن الصوم سبب لحصول التقوى ، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف .
ثالثاً : أنه مختص بأيام معدودات ، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة .
رابعاً : أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أًنزل فيه القرآن ، لكونه أشرف الشهور .
خامساً : إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عله من المسافرين والمرضى ، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى .
اللطيفة الخامسة : أفاد قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية ، والعرب تقول : أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف ، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة ، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أي ما يصعب علينا مزاولته .
والطاقة : اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوُسْعُ : اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة ، فتنبه له فإنه دقيق .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال ، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين ، و ( شهد ) بمعنى حضر ، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه ، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان ، أفاده أبو السعود .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى ( طباق السلب ) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية ( المشقّة تجلب التيسير ) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس ، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم .
اللطيفة الثامنة : قال العلامة الزمخشري قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر ، من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأم المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } علة الأمر بمراعاة العدة ، ( ولتكبّروا ) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللّف والنشر ، لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان .(1/83)
اللطيفة التاسعة : عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سامٍ لطيف ، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالنساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } فالتعبير على طريقة الاستعارة والمراد اشتمال بعضهم على بعض لما تشتمل الملابس على الأجسام .
قال الإمام الفخر : « لمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه ، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، سُمّي كل واحد منهما لباساً » .
اللطيفة العاشرة : قوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } .
قال الشريف الرضي : « هذه استعارةٌ عجيبة ، والمراد بها حتى يتبيّن بياضُ الصبحُ من سواد الليل ، والخيطان هاهنا مجاز ، وإنما شبّهها بذلك لأنّ بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً ، ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً ، فهما جميعاً ضعيفان ، إلاّ أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً » .
روي أنه لما نزلت الآية « قال ( عدي بن حاتم ) أخذتُ عقالين : أبيض ، وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليها ، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : » إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان؟
يدل ظاهر قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام ( أيام رمضان ) وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين ، وهو مروي عن ابن عباس والحسن ، واختاره ابن جرير الطبري .
وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم فرض عليهم صوم رمضان ، وحجتهم أن قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } يدل على أنه واجب على التخيير ، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين ، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان .
واستدل الجمهور بأن قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } مجمل يحتمل أن يكون يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } وهذا أيضاً يحتمل أن يكون أسبوعاً أو شهراً ، فبيّنه تعالى بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان .(1/84)
قال ابن جرير الطبري : « وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : عنى جل ثناؤه بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أيام شهر رمضان ، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان ، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات ، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام ، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون ، أياماً معدودات هي شهر رمضان » .
الحكم الثاني : ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟
أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان ، رحمة بالعباد وتيسيراً عليهم ، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال :
أولاً - قال أهل الظاهر : مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيراً والمرض يسيراً حتى من وجع الإصبع والضرس ، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين .
ثانياً - وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد ، وكذلك المسافر الذي يُضينه السفر ويُجهده ، وهو قول الأصم .
ثالثاً - وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر ، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس ، أو زيادةٍ في العلة ، أو يُخشى معه تأخر البرء ، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
دليل الظاهرية :
استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ } حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد ، ولا السفر بالبعيد ، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار ، حكي أنهم دخلوا على ( ابن سيرين ) في رمضان وهو يأكل ، فاعتلّ بوجع أصبعه .
وقال داود : الرخصة حاصلة في كل سفر ، ولو كان السفر فرسخاً لأنه يقال له : مسافر ، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن .
دليل الجمهور :
استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص .
المرض خفيفاً والسفر قريباً فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم ، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس؟
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن ، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر ، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة ، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع ، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير ، الذي لا كلفة معه في الصيام؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام ، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن ، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سبباً للمرض ، أو زيادة العّلة ، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين .(1/85)
قال القرطبي : « للمريض حالتان : إحداهما - ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً .
الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء : إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه ، أو يخاف تماديه ، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر ، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر ، فقال مرة : هو خوف التلف من الصيام ، وقال مرة : هو شدة المرض ، والزيادة فيه ، والمشقة الفادحة ، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر » .
الحكم الثالث : ما هو السفر المبيح للإفطار؟
وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لا بدّ أن يكون سفراً طويلاً على أقوال :
أ - قال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسافة يوم .
ب - وقال الشافعي وأحمد : هو مسيرة يومين وليلتين ، ويقدر بستة عشر فرسخاً .
ج - وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً .
حجة الأوزاعي :
أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم ، والغالب أن المسافر هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم ، فلا بدّ أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر .
حجة الشافعي وأحمد :
أولاً : أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة ، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله ، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة .
ثانياً : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان » .
قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً .
ثالثاً : ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا ، فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا ، ولكن أقصر إلى جدة ، وعسفان ، والطائف .
قال القرطبي : والذي في « البخاري » : « وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً » .
وهذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله ، وقد روي عنه أنه قال : أقله يوم وليلة ، واستدل بحديث « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم » رواه البخاري .
حجة أبي حنيفة والثوري :
أولاً : واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يوجب الصوم ، ولكنّا تركناه في ثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها ، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطياً .(1/86)
ثانياً : واحتج بقوله عليه السلام : « يمسح المقيم يوماً وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها » فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع ، فوجب اعتبار الثلاث سفراً شرعياً .
ثالثاً : وبقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم » فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي ، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر .
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : « وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم « وفي حديث ( سفر ثلاثة أيام ) فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام : يوم يتحمل فيه عن أهله ، ويوم ينزل فيه في مستقره ، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد ، فرجل احتاط وزاد ، ورجل ترخّص ، ورجل تقصّر » .
أقول : أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط ، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام ، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح ، لذا كان العمل بالثلاث أحوط ، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم .
الحكم الرابع : هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة؟
ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ، ويصوما عدة من أيام أخرى ، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والمعنى : فعليه عدة من أيام أخر ، وهذا يقتضي الوجوب . وبقوله عليه السلام : « ليس من البر الصيام في السفر » وقد روي هذا عن بعض علماء السلف .
وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي :
1 - قالوا : إن في الآية إضماراً تقديره : فأفطر فعليه عدة من أيام أخر ، وهو نظير قوله تعالى : { فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] والتقدير : فضرب فانفجرت ، وكذلك قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل .
ب - واستدلوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض أنه صام في السفر .
ج - وبما ثبت عن أنس قال : « سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم » .
د - وقالوا : إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقلاً ، فلا يصح أن يكونا سبباً للعسر .(1/87)
وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام « ليس من البر الصيام في السفر » فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا : صائم أجهده العطش فذكر الحديث .
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : « وقد عُزي إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه ، صامه أو أفطره ، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم ، فإن جزالة القول ، وقوة الفصاحة ، تقتضي تقدير ( فأفطر ) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في السفر قولاً وفعلاً ، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره » .
الحكم الخامس : هل الصيام أفضل أم الإفطار؟
وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟
فذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه ، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل ، أما الأول فلقوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } وأما الثاني فلقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة ، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه .
وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء .
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم .
الحكم السادس : هل يجب قضاء الصيام متتابعاً؟
ذهب علي ، وابن عمر ، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً ، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء ، فلما كان الأداء متتابعاً ، فكذلك القضاء .
وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان ، متفرقاً أو متتابعاً ، وحجتهم قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها ، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات ، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه .
واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : « إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق » .
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم .
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } ؟
يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير ، فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يوم مسكيناً ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن ( سلمة بن الأكوع ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } كان من شاء منّا صام ، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا مروي عن ابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عمر وغيرهم .(1/88)
ويرى آخرنن أن الآية غير منسوخة ، وأنها نزلت في الشيخ الكبير ، والمرأة العجوز ، والمريض الذي يُجهده الصوم ، وهذا مروي عن ابن عباس .
قال ابن عباس : ( رخّص للشيخ الكبير أن يفطر ، ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) .
وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال ابن عباس : ليست بمنسوخة ، هي للشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً .
وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة ، ويكون معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة ، ويؤيده قراءة { يطوّقونه } أي يكلّفونه مع المشقة .
الحكم الثامن : ما هو حكم الحامل والمرضع؟
الحبلى والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا ، لأن حكمهما حكم المريض ، وقد سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما فقال : أيّ مرضٍ أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي .
وهذا باتفاق الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا هل يجب عليهما القضاء مع الفدية ، أم يجب القضاء فقط؟
ذهب أبو حنيفة إلى أن الواجب عليهما هو القضاء فقط ، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن عليهما القضاء مع الفدية .
حجة الشافعي وأحمد :
أن الحامل والمرضع داخلتان في منطوق الآية الكريمة { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } لأنها تشمل الشيخ الكبير ، والمرأة الفانية ، وكل من يُجهده الصوم فعليهما الفدية كما تجب على الشيخ الكبير .
حجة أبي حنيفة :
أولاً : أن الحامل والمرضع في حكم المريض ، ألا ترى إلى قول الحسن البصري : أي مرضٍ أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان ، فلم يوجب عليهما غير القضاء .
ثانياً : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه ، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته ومانته ، فلن يأتيه يوم يستطيع فيه الصيام ، أما الحامل والمرضع فإنهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة للزوال ، فالقضاء واجب عليهما ، فلو أجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز ، لأن القضاء بدل ، والفدية بدل ، ولا يمكن الجمع بينهما لأن الواجب أحدهما .
وقد روي عن الإمام أحمد والشافعي أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية ، وإن خافتا على أنفسهما فقط ، أو على أنفسهما وعلى ولدهما ، فعليهما القضاء لا غير .
الحكم التاسع : بم يثبت شهر رمضان؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال ، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً ، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً » .(1/89)
فبواسطة الهلال تعرف أوقات الصيام والحج كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] فلا بدّ من الاعتماد على الرؤية ، ويكفي لإثبات رمضان شهادة واحدٍ عدل عند الجمهور ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه » وأما هلال شوال فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً ، ولا تقبل فيه شهادة العدل الواحد عند عامة الفقهاء .
وقال مالك : لا بدّ من شهادة رجلين عدلين ، لأنه شهادة وهو يشبه إثبات هلال شوال ، لا بدّ فيه من اثنين على الأقل .
قال الترمذي : والعمل عند أكثر أهل العلم على أنه تقبل شهادة واحدٍ في الصيام .
روى الدارقطني : أنّ رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام وأمر الناس أن يصوموا ، وقال : أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
الحكم العاشر : هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟
ذهب الحنيفة والمالكية والحنابلة : إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع ، فإذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على بقية البلاد لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وهو خطاب عام لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعاً .
وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ، ولا تكفي رؤية البلد الآخر ، والأدلة تطلب من كتب الفروع فارجع إليها هناك .
الحكم الحادي عشر : حكم الخطأ في الإفطار .
اختلف العلماء فيمن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس ، أو تسحرّ يظن عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك ، هل عليه القضاء أم لا؟
فذهب الجمهور وهو مذهب ( الأئمة الأربعة ) إلى أنّ صيامه غير صحيح ويجب عليه القضاء ، لأن المطلوب من الصائم التثبت ، لقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } فأمر بإتمام الصيام إلى غروب الشمس ، فإذا ظهر خلافه وجب القضاء .
وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى أن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } [ الأحزاب : 5 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » وقالوا : هو كالناسي لا يفسد صومه .
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح لأن المقصود من رفع الجناح رفع الإثم لا رفع الحكم ، فلا كفارة عليه لعدم قصد الإفطار ، ولكن يلزمه القضاء للتقصير ، ألا ترى أن القتل الخطأ فيه الكفارة والدية مع أنه ليس بعمد ، وقياسه على الناسي غير سليم ، لأن الناسي قد ورد فيه النص الصريح فلا يقاس عليه والله أعلم .(1/90)
الحكم الثاني عشر : هل الجنابة تنافي الصوم؟
دلت الآية الكريمة وهي { فالآن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ . . . } الآية على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم ، لما فيه من إباحة الأكل والشرب والجماع من أول الليل إلى آخره ، مع العلم أن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنباً ، وقد أمر الله بإتمام صومه إلى الليل { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } فدلّ على صحة صومه ، ولو لم يكن الصوم صحيحاً لما أمره بإتمامه .
وفي « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً وهو صائم ثمّ يغتسل » فالجنابة لا تأثير لها على الصوم ، ويجب الاغتسال من أجل الصلاة .
الحكم الثالث عشر : هل يجب قضاء صوم النفل إذا أفسده؟
اختلف الفقهاء في حكم صوم النفل إذا أفسده هل يجب فيه القضاء أم لا؟ على مذاهب .
مذهب الحنفية : يجب عليه القضاء لأنه بالشروع يلزمه الإتمام .
مذهب الشافعية والحنابلة : لا يجب عليه القضاء لأن المتطوّع أمير نفسه .
وذهب المالكية : أنه إن أبطله فعليه القضاء ، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه .
دليل الحنفية :
أ - قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } قالوا : فهذه الآية عامة في كل صوم ، فكل صومٍ شرع فيه لزمه إتمامه .
ب - قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال ، فإذا أبطله فقد ترك واجباً ، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته .
ج - حديث عائشة أنها قالت : « أصبحتُ أنا وحفصة صائمتين متطوعتين ، فأهدي إلينا طعام فأعجبنا فأفطرنا ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدرتني حفصة فسألته - وهي ابنة أبيها - فقال عليه السلام : صوما يوماً مكانه » .
دليل الشافعية والحنابلة :
أ - قوله تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 ] والمتطوّع محسن فليس عليه حرج في الإفطار .
ب - حديث « الصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام وإن شاء أفطر » .
الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة وحفصة بصيام يوم مكانه وهو نص في وجوب القضاء والله أعلم .
الحكم الرابع عشر : ما هو الاعتكاف وفي أي المساجد يعتكف؟
قال الشافعي رحمه الله : الاعتكاف اللغوي : ملازمةُ المرء للشيء وحبسُ نفسه عليه ، براً كان أو إثماً قال تعالى : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] .
والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله بنيّة العبادة ، وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين } [ الحج : 26 ] وقال تعالى : { وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } ويشترط في الاعتكاف أن يكون في المسجد لقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف على أقوال :(1/91)
أ - فقال بعضهم : الاعتكاف خاصٌ بالمساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) وهي مساجد الأنبياء عليهم السلام ، واستدلوا بحديث : « لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد . . » الحديث وهذا قول سعيد بن المسيّب .
2 - وقال بعضهم : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ، وهو قول ابن مسعود وبه أخذ الإمام مالك رحمه الله في أحد قوليه .
3 - وقال الجمهور : يجوز الاعتكاف في كل مسجد من المساجد لعموم قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } وهو الصحيح لأن الآية لم تعيّن مسجداً مخصوصاً فيبقى اللفظ على عمومه .
قال أبو بكر الجصاص : « حصل اتفاق جميع السلف أنّ من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد ، على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها ، وظاهر قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدليل ، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه ، كما أن تخصيص من خصّه بمساجد الأنبياء لمّا لم يكن عليه دليل سقط اعتباره » .
وأما المرأة فيجوز لها أن تعتكف في بيتها لعدم دخولها في النص السابق :
الحكم الخامس عشر : ما هي مدة الاعتكاف وهل يشترط فيه الصيام؟
اختلف الفقهاء في المدة التي تلزم في الاعتكاف على أقوال :
أ - قلة يوم وليلة ، وهو مذهب الأحناف .
ب - أقله عشرة أيام ، وهو أحد قولي الإمام مالك .
ج - أقله لحظة ولا حدّ لأكثره وهو مذهب الشافعي .
ويجوز عند الشافعي وأحمد ( في أحد قوليه ) الاعتكاف بغير صوم .
وقال الجمهور ( أبو حنيفة ومالك وأحمد ) في القول الآخر : لا يصح الاعتكاف إلا بصوم . واحتجوا بما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا اعتكاف إلا بصيام » .
وحديث « اعتكف وصم » وقالوا : إن الله ذكر الاعتكاف مع الصيام في قوله : { وَكُلُواْ واشربوا } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } فدل على أنه لا اعتكاف إلا بصيام .
قال الإمام الفخر : « يجوز الاعتكاف بغير صوم ، والأفضل أن يصوم معه وهو مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بالصوم .
حجةُ الشافعي رضي الله عنه هذه الآية ، لأنه بغير الصوم عاكف ، والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة » .
أقول : المشهور عند فقهاء الأحناف أنهم قسموا الاعتكاف إلى ثلاثة أقسام :
1- مندوب : وهو يتحقق بمجرد النيّة ويكفي فيه ولو ساعة .
2 - وسنة وهو في العشر الأواخر في رمضان .
3 - وواجب : وهو المنذور ولا بدّ فيه من الصوم .
والأدلة بالتفصيل تطلب من كتب الفروع .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الصيام شريعة الله لجميع الأمم فرضه الله على جميع المسلمين .(1/92)
2 - الصوم مدرسة روحية لتهذيب النفس وتعويدها على الصبر .
3 - إختار الله شهر رمضان لفريضة الصيام لأنه شهر القرآن .
4 - أهل الأعذار رخص الله لهم في الإفطار رحمة من الله وتيسيراً .
5 - لا يجوز تعدي حدود الله ولا تجاوز أوامره ونواهيه لأنها الخير البشرية .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة ، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعاً للنفس ، وإرهاقاً للجسد ، وكبتاً للحرية ، لا دايع له ولا مبرر ، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى . . وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره ، وأيّدهم في ذلك الأطباء ، فرأوا في الصيام أعظم علاج ، وخير وقاية ، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية ، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة ، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان . ولسنا الآن بصدد معرفة ( الفوائد الصحية ) للصيام ، فإنّ ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء ، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام - فإن الله عز وجل ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان ( ملكة التقوى ) وليعوده على الخضوع ، والعبودية ، والإذعان لأوامر الله العلي القدير .
الأمر الأول : فالصيام عبودية لله ، وامتثال لأوامره ، واتقاء لحرماته ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : « كل عمل آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي » فشعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل ، والاستسلام لأمره وحكمه ، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها ، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين } [ الأنعام : 71 ] .
الأمر الثاني : الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام ، هي تربية النفس ، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله ، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة ، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته ، فلا يكون عبداً للجسد ، ولا أسيراً للشهوة ، وإنما يسير على هدي الشرع ، ونور البصيرة والعقل ، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته ، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته ، فهو ملاك من الملائكة { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ] .
الأمر الثالث : أن الصوم يربي في الإنسان ، ملكة الحب والعطف والحنان ، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب ، طيّب النفس ، ويحرّك فيه كامن الإيمان ، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب ، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان ، ليشعر بشعور إخوانه ، ويُحسّ بإحساسهم ، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون ، ويمسح دموع البائسين ، ويزيل أحزان المنكوبين ، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام ، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام : « لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال : أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع » .
الأمر الرابع : أن الصوم يهذّب النفس البشرية ، بما يغرسه فيها من خوف الله جل وعلا ، ومراقبته في السر والعلن ، ويجعل المرء تقياً نقياً يبتعد عن كل ما حرّم الله ، فالسر في الصوم هو الحصول على ( مرتبة التقوى ) والله تبارك وتعالى حين ذكر الحكمة من مشروعية الصيام قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولم يقل ( لعلكم تتألمون ) أو ( لعلكم تجوعون ) أو ( لعلكم تصحّون ) والتقوى هي ثمرة الصيام التي يجنيها الصائم من هذه العبادة ، وهي إعداد نفس الصائم للوقوف عند حدود الله ، بترك شهواته الطبيعية المباحة ، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده ، وهذا هو سرّ الصيام وروحه ومقصده الأسمى ، الذي شرعه الله من أجله ، كما بينه في كتابه العزيز ، فللَّه ما أسمى الصيام ، وما أروع حكمة الله في شرعه العادل الحكيم!!(1/93)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
[ 9 ] مشروعية القتال في الإسلام
{ ثَقِفْتُمُوهُم } : الثّقْفُ : الأخذ ، والإدراك ، والظفر يقال : ثقفه وجده أو ظفر به .
قال في اللسان : ثَقِف الرجلَ : ظفر به قال تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } [ الأنفال : 57 ] ورجل ثقيف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور .
قال الراغب : الثقفُ : الحِذقُ في إدراك الشيء وفعله ، ومنه استعير المثاقفة ويقال : ثقفتُ كذا إذا أدركته ببصرك لحذقٍ في النظر .
وفي « الكشاف » : الثقفُ وجودٌ على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجلٌ ثقف ، سريع الأخذ لأقرانه ، قال الشاعر :
فإمّا تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقفْ فليس إلى خلود
والمعنى : اقتلوا الكفار حيث وجدتموهم وظفرتم بهم في حِلّ أو حرم .
{ والفتنة } : الفتنة : الابتلاء والاختبار ، وأصلها من الفتن وهو إدخالُ الذهب النارَ لتظهر جودته من رداءته .
قال الأزهري : جماع معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان ، والاختبار ، مأخوذ من قولك : فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميزّ الرديء من الجيد .
والمعنى : إيذاء المؤمن بالتعذيب والتشريد ، بقصد أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً ، أعظم جرماً عند الله من القتل . وقال ابن عباس : الشرك أعظم من القتل في الحرم .
{ والحرمات قِصَاصٌ } : الحُرُمات جمع حُرْمة ، كالظُلمات جمع ظلمة ، والحُرْمة كل ما منع الشرع من انتهاكه ، وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر الحرام ، وحرمة البلد الحرام ، وحرمة الإحرام ، والقصاصُ : المساواة والمماثلة وقد تقدم .
والمعنى : إذا انتهكوا حرمة الشهر فقاتلوكم فيه فقاتلوهم أنتم أيضاًَ ولا تتحرجوا . قال الزجاج : أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص .
{ التهلكة } : التهلُكة بضم اللام بمعنى الهلاك ، يقال : هلكَ يهلك هلاكاً وتهلُكةً .
قال أبو عبيدة : التهلكةُ ، والهَلاَك ، والهُلْك واحد ، مصدر هلك .
وفي اللسان : التهلكةُ : الهلاكُ ، وقيل : كلّ شيء تصير عاقبته إلى الهلاك .
{ المحسنين } : جمع محسن وهو الذي ينفع غيره بنفعٍ حسنٍ ، أو يحسن عمله بفعل ما يرضي الله تعالى .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : قاتلوا - أيها المؤمنون - في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه الذين يقاتلونكم من الكفار ، ولا تعتدوا بقتل الأطفال ، والنساء ، والشيوخ ، ممن لا قدرة لهم على القتال ، فإن الله يكره البغي والعدوان أيّاً كان مصدره .
واقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم ، ولا يصدّنكم عنهم أنكم في أرض الحرم ، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة بلدكم الأصلي ، الذي أخرجوكم منه ظلماً وعدواناً ، والفتنة للمؤمنين وإيذاؤهم بالتعذيب والتشريد ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة للمال ، أشد قبحاً من القتل ولا تقاتلوهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام ، حتى يبدؤوكم بالقتال ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ولا تستسلموا لهم ، فالبادئ هو الظالم ، والمدافع غير آم كذلك جزاء الكافرين ، فإن انتهوا عن عدوانهم فإن الله غفور رحيم .(1/94)
ثمّ أكد تعالى الأمر بقتال الكفار ، وبيّن الغاية منه وهي ألاّ يوجد شيء من الفتنة في الدين ، فقال : قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم ، ويكون الدين خالصاً لله ، فلا يعبدون دونه أحد ، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان ، فإذا انتهوا عن قتالكم ، ودخلوا في دينكم فاتركوا قتالهم لأنه لا ينبغي أن يعتدي إلا على الظالمين . ثم أخبر تعالى أنّ المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين ، فعلوا ما هو أشد قبحاً من القتل ، فقال مخاطباً المؤمنين : الشهر الحرام يقابل بالشهر الحرام ، وهتك حرمته تقابل بهتك حرمته ، فلا تبالوا - أيها المؤمنون - بالقتال فيه إذا اضررتم للدفاع عن دينكم ، وإعلاء كلمة الله ، فمن تعرّض لقتالكم واعتدى عليكم فقاتلوه ، وردّوا عدوانه بلا ضعفٍ ولا تقصير ، بمثل ما يعتدي عليكم ، واتقوا لاله فلا تبغوا وتظلموا في القصاص ، إن الله يحب المتقين .
ثم أمر تعالى بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال : وأنفقوا في سبيل الله أي ابذلوا المال في سبيل الله لنصرة دينه ، والدفاع عن الحق ، ولا تبخلوا فتشحوا بالمال ، فإن ذلك يضعفكم ، ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون ، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين .
سبب النزول
أولاً : روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صُدّ عن البيت ، ونحر هديه بالحديبية ، وصالحه المشركون على ان يرجع من العام المقبل رجع ، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك ، وأن يصدوهم ويقاتلوهم ، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } قاله ابن عباس .
ثانياً : وروي أن المشركين قالوا للنبي عليه السلام : أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم ، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية { الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاله الحسن .
ثالثاً : وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فصدّه كفار قريش عن البيت فانصرف ، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله ، فدخله سنة سبع وقضى نسكه فنزلت هذه الآية { الشهر الحرام بالشهر الحرام } .
رابعاً : وروى ابن جرير الطبري : عن ( أسلم أبي عمران ) قال : « كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر ( عقبة بن عامر ) وعلى أهل الشام ( فضالة بن عُبيد ) فخرج صفٌ عظيم من الروم فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ، ألقى بيده إلى التهلكة ، فقام ( أبو أيوب الأنصاري ) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار ، إنّا لما أعزّ الله دينه ، وكثّر ناصريه ، قال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الإسلام ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة في الأموال ، وإصلاحها ، وتركنا الغزو » فما زال ( أبو أيوب ) غازياً في سبيل الله ، حتى قبضه الله ودفن بالقسطنطينية .(1/95)
وجوه القراءات
قرأ الجمهور ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ، فإن قتلوكم فاقتلوهم ) بالألف في ( تقاتلوهم ) و ( يقاتلوكم ) و ( قاتلوكم ) وقرأ حمزة والكسائي ، وخلف بحذف الألف فيهن ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكمفيه ، فإن قتلوكم ) .
قال الطبري : « وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ( ولا تقاتلوهم ) لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم » .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } .
قال العكبري : ( كذلك ) مبتدأ ، و ( جزاء ) خبره ، والجزاء مصدر مضاف إلى المفعول ، ويجوز أن يكون في معنى المنصوب ويكون التقدير : كذلك جزاء الله الكافرين .
ثانياً : قوله تعالى : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتّى بمعنى ( كي ) ويجوز أن تكون بمعنى إلى أن ، وكان تامة ، والمعنى : وقاتلوهم إلى أن لا توجد فتنة .
ثالثاً : قوله تعالى : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } عدوان : اسم ( لا ) والجملة ( إلا على الظالمين ) في موضع رفع خبر ( لا ) قال العكبري : ففي الإثبات يقول : العدوان على الظالمين ، فإذا جئت بالنفي وإلاّ بقي الإعراب على ما كان عليه .
لطائف التفسير
الطيفة الأولى : لا يذكر في القرآن الكريم لفظ ( القتال ) أو ( الجهاد ) إلا وهو مقرون بعبارة ( سبيل الله ) وذلك يدل على أن الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة هي ( إعلاء كلمة الله ) لا السيطرة أو المغنم ، أو إظهار الشجاعة ، أو الاستعلاء في الأرض ، وقد وضّح هذه الغاية النبيلة قوله عليه السلام : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » .
اللطيفة الثانية : قال الزمخشري عند قول الله تعالى : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل ، وقيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت . . جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت ، ومنه قول القائل :
لقتلٌ بحدّ السيف أهون موقعاً ... على النفس من قتلٍ بحد فِراق
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } .
قال الإمام الفخر : فإن قيل : لم سمّى ذلك القتل عدواناً مع أنه حقٌ وصواب؟
قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان ، فصحّ إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
قال الزجاج : والعرب تقول : ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه .(1/96)
وجهل فلان عليّ فجهلت عليه . وعليه قول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ . . } الآية .
الدفاع عن النفس مشروع ولا يعدّ اعتداءً ، وإنما سمي في الآية اعتداءً ( فاعتدوا عليه ) من باب ( المشاكلة ) وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقول القائل :
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
والأصل فيها ( فمن اعتدى عليكم ) فقابلوه وجازوه بمثل ما اعتدى عليكم ، وباب المشاكلة وردت فيه آيات عديدة كقوله تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] وقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] .
اللطيفة الخامسة : قال بعض العلماء : ( لا أعلم مصدراً جاء في لغة العرب على وزن ( تفعُلة ) بضم العين إلا في هذه الآية { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، وقال صاحب « الكشاف » : ويجوز أن يقال : أصله التهلِكة ، كالتجربة ، والتبصرة على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار .
قال الإمام الفخر : « إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به ، واتخذوه حجة قوية ، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى ، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها » .
أقول : ما ذكره الإمام الفخر هو الحق والصواب ، فالقرآن الكريم حجة على اللغة ، وليست اللغة حجة على القرآن ، ورضي الله عن الإمام الفخر فقد أجاد في هذا وأفاد .
اللطيفة السادسة : الجهاد في سبيل الله أفضل القربات عند الله ، ولا يعدله شيء من العبادات لقوله عليه السلام : « مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ، القانت بآيات الله ، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله » .
كتب ( عبد الله بن المبارك ) إلى ( الفُضيل بن عياض ) بهذه الأبيات :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمتَ أنك في العبادة تلعب
من كان يخضُب خدّه بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضّب
أو كان يتُعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وهجُ السنابل والغبار الأطيب
فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : متى فرض الجهاد على المسلمين؟
لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظوراً على المسلمين ، بنصوص كثيرة في كتاب الله تعالى ، منها قوله تعالى : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } [ المائدة : 13 ] وقوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] وقوله : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } [ آل عمران : 20 ] وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] وأمثال هذه الآيات كثير تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين ن قتال أعدائهم ، وهناك نص صريح بالكف عن القتال وهو قوله تعالى :(1/97)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس . . } [ النساء : 77 ] الآية .
والحكمة في الكف عن القتال : في بدء الدعوة يمكن أن نلخِّص أسبابها فيما يلي :
أ - إن المسلمين كانوا في مكة قلة ، وهم محصورون فيها لا حول لهم ولا طول ، ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم ، فشاء الله أن يكثروا وأن يكون لهم أنصار وأعوان ، وأن يرتكزوا قاعدة آمنه تحميها الدولة ، فلمّا هاجروا إلى المدينة المنورة أذن لهم بالقتال بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم .
ب - كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر امتثالاً للأمر ، وخضوعاً للقيادة ، وانتظاراً للإذن ، وقد كان العرب في الجاهلية شديدي الحماسة ، لا يصبرون على الضيم ، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة ، والخفة للقتال عند أول داع ، فكان لا بدّ من تمرينهم على تحمل الأذى ، والصبر على المكاره والخضوع لأمر القيادة العليا ، حتى يقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحميّة والطاعة ، في جماعةٍ هيأتهم إرادة الله لأمر عظيم .
ج - البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة ، وكان صبر المسلمين على الأذى - وفيهم الأبطال والشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين - مما يثير النخوة ، ويحرك القلوب نحو الإسلام ، حصل هذا بالفعل في ( المحاصرة في الشعب ) عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم ، كي يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد الاضطهاد على بني هاشم ، ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام ، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزّقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة ، وانتهى ذلك الحصار المشؤوم .
د - كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت ، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم إلى الشرك والضلال ، فلو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة ، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت ، فلما أحدثت الهجرة وانعزلت الجماعة أبيح لهم القتال .
الحكم الثاني : ما هي أول الآيات في تشريع القتال؟
اختلف السلف : في أول آية نزلت في القتال ، فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت هي قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] نزلت بالمدينة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كفّ عنه .
وروي عن جماعة من الصحابة : منهم أبو بكر الصديق وابن عباس وسعيد بن جبير أن أول آيةٍ نزلت في القتال هي قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] .
قال أبو بكر بن العربي : « والصحيح أن أول آية نزلت آية الحج(1/98)
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } [ الحج : 39 ] ثم نزل { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } فكان القتال إذناً ثم أصبح بعد ذلك فرضاً ، لأن آية الإذن في القتال مكية ، وهذه الآية مدنية متأخرة « .
الحكم الثالث : هل يباح القتال في الحرم؟
دل قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } على حرمة القتال في الحرم ، إلا إذا بدأ المشركون بالعدوان ، فيباح لنا قتالهم دفعاً لشرهم وإجرامهم ، ولا يجوز لنا أن نبدأهم بالقتال عملاً بالآية الكريمة وعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة .
وقد روي عن مجاهد : في قوله تعالى : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } أنه قال : » لا تقاتل في الحرم أحداً أبداً ، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك « .
وروي عن قتادة أنه قال : الآية منسوخة نسختها آية براءة { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
قال العلامة القرطبي : وللعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما أنها منسوخة ، والثاني أنها محكمة .
قال مجاهد : الآية محكمة ، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام بعد أن يقاتل ، وبه قال طاووس ، وهو الذي يقتضيه نص الآية ، وهو الصحيح من القولين ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه .
ويدل عليه ما روي في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ولسم خطب يوم فتح مكة فقال : » يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ولم تحلّ لأحدٍ قبلي ، ولا تحل لأحدٍ بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من النهار ، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة « .
مناظرة لطيفة
قال القاضي أبو بكر ابن العربي : » حضرتُ في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة ( أبي عقبة ) الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة ، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهيّ المنظر على ظهره أطمار ، فسلّم سلام العلماء وتصدّر في صدر المجلس ، فقال له الزنجاني : من السيد؟ فقال : رجل سلبة الشُطّار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجلٌ من صاغان من طلبة العلم ، فقال القاضي مبادراً : سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة « الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه أم لا؟ » فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } وقرئ : ( ولا تقتلوهم ) وقرئ ( ولا تقاتلوهم ) فإن قرئ : ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا أُنهي عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً ظاهراً على النهي عن القتل .
فاعترض عليه القاضي الزنجاني منتصراً للشافعي ومالك - وإن لم ير مذهبهما على العادة - فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :(1/99)
{ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عليّ ( عامة ) في الأماكن ، والآي التي احتججتُ بها ( خاصة ) ، ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص ، فأبْهَتَ القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام « .
قال ابن العربي : » فثبت النهي عن القتال فيها قرآناً وسنة ، فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه ، وأما الزاني والقاتل فلا بدّ من إقامة الحد عليه ، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيُقْتل بنصّ القرآن « .
الحكم الرابع : ما المراد بالعدون في الآية الكريمة؟
حرّم الباري جل وعلا الاعتداء في قوله : { وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } .
1 - ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المُثْلة ، والغلول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ ، الذين لا قدرة لهم على القتال ، ويدخل فيها قتل الرهبان ، وتحريق الأشجار ، وقتل الحيوان لغير مصلحة . فكل هذا داخل في النهي { وَلاَ تعتدوا } .
ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا الوليد ، ولا أصحاب الصوامع « .
وفي » الصحيحين « عن ابن عمر أنه قال : » وُجدت امرأةٌ في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولةً فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان « .
ب - وقيل المراد بقوله { وَلاَ تعتدوا } النهيُ عن البدء بالقتال ، وهو مروي عن مقاتل .
ج - وقيل المراد به النهي عن قتال من لم يقاتل ، وهو قول سعيد بن جبير ، وأبي العالية .
قال القرطبي : » ويدل عليه من النظر أن قاتل ( فَاعَلَ ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة ، والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان ، والزّمْنَى ، والشيوخ فلا يقتلون ، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( يزيد ابن أبي سفيان ) حين أرسله إلى الشام ، إلاّ أن يكون لهؤلاء إذاية ، وللعلماء فيهم صور ست :
الأولى - النساء إن قاتلن قُتلن لعموم قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } .
الثانية - الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية ، ولأنه لا تكليف عليهم .
الثالثة - الرهبان لا يُقتلون ولا يُسترقون لقول أبي بكر ( فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ) .
الرابعة - الزّمني إن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة .
الخامسة - الشيوخ قال مالك : لا يقتلون وهو قول جمهور الفقهاء إذا كان لا ينتفع بهم في رأي ولا مدافعة .(1/100)
السادسة - العسفاء وهم الأجراء والفلاحون لقول عمر ( اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب ) .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - القتال ينبغي أن يكون لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه .
2 - الله جل وعلا يكره العدوان والظلم والطغيان أياً كان مصدره .
3 - فتنة المؤمنين بالاضطهاد والتعذيب والتشريد مثل القتل .
4 - لا يعتدى على النساء والضعفاء والصبيان ممن لا قدرة لهم على القتال .
5 - الجهاد لدفع أذى المشركين ، وقبر الفتنة ، وتأمين سير الدعوة .
6 - ترك الانفاق والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس سبب للهلاك .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الصراع بين الحق والباطل قديم قدم هذه الحياة ، لا يهدأ ولا ينتهي ولا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون!!
ولا بد لكل أمة من أمم الأرض ، تريد أن تحيا حياة العزة والكرامة ، من أن تستعد الاستعداد الكامل لمجابهة عدوها بكل ما تملك من قوة ، وأن تأخذ بأسباب النصر ، فتهيئ شبابها للجهاد والقتال ، لأنه لا عيش في هذه الدنيا إلا للأقوياء ، ولا منطق إلا للقوة ، وقديماً قال شاعرنا العربي :
ومن لم يذُدْ عن حوصَه بسلاحة ... يُهدّمْ ومن لا يظلم الناس يظلم
والإسلام دين الله إلى الإنسانية ، يهتم بدعوة الناس إلى الدخول في هدايته ، والانضواء تحت رايته ، لينعموا بحياة الأمن والاستقرار ، ويعيشوا العيشة الكريمة التي أرادها الله لنبي الإنسان وإن الأمة الإسلامية . هي الأمة التي اختارها الله لإعلاء دينه ، وتبليغ وحيه ، وايصال هذا الهدى والنور إلى أمم الأرض .
فإذا وقف أحد في طريق الدعوة ، وأراد أن يصدها عن المضي في طريقها ، فلا بدّ من دحره ، وتطهير الأرض من شره ، لتصل هداية الله إلى النفوس ، وتعلو كلمة الحق ، ويأمن الناس على حريتهم الدينية ، في الإيمان بالله الواحد القهار . ولذلك شرع القتال لدفع عدوان الظالمين ، ولتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة ، وإيصالها للناس في حرية واطمئنان . وصدق الله { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ } [ البقرة : 193 ] .
ولا يُقاتل إلا الباغي المعتدي ، الذي يريد أن يفرض إرادته على الأمة بالقهر والسلطان ، وأن يصد عن دين الله بقوة الحديد والنار ، ويفتن المؤمن بوسائل الفنة والإغراء . { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } .(1/101)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
[ 10 ] إتمام الحج والعمرة
التحليل اللفظي
{ أُحْصِرْتُمْ } : الإحصار في اللغة معناه : المنع والحبس ، يقال : حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر :
وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت ... عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول
قال في « اللسان » : الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه .
قال الفراء : العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته : قد أُحْصر ، وفي الحبس إذا حبسه سلطان ، أو قاهر مانع : قد حُصِر .
وقال الأزهري وأبو عبيدة : حًصر الرجل في الحبس ، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به .
{ الهدي } : الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها ، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف ، جمع هديّة قاله ابن قتيبة ، وقال القرطبي : وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله .
{ مَحِلَّهُ } : المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم ، أو مكان الإحصار .
{ نُسُكٍ } : النّسك : جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل النسك العبادة ومنه قوله تعالى : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [ البقرة : 128 ] أي متعبداتنا .
{ رَفَثَ } : الرفث : الإفحاش للمرأة بالكلام . وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه ، وأنشد أبو عبيدة :
وربّ أسراب حجيجٍ كظّم ... عن اللغا ورفث التكلم
{ فُسُوقَ } : الفسوق في اللغة : الخروج عن الشيء يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها ، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل ، ومنه قوله تعالى في حق إبليس { كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] والمراد في الآية جميع المعاصي .
{ جِدَالَ } : الجدال : الخصام والمراء ، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر .
{ الزاد } : ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره ، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى :
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى ... ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا ندمتَ على ألاّ تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا ... { جُنَاحٌ } : الجناحُ : الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم .
{ أَفَضْتُم } : أي اندفعتم يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه .
قال الراغب : فاض الماء إذا سال منصباً ، والفيضُ : الماء الكثير ، ويقال غيضٌ من فيض ، أي قليل من كثير ، وقوله تعالى : { أَفَضْتُم مِّنْ عرفات } أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء .
وقال الزمخشري : أفضتم : دفعتم بكثرة ، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضتم أنفسكم ، فتُرك ذكرُ المفعول .
{ عرفات } : اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج ، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وهي اسم في لفظ الجمع ( كأذرعات ) فلا تجمع .
قال الفراء : عرفات جمع لا واحد له ، وقول الناس : نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد . وليس بعربي محض . وقوله صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة »(1/102)
هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات ، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب .
{ المشعر الحرام } : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ، وسمي ( مَشْعراً ) لأنه مَعْلم للعبادة ، ووصف بالحرام لحرمته .
{ مَّنَاسِكَكُمْ } : المناسك جمع ( مَنْسَك ) الذي هو المصدر بمنزلة النسك ، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، وإن جعلتها جمع ( مَنْسَك ) الذي هو موضع العبادة كان التقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف أفاده الفخر .
{ خَلاَقٍ } : أي نصيب وقد تقدم ، ومعنى الآية : ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله .
المعنى الإجمالي
أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة ، وأداء المناسك على الوجه الأكمل ابتغاء وجه الله ، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض ، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه ، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية ، إمّا صيام ثلاثة أيام ، أو يذبح شاة ، أو يتصدق على ستة مساكين ، لكن مسكين فدية ، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر الله تعالى ، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه . ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم ، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي .
ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي ( شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته ، وعن التمتع بنعيم الدنيا ، لأنه مقبل على الله ، قاصد لرضاه ، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن ، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس ، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله .
ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور ، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية ، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج ، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات ، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام ، بالدعاء والتكبير والتلبية ، ون يشكروه على نعمة الإيمان ، فإذا فرغوا من مناسك الحج ، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم .
روي عن ابن عباس أنه قال : « كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم ، يتفاخرون بمآثر آبائهم ، يقول الرجل منهم : كان أبي يُطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } .(1/103)
وجه الارتباط بالآيات السابقة
ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام ، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام ، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم ، والإحرام ، والمسجد الحرام ، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية ، وأراد القضاء في العام القابل ، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال ، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم .
سبب النزول
أولاً : عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال : « حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا!! أما تجد شاة؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مساكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك » فنزلت { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة .
ثانياً : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودن ، ويقولون : نحو المتوكلون فيسألون الناس ، فأنزل الله تعالى { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } .
ثالثاً : عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحس ، وسائر العرب يقفون بعرفات ، » فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } .
وفي رواية كانوا يقولون : « نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم » .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور ( أو نُسُكٍ ) بضم النون والسين ، وقرأ الحسن ( أو نُسْكٍ ) بسكون السين .
2 - قرأ الجمهور ( فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج ) بالفتح في الجميع ، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع ( فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج ) .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } قال الزمخشري : رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر ، أو نصب على تقدير : فاهدوا ما استيسر .
2 - قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ( الحج ) مبتدأ و ( أشهرٌ ) الخبر ، والتقدير : أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم : البرد شهران أي وقت البرد شهران .
أقول : إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر .
3 - قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } ( لا ) نافية للجنس ( رفث ) اسمها و ( في الحج ) الخبر و ( لا ) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا .
4 - قوله تعالى : { واذكروه كَمَا هداكم } الكاف نعت لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة ، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى ( على ) والتقدير : اذكروا الله على ما هداكم ، وقوله تعالى { وَإِن كُنْتُمْ } إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة .(1/104)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب ، وهذا ليس مراداً هنا ، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً ، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة .
اللطيفة الثانية : المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها ، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر :
إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ ... فما حججتَ ولكنْ حجّت العير
لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ... ما كلّ من حج بيت الله مبرور
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } فيه مجاز بالحذف تقديره : فحلق ففدية من صيام ، فحذف « فحلق » اختصاراً ، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] حذف كلمة ( فأفطر ) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه .
اللطيفة الرابعة : التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } جاء على طريقهم في التوكيد ، مثل قوله : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد ، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة ، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال ( عشرة كاملة ) فتنبه له .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول : لسنا كسائر الناس ، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس ، ويفيضوا من حيث أفاض الناس ، أفاده ابن قتيبة .
اللطيفة السادسة : من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار ، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } فالمراد بالأول زمان الحج ، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك ، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو ( الحرم ) ولو قال : فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه ، لم يؤدّ هذه المعاني كلها ، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي .
قال أبو السعود : « وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل العمرة واجبة كالحج؟
اختلف الفقهاء في حكم العمرة ، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج ، وهو مروي عن ( علي ) و ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ) .
وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة ، وهو مروي عن ( ابن مسعود ) و ( جابر بن عبد الله ) .(1/105)
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً - قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب .
ثانياً - ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه « مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة » .
ثالثاً - ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة » .
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي :
أولاً : عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] وقوله جل ثناؤه : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج . . . } [ الحج : 27 ] الآية .
ثانياً : قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة ، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة ، وأنها تختلف في الحكم عن الحج .
ثالثاً : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الحج جهادٌ والعمرة تطوع » .
رابعاً : ما روي عن جابر بن عبد الله « أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا ، وأن تعتمروا خير لكم » .
خامساً : وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا : إنها محمولة على ما كان بعد الشروع ، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه ، وهذا يجب بالاتفاق .
قال العلامة الشوكاني : « وهذا وإن كان فيه بعد ، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة ، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب ، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها » .
أقول : لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم .
الحكم الثاني : هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟
اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار ، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام .
فذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو ، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة .
وقال ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو .
وذهب أبو حنيفة : إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ ، أو مرضٍ ، أو خوفٍ ، أو ذهاب نفقة ، أو ضلال راحلةٍ ، أو موت محرم الزوجة في الطريق ، وغير ذلك من الأعذار المانعة .
وحجته : ظاهر الآية { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فإن الإحصار - كما يقول أهل اللغة - يكون بالمرض ، وأما الحصر ( المنع والحبس ) فيكون العدو ، فلما قال تعالى : { أُحْصِرْتُمْ } ولم يقل ( حصرتم ) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو .(1/106)
واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل .
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض ، ولو كان من المرض لقال : ( فإذا برأتم ) ولقول ابن عباس : لا حضر إلا حصر العدو ، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل .
الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح ، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة ، والموافق ليسر الإسلام وسماحته ، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة ، فإنهم جميعاً متفقون على أن ( الإحصار ) يكون بالمرض ، و ( الحصر ) يكون بالعدو ، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير ، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته ، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر ، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله حيث قال ما نصه : « وأولى التأويلين بالصواب في قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدو ، أو مرض ، أو علة من الوصول إلى البيت ، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم . ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت ، لوجب أن يكون : فإن حصرتم » .
أقول ويؤيده ما روي في « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني » فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل ، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه .
الحكم الثالث : ماذا يجب على المحصر ، وأين موضع ذبح الهدي؟
الآية الكريمة صريحة في أن على ( المحصر ) أن يذبح الهدي لقوله تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } وأقله شاة ، والأفضل بقرة أو بدنة ، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى : { فَمَا استيسر } وهذا رأي جمهور الفقهاء ، وروي عن ابن عمر أنه قال : بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة ، والصحيح رأي الجمهور .
وأما المكان : الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال :
فقال الجمهور ( الشافعي ومالك وأحمد ) : هو موضع الحصر ، سواءً كان حلاً أو حرماً .
وقال أبو حنيفة : لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] .
وقال ابن عباس : إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ، وإلاّ ينحره في محل إحصاره .(1/107)
قال الإمام الفخر : « ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال الشافعي : المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل ، وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان » .
الترجيح : والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم ، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل ، وأما قوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] فذلك - كما يقول الشوكاني - في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت ، والله تعالى أعلم .
الحكم الرابع : ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟
دل قوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي } على وجوب دم الهدي على المتمتع ، فإذا لم يجد الدم - إما لعدم المال ، أو لعدم الحيوان - صام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج . . . } الآية .
فقال أبو حنيفة : المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين ( إحرام العمرة ) و ( إحرام الحج ) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج ، والأفضل أن يصوم يوم التروية ، ويوم عرفة ، ويوماً قبلهما يعني ( السابع ، والثامن ، والتاسع ) من ذي الحجة .
وقال الشافعي : لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى : { فِي الحج } وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر ، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر ، ولا أيام التشريق ، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة .
ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد ، فله أن يصومها في أيام التشريق ، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما « لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي » .
ومنشأ الخلاف بين ( الحنفية ) و ( الشافعية ) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى : { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج } فالحنفية قالوا في أشهر الحج ، والشافعية قالوا : في إحرام الحج ، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين .
وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها .
فقال الشافعية : وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } .
وقال أحمد بن حنبل : يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه .
وقال أبو حنيفة : المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله .
قال الشوكاني : والأول أرجح فقد ثبت في « الصحيح » من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله » .(1/108)
وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ ( وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم ) .
الحكم الخامس : ما هي شروط وجوب دم التمتع؟
قال العلماء : يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط :
الأول : تقديم العمرة على الحج ، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً .
الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج .
الثالث : أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } .
الرابع : ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } .
الخامس : أن يحرم بالحج من مكة ، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع .
وقال المالكية : شروطه ثمانية وهي كالتالي ( 1 - أن يجمع بين الحج والعمر 2 - في سفر واحد 3 - في عام واحد 4 - في أشهر الحج 5 - وأن تقدم العمرة على الحج 6 - وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة 7 - وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد 8- وألاَّ يكون من أهل مكة ) .
الحكم السادس : من هم حاضرو المسجد الحرام؟
دل قوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة ، وقال ( مالك ، والشافعي ، وأحمد ) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام ، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور ، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع ، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع ، والتقدير : ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى : { حَاضِرِي المسجد الحرام } .
فقال مالك : هم أهل مكة بعينها ، واختاره الطحاوي ورجحه .
وقال ابن عباس : هم أهل الحرم ، قال الحافظ : وهو الظاهر .
وقال الشافعي : من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة ، واختاره ابن جرير .
وقال أبو حنيفة : هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية .
أقول : لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم .
الحكم السابع : ما هي أشهر الحج؟
واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ما هي هذه الأشهر؟
فذهب مالك : إلى أن أشهر الحج ( شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة كلّه ) وهو قول ( ابن عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( عطاء ) و ( مجاهد ) .
وذهب الجمهور ( مالك ، والشافعي ، وأحمد ) : إلى أن أشهر الحج ( شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ) وهو قول ابن عباس ، والسدي ، والشعبي ، والنخعي ، وأما وقت العمرة فجميع السنة .
قال الشوكاني : « وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر ، فمن قال : إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير ، ومن قال : ليس إلا العشر منه قال : يلزم دم التأخير » .(1/109)
الحكم الثامن : هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف الفقهاء فيم أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه؟ على أقوال :
الأول : روي عن ابن عباس أنه قال : من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج .
الثاني : فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة ، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة .
الثالث : مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج .
الرابع : مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك ، واستدلوا بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وقالوا : كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة ، كذلك يجوز للحج .
قال العلامة القرطبي : « وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام » وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم .
الحكم التاسع : ما هي محرمات الإحرام؟
حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة ، منها ما ثبت بالكتاب ، ومنها ما ثبت بالسنة ، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي :
أولاً : الجماع ودواعيه ، كالتقبيل ، واللمس بشهوة ، والإفحاش بالكلام ، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته .
ثانياً : اكتساب السيئات ، واقتراف المعاصي ، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله عز وجل .
ثالثاً : المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم .
والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } وهذه كلها بنص الآية الكريمة .
روى البخاري في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من حجّ فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » .
وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب ، ولبس المخيط ، وتقليم الأظافر ، وقص الشعر أو حلقه ، وانتقاب المرأة ، ولبسها القفازين . . إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع .
الحكم العاشر : ما هو حكم الوقوف بعرفة ، ومتى يبتدئ وقته؟
أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك » .
ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع ، إلى طلوع فجر اليوم العاشر ، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً ، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب ، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء .
وقد روي عن الإمام ( مالك ) رحمه الله أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل ، قال القرطبي : « واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه؟
فقال ( الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ) عليه دم ، وقال ( مالك ) عليه حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج » .(1/110)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
[ 11 ] القتال في الأشهر الحرام
التحليل اللفظي
{ كُرْهٌ } : بضم الكاف أي مكروه لكم تكرهه نفوسكم لما فيه من المشقة ، وُضع المصدر موضع الوصف مبالغةً ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] وكقول الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
قال ابن قتيبة : الكَره بالفتح معناه الإكراه والقهر ، وبالضم معناه المشقة .
{ الشهر الحرام } : الشهر الذي يحرم فيه القتال ، والمراد به هنا شهر رجب ، وكان يدعى { الأصم ) لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له .
{ وَصَدٌّ } : الصدّ : الصرف والمنع يقال : صدّه عن الشيء أي منعه عنه .
{ والفتنة } : أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم .
{ يَرْتَدِدْ } : أي يرجع ، والردّة : الرجوع من الإيمان إلى الكفر ، ويُسمى فاعل ذلك مرتداً .
قال الراغب : الارتداد والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه ، لكن الردة تختص بالكفر ، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه } [ المائدة : 54 ] وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر ، وقال تعالى : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] .
{ حَبِطَ } : أي فسد وبطل عمله ، قال في « اللسان » : حبَط حبْطاً وحبوطاً : عمل عملاً ثم أفسده ، وفي التنزيل؟ { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] أي أبطل ثوابهم .
قال أهل اللغة : أصل الحَبْط مأخوذ من ( الحَبَط ) وهو أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ، ولا يخرج عنها ما فيها وفي الحديث « وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلمّ » فسمي بطلان العمل بهذا لما فيه من الفساد .
{ هَاجَرُواْ } : الهجرة مفارقة الأهل والوطن في سبيل الله لنصرة دينه .
قال الراغب : الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان وأصلها من الهَجْر الذي هو ضد الوصل ، ومنه قيل للكلام القبيح ( هُجْر ) لأنه مما ينبغي أن يُهجر ، والهاجرة : وقت الظهيرة لأنه وقت يهجر فيه العمل .
{ وَجَاهَدُواْ } : الجهاد بذل الوسع والمجهود وأصله من الجهد الذي هو المشقة ، وسمي قتال الأعداء ( جهاداً ) لأن فيه بذل الروح والمال لإعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه .
{ يَرْجُونَ } : الرجاء هو الأمل والطمع في حوصل ما فيه نفع .
قال الراغب : الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة .
وفي « اللسان » : الرجاء من الأمل نقيض اليأس ، وهو بمعنى التوقع والأمل ، قال بشر يخاطب بنته :
فرجّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزيّ آبا
{ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : أي واسع المغفرة للتائبين المستغفرين ، عظيم الرحمة بعبادة المؤمنين .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : « فُرض عليكم - أيها المؤمنون - قتال الكفار ، وهو شاق عليكم ، تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلال النفس ، ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير ، وقد تحب شيئاً وفيه كل الخطر والضرر ، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم ، فلا تكرهوا ما فرض عليكم من جهاد عدوكم ، فإنه فيه الخير لكم في العاجل والآجل .(1/111)
يسألك أصحابك - يا محمد - عن القتال في الشهر الحرام ، أيحل لهم القتال فيه؟ قل لهم : القتال في نفسه أمر كبير ، ولكن صدّ المشركين عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام ، وكفرهم بالله ، وإخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته ، كلُّ ذلك أكبرُ جرماً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين ، وقد كانوا يفتنونكم عن دينكم فذلك أكبر عند الله من القتل ، فإن كنتم قتلتموهم في الشهر الحرام ، فقد ارتكبوا ما هو أشنع وأقبح من ذلك ، حيث فتنوكم عن دينكم ، والفتنة أكبر من القتل .
ثمّ أخبر تعالى بأن المشركين لا يزالون جاهدين في فتنة المؤمنين ، حتى يردوهم عن دينهم إن قدروا على ذلك ، فهم غير نازعين عن كفرهم وإجرامهم ، ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه ، فقد بطل عمله وذهب ثوابه ، وأصبح من المخلدين في نار جهنم ، لأنه استجاب لداعي الضلال .
ثم أخبر تعالى أن المؤمنين الذين هاجروا مع رسول الله ، وبذلوا جهدهم في مقاومة الكفار أعداء الله هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه ، وهم جديرون بهذا الفضل والعطاء لأنهم استفرغوا ما في وسعهم ، وبذلوا غاية جهدهم في مرضاة الله ، فحُقَّ لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة .
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ( عبد الله بن جحش ) على سرية في جمادى الآخرة ، قبل قتال بدر بشهرين ، ليترصدوا عيراً لقريش فيها ( عمرو بن عبد الله الحضرمي ) وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام ، شهراً يأمن فيه الخائف ، ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير ، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } قال ابن عباس : لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } قتالٍ : بدل من الشهر الحرام بدل اشتمال والمعنى : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه .
2 - قوله تعالى : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } صدّ : مبتدأ و ( عن سبيل الله ) متعلق به ( وكفر ) معطوف عن صدّ ( وإخراج أهله ) معطوف أيضاً ، وخبر الأسماء الثلاثة ( أكبر ) .
قال الزمخشري : ( والمسجد الحرامِ ) عطف على ( سبيل الله ) ولا يجوز أن يعطف على الهاء في ( به ) .
3 - قوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ } مَنْ : شرطية مبتدأ والخبر هو جملة { فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } .(1/112)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : كلمة ( عسى ) توهم الشك في أصلها مثل ( لعلّ ) وهي من الله يقين ، قال الخليل : « عسى » من الله واجب في القرآن قال : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } [ المائدة : 52 ] وقد وُجد ، و { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [ يوسف : 83 ] وقد حصل .
اللطيفة الثانية : قال الحسن : لا تكرهوا الشدائد والملمات ، فربّ أمر تكرهه فيه نجاتك ، وربّ أمرٍ تحبه فيه عطبك ، وأنشد أبو سعيد الضرير :
ربّ أمرٍ تتّقيه ... جرّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه ... وبدا المكروه فيه
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } أي مكروه لكم بالطبع ، لأنه شاق وثقيل على النفس ، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بحكم الله وقضائه كالمريض يشرب الدواء المر البشع الذي تعافه نفسه ، لاعتقاده بما فيه من النفع في العاقبة ، وإنما وضع المصدر في الآية موضع الوصف مبالغة كقوله الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
اللطيفة الرابعة : استعظم المشركون القتل في الشهر الحرام ، مع أنهم فعلوا ما هو أفظع وأشنع ، من الصد عن دين الله ، والفتنة للمؤمنين ، وفيهم يقول بعض الشعراء :
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ
صدودكُمُ عمّا يقولُ محمدٌ ... وكفرٌ به واللهُ راءٍ وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهلَه ... لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ
فإنّا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلةَ لمّا أوقد الحربَ واقد
اللطيفة الخامسة : قال الزمخشري : في قوله تعالى : { إِن اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه : إن ظفرتَ بي فلا تبق عليّ ، وهو واثق لا يظفر به .
اللطيفة السادسة : التعبير بقوله تعالى : { أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } فيه لطيفة وهي ألا يتكل الإنسان على عمله ، بل يعتمد على فضل الله كما جاء في الحديث الشريف : « لن يُدخلَ أحدَكُم عملُه الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » .
وعن قتادة رضي الله عنه : « هؤلاء خيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون ، وإنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟
دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام ، وقد اختلف المفسرون هل بقيت الحرمة أم نسخت؟
فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ ، وكان يحلف على ذلك ، كما قال ابن جرير : حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا على سبيل الدفع .
وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة ، نسختها آية براءة { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] سئل ( سعيد بن المسيب ) هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم .(1/113)
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا ( هوازن ) بحنين ، و ( ثقيفاً ) بالطائف ، وأرسل ( أبا عامر ) إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين ، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم ، ولو كان القتال فيهن حراماً لما فعله النبي عليه السلام .
قال ابن العربي : « والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي صلى الله عليه وسلم القتال في الشهر الحرام ، فقال تعالى : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ . . } فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه » .
الحكم الثاني : هل الردة تحبط العمل وتذهب بحسنات الإنسان؟
دل قوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } على أن الردة تُحبط العملَ ، وتُضيع ثواب الأعمال الصالحة ، وقد اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة ، أم بالوفاة على الكفر؟
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن العمل يحبط بنفس الردّة .
وقال الشافعي رحمه الله : لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر .
حجة الشافعي قوله تعالى : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } فقد قيّده بالموت على الكفر ، فإذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من الأحكام ، لا حبوط العمل ، ولا الخلود في النار .
وحجة مالك وأبي حنيفة قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقوله { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر .
وقد انبنى على ذلك خلافهم في المسلم إذا حجّ ثم ارتد ثم أسلم .
فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه إعادة الحج ، لأن ردته أحبطت حجه .
وقال الشافعي : لا حج عليه لأن حجة قد سبق ، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره .
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : « واستظهر علماؤنا بقول الله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقالوا : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته ، لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة ، وإنما ذكر الموافاة ، شرطاً هاهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاءً ممن وافى كافراً خلّده في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين ، وحكمين متغايرين » .
أقول : ظواهر النصوص تشير إلى إحباط العمل بالردّة مطلقاً ، فالراجح قول المالكية والحنفية والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - القتال مكروه للنفوس ولكنه سبيل لنصرة الحق وإعزاز الدين .
2 - لا ينبغي للمؤمن أن يتقاعس عن الجهاد لأن فيه النصر أو الشهادة .
3 - الصد عن دين الله ، والكفر بآيات الله أعظم إثماً من القتال في الشهر الحرام .
4 - الهدف من قتال المشركين للمسلمين ردهم إلى الكفر بشتى الطرق والوسائل .
5 - الردة عن الإسلام تحبط العمل وتخلد الإنسان في نار جهنم .(1/114)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
[ 12 ] تحريم الخمر والميسر
التحليل اللفظي
{ الخمر } : المسكر من عصير العنب وغيره ، وهي مأخوذة من خَمَر الشيء إذا ستره وغطاه ، سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه ، ومنه قولهم : خمّرتُ الإناء أي غطيته .
قال الزجاج : الخمر في اللغة : ما ستر على العقل ، يقال : دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة قناعها ، سمي خماراً لأنه يغطي رأسها .
وقال ابن الأنباري : « سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه ، يقال خامره الداء إذا خالطه ، وأنشد لكثير :
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر » ... { والميسر } : القمار ، من اليسر وهو السهولة ، لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب ، أو من اليسار ( الغنى ) لأنه سبب يساره .
قال الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاءً ، وكل شيء جزّأته فقد يَسَرْته .
وفي « الصحاح » : ويَسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها .
والياسر : الذي يلي قسمة الجزور .
{ إِثْمٌ } : الإثم : الذنب وجمعه آثام ، يقال : آثم وأثِم ، والآثم المتحمل الإثم قال تعالى : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] أفاده الراغب .
وتسمى الخمر ب ( لإثم ) لأنّ شربها سبب في الإثم قال الشاعر :
شربتُ الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول
{ العفو } : الفضل والزيادة على الحاجة .
قال القفال : العفو سهُل وتيسُر مما يكون فاضلاً عن الكفاية ، يقال : خذ ما عفا لك أي ما تيسّر .
والمعنى : انفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تُجهدوا فيه أنفسكم .
{ لأَعْنَتَكُمْ } : أي أوقعكم في الحرج والمشقة ، وأصل العنت : المشقة ، يقال : أعنت فلانٌ فلاناً إذا أوقعة فيما لا يستطيع الخروج منه ، وعَنت العظم : إذا انكسر بعد الجبر ، وأكمةٌ عنوت : إذا كانت شاقة كدوداً ، ومنه قوله تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] أي شديد عليه ما شق عليكم .
قال الزجاج : ومعنى قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أي لو شاء لكلفكم ما يشتد عليكم .
{ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : { عَزِيزٌ } أي لا يمتنع عليه شيء ، لأنه غالب لا يغالب { حَكِيمٌ } أي يتصرف في ملكه كيف يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر ، وعن حكم الميسر ( القمار ) قل لهم : إن في مقارفة الخمر والميسر إثماً كبيراً ، وضرراً عظيماً ، وفيهما نفع مادي ضئيل ، وضررهما أعظم وأكبر من نفعهما ، فإن ضياع العقل ، وذهاب المال ، وتعريض الجسد للتلف في الخمر ، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت ، ودمار الأسر ، والصدّ عن عبادة الله وطاعته ، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين ، كل ذلك إذا قيس إلى النفع المادي التافه ، ظهر الضرر الكبير الفادح في هاتين الموبقتين الخبيثتين . ويسألونك ماذا ينفقون من أموالهم ، وماذا يتركون؟ قل لهم : أنفقوا الفضل والزيادة بقدر ما يسهل ويتيسر عليكم ، مما يكون فاضلاً عن حاجتكم ، وحاجة من تعولون ، كذلك قضت حكمة الله أن يبيّن لكم المنافع والمضار ، وأن يرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة ، فتعلموا أن الأولى فانية ، وأن الآخرة باقية ، فتعملوا لها ، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى .(1/115)
ويسألونك - يا محمد - عن معاملة اليتامى ، أيخاطونهم أم يعتزلونهم ، قل لهم : قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم ، وإن خالطتموهم فهم إخوانكم في الدين ، والأخ ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، والله رقيب مطّلع عليكم يعلم المفسد منكم من المصلح ، فلا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم ، ولو شاء الله لأوقعكم في الحرج والمشقة ، ولكنه يسّر عليكم وسهّل الدين رحمة ورأفة بكم ، وهو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء ، الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام .
سبب النزول
أولاً : روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فإنها تذهب بالمال والعقل ، فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } فُدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية في سورة النساء [ 43 ] { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] قال عمر : انتهينا ، انتهينا .
ثانياً : وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ونزل { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء من طعامه ، فيُحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتدّ ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور ( قل فيهما إثم كبير ) بالباء ، وقرأ حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء .
قال الطبري : ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة لقيل : وإثمهما أكثر من نفعهما .
2 - قرأ الجمهور ( قل العفوَ ) بالنصب ، وقرأ أبو عمرو ( قل العفوُ ) بالرفع . ويكون معنى الكلام حينئذٍ : ما الذي؟ ينفقون قل : المنفقُ العفوُ .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { كذلك يُبيِّنُ الله } قال ابن الأنباري : الكاف في ( كذلك ) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق ، فكأنه قال : مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات ، ويجوز أن يكون « كذلك » ليس إشارة إلى ما قبله بل بمعنى « هكذا » قاله ابن عباس .(1/116)
وقال العكبري : الكاف في ( كذلك ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين يبيّن الله لكم ، وقوله ( في الدنيا والآخرة ) متعلقة ب ( تتفكرون ) ويجوز أن تتعلق ب ( تبيّن ) والمعنى : يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة .
2 - قوله تعالى : { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ( إصلاح ) مبتدأ ، و ( خير ) خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معنى الفعل تقديره : أصلحوهم .
3 - قوله تعالى : { فَإِخْوَانُكُمْ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم إخوانكم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : « أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال ، ثم نزل بالمدينة قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } فتركها قوم لقوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } وشربها قوم لقوله : { ومنافع لِلنَّاسِ } ثم إن ( عبد الرحمن بن عوف ) صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم وسقاهم الخمر ، وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ ( قل يا أيها الكافرون . أعبد ما تعبدون ) بحذف ( لا ) فنزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة ، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره ، ثم إن ( عتبان بن مالك ) صنع طعاماً ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم ( سعد بن أبي وقاص ) وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار ، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس ( سعد ) فشجه ، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فأنزل الله { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ . . . } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90-91 ] ؟ فقال عمر : انتهينا ربنا انتهينا » .
اللطيفة الثانية : في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة ، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر ، وأصبحت جزءاً من حياتهم ، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم وربما لم يستجيبوا لذلك النهي ، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها « أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام ، ولو نزل أول ما نزل : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمرة أبداً » .(1/117)
وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية ، فقد سلك بالناس طريق ( التدريج في تشريع الأحكام ) فبدأ بالتنفير مه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى ، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين : شيء فيه نفع ضئيل ، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم ، كما في الآية الثانية ، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة ، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة ، فللَّه ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟!
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : كيف يكون في الخمر منافع ، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟
فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية ( المنافع المادية ) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر ، يربحون منها الربح الفاحش ، كما يربحون من وراء الميسر ، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } ولا شك أن النفع في الميسر ( مادي ) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر .
قال العلامة القرطبي : « أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة ، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص ، فيبيعونها في الحجاز بربح ، وكانوا لا يرون المماكسة فيها ، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي ، هذا أصح ما قيل في منافعها » .
ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله :
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً ما ينهنها اللقاء
لا يلذ السّكْر حتّى ... يأكل السكرانُ نعلَه
ويرى القصعة فيلاً ... ويظنَّ الفيل نملة
اللطيفة الرابعة : أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله ، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان ، ولهذا حرم الله الخمر وسميت ب ( أم الخبائث ) لأنها سبب في كل قبيح .
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : « اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنّا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليّ ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً ، أو تقتل هذا الغلام ، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً ، فسقته كأساً قال : زيدوني فزادوه ، فلم يبرح حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر ، إلا يوشك أن يُخْرج أحدُهما صاحبه » .
اللطيفة الخامسة : قال ( قيس بن عاصم المِنْقري ) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه :
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصالٌ تُفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ... ولا أشفي بها أبداً سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال القرطبي : « وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء ، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه ، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله كما أكرمتني » .(1/118)
اللطيفة السادسة : قال صاحب « الكشاف » : في صفة الميسر الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية « كانت لهم عشرة أقداح وهي ( الفذّ ، والتوأم ، والرقيب ، والحِلْس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلَّى ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ) لكلّ واحد منه نصيب معلوم من جزور ينحرونها إلا لثلاثة وهي ( المنيح ، والسفيح ، والوغد ) فللفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، يجعلونها في خريطة ويضعونها على يد عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يدخ فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً ، وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه؟
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الآية الكريمة دالة على تحريم الخمر؟
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } دالة على تحريم الخمر ، لأن الله تعالى ذكر فيها قوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } وقد حرم الله الإثم بقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم . . . } [ الأعراف : 33 ] الآية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى .
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية تقتضي ذم الخمر دون تحريمها ، بدليل أن بعض الصحابة شربوا الخمر بعد نزولها - كما مرّ في أسباب النزول - ولو فهموا التحريم لما شربها أحد منهم ، وهذه الآية منسوخة بآية المائدة وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل .
قال القرطبي : » في هذه الآية ذم الخمر ، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى هي آية المائدة [ 90 ] { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } وعلى هذا أكثر المفسدين « .
الحكم الثاني : ما هي الخمر وهل هي اسم لكل مسكر؟
اختلف العلماء في تعريف الخمر ما هي؟
فقال أبو حنيفة : الخمر الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير ، فلا يسمى خمراً بل يُسمى نبيذاً . وهذا مذهب الكوفيين والنخعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى .
وذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الخمر اسم لكلّ شراب مسكر ، سواءً كان من عصير العنب ، أو التمر ، أو الشعير أو غيره ، وهو مذهب جمهور المحدثين وأهل الحجاز .
حجة الكوفيين وأبي حنيفة :
احتج الكوفيون وأبو حنيفة بأن الأنبذة لا تسمى خمراً ، ولا يسمى خمراً إلا لشيء المشتد من عصير العنب باللغة ، والسنة :
أما اللغة : فقول ( أبي الأسود الدؤلي ) وهو حجة في اللغة :(1/119)
دع الخمر تشربْها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإن لا تكنْه أو يكنْها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وأما السنة : فما روي عن أبي سعيد الخدري قال : « أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فقال له : أشربت خمراً؟ قال : ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله ، قال : فماذا شربت؟ قال : الخليطين ، قال : فحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطين » .
فنفى الشارب اسم الخمر عن ( الخليطين ) بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه .
حجة الجمهور :
واستدل الحجازيون وجمهور الفقهاء على أن كل مسكر خمر بما يلي :
أولاً : حديث ابن عمر « كلّ مسكر خمرٌ ، وكل مسكر حرامٌ » .
ثانياً : حديث أبي هريرة : « الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة » .
ثالثاً : حديث أنس « حرمت الخمر حين حرّمت ، وما يُتخذ من خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر » .
رابعاً : حديث ابن عمر ( نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، والخمرُ ما خامر العقل ) .
خامساً : حديث أم سلمة « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر »
واستدلوا لمذهبهم على أن المسكر يسمى خمراً باللغة أيضاً وهو أن الخمر سميت خمراً لمخامرتها للعقل ، وهذه الأنبذة تخامر العقل أي تستره وتغيبه فلذلك تسمى خمراً ، فالخمرُ هو السكر من أي شرابٍ كان ، لأن السكر يغطي العقل ، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء .
قال الفخر الرازي : « فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر ، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟ لا يقال : إن هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز ، لأنا نقول : ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات .
والترجيح : ونحن إذا تأملنا أدلة الفريقين - ما ذكر منها وما لم يذكر - ترجح عندنا قول الجمهور وأهل الحجاز ، فالخمر حرام ، وكمل مسكر خمر كما قال عمر رضي الله عنه ، وذلك لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة ، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع ، وقد ثبت بالسنة المطهّرة تحريم كل مسكر ومفتّر ، وثبت عن أنسٍ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة حين حرمت الخمر ، وما كان خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الشراب وكسروا الأواني ، وما كان الفضيخ إلا من نقيع البسر ، فما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح المعوّل عليه ، لا سيّما وأن المتأخرين من الأحناف أفتوا بقول محمد في سائر الأشربة وهو الحق الذي لا محيد عنه .
قال العلامة الألوسي : » وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان ، وبأي اسم سمي ، متى كان بحيث يُسكر حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ، ويقع طلاقه ، ونجاسته غليظة « .(1/120)
الحكم الثالث : ما هي أنواع الميسر المحرّم؟
اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار ، وأنها من الميسر المحرّم لقوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } فكل لعب يكون فيه ربح لفريق وخسارة لآخر هو من الميسر المحرم ، سواءً كان اللعب بالنرد ، أو الشطرنج أو غيرهما ، ويدخل فيه في زماننا مثل ( اليانصيب ) سواء منه ما كان بقصد الخير ( اليانصيب الخيري ) أو بقصد الربح المجرد فكله ربح خبيث « وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً » .
قال صاحب « الكشاف » : « وفي حكم الميسر أنواع القمار ، من النرد والشطرنج وغيرهما ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : » إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم « .
وعن علي رضي الله عنه : » أن النرد والشطرنج من الميسر « .
وعن ابن سيرين : » كل شيء فيه خطر فهو من الميسر « .
قال صاحب » روح المعاني « : » وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد ، والشطرنج ، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، والقرعة في غير القسمة ، وجميع أنواع المخاطرة والرهان « .
أما النرد فمحرم بالاتفاق لقوله عليه السلام : » من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله « .
وأما الشطرنج : فقد أباحه الإمام الشافعي بشروط ذكرها الإمام الفخر حيث قال : » وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا خلا الشطرنج عن الرهان ، واللسان عن الطغيان ، والصلاة عن النسيان ، لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر ، لأن الميسر ما يوجب دفع المال ، أو أخذ مال ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً « .
وأما السبق في الخيل والدواب ، والرميُ بالنصَال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه وليس هنا محل تفصيلها والله تعالى أعلم .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرم الله الخمر والميسر ، لما فيهما من الأضرار الفادحة ، والمفاسد الكثيرة ، والآثام التي تتولد من هاتين الرذيلتين سواءً في النفس أو البدن أو العقل أو المال .
فمن مضار الخمر أنه يذهب العقل حتى يهذي الشارب كالمجنون ، ويفقد الإنسان صحته ويخرّب عليه جهازه الهضمي ، فيحدث التهابات في الحلق ، وتقرحات في المعدة والأمعاء ، وتمدداً في الكبد ، ويعيق دورة الدم ، وقد يوفقها فيموت السكّير فجأة ، وقد أثبت الطب الحديث ضرر الخمر الفادح في الجسم والعقل حتى قال بعض أطباء ألمانيا : » اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات ، والبيمارستانات ( مستشفى الأمراض العقلية ) والسجون « .
ويكفي الخمر شراً أنها ( أم الخبائث ) كما ورد في الحديث الشريف .
وأما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر ، فهو يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين ، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويفسد المجتمع بتعويد الناس على البطالة والكسل ، بانتظار الربح بدون كد ولا تعب ، ويهدّم الأسر ويخرّب البيوت ، فكم من أسرة تشرّدت وتحطمت وافتقرت بعد أن كانت تعيش بين أحضان الثروة والغنى بسبب مقامرة أربابها ، فكان في ذلك الدمار والهلاك لتلك الأسر المنكوبة ، كما انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم بالانتحار ، أو الرضا بعيشة الذل والمهانة .(1/121)
ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفاً من قبل ، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .(1/122)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
[ 13 ] نكاح المشركات
التحليل اللفظي
{ تَنْكِحُواْ المشركات } : أي لا تتزوجوا الوثنيات ، والمشركة هي التي تعبد الأوثان ، وليس لها دين سماوي ومثلها المشرك ، وقيل : إنها تعم الكتابيات أيضاً لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 30 - 31 ] .
{ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ } : الأمة : المملوكة بملك اليمين وهي تقابل الحرة ، وأصلها ( أمو ) حذفت على غير قياس وعوّض عنها هاء التأنيث ، وتجمع على إماء قال تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [ النور : 32 ] وقال الشاعر :
أمّا الإماء فلا يدعونني ولداً ... إذا تداعى بنو الأَمَوات بالعار
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : لا تتزوجوا - أيها المؤمنون - المشركات حتى يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرة مشركة ، وإن أعجبتكم المشركة بجمالها ، ومالها ، وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب ، أو جاه ، أو سلطان .
ولا تَزوِّجُوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله ، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن خيرٌ لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك ، مهما أعجبكم في الحسب ، والنسب ، والشرف ، فإن هؤلاء - المشركين والمشركات - الذين حرمت عليكم مناكحتهم ومصاهرتهم ، يدعونكم إلى ما يؤدي بكم إلى النار ، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة ، ويوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر ، والخبيث والطيب .
سبب النزول
أولاً : روي أن هذه الآية نزلت في مرثد من أبي مرثد الغنوي الذي كان يحمل الأسرى من مكة إلى المدينة ، وكانت له في الجاهلية صلة بامرأة تسمى ( عَناقاً ) فأتته وقالت : ألا تخلوا؟ فقال : ويحك إن الإسلام قد حال بيننا ، فقالت : فهل لك أن تتزوج بي؟ قال : نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره فنزلت الآية .
وتعقّب السيوطي هذه الرواية وذكر أنها ليست سبباً في نزول هذه الآية ، وإنما هي سبب في نزول آية النور { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . . } [ النور : 3 ] . الآية .
ثانياً : وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ( عبد الله بن رواحة ) كانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما هي يا عبد الله؟ فقال : يا رسول الله : هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله ، فقال يا عبد الله : هذه مؤمنة ، فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنّها ففعل ، فعابه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمة ، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن ، فنزلت هذه الآية .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { حتى يُؤْمِنَّ } حتى بمعنى ( إلى أن ) و ( يؤمن ) مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل نصب ب ( حتى ) وأصله ( يؤمنْنَ ) .(1/123)
ثانياً : قوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } الواو للحالو ( لو ) هنا بمعنى ( إن ) وكذا كل موضع وليها الفعل الماضي كقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] أي وإن أعجبك والتقدير : لأمة مؤمنة خيرٌ من مشركة وإن أعجبتك .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين } بضم التاء هنا لأنه من الرباعي ( أنكح ) وهو يتعدى إلى مفعولين الأول ( المشركين ) والثاني محذوف وهو ( المؤمنات ) أي ولا تزوجوا المشركين المؤمنات .
وأما قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } فهو من الثلاثي ( نكح ) أي لا تتزوجوا المشركات وهو يتعدى إلى مفعول واحد فقط .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المراد بالنكاح هنا العقد بالإجماع أي لا تتزوجوا بالمشركات .
قال الكرخي : المراد بالنكاح العقد لا الوطء حتى قيل : إنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطء أصلاً ، لأن القرآن يكني وهذا من لطيف ألفاظه .
قال ابن جني : « سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة فقال : فرّقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس ، فإذا قالوا : نكح فلانٌ فلانةً : أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا غير المجامعة ، لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة » .
اللطيفة الثانية : في قوله تعالى : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } إشارة لطيفة إلى أن الذي ينبغي أن يراعي في الزواج ( الخلق والدين ) لا الجمال والحسب ، والمال ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنُهنّ أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهنّ على الدين ولأَمةٌ سوداء خرقاء ذات دين أفضل » .
اللطيفة الثالثة : من المعلوم أن المغفرة قبل دخول الجنة ، ولذلك قدمت في غير هذه الآية { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] وإنما قدمت الجنة هنا لرعاية مقابلة النار لتكمل وتظهر المقابلة { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } .
اللطيفة الرابعة : في الآية الكريمة من المحسنّات البديعة ما يسمى ب ( المقابلة ) فقد جاء بلفظ ( أمة ) ويقابلها ( العبد ) وبلفظ ( مؤمنة ) ويقابلها ( المشركة ) وبلفظ ( الجنة ) ويقابلها ( النار ) فهي مقابلة لطيفة بديعة تزيد الكلام رونقاً وجمالاً ، والفرق بين ( المقابلة ) و ( الطباق ) أن المقابلة تكون بين معنيين أو أكثر متوافقة ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب ، أما الطباق فيكون بين لفظين مثل ( الأول والآخر ) ومثل ( أضحك وأبكى ) .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يحرم نكاح الكتابيات؟
دل قوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } على حرمة نكاح المجوسيات والوثنيات .
وأما الكتابيات فيجوز نكاحهن لقوله تعالى في سورة المائدة [ 5 ] : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب . . }(1/124)
الآية أي العفيفات من أهل الكتاب ، وهذا قول جمهور العلماء ، وبه قال الأئمة الأربعة .
وذهب ابن عمر رضي الله عنهما إلى تحريم نكاح الكتابيات ، وكان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال : « حرّم الله تعالى المشركات على المسلمين ، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن يقول المرأة : ربّها عيسى ، أو عبدٌ من عباد الله تعالى » .
وإلى هذا ذهب الإمامية ، وبعض الزيدية وجعلوا آية المائدة منسوخة بهذه الآية نخس الخاص بالعام .
حجة الجمهور :
أ - احتج الجمهور بأن لفظ ( المشركات ) لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [ البقرة : 105 ] وقوله : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] قد عطف المشركين على أهل الكتاب ، والعطفُ يقتضي المغايرة ، فظاهر لفظ ( المشركات ) لا يتناول الكتابيات .
ب - واستدلوا بما روي عن السلف من إباحة الزواج بالكتابيات ، فقد قال قتادة في تفسير الآية إن المراد بالمشركات ( مشركات العرب ) اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه .
وعن حماد قال : سألت إبراهيم عن تزوج اليهودية والنصرانية فقال : لا بأس به ، فقلت : أليس الله تعالى يقول : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } ؟ فقال : إنما تلك المجوسيات وأهل الأوثان .
ج - وقالوا : لا يجوز أن تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة ، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة ، والمائدة من آخر ما نزل ، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم لا العكس .
د - واستدلوا بما روي أن حذيفة تزوج يهودية ، فكتب إليه عمر خلّ سبيلها ، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
فدل على أن عمر فعل هذا من باب الحيطة والحذر ، لا أنه حرم نكاح الكتابيات .
ه - واستدلوا بالحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في المجوس : « سنوا بهم سنّة أهل الكتاب ، غير ناكحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم » .
فلو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لم يكن لذكره فائدة .
قال الطبري بعد سرده للأقوال : « وأولى الأقوال بتأويل الآية ام قاله ( قتادة ) من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات ، وأن الآية عام ظاهرها ، خاص باطنها ، لم يُنسخ منها شيء ، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها ، وذلك أن الله تعالى أحل بقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] للمؤمنين من نكاح محصناتهن مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات ، وقد روي عن عمر أنه قال : ( المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة ) وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة نكاح اليهودية والنصرانية ، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني فأمرهما بتخليتهما » .(1/125)
أقول : رحم الله عمر فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين ، ويسوسهم بالنظر والمصلحة ، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة الحكيمة!!
الحكم الثاني : من هم المشركون الذين يحرم تزويجهم؟
دلّ قوله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } على حرمة تزويج المشرك بالمسلمة ، والمراد بالمشرك هنا كل كافر لا يدين بدين الإسلام ، فيشمل الوثني ، والمجوسي ، واليهودي ، والنصراني ، والمرتد عن الإسلام فكل هؤلاء يحرم تزويجهم بالمسلمة ، والعلة في ذلك أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه . فللمسلم أن يتزوج باليهودية أو النصرانية وليس لليهودي أو النصراني أن يتزوج بالمسلمة ، وقد بيَّن الباري جل وعلا السبب بقوله : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } أي يدعون إلى الكفر الذي هو سبب دخول نار جهنم ، فالرجل له سلطة وولاية على المرأة ، فربما أجبرها على ترك دينها وحملها على أن تكفر بالإسلام ، والأولاد يتبعون الأب فإذا كان الأب نصرانياً أو يهودياً . ربّاهم على اليهودية أو النصرانية فيصير الولد من أهل النار .
ومن ناحية أخرى فإن المسلم يعظّم موسى وعيسى عليهما السلام . ويؤمن برسالتهما ويعتقد بالتوارة والإنجيل التي أنزلها الله ولا يحمله إيمانه على إيذاء زوجته ( اليهودية ) أو ( النصرانية ) مثلاً بسبب العقيدة ، لأنه يلتقي معها على الإيمان بالله ، وتعظيم رسله ، فلا يكون اختلاف الدين سبباً للأذى أو الاعتداء ، بخلاف غير المسلم الذي لا يؤمن بالقرآن ولا برسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، فإن عدم إيمانه يدعوه إلى إيذاء المسلمة والاستخفاف بدينها .
سألني طالب غير مسلم كان قد حضر عندي درس الدين في مدينة حلب : لماذا يتزوج المسلم بالنصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة؟ يقصد التعريض والغمز بالمسلمين بأنهم متعصبون ، فقلت له : نحن المسلمين نؤمن بنبيكم ( عيسى ) وكتابكم ( الإنجيل ) فإذا آمنتم بنبينا وكتابنا نزوجكم من بناتنا . . فمن منا المتعصب؟ فبهت الذي كفر .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - حرمة الزواج بالمشركة الوثنية التي ليس لها كتاب سماوي .
ثانياً - حرمة تزويج الكفار ( وثنيين أو أهل كتاب ) من النساء المسلمات .
ثالثاً - إباحة الزواج من الكتابية ( اليهودية أو النصرانية ) إذا لم يخش الضرر على الأولاد .
رابعاً - التفاوت بين الناس بالعمل الصالح ، فالأَمَةُ المؤمنة أفضل من الحرة المشركة .
خامساً - المشرك يجهد نفسه لحمل المؤمنة على الكفر بالله فلا يليق أن يقترن بها .(1/126)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
[ 14 ] اعتزال النساء في الحيض
التحليل اللفظي
{ المحيض } : مصدر ميمي بمعنى الحيض ، كالمعيش بمعنى العيش ، قال رؤبة :
إليك أشكو شدة المعيش ... ومُرّ أعوام نتفن ريشي
أي أشكو شدة العيش ، ويطلق المحيض على الزمان والمكان ويطلق على الحيض مجازاً ، أفاده القرطبي .
وأصل الحيض : السيلان ، يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة أي سالت .
قال الأزهري : ومنه قيل للحوض حوض ، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل . ويقال للمرأة : حائض ، وحائضة كذا قال الفراء وأنشد :
كحائضةٍ يُزْنى بها غير طاهر ... { أَذًى } : قال عطاء : أذى : أي قذر ، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ومنه قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
قال في « المصباح » : أذى الشي أذى من باب تعب بمعنى قذر ، وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ أَذًى } أي مستقذر .
وقال الطبري : وسمي الحيض أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته .
{ فاعتزلوا } : الاعتزال التنحي عن الشيء والاجتناب له ، ومنه قوله تعالى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] والمرادُ باعتزال النساء اجتناب مجامعتهن ، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز .
{ يَطْهُرْنَ } : بالتخفيف أي ينقطع عنهم دم الحيض ، وبالتشديد ( يَطّهَرْن ) بمعنى يغتسلن .
{ حَرْثٌ } : قال الراغب : الحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع ، ويسمى المحروث حرثاً قال تعالى : { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } [ القلم : 22 ] .
وقال الجوهري : الحرث : الزرع ، والحارث الزارع ، ومعنى ( حرثٌ ) أي مزرع ومنبت للولد ، والآية على حذف مضاف أي موضع حرثكم ، أو على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات الخارج ، فالحرث بمعنى المحترث ، سمي موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة .
{ أنى شِئْتُمْ } : أي كيف شئتم أو على أي وجهٍ شئتم مقبلة ، أو مدبرة ، أو قائمة ، أو مضجعة بعد أن يكون المأتي في موضع الحرث .
قال الطبري : وقال ابن عباس : ( فاتوا حرثكم أنَّى شئتم ) أي ائتها أنَّى شئت مقبلة ومدبرة ، ما لم تأتها في الدبر والمحيض .
وعن عكرمة : يأتيها كيف شاء ، ما لم يعمل عمل قوم لوط .
{ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } : أي قدموا الخير والصالح من الأعمال ، لتكون زاداً لكم إلى الآخرة .
{ واتقوا الله } : أي خافوا عذابه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه .
{ وَبَشِّرِ المؤمنين } : بالثواب والكرامة والفوز بالدرجات العلى في دار النعيم .
المعنى الإجمالي
يسألونك - يا محمد - عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ قل لهم : إن دم الحيض دم مستقذر ، ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى لكم ولهن ، فاجتنبوا معاشرة النساء ، ونكاحهن في حالة الحيض ، ولا تقربوهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطْهُرن ، فإذا تطهّرْن بالماء فاغتسلن ، فأتوهن من حيث أمركم الله ، في المكان الذي أحلّه لكم وهو ( القُبُل* مكان النسل والولد ، ولا تأتوهنّ في المكان المحرم ( الدبر ) فإن الله يحب عبده التائب المتنزه عن الفواحش والأقذار .(1/127)
ثم أكد تعالى النهي عن إتيان النساء في غير المحل المعهود الذي أباحه للرجال فقال ما معناه : نساؤكم - أيها الناس - مكان زرعكم وموضع نسلكم ، وفي أرحامهن يتكوّن الجنين والولد ، فأتوا نساءكم كيف شئتم ومن أي وجهٍ أحببتم بعد أن يكون في موضع النسل والذرية ، قال ابن عباس : ( اسق نباتك من حيث ينبت ) وقدموا - أيها الناس المؤمنون - لأنفسكم صالح الأعمال وراقبوا الله وخافوه في تصرفاتكم ، واخشوا يوماً تلقون فيه ربكم فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته وبشر المؤمنين بالكرامة والسيادة والنعيم المقيم في دار الكرامة .
سبب النزول
أولاً : عن أنس رضي الله عنه قال : « » كانت اليهود إذا حاضت امرأة منهن لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن وأن يكونوا معهن في البيوت ، وأن يفعلوا كل شيء إلا النكاح ، فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ، فجاء ( عبّاد بن بشر ) و ( أُسَيْد بن خصير ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك وقالا يا رسول الله : أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنّنا أنه غضب عليهما ، فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقاهما فعلما أنه لم يغضب « .
ثانياً : وعن جابر رضي الله عنه قال : » كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قُبُلها من دُبُرها كان الولد أحول ، فنزلت { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } بسكون الطاء وضم الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي ( يَطّهّرْن ) بتشديد الهاء والطاء وفتحهما ، ورجّح الطبراني قراءة تشديد الطاء وقال : هي بمعنى يغتسلن .
قال الفخر : « فمن خفّف فهو زوال الدم من طهرت المرأة من حيضها إذا انقطع الحيض ، والمعنى : لا تقربوهنّ حتى يزول عنهن الدم ، ومن قرأ بالتشديد فهو على معنى يتطهّرن » .
وجوه الإعراب
قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مبتدأ أو خبر ، وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } كلمة ( أنّى ) تأتي في اللغة العربية بمعنى ( من أين ) ومنه قوله تعالى : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ] ؟ أي من أين ، وتأتي بمعنى ( متى ) و ( كيف ) تقول : سافر أنّى شئت ، واجلس أنّى أردت أي سافر متى شئت ، واجلس كيف أردت ، والمعنى المراد في الآية ( كيف ) أي أتوا حرثكم كيف شئتم قائمة أو قاعدة أو مضجعة ولا يجوز أن يكون المراد ( من أين شئتم ) كما فهم بعض الجهال فأباحوا إتيان المرأة في دبرها .(1/128)
قال القرطبي : « أنّى شئتم » معناه عند الجمهور من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة و ( أنّى ) تجيء سؤالاً وإخباراً عن أمر له جهات ، فهو أعم في اللغة من ( كيف ) ومن ( أين ) ومن ( متى ) هذا هو الاستعمال العربي في أنّى .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : كان اليهود يبالغون في التباعد عن المرأة حالة الحيض ، فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في بيت واحد ، ويعتبرونها كأنها داءٌ أو رجس وقذر ، وكان النصارى يفرطون في التساهل فيجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، فجاء الإسلام بالحدّ الوسط ( افعلوا كلّ شيء إلا النكاح ) وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية الغراء حيث أمر المسلمين بالاقتصاد بين الأمرين .
اللطيفة الثانية : لفظ ( المحيض ) قد يكون اسماً للحيض نفسه ، وقد يكون اسماً لموضع الحيض كالمبيت والمقيل موضع البيتوتة وموضع القيلولة ، ولكن في الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالمحيض هو ( الحيض ) لأن الجواب ورد بقوله تعالى : { قُلْ هُوَ أَذًى } وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه . أفاده العلامة الجصاص .
اللطيفة الثالثة : قال ابن العربي : « سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تَقْرَب ( بفتح الراء كان معناه : لا تَلْبَس بالفعل ، وإن كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه » فلما قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } دلّ على أن المراد النهي عن ملابسة الفعل وهو إتيانهن في حالة الحيض .
اللطيفة الرابعة : روى الطبري عن مجاهد أنه قال : « عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات ، من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها ، حتى انتهى إلى هذه الآية { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس : إن هذا الحيّ من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات ، فلمّا قدموا المدينة تزوجوا في الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة ، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه ، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ذكره { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } إن شئت فمقبلة ، وإن شئت فمدبرة ، وإن شئت فباركه ، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث » .
اللطيفة الخامسة : شبّه الله المرأة بالحرث ، أي أنها مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات ، وهذا التشبيه يبيّن أن الإباحة لا تكون إلا في الفرج خاصة ، إذ هو مزرع الولد ، وقد أنشد ثعلب .
إنما الأرحام أرضو ... ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النبات
فجعل رحم المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات الخارج .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما الذي يجب اعتزاله من المرأة حالة الحيض؟
اختلف أهل العلم فيما يجب اعتزاله من المرأة في حالة الحيض على أقوال :
أ - الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة ، وهو مروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني .(1/129)
ب - الذي يجب اعتزاله ما بين السرة إلى الركبة ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .
ج - الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج فقط ، وهذا مذهب الشافعي .
حجة المذهب الأول : أن الله أمر باعتزال النساء ، ولم يخصص من ذلك شيئاً دون شيء ، فوجب اعتزال جميع بدن المرأة لعموم الآية { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
قال القرطبي : « وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء ، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافة » .
ب - حجة المذهب الثاني : واحتج أبو حنيفة ومالك بما روي عن عائشة قالت : « كنتُ أغتسل أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنبٌ ، وكان يأمرني فأتّزر فيباشرني وأنا حائض » وما روي عن عن ميمونة أنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض »
ج - حجة المذهب الثالث : واحتج الإمام الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » وما روي عن مسروق قال : ( سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت : كلّ شيء إلاّ الجماع ) .
وفي رواية أخرى : ( إن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال : السلام على النبي وعلى أهل بيته ، فقالت عائشة : أبو عائشة مرحباً فأذنوا له ، فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي ، فقالت : إنما أنا أمك وأنت ابني ، فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت : له كل شيء إلا فرجها ) .
الترجيح : ومن استعراض الأدلة يترجح لدينا المذهب الثاني ، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري حيث قال : « وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه » . والعلة أن السماح بالمباشرة فيما بين السرة إلى الركبة قد تؤدي إلى المحظور ، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فالاحتياط أن نبعده عن منطقة الحظر وقد قالت عائشة رضي الله عنها بعد أن روت حديث المباشرة : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ ومن جهةٍ أخرى إذا اجتمع حديثان أحدهما فيه الإباحة والثاني فيه الحظر ، قدّم ما فيه الحظر ، كما قال علماء الأصول والله أعلم .
الحكم الثاني : ما هي كفارة من أتى امرأة وهي حائض؟
أجمع العلماء على حرمة إتيان المرأة في حالة الحيض ، واختلفوا فيمن فعل ذلك ماذا يجب عليه؟
فقال الجمهور : ( مالك والشافعي وأبو حنيفة ) : يستغفر الله ولا شيء عليه سوى التوبة والاستغفار .
وقال أحمد : يتصدق بدينار أو نصف دينار ، لحديث ابن عباس(1/130)
« عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : يتصدق بدينار أو بنصف دينار » .
وقال بعض أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار ، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار .
قال القرطبي : « حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة هذا الحديث عن ابن عباس ، وأن مثله لا تقوم به حجة ، وأن الذمة على البراءة » .
الحكم الثالث : ما هي مدة الحيض ، وما هو أقله وأكثره؟
اختلف الفقهاء في مدة الحيض ، ومقدار أقله وأكثره على أقوال :
الأول : قال أبو حنيفة والثوري : أٌله ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة .
الثاني : وقال الشافعي وأحمد : أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشرة يوماً .
الثالث : وقال مالك في المشهور عنه : لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره والعبرة بعادة النساء .
حجة أبو حنيفة : حديث أبي أمامة ( أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام ) قال الجصاص : « فإن صحّ هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد » .
واحتج الشافعي بحديث : « تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي ) والشطر في اللغة النصف ، فهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً .
أقول : ليس في الآية ما يدل على أقل مدة الحيض ولا أكثره ، وإنما هو أمر اجتهادي يرجع فيه إلى كتب الفروع ، وتعرف الأدلة من الأخبار والآثار فارجع إليها هناك والله يتولاك .
الحكم الرابع : متى يحل قربان المرأة؟
دلّ قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } على أنه لا يحل للرجل قربان المرأة في حالة الحيض حتى تطهر ، وقد اختلف الفقهاء في الطهر ما هو؟
أ - فذهب أبو حنيفة : إلى أن المراد بالطهر انقطاع الدم ، فإذا انقطع دم الحيض جاز للرجل أن يطأها قبل الغسل ، إلاّ أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو ( عشرة أيام ) جاز وطؤها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة .
ب - وذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الطهر الذي يحل به الجماع ، هو تطهرها بالماء كطهور الجنب ، وأنها لا تحل حتى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء .
ج - وذهب طاووس ومجاهد إلى أنه يكفي في حلّها أن تغسل فرجها وتتوضأ للصلاة .
وسبب الخلاف : أن الله تعالى قال : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } الأولى بالتخفيف ، والثانية بالتشديد ، وكلمة ( طَهُر ) يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض ، وأمّا ( تطهّر ) فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله وهو الاغتسال بالماء .
فحمل أبو حنيفة : ( حتى يَطْهُرن ) على انقطاع دم الحيض ، وقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } على معنى فإذا انقطع دم الحيض ، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفّف .
وقال الجمهور معنى الآية : » ولا تقربوهنّ حتّى يغتسلن ، فإذا اغتسلن فأتوهن « فاستعملوا المخفّف بمعنى المشدّد ، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي ( حتّى يطهّرَن ) بالتشديد في الموضعين .(1/131)
وقالوا : مما يدلّ على صحة قولنا أن الله عز وجل علّق الحكم فيها على شرطين :
أحدهما : انقطاع الدم وهو قوله تعالى : ( حتى يطهُرْن ) أي ينقطع عنهن الدم .
والثاني : الاغتسال بالماء ، وهو قوله تعالى : ( فإذا تطهّرن ) أي اغتسلن .
فصار المجموع هو الغاية ، وهذا مثل قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] فعلّق الحكم وهو جاز دفع الماء على شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح ، والثاني : إيناس الرشد ، فلا بدّ من توفرهما معاً .
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لأن الله تعالى قد علّل ذلك بقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } وظاهر اللفظ يدل على أن المراد به الطهارة الحسية وهي الاغتسال بالماء . وهذا الذي رجحناه هو اختيار شيخ المفسّرين الطبري ، والعلاّمة ابن العربي والشوكاني والله تعالى أعلم .
الحكم الخامس : ماذا يحرم على المرأة الحيض؟
اتفق العلماء على أن المرأة الحائض يحمر عليها الصلاة ، والصيام ، والطواف ، ودخول المسجد ، ومسّ المصحف ، وقراءة القرآن ، ولا يحل لزوجها أن يقربها حتى تطهر ، وهذه الأحكام تعرف بالتفصيل من كتب الفقه ، والأدلة عليها معروفة وهناك أحكام أخرى ضربنا صفحاً عنها لأنها لا تستنبط ن الآية والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب اعتزال المرأة في حالة المحيض حتى تطه من حيضها .
2 - إباحة إتيان المرأة بعد انقطاع الدم والاغتسال بالماء .
3 - حرمة إتيان المرأة في الدبر لأنه ليس مكاناً للحرث .
4 - جواز الاستمتاع بشتى الصور بعد أن يكون في محل نبات الولد .
5 - التحذير من مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه تعالى وحذّر .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جعل الله تبارك وتعالى مكاناً لنسل الرجل ، وأحلّ له إتيانها في جميع الأوقات إلا في بعض حالات تكون فيها المرأة متلبّسة بالعبادة كحالة الإحرام ، والاعتكاف ، والصيام ، أو في حالة الطمث ( الحيض ) ، وهي حالة تشبه المرض الحسيّ ، لأنها حالة إلقاء ( البويضة الأنثوية ) التي لم تلقّح من رحم المرأة ، وغالباً ما تصحبها الآلام وتكون المرأة غير مستعدة نفسياً لهذه المباشرة الجنسية ، التي يقصد بها استمتاع كلٍ من الزوجين بالآخر .
ودم الحيض له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء ، وذلك لأأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة ، وهو دم فاسد ، أسود ، ثخين ، محتدم شديد الحمرة - كما يعرّفه الفقهاء - ورؤية الدم تنفر الطبع ، وتشمئز منها النفس ، فكيف إذا اجتمعت معه هذه الأوصاف الخبيثة؟! فإتيان المرأة في مثل هذه الحالة ، فيه ضرر عظيم يلحق بالمرأة ، كما أن فيه ضررا على الرجل أيضاً ، عبّر عنه القرآن الكريم الدقيق { قُلْ هُوَ أَذًى } وأيّ تعبير أبلغ من هذا التعبير المعجز؟!
وقد أثبت ( الطب الحديث ) الضرر الفادح الذي يلحق بالمرأة من جراء معاشرتها وإتيانهاه في حالة الطمث ، فكثيراً ما يختلط المني المقذوف من الرجل بهذه الدماء ، ويتولد عن ذلك إلتهابات في عنق الرحم ، أو في الرحم نفسه ، أو يتعرض الجنين إلى التشوه إن قدّر هناك حمل ، كما أن الرجل يتعرض لبعض الأضرار الجسمية ، ولهذا ينصح الأطباء بالابتعاد عن المرأة في حالة ( العادة الشهرية ) حتى تطهر من طمثها ، وفي ذلك أكبر برهان على حكمة الشريعة الغراء .(1/132)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
[ 15 ] النهي عن كثرة الحلف
التحليل اللفظي
{ عُرْضَةً } : بضم العين أي مانعاً ، وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو ( عُرْضة ) ولهذا يقال للسحاب : عارضٌ ، لأنه يمنع رؤية السماء والشمس ، واعترض فلانٌ فلاناً أي منعه من فعل ما يريد .
والمعنى : لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً لكم من البر والتقوى ، إذا دعي أحدكم لبرٍ أو إصلاح يقول : قد حلفت أن لا أفعله فيتعلّل باليمين .
قال الرازي : المراد النهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به ، لأن من أكثر من ذكر شيء فقد جعله عُرْضة له ، يقول الرجل : قد جعلتني عُرْضة للومك ، وقال الشاعر :
فلا تجعلني عُرْضة للَّوائم ... قال الجصاص : المعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء حقاً كان أو باطلاً ، فالله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى ، وكذلك لا تجعلوا اليمين بالله عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو } : قال الراغب : اللغو في الكلام ما لا يُعتد به ، وهو الذي يُورد لا عن روية وفكر ، فيجري مجرى ( لّلغاً ) وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور ، وأنشد أبو عبيدة :
عن الّلغا ورفث التكلم ... قال الإمام الفخر : « اللغو ، الساقط الذي لا يعتد به ، سواء كان كلاماً أو غيره ، ولغو الطائر : تصويته ، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو » .
{ يُؤْلُونَ } : أي يحلفون ، والمصدر ( إيلاء ) والاسم منه ( أليّة ) والأليّة ، والقسم واليمين ، والحلف ، كلها عبارات عن معنى واحد ، قال الشاعر :
فآليتُ لا أنفكّ أحْدو قصيدةً ... تكون وإيّاها بها مثلاً بعدي
هذا هو المعنى اللغوي ، وأما في عرف الشرع فهو اليمين على ترك وطء الزوجة .
{ تَرَبُّصُ } : التربص في اللغة الانتظار ومنه قوله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين } [ الطور : 31 ] أي انتظروا فأنا من المنتظرين معكم قال الشاعر :
تربّصْ بها ريب المنون لعلّها ... تُطلّقُ يوماً أويموت حليلها
وإضافة التربص إلى الأشهر من إضافة المصدر إلى الظرف .
{ فَآءُو } : أي رجعوا ومنه قوله تعالى : { حتى تفياء إلى أَمْرِ } [ الحجرات : 9 ] أي ترجع ، ومنه قيل للظل بعد الزوال ( فيء ) لأنه رجع بعد أن تقلص .
قال الفراء : العرب تقول : فلان سريع الفيء والفيئة أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة . قال الشاعر :
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ... ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضياً
ومعنى الآية : فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم .
المعنى الإجمالي
لا تجعلوا - أيها المؤمنون - الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير ، فإذا سئل أحدكم عن أمرٍ فيه برٌّ ، وإصلاح ، قال : قد حلفت بالله ألاّ أفعله ، وأريد أن أبرّ بيميني ، فلا تتعللوا باليمين بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم ، ولا تكثروا الحلف فتجعلوا الله هدفاً لأيمانكم تبتذلون اسمه المعظم في أمور دنياكم ، فإن الحلاّف مجترئ على ربه فلا يكون براً ولا تقياً .(1/133)
لا يؤاخذكم الله بما يجري على ألسنتكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف ، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان ، والله واسع المغفرة ، حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة .
للذين يحلفون منكم على اعتزال نسائهم ، ويقسمون على ألاّ يقربوهن للإضرار بهن ، على نسوة هؤلاء الحالفين انتظار مدة أقصاها أربعة أشهر ، فإن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف كما أمر الله ، فالله يغفر لهم ما صدر منهم من إساءة ، وإن صمّموا على الإيلاء من الأزواج ، فقد وقعت الفرقة والطلاق بمقضي تلك المدة ، والله سميع لأقوالكم ، عليم بنواياكم وأعمالكم .
سبب النزول
روي أنها نزلت في ( عبد الله بن رواحة ) كان بينه وبين ختنه ( بشير بن النعمان ) شيء فحلف عبد الله لا يدخل عليه ، ولا يكلمه ، ولا يصلح بينه وبين خصم له ، فكان إذا قيل له فيه يقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل ، فلا يحل لي أن لا أبر بيميني ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذمّ الله تعالى من أكثر الحلف بقوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] وكان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير :
قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه ... وإن سبقتْ منه الأليّةُ برّت
قال الإمام الفخر : « والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان ، أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله ، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يُؤمنُ إقدامه على اليمين الكاذبة ، ومن كمال التعظيم لله أن يكون ذكر الله أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية » .
اللطيفة الثانية : ذكر الله العلة في هذا النهي بقوله : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ } أي إرادة أن تبروا وتتقوا ، فإن قيل : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى؟
فالجواب : أن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا ، والخسائس من أمور الحياة ، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر والتقوى .
اللطيفة الثالثة : قال الإمام الجصاص : « قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع من كتابه العزيز ، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] يعني كلمة فاحشة قبيحة وقال : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] على هذا المعنى ، وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] يعني الكفر والكلام القبيح ، وقال { والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] يعني الكلام الذي لا يفيد شيئاً ، وقال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] يعني الباطل ، ويقال : لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه » .(1/134)
اللطيفة الرابعة : الحكمة في تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر ، هي أن التأديب بالهجر ينبغي ألا يتجاوز هذه المدة ، فالمرأة ينفد صبرها عن غياب بعلها هذه المدة ، ولا تستطيع أن تصبر أكثر منها .
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد هذه الأبيات :
تطاول هذه الليلُ واسودّ جانبُه ... وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبُه
فوا اللهِ لولا الله لا شيء غيرهُ ... لزُعْزع من هذا السرير جوانبُه
مخافة ربي والحياءُ يكفّّني ... وإكرام بعلي أن تُنال مراكبُه
فلما كان من الغد سأل عن المرأة أين زوجها؟ فقالوا يا أمير المؤمنين : بعثت به إلى العراق ، فاستدعى نساءً فسألهن عن المرأة كم تصبر عن زوجها؟ فقلن شهراً ، وشهرين ، ويقلّ صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد صبرها في أربعة أشهر ، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر ، فإذا مضت المدة استردّ الغازين ووجّه بقومٍ آخرين .
قال القرطبي : « هذا يقوّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر والله أعلم » .
اللطيفة الخامسة : روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً ، قال سعيد بن المسيب : « كان الرجل لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف ألا يقربها فكان يتركها لا أيّما ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة ، فأزال الله تعالى ذلك الظلم ، وأمهل الزوج مدة حتى يتروّى ويتأمل ، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد باليمين اللغو ، وهل فيه كفارة؟
دل قوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } على أن اليمين اللغو لا إثم فيه ولا كفارة ، وقد اختلف الفقهاء في تعريف هذه اليمين على أقوال :
أ - قال الشافعي وأحمد : اللغو في اليمين هو : ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف ، كقول الرجل في كلامه : لا والله ، وبلى والله دون قصد لليمين ، وهذا التأويل منقول عن بعض السلف كعائشة ، والشعبي ، وعكرمة .
ب - وقال أبو حنيفة ومالك : اللغو في اليمين هو : أن يحلف على شيء يظنه كما يعتقد فيكون بخلافه ، وهذا التأويل منقول عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
قال مالك رحمه الله في « الموطأ » : « أحسنُ ما سمعت في هذه أنّ اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد الأمر بخلافه فلا كفارة فيه » .
وفي البخاري : عن عائشة رضي الله عنها قالت : « نزل قوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله » .
والصحيح أن اللغو : يشمل النوعين وهو اختيار ابن جرير الطبري فقد قال رحمه الله : « واللغو في كلام العرب : كلّ كلام كان مذموماً ، وفعلٍ لا معنى له مهجوراً ، فإذا كان اللغو ما وصفتُ ، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل ، ولقد فعلت كذا وما فعل ، على سبيل سبق لسانه ، والقائل : والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال ، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به ، والقائل : لا يفعل كذا والله على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام ، وسبوق اللسان ، على غير تعمد حلفٍ على باطل ، جميعهم حالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبُهم ، كان معلوماً أنهم لغاةٌ في أيمانهم لا تلزمهم كفارة » .(1/135)
الحكم الثاني : ما هو الإيلاء ، وما هو حكمه؟
تقدم معنا تعريف الإيلاء لغة ، وأمّا شرعاً : فهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر ، كأن يقول : والله لا أقربك ، أو لا أجامعك ، أو أمثال هذه الكلمات .
قال ابن عباس : « كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك ، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة ، فوقّت الله لهم أربعة أشهر ، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي » .
واتفق العلماء على أنه لو هجرها مدة تزيد على أربعة أشهر لا يكون مؤلياً حتى يحلف لقوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } أي يحلفون ، وهجرانها ليس بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة ، ولا تطلق منه زوجته بالهجر .
واختلفوا في المدة التي تَبِيْنُ فيها المرأة من زوجها ، فقال ابن عباس : إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفئ بانت بتطليقة ، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
وقال مالك والشافعي وأحمد : لا تطلق بمضي المدة وإنما يؤمر الزوج بالفيئة ( الرجوع عن يمينه ) أو بالطلاق ، فإذا امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه .
حجة أبي حنيفة : أن الله تعالى حدّد المدة للفيء بأربعة أشهر ، فإذا لم يرجع عن يمينه في هذه المدة فكأنه أراد طلاقها وعز عليها ، والعزيمة في الحقيقة إنما هي عقد القلب على الشيء تقول : عزمت على كذا أي عقدت قلبي على فعله فهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } أي عقدوا عليه قلوبهم ، ولم تشترط الآية أن يطلق بالفعل .
حجة الجمهور : أن قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } صريح في أنّ وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج ، فلا يكفي المدة بل لا بدّ بعدها من الفيء أو الطلاق .
قال الشوكاني في تفسيره « فتح لقدير » : « واعلم أن أهل كل مذهب قد فسّروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم ، وتكلفوا بما لم يدّل عليه اللفظ ، ومعناها ظاهر واضح ، وهو أن الله جعل الأجل لمن يؤلي : أي يحلف من امرأته أربعة أشهر ، ثم قال مخبراً عباده بحكم هذا ( المؤلي ) بعد هذه المدة ( فإن فاءوا ) أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لا يؤخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } أي وقع العزم منهم عليه والقصد له { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } لذلك منهم { عَلِيمٌ } به ، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة » .(1/136)
الحكم الثالث : هل يشترط في اليمين أن تكون للإضرار؟
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب .
وقال مالك : لا يكون إيلاءً إلا إذا حلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار .
حجة مالك : ما روي عن ( علي كرّم الله وجهه ) أنه سئل عن رجلٍ حلف ألاّ يطأ امرأته حتى تفطم ولدها ، ولم يرد الإضرار بها وإنما قصد مصلحة الولد فقال له : إنما أردتَ الخير ، وإنما الإيلاء في الغضب .
وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا إيلاء إلاّ بغضب .
حجة الجمهور : أن الآية عامة { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } فهي تشمل من حلف بقصد الإضرار ، أو حلف بقصد المصلحة لولده ، فالكل يشمله لفظ ( الإيلاء ) .
قال الشعبي : كل يمين مَنعتْ جِماعاً حتى تمضي أربعة أشهر فهي إيلاء .
وقد رجّح ابن جرير الطبري الرأي الأول ( رأي الجمهور ) فقال : « والصواب قول من قال : » كل يمين مَنعتْ الجماع أكثر من المدة التي جعل للمؤلي التربص بها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضى فهو إيلاء « .
الحكم الرابع : ما المراد بالفيء في الآية الكريمة؟
اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه الله تعالى بقوله : { فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
فقال بعضهم : المراد بالفيء الجماع لا فيء غيره ، فإذا لم يغشها وانقضت المدة بانت منه ، وهو قول ( سعيد بن جبير ) و ( الشعبي ) .
وقال آخرون : الفيء : الجماع لمن لا عذر له ، فإن كان مريضاً أو مسافراً أو مسجوناً فيكفي المراجعة باللسان أو القلب ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
وقال آخرون : الفيء : المراجعة باللسان على كل حال فيكفي أن يقول : قد فئت إليها وهو قول النخعي .
وأعدل الأقوال القول الثاني : وهو قول جمهور الفقهاء والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - عدم جواز الحلف على المنع من فعل البر والخير .
2 - من حلف على يمين ورأى الخير في خلافها فليفعل الخير وليكفّر .
3 - اليمين اللغو التي لا يقصد بها اليمين لا مؤاخذة عليها ولا كفارة فيها .
4 - الإيلاء من الزوجة بقصد الإضرار يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف .
5 - إذا لم يرجع الزوج عن يمينه في مدة أربعة شهور تطلق عليه زوجته .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أمرت الشريعة الغرّاء بالإحسان إلى الزوجة ومعاشرتها بالمعروف ، وحرّمت إيذاءها والإضرار بها بشتى الصور والأشكال { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ النساء : 19 ] .
ولمّا كان الإيلاء من الزوجة ، وهجرها في المضاجع مدة طويلة من الزمن ، لا يقصد منه إلا الإساءة إلى الزوجة والإضرار بها ، بحيث تصبح المرأة معلقة ، ليست بذات زوج ولا مطلّقة ، وكان هذا مما يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف ولا يتفق مع تعاليم الإسلام الرشيدة ، لذلك فقد أمر الباري جل وعلا بإمهال هذا الزوج مدة من الزمن أقصاها أربعة شهور ، فإن عاد إلى رشده فكفر عن يمينه ، وأحسن معاملة زوجته فعاشرها بالمعروف ، ودفع عنها الإساءة والظلم فهي زوجته ، وإلاّ فقد طلقت منه بذلك الإصرار ، وهذا من محاسن الشريعة الغراء ، حيث دفعت عن كاهل المرأة الظلم ودعت إلى البر بها والإحسان ، وجعلتها شريكة الرجل في الحياة السعيدة الكريمة .(1/137)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
[ 16 ] مشروعية الطلاق في الإسلام
التحليل اللفظي
{ قرواء } : جمع قُرء بالفتح والضم ، ويطلق في كلام العرب على ( الحيض ) وعلى ( الطهر ) فهو من الأضداد .
قال في « القاموس » : « والقَرْءُ بالفتح ويُضم : الحيض ، والطهر والوقت ، وأقرأت حاضت وطهرت ، وجمع الطهر : قروء ، وجمع الحيض : أقراء » .
وأصل القرء : الاجتماع وسمي الحيض قرءاً لاجتماع الدم في الرحم .
قال الأخفش : « أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت : قرأت » ومن مجيء القرء بمعنى ( الحيض ) قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : « دعي الصلاة أيام أقرائك » أي أيام حيضك ، وقول الشاعر :
له قروء كقروء الحائض ... ومن مجيئه بمعنى ( الطهر ) قول الأعشى :
مورثة عزّاً وفي الحيّ رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
{ وَبُعُولَتُهُنَّ } : أي أزواجهن جمع بعل الزوج قال تعالى : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] والمرأة بعلة ويقال لها : بعل أيضاً أفاده صاحب « القاموس » . وأصل البعل : السيّد المالك ، يقال : من بعد هذه الناقة؟ أي من ربها؟ ومن سيّدها؟
والمعنى : أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص بالعدة .
{ دَرَجَةٌ } : الدرجة في اللغة المنزلة الرفيعة قال تعالى : { هُمْ درجات عِندَ الله } [ آل عمران : 163 ] وسميت درجة تشبيها لها بالدرج الذي يرتقى به إلى السطح ، ويقال لقارعة الطريق مدرجة لأنها تطوي منزلاً بعد منزل ، وأصل ( درج ) بمعنى طوى يقال : درج القوم أي طَووا عمرهم وفنوا وفي الأمثال ( هو أكذب من دبّ ودرج ) أي أكذب الأحياء والأموات .
{ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : أي منيع السلطان غالبٌ لا يٌغلَب ، حكيم في أحكامه وأفعاله .
{ الطلاق } : الطلاق حلّ عقدة النكاح ، وأصله الانطلاق والتخلية ، يقال : ناقة طالق أي مهملة قد تركت في المرعى بلا قيد ولا راعي ، فسميت المرأة المخلّى سبيلها طالقاً لهذا المعنى .
قال الراغب : أصل الطلاق التخليةُ من الوثاق يقال : أطلقتُ البعير من عقاله وطلّقته إذا تركته بلا قيد ، ومنه استعير : طلّقتُ المرأة نحو خلّيتها فهي طالق أي مخلاّة عن حِبالَة النكاح ، وطلّقه المريض أي خلاه قال الشاعر :
تطلّقه طوراً وطوراً تراجع ... { تَسْرِيحٌ } : التسريح : إرسال الشيء ، ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض ، وسرّح الماشية : أرسلها لترعى السرح وهو شجر له ثمر ، ثم جعل لكل إرسالٍ في الرعي .
قال الراغب : « والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل ، كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل » .
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } : أي قاربن إنهاء العدة ، لأنه بعد انقضاء العدة لا سلطان للرجل عليها ، والعرب تقول : بلغ البلد إذا شارف الوصول إليها .
قال الشوكاني : « البلوغ إلى الشيء : معناه الحقيقي الوصول إليه ، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلاّ مجازاً لعلاقة مع القرينة كما هنا ، لأن المرأة إذا خرجت من العدة لم يبق للزوج عليها سبيل » .(1/138)
{ ضِرَاراً } : أي بقصد الإضرار ، قال القفال : الضّرار هو المضارّة قال تعالى : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } [ التوبة : 107 ] أي ليضارّوا المؤمنين ومعنى المضارة الرجوع إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة .
{ تَعْضُلُوهُنَّ } : العضل : المنع والتضييق ، يقال : أعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل ، وداء عُضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء ، وكل مشكلٍ عند العرب فهو معضل ، ومنه قول الشافعي رضي الله عنه :
إذا المعضلاتُ تصدَّيْنني ... كشفت حقائقها بالنظر
قال الأزهري : « أصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ، وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج » .
والمعنى : فلا تمنعوهن من الزواج بمن أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن .
{ زكى لَكُمْ } : أي أنمى وأنفع يقال : زكا الزرع إذا نما بكثرة وبركة .
{ وَأَطْهَرُ } : من الطهارة وهي التنزه عن الدنس وعن الذنوب والمعاصي .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : الأزواج المطلقات اللواتي طلقهن أزواجهن لسبب من الأسباب على هؤلاء انتظار مدة من الزمن هي مدة ( ثلاثة أطهار ) أو ( ثلاث حيَض ) لمعرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب ، وأزواجهن أحق بهنّ في الرجعة من الأجانب إذا لم تنقض عدتهن ، وكان الغرض من هذه الرجعة ( الإصلاح ) لا ( الإضرار ) ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن ، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أمر الله عز وجل ، وللرجال عليهن درجة القوامة ، والإنفاق والإمرة والطاعة .
ثم بين تعالى أن الطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان ، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تتزوج بعده بزوج آخر ، أما إذا لم يكن الطلاق ثلاثاً فله أن يراجعها إلى عصمة نكاحة ، فإما أن يمسكها بالمعروف فيحسن معاشرتها وصحبتها وإمّا أن يطلق سراحها للتزوج بمن تشاء بعلّها تسعد بالزواج الثاني { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] .
ولا يحل الله لكم أيها الرجال أن تأخذوا ممّا دفعتم إليهن من المهور شيئاً ، لأنكم قد استمتعتم بهن إلا إذا خفتم سوء العشرة بين الزوجين ، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلّقها فليس هناك جناح من أخذ الفداء .
ثم بيّن تعالى أنه إذا طلّقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين ، فلا تحلّ له إلاّ بالزواج بزوج آخر ، بعد أن يذوق عُسيلتها وتذوق عُسيلته ، فإن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول إن كان ثمة دلائل تدل على الوفاق والتلاق .
ثم أمر تعالى الرجال بالإحسان في معاملة الأزواج وعدم الإضرار بهن ، كما أمر الأولياء بألاّ يمنعوا المرأة من العودة إلى زوجها إذا رغبت في العودة ، لا سيما إذا صلحت الأحوال وظهرت أمارات الندم على الزوجين في استئناف الحياة الفاضلة ، والعيشة الكريمة .
سبب النزول
أولاً : روي أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكان يطلّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق ، فإذا كادت تحل راجعها ، فعمد رجلٌ لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : لا آويك ولا أدعك تحلّين ، قالت : وكيف؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضيُّ عدتك راجعتك ، فشكت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } الآية .(1/139)
ثانياً : وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كان الرجل يطلّق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها ، يفعل بها ذلك يضارّها ويعضلها فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء . . . } الآية .
ثالثاً : وأخرج البخاري والترمذي عن ( مَعْقل بن يسار ) رضي الله عنه أنه زوّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخُطَّاب فقال له : يا لكع أكرمتك بها وزوّجتك فلطّقتها! والله لا ترجع إليك أبداً قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ . . . } الآية فلما سمعها ( معقل ) قال : سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوّجك وأكرمك .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { ثَلاَثَةَ قرواء } بالهمزة وقرأ نافع ( ثلاثة قرُوّ ) بكسر الواو وشدها من غير همز ، وقرأ الحسن ( قَرء ) بفتح القاف وسكون الراء .
2 - قرأ الجمهور { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وقرأ حمزة ( إلا أن يُخافا ) بضم الياء مبنياً للمجهول ، وقرئ يظنّا .
3 - قرأ الجمهور { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا } بالياء أي يبينها الله ، وقرأ عاصم ( نبينها ) بالنون وهي نون التعظيم .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } المطلقات مبتدأ والجملة الفعلية خبر ، و { ثَلاَثَةَ قرواء } منصوب على الظرفية ، والمفعول به محذوف أي يتربصن الزوج .
2 - قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ } أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل ( يحل ) والتقدير : لا يحل لهن كتمان ، و ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي مفعول ل ( يكتمن ) .
3 - قوله تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } للرجال خبر مقدم و ( درجة ) مبتدأ مؤخر ، وجاز الابتداء بالنكرة لتقدم الجار والمجرور عليها .
4 - قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } ضراراً مفعول لأجله أي من أجل الضرار ، وجوّز بعضهم أن يكون منصوباً على الحال أي ( مضارين ) و ( لتعتدوا ) متعلق ب ( ضراراً ) .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } خبرٌ والمراد منه الأمر أي ( ليتربّصْن ) وفائدته التنبيه إلى أنه ممّا ينبغي أن يتلّقى بالقبول والمسارعة إلى الإتيان به .
قال صاحب « الكشاف » : « التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر ، إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر فهو يخبر عنه موجوداً ، ونظيره قولهم في الدعاء : رحمك الله ، أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة ، كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها » .(1/140)
اللطيفة الثانية : قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } ولم يذكره في الآية السابقة { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [ البقرة : 226 ] فما هي الحكمة؟
والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجاً لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن ، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص ، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق ، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن ، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب ، تقول : إن كنت مؤمناً فلا تؤذ أباك ، وإن كنت مسلماً فلا تغشّ الناس ، فهذه هي النكتة في التعبير .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ . . . } الآية أي أحق برجعتهن .
قال الإمام الفخر : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان ، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } فيه إيجاز وإبداع ، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان ، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني ، ومن الثاني بقرينة الأول ، كأنه قيل : لهنّ على الرجال من الحقوق ، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات ، وفيه من علم البديع ما يسمى ب ( الطباق ) بين لفظَيْ ( لهنّ ) و ( عليهن ) وهو طباق بين حرفين ، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في ( حجة الوداع ) بقوله : « ألا إنّ لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن » .
وعن ابن عباس أنه قال : « إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي ، لأن الله تعالى يقولك { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ } » .
اللطيفة السادسة : الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله } ليست درجة ( تشريف ) وإنما هي درجة ( تكليف ) وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق(1/141)
{ الرجال قوامون عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] الآية والله تعالى قد وضع ميزاناً دقيقاً للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل ، وهذا هو المبدأ العادل الكريم .
اللطيفة السابعة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول خلع كان في الإسلام في « امرأة ثابت بن قيس أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً ، والله ما أعيب عليه في خلُق ولا دين ، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ، ما أطيقه بغضاً ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سواداً ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ، فقال زوجها يا رسول الله : أعطيتها أفضل ما لي ( حديقة ) لي ، فإن ردّت عليّ حديقتي طلقتها ، فقال لها عليه السلام ما تقولين؟ قالت : نعم ، وإن شاء زدته ، قال ففرق بينهما » .
اللطيفة الثامنة : قال العلامة أبو السعود : وضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } { تِلْكَ حُدُودُ الله } { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة في النفوس ، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي عدة المطلقة ، والحامل ، والتي لا تحيض؟
أوجب الله تعالى العدة على المطلقة { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } والمراد بالمطلّقات هنا ( المدخول بهن ) البالغات من غير الحوامل ، أو اليائسات ، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
وعدة الحامل وضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
والمرأة التي لا تحيض وكذا اليائسة عدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] الآية .
فتبيّن من هذا أن الآية قد دخلها التخصيص ، وأنّ العدة المذكورة في الآية الكريمة هي للمطلّقة المدخول بها إذا لم تكن صغيرة أو يائسة أو حاملاً .
الحكم الثاني : ما المراد بالأقراء في الآية الكريمة؟
تقدّم معناه أن ( القرء ) في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر ، وقد اختلف الفقهاء في تعيين المراد به هنا في الآية الكريمة على قولين :
أ - فذهب مالك والشافعي : إلى أن المراد بالأقراء : الأطهار ، وهو مروي عن ( ابن عمر ) و ( عائشة ) و ( زيد بن ثابت ) ، وهو أحد القولين عند الإمام أحمد رحمه الله .
ب - وذهب أبو حنيفة وأحمد ( في الرواية الأخرى عنه ) إلى أن المراد بالأقراء : الحيض ، وهو مروي عن ( عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( أبي موسى ) و ( أبي الدرداء ) وغيرهم .
حجة مالك والشافعي :
احتج الفريق الأول لترجيح مذهبهم بحجج نذكرها بإيجاز :
الحجة الأولى : إثبات التاء في العدد ( ثلاثة قروء ) وهو يدل على أن المعدود مذكر وأن المراد به الطهر ، ولو كان المراد به الحيضة لجاء اللفظ ( ثلاث قروء ) لأن الحيضة مؤنث والعدد يذكر مع المؤنث ، ويؤنث مع المذكر كما هو معلوم .(1/142)
الحجة الثانية : ما روي عن عائشة أنها قالت : « هل تدرون الأقراء؟ الأقراء : الأطهار » .
قال الشافعي : والنساء بهذا أعلم . لأن هذا إنما يُبتلى به النساء .
الحجة الثالثة : قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] قالوا : ومعناه : فطلقوهن في وقت عدتهن ، ولما كان الطلاق وقت الحيض محظوراً ، دلّ على أن المراد به وقت الطهر ، فيكون المراد من القروء الأطهار .
حجة أبي حنيفة وأحمد :
واحتج الفريق الثاني على ترجيح مذهبهم بما يأتي :
أولاً : إن العدة شرعت لمعرفة براءة الرحم ، والذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر .
قال الإمام أحمد : قد كنت أقول : القروء : الأطهار ، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض .
ثانياً : واستدلوا بقوله عليه السلام لفاطمة بنت حُبيش : « دعي الصلاة أيام أقرائك » والمراد أيام حيضك ، لأن الصلاة تحرم في الحيض .
ثالثاً : قوله عليه السلام : « لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة » فأمر بالاستبراء بالحيضة ، وقد أجمع العلماء على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيض ، فكذا العدة ينبغي أن تكون بالحيض ، لأن الغرض واحد وهو براءة الرحم .
رابعاً : أقام الله تعالى الأشهر مقام الحيض في العدة في قوله : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فدلّ على أن العدة تعتبر بالحيض لا بالطهر . وهذا من أقوى أدلة الأحناف .
خامساً : إذا اعتبرنا العدة بالحيض فيمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها ، لأن المطلّقة إنما تخرج من العدة بزوال الحيضة الثالثة ، بخلاف ما إذا اعتبرناها بالأطهار فإنه إذا طلقها في آخر الطهر يكون قد مر عليها طهران وبعض الثالث ، فيكون ما ذهبنا إليه أقوى .
الترجيح :
ولعلّ ما ذهب إليه الفريق الثاني يكون أرجح ، فإن الأحاديث الصحيحة تؤيده ، والغرض من العدة في الأظهر معرفة براءة الرحم ، وهو يعرف بالحيض لا بالطهر .
وقد رجّح العلامة « ابن القيم » في كتابه « زاد المعاد » هذا القول ونصره وأيده فقال : « إن لفظ ( القرء ) لم يستعمل في كلام الشارع إلاّ للحيض ، ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر ، فحملُه في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى ، بل يتعين ، فإنه عليه السلام قد قال للمستحاضة : » دعي الصلاة أيام أقرائك « وهو صلى الله عليه وسلم المعبّر عن الله ، وبلغه قومه نزل القرآن ، فإذا أورد المشترك في كلامه على أد معنييه ، وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه البتة ، ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها ، وإن كان له معنى آخر في كلام غيره ، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله عليها في كلامه ، ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين ، وأيضاً فقد قال سبحانه :(1/143)
{ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض . . . } [ الطلاق : 4 ] الآية فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر ، وقال في موضع آخر { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] معناه لاستقبال عدتهن لا فيها ، وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق ، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض ، فإن الطاهر لا تستقبل الطهر ، إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها « .
الحكم الثالث : ما معنى قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } ؟
اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية على أقوال :
فقال بعضهم : المراد بما خلق الله في أرحامهن : ( الحمل ) وهو قول عمر ، وابن عباس ، ومجاهد .
وقال بعضهم : المراد به ( الحيض ) وهو قول عكرمة ، والنخعي ، والزهري .
وقال آخرون : المراد به ( الحمل والحيض ) معاً ، وهذا قول ابن عمر ، واختاره ابن العربي .
قال ابن العربي : » والثالث هو الصحيح لأن الله تعالى جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلاّ بخبرها ، ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها « .
أقول : إنما حرم الله كتمان ما في أرحامهن لأنه يتعلق بذلك حق الرجعة للرجل ، وعدم اختلاط الأنساب ، فربما ادعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرحم بالحمل من زوجها ثم تزوجت فأدى ذلك إلى اختلاط الأنساب ، وربما حَرَمَت الرجل من حقه في الرجعة فلذلك حرّم الله كتمان ما في الأرحام .
الحكم الرابع : هل الآية عامة في كل مطلّقة؟
الآية الكريمة { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } عامة في المبتوتة ، والرجعية ، وقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } خاص في الرجعية دون المبتوتة ، لأن المبتوتة قد ملكت نفسها .
قال ابن كثير رحمه الله : » وهذا في الرجعيات ، فأما المطلَّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية ( مطلقة بائن ) وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعه امرأته وإن طلّقها مائة مرة ، فلما قصوا على ثلاثة تطليقات ، صار للناس مطلّقة بائن ومطلقة غير بائن « .
الحكم الخامس : ما هو حكم الطلاق الرجعي؟
الطلاق الرجعي يبيح للرجل حق الرجعة بدون عقد جديد ، وبدون مهر جديد ، وبدون رضا الزوجة ما دامت المرأة في العدة ، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها بانت منه ، وقد أثبت الشارع له حق الرجعة بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي أحق بإرجاعهن في وقت التربص بالعدة ، وإذا كانت الرجعية حقاً للرجل فلا يشترط رضا الزوجة ولا عملها ، ولا تحتاج إلى ولي ، كما لا يشترط الإشهاد عليها وإن كان ذلك مستحباً خشية إنكار الزوجة فيه بعد أنه راجعها .(1/144)
وتصح المراجعة بالقول مثل قوله : راجعتُ زوجتي إلى عصمة نكاحي ، وبالفعل مثل التقبيل ، والمباشرة بشهوة ، والجماع عند أبي حنيفة ومالك ، وقال الشافعي : لا رجعة إلا بالقول الصريح ولا تصح بالوطء ودواعيه ، لأن الطلاق يزيل النكاح .
قال الشوكاني : « والظاهر ما ذهب إليه الأولون ، لأن العدة مدة خيار ، والاختيار يصح بالقول وبالفعل ، وظاهر قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وقوله صلى الله عليه وسلم : » مُره فليراجعها « أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولاً من فعل ، ومن ادّعى الاختصاص فعليه الدليل » .
الحكم السادس : هل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً أم واحدة؟
دل قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } على أن الطلاق ينبغي أن يكون مفرقاً مرة بعد مرة وقد اختلف العلماء في الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ هل يقع ثلاثاً أو واحدة؟
فذهب جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة إلى أنه يقع ثلاثاً ، إمّا مع الحرمة ، وإما مع الكراهة على حسب اختلافهم في فهم الآية الكريمة .
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، وهو قول طاووس ومذهب الإمامية وقول ( ابن تيمية ) وبه أخذ بعض المتأخرين من الفقهاء دفعاً للحرج عن الناس ، وتقليلاً لحوادث الطلاق ، وفراراً من مفاسد التحليل .
دليل الجمهور :
استدل الجمهور على وقوع الطلاق الثلاث بما يلي :
أولاً : إن الله عز وجل جعل للطلاق حداً وأرشد الرجل إلى أن يطلق مرة بعد مرة ، وجعل له فسحة في الأمر حتى لا يضيع حقه في الرجعة ، فإذا تعدى الإنسان هذه الرخصة وطلّق ثلاثاً وقع طلاقه لأن له عليها طلقتين وبالثالثة تبين منه ، فإما أن يجمعها أو يفرقها . والإسلام قد أرشده إلى ما هو الأفضل والأصلح ، فإذا جاوز هذا إلى ما فيه تضييق عليه أخذ بجزيرة نفسه .
ثانياً : ما روي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له : إنه طلّق امرأته ثلاثاً ، قال مجاهد : فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه ، ثم قال : يطلّق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول : يا ابن عباس ، يا ابن عباس وإن الله تعالى يقول : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك « .
ثالثاً : واستدلوا بإجماع الصحابة حين قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقروه عليه ، ولم ينكر أحد من الصحابة وقوع الثلاث بلفظ واحد على عمر بن الخطاب فدل ذلك على الإجماع .(1/145)
وقد ذهب البخاري إلى وقوع الثلاث وترجم على هذه الآية بقوله ( باب من أجاز الطلاق الثلاث ) بقوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } .
وهذا إشارة منه رضي الله عنه إلى أنّ هذا التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيّق على نفسه لزمه .
حجة الفريق الثاني :
واستدل القائلون بوقوع الطلاق الثلاث واحدة بما رواه أحمد ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس أنه قال : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » .
وقالوا : إن الله قد فرّق الطلاق بقوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } أي مرة بعد مرة ، وما كان مرة بعد مرة لا يملك المكلف إيقاعه دفعة واحدة ، مثل ( اللعان ) لا بدّ ن التفريق فيه ، ولو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة ، ولو قال المقر بالزنى : أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة ، وقالوا : إن الشارع طلب أن يسبح العبد ربه ويحمده ، ويكبّره دبر كل صلاة ( ثلاثاً وثلاثين ) ولا يكفيه أن يقول : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين ، ولا بدّ من التفريق حتى يكون قد أتى بالأمر المشروع .
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه « أعلام الموقعين » القول في المسألة وانتصر لرأي ابن تيمية ، وفعل مثله ( الشوكاني ) في كتابه « نيل الأوطار » وله رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور .
أقول : كلُّ ما استدل به الفريق الثاني لا يقوى على ردّ أدلة الجمهور وعلى إجماع الصحابة ، وكفى بهذا الإجماع حجة وبرهاناً وهذا ما ندين الله عز وجل به . ونعتقد أنه الصواب ، لأن مخالفة إجماع الصحابة وإجماع الفقهاء ليس بالأمر اليسير .
ويحسن بنا أن ننقل ما كتبه العلامة القرطبي في تفسير « الجامع لأحكام القرآن » حيث قال رحمه الله : « واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف ، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر فقالوا : إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، ويحكى عن داود أنه لا يقع ، وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً ، ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات ، واستدل من قال بوقوعه واحدة بأحاديث ثلاثة :
أحدهما : حديث ابن عباس من رواية طاوس ، وأبي الصهباء ، وعكرمة .
وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثاً ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره برجعتها واحتسبت واحدة .
وثالثها : أنّ ركانة طلّق امرأته ثلاثاً فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ، والرجعة تقتضي وقوع واحدة .(1/146)
والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي عن ( سعيد بن جبير ) و ( مجاهد ) و ( عطاء ) في روايتهم عن ابن عباس فيمن طلّق امرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه ، وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج ، وفيما رواه هؤلاء عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ، ما يدل على وهْن رواية طاوس وغيره ، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه .
قال ابن عبد البر : « رواية طاوس وهمٌ وغلط ، لم يعرّج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ، والمشرق والمغرب » .
قال الباجي : فإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه .
وأما حديث ابن عمر أنه طلّق ثلاثاً وهي حائض . . . إلخ فقد ردّه الدارقطني وقال : رواته كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض .
وأما حديث ( رُكانة ) فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع لا يستند من وجه يحتج به ، وهو عن عكرمة عن ابن عباس وفيه « إن رُكانة طلّق امرأته ثلاثاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعها » .
والثابت أن ركانه طلّق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلاّ واحدة فردّها إليه .
فهذا اضطراب في الاسم والفعل ولا يحتج بشيء من مثل هذا .
والخلاصة فإن رأي الجمهور يبقى أقوى دليلاً ، وأمكن حجة ، لا سيما وقد تعزّز بإجماع الصحابة والأئمة المجتهدين والله أعلم .
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } .
اختلف المفسرون في معنى قول الله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } على أقوال عديدة نذكرها بالإجمال .
أ - المراد : الطلاق المشروع مرتان ، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع ، والآية مستقلة عمّا قبلها ، وهذا قول الحجّاج بن أرطأة ومذهب الرافضة .
ب - المراد : الطلاق المسنون مرتان وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومذهب مالك رحمه الله .
ج - المراد : الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان ، وهذا قول قتادة وعروة واختيار الجمهور .
قال الشوكاني في تفسيره « فتح القدير » : المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم من الآية الأولى ، أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان ، أي الطلقة الأولى والثانية ، إذ لا رجعة بعد الثالثة ، وإنما قال سبحانه ( مرتان ) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة « .
الحكم الثامن : هل يبلاح للزوج أخذ المال مقابل الطلاق؟
أمر الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان ، ونهى الزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطى المرأة من المهر إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } والمراد عدم إقامة حدود الله التي شرعها للزوجين ، من حسن المعاشرة والطاعة والقيام بحق كلٍ من الزوجين نحو الآخر ، فإن ظهرت بوادر الشقاق والخلاف ، واستحكمت أسباب الكراهية والنفرة جاز للمرأة أن تفتدي ، وجاز للرجل أن يأخذ المال ، وطلاقُ المرأة على هذا الوجه هو المعروف ب ( الخُلع ) وقد عرّفه الفقهاء بأنه » فراقُ الرجل زوجته على بدلٍ يأخذه منها « .(1/147)
وفي أخذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف ، فإنه هو الذي أعطاها المهر ، وبذل تكاليف الزواج والزفاف ، وأنفق عليها ، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود وطلبت الفراق فكان من الإنصاف أن تردّ عليه ما أخذت منه .
والأصل في هذا ما رواه البخاري من قصة امرأة ثابت بن قيس وقد تقدم ، وفيه قال لها عليه السلام : « أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة » .
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أعطاها لقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } وهذا عام يتناول القليل والكثير .
وقال الشعبي والزهري والحسن البصري : لا يحل للزوج أن يأخذ زيادة على ما أعطاها ، لأنه من باب أخذ المال بدون حق ، وحجتهم أن الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال والنساء فلا تجوز الزيادة ، والراجح أن الزيادة تجوز ولكنها مكروهة .
وقد اختلف الفقهاء هل الخلع فسخ أو طلاق؟
فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ، وقال الشافعي في القديم إنه فسخ ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا خلعها هل تحسب عليه طلقة أم لا؟ والأدلة على هذه المسألة تطلب من كتب الفروع .
الحكم التاسع : ما هو حكم المطلقة ثلاثاً ، وكيف تحل للزوج الأول؟
دل قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } على أن المطلقة ثلاثاً تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر ، وهي التي يسميها الفقهاء ( بائنة بينونه كبرى ) وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق وبيّن أنه مرتان ، ثم ذكر حكم الخلع وأعقبه بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } فدلّ على أن المراد به الطلاق الثالث .
قال القرطبي : « المراد بقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه » .
وذهب جمهور العلماء والأئمة المجتهدون إلى أن المراد بالنكاح في قوله تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } الوطء لا العقد ، فلا تحل للزوج الأول حتى يطأها الزوج الثاني .(1/148)
وروي عن ( سعيد بن المسيب ) أنه قال : إن المطلقة ثلاثاً تحل للأول بالعقد على الثاني ، وهو ضعيف لمصادمته للحديث الآتي الصحيح .
واحتج الجمهور بما رواه ابن جرير عن عائشة قالت : « جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كنت عند رفاعة فلطقني فبتّ طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير ، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب فقال لها : » تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك « » رواه أصحاب السنن .
والمراد بالعُسيلة : الجماع ، شبّه اللذة فيه بالعسل .
فقد وضّحتْ السنة المطهّرة أنّ المراد من فظ النكاح في الآية الكريمة هو ( الجماع ) لا العقد ، وقال بعض العلماء إن الآية نفسها فيها دلالة على ذلك ، فقد قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة ، فقال فرّقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح فلانٌ فلانةً أرادوا أنه عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح زوجته أرادوا به المجامعة ، وهنا قال تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } فالمراد منه المجامعة .
الحكم العاشر : نكاح المحلّل وهل هو صحيح أم باطل؟
المحلِّل : بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلّقة ثلاثاً بقصد أن يحلّها للزوج الأول ، وقد سمّاه عليه السلام بالتيس المستعار ففي الحديث الشريف « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلَّل له » .
وقد اختلف العلماء في نكاح المحلّل فذهب الجمهور ( مالك وأحمد والشافعي والثوري ) إلى أن النكاح باطل ، ولا تحل للزوج الأول .
وقال الحنفية وبعض فقهاء الشافعية : هو مكروه وليس بباطل ، لأن في تسميته بالمحلّل ما يدل على الصحة لأنها سبب الحل ، وروي عن الأوزاعي أنه قال : بئس ما صنع والنكاحُ جائز .
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على فساد نكاح المحلّل بما يلي :
أولاً - حديث « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلّل والمحلّل له » .
ثانياً - حديث « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلّل . . . » الحديث .
ثالثاً - حديث ابن عباس « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلّل فقال : ( لا » أي لا يحل « إلاّ نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ، ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عُسيلتها ) » .
رابعاً - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « لا أوتي بمحلّل ولا بمحلّل له إلاّ رجمتهما » .
خامساً - ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلّها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال : لا ، إلاّ نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم « .(1/149)
الترجيح :
والحق ما ذهب إليه الجمهور لأن النكاح يقصد منه الدوام والاستمرار ، والتأقيت يبطله فإذا تزوجها بقصد التحليل ، أو اشترط الزوج عيه أن يطلّقها بعد الدخول فقد فسد النكاح لأنه يشبه ( نكاح المتعة ) حينئذٍ ، وهو باطل باتفاق العلماء .
قال العلامة ابن كثير رحمه الله : « والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة ، قاصداً لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً ، لو وطئها وهي محرمة ، أو صائمة ، أو معتكفة ، لم تحلّ للأول بهذا الوطء ، واشترط الحسن البصري الإنزال وكأنه فهمه من قوله عليه السلام » حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك « .
ثم قال : فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو ( المحلّل ) الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه ، ومتى صرّح بمقصود ، في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة . . . ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك في » تفسيره « وقد أشرنا إلى بعضها فيما ذكرناه » .
« كلام السيد رشيد رضا في » المنار « »
وقال في « تفسير المنار » : « ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً هو ما كان زوجاً صحيحاً عن رغبة ، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته ، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه ( صورياً ) غير صحيح ، ولا تحل به المرأة للأول ، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها ، فإن عادت إليه كانت حراماً ، ومثال ذلك من طهّر الدم بالبول ، وهو رجسٌ على رجس ، ونكاحُ التحليل شرٌّ من نكاح المتعة وأشد فساداً وعاراً . . . ثم نقل ما أورده ابن حجر المكي في كتابه » الزواجر « من الأخبار والآثار الدالة على التحريم ثم قال :
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار ، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة ، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم ، وقد رأيت في لبنان رجلاً نصرانياً ولع بشراء الكتب الإسلامية ، فاهتدى إلى حقيقة الإسلام مع الميل إلى التصوف فأسلم ، وقال لي : لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله ، أقبحُها مسألة ( التجحيش ) أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع » .
أقول : إنَّ في التحليل مفاسد كثيرة نبّه عليها العلماء ، وقد عقد العلامة ( ابن القيم ) في كتابة « أعلام الموقعين » فصولاً في بيانها ، وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته ، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين فالصواب ألا ينسب إليها حله والله المستعان .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم .(1/150)
2 - حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل ، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة .
3 - الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعياً ما دامت العدة لم تنته بعد .
4 - الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء ، وله عليها درجة القوامة والإشراف .
5 - الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر نكاحاً شرعياً صحيحاً بقصد الدوام والاستمرار .
6 - جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق .
7 - حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق .
8 - لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الإسلام الطلاق ، واعتبره أبغض الحلال إلى الله ، وذلك لضرورة قاهرة ، وفي ظروف استثنائية ملحّة ، تجعله دواءً وعلاجاً للتخلص من شقاء محتّم ، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق . والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة ، وتصديع لبنيانها ، وتمزيق لشمل أفرادها ، وضرره يتعدى إلى الأولاد ، فإن الأولاد حينما يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعاً للرعاية وحسن التربية ، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت ، ومع هذا فقد أجازه الإسلام ، لدفع ضررٍ أكبر ، وتحصيل مصلحة أكثر ، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا ، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما ، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب ، والوفاء ، والهدوء ، والاستقرار ، لا التناحر ، والخصام ، والبغضاء .
فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه ، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته ، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف ( فاحشة الزنى ) فهل يتركها تفسد عليه نسبه ، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم ، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي ، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة .
وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك ، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق ، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر ، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات .
يقول الأستاذ الفاضل ( أحمد محمد جمال ) في كتابه « محاضرات في الثقافة الإسلامية » ما نصه : « ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام ، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام ( المراجعة ) في الطلاق دون الشرائع الأخرى ، حرصاً على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين ، وحفاظاً على الذرية من الضياع والتشرد ، واستصلاحاً لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن ، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام - وهو المرة الأولى والثانية - فترة اختبار للزوجين ، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة ، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية .(1/151)
كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن الإسلام جاء ليصحّح وضعاً خاطئاً ، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى ، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد ، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضراراً لها ، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة ، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا ، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حداً ، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيداً { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } .(1/152)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
[ 17 ] أحكام الرضاع
التحليل اللفظي
{ والوالدات } : جمع والدة بالتاء ، والوالد : الأب ، والوالدة : الأم ، وهما الوالدان كذا في « اللسان » ، قال في « البحر » : وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد فأطلق عليهما والدان .
{ حَوْلَيْنِ } : أي سنتين من حال الشيء إذا انقلب ، فالحول منقلبٌ من الوقت الأول إلى الثاني .
قال الراغب : والحول السنة اعتباراً بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها .
{ المولود لَهُ } : أي الأب ، لأن الأولاد ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات قال الشاعر :
فإنّما أمهاتُ الناسِ أوعيةٌ ... مستودَعاتٌ وللآباء أبناء
{ فِصَالاً } : فطاماً عن الرضاع ، والفِصَال والفَصْلُ : الفطام ، وإنما سمي الفطام بالفصال ، لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات .
قال المبرّد : يقال : فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً ، والفصالُ أحسن ، لأنه إذا انفصل عن أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال ، والضراب ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه .
{ وَتَشَاوُرٍ } : التشاور في اللغة : استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشور وهو استخراج العسل .
قال الراغب : والتشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شِرتُ العسل إذا استخرجته من موضعه .
{ تسترضعوا } : أي تطلبوا الرضاع لأولادكم يقال : استرضع أي طلب الرضاع ، مثل : استفتح طلب الفتح ، واستنصر طلب النصر .
والمعنى : إذا أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا المراضع لأولادكم أي تطلبوا لهم من يرضعهم فلا إثم عليكم ولا حرج .
{ بالمعروف } : أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً الذي أمركم به الدين .
{ بَصِيرٌ } : أي مطلع على عمالكم ، لا تخفى عليه خافية والمراد أنه مجازيكم عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
المعنى الإجمالي
أمر الله تعالى الوالدات ( المطلّقات ) بإرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ، وأنّ على الولد كفاية المرضع التي تقوم بإرضاع ولده ، والإنفاق عليها لتقوم بخدمته حق القيام ، وتحفظه من عاديات الأيام ، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف والقدرة والطاقة لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ثم حذّر تعالى كلاً من الوالدين أن يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد ، فلا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع الولد إضراراً بأبيه ، وأن تقول له مثلاً : اطلب له ظئراً غيري ، ولا يحل للأب أن ينزع الولد منها مع رغبتها في إرضاعه ، ليغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد .
ثمّ بيّن تعالى أن الوالدين إذا أرادوا فطام ولدهما بعد التشاور والتراضي قبل تمام الحولين فلا إثم ولا حرج إذا رأيا استغناء الطفل عن لبن أمه بالغذاء ، فإن هذا التحديد إنما هو لمصلحة الطفل ودفع الضرر عنه ، والوالدان أدرى الناس بمصلحته وأشفقهم عليه وإن أردتم - أيها الآباء - أن تطلبوا مرضعة لولدكم غير الأم بسبب إبائها ، أو عجزها أو إرادتها الزواج ، فلا إثم عليكم في ذلك ، بشرط أن تدفعوا إلى هذه المرضعة ما اتفقتم عليه من الأجر ، ولا تبخسوها حقها ، فإن المرضع إذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإرضاعه ولا بسائر شؤونه ، فأحسنوا معاملتهن ليحسنّ أمور أولادكم ، واتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الله مطلّع عليكم لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وأنه مجازيكم عليها يوم الدين(1/153)
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وقرأ مجاهد ( أن تَتمّ الرضاعةُ ) بالتاء وبرفع الرضاعة ، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة ( الرّضاعة ) بكسر الراء . قال الزجاج « الرّضاعة » بفتح الراء وكسرها والفتح أكثر .
2 - قرأ الجمهور { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( لا تضارّ ) بالرفع على أن ( لا ) نافية .
3 - قوله تعالى : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } قرأ الجمهور { آتَيْتُم } بالمد ، وقرأ ابن كثير { أتيتم } بالقصر .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الجار والمجرور خبر مقدم ، و ( رزقهن ) مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و ( بالمعروف ) متعلق بت ( رزقهن ) .
ثانياً - قوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } لا ناهية جازمة و ( تضارّ ) أصلها ( تضارر ) سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و ( والدة ) فاعل والمفعول به محذوف تقديره : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها .
ثالثاً - قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه .
قال الواحدي : « أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد ، ونيظره قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم » .
وجه الارتباط في الآيات السابقة
مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات ، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرجعة ، والعضل ، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع ، لأن الطلاق يحصل به الفراق ، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه ، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقاماً من الزوج وإيذاءً له ، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن ، والجملة ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] والتعبير عنهن بلفظ ( الوالدات ) دون قوله : والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد ، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة .(1/154)
اللطيفة الثانية : العدول عن قوله : وعلى الوالد إلى قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم ، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة ، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم قيل ( المولود له ) دون الوالد؟ قلت : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات » .
اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : وصف الله تعالى الحولين بالكمال ( حولين كاملين ) دفعاً للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين ، إذ يقال : أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين { وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } و { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق ، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين ، هذه أمه وذاك أبوه ، فمن حقهما أن يشفقا عليه ، ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإضرار بالولد .
قال العلامة أبو السعود : « إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه ، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ، ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارّا بسببه » .
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى : { أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } جاء بضمير التثنية للغائب ، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب ، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟
أ - قال بعضهم : لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات ، وهو قول مجاهد والضحاك ، والسدّي . واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها ، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن ، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب ، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة ، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات ، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها .
ب - وقال بعضهم : إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح ، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي ، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى : { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات .
ج - وقال آخرون : المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات ، عملاً بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين ، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في « البحر المحيط » .(1/155)
الحكم الثاني : هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } فهو أمر في صورة الخبر أي : ( ليرضعن أولادهن ) .
وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة ، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها ، أو إذا عُدم الأب ، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف ، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها ، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق ، ولها أجرة المثل .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب ، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعاً بأن كان لا يقبل غير ثديها ، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر ( مرضعة ) ترضعه ، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } [ الطلاق : 6 ] ولو كان الإرضاع واجباً لكلفها الشرع به ، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل ، وشفقة الأم عليه أكثر .
الحكم الثالث : ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟
ذهب الجمهور الفقهاء ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم ، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين » .
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
قال العلامة القرطبي : « والصحيح الأول لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين ، ولقوله عليه السلام : » لا رضاع إلا ما كان في الحولين « وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له ، وقد روي عن عائشة القول به ، وبه يقول : ( الليث بن سعد ) وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير ، وروي عنه الرجوع عنه » .
الحكم الرابع : كيف تقدر نفقة المرضع؟
دل قوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } على وجوب النفقة للمرضع على الزوج ، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وقد دل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } [ الطلاق : 7 ] وأخذ الفقهاء من آية البقرة { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } وجوب النفقة الولد على الوالد ، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد ، فتجب نفقته على أبيه ا دام صغيراً لم يبلغ سن التكليف .(1/156)
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين :
أحدهما : أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين ، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه .
والثاني : أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان .
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم ، وهما جميعاً وارثان ، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث ، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره ، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار ، والكبار الزمني ، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه « .
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } ؟
واختلف المفسّرون في المراد من لفظ { الوارث } في الآية الكريمة على أقوال :
أ - قال بعضهم : المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات ، وهو قول عطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة ، وقال آخرون : وارثه من الرجال أو النساء وهو قول ( أحمد ) وإسحاق ، وقال آخرون : وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود ، وهو قول ( أبي حنيفة ) وصاحبيه .
ب - وقال بعضهم : المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن ، والسُدّي .
ج - وقال بعضهم : المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري .
د - وقال آخرون : المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال .
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - على الأمهات إرضاع الأبناء ، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل .
2 - نسب الأولاد للآباء ، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق .
3 - النفقة على قدر طاقة الوالد عسراً ويسراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
4 - نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم .
5 - فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء ، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين ، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه ، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب . . وليس هناك لبن يعادل لبن الأم ، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها ، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه ، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم ، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه ، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ، ومعرفة أخلاقها وطبائعها ، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه ، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد ، فيكون دماً له ينموا به اللحم ، ويُنشز العظم ، فيؤثر فيه جسمياً وخلقياً ، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه ، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟!
والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب ، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان ، فينشأ مجبولاً على الرحمة ، محباً للخير ، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم ، يكونون معقّدين ، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام ، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية إلى هذا الأمر ، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن ، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع .(1/157)
فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شؤونهم!! حتى الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به ، قد صار نساء الأغنياء منهن في هذا الزمان يرغبن عنه ترفعاً وطمعاً في السمن وبقاء الجمال وكل هذا مقام لسنة الفطرة ، ومفسد لتربية الأولاد ، ولسنا نرى ديناً تعرض لمحاسن تربية النشء مثل ما تعرض له الإسلام ، فاللهم وفقنا للاهتداء بهديه الكريم إنك سميع مجيب الدعاء .(1/158)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
التحليل اللفظي
{ يُتَوَفَّوْنَ } : أي يموتون ويُقبضون قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي : أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات فقد استوفى عمره ورزقه .
قال أبو السعود : « أي تقبض أرواحهم بالموت ، فإن التوفي هو القبض يقال : توفيت مالي أي قبضته » .
وقال الإمام الفخر : « يقال : توفىّ فلان ، وتُفي إذا مات ، فمن قال : تُوفّى كان معناه قُبض وأخذ ، ومن قال : تَوفّى كان معناه أجله واستوفى عمره » .
{ وَيَذَرُونَ } : أي يتركون ، وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر ، ومثله ( يدع ) ليس له ماضٍ ولا مصدر ، يقال : فلان يَدع كذا ويَذر ، ويأتي منهما الأمر يقال : دعْهُ وذرْه قال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] .
{ أَزْوَاجاً } : الأزواج هاهنا : النساء ، والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له ، وربما ألحقوا بها الهاء فقالوا : زوجة وهو خلاف الأفصح .
{ يَتَرَبَّصْنَ } : التربص الانتظار ومنه قوله تعالى : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] وقد تقدم .
{ بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } : الأجل : المدة المضروبة للشيء ، ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان : أجل قال تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ . . . } [ الأعراف : 34 ] والمراد هنا : انقضاء العدة .
{ خَبِيرٌ } : الخبير العالم بالأمور خفيّها وجليّها الذي لا تخفى عليه خافية .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : الذين يموتون من رجالكم ، ويتركون أزواجهم بعد الموت ، على هؤلاء الزوجات أن ينتظرن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام ، يمكثن في العدة حداداً على أزواجهن ، فلا يتعرضن للخُطَّاب ، ولا يتزينن ولا يتطيّبن ، ولا يخرجن من بيوت أزواجهن ما دُمْن في العدة فإذا انقضت عدتهن فلا جناح ولا إثم عليكم أيها الأولياء في تركهنّ أن يتزوجن ، ويفعلن ما أباحه لهن الشرع من الزينة والتطيب ، والله عليم بأعمالكم . خبير بأفعالكم ، لا تخفى عليه خافية فاتقوه وأطيعوه في ما أمركم به ، ومنه الحداد على الأزواج .
وجوه الإعراب
قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } في إعرابه وجهان :
أحدهما أن { والذين } مبتدأ ، و { يُتَوَفَّوْنَ } مضارع مبني للمجهول ، والخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون .
والثاني : أن المبتدأ محذوف و ( الذين ) قام مقامه تقديره : وأزواج الذين يتوفون منكم ، ودل على المحذوف قوله : { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } والخبر { يَتَرَبَّصْنَ } .
قال الطبري : « فإن قال قائل : فأين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل : متروك لأنه لم يقصد الخبر عنهم ، وإنما قصد الخبر عن الواجب على المعتدات في وفاة أزواجهن ، فصرف الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم ، وهو نظير قول الشاعر :
لعلّي إنْ مالتْ بي الريحُ ميلة ... على ابن أبي زبّان أن يتندما
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت أن يقال : تُوفي فلان ، بالبناء للمفعول ، والتعبير باسم الفاعل يعده البعض لحناً ، لأنه مقبوضٌ لا قابض ، وقد روي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان خلف جنازة ، فقال له رجل : من المُتَوفّي؟ فقال : » اللهُ تعالى « وكان هذا من أسباب وضع أحكام النحو .(1/159)
اللطيفة الثانية : الزوج يطلق على الذكر والأنثى ، وهو في الأصل العدد المكّون من اثنين ، وسمي كل من الرجل والمرأة ( زوجاً ) لأن حقيقة الزوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئاً واحداً ، ولهذا وضع لهما لفظ واحد ، فهما في الظاهر شيئان ، وفي الباطن شيء واحد ، ومقتضى الزوجية أن يتحدا حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر .
اللطيفة الثالثة : روى ابن جرير الطبري عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن امرأة توفي عنها زوجها ، واشتكت عينها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل فقال لها : « لقد كانت إحداكنّ تكون في شر أحلاسها ، فتمكث في بيتها في بيتها حولاً إذا توفي زوجها ، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة ، أفلا أربعة أشهر وعشراً؟! » اللطيفة الرابعة : الحكمة في تحديد عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر أيام ، هي أن الغاية الأصلية معرفة براءة الرحم ، والجنين يتكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم أربعين يوماً علقه ، ثم أربعين يوماً مضغة ، كما دل على ذلك الحديث الصريح الصحيح ، فهذه مائة وعشرون يوماً ، ثم تنفخ فيه الروح بعد هذه المدة ، فزيدت العشر لذلك ، وقد سئل أبو العالية : لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ فقال : لأن الروح فيها تنفخ .
الحكم الأول : هل الآية ناسخة لآية الاعتداد بالحول؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] فقد كانت العدة حولاً كاملاً ، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في ( التلاوة ) على آية الاعتداد بالحول ، إلاّ أنها متأخرة في ( النزول ) فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول بل هو توقيفي فتكون ناسخة ، وذهب بعضهم إلى أنه ليس في الآية نسخ ، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما نقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخاً وإنما كانت تخفيفاً .
قال القرطبي : « وهذا غلطٌ بيّن ، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة ، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً فهذا هو النسخ ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء » .
الحكم الثاني : ما هي عدة الحامل المتوفي عنها زوجها؟
عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ( وضع الحمل ) لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] فالآية هذه قد خصّصت العموم الوارد في قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ . . . } وهذا قول جمهور العلماء .
وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الحامل تعتدّ بأبعد الأجلين ، بمعنى أنها إذا كانت حاملاً فوضعت الحمل ولم تنته مدة العدة ( أربعة أشهر وعشر ) تبقى معتدة حتى تنتهي المدة ، وإذا انتهت المدة ولم تضع الحمل تنتظر حتى وضع الحمل ، فإذا قعدت أبعد الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع أولى من الترجيح .(1/160)
قال القرطبي : وهذا نظرٌ حسن لولا ما يعكر عليه من حديث ( سبيعة الأسلمية ) وهو في الصحيح .
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على أن عدة الحامل وضع الحمل بالكتاب والسنة :
أ - أما الكتاب فقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ، فهذه عامة في المطلّقة والمتوفى عنها زوجها ، وقد جعل الله العدة فيها بوضع الحمل .
ب - وأما السنة فما روي عن ( سُبيعة الأسلمية ) أنها كانت تحت ( سعد بن خولة ) وهو ممن شهد بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنْشبْ ( أي تلبث ) أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلّت من نفاسها ( أي طهرت من دم النفاس ) تجمّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة ، لعلّك ترجِّينَ النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمرّ عليك أربعة أشهر وعشر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللْتُ حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي « .
قال ابن عبد البر : » وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث ( سُبيْعة ) لمّا احتُج به عليه ، قال : ويصحّح ذلك أن أصحابه أفتوا بحديث سُبيْعة كما هو قول أهل العلم قاطبة « .
وقال القرطبي : » فبيّن الحديثُ أن قوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] محمول على عمومه في المطلقات ، والمتوفّى عنهن أزواجهن ، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنْفين ، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود : « من شاء باهلته ، إن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة » .
الحكم الثالث : ما هو الإحداد ، وكم تحد المرأة على زوجها؟
أوجبت الشريعة الغراء أن تحد المرأة على زوجها المتوفى مدة العدة وهي ( أربعة أشهر وعشر ) ويجوز لها أن تحد على قريبها الميت ثلاثة أيام ، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك ، لما روي في « الصحيحين » عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثم مسّت بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً » .(1/161)
معنى الإحداد : والإحداد هو ترك الزينة ، والتطيب ، والخضاب ، والتعرض لأنظار الخاطبين ، وهو إنما وجب على الزوجة وفاءٌ للزوج ، ومراعاة لحقه العظيم عليها ، فإن الرابطة الزوجية أقدس رباط ، فلا يصح شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وقد كانت المرأة تحد على زوجها حولاً كاملاً تفجعاً وحزناً على زوجها ، فنسخ الله ذلك وجعله أربعة أشهر وعشراً .
روى البخاري ومسلم « عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله : » إنّ ابنتي تُوفّي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال : لا ، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا! ثم قال : إنما هي أربعة أشهر ، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية تمكث سنة « قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمسّ طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو شاة فتفتضّ بها ، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات .
وقد استنبط بعض العلماء وجوب الإحداد من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } أي من زينةٍ وتطيب ، فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو استنباط حسن دقيق ، وقال بعضهم : الإحداد يكون بالتربص عن الأزواج والنكاح خاصة وهو ضعيف .
قال ابن كثير : » والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك ، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً ، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً ، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان ، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة ، والآيسة ، والحرة ، والأمة ، والمسلمة ، والكافرة لعموم الآية « .
الحكم الرابع : لماذا شرعت العدة على المرأة؟
ذكر العلماء لحكمة مشروعية العدة وجوهاً عديدة نجملها فيما يلي :
أ - معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض .
ب - للتعبد امتثالاً لأمر الله عز وجل حيث أمر بها النساء المؤمنات .
ج - إظهار الحزن والتفجع على الزوج بعد الوفاة اعترافاً بالفضل والجميل .
د - تهيئة فرصة للزوجين ( في الطلاق ) لإعادة الحياة الزوجية عن طريق المراجعة .
ه - التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لا يتم إلا بانتظار طويل ، ولولا ذلك لأصبح بمنزلة لعب الصبيان ، يتم ثم ينفك في الساعة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
فرض الله العدة على المسلمة ، حفاظاً على كرامة الأسرة ، ورعاية لها من التحلل والتفكك واختلاط الأنساب ، وإحداداً على الزوج بإظهار التفجع والحزن عليه بعد الوفاة ، احتراماً للرابطة المقدسة ( رابطة الزواج ) واعترافاً بالفضل والجميل لمن كان شريكاً في الحياة ، وقد كانت العدة في الجاهلية حولاً كاملاً ، وكانت المرأة تحد على زوجها شرّ حداد وأقبحه ، فتلبس شرّ ملابسها ، وتسكن شر الغُرف وهو ( الحفش ) وتترك الزينة والتطيب والطهارة ، فلا تمسّ ماءًن ولا تقلّم ظفراً ، ولا تزيل شعراً ، ولا تبدو للناس في مجتمعهم ، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر ، وأنتن رائحة ، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقاراً لهذه المدة التي قضتها ، وتعظيماً لحق زوجها عليها .(1/162)
فلما جاء الإسلام أصلح هذه الحال ، فجعل الحداد رمز ( طهارة ) لا رمز ( قذارة ) ، وجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه ، ولم يحرّم إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج ، دون النظافة والطهارة فإنهما شعار المسلم ، وأباح له الجلوس في كل مكان من البيت ، كما أباح لها الاجتماع مع النساء والمحارم من الرجال . ونساء المسلمين اليوم لا يسرن على هدي الإسلام في الحداد ، فمنهن من تغالي في الحداد ، وتغرق في النوح والندب ، والخروج على المألوف من العادات ، في اللباس والطعام والشراب ، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع ، بل ربما حددن على آبائهن أو أولادهن السنة والسنتين ، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين .
فالخير كل خير في إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد ، إذ لا فائدة فيها إلاّ إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش ، وفساد آداب المعاشرة ، ولا سبيل إلاّ بالعودة لأحكام الشرع بالحداد ثلاثة أيام على القريب ، وأربعة أشهر وعشراً على الزوج ، وجعل الحداد مقصوراً على ترك الزينة والطيب والخروج من المنزل .(1/163)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
[ 19 ] خطبة المرأة واستحقاق المهر
التحليل اللفظي
{ عَرَّضْتُمْ } : التعريض : الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار ، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح ، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه .
قال في « اللسان » : وعرّض بالشيء : لم يبيّنه ، والتعريض خلاف التصريح ، والمعاريض : التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث : « إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب » والتعريضُ في خِطْبة المرأة : أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول : إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك إلى خير ، كما يقول المحتاج للمعونة : جئت لأسلّم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضينا ... { خِطْبَةِ النسآء } : الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح ، وبالضم معناها : ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة ، وفي الحديث « لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه » .
{ أَكْنَنتُمْ } : سترتم وأضمرتم ، والإكنان : السرّ والخفاء .
قال ابن قتيبة : أكننتُ الشيء : إذا سترته ، وكنتُه : إذا صُنته ، ومنه قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] .
{ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } : المراد بالسر هنا : النكاح ذكره الزجاج وأنشد :
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنف القصاع
قال ابن قتيبة : استعير السرّ للنكاح ، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين .
والمعنى : لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً .
{ عُقْدَةَ النكاح } : العُقدة من العقد وهو الشدُ ، وفي المثل : ( يا عاقدُ اذكر حلاً ) .
قال الراغب : العُقدة : اسم لما يعقد من نكاح ، أو يمين ، أو غيرهما .
وقال الزجاج معناه : لا تعزموا على عقدة النكاح ، حذفت ( على ) استخافاً كما قالوا : ضرب زيد الظهر والبطن ، معناه : على الظهر والبطن .
{ أَجَلَهُ } : أي نهايته ، والمراد بالكتاب : الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة .
ومعنى قوله : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } : أي حتى تنقضي العدة .
{ فاحذروه } : أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره ، وفيه معنى التهديد والوعيد .
{ حَلِيمٌ } : يمهل العقوبة فلا يعجّل بها ، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل .
{ الموسع } : الذي يكون في سعة لغناه ، يقال أوسع الرجل : إذا كثر ماله .
{ المقتر } : الذي يكون في ضيق لفقره ، يقال : أقتر الرجل : إذا افتقر ، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة .
{ تَمَسُّوهُنَّ } : المسّ : إمساك الشيء باليد ، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ .
قال الراغب : المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس ، وكنيّ به عن الجماع فقيل : مسّها وماسّها قال تعالى : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عمران : 47 ] .
{ فَرِيضَةً } : الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد ، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله .
{ يَعْفُونَ } : معناه : يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر .
المعنى الإجمالي
بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه : « لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال ، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات ، بطريق التلميح لا التصريح ، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن ، والرغبة في الزواج بهن ، ولا يؤاخذكم على ذلك ، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة ، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف ، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام ، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة ، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه .(1/164)
ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس ، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول ، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور ، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن ، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر ، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق ، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر ، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض ، إلا إذا أسقطت حقها ، أو دفع الزوج لها كامل المهر ، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة .
ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة ، والإحسان ، والجميل بين الزوجين ، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة ، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى .
سبب النزول
قال الخازن في « تفسيره » : « نزلت هذه الآية { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } في رجل من الأنصار ، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً ، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوتك » .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } وقرأ حمزة والكسائي ( تُماسُوهنّ ) بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة .
2 - قرأ الجمهور { عَلَى الموسع قَدَرُهُ } بالرفع ، وقرأ ابن كثير ونافع ( قدْرُه ) بسكون الدال .
3 - قرأ الجمهور { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } وقرئ ( وأن يَعْفوا ) بالياء .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } لكنْ حرفُ استدراك ، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و ( سرّاً ) مفعول به لأنه بمعنى النكاح ، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً ، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين ، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً .
ثانياً - قوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح .
ثالثاً - قوله تعالى : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما : مصدرية والزمان معها محذوف تقديره : في من ترك مستهنّ ، وقيل : ( ما ) شرطية أي ( إن لم تمسوهن ) .
رابعاً - قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم ، و ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه .(1/165)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أباح القرآن ( التعريض ) في خطبة المعتدة دون التصريح ، ومن صور التعريض أن يقول : إنك لجميلة ، أو صالحة ، أو نافقة ، أو يذكر الشخص مآثره أمامها .
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته ( سُكينة بنت حنظلة ) قالت : « دخل عليّ ( أبو جعفر ) محمد بن علي وأنا في عدتي ، فقال : أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدي عليّ ، وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدتي ، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال : أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حين توفي عنها زوجها ( أبو سلمة ) فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله ، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة » .
اللطيفة الثانية : قال الزمخشري : « السرّ في الآية { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر ، قال الأعشى :
ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّها ... عليك حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا
ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد ، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح .
اللطيفة الثالثة : ذكر العزم في الآية { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى .
اللطيفة الرابعة : عبّر تعالى بالمساس عن الجماع ، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم .
قال أبو مسلم : » وإنما كنّى تعالى بقوله : { تَمَسُّوهُنَّ } عن المجامعة ، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به « .
اللطيفة الخامسة : الخطاب في قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } وفي قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب .
قال الفخر : » إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور ، لأن الذكورة أصل ، والتأنيث فرع ، ألا ترى أنك تقول : قائم ثم تريد التأنيث فتقول : قائمة « .
اللطيفة السادسة : الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق ، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال .
قال ابن عباس : إن كان موسراً متّعها بخادم ، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب .
اللطيفة السابعة : روي أن ( الحسن بن علي ) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة :
متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق ... وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ ( عائشة الخثعمية ) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب ، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت : لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال : يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً ، فتلفعت بجلبابها ، وقعدت حتى انقضت عدتها ، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة ، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت :(1/166)
متاع قليل من حبيب مفارق ... فلما أخبره الرسول بكى وقال : لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم خطبة النساء؟
النساء في حكم ( الخِطْبة ) على ثلاثة أقسام :
أحدها : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً وتصريحاً ) وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج ، وليست في العدة ، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها .
الثاني : التي لا تجوز خطبتها ( لا تصريحاً ، ولا تعرضاً ) وهي التي في عصمة الزوجية ، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام ، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة .
الثالث : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً ) لا ( تصريحاً ) وهي المعتدة في الوفاة ، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح .
والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعي رحمه الله : « لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح ، وجب أن يكون التصريح بخلافه » وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة .
الحكم الثاني : هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟
حرّم الله النكاح في العدة ، وأوجب التربص على الزوجة ، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق ، أو في عدة الوفاة ، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } على تحريم العقد على المعتدة ، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه . وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح ، وحرمت على التأبيد عند ( مالك وأحمد ) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث .
وقال أبو حنيفة والشافعي : يُفسخ النكاح ، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب ، ولم يتأبد التحريم ، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتابٍ ، أو سنةٍ ، أو إجماع ، وليس في المسألة شيء من هذا ، وقالوا : إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة ، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً ، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم ، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه .
قضاء عمر رضي الله عنه في الحادثة
روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال : « بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها ، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما ، وقال : لا ينكحْها أبداً ، وجعل الصداق في بيت المال ، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال : يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة . قيل : فما تقول أنت فيهما؟ قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء .(1/167)
فبلغ ذلك عمر فقال : يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة « .
الحكم الثالث : ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟
وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات ، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي :
أولاً : مطّلقة مدخول لها ، مسمّى لها المهر .
ثانياً : مطلّقة غير مدخول بها ، ولا مسمّى لها المهر .
ثالثاً : مطلّقة غير مدخول بها ، وقد فرض لها المهر .
رابعاً : مطلّقة مدخول بها ، وغير مفروض لها المهر .
فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية ، عدّتُها ثلاثة قروء ، ولا يُسترد منها شيء من المهر { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] .
والثانية : ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية ، ليس لها مهرٌ ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ . . . } [ البقرة : 236 ] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تالى في سورة الأحزاب [ 49 ] { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } > والثالثة : ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية ، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } .
والرابعة : ذكرها الله تعالى في سورة النساء [ 24 ] بقوله : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] فهذه يجب لها مهر المثل . قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي ، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل ، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم .
الحكم الرابع : هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟
دل قوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض ، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟
فذهب ( الحسن البصري ) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] .
وقال مالك : إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى : { حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] و { حَقّاً عَلَى المحسنين } ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين .
وذهب الجمهور ( الحنفية والشافعية والحنابلة ) إلى أنها واجبة للمطلّقة التي لم يفرض لها مهر ، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ) و ( علي ) وغيرهم ، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم .
الحكم الخامس : ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟
المتعة : ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة ، عوناً لها وإكراماً ، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها ، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد .
قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها .(1/168)
وقال الشافعي : المستحب على الموسم خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة .
وقال أبو حنيفة : أقلها درع وخمار وملحفة ، ولا تزاد على نصف المهر .
وقال أحمد : هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة ، ونقل عنه أنه قال : هي بقدر يسار الزوج وإعساره { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } وهي مقدرة باجتهاد الحاكم ، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن .
2 - حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد .
3 - المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر ، ومستحبة لغيرها من المطلقات .
4 - إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملحة .
5 - المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة ، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً ، وهذه ( المتعة ) واجبة للمطلّقة قبل الدخول ، التي لم يُسمّ مهر ، ومستحبة لسائر المطلقات . والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها ، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها ، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة ، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله ، لا من قِبَلها ، ولا علة فيها ، فتحفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة ، ويتسامع الناس فيقولون : إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر ، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها ، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها ، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب ، وجبر وحشة الطلاق .
وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة ، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال ، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 237 ] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة ، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق ، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم ، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟! وأين نحن من إرشاداته الحكيمة ، وآدابه الفاضلة؟!(1/169)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
[ 20 ] الربا جريمة اجتماعية خطيرة
{ الرباوا } : الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال ربا الشيء يربو : إذا زاد ، ومنه قوله تعالى : { اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] أي زادت ، وفي الحديث « إلاّ رَبَا من تحتها » أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة ، وأربى الرجل : إذا تعامل بالربا .
وفي الشرع : زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل .
{ يَتَخَبَّطُهُ } : التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده ، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء ، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون ، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة .
{ المس } : الجنون يقال : مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ ، وأصله من المسّ باليد ، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون .
قال الراغب : وكنّي بالمس عن الجنون ، وفي قوله : « يتخبطه الشيطان من المس » والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى .
{ مَوْعِظَةٌ } : الموعظة : بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب .
{ سَلَفَ } : أي مضى وتقدم ، والمعنى : من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم .
{ يَمْحَقُ } : المحق : النقص والذهاب ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه إذا أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف : « إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ » .
{ وَيُرْبِي الصدقات } : أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة .
{ أَثِيمٍ } : أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي ، المصر على الذنوب .
{ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } : أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله ، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى .
{ ذُو عُسْرَةٍ } : العُسرة الفقر والضيق يقال : أعسر الرجل إذا افتقر .
{ فَنَظِرَةٌ } : أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال : أنظره إذا أمهله وأخره .
{ مَيْسَرَةٍ } : أي غنى ويسار ، والمعنى : إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال .
المعنى الإجمالي
يخبر الولي جل وعلا المرابين ، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس ، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة ، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً ، لأن به مساً من الشيطان ، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله ، فقالوا : الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله ، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله ، فكيف يتساويان؟!
ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى ، فانتهى عمّا كان قبل التحريم ، فإن الله عز وجل يعفو ويغفر له ، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا ، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحاله ما حرمه الله .(1/170)
وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله ، إمّا بإذهابه بالكلية ، أو بحرمانه بركة ماله ، « فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ » كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه ، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه ، والله لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل . ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا ، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين ، فالربا والإيمان لا يجتمعان ، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } .
فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا؟! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة ، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين .
سبب النزول
1 - كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس ، وكل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب » .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } وقرأ حمزة وعاصم ( فآذنوا بحرب ) بالمد .
قال الزجاج : من قرأ { فَأْذَنُواْ } بالقصر ، فالمعنى : أيقنوا ، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا .
2 - قرأ الجمهور { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية .
3 - قرأ الجمهور { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } بتسكين السين ، وضمها أبو جعفر ( عُسُرة ) .
4 - قرأ الجمهور { يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } بضم التاء ، وقرأ أبو عمرو بفتحها ( تَرْجعون ) .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ الرباوا } مبتدأ وجملة { لاَ يَقُومُونَ } خبره ، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان .
ثانياً : قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جواب الشرط محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فذروا .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف ، وعبّر به هنا { الذين يَأْكُلُونَ الرباوا } لأنه الغرض الأساسي من المال ، وما عداه من سائر الوجوه فتبع ، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق : أكله ، وهضمه .(1/171)
اللطيفة الثانية : تشبيه المرابين بالمصروعين ، الذين يتخبطهم الشيطان ، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم ، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها ، قال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا يوم القيامة .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباوا } تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه المقلوب ) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفه ، على حدّ قول القائل :
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله ، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الربا ، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل ، حتى شبّهوا به البيع ، فتدبّره فإنه دقيق .
اللطيفة الرابعة : النكتة في الآية الكريمة { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات } أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال ، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء ، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان ، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهؤلاً ، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته صلى الله عليه وسلم ، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره ، كائن من عند الله ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً ، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا .
قال ابن عباس : يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } صيغة كفّار ( فعّال ) وصيغة أثيم ( فعيل ) كلاهما من صيغ المبالغة معناهما كثير الكفر والإثم ، وفي الآية تغليظ لأمر الربا ، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين .
اللطيفة السابعة : رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كان رجلٌ يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا ، فلقي الله فتجاوز عنه » .
قال المهايمي : « فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون ، استوفى الله منه حقوقه بالتضييق ، وإن سامحه فالله أولا بالمسامحة » .
اللطيفة الثامنة : قال بعض العلماء : من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه ، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه ، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين ، وتخليدهم في النار ، ونبذهم بالكفر ، والحرب من الله ورسوله ، واللعنة الدائمة لهم ، وكذلك الذم والبغض ، وسقوط العدالة وزوال الأمانة ، وحصول القسوة والغلظة ، والدعاء عليه ممن ظلمه ، وذلك سبب لزوال الخير والبركة ، فما أقبح هذه المعصية ، وأعظم جرمها ، وأشنع عاقبتها؟!
اللطيفة التاسعة : ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وهي آخر آية نزلت من القرآن ، وعاش بعدها النبي صلى الله عليه وسلم تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى ، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين(1/172)
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي ، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض .
« الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا »
من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا ، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي ، في معالجته للأمراض الاجتماعية ، فنم المعلوم أن التشريع الإسلامي سار ( بسُنّة التدرج ) في تقرير الأحكام .
ولقد مرّ تحريم « الربا » بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر ، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج :
الدول الأول : نزل قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي - كما يظهر - ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا ، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن ( موعظة سلبية ) .
الدورالثاني : نزل قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 160-161 ] وهذه الآية مدنية ، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب ، وهو تحريم ( بالتلويح ) لا ( بالتصريح ) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين . وهذا نظير ( الدور الثاني ) في تحريم الخمر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح .
الدور الثالث : نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] . الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم ( جزئي ) لا ( كلي ) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى ( الربا الفاحش ) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذرة العليا ، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى ، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة ، يضعف عن سداده كاهل المستدين ، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة(1/173)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ . . . } [ النساء : 43 ] الآية .
الدور الرابع : وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع ، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير ، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا ، فقد نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ . . . } الآيات .
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] .
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق ( التدرج ) .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟
الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان : ( ربا النسيئة ) و ( ربا الفضل ) .
أما الأول ( ربا النسيئة ) : فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل .
قال ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله : « إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة ، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه » .
وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية ، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد .
أما الثاني ( ربا الفضل ) : فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة ، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر ، مثاله : أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر ، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي ، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات .
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه ( إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء ، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء ) .
وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول : إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت ، أو قمح بقمح ، أو عنبٍ بعنب ، أو تمر بتمر ، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا ، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير ، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/174)
« الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبُرّ بالبُرّ ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثلٍ ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء » وفي حديث آخر « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد » أي مقبوضاً وحالاً .
الحكم الثاني : هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] ؟
يذهب بعض ضعفاء الإيمان ( من مسلمي هذا العصر ) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش ، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة ، ويقصد منه استغلال حاجة الناس ، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم ، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة ، فإذا لم يكن كذلك ، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه .
وللجواب على ذلك نقوله :
أولاً : إن قوله تعالى : { أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] ليس قيداً ولا شرطاً ، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية ، كما يتضح من سبب النزول ، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً ، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة .
ثانياً : إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره ، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء ، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره ، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه ( كلياً ) أخذاً بقاعدة ( سدّ الذرائع ) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه ، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟
ثالثاً : نقول لهؤلاء الجهلة ( من أنصاف المتعلمين ) : « أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة ، ولا تقرؤون قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا } وقوله تعالى : { اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا } وقوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات } هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر » لعن رسول الله آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال هم سواء « فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية ، والقليل والكثير في الحرمة سواء . وصدق الله حيث يقول : { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة .
2 - الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار .
3 - القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء .
4 - على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه .(1/175)
5 - السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله .
خاتمة البحث
حكمة التشريع
اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية ، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها ، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن ، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن ، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه .
ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية - أراد الإسلام إبطاله - ما بلغ من تفظيع أمر الربا ، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا ، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم ، وأساس المفاسد ، وأصل الشرور والآثام ، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان .
الصدقة عطاء وسماحة ، وطهارة وزكاة ، وتعاون وتكافل . . . والربا شحّ ، وقذارة ، ودنس ، وجشع ، وأثرة ، وأنانية .
الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه ، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله ، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر ، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله .
فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم ، الاجتماعية والدينية ، وأن يعلن على المرابين الحرب { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه ، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات :
أولاً : ضرر الربا من الناحية النفسية .
ثانياً : ضرر الربا من الناحية الاجتماعية .
ثالثاً : ضرر الربا من الناحية الاقتصادية .
أما ضرر الربا من الناحية النفسية : فإنه يولّد في الإنسان حب ( الأثرة والأنانية ) فلا يعرف إلا نفسه ، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه ، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار ، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات ، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية ، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان ( المرابي ) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال ، وامتصاص دماء الناس ، واستلاب ما في أيديهم ، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع ، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع .
أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية : فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس ، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان ، والتعاون والإحسان في نفوس البشر ، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء ، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء ، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة ، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار ، وكفى ( المرابي ) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم .(1/176)
أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية : فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين : طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية ، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة ، والبؤس والحرمان ، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين ، وقد ثبت أن ( الربا ) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر ، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن ، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون .(1/177)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
3- سورة آل عمران
[ 1 ] النهي عن موالاة الكافرين
التحليل اللفظي
{ أَوْلِيَآءَ } : جمع ولي ، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين .
قال الراغب : وكلّ من ولي أمراً الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 257 ] .
{ تقاة } : مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه .
قال ابن عباس : « التقيّة مداراة ظاهرة ، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه » .
قال القرطبي : وأصل تُقَاة ( وُقَية ) على وزن فُعَلَة مثل : تُؤَدة وتُهَمَة ، قلبت الواو تاء والياء ألفاً .
وقال أبو حيان : والمصدر على فُعَلة جاء قليلاً ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .
والمعنى : إلا أن تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب .
{ المصير } : المرجع والمآب ، والمعنى : رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم .
« وجه المناسبة »
لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك ، المعز المذل ، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته ، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء ، ونزعه ممن شاء ، وأن العزة والذلة بيده ، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين .
سبب النزول
1 - نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة ، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ . . . } الآية .
2 - وروى القرطبي في « تفسيره » عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في ( عُبَادة بن الصامت ) الأنصاري البدري ، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عُبادة : يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } الآية .
المعنى الإجمالي
نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة ، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله عز وجل وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه .
فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة ، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن ، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه .(1/178)
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل ( تقيّه ) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و ( يتخذ ) ينصب مفعولين ( الكافرين ) مفعول أول و ( أولياء ) مفعول ثان .
ثانياً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم ، و ( تقاة ) مفعول مطلق ل ( تتقوا ) وجوّز بعضهم أن يكون مفعولاً به أي إلا أن تتقوا شيئاً حاصلاً من جهتهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } بدل قوله : ( ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) للاختصار ، واستهجاناً بذكره ، وتقبيحاً لهذا الصنيع ، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } ليس من الله ، أي ليس من دين الله أو شرع الله ، فهو على حذف مضاف ، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله ، لأنه جمع بين المتناقضين ، وقد قال الشاعر :
تودّ عدّوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عند بعازب
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على النظم الأول لكان ( إلا أن يتقوا ) .
اللطيفة الرابعة : إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى : { وإلى الله المصير } لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر .
« الآيات الدالة على تحريم موالاة الكافرين » .
وفي هذا المعنى الذي ذكرناه وهو حرمة موالاة الكافرين نزلت آيات كثيرة منها ما هو خاص بأهل الكتاب ومنها ما هو عام للمشركين نكتفي بذكر بعض هذه الآيات الكريمة .
1 - قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] .
2 - وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة . . . } [ الممتحنة : 1 ] .
3 - وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] .
4 - وقال تعالى :(1/179)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً . . . } [ آل عمران : 118 ] .
5 - وقال تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ . . . } [ المجادلة : 22 ] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم الاستعانة بالكفار في الحرب؟
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب على مذهبين :
1 - مذهب المالكية : أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو أخذاً بظاهر الآية الكريمة واستدلوا بما ورد في قصة ( عبادة بن الصامت ) كما وضّحها سبب النزول . واستدلوا كذلك بما روته عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من المشركين كان ذا جرأة ونجدة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يستأذنه في أن يحارب معه فقال صلى الله عليه وسلم له : « ارجع فلن استعين بمشرك » .
ب - مذهب الجمهور ( الشافعية والحنابلة والأحناف ) : قالوا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين : أولاً : الحاجة إليهم . وثانياً : الوثوق من جهتهم ، واستدلوا على مذهبهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد استعان بيهود فينقاع وقَسمَ لهم ، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، فدَلّ ذلك على الجواز ، وقالوا في الردّ على أدلة المالكية إنها منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وعمله ، وقال بعضهم : إن ما ذكره المالكية يحمل على عدم الحاجة أو عدم الوثوق حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق من جهته ، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز .
الحكم الثاني : ما معنى التقية وما هو حكمها؟
قال ابن عباس : التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً . وعرّف بعضهم التقيّة بأنها المحافظة على النفس والمال من شرّ الأعداء فيتقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها .
قال « الجصاص » في « أحكام القرآن » : « وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب ، بل ترك التقيّة أفضل . قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قُتل إنه أفضل ممن أظهر ، وقد أخذ المشركون ( خُبَيْب بن عدي ) فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من ( عمار بن ياسر ) حين أعطى التقية وأظهر الكفر ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال كيف وجدت قلبك؟ قال : مطئمناً بالإيمان ، فقال صلى الله عليه وسلم » وإن عادوا فعد . . . « . وكان ذلك على وجه الترخيص .
» قصة مسيلمة الكذاب مع بعض الصحابة «
روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، فترك سبيله ، ثم دعا بالآخر ، وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، قالها ثلاثاً ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه « .(1/180)
الحكم الثالث : هل تجوز تولية الكافر واستعماله في شؤون المسلمين؟
استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تولية الكافر شيئاً من أمور المسلمين ولا جعلهم عمالاً ولا خدماً ، كما لا يجوز تعظيمهم وتوقيرهم في المجلس والقيام عند قدومهم فإن دلالته على التعظيم واضحة ، وقد أُمِرْنا باحتقارهم { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] .
قال ( ابن العربي ) : وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله .
قال ( الجصاص ) : ( وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء ، وأنه إذا كان الكافر ابن صغير مسلم بإسلام أمه ، فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ، ويدل على أنّ الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة ) .
ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] .
الحكم الرابع : حكم المداراة لأهل الشر والفجور :
تجوز مداراة أهل الشر والفجور ، ولا يدخل هذا في الموالاة المحرمة فقد كان عليه الصلاة والسلام يداري الفسّاق والفجّار وكان يقول : « إنا لنَبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » أو كما قال ، قال بعض العلماء : إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير كما أنها لا تخالف أصول الدين فذلك جائز ، وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزور فلا تجوز البتة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - موالاة الكافرين ، ومحبتهم ، والتودّد إليهم محرمة في شريعة الله .
2 - التقية عند الخوف على النفس أو المال ، أو التعرض للأذى الشديد .
3 - الإكراه يبيح للإنسان التلفظ الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان .
4 - لا صلة بين المؤمن والكفر بولاية ، أو نصرة ، أو توارث ، لأن الإيمان يناقض الكفر .
5 - الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده .(1/181)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
التحليل اللفظي
{ أَوَّلَ بَيْتٍ } : المراد به أول بيت للعبادة ، فالبيت الحرام أو المساجد على وجه الأرض ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع الناس فقال : « المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس » .
قال علي بن أبي طالب : أول بيت وضع الناس للعبادة .
قال الزمخشري : ومعنى ( وضُع للناس ) أي جُعل متعبداً لهم ، فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة .
{ بِبَكَّةَ } : اسم لمكة فتسمى ( مكة ) و ( بكة ) من باب الإبدال كقولهم سبد رأسه وسمده إذا حلقه ، وطين لازب ولازم ، وقيل : ( بكة ) موضع البيت ، و ( مكة ) الحرم كله .
قال ابن العربي : وإنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى .
{ مُبَارَكاً } : البركة معناها الزيادة وأكثر الخير ، وهي نوعان : حسية ، ومعنوية .
أمّا الحسية : فهي ما ساقه الله تعالى من خيرات الأرض وبركاتها إلى أهل هذه البلاد ، تجبى إليهم من أقطار الدنيا كما قال تعالى : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] .
وأما المعنوية : فهي توجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد المقدسة ، يأتون إلأيها من كل فج عميق لأداء المناسك من الحج والعمرة استجابة لدعوة الخليل { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
{ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } : هدى مصدر بمعنى ( هداية ) أي أن هذا البيت العتيق هو مصدر الهداية والنور لجميع الخلق ، وقيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم .
{ مَّقَامُ إبراهيم } : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع بناء الكعبة وكان فيه أثر قدميه .
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من { مَّقَامُ إبراهيم } هو موضع قيامه للصلاة والعبادة ، يقال : هذا مقامه أي الموضع الذي اختاره للصلاة فيه ، وهذا قول ( مجاهد ) .
قال القرطبي : « وفسّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله ، فذهب إلى أن من آياته الصفا ، والمروة ، والركن ، والمقام » .
فيكون المراد بالمقام المسجد الحرام كله .
{ آمِناً } : أي أمن على نفسه وماله . قال القاضي أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، وتقديره : ومن دخله فأمنوه .
وقد فسّر بعض العلماء الأمن بأن المراد منه الأمن من العذاب في الآخرة وروي في ذلك آثاراً ، ولا مانع من إرادة العموم ، الأمن في الدنيا ، والأمن من عذاب الله .
{ سَبِيلاً } : استطاعةُ السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه ، وقد فسّرت الاستطاعة بملك الزاد والراحلة كما جاء في الحديث الصحيح .
المعنى الإجمالي
بيّن الله عز وجل مكانة هذا البيت ( البيت الحرام ) وعدّد مزاياه وفضائله فهو أول بيت من بيوت العبادة وضع معبداً للناس بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً ، ثم بني مسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه « سليمان » عليه السلام ، فالبيت العتيق هو أول قبلة وأول معبد على وجه الإطلاق ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه وقد عدّد الله من مزايا هذا البيت ما يستحق تفضيله على جميع المساجد وأماكن العبادة ، فهو أول المساجد ، وهو قبلة الأنبياء ، وهو بلد الأمن والاستقرار وفيه الآيات البينات : الصفا ، والمروة ، وزمزم ، والحطيم ، والحجر الأسود ، ومقام إبراهيم ، وفوق ذلك فأنّ الله عز وجل خصّه بخصائص فجعله مركز الهداية والنور وفرض الحج إليه ، يأتيه الناس من أقطار الدنيا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟!
ذكر ( القرطبي ) في « تفسيره » عن ( مجاهد ) أنه قال : « تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية .(1/182)
« وجه الارتباط بالآيات السابقة »
كانت الآيات من أول سور « آل عمران » إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع إثبات الوحدانية ، وقد تبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم ، وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدعٍ وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان . . أما هذه الآيات من قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } [ آل عمران : 93 ] فقد جاءت لدفع شبهتين من شبه اليهود التي كانوا يثيرونها لإفساد عقائد الناس .
الشبهة الأولى : إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فقد استحللت ما كان محرّماً عليه ، فلست بمصدّق له ، ولا بموافق له في الدين ، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به . . . فردّ الله عز وجل عليهم بأن كل الطعام كان حلالاً لإسرائيل ولذريته { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة . . . } [ آل عمران : 93 ] الآية .
الشبهة الثانية : أما الشبهة الثانية التي أثارها اليهود فهي حينما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة ، فقد طعن اليهود في نبوة محمد عليه السلام ، واتخذوا من هذا التحويل ذريعة لإنكار رسالته عليه الصلاة والسلام وتشكيك الناس في الإسلام ، وقالوا إن « بيت المقدس » أفضل من الكعبة ، وأحق بالاستقبال فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلّون إليه ، فلو كنت يا محمد على ما كانوا عليه لعظّمتَ ما عظّموا ، فرد الله سبحانه شبهتهم بهذه الآية { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الحكمة في اختيار البيت العتيق لفريضة الحج ، أن الله تعالى جعله قبلة أهل التوحيد ، وأقام بناءه وشيّد دعائمه أبو الأنبياء ( إبراهيم ) الخليل عليه السلام ، وهو أول المساجد على الإطلاق فليس ثمة معبد أقدم منه ، وهو يقابل البيت المعمور في السماء ، فالبيت العتيق مطاف أهل الأرض ، والبيت المعمور مطاف أهل السماء .(1/183)
اللطيفة الثانية : قال الإمام الفخر : « إن الله أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت ، فالآخر هو الله رب العالمين ، والمبلّغ هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة ، فالآخر هو المِلكُ الجليل ، والمهندس جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ : إسماعيل عليه السلام » .
اللطيفة الثالثة : من مزايا البيت العتيق ، ذلك الأمن الذي جعله الله فيه ، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] وقد كان الناس يتخطفون من أطراف الأرض وأهل مكة في أمن واستقرار وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « لو ظفرتُ فيه بقاتل الخطاب لما مسسته حتى يخرج منه » .
اللطيفة الرابعة : قال العلامة أبو السعود : « وضع ( ومن كفر ) موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال عليه السلام » من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً « ، ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ، المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج ، والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق ، وأبرزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار ، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس ، لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته ، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال . . » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : حكم الجاني في الحرم .
اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فإنه يقتص منه ، سواءً كانت الجناية في النفس أم فيما دونها كالأطراف ، وعللوا ذلك بأنّ الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص ، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه . كما استدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } [ البقرة : 191 ] واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على مذهبين :
1 - مذهب الحنفية والحنابلة : ذهب الإمام ( أبو حنيفة ) والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنّ من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله .(1/184)
. والآية الكريمة على تقديره ( خبرٌ يقصد به الأمر ) ويكون المعنى : من دخله فأمّنوه ، فهو مثل قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } [ البقرة : 197 ] أي لا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجادل .
وهذا الرأي منقول عن حَبْر هذه الأمة ( عبد الله بن عباس ) فقد قال ابن عباس : إن جنى في الحِلّ ثم لجأ إلى الحَرَم لا يُقْتَصّ منه لكن لا يُجالس ولا يُبايع ولا يُكلّم حتى يخرج من الحرم فيقتص منه . . وهذا هو نفس مذهب الأحناف فإنهم قالوا إذا جنى ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يؤوي ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتص منه .
وقالوا : إن الحرم له حرمة خاصة فمن لجأ إليه احتمى كما قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وكما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] .
ب - مذهب المالكية والشافعية : وذهب ( الشافعية والمالكية ) إلى أنّ من جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه ، سواءَ كانت الجناية في النفس أو غيرها . واستدلوا ببضعة أدلة منها : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل بعض المشركين في الحرم ، وقال عن ( ابن خطل ) اقتلوه ولو رأيتموه متعلقاً بأستار الكعبة ومنها ما ورد ( إنّ الحرم لا يجير عاصياً ، ولا فاراً بخربة ولا فاراً بدم ) وأجابوا على قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } قالوا هذا كان في الجاهلية لو أنّ إنساناً ارتكب كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم ، وهذا من منن الله عزّ وجل على أهل تلك البلاد فقد جعل لهم الحرم مركز أمن واستقرار . . أما الإسلام فلم يزده إلا شدةً فمن لجأ إليه جانباً أقيم عليه الحد ، كيف لا والإسلام دين القوة والحزم؟!
الترجيح : ولعل الرأي الثاني هو الأوجه والأرجح ، لأننا لو أخذنا بالرأي الأول -على ما فيه من وجاهة - لأصبح الحرم مركزاً لاجتماع الجُناة والمجرمين ، ولاختل الأمن ، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم ، لأنه يعلم أنه يحميه ، وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد والله تعالى أعلم .
الحكم الثاني : حكم حج الفقير والعبد :
الفقير لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة ، ولكنه إذا أدى الحج سقط عنه الفرض بالإجماع ، وأما العبد فإنه إذا حج هل تسقط عنه الفريضة؟
قال ( أبو حنيفة ) : يقع حجة نفلاً ويجب عليه أن يحج متى عتق ، لأنه يشبه الطفل دون البلوغ فإنه إذا حج ثم بلغ سن الرشد يجب عليه حجة الفريضة ، كذلك العبد إذا حج ثم عتق يجب عليه حجة الفريضة .
وقال ( الشافعي ) : يجزيه الحج قياساً على الفقير ، واستدل بأنّ الجمعة لا تجب على فإذا صلاها سقط عنه الظهر ، فكذلك الحج إذا أداه تسقط عنه حجة الفريضة ، وهذا الرأي ضعيف فقد نقل عن النووي وهو من أئمة المذهب الشافعي ما يخالف ذلك حيث قال : إن مذهب الشافعية أن العبد إذا أحرم بالحج ثم عتق قبل الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك ، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه ، ولعل هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن وهو الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك ، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه ، ولعله هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة فإنه لا يجزئه ويجب عليه الحج مرة أخرى لأن الأول يقل نافلة .(1/185)
الحكم الثالث : هل المحْرَمْ بالنسبة للمرأة شرط لوجوب الحج؟
ذهب بعض الفقهاء إلى أن وجود المَحْرم شرط من شروط وجوب الحج وهذا هو مذهب الحنفية ، ودليلهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثٍ إلا مع ذي رحم محرمٍ أو زوج » وهذا عام يشمل كل سفرٍ سواءً كان للحج أو غيره . . واستدلوا أيضاً روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : « خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تسافر امرأة ومعها ذو محرم ، فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا ، وقد أرادت امرأتي في أن تحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احجج مع امرأتك » وهذا الحديث يدل على أن المرأة إذا أرادت الحج فليس لها أن تحج إلا مع زوجٍ أو ذي رحم محرم ، فقد أمره عليه الصلاة والسلام أن يترك الجهاد وهو فرض وأن يحج مع امرأته ، ولولا أن وجود المحرم واجب لما أمره بترك الجهاد والسفر مع زوجه .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حج الفرض لا يجب فيه المحرم بشرط أمن المرأة على نفسها بأن يكون معها عدة من النسوة . . وأما حج النافلة فيجب فيه المحرم ، وهم محجوبون بالأدلة التي ذكرناها مما يشير إلى أن الحج لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت محرماً ، لأن وجود المحرم من شرائط الوجوب ، وهذا هو الأرجح .
تنبيه هام : أقول إذا كان الإسلام لم يسمح للمرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم - والحج أحد أركان الإسلام كما نعلم وهو فريضة على الرجل والمرأة - فكيف يسمح الناس لبناتهم بالسفر إلى بلاد بعيدة ، أو إلى بلدان أجنبية بحجة الدراسة وطلب العلم ، وليس معهن مَحْرمٌ أو من يوافقهن من أقاربهن؟! إن هذا - بلا شك - يدل على بعد الناس عن التمسك بآداب الإسلام وتعاليمه الرشيدة ، بل يدل على فقدان الرجولة والشهامة حتى أضحى أمر سفر النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال أمراً طبيعياً معتاداً وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
الحكم الرابع : ما هي شروط وجوب الحج؟
شروط وجوب الحج خمسة ، وهي ( 1 - الإسلام 2 - العقل 3 - البلوغ ، 4 - الاستطاعة ، 5 - وجود محرم مع المرأة ) وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام .(1/186)
. الخ ، وأما الشرط الرابع وهو ( الاستطاعة ) فقد بينته الآية الكريمة بقوله تعالى : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } كما بينت السنة النبوية الاستطاعة بأنها ملك ( الزاد والراحلة ) فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من ملك زاداً وراحلة تبلغه بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً » وذلك أن الله يقول في كتابه : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله عز وجل : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقال : السبيلُ : الزادُ والراحلة ) . .
قال الجصاص : وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف ، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة ، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجداً للزاد والراحلة ، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله : الاستطاعة ( الزادُ والراحلة ) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة ، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زاداً وراحلة فعليه الحج ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي « .
أما الشرط الخامس وهو ( وجود المحرم للمرأة ) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم .
الحكم الخامس : هل يجب الحج أكثر من مرة؟
ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال : » خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا . . فقال رجل : كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلك بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه « .(1/187)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
[ 1 ] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام
التحليل اللفظي
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } : معناه نشر وفرّق على سبيل التناسل والتوالد ، ومنه { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] أي مبسوطة ، أو مفرقة في المجالس ، وأصل البث : التفريق وإثارة الشيء .
{ تَسَآءَلُونَ بِهِ } : معناه يسأل بعضكم بعضاً به مثل : أسألك بالله ، وأنشدك الله ، والمفاعلة على ظاهرها أو بمعنى تسألون كثيراً .
قال الزجاج : الأصل تتساءلون حذفت الثانية تخفيفاً .
{ والأرحام } : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ، ثم أطلق على القرابة مطلقاً .
{ رَقِيباً } : الرقيب : الحفيظ المطلّع على الأعمال والمَرْقب : المكان العالي الذي يشرف عليه الرقيب ، والمراد في الآية أنه تعالى مشرف على أعمالنا ، مطلع على أفعالنا ، لا تخفى عليه خافية ، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب جل وعلا .
{ اليتامى } : جمع يتيم وهو الذي فقد أباه مشتق من اليتم وهو الانفراد ومنه ( الدرة اليتيمة ) .
قال في « اللسان » : اليتيم : الذي يموت أبوه ، والعجيّ : الذي تموت أمه ، واللطيم : الذي يموت أبواه ، وهو يتيم حتى يبلغ ، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم .
{ حُوباً } : الحُوب : الإثم قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : حُوب بالضم ، وتميم يقولونه بالفتح ( حَوْب ) قال الراغب : الحُوب الإثم ، والحَوْبُ المصدر منه ، وروي ( طلاق أم أيوب حُوْب ) وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه .
قال القرطبي : وأصله الزجر للإبل ، فسمي الإثم به لأنه يزجر عنه وفي الحديث « اللهم اغفر حوبتي » أي إثمي .
{ تُقْسِطُواْ } : يُقال : أقسط الرجل إذا عدل ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة » ويقال : قسط الرجل إذا جار ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
فالرباعي بمعنى العدل ، والثلاثي بمعنى الظلم .
{ تَعُولُواْ } : معناه تميلوا وتجوروا يقال : عُلْتَ عليّ أي جُرت عليّ ، ومنه العول في الفريضة ، والعول في الأصل : الميل المحسوس ، يقال : عال الميزان إذا مال ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور .
وفسّر الإمام الشافعي رحمه الله { أَلاَّ تَعُولُواْ } بمعنى ألا تكثر عيالكم .
{ صدقاتهن } : يعني مهورهن جمع صَدُقة بفتح الصاد وضم الدال ، وهي كالصداق بمعنى المهر ، قال ابن قتيبة : وفيها لغةٌ أخرى : صَدْقة .
{ نِحْلَةً } : النحلة : الهبة والعطيّة عن طيب نفس أي لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة ، وفسّر بعضهم النّخْلة بمعنى الفريضة والمعنى : وأعطوا النساء مهورهن فريضة من الله محتومة .
{ هَنِيئاً مَّرِيئاً } : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا انساغ وانحدر إلى المعدة بدون ضرر .
المعنى الإجمالي
افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، منبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي ( آدم ) ، وخلق منها زوجها وهي ( حواء ) ، ونشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها خلائق كثيرين ، فالناس جميعاً من أبٍ واحد ، وهم إخوة في الإنسانية والنسب ، فعلى القوي أن يعطف على الضعيف ، وعلى الغني أن يساعد الفقير ، حتى يتم بنيان المجتمع الإنساني .(1/188)
وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين : في أول الآية وفي آخرها ليشير إلى عظم حق الله على عباده ، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } ليدل على أهمية هذه الرابطة العظيمة ( رابطة الرحم ) فعلى الإنسان أن يرعي هاتين الرابطتين : رابطة الإيمان بالله ، ورابطة القرابة والرحم ، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمان ، ولما كان هناك حروب طاحنة مدمرة ، تلتهب الأخضر واليابس ، وتقضي على الكهل والوليد!
وقد عقّب تعالى في الآية الثانية على ( حق اليتامى ) فأمر بالمحافظة على أموالهم ، وعدم الاعتداء عليها لأنهم بحاجة إلى رعاية وحماية ، وإلى مساعدة ومواساة ، فإن الطفل اليتيم ضعيف ، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله .
ثم أمر تعالى الرجال إذا كان في حجْر أحدهم يتيمة ، ورغب في الزواج بها ، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، أو يعدل إلى ما سواها من النساء ، فلم يضيّق الله عليه ، وأباح له أن يتزوج اثنتين ، وثلاثاً ، إلى أربع ، فإذا خشي عدم العدل فعليه أن يقتصر على واحدة .
وختم تعالى هذه الآيات بأمر الرجال بإعطاء النساء مهورهن عن طيب نفس ، عطّية وهبة بسخاء ، لا منّة فيها ولا استعلاء ، فإذا طابت نفوسهن عن شيء منه فليأكله الزوج حلالاً طيباً .
سبب النزول
أولاً : روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم ، فلما بلغ طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ . . . } قاله سعيد بن جبير .
ثانياً : عن عائشة رضي الله عنها : « أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق ، وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت فيه { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى . . . } .
ثالثاً : وروى البخاري عن ( عروة بن الزبير ) أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } فقالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن ذلك إلاّ أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . . وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء . . . } [ النساء : 127 ] الآية .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { تَسَآءَلُونَ بِهِ } بالتخفيف ، وقرأ ابن كثير ونافع ( تَسّاءلون به ) بالتشديد .(1/189)
قال الزجاج : فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكانهما ، ومن قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين .
2 - قرأ الجمهور { والأرحام } بالنصب على معنى واتقوا الأرحام ، وقرأ الحسن وحمزة ( والأرحامِ ) .
قال الزجاج : الخفض في ( الأرحام ) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر ، وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم » وإليه ذهب الفراء .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : إنما سميت هذه السورة ( سورة النساء ) لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر ممّا نزل في غيرها من السور ، وفي الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة ، تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة ، والمواريث ، والحقوق الزوجية ، وأحكام تتعلق بالنسب والمصاهرة وغيرها من الأحكام الشرعية .
اللطيفة الثانية : الناس جميعاً يجمعهم نسب واحد ، ويرجعون إلى أصل واحد هو ( آدم ) عليه السلام ، ونظرية ( النشوء والتطور ) التي اخترعها اليهودي ( داروين ) تعارض صريح القرآن ، القائل { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } فقد زعم ( داروين ) أن الإنسان بدأت حياته بجرثومة ظهرت على سطح الماء ، ثم تحولت إلى حيوان صغير ، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعاً ، فسمكة ، فقرداً ، ثم ترقى هذا القرد فصار إنساناً . . إلخ فهذه النظرية مجرد افتراضات وهمية ، ردّها العلماء بالأدلة القاطعة .
اللطيفة الثالثة : سميت حواء لأنها خلقت من حي كما قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهذا رأي الجمهور ، وأنكر ( أبو مسلم ) خلقها من ضلع آدم وقال : أي فائدة في خلقها من الضلع والله قادر على أن يخلقها من التراب؟ وزعم أن قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا } أي من جنسها ، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ ( محمد عبده ) في « تفسير المنار » ، وهو باطل إذ لو كان تأويل الآية كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة ، وهو خلاف النص ، وخلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة « إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج » .
وأما الفائدة فهي بيان قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد ، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك ، فآدم خلق من تراب ، وعيسى خلق من أنثى بدون رجل ، وحواء خلقت من رجل بدون أنثى ، والله على كل شيء قدير .
اللطيفة الرابعة : التعبير عن الحلال والحرام بالخبيث والطيب { أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } للتنفير من أكل أموال اليتامى والترغيب فيما رزقهم الله من الكسب الحلال بالاكتفاء به وعدم التشوف إلى مال اليتيم فإنه ظلم وسحت .
اللطيفة الخامسة : قال أبو السعود : « أوثر التعبير عن الكبار باليتامى { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } لقرب العهد بالصغر وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق غير زائل عنهم » .(1/190)
أقول : وهذا الإطلاق يسمى عند علماء البيان ( المجاز المرسل ) وعلاقته اعتبار ما كان ، أي الذين كانوا يتامى .
اللطيفة السادسة : أكل مال اليتيم حرام ، وإن لم يضمّ إلى مال الوصي ، والتقييد في الآية الكريمة { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } لزيادة التشنيع عليهم لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح وأشنع فلذلك خُصّ النهيُ به .
اللطيفة السابعة : وجه المناسبة بين ذكر اليتامى ونكاح النساء في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } هو أن النساء في الضعف كاليتامى ، ومن ناحية أخرى فقد كانت اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بدون أن يعدل معها في الصداق فنهوا عن ذلك ، وقد تقدم حديث عائشة .
قال أبو السعود : « وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات ، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم التساؤل بالأرحام؟
دلّ قوله تعالى : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } على أن التساؤل بالرحم جائز ولا سميا على قراءة ( حمزة ) الذي قرأها بالجر ( والأرحامِ ) وبهذا قال بعض العلماء ، لأنه ليس بقسم وإنما هو استعطاف فقول الرجل للآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا لا يراد منه الحلف الممنوع ، وإنما هو سؤال بحرمة الأرحام التي أمر الله بصلتها ، واستدلوا بحديث « اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي هذا . . . » الحديث .
وكره بعضهم ذلك وقال : إن الحديث الصحيح يردّه : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » فاعتبره نوعاً من أنواع القسم ، وهو قول ابن عطية .
قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في اللغة العربية ، خطأ عظيم في أصول الدين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم » فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم؟ .
ونقل القرطبي عن ( المبرّد ) أنه قال : « لو صليت خلف إمام يقرأ { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } لأخذت نعلي ومضيتُ » .
قال القشيري : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد في فصاحته . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه « .
الحكم الثاني : هل يعطى اليتيم ماله قبل البلوغ؟
دلّ قوله تعالى : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } على وجوب دفع المال لليتيم ، وقد اتفق العلماء على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ لقوله تعالى في الآيات التالية(1/191)
{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] فقد شرطت البلوغ ، وإيناس الرشد ، والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع ، وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان :
الوجه الأول : أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد ، وسمّوا يتامى ( مجازاً ) باعتبار ما كان أي الذين كانوا أيتاماً .
الوجه الثاني : أن المراد باليتامى الصغار ، الذين هم دون سن البلوغ ، والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة ، أو المراد بالإيتاء ترك الأموال وحفظها لهم وعدم التعرض لها بسوء . وهذا الوجه قوي وذلك أن بعض الأوصياء كانوا يتعجلون في إنفاق مال اليتيم وتبذيره ، فأمروا بالحفاظ عليه واستثماره فيما يعود بالنفع على اليتيم ، حتى إذا بلغ سن الرشد سلّموه له تاماً موفوراً ، ولعلّ الوجه الأول أقوى وأرجح والله أعلم .
الحكم الثالث : هل الأمر في قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } للوجوب أم للإباحة؟
ذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى : { فانكحوا } للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى : { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] وفي قوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 57 ] .
وقال أهل الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية ، لأن الأمر للوجوب ، وهم محجوبون بقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ النساء : 25 ] .
قال الإمام الفخر : « فحكَمَ تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خيرٌ من فعله ، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب » .
الحكم الرابع : ما معنى قوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } ؟
اتفق علماء اللغة على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد ، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها ، فمثنى تدل على اثنين اثنين ، وثُلاث تدل على ثلاثة ثلاثة ، ورُباع تدل على أربعة أربعة ، والمعنى : انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً حسبما تريدون .
قال الزمخشري : ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم : درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى . أي لو قلت للجَمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يضح الكلام ، فإذا قلت : درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم .
وفي هذه الآية دلالة على حرمة الزيادة على أربع ، وقد أجمع العلماء والفقهاء على ذلك ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوج بتسع نسوة بناء على أن الواو للجمع وأن المراد أن يجمع الإنسان اثنتين وثلاثاً وأربعاً .(1/192)
قال العلامة القرطبي : « إعلم أن هذا العدد ( مثنى وثلاث ورباع ) لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَنْ بَعُد للكتاب والسنة ، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة ، وزعم أن الواو جامعة ، وعَضَد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعاً وجمع بينهن في عصمته ، والذي صار إلى هذه الجهالة ، وقال هذه المقالة ، والرافضةُ وبعض أهل الظاهر ، وذهب بعضهم إلى أقبح من ذلك ، فقالوا بإباحة الجمع بين ( ثمان عشرة ) وهذا كله جهل باللسان والسنة ، ومخالفة لإجماع الأمة ، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع ، وقد أسلم ( غيلان ) وتحته عشر نسوة فأمره عليه السلام أن يختار أربعاً منهن ويفارق سائرهن .
وقد خاطب تعالى العرب بأفصح اللغات ، والعرب لا تدع أن تقول ( تسعة وتقول : اثنين وثلاثة وأربعة ، وكذلك تستقبح ممن يقول : أعط فلاناً أربعة ، ستة ، ثمانية ، ولا يقول ( ثمانية عشر ) » .
أقول : إن الإجماع قد حصل على حرمة الزيادة على أربع ، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشذّاذ المخالفين ، فلا عبرة بقولهم فإنما هو محض جهل وغباء وكما يقول الشاعر :
ومن أخذ العلوم بغير شيخ ... يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من « الفهم السقيم »
أعاذنا الله من حماقة السفهاء وتطاول الجهلاء؟!
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - البشر جميعاً يرجعون إلى أصل واحدٍ ، وينتسبون إلى أبٍ واحد ، هو آدم عليه السلام .
2 - جواز التساؤل بالله تعالى كقولهم : أسألك بالله ، وأنشدك بالله .
3 - حق الرحم عظيم ولهذا أمر الله تعالى بصلة الأرحام وعدم قطيعتها .
4 - وجوب رعاية اليتيم والحفاظ على ماله ودفعه إليه عند البلوغ .
5 - إباحة نكاح النساء في حدود أربع من الحرائر وبشرط العدل بينهن في القسمة .
6 - وجوب الاقتصار على واحدة إذا خشي الإنسان عدم العدل بين نسائه .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مسألة « تعدد الزوجات » ضرورة اقتضتها ظروف الحياة ، وهي ليست تشريعاً جديداً انفرد به الإسلام ، وإنما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود ، وبصورة غير إنسانية ، فنظّمه وشذّبه وجعله دواءً وعلاجاً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع . جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل - كما مرّ في حديث غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة - بدون حدّ ولا قيد ، فجاء ليقول للرجال : إن هناك حداً لا يحل تجاوزه هو ( أربع ) وإن هناك قيداً وشرطاً لإباحة هذه الضرورة في ( العدل بين الزوجات ) فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة { فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } .
فهو إذاً نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة ، ولكنه كان فوضى فنظّمه الإسلام ، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع باللذائذ ، فجعله الإسلام سبيلاً للحياة الفاضلة الكريمة .(1/193)
والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان أن « إباحة تعدد الزوجات » مفخرة من مفاخر الإسلام ، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل ، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام ، وبالأخذ بنظام الإسلام .
إن هناك أسباباً قاهرة تجعل التعدد ضرورة كعقم الزوجة ، ومرضها مرضاً يمنع زوجها من التحصن ، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن ، ولكن نشير إلى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة .
إن المجتمع في نظر الإسلام كالميزان يجب أن تتعادل كفتاه ، ومن أجل المحافظة على التوازن يجب أن يكون عدد الرجال بقدر عدد النساء ، فإذا زاد عدد الرجال على عدد النساء ، أو بالعكس فكيف نحل هذه المشكلة؟
ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟
أنحرم المرأة من ( نعمة الزوجية ) و ( نعمة الأمومة ) ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوربا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرقٍ شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة ، وطهارة الأسرة ، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العاقل أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف ، أم نجعلها خدينةً وعشيقة لذلك الرجل وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟!
لقد اختارت ألمانيا ( المسيحية ) التي يحرم دينها التعدد ، فلم تجد خيرة لها إلاّ ما اختاره الإسلام فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء ، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء .
تقول أستاذة ألمانية في الجامعة : ( إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة تعدد الزوجات . . . إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه . . إن هذا ليس رأي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا ) .
وفي عام 1948 ميلادية أوصى مؤتمر الشباب العالمي في ( ميونخ ) بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية .
ولقد حلّ الإسلام المشكلة بأشرف وأكرم الطرق ، بينما وقفت المسيحية مكتوفة الأيدي لا تبدي ولا تعيد ، أفلا يكون للإسلام الفضل الأكبر لحل مثل هذه الظاهرة التي تعاني منها أمم لا تدين بدين الإسلام؟!
ويجدر بي أن أنقل هنا بعض فقرات لشهيد الإسلام ( سيد قطب ) من كتابه « السلام العالمي في الإسلام » حيث قال تغمده الله بالرحمة :
« إن ثرثرةً طويلةً عريضة تتناثر حول حكاية » تعدد الزوجات « في الإسلام ، فهل هي حقيقة تلك الآفة الخطرة في حياة المجتمع؟
إنني أنظر فأرى كل مشكلة اجتماعية قد تحتاج إلى تدخل من التشريع إلاّ مسألة تعدد الزوجات فإنها تحل نفسها بنفسها .(1/194)
. إنها مسألة تتحكم فيها الأرقام ، ولا تتحكم فيها النظريات ولا التشريعات .
في كل أمة رجال ونساء ، ومتى توازن عدد الرجال مع عدد النساء فإنه يتعذر عملياً أن يحصل رجل واحد على أكثر من امرأة واحدة .
فأما حين يختل توازن الأمة ، فيقل عدد الرجال عن النساء كما في الحروب ، والأوبئة التي يتعرض لها الرجال أكثر ، فهنا فقط يوجد مجال لأن يستطيع رجل تعديد زوجاته .
فلننظر إذاً في هذه الحالة وأقر الأمثلة لها الآن ( ألمانيا ) حيث توجد ثلاث فتيات مقبال كل شاب ، وهي حالة اختلال اجتماعي ، فكيف يواجهها المشرع؟!
إن هناك حلاً من حلول ثلاثة :
الحل الأول : أن يتزوج كل رجل امرأة ، وتبقى اثنتان لا تعرفان في حياتهما رجلاً ، ولا بيتاً ، ولا طفلاً ، ولا أسرة .
والحل الثاني : أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها زوجته ، وأن يختلف إلى الأخريين أو واحدة منهما لتعرف الرجل دون أن تعرف البيت أو الطفل ، فإذا عرفت الطفل عرفته عن طريق الجريمة ، وحملته ذلك العار والضياع .
والحل الثالث : أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة ، فيرفعها إلى شرف الزوجية ، وأمان البيت ، وضمانة الأسرة ، ويرفع ضميره عن لوثة الجريمة ، وقلق الإثم ، وعذاب الضمير ، ويرفع المجتمع عن لوثة الفوضى واختلاط الأنساب .
أي الحلول أليق بالإنسانية ، وأحق بالرجولة ، وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع؟! « .(1/195)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{ السفهآء } : أصل السفه في اللغة الخفة والحركة ، يقال : تسفهت الريح الشجر إذا أمالته ، ورجل سفيه إذا كان ناقص التفكير خفيف الحلم ، والمراد به هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله ، أو يبذره في غير الطرق المشروعة .
قال في « الكشاف » : « السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها » .
{ قياما } : أي به معاشكم وقوام حياتكم .
قال ابن قتيبة : قياماً وقواماً بمنزلة واحدة تقول : هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك .
{ وابتلوا } : الابتلاء : الاختبار أي اختبروا عقولهم وتصرفهم في أموالهم .
{ آنَسْتُمْ } : أي علمتم وقيل : رأيتم ، وأصل الإيناس : الإبصار ومنه قوله تعالى : { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً؟ أي تبصّر .
{ رُشْداً } : الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير ، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال .
{ إِسْرَافاً } : الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء ، والسرف والتبذير .
{ وَبِدَاراً } : معناه مبادرة أي مسارعة ، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به .
{ فَلْيَسْتَعْفِفْ } : استعفّ عن الشيء كفّ عنه وتركه ، وهو أبلغ من ( عفّ ) كأنه طلب زيادة العفة .
{ حَسِيباً } : أي محاسباً لأعمالكم ومجازياً لكم عليها .
قال الأزهري : يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، ومن الثاني قولهم : حسبك الله أي كافيك الله . قال تعالى : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] .
{ القسمة } : المراد بالقسمة في الآية قسمة التركة بين المستحقين من الأقرباء .
{ أُوْلُواْ القربى } : المراد بهم الأقرباء الذين لا يرثون لكونهم محجوبين ، أو لكونهم من ذوي الأرحام .
{ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } : أي قولاً طيباً لطيفاً فيه نوع من الاعتذار ، وتطييب الخاطر ، قال سعيد بن جبير : يقول الولي للقريب : خذ بارك الله فيك ، إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار .
{ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } : أي سيدخلون ويذوقون ناراً حامية مستعرة يصطلي الإنسان بحرّها ولهبها .
المعنى الإجمالي
نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال ، التي جعلها الله للناس قياماً ، تقوم بها حياتهم ومعايشهم ، وأمر بالإنفاق عليهم بشتى أنواع الإنفاق من الكسوة والإطعام وسائر الحاجات ، كما أمر تعالى باختبار اليتامى حتى إذا رأوا منهم صلاحاً في الدين ، وحفظاً للأموال ، فعلى الأوصياء أن يدفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير ، وعليهم ألاّ يبذّروها ويفرطوا في انفاقها ، ويقولوا : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا ، فمن كان غنياً فليكفّ عن مال اليتيم ، ومن كان فقيراً فليأكل بقدر الحاجة ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلمها وكفى بالله محاسباً ورقيباً . ثم بيّن تعالى أن للرجال نصيباً من تركة أقربائهم ، كما للنساء ، فرضها الله لهم بشرعه العادل وكتابه المبين ، وأمر بإعطاء أولي القربى واليتامى والمساكين من غير الوارثين شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم وإحساناً إليهم .(1/196)
ثم حذَّر تعالى الأوصياء من الظلم للأيتام الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم ، وأمرهم بالإحسان إليهم ، فكما يخشى الإنسان على أولاده الصغار الضعاف بعد موته ، عليه أن يتقي الله في هؤلاء الأيتام فكأنه تعالى يقول : افعلوا باليتامى ، كما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم .
ثم ختم تعالى الآيات ببيان جزاء الظالمين الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وعدواناً ، وبيّن أنهم إنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة ، وسيدخلون السعير وهي نار جهنم المستعرة أعاذنا الله منها .
سبب النزول
أولاً : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا الولدان الصغار شيئاً ، ويجعلون الميراث للرجال الكبار فأنزل الله { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون . . . } الآية .
ثانياً : وروي عن ابن عباس أنه قال : « كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا ، فمات رجل من الأنصار يقال له : ( أوس بن ثابت ) وترك ابنتين وابناً صغيراً فجاء ابنا عمه فأخذوا ميراثه كله . فقالت امرأته لهما تزوجا بهما - وكان بهما دمامة - فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فنزلت الآية : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما فقال لهما : لا تحركا من الميراث شيئاً فقد أخبرت أن للذكر والأنثى نصيباً ، ثم نزل قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } ، وقرأ نافع وأهل المدينة ( قِيَماً ) بدون ألف .
2 - قرأ الجمهور { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } بضم الراء ، وقرأ السلمي ( رَشَداً ) بفتح الراء والشين .
3 - قرأ الجمهور { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } وقرأ ابن عامر وعاصم ( وسَيُصْلُون ) بالبناء للمجهول .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } مفعول لأجله ويجوز أن تعرب حالاً أي لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ، وقوله ( أن يكبروا ) في محل نصب ب ( بداراً ) .
ثانياً : قوله تعالى : { وكفى بالله حَسِيباً } الباء زائدة ولفظ الجلالة فاعل و ( حسبباً ) تمييز .
ثالثاً : قوله تعالى : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصيباً منصوب على المصدر و ( مفروضاً ) صفة له .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أضاف أموال اليتامى إلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إلى التكافل بين أفراد الأمة ، والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها ، فإن تبذير السفيه للمال فيه مضرة للمجتمع ، وهو كقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لهذه الرابطة بين أفراد المجتمع . قال الفخر الرازي : » المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه ، فلأجل هذه ( الوحدة النوعية ) حسنت إضافة أموال السفهاء إلى الأولياء « .(1/197)
اللطيفة الثانية : لمّا كان المال سبباً لبقاء الإنسان وقيام شؤون حياته ومعاشه ، سمّاه تعالى بالقيام إطلاقاً لاسم ( المسبَّب ) على ( السبب ) على سبيل المبالغة . ولهذا كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس .
اللطيفة الثالثة : قال صاحب « الكشاف » : « الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة ، أو على أن المعتبر هو حصول طرفٍ من الرشد ، وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد » .
اللطيفة الرابعة : لفظ ( استعفّ ) أبلغ من ( عفّ ) كأنه يطلب زيادة العفة قاله أبو السعود . وفي لفظ الاستعفاف ، والأكل بالمعروف ، ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه بتدبير مال اليتيم ، وقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : « إنّ في حجْري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف ، غير متأثل مالاً ، ولا واقٍ مالك بماله ، قال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضارباً منه ولدك » .
اللطيفة الخامسة : في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي ، مع أنه كان يكفي أن يقول : للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون . . . إلخ للاعتناء بأمر النساء ، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث ، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية ، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ، ولا يحمل سلاحاً ، ولا يقاتل عدواً؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق ( الإطناب ) فتدبر أسرار الكتاب المجيد .
اللطيفة السادسة : ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة ، فهو كقول القائل : أبصرتُ بعيني ، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] وقوله : { ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة ، وفي الآية أيضاً تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء .
اللطيفة السابعة : قال القرطبي : « سمي المأكول ناراً باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى : { إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] أي عنباً يؤول إلى الخمر ، وقيل : المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه » .
اللطيفة الثامنة : قال الفخر الرازي : « وما أشد دلالة هذا الوعيد { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى ، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟
اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد .(1/198)
وقال بعضهم : المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجاً أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك . وقيل : المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس .
وقال آخرون : المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز .
قال الطبري : « إن الله جل ثناؤه عمّم ، فلم يخص سفيهاً دون سفيه ، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله ، صبياً صغيراً كان ، أو رجلاً كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى ، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله ، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله ، وفساده وإفساده ، وسوء تدبيره » .
الحكم الثاني : هل يحجر على السفيه؟
استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب ( الحجر على السفيه ) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد ، ويبلغوا سنّ الاحتلام .
والحجر على أنواع : فتارة يكون ( الحجر للصغر ) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة .
وتارة يكون ( الحجر للجنون ) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل .
وتارة يكون ( الحجر للسفه ) كالذي يبذّر المال ، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه .
وتارة يكون ( الحجر للإفلاس ) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه ، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها .
وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام ، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فقد شرطت الآية شرطين : الأول : البلوغ ، والثاني : الرشد وهو حسن التصرف في المال ، وقال الشافعي : لا بدّ أن ينضم الصلاح في الدين ، مع حسن الصلاح في المال ، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة .
وسبب الخلاف يرجع إلى معنى ( الرشد ) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو ( العقل ) وقول قتادة هو الصلاح في ( العقل والدين ) وقول ابن عباس هو ( الصلاح في الأموال ) ثم قال :
« وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد ( العقل وإصلاح المال ) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجراً في دينه » .
أقول : ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهداراً للكرامة الإنسانية ، وإنما يقال : إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية ، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه ، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلاً فلا يجب الحجر ، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة ، حيث جاء لفظ الرشد منكّراً ، { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } أي نوعاً من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال ، ولم يأت معرفاً والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال ، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم .(1/199)
الحكم الثالث : هل يحجر على الكبير؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهاً .
وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمساً وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيداً أو غير رشيد .
قال العلامة القرطبي : « واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلاّ أن يكون مفسداً لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً أو غير مفسد لأنه يصير جَدّاً ، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جداً » .
أقول : الصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وهو مذهب الصاحبين ( أبي يوسف ومحمد ) أيضاً ، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه ، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال ، وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى قائماً بالشيخ والشاب ، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : « إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها » .
الحكم الرابع : هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟
دلّ قوله تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيراً بمقدار الحاجة من غير إسراف ، وإذا كان غنياً وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم ، ويقنع بما رزقه الله من الغنى ، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟
فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة ، وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله .
وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرتُ قضيت » .(1/200)
وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض ، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنياً أو فقيراً ، واحتجوا بعموم الآيات { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] ، { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى } ، { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] .
قال الجصاص فهذه محكم حاصرة لمال اليتيم على وصيّه ، وقوله : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات .
وروي عن ابن عباس أنه قال : { وَمَن كَانَ فَقِيراً } الآية نسختها { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } إلخ .
الترجيح : وقد جرح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال : « وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } المراد أكل مال التيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله » .
أقول : ولعلَّ هذا القول أرجح ، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال .
2 - الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق .
3 - اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد .
4 - ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار .
5 - تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقاً للذكور والإناث في مال الأقرباء .
6 - وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده .
7 - الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار .(1/201)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[ 3 ] المحرمات من النساء
التحليل اللفظي
{ كَرْهاً } : الكَره بفتح الكاف بمعنى الإكراه يقال : افعل هذا طوعاً أو كَرْهاً ، وبضم الكاف ( كُرْهاً ) بمعنى المشقة قال تعالى { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] .
قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد .
وقال الفراء : الكَرْهُ بالفتح الإكراه ، وبالضم المشقة ، فما أكره عليه فهو ( كَرْه ) بالفتح ، وما كان من قبل نفسه فهو ( كُره ) بالضم .
{ تَعْضُلُوهُنَّ } : العضل في اللغة : المنع ومنه الداء العضال ، وقد تقدم بيانه بالتفصيل .
{ قِنْطَاراً } : القنطار المال الكثير ، وهو تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة .
{ بُهْتَاناً } : البهتانُ الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل .
{ أفضى } : أي وصل ، وأصله من الفضاء الذي هو السعة .
قال في « اللسان » : وأفضى فلان إلى فلان وصل إليه ، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه ، والفضاء المكان الواسع من الأرض .
وقال الجوهري : أفضى الرجل إلى امرأته باشرها وجامعها وقال الفراء : الإفضاء الخلوة وإن لم يجامعها .
قال ابن عباس : الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني .
{ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } : أي عهداً شديداً مؤكداً ، وهو عقد النكاح الذي ربط الزوجين برباط شرعي مقدس .
{ سَلَفَ } : أي مضى وانقضى ، والسلفُ من تقدم من الآباء وذوي القربى .
{ فَاحِشَةً } : الفاحشة في اللغة : النهاية في القبح سميت فاحشة لأنها تناهت في القبح والشناعة .
{ وَمَقْتاً } : أصل المقت : البغضُ من مقته إذا أبغضه .
قال الراغب : المقت البغض الشديد لمن تعاطى القبح ، وكان يسمى تزوجُ الرجل امرأة أبيه ( نكاح المقت ) .
{ وَرَبَائِبُكُمُ } : جمع ربيبة وهي بنت المرأة من زوج آخر ، سميت بذلك لأنها تتربى في حجر الزوج فهي مربوبة ، فعيلة بمعنى ( مفعولة ) .
قال الرازي : الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل هو الذي يقوم بتربيتها .
{ حُجُورِكُمْ } : الحَجِرّ بالفتح والكسر : الحضن وهو مكان ما يحجره الإنسان ويحوطه بين عضديه وساعديه ، ويقال فلان في حَجْر فلان أي في كنفه ورعايته وفي تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أنّ كل من ربي طفلاً أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال : فلان في حضانة فلان ، وأصله من الحضن .
{ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } : قال في « القاموس » : « ودخل بامرأته كناية عن الجماع ، وغلب استعماله في الوطء الحلال ، والمرأة مدخول بها ، ومنه الدخلة ليلة الزفاف » .
{ وحلائل } : أي زوجات جمع حليلة سميت بذلك لأنها تحل لزوجها ويحل لها فكلٌ منهما حلال للآخر ، ويقال للزوج : حليل .
{ والمحصنات } : يعني ذوات الأزواج ، وأصل الإحصان في اللغة المنع ، والحَصَان بالفتح المرأة العفيفة قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ الأنبياء : 91 ] وستأتي معاني الإحصان في سورة النور إن شاء الله .
{ مُّحْصِنِينَ } : أي متعففين عن الزنى .
{ مسافحين } : السفاح والمسافحة الفجور ، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب ، قال تعالى(1/202)
{ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] ويقال : فلان سفّاح أي سفاك للدماء ، وسمى الزنى سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء على كره منهن ، ولا أن تمنعوهن من الزواج بعد تطليقكم لهن ، أو تضيقوا عليهن حتى تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من ميراث أو صداق ، إلاّ إذا أتين بفاحشة من الفواحش كالبذاءة باللسان ، والنشوز على الزوج ، والوقوع في المنكرات كالزنى وغيره فلكم حينئذٍ أن تعضلوهن حتى يفتدين أنفسهن منكم ، لأن الله لا يحب الظلم أياً كان مصدره . ثم أمر تعالى بحسن الصحبة والمعاشرة للأزواج بالمعروف ، فإذا كره الرجل زوجته فليصبر عليها ، وليستمرّ في إحسانه إليها ، فعسى أن يرزقه الله منها ولداً تقر به عينه ، وعسى أن يكون في هذا الشيء المكروه الخير الكثير ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها ، وكنتم قد أعطيتم المطلّقة مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً ، فلا تأخذوا منه شيئاً ، أتأخذونه ظلماً وعدواناً؟ وكيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية ، وبالاتصال الجنسي ( الجماع ) واستحللتم فروجهن بكلمة الله ( عقد النكاح ) فكيف تأخذون ما دفعتم لهن من المهور بعد هذا الميثاق؟ ثم بين تعالى ما يحرم على الرجال نكاحهن من المحارم ، وهنّ ( المحرمات من النساء ) فبدأ بحلائل الآباء ، وأبطل ما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من نكاح الولد لزوجة أبيه ، لأنه أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة ، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة ، إذ كيف يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ ثم عدّد تعالى المحرمات بالنسب وهن ( الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ) والمحرمات من الرضاعة وذكر منهن ( الأمهات والأخوات ) والمحرمات بالمصاهرة وهن ( أم الزوجة ، وبنت الزوجة ، وزوجة الابن ، والجمع بين الأختين ) وأحل ما سوى ذلك من النساء كما سنوضحه بالتفصيل عند ذكر الأحكام إن شاء الله تعالى .
في الآيات السابقة من أول سورة النساء نهى الله جل ثناؤه عن كثير من عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ونكاح اليتيمات من غير صداق ، وعن الظلم الذي كانو عليه في أمر الميراث حيث كانوا يحرمون المرأة والصغير من الميراث بحجة أن هؤلاء لا يستطيعون الذود عن العشيرة ، ولا حمل السلاح إلى آخر ما هنالك من مظالم اجتماعية ، وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لبيان نوع آخر من الظلم كانت تتعرض له النساء في الجاهلية وهو اعتبارهن كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر ، فقد كانوا يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله ، فحرّم الله ذلك وأمر بإحسان معاشرتهن وصحبتهن ، ودعا إلى إنصافهن من ذلك الظلم الصارخ والعدوان المبين .(1/203)
سبب النزول
أولاً : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
ثانياً : وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل ، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله ، وألقى عليها ثوباً ، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
ثالثاً : وروي أن ( أبا قيس بن الأسلت ) لما توفي خطب ابنه ( قيس ) امرأته فقالت : إنما أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه وقالت : إنما كنت أعده ولداً فما ترى؟ فقال لها : ارجعي إلى بيتك ، فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } الآية .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } بفتح الكاف ، وقرأ حمزة والكسائي ( كُرْهاً ) بضمها .
2 - قرأ الجمهور { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } بكسر الياء ، وقرأ ابن كثير وعاصم ( مبيَّنة ) بفتح الياء .
3 - قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر { وَأُحِلَّ لَكُمْ } بالضم وكسر الحاء ، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء .
أولاً : قوله تعالى : { أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و ( كرهاً ) مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير : لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ .
ثانياً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره : ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة .
ثالثاً : قوله تعالى : { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي اتأخذونه باهتين وآثمين و ( مبيناً ) صفة منصوب .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعليل في قوله تعالى : { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن ، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم ، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء ، وهذا هو السر في قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ولم يقل : وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء ، فتدبره فإنه دقيق .
اللطيفة الثانية : كنى الله عز وجل عن الجماع بلفظ الإفضاء { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } وهي كناية لطيفة مثل ( الملامسة ، والمماسة ، والقربان ، والغشيان ) وكلها كنايات عن الجماع ، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس : « الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني » والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به .(1/204)
اللطيفة الثالثة : قال القرطبي : « خطب عمر رضي الله عنه فقال : » أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء ( مهورهن ) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحداً من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } فقال رضي الله عنه : أصابت امرأة وأخطأ عمر ، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار « .
اللطيفة الرابعة : قال صاحب » الكشاف « : » الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج . . . «
قال الشهاب الخفاجي : بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا :
صحبةُ يوم نسبٌ قريبُ ... وذمةٌ يعرفها اللبيبُ
اللطيفة الخامسة : قال الرازي : » مراتب القبح ثلاثة ، القبح في العقول ، وفي الشرائع ، وفي العادات ، فقوله ( إنه كان فاحشة ) إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله ( مقتاً ) إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله ( وساء سبيلاً ) إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟
المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية ، وليس له قدر محدّد ، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر ، ويتفاوتون في السعة والضيق ، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته ، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } .
قال العلامة القرطبي : » في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور ، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح ، وذكر قصة عمر وفيها قوله « أصابت امرأة وأخطأ عمر » وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور ، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : « من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة » ثم قال : وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق « .
وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال :
أ - أقلة ثلاثة دراهم ( ربع دينار ) وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى .
ب - أقله عشرة دراهم ( دينار ) وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى .(1/205)
ج - لا حدّ لأقله ويجوز بكل شيء له قيمة وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله .
قال الحافظ وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء .
قال العلامة القرطبي : « تعلق الشافعي بعموم قوله تعالى : { بأموالكم } في جواز الصداق بقليل وكثير ، وهو الصحيح ويعضده قوله عليه السلام » لو أن رجلاً أعطى ملء يديه طعاماً كانت به حلالاً « وأنكح سعيد بن المسيب ابنته من ( عبد الله بن وَدَاعة ) بدرهمين .
قال الشافعي : كل ما جاز أن يكون ثمناً لشيء أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقاً ، وهذا قول جمهور أهل العلم وأهل الحديث ، كلهم أجاز الصداق بقليل المال وكثيره » .
حجة المالكية والأحناف : أن الشيء الحقير لا يصلح مهراً ، ولا بدّ في المهر من قدر معلوم من المال ، ولما كانت يد السارق لا تقطع إلاّ في دينار ( على قول أبي حنيفة ) وفي ربع دينار ( على قول مالك ) اعتبر هذا القدر في المهر قياساً على حد السرقة .
واستدل أبو حنيفة : بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا صداق دون عشرة دراهم » .
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح فقد زوّج عليه السلام أحد الصحابة على ما يحفظه من القرآن ( زوجتكها بما معك من القرآن ) وقال لشخص : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) ، وزوج سيد التابعين ( سعيد بن المسيب ) ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد ، والأصل في المقادير إثباتها بطريق الشرع ، وليس ثمة حديث صحيح في أقل الصداق يصلح حجة كما قال الحافظ والله أعلم .
الحكم الثاني : ما المراد بالميثاق الغليظ في الآية الكريمة؟
قال الضحاك وقتادة : هو العهد الذي أخذ عليهم من إحسان العشرة إلى النساء في قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } [ البقرة : 229 ] .
وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالميثاق الغليظ هو ( عقد النكاح ) وقد دل عليه قوله عليه السلام : « اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله » .
الحكم الثالث : ما هي المحرمات التي أرشدت إليها الآية الكريمة؟
المحرمات التي يحرم الزواج بهن ثلاثة أنواع وهن كالآتي :
1 - محرمات بالنسب 2 - محرمات بالرضاع 3 - محرمات بالمصاهرة .
المحرمات من النسب :
أشارت الآية الكريمة إلى تحريم سبعة من النسب وهنّ : ( الأمهات ، البنات ، الأخوات ، العمات ، الخالات ، بنات الأخ ، بنت الأخت ) وهؤلاء يحرم الزواج بهن على التأبيد ، أي أنه لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال ، ويدخل في الأمهات الجدات وإن علون ، كما يدخل في البنات بناتهن وإن سفلن ، وكذلك الأخوات سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم ، والعمات والخالت وإن علون سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم ، والعمات والخالات وإن علون سواء كن من جهة الأب أو الأم .(1/206)
المحرمات من الرضاع :
والمحرمات من الرضاع سبع أيضاً كما هو الحال في النسب لقوله عليه الصلاة والسلام : « يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب » والآية الكريمة لم تذكر من المحرمات بالرضاع سوى ( الأمهات ، والأخوات ) والأم أصل والأخت فرع ، فنبّه بذلك على جميع الأصول والفروع ، ووضحت السنة النبوية ذلك بالتفصيل وبصريح العبارة كما في الحديث السابق ، وقد ثبت في الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابنة حمزة « إنها ابنة أخي من الرضاعة » .
المحرمات بسبب المصاهرة :
وأما المحرمات بسبب المصاهرة فقد ذكرت الآية الكريمة منهن أربعاً وهنّ كالتالي :
أ - زوجة الأب لقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } .
ب - زوجة الابن لقوله تعالى : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم } .
ج - أم الزوجة لقوله تعالى : { وأمهات نِسَآئِكُمْ } .
د - بنت الزوجة إذا دخل بأمها لقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
والأصل في هذا أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على البنت ، ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم الآية الكريمة { الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وقد استنبط العلماء من ذلك هذه القاعدة الأصولية وهي : ( العقد على البنات يحرّم الأمهات ، والدخول بالأمهات يحرم البنات ) .
تنبيه : الربيبة ( بنت الزوجة ) التي دخل بأمها تحرم على الزوج سواء كانت في حَجْره أو لم تكن في حجره ، والتقييد في قوله { الاتي فِي حُجُورِكُمْ } ليس للشرط أو للقيد وإنما هو لبيان الغالب ، لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بإجماع الفقهاء فتدبره .
المحرمات حرمة مؤقتة
وقد أشارت الآية الكريمة إلى من يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة وذكرت نوعين :
أ - الجمع بين الأختين لقوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } وألحقت السنة المطهرة ( الجمع بين المرأة وعمتها ) و ( الجمع بين المرأة وخالتها ) زيادة على الجمع بين الأختين .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها .
والحكمة في ذلك خشية القطيعة لحديث ابن عباس : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال : « إنكم إذا فعلتم ذلك قطّعتم أرحامكم » .
ب - زوجة الغير أو معتدته رعاية لحق الزوج لقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ النسآء } أي المتزوجات من النساء ، والمعتدة حكمها حكم المتزوجة ما دامت في العدة ، وقد مر حكمها سابقاً في سورة البقرة [ 235 ] في قوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } وبينّا الحكمة في ذلك فارجع إليها هناك والله يتولاك .(1/207)
الحكم الرابع : هل وطء أم الزوجة يحرّم الزوجية؟
اختلف العلماء في الزنى بأم الزوجة أو بنتها هل يحرّم الزوجية أم لا؟
فذهب أبو حنيفة والصاحبان إلى القول بالتحريم ، وهو قول الثوري والأوزاعي وقتادة .
وذهب الشافعي إلى القول بعدم التحريم لأن الحرام لا يحرّم الحلال وهو قول الليث والزهري ومذهب ( مالك ) رحمه الله وهي رواية « الموطأ » .
وسبب الخلاف هو اختلافهم في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء أم في العقد؟ فمن قال : إن المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى ، ون قال : إن المراد به العقد لم يحرم الزنى .
فالحنفية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح الوطء ، وقالوا : إن النكاح في الوطء حقيقة ، وفي العقد مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى حتى يقوم الدليل على المجاز ، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال ، والوطء الحرام .
والشافعية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح العقد ، وقالوا : مما يدل له من جهة النظر أن الله جعل الحرمة للمصاهرة تكريماً لها ، كما جعل الحرمة من النسب تكريماً للنسب ، فكيف تجعل هذه الحرمة للزنى وهو فاحشة ومقت؟!
قال الشافعي في « الأم » : « فإن زنى بامرأة أبيه ، أو أم امرأته فقد عصى الله ولا تحرم عليه امرأته ولا على أبيه ولا على ابنه ، لأن الله إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزاً لحلاله ، وزيادة في نعمته بما أباح منه ، وأثبت به الحرم التي لم تكن قبله وأوجب بها الحقوق ، والحرام خلاف الحلال » .
الترجيح : ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لقوة دليلهم فقد روى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعدما يدخل بها فقال : تخطّى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته ، وروي أنه قال : لا يحرم الحرام الحلال .
الحكم الخامس : حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها .
تعريف المتعة : المتعة هي أن يستأجر الرجل المرأة إلى أجل معين بقدر معلوم ، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتاً معلوماً شهراً أو شهرين ، أو يوماً أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره ، فحرمت الشريعة الإسلامية ذلك ، ولم تبح إلا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار ، وكل نكاح إلى أجل فهو باطل ، لأنه لا يحقّق الهدف من الزواج .
وقد أجمع العلماء وفقهاء الامصار قاطبة على حرمة ( نكاح المتعة ) لم يخالف فيه إلاّ الروافض والشيعة ، وقولهم مردود لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين .
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم ، وما روي عن ابن عباس من القول بحلها فقد ثبت رجوعه عنه كما أخرج الترمذي عنه رضي الله عنه أنه قال : « إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم ، فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه » حتى نزلت الآية الكريمة(1/208)
{ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المعارج : 30 ] فكل فرج سواهما فهو حرام .
فقد ثبت رجوعه عن قوله وهو الصحيح . وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار ، والعنت في الأسفار ، فقد روي عن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء ، قال : وما قالوا؟ قلت قالوا :
قد قلت للشيخ لا طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال : سبحان الله ما بهذا أفتيت!! وما هي إلاّ كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ولا تحل إلاّ للمضطر .
ومن هنا قال الحازمي : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم ، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات ، حتى حرّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد .
الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة
احتج أهل السُنَّة على حرمة المتعة بوجوه نلخصها فيما يلي :
أولاً : إن الوطء لا يحل إلاّ في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 5-6 ] وهذه ليست زوجة وليست مملوكة ، لأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث ، وثبت النسب ووجبت العدة ، وهذه لا تثبت باتفاق فيكون باطلاً .
ثانياً : إن الأحاديث الشريفة جاءت مصرحة بتحريمه ، منها ما رواه مالك عن الزهري بسنده عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء ، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية .
ثالثاً : ما رواه ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم المتعة فقال : « يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع ، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة » .
رابعاً : أن عمر رضي الله عنه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته ، وأقره الصحابة رضي الله عنهم ، وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئاً فكان ذلك منهم إجماعاً .
خامساً : إن نكاح المتعة لا يقصد به إلاّ قضاء الشهوة ، ولا يقصد به التناسل ، ولا المحافظة على الأولاد ، وهي المقاصد الأصلية للزواج ، فهو يشبه الزنى من حيث قصد الاستمتاع دون غيره ، وقد قال الله تعالى : { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } وليس مقصود المتمتع إلا قضاء الشهوة ، وصب الماء ، واستفراغ أوعية المني ، فبطلت المتعة بهذا القيد .
قال الخطابي : تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة ، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى ( علي ) رضي الله عنه فقد صحّ عنه أنها نسخت ، ونقل البيهقي عن ( جعفر بن محمد ) أنه سئل عن المتعة فقال : هي الزنى بعينه ، فبطل بذلك كل مزاعم الشيعة .(1/209)
تحقيق العلامة الشوكاني
قال الشوكاني : ( وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع ، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد ، ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته ، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به ، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا ، حتى قال ابن عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها ، واللهِ لا أعلم أحداً تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة ) .
وقال ابن الجوزي : « وقد تكلف قوم من المفسّرين فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء ، وهذا تكلف لا يحتاج إليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله ( يعني بالسنة ) وأما الآية فإنها لا تتضمن جواز المتعة وإنما المراد بها الاستمتاع في النكاح » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تحريم الاعتداء على النساء بالظلم والاستبداد ، ووجوب الإحسان إليهن وصحبتهن بالمعروف .
2 - الصبر على المرأة عند الكراهية ، وعدم التضييق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال .
3 - تحريم أخذ شيء من مهر المرأة عند الطلاق بدون مسوّغ شرعي يبيحه الإسلام .
4 - إبطال بعض عادات الجاهلية ومنها الزواج بامرأة الأب بعد الوفاة .
5 - المحرمات من النساء اللواتي يحرمن على الرجل بالنسب ، والرضاع ، والمصاهرة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرّم الباري جلّ وعلا نكاح المحارم من النساء سواء كانت القرابة عن طريق النسب ، أو الرضاع ، أو المصاهرة ، وجعل هذه الحرمة مؤبدة لا تحل بحال من الأحوال ، وذلك لحكم عظيمة جليلة نبينها بإيجاز فيما يلي :
أما تحريم النساء من النسب فإن الله جل ثناؤه جعل بين الناس ضروباً من الصلة يتراحمون بها ، ويتعاونون على جلب المنافع ودفع المضار ، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة ولما اقتضت طبيعة الوجود ( تكوين الأسرة ) وكانت الأسرة محتاجة إلى الاختلاط بين أفرادها بسبب هذه الصلة القوية ( صلة النسب ) فلو أبيح الزواج من المحارم لتطلعت النفوس إليهن ، وكان فيهن مطمع ، والنفوس بطبعها مجبولة على الغيرة ، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته ، وذلك يدعو إلى النزاع والخصام ، وتفكك الأسرة ، وحدوث القتل الذي يدمّر الأسرة والمجتمع .
ثم إنّ الوليد يتكون جنيناً من دم الأم ، ثم يكون طفلاً يتغذى من لبنها ، فيكون له مع كل مصَّة من ثديها عاطفة جديدة يستلها من قلبها ، والطفل لا يحب أحداً في الدنيا مثل أمه ، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب الاستمتاع بالشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟!
ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية ، ويليه تحريم البنات ثم الأخوات ثم العمات والخالات إلخ .(1/210)
وقد أودع الله في الإنسان فطرة نقية تحجزه عن التفكير في محارمه فضلاً عن حب الاستمتاع بهن ، ولولا ما عهد في الإنسان من الشذوذ والجناية على الفطرة ، والعبث بها لكان للمرء أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات لأن هذا من قبيل المستحيلات في نظر الإنسان العاقل ، سليم الفطرة والتفكير .
ثم إن هناك حكمة جسدية حيوية عظيمة ، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سبباً لضعف النسل ، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى ( النحافة ) حتى ينقرض النسل ، وهذا ما أشار إليه الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه « الإحياء » حيث قال : « إنّ من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة ، فإن الولد يُخْلق ضاوياً أي ( نحيفاً ) وعلّل ذلك بأن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحسان بالنظر أو اللمس ، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد ، فأما المعهود فإنه يضعف الحسّ ولا تنبعث به الشهوة » وهو تعليل دقيق أقره العلم الحديث .
وأمّا المحرمات بالمصاهرة فإن الله عز وجل أكرم البشرية بهذه الرابطة الإنسانية ، وامتنّ على الناس بقرابة الصهر ، التي تجمع بين النفوس المتباعدة المتنافرة بروابط الألفة والمحبة { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [ الفرقان : 54 ] فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها ، فينبغي أن تكون أم زوجته بمنزلة أمه في الاحترام ، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه ، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنته وهكذا .
ومن القبح جداً أن تكون البنت ضرة لأمها ، والابن طامعاً في زوجة أبيه ، فإن ذلك ينافي حكمة المصاهرة ، ويكون سبب فساد العشيرة .
وأما المحرمات بالرضاع فإن الحكمة فيهن ظاهرة ، وهي أن من رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءاً منها ، لأن تكوّن من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته ، وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلاً واحداً هو ذلك اللبن والله تعالى أعلم .(1/211)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
[ 4 ] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين
التحليل اللفظي
{ قوامون } : قوّام : صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته ، فالرجل قوام على امرأته كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي ، والحفظ والصيانة .
{ قانتات } : أصل القنوت دوام الطاعة ، ومنه القنوت في الصلاة والمراد أنهن مطيعات لله ولأزواجهن .
{ نُشُوزَهُنَّ } : عصيانهن وترفعهن عن طاعتكم ، وأصل النشز المكان المرتفع ومنه تلّ ناشز أي مرتفع .
قال في « اللسان » : النشوز يكون بين الزوجين ، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه ، واشتقاقه من النَشَز وهو ما ارتفع من الأرض ، ونشز الرجل إذا كان قاعداً فنهض قائماً ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } [ المجادلة : 11 ] .
{ فَعِظُوهُنَّ } : أي ذكّروهن بما أوجب الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة للأزواج .
{ المضاجع } : المراد بهجر المضاجع هجر الفراش والمضاجعة .
قال ابن عباس : الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها . وقيل : أن يعزل فراشه عن فراشها .
{ شِقَاقَ } : الشقاق : الخلاف والعداوة وهو مأخوذ من الشق بمعنى الجانب ، لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر بسبب العداوة والمباينة .
{ حَكَماً } : الحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين المتنازعين .
{ والجار الجنب } : الجار البعيد أو الذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ضد القرابة .
{ والصاحب بالجنب } : هو الرفيق في السفر ، أو طلب العلم ، أو الشريك وقيل : هي الزوجة .
{ مُخْتَالاً فَخُوراً } : قال ابن عباس : المختال البطر في مشيته ، والفخور المفتخر على الناس بكبره .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : الرجال لهم درجة الرياسة على النساء ، بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير ، وخصّهم به من الكسب والإنفاق ، فهم يقومون على شؤون النساء كما يقوم الولاة على الرعايا بالحفظ والرعاية وتدبير الشؤون . ثمّ فصّل تعالى حال النساء تحت رياسة الرجل ، وذكر أنهن قسمان : قسم صالحات مطيعات ، وقسم عاصيات متمردات ، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج ، حافظات لأوامر الله ، قائمات بما عليهن من حقوق ، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة ، وأموال أزواجهن عن التبذير في غيبة الرجال ، فهنّ عفيفات ، أمينات ، فاضلات .
وأما القسم الثاني وهنّ النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن ، اللواتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج ، فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن طريق النصح والإرشاد ، فإن لم يجد الوعظ والتذكير فعليكم بهجرهن في الفراش مع الإعراض والصد ، فلا تكلموهن ولا تقربوهن ، فإذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبّرح ، ضرباً رفيقاً يؤلم ولا يؤذي ، فإن أطعنكم فلا تلتمسوا طريقاً لإيذائهن ، فإن الله تعالى العلي الكبير أعلى منكم وأكبر ، وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن .
ثمّ بيّن تعالى حالةً أخرى ، وهي ما إذا كان النفور لا من الزوجة فحسب بل من الزوجين ، فأمر بإرسال ( حكمين ) عدلين ، واحد من أقربائها والثاني من أقرباء الزوج ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة ، إن رأيا التوفيق وفّقا ، وإن رأيا التفريق فرّقا ، فإذا كانت النوايا صحيحة ، والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما الوفاق والألفة بين الزوجين ، وما شرعه الله إنما جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير .(1/212)
ثم ختم تعالى هذه الآيات بوجوب عبادته تعالى وعدم الإشراك به ، وبالإحسان إلى الوالدين ، وإلى الأقرباء واليتامى والمساكين ، ومن له حق الجوار من الأقارب والأباعد .
سبب النزول
نزلت الآية الكريمة في ( سعد بن الربيع ) مع امرأته ( حبيبة بنت زيد ) وكان سعد من النقباء وهما من الأنصار ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لتقتصّ من زوجها « فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله { الرجال قوامون عَلَى النسآء } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أردنا أمراً ، وأراد الله أمراً ، والذي أراد الله خير « ورفع القصاص .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين :
أحدهما : وهبي ، والآخر كسبي ، وأورد العبارة بصيغة المبالغة { قوامون عَلَى النسآء } ، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا ، فلهم حق الأمر ، والنهي ، والتدبير والتأديب ، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة ، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية .
اللطيفة الثانية : قال صاحب » الكشاف « : ذكروا في فضل الرجال أموراً منها : العقل ، والحزم ، والعزم ، والقوة ، وأن منهم الأنبياء ، وفيهم الإمامة الكبرى ، والصغرى ، والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والشهادة في الحدود ، والقصاص ، والزيادة في الميراث ، والولاية في النكاح ، وإليهم الانتساب ، وغير ذلك .
اللطيفة الثالثة : ورد النظم الكريم { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ولو قال » بما فضلهم عليهن « أو قال » بتفضيلهم عليهن « لكان أوجز وأخصر ، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة ، وهي إفادة أن المرأة من الرجل ، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان ، فالرجل بمنزلة الرأس ، والمرأة بمنزلة البدن ، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة ، فالأذن لا تغني عن العين ، واليد لا تغني عن القدم ، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته ، ورأسه أشرف من يده ، فالكل يؤدي دوره بانتظام ، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر . ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس ، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء ، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم ، والدين ، والعمل ، وكما يقول الشاعر :(1/213)
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال
وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز .
اللطيفة الرابعة : لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ ( الإصلاح ) ولم يذكر ما يقابله وهو ( التفريق ) بين الزوجين ، وفي ذلك لطيفة دقيقة ، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخراً وسعاً في الإصلاح ، فإن في التفريق خراب البيوت ، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة ، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام .
اللطيفة الخامسة : قال الزمخشري : « وإنما كان الحكمان من أهلهما ، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للصلاح ، وإليهم تسكن نفوس الزوجين ، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض ، وإرادة الصحبة والفرقة ، وموجبات ذلك ومقتضياته ، وما يزويانه عن الأجانب ، ولا يحبان أن يطلعوا عليه » .
اللطيفة السادسة : ذكر الشعبي أن شريحاً تزوج امرأة من بني تميم يقال لها ( زينب ) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها ، ثم قال : لا أعجل حتى يجاء بها ، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت : أما بعد فقد نزلنا منزلاً لا ندري متى نظعن منه ، فانظر الذي تكره ، هل تكره زيارة الأخْتان؟ فقلت : إني شيخ كبير لا أكره المرافقة ، وإني لأكره ملال الأخْتان ، قال : فما شرطتُ شيئاً إلاّ وفت به ، فأقامت سنة ثم جئت يوماً ومعها في الحَجَلة إنس ، فقلت : إنّا لله ، فقالت : أبا أمية إنها أمي ، فسلّم عليها فقالت : انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها ، قال : فصحبتني ثم هلكت قبلي ، قال : فوددت أني قاسمتها عمري ، أو مت أنا وهي في يوم واحد ، وأنشد شريح :
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلّت يميني حين أضرب زينباً
الحكم الأول : ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة؟
أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية :
أولاً : النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى : { فَعِظُوهُنَّ } .
ثانياً : الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى : { واهجروهن فِي المضاجع } .
ثالثاً : الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديباً لها ، لقوله تعالى : { واضربوهن } .
رابعاً : إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى : { فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } .
وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله : « فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبّرح » .
قال ابن عباس وعطاء : الضرب غير المبّرح بالسواك ، وقال قتادة : ضرباً غير شائن .
وقال العلماء : ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن ، ولا يضربها بسوط ولا عصا ، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه .
وقد « سئل عليه السلام : ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال : » أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ، ولا تهجر إلا في البيت « » .(1/214)
ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام : « ولن يضرب خياركم » .
الحكم الثاني : هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب؟
اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب ، فالوعظ عند خوف النشوز ، والهجر عند ظهور النشوز ، ثم الضرب ، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز ، وهذا مذهب أحمد ، وقال الشافعي : يجوز ضربها في ابتداء النشوز .
ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية ، فمن رأى الترتيب قال إن ( الواو ) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع ، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أياً كانت ، وله أن يجمع بينها .
ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب ، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ ، ثم ترقى منه إلى الهجران ، ثم ترقى منه إلى الضرب ، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب ، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد .
أقول : لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم .
قال ابن العربي : ( من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول ( سعيد بن جبير ) فقد قال : « يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها ، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع ) .
وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال : » يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها ، فإن أبت ضربها ، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين « .
الحكم الثالث : هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب؟
ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى : { حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } وأن ذلك على سبيل الوجوب ، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب ، وقالوا : إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز ، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما ، والشهادة على الظالم منهما ، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب ، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين ، طلباً للإصلاح من الأجانب ، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين ، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة .
قال الألوسي : » وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح ، وأعرف بباطن الحال ، وهذا على وجه الاستحباب ، وإن نصّبا من الأجانب جاز « .
الحكم الرابع : من المخاطب في الآية الكريمة { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } .(1/215)
الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى : { واهجروهن فِي المضاجع } وهذا من حق الزوج ، والخطاب هنا للحكام ، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة ، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ .
وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين . وهذا القول مرجوح .
وظاهر الأمر في قوله تعالى : { فابعثوا } أنه للوجوب وبه قال الشافعي رحمه الله ، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة .
الحكم الخامس : هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟
اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما ، ولا بدّ من رضى الزوجين فيما يحكمان به ، وهو مروي عن ( الحسن البصري ) و ( قتادة ) و ( زيد بن أسلم ) .
وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة ، فإن رأيا التطليق طلّقا ، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا ، فهما حاكمان موليان ، من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن ( علي ) و ( ابن عباس ) و ( الشعبي ) .
وللشافعي في المسألة قولان .
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر ، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين .
فالحجة للرأي الأول : أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح { إِن يُرِيدَآ إصلاحا } وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما ، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل .
والحجة للرأي الثاني : أن الله تعالى سمّى كلاً منهما حكماً { فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } والحكم هو الحاكم ، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط .
قال الجصاص : « قال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الزوج ، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ، ولا على ردّ مهرها ، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين » وهو اختيار الطبري .
قال الطبري : « وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما ، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك » .
أقول : ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رحمه الله والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - للزوج حق تأديب زوجته ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذنه .(1/216)
2 - على الزوجة طاعة زوجها في حدود ما أمر الله لا في المعصية .
3 - ضرورة التحكيم إذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح من قبل الزوج .
4 - على الحكمين أن يبذلا أقصى ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين .
خاتمة البحث
حكمة التشريع
قضت السنة الكونية وظروف الحكياة الاجتماعية ، أن يكون في الأسرة قيّم ، يدير شؤونها ، ويتعهد أحوالها ، وينفق من ماله عليها ، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه ، ولتكون نواة للمجتمع الإنساني الذي ينشده الإسلام ، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع ، وفي فساد الأسرة وخرابها خراب المجتمع .
ولما كان الرجل أقدر على تحمل هذه المسؤولية من المرأة ، بما وهبه الله من العقل ، وقوة العزيمة والإرادة ، وبما كلّفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد ، كان هو الأحق بهذه القوامة ، التي هي في الحقيقة درجة ( مسؤولية وتكليف ) لا درجة ( تفضيل وتشريف ) إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء ، وليست للسيطرة والاستعلاء ، إذ لا بدّ لكل أمر هام من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة . وقد جعل الله للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير ، والحفظ والصيانة ، ولعل أخبث ما يتخذه أعداء الإسلام ذريعة للطعن في دين الله ، زعمهم أن الإسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون : كيف يسمح الله بضرب النساء ، وكيف يحوي كتابه المقدس هذا النص { فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن } ؟! أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة!!
والجواب : نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟
إن هذا الأمر علاج ، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة ، فالمرأة إذا أساءت عشرة زوجها ، وركبت رأسها ، وسارت وراء الشيطان وبقيادته ، لا تكف ولا ترعوي عن غيّها وضلالها ، فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحالة؟ أيهجرها ، أم يطلقها ، أم يتركها تصنع ما تشاء؟
لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدواء ، أرشد إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان ، فأمر بالصبر والأناة ، ثم بالوعظ والإرشاد ، ثمّ بالهجر في المضاجع ، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل فلا بدّ أن نستعمل آخر الأدوية ، وكما يقولون في الأمثال : ( آخر الدواي الكيّ ) .
فالضرب بسواك وما أشبهه أقل ضرراً من إيقاع الطلاق عليها ، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة ، وتمزيق لشملها ، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم ، كان ارتكاب الأخف حسناً وجميلاً ، وكما قيل : ( وعند ذكر العمى يستحسن العور ) .
فالضرب ليس إهانة للمرأة - كما يظنون - وإنما هو طريق من طرق العلاج ، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة ، التي لا تفهم الحسنى ، ولا ينفع معها الجميل .
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة
وإن من النساء ، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب ، ومن أجل ذلك وضعت العقوبات وفتحت السجون .(1/217)
يقول السيد رشيد رضا في تفسيره « المنار » : « وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح ، والتبريح الإيذاء الشديد ، وقد روى عن ابن عباس تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه أي كالضرب باليد ، أو بقصبة صغيرة ونحوها .
ثم قال : يستكبر بعض مقلدة الافرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز ، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه ، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوساً بل محتقراً ، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟
إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل ، فهو أمر يحتاج إليه في حال ( فساد البيئة ) وغلبة الأخلاق الفاسدة ، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه ، وإذا صلحت البيئة ، وصار النساء يعقلن النصيحة ، ويستجبن للوعظ ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب ، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع ، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء » .
أقول : إن أمر الضرب في شريعة الله ليس إلا طريقاً من طرق الإصلاح ، وقد روي عن عطاء أنه قال : لا يضربْ زوجه وإن أمرها أو نهاها فلم تطعه ، ولكنْ يغضب عليها ، وقال عليه السلام « ولن يضرب خياركم » ومع ذلك فهو علاج في بعض الحالات الشاذَّة { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .(1/218)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
[ 5 ] حرمة الصلاة على السكران والجنب
التحليل اللفظي
{ سكارى } : قال في « اللسان » : السّكر نقيض الصحو ، وأسكره الشراب ، والجمع سُكارى وسَكْرى ، شبّه بالنّوْكى ، والحمقى ، والهلْكَى لزوال عقل السكران .
وقال الراغب : السّكْر حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل في الشراب ، وقد يعتري من الغضب والعشق ولذلك قال الشاعر :
سُكْرانِ سُكْرُ هَوى وسكرُ مُدام ... وأصل السُّكْلا من السِّكر وهو سد مجرى الماء ، فالبسّكْر ينسد طريق المعرفة ، وسكرةُ الموت شدته .
{ جُنُباً } : الجنب اسم يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمفرد والجمع يقال : رجل جنب ، ورجال جنب ، وأصل الجنابة البعد ، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة جنب ، لأن جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر .
{ عَابِرِي سَبِيلٍ } : العابر من العبور يقال : عبرت نهر والطريق إذا قطعته من الجانب إلى الجانب الآخر ، السبيلُ : الطريقُ ويراد يعابر السبيل المسافر ، أو الذي يعبر بالمسجد أي يمر به .
{ الغآئط } : الغائط المكان المطئن من الأرض ، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب منخفضاً من الأرض لغيب عن عيون الناس ، ثمّ كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائطاً ، فكنّوا به عن الحدث تسمية للشيء باسم مكانه .
{ لامستم النسآء } : اللمس حقيقته المس باليد ، وإذا أضيف إلى النساء يراد به الجماع ، وقد كثر هذا الاستعمال في الغة العرب ، والقرآن قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع في آيات عديدة قال تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] وقال تعالى : { وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد } [ البقرة : 187 ] .
{ فَتَيَمَّمُواْ } : التيمم في اللغة : القصد يقال : تيممته برمحي أي قصدته دون غيره ، وأنشد الخليل :
يمّمتُه الرمح شَزْراً ثم قلتُ له ... هذي البسالةُ لا لعبُ الزحاليق
وتيمّم البلدة قصد التوجه إليها قال الشاعر :
وما أدري إذا يمّمتُ أرضاً ... أريدُ الخير أيّهما يليني
وفي الشرع : مسح الوجه واليدين بالتراب بقصد الطهارة ، وقد جمع الشاعر المعنيين بقوله :
تيمّمتُكُم لمّا فقدتُ أولي النّهى ... ومن لم يجد ( ماءً ) تيمَّمَ بالترب
{ صَعِيداً طَيِّباً } : قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، قال تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 8 ] وقال تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] أي أرضاً ملساء تنزلق عليها الأقدام ، وسمي صعيداً لأنه يصعد من الأرض .
قال صاحب « القاموس » : الصعيد التراب ، ووجه الأرض .
قال ابن قتيبة : ومعنى { صَعِيداً طَيِّباً } أي تراباً نظيفاً .
{ فامسحوا } : قال في « اللسان » : المسحُ إمرارك يدك على الشيء تريد إذهابه ، كمسحك رأسك من الماء ، وجبينك في الرّشح ، مسحه مسحاً وتمسَّح منه وبه .
{ عَفُوّاً غَفُوراً } : أي مسامحاً لعباده ، متجاوزاً عمّا صدر منهم من خطأٍ وتقصير .
المعنى الإجمالي
نهى الله عباده المؤمنين عن أداء الصلاة في حالة السكر ، لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته تعالى بكتابه وذكره ودعائه ، وقد كان هذا قبل أن تحرم الخمر ، وكان تمهيداً لتحريمه تحريماً باتاً ، إذ لا يأمن من شرب الخمر في النهار أن تدركه الصلاة وهو سكران ، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر .(1/219)
والمعنى : يا أيها المؤمنون لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا ما تقولون وتقرؤون في صلاتكم ، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلاّ إذا كنتم مسافرين فإذا اغتسلتم فصلوا . وإن كنتم مرضى ويضركم استعمال الماء ، أو مسافرين ولم تجدوا الماء ، أو أحدثتم ببول أو غائط حدثاً أصغر ، أو غشيتم النساء حدثاً أكبر ، ولم تجدوا ماءً تتطهرون به ، فاقصدوا صعيداً طيباً من وجه الأرض فتطهروا به ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا ، ذلك رحمة من ربكم وتيسير عليكم ، لأن الله يريد بكم اليسر ، وكان الله عفواً غفوراً .
سبب النزول
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال : « صنع لنا ( عبد الرحمن بن عوف ) طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت » قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون « قال ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
قال الفخر الرازي : فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر ، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في المائدة .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { أَوْ لامستم النسآء } وقرأ حمزة والكسائي ( لَمَسْتُم النّسَاءَ ) بغير ألف .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ سكارى } مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير الفاعل في تقربوا .
2 - قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً } صعيداً مفعول تيمموا أي قصدوا صعيداً ، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بصعيد .
3 - قوله تعالى : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ } قال العكبري : الباء زائدة أي امسحوا وجوهكم به .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ورد التعبير بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى } والنهي بهذه الصيغة أبلغ من قوله : » لا تصلوا وأنتم سكارى « فإذا حرم قربان الصلاة ففعلها وأداوها يكون ممنوعاً من باب أولى فهو كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] .
قال أبو السعود : » وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك ، وقيل : المراد النهي عن قربان المساجد ويأباه قوله تعالى : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } .
اللطيفة الثانية : التدرج في تحريم الخمر بهذه الطريقة الحكيمة التي سلكها القرآن الكريم برهان ساطع على عظمة الشريعة الغراء ، فإن العرب كانوا يشربون الخمر كما يشرب أحدنا الماء الزلال ، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لثقل عليهم تركها ، ولما أمكن اقتلاع جذورها من قلوبهم ، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : « أول ما نزل من القرآن من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، فلما ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمرة لقالوا : لا ندع الخمرة أبداً » .(1/220)
اللطيفة الثالثة : التعليل بقوله تعالى : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فيه إشارة لطيفة إلى أن المصلي ينبغي عليه أن يكون خاشعاً في صلاته يعرف ما يقوله من تلاوة ، وذكر ، وتسبيح ، وتمجيد ، فقد نهى سبحانه السكران عن الصلاة لأنه فاقد التمييز لا يعرف ماذا قرأ؟ فإذا لم يعرف المصلي المستغرق بهموم الدنيا كم صلى ، وماذا قرأ؟ فقد أشبه السكران ، ولهذا ورد عن بعضهم تفسير السكر بأنه السكر من النوم والنعاس ، وهو صحيح في المعنى ولكنه بعيد في التفسير لا يناسبه سبب النزول .
اللطيفة الرابعة : طريقة القرآن الكريم ( الكناية ) عمّا لا يحسن التصريح به من الألفاظ ، وهذا أدب من آداب القرآن لإرشاد الأمة إلى سلوكه عند تخاطبهم ، فقد كنّى عن الحدث بالمجيء من الغائط ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض يقصده الإنسان لقضاء حاجته تستراً واستخفاءً عن الأبصار ، ثم صار حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال ، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن ومجامعتهن ، ولمّا كان لفظ الجماع لا يجمل التصريح به فقد أورده بالكناية { أَوْ لامستم النسآء } .
ففي الآية الكريمة كنايتان وهما من لطيف العبارة ورائع البيان .
اللطيفة الخامسة : قال في « البحر المحيط » : « وفي الآية تغليب الخطاب ، إذ قد اجتمع خطاب وغيبة فالخطاب { كُنْتُمْ مرضى } و { لامستم النسآء } والغيبة قوله : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كنّى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين ، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } وهذا من أحسن الملاحظات ، وأجمل المخاطبات ، ولمّا كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب » فتدبر هذا السر الدقيق .
اللطيفة السادسة : « روي أن الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، وانقطع عقد لعائشة رضي الله عنها ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه وليس معهم ماء ، فأغلظ ( أبو بكر ) على عائشة وقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس معهم ماء؟ فنزلت الآية ، فلما صلّوا بالتيمم وأرادوا السير بعثوا الجمل فوجدوا العقد تحته » ، فقال ( أسيد بن حضير ) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، يرحمك الله يا عائشة فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً وفرجاً .(1/221)
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد من قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى } .
اختلف العلماء في المراد من الصلاة في الآية الكريمة ، فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة ، وهو مذهب ( أبي حنيفة ) ومروي عن ( علي ) و ( مجاهد ) و ( قتادة ) .
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة وهي المساجد ، وأن الكلام على حذف مضاف ، وهو مذهب ( الشافعي ) ومروي عن ابن مسعود ، وأنس ، سعيد بن المسيب .
استدل الفريق الأول بأنّ الله تعالى قال : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة ، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر ، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة من قراءة ، ودعاءٍ ، وذكر ، يمنع منها السكر ، فكان الحمل على ظاهر اللفظ أولى .
واستدل الفريق الثاني بأن القرب والبعد أولى أن يكون في المحسوسات فحمله على المسجد أولى ، ولأنّا إذا حملناه على الصلاة لم يصحّ الاستثناء في قوله { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء ، وكان المراد به النهي عن دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور .
فسرّ الحنفية ( عابر السبيل ) بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصّلي ، وقد اختار الطبري القول الأول وهو الظاهر المتبادر لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى . ويؤيد ذلك ما ورد في سبب النزول .
قال في « تفسير المنار » : « والمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية ، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد ، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي ، وفي التنزيل خاصة { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته » .
وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي وهو هل يحل للجنب دخول المسجد؟
فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة كقوله عليه السلام : « فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض » وغير ذلك من الأدلة .
وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصاً في حرمة دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث .
الحكم الثاني : ما هي الأسباب المبيحة للتيمم؟
ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم وهي أربعة ( المرض ، السفر ، المجيء من الغائط ، ملامسة النساء ) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء ، والمرض أياً كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء ، وكذلك ملامسة النساء ، والمجيء من الغائط عند عدم الماء ، لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فهذا القيد راجع إلى الكل ، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء ، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال فيكون كالفاقد للماء ، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكماً ، ويدل عليه ما ورد في السنة المطهرة من حديث جابر رضي الله عنه قال :(1/222)
« خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منّا حجرٌ فشجه في رأسه ، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه ، قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال » .
ويدل عليه أيضاً ما روي « عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : » يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله يقول : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً « » .
قال ابن تيمية : في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة .
بقي أنه ما الفائدة إذاً من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح ، كلهم على السوء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
أجاب المفسّرون عن ذلك بأن المسافر لمّا كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء ، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية والله أعلم .
الحكم الثالث : ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟
اختلف السلف رضوان الله عليهم في المراد من الملامسة في قوله تعالى : { أَوْ لامستم النسآء } فذهب علي ، وابن عباس ، والحسن إلى أن المراد به الجماع ، وهو مذهب الحنفية . وذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي إلى أن المراد به اللمس باليد ، وهو مذهب الشافعية .
قال ابن جرير الطبري : « وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لامستم النسآء } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم روى » عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل ، ثم يصلي » ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قال عروة : قلتُ : من هي إلاّ أنت؟ فضحكت « » .(1/223)
وقد اختلف الفقهاء في مسّ المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال .
أ - فذهب أبو حنيفة إلى أن مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أم بغير شهوة .
ب - وذهب الشافعي إلى أن مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغير شهوة .
ج - وذهب مالك إلى أن المسّ إن كان بشهوة انتقض الوضوء ، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض .
دليل الحنفية :
استدل أبو حنيفة بأن المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبّل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ . واستدل أيضاً بما روي عن عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، قالت : فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول : أعوذ برضاك من سخطك . . .
وأما الآية فهي كناية عن الجماع كما نقل عن ابن عباس ، واللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلاّ أنه قد عهد في القرآن استعماله بطريق الكناية مثل قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وقوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] .
دليل الشافعية :
واستدل الشافعي بظاهر الآية الكريمة فقال : إن اللمس حقيقة في المس باليد ، وفي الجماع مجاز أو كناية ، والأصل حمل الكلام على حقيقته ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة ، وقد ترجح ذلك بالقراءة الثانية { أو لمستم النساء } فكان حمله على ما قلنا أولى .
قال الإمام ابن رشد في « بداية المجتهد » : « وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب ، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد ، ومرة تكني به عن الجماع ، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله { أَوْ لامستم النسآء } وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد ، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد ، وينطلق مجازاً على الجماع ، وإذا تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز .
وقال الآخرون : إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة ، كالحال في اسم » الغائط « الذي هو أدل على الحدث الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة .
ثم قال : والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين إلاّ أنه أظهر عندي في الجماع ، وإن كان مجازاً لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس » .
الترجيح : ولعل هذا الرأي يكون أرجح ، لأنّ به يمكن التوفيق بين الآية الكريمة والآثار السابقة ، ولأنه قد تعورف عند إضافة المس إلى النساء معنى الجماع ، حتى كاد يكون ظاهراً فيه ، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم ، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع والله أعلم .(1/224)
الحكم الرابع : ما المراد بالصعيد الطيب في الآية الكريمة؟
اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فقال بعضهم : إنه التراب ، وقال بعضهم : إنه وجد الأرض تراباً كان أو غيره ، وقال آخرون : هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس . وبناءً على هذا الاختلاف اللغوي اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم .
أ - فقال أبو حنيفة : يجوز التيمم بالتراب وبالحجر وبكل شيء من الأرض ولو لم يكن عليه تراب .
ب - قال الشافعي : بل لا بدّ من التراب الذي يلتصق بيده ، فإذا لم يوجد التراب لم يصح التيمم .
حجة أبي حنيفة : احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال : التيمم هو القصد ، والصعيد ما تصاعد من الأرض فقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أي اقصدوا أرضاً طاهرة ، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً ، واشترط تلميذه ( أبو يوسف ) أن يكون المتيمَم به تراباً أو رملاً .
حجة الشافعي : واحتج الشافعي من جهتين : الأول أن الله تعالى أوجب كون الصعيد طيباً ، والأرض الطيبة هي التي تُنبت ، بدليل قوله تعالى : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [ الأعراف : 58 ] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة .
والثاني : أن الآية مطلقة هنا ، ومقيدة في سورة المائدة بكلمة ( منه ) في قوله تعالى : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] وكلمة ( من ) للتبعيض ، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب .
الترجيح : ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لا سيما وقد خصصه النبي عليه السلام به في قوله : « التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تحريم الصلاة على السكران حال السكر حتى يصحو ويعود إليه رشده .
2 - تحريم الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد على الجنب حتى يغتسل .
3 - المريض والمسافر والمحدث حدثاً أصغر أو أكبر يجوز لهم التيمم إذا فقدوا الماء .
4 - التراب طهور المسلم عند فقد الماء ولو دام ذلك سنين عديدة .
5 - التيمم يكون بمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بالتراب الطاهر .(1/225)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
[ 6 ] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام
التحليل اللفظي
{ فَتَحْرِيرُ } : التحرير من الحرية ، وهو كما قال الراغب : جعل الإنسان حراً ، وإخراج العبد من الرق إلى الحرية يسمى تحريراً ، والحر في الأصل : الخالص ، وسمي الإنسان حراً لأنه تخلّص مما يكدّر إنسانيته ، ومنه قوله تعالى : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] أي مخلصاً للعبادة .
الدية : ما تعطى عوضاً عن دم القتيل إلى وليه ، قال في « اللسان » : الدية حق القتيل ، والهاء عوض عن الواو ، تقول : وديتُ القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته .
وفي « التهذيب » : ودى فلان فلاناً إذا أدّى ديته إلى وليه ، وأصل الدية ودية فحذفت الواو ، كما قالوا : شيه من الوشي . وقد خصص الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس ، دون ما الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس ، دون ما يؤدي في المتلفات وبدل الأطراف .
{ مُّسَلَّمَةٌ } : أي مدفوعة ومؤداة إلى أهل القتيل .
{ يَصَّدَّقُواْ } : أي يتصدقوا عليهم بالدية فأدغمت التاء في الصاد ، والمعنى إلا أن يعفوا ويسقطوا حقهم في الدية ، وسمي صدقة لأنه معروف وقد قال صلى الله عليه وسلم : « كل معروف صدقة » .
{ مِّيثَاقٌ } : أي عهد وذمة ، قال الراغب : الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد .
{ ضَرَبْتُمْ } : الضرب له معان : منها الضرب باليد ، والعصا ، والسيف ، ومنها الضرب في الأرض بمعنى السفر ، وسمي به لأن المسافر يضرب دابته بالعصا لتسير به ، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره .
ومعنى الآية : إذا سافرتم في سبيل الله لجهاد أعدائكم .
{ فَتَبَيَّنُواْ } : التبين طلب بيان الأمر ، والمراد التأني واجتناب العجلة ، ومنه البينة أي تثبتوا وتحققوا قال تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] .
{ السلام } : السّلام والسّلْم بمعنى واحد وهو إلقاء السلاح والاستسلام ، ومعنى الآية : لا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا .
{ عَرَضَ } : سمي متاع الحياة الدنيا عَرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت ، وكل شيء يقل لبثه يسمى عرضاً وفي الحديث : « الدنيا عَرضٌ حاضر ، يأكل منها البر والفاجر » .
وفي « اللسان » : العَرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي التنزيل { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [ الأعراف : 169 ] وعرض الدنيا ما كان من مال قلّ أو كثر .
{ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } : المغانم جمع مغنم وهو ما يغنمه الإنسان من عدوه ، والمراد به هنا الفضل الواسع والرزق الجزيل قال الطبري : المعنى : « لا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه » .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : « ما كان من شأن المؤمن ولا ينبغي له أن يقدم على قتل مؤمنٍ ، إلا إذا وقع هذا القتل خطأ ، فإذا حصل ووقع القتل بطريق الخطأ ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة ، ودية مسلّمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته ، إلاّ إذا عفوا عنه وأسقطوا الدية باختيارهم فلا تجب حينئذٍ ، وإذا كان المقتول مؤمناً وأهله من أعدائهم فالواجب على قاتله عتق رقبة مؤمنة ، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون ، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم وأما إذا كان المقتول معاهداً أو ذمياً ، فالواجب في قتله كالواجب في قتل المؤمن ، دية مسلّمة إلى أهله تكون عوضاً عن حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى ، فمن لم يجد الرقبة التي يحررها فعليه صوم شهرين قمريين متتابعين ، توبة من الله على عباده المذنبين وكان الله عليماً بما يصلح الناس حكيماً في تشريعه .(1/226)
ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن عمداً ، وغلّظ في العقوبة لأن جرمه عظيم ، ولم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعّد به الكافرين ، وهو الخلود في جهنم ، واستحقاق غضب الله ولعنته ، عدا العذاب الشديد الذي أعده الله له يوم القيامة . وقد ختم الله هذه الآيات الكريمة بأمر المؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره ، فلم يعلموا هل هو مسلم أم كافر؟ فلا يقدموا على قتله إلا بعد التحقق من كفره ، وأمّا إذا استسلم وأظهر الإسلام فلا يحل قتله ، طمعاً في متاع الدنيا الزائل ، وقد ذكّرهم بأنهم كانوا مشركين كفاراً فمنّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام ، وكفى بها نعمة!!
سبب النزول
1 - روي أن ( عيّاش بن أبي ربيعة ) - وكان أخاً لأبي جهل من أمه - أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة ، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع ، فخرج أبو جهل ومعه ( الحارث بن يزيد ) فأتياه ، فقال أبو جهل : أليس محمد يأمرك بصلة الرحم؟ انصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك ، فرجع فلما دنوا من مكة قيّدوا يديه ورجليه ، وجلده أبو جهل مائة جلدة ، وجلده الحارث مائة أخرى ، فقال للحارث : هذا أخي فمن أنت؟ لله عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك ، فلما دخل على أمه حلفت ألا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ، ففعل ثم هاجر بعد ذلك . وأسلم الحارث بن يزيد وهو لا يعلم بإسلامه ، فلقيه عياش خالياً فقتله ، فلما أُخبر أنه كان مسلماً ندم على فعله ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } .
ب - وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « مرّ رجل من بني سليم ينفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّم علينا إلاّ ليتعوذ منا ، فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ .(1/227)
. . } .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } ، وقرأ حمزة والكسائي ( فتثبتوا ) بالثاء .
2 - قرأ الجمهور { لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام } بفتح السين مع الألف ، وقرأ نافع وحمزة ( السّلم ) من غير ألف .
3 - قرأ الجمهور { لَسْتَ مُؤْمِناً } بكسر الميم الثانية وقرأ عكرمة ( لست مُؤمناً ) بفتح الميم من الأمَان .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً . . . } أن يقتل في محل رفع اسم كان ، ولمؤمن خبره وقوله ( إلاّ خطأً ) استثناء منقطع والمعنى : لكن إن قتل خطأً فحكمه كذا ، ومثّل له الطبري بقول الشاعر :
من البيضِ لم تَظْعنْ بعيداً ولم تَطَأْ ... على الأرض إلاّ ريط بُرْد مُرحّل
ثانياً قوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } خطأً صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره قتلاً خطأً ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره : قتله خاطئاً .
ثالثاً : قوله تعالى : { تَوْبَةً مِّنَ الله } توبة مفعول لأجله أي شرع لكم ذلك توبة منه .
رابعاً : قوله تعالى : { لَسْتَ مُؤْمِناً } مؤمناً خبر ليس والجملة مقول القول ، وجملة ( تبتغون عرض الحياة ) في محل نصب على الحال من فاعل تقولوا أي لا تقولوا ذلك مبتغين عرض الحياة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : النفي في مثل هذا الموطن يسمى ( نفي الشأن ) وهو أبلغ من نفي الفعل كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] وقوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } [ التوبة : 17 ] فهو استبعاد للفعل بطريق البرهان كأنه يقول : ليس من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن أن يقتل أحداً من أهل الإيمان ، إذ لا يتصور أن يصدر منه مثل هذا العفل لأن إيمانه - وهو الحاكم على تصرفه وإرادته - يمنعه من اجتراح القتل عمداً ، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأً .
اللطيفة الثانية : في قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مجاز مرسل علاقته ( الجزئية ) أطلق الرقبة وقصد به المملوك من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] وهو مجاز مشهور .
اللطيفة الثالثة : التعبير بهذا الأسلوب اللطيف { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } وتسمية العفو بالصدقة ، فيه حثٌ على فضيلة العفو ، وتنبيه الأولياء إلى أنّ عفوهم عن القاتل ، وعدم أخذ الدية هو في نفسه صدقة وهو من مكارم الأخلاق التي يرغب فيها الإسلام .
اللطيفة الرابعة : وردت عقوبة قتل المؤمن عمداً في غاية التغليظ والتشديد { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } فقد حكمت الآية على القاتل بعقوبات ثلاث : 1 - الخلود في جهنم 2 - واستحقاق الغضب واللعنة 3 - والعذاب الشديد الذي أعده الله له في الآخرة ، ولهذا جاء في الحديث الشريف :(1/228)
« لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن » وفي الحديث أيضاً : « من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله » ولهذا أفتى ابن عباس بعدم قبول توبة القاتل .
قال صاحب « الكشاف » : « والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ، وقول ابن عباس يمنع التوبة ، ثم يطمعون في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبةٍ { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] »؟
اللطيفة الخامسة : الخلود في جهنم لقاتل المؤمن محمول على من استحلّ قتله ، أو المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود بمعنى طول المدة والبقاء قال زهير :
ألا لا أرى على الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
والعرب تقول : خلّد الله ملكه ، وتقول : لأخلدّن فلاناً في السجن ، مع أنه لا شيء في الدنيا يدوم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي أنواع القتل ، وفي أيها تجب الكفارة؟
أوجب الله تعالى ( القصاص ) في القتل في آية البقرة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] وأوجب ( الدية والكفارة ) في القتل الخطأ في الآية التي معنا ، فيعلم أنّ الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ .
ذهب مالك رحمه الله إلى أن القتل إمّا عمد ، وإمّا خطأ ، ولا ثالث لهما ، لأنه إما أن يقصد القتل فيكون عمداً ، أو لا يقصده فيكون خطأ ، وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ .
وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن القتل على ثلاثة أقسام ( عمد ، وخطأ ، وشبه عمد ) .
أما العمد : فهو أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت كسيفٍ ، أو سكين ، أو سلاح ، فهذا عمد يجب فيه القود ( القصاص ) لأنه تعمد قتله بشيء يقتل في الغالب .
وأما الخطأ : فهو ضربان : أحدهما : أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فيصيب مسلماً .
والثاني : أن يظنه مشركاً بأن كان عليه شعار الكفار فيقتله ، والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد .
وأما شبه العمد : فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالباً فيموت فيه ، أو يلطمه بيده ، أو يضربه بحجر صغير فيموت ، فهذا خطأ في القتل وإن كان عمداً في الضرب .
قال القرطبي : « وممن أثبت شبه العمد الشعبي ، والثوري ، وأهل العراق ، والشافعي ، وروينا ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو الصحيح ، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها ، فلا تستباح إلاّ بأمر بيّن لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال لأنه لما كان متردداً بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ، فالضرب مقصود ، والقتل غير مقصود ، فيسقط القَود وتغلّظ الدية ، وبمثل هذا جاءت السنة ، روى أبو داود من حديث ( عبد الله بن عمرو ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/229)
« ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها » .
حجة الجمهور :
وحجة الجمهور في إثبات ( شبه العمد ) أن النيات مغيبة عنا لا اطلاع لنا عليها ، وإنما الحكم بما ظهر ، فمن ضرب آخر بآلة تقتل غالباً حكمنا بأنه عامد ، لأن الغالب أن من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل ، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالباً كان متردّداً بين العمد والخطأ ، فأطلقنا عليه شبه العمد ، وهذا بالنسبة إلينا إلا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر ، إذ هو في الواقع إمّا عمد ، وإمّا خطأ ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب ، وأشبه الخطأ من جهة أن الآلة لا تقتل غالباً ، ولما لم يكن عمداً محضاً سقط القود ، ولما لم يكن خطأ محضاً لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلّظة .
واستدلوا بالحديث السابق وبما رواه أحمد ، وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال : « ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلّظة . . » الحديث . الحكم الثاني : ما هو القتل العمد ، وما هي عقوبته؟
القتل العمد يوجب القصاص ، والحرمان من الميراث ، والإثم وهذا باتفاق الفقهاء ، أما الكفارة فقد أوجبها الشافعي ومالك ، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهو مذهب الثوري .
قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى .
وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى ، وحيث لم تذكر في العمد فلا كفارة .
قال ابن المنذر : « وما قاله أبو حنيفة به نقول ، لأن الكفارات عبادات وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضاً يلزمه عباد الله إلا بكتابٍ ، أو سنة ، أو إجماع ، وليس مع من فرض على القاتل عمداً كفارةً حجةٌ من حيث ذكرت » .
وقد اختلفوا في معنى العمد وشبه العمد على أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة :
1- العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه مثل الذبح ، أو بكل شيء محدّد أو بالنار وما سوى ذلك من القتل بالعصا أو بحجر صغيراً كان أو كبيراً فهو شبه العمد ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله .
2 - العمد كل قتلٍ من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، بما يقتل مثله في العادة ، وشبه العمد ما لا يقتل مثله ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله .
3 - العمد ما كان عمداً في الضرب ، والقتل ، وشبه العمد ما كان عمداً في الضرب ، خطأ في القتل أي ما كان ضرباً لم يقصد به القتل وهذا قول الشافعي رحمه الله .(1/230)
الترجيح : ما ذهب إليه ( أبو حنيفة ) رحمه الله من جعل كل قتلٍ بغير الحديد شبه عمد ضعيفٌ ، فإن من ضرب رأس إنسان بمثل ( حجر الرحى ) قتله وادّعى أنه ليس عامداً كان مكابراً ، والمصلحة تقضي بالقصاص في مثله ، لأن الله شرع القصاص صوناً للأرواح عن الإهدار ، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد الشافعي هو الأصح والله أعلم .
الحكم الثالث : ما هي شروط الرقبة وعلى مَن تجب؟
أوجب الله في القتل الخطأ أمرين : 1 - عتق رقبة مؤمنة . ب - ودية مسلّمة إلى أهله .
فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن : لا تجزئ الرقبة إلاّ إذا صامت وصلّت .
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : يجزئ الغلام والصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً .
ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان إحداهما تجزئ ، والأخرى لا تجزئ إلا إذا صامت وصلت .
حجة الأولين : أن الله تعالى شرط الإيمان ، فلا بدّ من تحققه ، والصبي لم يتحقق منه ذلك .
وحجة الجمهور : أن الله تعالى قال : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً } فيدخل فيه الصبي ، فكذلك يدخل ف قوله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } .
قال ابن كثير : « والجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواءً كان صغيراً أو كبيراً » .
وقد اتفق الفقهاء على أن الرقبة على القاتل ، وأما الدية فهي على العاقلة .
الحكم الرابع : على مَن تجب الدية في القتل الخطأ؟
اتفق الفقهاء على أن الدية على عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين ، كل سنة ثلثها ، والعاقلة هم عصبته ( قرابته من جهة أبيه ) .
قال في « المغني » : « ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الخطأ على العاقلة » .
وقال ابن كثير : « وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله قال الشافعي : لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في » الصحيحين « عن أبي هريرة قال : » اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها ( غرة ) عبدٌ أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها « .
تنبيه : فإن قيل : كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته والله تعالى يقول : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] ويقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] ؟
فالجواب : أن هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره ، لأن الدية على القاتل ، وتحميل ( العاقلة ) إيّاها من باب المعاونة والمواساة له ، وقد كان هذا معروفاً عند العرب وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق ، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ، والمعاونة والمواساة والتناصر وتحمل المغارم ، كل هذا ممّا يقوّي الألفة ويزيد في المحبة فلذلك أقره الإسلام .(1/231)
الحكم الخامس : كم هو مقدار الدية في العمد والخطأ؟
اتفق العلماء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة ، وهي مائة من الإبل تؤخذ نجوماً على ثلاث سنين وتجب أخماساً لما رواه ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكوراً ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة ، وعشرين حقة « .
وأما دية شبه العمد فهي مثلّثة ( أربعون خلفة ، وثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ) وتجب على العاقلة أيضاً ، وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور في قوله ، وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد ، وتجب على مال القاتل .
قال القرطبي : » أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد ، وأنها في مال الجاني « .
وقال ابن الجوزي : » والدية للنفس ستة أبدال : من الذهب ألف دينار ، ومن الورق ( الفضة ) اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقر مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل مائتا حلة ، فهذه دية الذكر الحر المسلم ، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك « .
وهذا قول جمهور الفقهاء ووافقهم أبو حنيفة في ذلك إلا أنه قال في الفضة عشر آلاف درهم لا تزيد .
الحكم السادس : هل للقاتل عمداً توبة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما .
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : » اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقالت : نزلت هذه الآية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء « .
وروى النسائي عنه قال : » سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال : لا ، وقرأت عليه الآية التي في [ الفرقان : 68 ] { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } .
وروى ابن جرير بسنده عن ( سالم بن أبي الجعد ) قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذاباً عظيماً . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول :(1/232)
« يجيء يوم القيامة معلّقاً رأسُه بإحدى يديه - إما بيمينه أو بشماله - آخذاً صاحبه بيده الأخرى ، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول : يا رب سل عبدك هذا علام قتلني؟ فما جاء نبيٌ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم » .
وذهب الجمهور إلى أن توبة القاتل عمداً مقبولة ، واستدلوا على ذلك ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي :
أولاً : إن الكفر أعظم من القتل العمد ، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة عن القتل أولى بالقبول .
ثانياً : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] يدخل فيه القتل وغيره .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . . } إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 68-70 ] ويه نصٌ في الباب .
رابعاً : حديث « الصحيحين » « بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . . ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه » .
خامساً : حديث مسلم في الشخص الذي قتل مائة نفس . . إلخ .
قال العلامة الشوكاني : « والحقّ أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً؟ والله أحكم الحاكمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - سفك دم المؤمن من الكبائر التي توجب الخلود في النار .
2 - القتل الخطأ فيه الكفارة والدية وليس فيه القصاص .
3 - إذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل دون الكفارة .
4 - الكفارة عتق رقبة مؤمنة فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
5 - لا يجوز التعجل بقتل إنسان لمجرد الشبهة .(1/233)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
[ 7 ] صلاة الخوف
التحليل اللفظي
{ ضَرَبْتُمْ } : الضرب في الأرض السيرُ فيها قال تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض } [ المزمل : 20 ] أي سافرون .
{ تَقْصُرُواْ } : القصر النقصُ وهو يحتمل النقص من عددها ، والنقص من صفتها وهيئتها .
قال الراغب : قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض أركانها ترخيصاً .
وقال أبو عبيد : فيها ثلاث لغات : قصَرتُ الصلاة ، وقصّرتها ، وأقْصَرتها ذكره القرطبي .
{ يَفْتِنَكُمُ } : الفتنة : الابتلاء والاختبار وتستعمل في الخير والشر قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] .
قال الراغب : والفتنة كالبلاء يستعملان في الشدة والرخاء وهما في الشدة أظهر .
{ عَدُوّاً مُّبِيناً } : أي أعداء ظاهري العداوة .
قال الطبرسي : « وإنما قال في الكافرين إنهم ( عدُوّ ) لأن لفظة فعول تقع على الواحد والجماعات » .
{ حِذْرَهُمْ } : الحِذْر بسكون الذال كالحَذر بفتحها معناه الاحتراز عن الشيء المخيف .
قال في « اللسان » : الحِذْر والحَذر الخيفة ومن خاف شيئاً اتقاه بالاحتراس من أسبابه .
قال الرازي : هما بمعنى واحد كالإِثْر والأثَر ، والمِثْل والمَثَل ، يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف . والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم .
{ تَغْفُلُونَ } : الغفلة : سهوٌ يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ ، قاله الراغب .
{ جُنَاحٌ } : الجُناحُ : الإثم ، وهو من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد .
{ قَضَيْتُمُ } : فرغتم وانتهيتم ، وقيل : معناها أديتم قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] أي أديت .
{ اطمأننتم } : أمنتم وأصله السكون يقال : اطمأن القلب أي سكن ، والمراد إذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي تعرفونها ، ويصح أن يكون المراد بالاطمئنان الإقامة .
{ كتابا مَّوْقُوتاً } : أي فرضاً محدوداً بأوقات لا يجوز التقديم أو التأخير فيها ، والتوقيت : التحديد بالوقت .
قال ابن قتيبة : « موقوتاً أي موقّتاً يقال : وقِّته الله عليهم ووقَته أي جعله لأوقات معلومة ومنه { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] .
{ تَهِنُواْ } : تضعفوا وتتوانوا من الوهن بمعنى الضعف { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] .
{ ابتغآء القوم } : أي في طلبهم ، يقال : ابتغى القوم أي طلبهم بالحرب ، والمراد بالقوم هنا الكفار .
{ تَأْلَمونَ } : الألم الوجع ، وهو من الأعراض التي تصيب الإنسان . قال في » الكشاف « : المعنى » ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم ، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم ، يصيبهم كما يصيبكم ، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم « .
{ وَتَرْجُونَ } : الرجاء معناه الأمل ، قال الزجّاج : هو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم .
وقال الراغب : الرجاء ظنّ يقتضي حصول ما فيه مسرة ، ويأتي بمعنى الخوف قال الشاعر :
إذا لسَعَتْه النَّحلُ لم يرجُ لسعها ... وحالفها في بيت نُوبٍ عوامل
{ خَصِيماً } : الخصيم بمعنى المخاصم أي المنازع والمدافع ، والمعنى : لا تكن لأجل الخائنين مخاصماً للبريئين قاله الزمخشري .(1/234)
وقال الطبري : المعنى : « لا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه » .
{ غَفُوراً رَّحِيماً } : أي كثير المغفرة والرحمة لأن ( فعولاً ) و ( فعيلاً ) من صيغ المبالغة .
المعنى الإجمالي
إذا سافرتم أيها المؤمنون وسرتم في الأرض للجهاد أو التجارة أو السياحة أو غير ذلك ، فليس عليكم حرج ولا إثم أن تقصروا من الصلاة المفروضة ، فتصلّوا الرباعية ركعتين ، لأن الإسلام دين اليسر والله تعالى يريد بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ، وخاصة إذا خفتم على أنفسكم من فتنة الكافرين ، فهم أعداء مظهرون للعداوة ، لا يراقبون الله ولا يخشونه فيكم ، ولا يمنعكم فرصة اشتغالكم بمناجاة الله أن يقتلوكم ، لأنهم أعداء لكم في كل حين وزمان .
وإذا كنت يا محمد مع أصحابك في الحرب ، وأردت أن تصلي بهم إماماً فاقسمهم طائفتين : طائفة تقف معك في الصلاة ، وطائفة أخرى تحرسك ومعهم أسلحتهم فإذا سجدت الطائفة الأولى وأدركوا ركعة فليتأخروا ولتتقدم الطائفة الأخرى التي كانت تتولى الحراسة فَلْيُصلوا معك كما فعل الذين من قبلهم ، ثم يتمموا صلاتهم . ثم أخبر تعالى بأن الكافرين يتمنون أن يصيبوا من المؤمنين غفلة ، حتى يأخذوهم على حين غرة ويحملوا عليهم حملة واحدة وهم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح ، ولهذا أمر الله تعالى بأخذ الحذر والحيطة ، ثم أخبر بأنه لا إثم عليهم إن كانت بهم جراحات أو مرض وشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم مع أخذ الحذر الشديد من الأعداء ، فإذا قضى المؤمنون الصلاة وأتموها فعليهم أن يكثروا من ذكر الله في حالة القيام والقعود والاضطجاع ، فإذا ذهب عنهم الخوف واطمأنوا فليؤدوا الصلاة كما شرعها الله ، لأن الصلاة كانت على المؤمنين فرضاً محدوداً بأوقات ، ثابتة ثبوت الكتاب في اللوح .
ثم أمر تعالى المؤمنين بألاّ يضعفوا عن قتال الكفار ، لأنهم يطلبون إحدى الحسنين : إما النصر والعزة ، وإما الشهادة والجنة ، وهم أحق بالثبات والصبر من المشركين .
وختم الله تعالى هذه الآيات الكريمة بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالحكم بين الناس بالحق والعدل الذي أعلمه به ، وألاّ يكون من أجل المنافقين خصيماً للبريئين ، وأن يستغفر الله من تحسين ظنه ببعض الناس الذين يتظاهرون بالتقى والدين وهم من المنافقين .
« وجه الارتباط بالآيات السابقة »
كان السياق في الآيات السابقة في أحكام الجهاد في سبيل الله ، ثم في أحكام الهجرة من الوطن ابتغاء مرضاة الله ، ولما كانت الصلاة فرضاً لازماً في كل حال ، لا تسقط في وقت القتال ، ولا في أثناء الهجرة ، ولا غيرها من أيام السفر ، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في حالة الحرب والسفر لذلك وردت هذه الآيات الكريمة تبيّن طريقة الصلاة في حالة الخوف وتأمر بالمحافظة على الصلاة حتى في حالة لقاء العدو ، وقد رخص لهم القصر في حالة الخوف والسفر تيسيراً على العباد ، فناسب ذكر هذه الأحكام والله تعالى أعلم .(1/235)
سبب النزول
أولاً : روى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي عيّاش الزّرقي قال : « كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } » الآية .
ثانياً : وروي أن ( طُعْمة بن أُبَيْرق ) سرق درعاً لقتادة بن النعمان ، وكان الدرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب ، حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود ، فالتمست الدرع عند طُعمة فلم توجد عنده ، وحلف مالي بها علمٌ ، فقال أصحابها : بلى والله لقد دخل علينا فأخذها ، وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق ، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهود فأخذوه ، فقال : دفعها إليّ طعمة ، فقال قوم طعمة : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليجادل عن صحابنا فإنه بريء ، فأتوه فكلّموه في ذلك فنزلت هذه الآيات { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } ليس للشرط وإنما خرج الكلام مخرج الغالب ، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ، ولهذا قال ( يَعْلَى بن أمية ) لعمر رضي الله عنه : ما لنا نقصر وقد أمّنا؟ فقال عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » .
اللطيفة الثانية : أمر تعالى المجاهدين حين شروعهم بالصلاة بعدم طرح الأسلحة ، وعبّر عن ذلك بالأخذ ( وليأخذوا أسلحتهم ) للإيذان بالاعتناء بضرورة الحذر من الكافرين ، والتنبيه على ضرورة اليقظة وعدم التساهل في الأخذ بالأسباب .
اللطيفة الثالثة : « روي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا محاراً مع أصحابه ، فنزلوا وادياً ولا يرون من العدوّ أحداً ، فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له ، فلما قطع طرف الوادي بصرَ به ( غورث بن الحارث ) فانحدر من الجبل وهو السيف ، فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه يقول : قتلني الله إن لم أقتلك وقد سلّ سيفه من غمدة فقال يا محمد : من يعصمك منيّ الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله عز وجل ، فأهوى بالسيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فزلقت رجله وسقط على الأرض ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال : من يمنعك مني الآن يا غورث؟ فقال : لا أحد ، كن خير آخذ فعفا عنه الرسول عليه السلام ، فرجع إلى قومه فقصّ عليهم قصته فآمن بعض قومه ودخلوا في الإسلام » .(1/236)
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله } أي بما عرّفك وأعلمك وأوحى إليك ، سمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور .
قال الزمخشري : كان عمر يقول : « لا يقولَّنّ أحدكم قضيتُ بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن ليجتهد رأيه ، لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ، لأن الله كان يريه إياه ، وهو منّا الظن والتكلف » .
اللطيفة الخامسة : قال الرازي : واعلم أن في الآية تهديداً شديداً ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طُعْمة ، وكان في علم الله أن ( طُعْمة ) كان فاسقاً ، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب ، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم ، بل يحمله عليه ويرغّبه فيه أشد الترغيب؟ .
اللطيفة السادسة : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يدل على وقوع المعصية منه عليه السلام وإنما هو لزيادة حسناته ورفع مقامه ، قال القاضي عياض في « الشفا » : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمورٍ لم يُنهوا عنها ، ولا أُمروا بها ، ثم عوتبوا بسببها ، إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم ، وإلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم ، وأطال في هذا المقام وأطاب ، ثم قال : وأيضاً فإن في التوبة والاستغفار معنى لطيفاً أشار إليه بعض العلماء وهو : استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } [ البقرة : 222 ] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : قصر الصلاة في السفر .
دل قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة } على مشروعية قصر الصلاة في السفر لأن قوله { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } معناه إذا سافرتم في البلاد ، ولم يشرط الله تعالى أن يكون السفر للجهاد وإنما أطلق اللفظ ليعمّ كل سفر ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على مشروعية ( قصر الصلاة ) للمسافر ثم اختلفوا هل القصر واجب أم رخصة على مذهبين :
المذهب الأول : أن القصر رخصة فإن شاء قصر وإن شاء أتم ، وهو قول الشافعي وأحمد رحمهما الله .
المذهب الثاني : أن القصر واجب وأن الركعتين هما تمام صلاة المسافر وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
وقال مالك : إن أتمّ في السفر يعيد ما دام في الوقت ، والقصر عنده سنة وليس واجباً .(1/237)
دليل المذهب الأول :
احتج الشافعية والحنابلة على عدم وجود القصر بأدلة نوجزها فيما يلي :
أ - إن ظاهر قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة } يشعر بعدم الوجوب ، لأن رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب ، ولو كان القصر واجباً لجاء اللفظ بقوله : فعليكم أن تقصروا من الصلاة ، أو فاقصروا الصلاة .
ب - ما روي أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما قدمت مكة قالت يا رسول الله قصرتُ وأتممتُ ، وصمتُ وأفطرت ، فقال : أحسنتِ يا عائشة ولم يَعِبْ عليّ .
ج - وقالوا : إن عثمان كان يتم ويقصر ولم ينكر عليه أحد الصحابة فدل على أن القصر رخصة .
د - وقالوا مما يدل على ما ذكرناه أن رخص السفر جاءت على التخيير كالصوم والإفطار ، فكذلك القصر .
دليل المذهب الثاني :
واستدل الحنفية على وجوب قصر الصلاة في السفر بأدلة نوجزها فيما يلي :
أ - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم .
ب - إن النبي صلى الله عليه وسلم التزم القصر في أسفاره كلها ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين حتى يرجع » .
ج - ما روي عن ( عمران بن حصين ) قال : « حججتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة ، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين ، وقال لأهل مكة : صلوا أربعاً فإنّا قوم سَفْرٌ » .
د - وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين ، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
ه - وما روي عن عائشة الثابت في الصحيح « فرضت الصلاة ركعتين ، ركعتين ، فزيدت في الحضر وأُقرّت في السفر » .
قالوا : فهذه هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب اتباعه وقد قال عليه السلام : « صلوا كما رأيتموني أصلي » فلمّا صلىّ في السفر ركعتين دلّ على أنه هو المفروض .
الحكم الثاني : السفر الذي يبيح قصر الصلاة .
اختلف الفقهاء في السفر الذي يبيح قصر الصلاة ، فذهب بعضهم إلى أنه لا بدّ أن يكون ( سفر طاعة ) كالجهاد ، والحج ، والعمرة ، وطلب العلم أو غير ذلك أو أن يكون مباحاً كالتجارة ، والسياحة ، وغير ذلك وهذا هو مذهب ( الشافعية والحنابلة ) .
وقال مالك : كل سفر مباح يجوز فيه قصر الصلاة ، فقد(1/238)
« روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين ، فأمره أن يصلي ركعتين » قال ابن كثير هذا حديث مرسل .
وقال أبو حنيفة والثوري وداود : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، وحجتهم في ذلك أن القصر فرضٌ معيَّنٌ للسفر لحديث عائشة السابق « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر » ولم يخصّص القرآن سفراً دون سفر فكان مطلق السفر مبيحاً للقصر حتى ولو كان سفر معصية .
قال ابن العربي في « أحكام القرآن » : « وأما من قال إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرضٌ معيّن للسفر فقد بينّا في كتاب » التلخيص « فساده ، فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفاً والتمام أصلاً ، والرّخَص لا تجوز في سفر المعصية كالمسح على الخفين » .
أقول : ما ذهب إليه الجمهور من أن السفر المباح تقصر فيه الصلاة هو الأرجح لئلا نعينه على المعصية والله تعالى يقول : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] .
الحكم الثالث : ما هو مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة؟
1 - ذهب أهل الظاهر إلى أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز القصر .
2 - وذهب الشافعية والحنابلة والمالكية إلى أن أقله يومان ، مسيرة ستة عشر فرسخاً .
3 - وذهب الحنفية إلى أن أقله ثلاثة أيام ، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً .
4 - وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم ، مسيرة ثمانية فراسخ . وقد مرت هذه الأقوال في آية الصوم مع الأدلة فارجع إليها هناك .
قال ابن العربي في الردّ على الظاهرية : « تلاعب قوم بالدين فقالوا : إنّ من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل ، وقائل هذا أعجميّ لا يعرف السفر عند العرب ، أو مستخفّ بالدين ، ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أن أفكّر فيه بفضول قلبي ، وقد كان من تقدم من الصحبة يختلفون في تقديره ، فروي عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس أنهم كانوا يقدّرونه بيوم ، وعن ابن مسعود أنه كان يقدّره بثلاثة أيام ، يعلمهم بأن السفر كل خروج تُكلّف له وأدركت فيه المشقة » .
الحكم الرابع : كيف تصلى صلاة الخوف؟
ذهب الإمام أبو يوسف رحمه الله إلى أن ما اشتملت عليه الآية من الأحكام في صلاة الخوف ، كان خاصاً بالرسول عليه السلام مع الجيش ، أخذاً من ظاهر قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } .
وذهب الجمهور إلى أن صلاة الخوف مشروعة ، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ، وقد أمرنا باتباعه والتأسي به ، والأئمة هم خلفاؤه من بعده يقيمون شريعته وملته ، فلا موجب للقول بالخصوصية .(1/239)
ثم اختلفوا في كيفية الصلاة على أقوال عديدة حسب اختلاف الروايات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام .
قال في « المغني » : « ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز » وقد اختار الإمام أحمد حديث ( سهل بن أبي حثمة ) وقد رواه الجماعة ولفظه عند مسلم كما يلي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف ، فصفهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم قام فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة ، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلّم »
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - قصر الصلاة في السفر وفي الخوف مع الإمام وغيره .
2 - وجوب الاستعداد وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء .
3 - الصلاة لها أوقات محدودة فلا يباح الإخلال بها .
4 - ضرورة الصبر وعدم الوهن والجزع من مجابهة الأعداء .(1/240)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{ أَوْفُواْ بالعقود } : يقال وَفَى بالعهد وأوفى به ومنه { والموفون بِعَهْدِهِمْ } [ البقرة : 177 ] وأوفى لغة أهل الحجاز ، والعقود جمع عقد ، وأصله في اللغة الرطب تقول : عقدتُ الحبل بالحبل ، ثم استعير للمعاني كعقد البيع والعهد وغيرهما .
قال صاحب « الكشاف » : العقد : العَهْد الموثّق شبّه بعقد الحبل ونحوه قال الحطيئة :
قوم إذا عَقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا
قومٌ هم الأنْفُ والأَذْنابُ غيرُهم ... ومَنْ يُسَوّى بأنف النّاقةِ الذنبا
والمراد بالعقود هنا ما يشمل العقود التي عقدها الله على عباده كالتكاليف الشرعية ، والعهود التي بين الناس كعقود الأمانات ، والمبايعات وسائر أنواع العقود .
{ بَهِيمَةُ الأنعام } : البهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام ، وخص في العرف بما عدا السباع والطير ، أفاده الراغب ، والأنعام جمع نَعَم بفتحتين وهي الإبل ، والبقر ، والغنم .
{ حُرُمٌ } : جمع حرام بمعنى مُحْرِم ، ومعنى الآية : غير مستحلي الصيد وأنتم في حالة الإحرام .
{ شَعَآئِرَ الله } : ما جعله عَلَماً على طاعته واحدها شعيرة ، والمراد بالشعائر هنا مناسك الحج وهو مروي عن ابن عباس ، وقيل : المراد بها حدود الله وهو منقول عن عكرمة وعطاء .
{ القلائد } : جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدي ، وكان الرجل يقلّد بعيره من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك حيث سلك .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } : أي يَكسبنّكم يقال : جرم ذنباً أي كسبه ، وفلان جارمُ أهلِه أي كاسبهم .
{ شَنَآنُ } : أي بغض يقال : شنأته إذا أبغضته ، والشانيء المبغض قال تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } [ الكوثر : 3 ] .
والمعنى : لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم .
{ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله } : أي ذبح لغير الله ، وذكر عند ذبحه غير اسم الله وهو كقولهم : باسم اللات والعزى .
{ والموقوذة } : التي تضرب حتى تشرف على الموت ، ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة .
{ والمتردية } : الواقعة من جبلٍ أو حائطٍ أو في بئر ، يقال : تردّى أي سقط .
{ والنطيحة } : التي نطحتها شاة أخرى فمات بالنطح ، ( فعيلة ) بمعنى ( مفعولة ) أي منطوحة .
{ ذَكَّيْتُمْ } : ذبحتموه الذبح الشرعي مع ذكر اسم الله تعالى عند الذبح .
{ النصب } : قال في « اللسان » : النّصبُ صنمٌ أو حجر ، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب .
{ بالأزلام } : أي بالقداح جمع زَلَم ، والاستقسام بها أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي .
{ مَخْمَصَةٍ } : أي مجاعة ، والخَمْصَ : الجوع ، قال حاتم يذم رجلاً :
يرى الخَمْص تعذيباً وإن يلقَ شِبْعة ... يَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مبهماً
{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } : أي منحرفٍ مائلٍ إلى الإثم ، والجَنَفُ الميل قال تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] .
{ الجوارح } : جمع جارحة وهي الكواسب من سباع البهائم والطير ، من جَرَحَ إذا كسب قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] أي كسبتم وقيل : المراد كلاب الصيد .(1/241)
{ مُكَلِّبِينَ } : جمع مكلِّب بالتشديد وهو الذي يؤدب الكلاب ويعلّمها أن تصيد لأصحابها ، وإنما اشتق الاسم من الكلب مع أنه يعلّم الكلاب والبزاة وغيرها لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب .
المعنى الإجمالي
خاطب الله سبحانه المؤمنين ، فأمرهم بالوفاء بالعهود التي بينهم وبين الله والناس ، ثم ذكر ما أباح لهم من لحوم الإبل والبقر والغنم بعد الذبح ، وما حرّم عليهم من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر ما ذكر في آية المحرمات التالية ، كما ذكر الله تعالى أنه أباح الصيد لعباده إلا في حالة الإحرام .
ونهى الله تعالى في الآية الثانية عن إحلال الشعائر كالصيد في الإحرام ، والقتال في الشهر الحرام ، والتعرض للهدي والقلائد التي تهدى لبيت الله ، والتعرض لقاصدي المسجد الحرام الذين يبتغون الفضل والرضوان من الله بقتالهم أو الاعتداء عليهم ، ثم أباح الله تعالى الصيد لعباده بعد التحلل من الإحرام ، وزجرهم عن الاعتداء على الغير بسبب بغضهم لهم ، فإن الظلم ممقوت وقد حرم الله البغي والعدوان بجميع صوره وضروبه ، وأمر بالتعاون على البر والتقوى ، وعدم التعاون على الإثم والعدوان وختم الآية بالتهديد ، والوعيد لمن خالف أمر الله .
وفي الآية الثالثة عدّد الله تعالى المحرمات التي ذكرها بالإجمال في أول السورة { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } فبينها هنا بالتفصيل وهي أحد عشر شيئاً كلها من قبيل المطعوم إلا الأخير وهو ( الإستقسام بالأزلام ) وهذه المحرمات هي التي كان أهل الجاهلية يستحلونها فحرمتها الشريعة الإسلامية وهي ( الميتة ، الدم ، لحم الخنزير ، ما ذبح لغير الله ، المنخنقة ، الموقوذة ( المقتولة ضرباً ) المتردية ( الساقطة من علو فماتت ) النطيحة ( المقتولة بنطح أخرى ) ( ما أكل السبع ) بعضه إلا إذا أدرك قبل الموت من هذه الأشياء فذبح ، الذبح الشرعي ، وما قصد بذبحه النصب ( الأصنام ) وكذلك حرّم الله تعالى الاستقسام بالأقداح التي هي - على زعمهم - استشارة للآلهة في أمورهم ، فإن أمرتهم ائتمروا ، وإن نهتهم انتهوا ، وبيّن الله تعالى أن هذا فسق من عمل الشيطان .
وختم الله تعالى الآيات الكريمة بأنه أكمل الدين وأتم الشريعة ، وأحل الطيبات ، وحرّم الخبائث إلا في حالة الاضطرار ، التي يباح فيها للإنسان ما حرّمه الله تعالى عليه .
سبب النزول
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين كانوا يحجون البيت ، ويهدون الهدايا ، ويعظّمون المشاعر وينحرون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } بفتح النون في ( شنَآنُ ) ، وقرأ ابن عامر بسكون النون .
2 - قرأ الجمهور { أَن صَدُّوكُمْ } أي من أجل أن صدوكم ، وقرأ ابن كثير بالكسر ( إن صدوكم ) على أنها شرطية .
3 - قرأ الجمهور { وَمَآ أَكَلَ السبع } بضم الباء ، وقرأ أبو رزين ( السّبْعُ ) بسكون الباء .(1/242)
4 - قرأ الجمهور { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } بضم الصاد ، وقرأ الحسن ( النّصْب ) بسكون الصاد .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : نهى الله تعالى عن التعرض للهدي ثم خصّ بالذكر ( القلائد ) أي ذوات القلائد فيكون هذا من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] للتنبيه على زيادة الشرف والفضل ، ويجوز أن يكون المراد القلائد نفسها ، فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي لا تحِلّوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما في قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] نهى عن إبداء الزينة مبالغة عن إبداء مواقعها .
اللطيفة الثانية : جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبيّة العمياء ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) وهو المبدأ الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله :
وهل أنا إلاّ من غُزَيَّة إن غوتْ ... غويتُ وإن ترشد غُزيةُ أرشد
وجاء الإسلام بهذا المبدأ الإنساني الفاضل الذي عبّر القرآن الكريم بقوله : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] وشتان شتّان بين هذين المبدأين!!
اللطيفة الثالثة : الاستقسام بالأزلام أي بالقداح ، وقد كانوا في الجاهلية إذا أرادوا سفراً ، أو غزواً ، أو تجارةً أو نكاحاً ، أو اختلفوا في أمر نسبٍ ، أو أمر قتيل ، أو تحمل عقل ، أو غير ذلك من الأمور العظام ، جاءوا إلى ( هُبل ) أعظم أصنامهم بمكة وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح ، حتى يجيلُها لهم ويستشيروا آلهتهم ( الأصنام ) فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر ، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا ، وإن خرج غُفْل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك وسمّاه فسقاً .
اللطيفة الرابعة : في قوله تعالى : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } لم يرد يوماً بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقول الرجل : كنتُ بالأمس شاباً وأنا اليوم أشَيَبُ ، فلا يريد بالأمس الذي قبل اليوم ، ولا باليومِ اليوم الذي هو فيه ، بل يريد به الزمان الماضي والحاضر .
اللطيفة الخامسة : نزلت هذه الآية الكريمة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، في يوم جمعة ، فكان ذلك اليومُ عيداً على عيد ، روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين : آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أيَّ آية تعني؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، والساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم جمعة .
و « روي أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر؟ قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا ، وإنه لا يكمل شيء إلا نقص ، فقال : صدقت ، فكانت هذه الآية نَعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لبث بعد ذلك إلاّ إحدى وثمانين يوماً » .(1/243)
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالعقود في الآية الكريمة؟
قال بعض العلماء : المراد بالعقود عقود الدّيْن والمعاملة ، وهي ما عقدة الإنسان على نفسه من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغير ذلك ممّا يتعامل به الناس ، وهو قول الحسن .
وقال آخرون : المراد بها عقود الشريعة من حج ، وصيام ، واعتكاف ، وقيام ، ونذور وما أشبه ذلك من الطاعات ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، ورجّحه الطبري .
والصحيح كما قال القرطبي وجمهور المفسرين أن المراد بالعقود ما يشمل عقود المعاملة وعقود الشريعة وهي التكاليف والواجبات الشرعية التي فرضها الله على عباده ، وما أُحل وحرّم عليهم .
قال القرطبي : قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقد بعضكم على بعض . وهذا كله راجع إلى القول بالعموم ، وهو الصحيح في الباب ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » .
الحكم الثاني : المحرمات من الأنعام التي أشارت إليها الآية الكريمة .
ذكرت الآية الكريمة المحرمات من الأنعام بالتفصيل وهي ( الميتة ، الدم ، لحم الخنزير ، ما ذبح للأصنام أو ذكر عليه اسم غير الله ، المنخنقة ، الموقوذة ، المتردية ، النطيحة ، فما أكله السبع أي ما افترسه ذو ناب وأظفار كالذئب والأسد ) وقد استثنى الباري جل وعلا من ( الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكله السبع ) ما أدركه الإنسان حياً فذكاه التذكية الشرعية .
وقد اختلف الفقهاء في الذكاء هل تحل هذه الأنواع التي لها حكم الميتة؟ فالمشهور من مذهب الشافعية وهو مذهب الحنفية أن الحيوان إذا أُدرك وبه أثر حياة كأن يكون ذنبه يتحرك ، أو رجله تركض ثم ذَكّي فهو حلال .
وقال بعضهم : يشترط في الحياة أن تكون مستقرة ، وهي التي لا تكون على شرف الزوال ، وعلامتها على ما قيل : أن يضطرب بعد الذبح لا وقته .
وروي عن مالك أنه إذا غلب على الظن أنه يهلك فلا يحل ولا يؤثر فيه الذكاة ، وروي عنه قول آخر مثل قول الشافعية والحنفية أنه يحلّ إذا كان به أدنى ما يدرك به الذكاة .
وسبب الخلاف بين الفقهاء هو الاستثناء في الآية الكريمة { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } هل هو استثناء متصل أم منقطع؟ فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من حكم التحريم ويكون معنى الآية : إلاّ ما أدركتموه وفيه بقية حياة وذكيتموه فإنه حلال لكم أكله .
ومن رأى أنه منقطع يرى أن التذكية لا تحلّ هذه الأنواع ، وأن الاستثناء من التحريم لا من المحرمات ، ومعنى الآية : حرّم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه لحلال لكم .(1/244)
والراجح أن الاستثناء متصل لأنه لو تردى الحيوان ولم يمت ثم ذبح بعد أيام جاز أكله باتفاق فلا وجه للقول الآخر والاستثناء المتصل على ما تقدم يرجع إلى الأصناف الخمسة من المنخنقة وما بعدها ، وهو قول علي وابن عباس والحسن ، وقيل : إنه خاص بالأخير ، والأول أظهر .
الحكم الثالث : كيف تكون الذكاة الشرعية؟
أ - قال مالك : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين .
ب - وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين ، لأنهما مجرى الطعام والشراب .
ج - وقال أبو حنيفة : يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين .
والتفصيل في كتب الفقه ، إلا أن مالكاً وأبا حنيفة اعتبروا الموت على وجهٍ يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام ، وذلك بقطع الأوداج التي يسيل منها الدم كقوله عليه السلام : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا » .
وأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم ، وفرى الأوداج سوى السن والظفر .
وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالسن والظفر إذا كانا منزوعين .
فأما البعير إذا توحش ، أو تردّى في بئر ، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقْرُه ، لما رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن ( رافع بن خديج ) قال : « كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره ، فندّ بعير من إبل القوم ، ولم يكن معهم خيل ، فرماه رجلٌ بسهم فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا » .
وقال مالك : ذكاتُه ذكاةُ المقدور عليه . قال الإمام أحمد : لعلّ مالكاً لم يسمع حديث رافع بن خديج .
وقد تأويل ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : الحديث بأن مفاده جواز حبس ما ندّ من البهائم بالرمي وغيره ، لأنّ ذلك ذكاة لها ، وأنه لا بدّ من الذبح للأنعام .
الحكم الرابع : حكم صيد السباع والجوارح .
دلّ قوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } أي معلمين لها الصيد ، على جواز أكل ما صاده سباع البهائم والجوارح ، كالكلب والفَهْد ، والصقر والبازي ، بشرط أن يكون الحيوان أو الطير معلّماً .
وقد اتفق الفقهاء على جواز صيد كل كلب معلّم لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم : « إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك ، فإن أكل منه فلا تأكل » .
وشرط بعضهم في الكلب المعلّم شروطاً ينبغي أن تتوفر حتى يحل صيده منها :
1 - أن يكون معلّماً يجيب إذا دعي ، وينزجر إذا زجر لقوله تعالى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } .
2 - أن لا يأكل من صيده الذي صاده لقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
3 - أن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله لقوله تعالى : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } وقوله صلى الله عليه وسلم : « وذكرت اسم الله تعالى » .
4- أن يكون الذي يصيد بهذا الحيوان مسلماً ، وشرط بعضهم ألا يكون الكلب أسود .
وفي بعض هذه الشروط خلاف بين الفقهاء يعلم من كتب الفقه والله أعلم .(1/245)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
[ 2 ] أحكام الوضوء والتيمم
التحليل اللفظي
{ وَطَعَامُ } : الطعام اسمٌ لما يؤكل وهو هنا خاص بالذبائح ، يعني ذبيحة اليهودي والنصراني حلال لنا ، كما أن ذبيحتنا حلال لهم .
{ والمحصنات } : العفائف من النساء قال الشعبي : أن تحصن فرجها فلا تزني ، وقد تقدم .
{ متخذي أَخْدَانٍ } : جمع خِدْن بمعنى صديق ، والخدْن يعق على الذكر والأنثى كذا قال صاحب « الكشاف » . وقد كان الرجل في الجاهلية يتخذ صديقة فيزني بها ، والمرأة تتخذ صديقاً فيزني بها فحرم الإسلام ذلك .
{ يَكْفُرْ بالإيمان } : أي يجحد بشرائع الإسلام ومن ضمنها أحكام الحلال والحرام .
{ حَبِطَ عَمَلُهُ } : بطل ثوابه لأن الكفر يذهب ثواب العمل الصالح { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
{ إِذَا قُمْتُمْ } : قال الزجاج : المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] . فليس المراد القيام فعلاً وإنما المراد إرادة الفعل ، كما تقول : إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب .
{ فاغسلوا } : الغَسْل بالفتح إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ وغيره .
{ وُجُوهَكُمْ } : لفظ الوجه مأخوذ من المواجهة ، وحدّه من أعلى الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً ، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً .
{ إِلَى الكعبين } : الكعبان : العظمان الناتئان من جانبي القدم ، وسمّي كعباً لعلوه وارتفاعه .
{ مِّنْ حَرَجٍ } : أي من ضيق في الدين ، فقد وسّع الله على المؤمنين حين رخّص لهم في التيمم .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : أحل لكم أيها المؤمنون المستطاب من الأطعمة ما كان منها حلالاً ، وذبائح أهل الكتاب حلال لكم وذبائحكم حلال لهم ، والعفائف من المؤمنات والعفائف الحوائر من نساء أهل الكتاب حلال لكم نكاحهن ، إذا دفعتم إليهن مهورهن ، محصنين أنفسكم بالزواج ، غير زانين ولا متخذين عشيقات وصديقات ، تزنون بهن في السرّ ، ومن يرتد عن الإسلام فقد ذهب وبطل ثوابه ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
ثمّ بيّن الله تعالى أحكام الوضوء والتيمم فقال : إذا أردتم أيها المؤمنون القيام إلى الصلاة ، وأنتم محدثون ، فاغسلوا بالماء الطاهر وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا رؤوسكم ، واغسلوا أقدامكم إلى الكعبين ، وإذا كنتم محدثين حدثاً أكبر فاغتسلوا بالماء ، وإن كنتم في حالة المرض أو السفر أو محدثين حدثاً أصغر ، أو غشيتم النساء ولم تجدوا ماءً تتوضؤون به أو تغتسلون ، فتيمّموا بالتراب الطاهر ، فامسحوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق بذلك التراب ، ما يريد الله أن يضيّق عليكم في أحكام الدين ، ولكنه تعالى يريد أن يطهركم من الذنوب والآثام ، ومن الأقذار والنجاسات ، ويتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإسلام لتشكروه على نعمه ، وتحمدوه على آلائه .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } بفتح اللام ، وقرأ حمزة وأبو عمرو ( وأرجُلِكُمْ ) بالكسر ، فقراءة النصب بالعطف على الوجوه والأيدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم وأرجلَكم ، وقراءة الجر للمجاورة ، قال ابن الأنباري : لمّا تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار .(1/246)
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } طعام مبتدأ ، وحلّ لكم خبره .
2 - قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } محصنين حال من الضمير المرفوع في آتيتموهن .
3 - قوله تعالى : { إِلَى المرافق } قال العكبري : قيل إن ( إلى ) بمعنى ( مع ) كقوله تعالى { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } [ هود : 52 ] أي مع قوتكم ، وليس هذا المختار والصحيح أنها على بابها لانتهاء الغاية . وإنما وجب غسل المرافق بالسنة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تقديم المحصنات من المؤمنات على الكتابيات يدل على تفضيل الزواج بالمؤنة فالكتابية وإن كان يحل التزوج بها ، لكنّ المؤمنة خير منها فيكون الزواج بها أفضل لقوله عليه السلام : « ألا أخبركم عن خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة . . . » الحديث والصلاح إنما يكون في المؤمنة الفاضلة ، وهذا هو السر في تقييد النكاح بالمؤمنات في سورة الأحزاب { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } [ الأحزاب : 49 ] .
اللطيفة الثانية : تقييد التحليل بإيتاء الأجور ، يدل على تأكيد وجوب المهور ، وأن من تزوج امرأة وعزم ألاّ يعطيها صداقها كان في صورة الزاني ، وتسمية ( المهر ) بالأجر دلالة على أن الصداق ليس له قدر محدود ، كما أن الأجر لا يتقدر وإنما يكون حسب الاتفاق .
اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } هو من إطلاق اسم الشيء على لازمه فهو ( مجاز مرسل ) لأن المراد ومن يكفر بكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فجعل كلمة التوحيد إيماناً ، لأنها تستلزم الإيمان ، وقيل : المراد ومن يكفر بشرائع الله ، أو بدين الله فقد حبط عمله ، وكلاهما متقارب من حيث إرادة المجاز .
اللطيفة الرابعة : مجيء المسح في آية الوضوء ضمن الأعضاء المفروض غسلها . فيه إشارة لطيفة إلى أنه ينبغي مراعاة الترتيب في الوضوء ، فيغسل الوجه أولاً ، ثم اليدين إلى المرفقين ثانياً ، ثم يمسح الرأس ، ثم يغسل القدمين ، وهذا الترتيب - وإن لم يكن واجباً في بعض الأقوال - إلاّ أنه على كل حال مطلوب ومندوب ، فيكون اتباع الهدي النبوي أكمل وأولى .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : حكم ذبائح أهل الكتاب .
ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد من قوله تعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } أي ذبائح أهل الكتاب وهو الصحيح لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات كما قال البعض ، لأن الذبائح هي التي تصير بفعلهم حلا ، وأما الخبز والفاكهة فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب وبعد أن تكون لهم ، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب .
وخُصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأن الوثنيّين لا يحل أكل ذبائحهم ، ولا التزوج بنسائهم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ }(1/247)
[ الأنعام : 121 ] وقوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] .
أما أهل الكتاب فلهم حكم خاص من حيث الذبائح ، والنكاح ، وأما المجوس فقد سُنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى ( بني تغلب ) وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخذ الشافعي رحمه الله .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به ، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله .
وإنما قال تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } ولم يذكر النساء للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة ، فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد ، والفرق واضح لأنه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات ، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن ، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً ، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً .
الحكم الثاني : حكم نكاح اليهودية أو النصرانية .
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى ، واستدلوا بهذه الآية الكريمة { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى ، واستدل أيضاً بأن الله أوجب المباعدة عن الكفار في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] .
أقول : الآية صريحة في جواز نكاح الكتابيات ، وهي دليل واضح لما ذهب إليه الجمهور ، ولعلّ ابن عمر كره الزواج بالكتابيات ومنع منه ، خشية على الزواج أو على الأولاد من الفتنة ، فإن الحياة الزوجية تدعو إلى المحبة ، وربما قويت المحبة فصارت سبباً إلى ميل الزوج إلى دينها ، والأولاد يميلون إلى أمهم أكثر ، فربما كان هذا سبباً في تأثرهم بدين النصرانية أو اليهودية فيكون هذا الزواج خطراً على الأولاد ، فإذا كان ثمة خشية من الفتنة على الزوج أو الأولاد فيكون الزواج قطعاً محرماً ، وأمّا إذا لم يكن هناك خطراً ، أو كان هناك طمع في إسلامها فلا وجه للقول بالتحريم والله أعلم .
الحكم الثالث : هل يجب الوضوء على غير المحدث؟
ظاهر قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } يوجب الوضوء على كل قائم وإن لم يكن محدثاً ، وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، فيكون قيد الحدث مضمراً في الآية ويصبح المعنى ( إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ) وإنما أوّلوا الآية بهذا التأويل للإجماع على أن الوجوب لا يجب إلا على المحدث ، ولأن في الآية ما يدل عليه ، فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه ، وقد قيد وجوب التيمم في الآية بوجود الحديث ، فالأصل يجب أن يكون مقيداً به ، ليتأتى أن يكون البدل قائماً مقام الأصل ، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال وهو مقيد بالحدث الأكبر في قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } فيكون نظيره وهو الأمر بالوضوء مقيداً بالحدث الأصغر .(1/248)
ومما يدل على ذلك « أن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال له عليه الصلاة والسلام عمداً فعلته يا عمر » يعني أنه عليه السلام أراد بيان الجواز لأمته بهذا العمل .
وأما ما ورد من أنه عليه السلام وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صلاة ، فإن ذلك لم يكن بطريق الوجوب ، وإنما كان بطريق الاستحباب ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يحب الأفضل ، فليس في فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة .
الحكم الرابع : ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟
اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعالى : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح على أقوال :
أ - قال المالكية والحنابلة : يجب مسح جميع الرأس أخذاً بالاحتياط .
ب - وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس أخذاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمسحه على الناصية .
ح - وقال الشافعية : يكفي أن يمسح أقل شيء يطلق عليه اسم المسح ولو شعرات أخذاً باليقين .
دليل المالكية والحنابلة : استدل المالكية والحنابلة على وجوب مسح جميع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة للتأكيد ، واعتبارها هنا زائدة أولى ، والمعنى : امسحوا رؤوسكم ، وقالوا : إن آية الوضوء تشبه آية التيمم ، وقد أمر الله تعالى بمسح جميع الوجه في التيمم { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } ولمّا كان المسح في التيمم عاماً لجميع الوجه ، فكذلك هنا يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح البعض ، وقد تأكد ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت أنه كان إذا توضأ مسح رأسه كله .
دليل الحنفية والشافعية : واستدل الحنفية والشافعية بأن الباء ( للتبعيض ) وليست زائدة ، والمعنى : امسحوا بعض رؤوسكم ، إلاّ أن الحنفية قدروه بربع الرأس لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر ، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته .
وأما الشافعية فقالوا : الباء للتبعيض ، وأقل ما يطلق عليه اسم المسح داخل بيقين ، وما عداه لا يقين فيه فلا يكون فرضاً ، وإنما يحمل على الندب .
قال الشافعي : « احتمل قوله تعالى : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } بعض الرأس ، ومسح جميعه ، فدلت السنة على أن مسح بعضه يجزئ ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ، وقال في موضع آخر : فإن قيل قد قال الله عز وجل { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ } في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسحُ الوجه في التيمم بدل من غسله ، فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موْضِع الغسل منه ، ومسحُ الرأس أصلٌ فهذا فرق ما بينهما » .(1/249)
قال القرطبي : « أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا : لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظِنّة الإعذار ، وموضع الاستعجال والاختصار ، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة ، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسح على العمامة » .
أقول : الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض ، وكونها زائدة خلاف الأصل ، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو ، فالفرض يجزئ بمسح البعض ، والسنّة مسح الكل ، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر ، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم .
الحكم الخامس : ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟
الجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة ، وقراءة القرآن ، ومسّ المصحف ، ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب لقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } ، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لحصول الجنابة سببين :
الأول : نزول المني للحديث الشريف « الماء من الماء » أي يجب الاغتسال بالماء من أجل الماء أي المني .
والثاني : التقاء الختانين لقوله عليه السلام : « إذا التقى الختانان وجب الغسل » .
وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه عليه الصلاة والسلام قال لها : « إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصليّ » والإجماع على أن النفاس كالحيض .
الحكم السادس : حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل .
اختلف الفقهاء في ( المضمضة ) و ( الاستنشاق ) في الغسل ، فقال المالكية والشافعية لا يجبان فيه ، وقال الحنفية والحنابلة يجبان .
حجة المالكية والشافعية ما روي أن قوماً كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الغسل ، وكلٌ يبيّن ما يعمل فقال عليه السلام « أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت » .
وحجة الحنفية والحنابلة أن الأمر بالتطهر يعم جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة ، التي ميكن غسلها وهي ( الفم ) و ( الأنف ) فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات لقوله تعالى : { فاطهروا } .
وأجابوا عما تمسك به ( المالكية والشافعية ) بأن الغرض من الحديث بيان أنه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة ، فبيّن عليه السلام أن الواجب الغسل فقط ، وأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى .
الحكم السابع : حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء .
ظاهر الآية الكريمة يدل على جواز التيمم للمريض مطلقاً ، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أن المراد بالمريض المجدور ومن يضره الماء ، ولذلك رأى الفقهاء أن المرض أنواع :
الأول : ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو ، بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق ، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق .(1/250)
والثاني : ما يؤدي استعمال الماء إلى زيادة العلة أو بطء المرض ، وفي هذه الحالة يجوز التيمم عند المالكية والحنفية وهو أصح قولي الشافعية لحديث الجماعة الذين خرجوا في السفر فأصاب أحدهم حجرٌ في رأسه فشجَّه ثم احتلم فخاف من زيادة العلة إلخ .
الثالث : ما لا يخاف معه تلفاً ولا بطأً ولا زيادة في العلة ، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية ، لأنه لم يخرج عن كونه قادراً عن استعمال الماء ، فلا يرخص له في التيمم ، وعند المالكية يجوز له التيمم لإطلاق النص { وَإِن كُنتُم مرضى } .
الرابع : أن يكون المرض حاصلاً لبعض الأعضاء ، فإن كان الأكثر صحيحاً وجب غسل الصحيح ومسح الجريح ولا يجوز التيمم ، وإن كان الأكثر جريحاً يجوز التيمم عند الحنفية ، ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح ثم يتيمم مطلقاً ، وعند المالكية يجوز له التيمم مطلقاً .
ومن ذلك يتبين أن المريض يرخص له في التيمم ولو كان الماء موجوداً بخلاف المسافر فإن الرخصة له مقيّدة بعدم الماء .
الحكم الثامن : هل يجب في التيمم مسح اليدين إلى المرفقين؟
تقدم أن المراد بالصعيد هو التراب الطاهر على القول المختار ، والتيمم المطلوب شرعاً هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين بقصد التطهير ، والعضوان هما ( الوجه ) و ( اليدان ) إلى المرفقين عند الحنفية ، وهو أرجح القولين عند الشافعية ، وإلى الرسغين عند المالكية والحنابلة .
حجة الحنفية والشافعية أن لا أيدي في قوله تعالى : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } تشمل العضو كله ، إلاّ أن التيمم لمّا كان بدلاً عن الوضوء ، والبدل لا يخالف الأصل إلا بدليل ، وقد وجب الغسل إلى المرافق في الوضوء فيجب أن يكون المسح إلى المرافق في التيمم . واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله « التيمم ضربتان ضربة للوجه ، وضربة للذراعين إلى المرفقين » .
حجة المالكية والحنابلة : أن اليد تطلق على الكف بدليل قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] وقطع اليد إنما يكون إلى الرسغ باتفاق ، فيجزئ في التيمم ذلك .
قال في « البحر المحيط » : وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح إلى المرفقين فرضاً واجباً ، وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الرسغين وهو قول أحمد والطبري والشافعي في القديم وروي عن مالك . وروي عن الشعبي أنه يمسح كفيه فقط ، وبه قال بعض فقهاء الحديث ، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث ، ففي « مسلم » من حديث عمار(1/251)
« إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك » وعنه في هذا الحديث « وضرب بيده الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه » وللبخاري « ثم أدناهما من فيه ثم مسح بهما وجهه وكفيه » ، فهذه الأحاديث الصحيحة مبيِّنة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) .
ثانياً : إباحة نكح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات .
ثالثاً : الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة .
رابعاً : إذا فقد الماء أو تعذّر استعماله يباح حينئذٍ التيمم .
خامساً : الإسلام دين اليسر وليس في الشريعة حرج أو ضيق .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
من أهداف الشريعة الغراء العناية بطهارة الإنسان ، وتخليصه من الأقذار الحسية والمعنوية في الباطن والظاهر ، وإعداده الإعداد الروحي الذي يؤهله للوقوف في حضرة القدس ، ويسمو به آفاق مشرقة من الجلال والبهاء والكمال .
وقد شرع الإسلام الوضوء والغسل للمؤمن ليكون مظهراً دالاً على طهارة الظاهر ، كما دعا إلى اجتناب المعاصي والآثام ليكون عنواناً على طهارة الباطن ، فالوضوء والغسل إنما يقصد منهما النظافة وهي ( طهارة حسية ) تعوّد الإنسان على حياة الطهر في النفس ، والخُلُق ، والدين ، وتجعله يعتاد طريق النظافة في شتى شؤون حياته ، وفي بدنه وملبسه ومطعمه ، وقد حضّ الإسلام على ذلك لأنه دين الطهارة والنظافة { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] وطهارةُ الظاهر جزء من طهارة الباطن .
ولا عجب أن تُعنى الشريعة الغراء بطهارة الإنسان ( فالطهور شطر الإيمان ) كما قال عليه الصلاة والسلام ، وقد بين جل ثناؤه الحكمة من تشريع هذه الأحكام في ختام الآية الكريمة بقوله { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فالطهارة أساس في حياة المسلم ، وإذا كان الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بطهارة الظاهر ، فكيف يقبل من تلطخ بالقاذورات والنجاسات المعنوية فيدخله دار الإنس في جواره الكريم يوم القيامة؟!
إن الإسلام دين الطهارة وطهارة الظاهر فرع ، وطهارة الباطن أصل ، وطهارة الظاهر شرط لصحة الصلاة ، كما أن طهارة الباطن شرط لدخول الجنة { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88-89 ] وهما جميعاً سبب لمحبة الله { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } [ البقرة : 222 ] .(1/252)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
[ 3 ] حد السرقة وقطع الطريق
التحليل اللفظي
{ يُحَارِبُونَ } : المحاربة من الحرب ضد السلم ، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال ، والمراد بها في الآية محاربة أولياء الله وأولياء رسوله .
{ فَسَاداً } : الفساد ضد الصلاح ، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحاً نافعاً يقال إنه فسد ، والمراد بالإفساد في الأرض إخافة السبيل ، والقتل والجراح وسلب الأموال .
{ يقتلوا } : التقتيل : المبالغة في القتل بحيث يكون حتماً لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم .
{ يصلبوا } : التصليب : المبالغة في الصلب ، أو تكرار الصلب كما قال الشافعي ، ومعنى الصلب أن يُربط على خشبة منتصب القامة ، ممدود اليدين ، وربما طعنوه ليعجلوا قتله .
{ مِّنْ خِلافٍ } : معنى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى وتقطع الرجل اليسرى بالعكس .
{ يُنفَوْاْ } : النفي أصله الإهلاك ، ومنه النّفاية لرديء المتاع ، والنفي من الأرض هو النفي من بلد إلى بلد ، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً ، وقيل : المراد بالنفي الحبسُ .
{ خِزْيٌ } : الخزي الذي والفضيحة يقال أخزاه الله أي فضحه وأذلّه .
{ الوسيلة } : كل ما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي .
{ نَكَالاً } : أي عقوبة قال في « المصباح » : نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة أصابه بنازلة ، ونكّل به بالتشديد مبالغة ، والاسم النَّكال .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا جزاء للمفسرين في الأرض إلاّ القتل ، والصلب ، وقطع اليد والرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض عقوبة لهم وخزياً ، ذلك العذاب المذكور هو المعجّل لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هو عذاب النار ، إلاّ الذين تابوا من قطاع الطريق من قبل أن تتمكنوا منهم فاعلموا أنه غفور رحيم يغفر الذنب ويرحم العبد .
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه سبحانه ، والتقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، والجهاد في سبيله لإعلاء دينه ليفوزا بالدرجات الرفيعة ، ويكونوا من السعداء المفلحين .
ثم أخبر تعالى أن الذين كفروا بآياته ورسله لو أنّ لأحدهم ملك الدنيا بأجمعه وأضعافه معه ، ثم أراد أن يقدمه فداءً وعوضاً ليخلّص نفسه من عذاب الله ، ما تقبلّه الله منه ، لأن الله تعالى حكم بالخلود في عذاب جهنم على كل كافر ، وأن هؤلاء يتمنون أن يخرجوا من النار ، ولكن لا سبيل لهم إلى النجاة بوجه من الوجوه ، فهم في عذاب مستمر دائم . ثم ذكر تعالى عقاب كل من السارق والسارقة ، وأمر بقطع أيمانهما عند توفر الشروط ، وبيّن أن تلك العقوبة جزاء ما كسباه من السرقة ، عقوبة من الله لهما لإقدامهما على هذه الجريمة المنكرة ، وليكون هذا العقاب الصارم عبرة للناس حتى يرتدع أهل البغي والفساد ، ويأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ، وهذا التشريع هو تشريع العزيز في سلطانه الحكيم في أمره ونهيه ، الذي لا تخفى عليه مصالح العباد ، ومن ضمن حكمته أن يعفو عمن تاب وأناب ، وأصلح عمله ، وسلك طريق الأخيار(1/253)
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] .
سبب النزول
روي أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ، ففعلوا فصحوا ، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمّر أعينهم ، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا فنزلت هذه الآية { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ . . . } الآية .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة ( قابيل وهابيل ) ابني آدم عليه السلام ، وأبان فظاعة جُرم القتل ، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً ، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض ، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، وأوضح عقوبة السارق أيضاً لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض ، وضربٌ من ضروب الإفساد ، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم ، فناسب ذكر ( حد السرقة ) و ( حد قطع الطريق ) بعد ذكر جريمة القتل .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل { يُحَارِبُونَ الله } مجاز ، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب ، لما له من صفات الكمال ، وتنزهه عن الأضداد والأنداد ، فالكلام على ( حذف مضاف ) أي يحاربون أولياء الله ، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم ، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] حثاً على الاستعطاف عليهم ، ومثله ما ورد في صحيح السنة « ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني » .
اللطيفة الثانية : النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد ، يكون بالحبس ، فقد روي عن مالك أنه قال : النفي السجن ، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض ، لأنه لا يرى أحبابه ، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها .
قال الإمام الفخر : ولما حبسوا ( صالح بن عبد القدوس ) في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد :
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها ... فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى
إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
اللطيفة الثالثة : قال الزمخشري : قوله تعالى : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقال للكافر يوم القيامة : أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك ، ألا تشرك بي شيئاً فأبيت » .(1/254)
اللطيفة الرابعة : قدّم السارق على السارقة هنا { والسارق والسارقة } وأمّا في آية الزنا فقد قدم الزانية على الزاني { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] والسرّ في ذلك أن الرجل على السرقة أجرأ ، والزنى من المرأة أقبح وأشنع ، فناسب كلاً منهما المقامُ .
اللطيفة الخامسة : قال الأصمعي : قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت : ( والله غفور رحيم ) سهواً ، فقال الأعرابي : كلامُ مَنْ هذا؟ قلت : كلام الله ، قال : أعد فاعدت : والله غفور رحيم ، فقال : ليس هذا كلام الله فتنبهّتُ فقلت { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : أصبتَ ، هذا كلام الله ، فقلت : أتقرأ القرآن؟ قال : لا ، قلت : فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال : يا هذا ، عزّ ، فحكم ، فقطع ، ولو غفر ، ورحم لما قطع « أقول : هذا يدل على ذكاء الأعرابي وشدة الترابط والانسجام بين صدر الآية وآخرها .
اللطيفة السادسة : قال بعض الملحدين في الاعتراض على الشريعة الغراء بقطع اليد بسرقة القليل ، ونظم ذلك شعراً :
يدٌ بخمس مئينَ عَسْجَدٍ ودُيتْ ... ما بالُها قُطِعتُ في ربع دينار
تحكّمٌ ما لنا إلا السكوتُ له ... وأنْ نَعوذَ بمولانا من النّار
فأجابه بعض الحكماء بقوله :
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذلّ الخيانةِ فافهم حكمة الباري
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : من هو المحارب الذي تجري عليه أحكام قطاع الطريق؟
دلت الآية الكريمة على حكم المحاربة والإفساد في الأرض ، وقد حكم الله تعالى على المحاربين بالقتل ، أو الصلب ، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض وقد اختلف الفقهاء فيمن يستحق اسم المحاربة .
ا - فقال مالك : المحارب عندنا من حمل الناس السلاح وأخافهم في مصرٍ أو برية .
ب - وقال أبو حنيفة : المحارب الذي تجري عليه أحكام قطّاع الطريق من حمل السلاح في صحراء أو برية ، وأمّا في المصر فلا يكون قاطعاً لأن المجني عليه يلحقه الغوث .
ج - وقال الشافعي : من كابر في المصر باللصوصية كان محارباً وسواء في ذلك المنازل ، والطرق ، وديار أهل البادية ، والقرى حكمها واحد .
قال ابن المنذر : الكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة ، لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة .
أقول : ولعلّ هذا هو الأرجح لعموم الآية الكريمة ، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء .
الحكم الثاني : هل الأحكام الواردة في الآية على التخيير؟
قال بعض العلماء الإمام مخيّر في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل ، أو الصلب ، أو القطع ، أو النفي لظاهر الآية الكريمة { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا } وهذا قول مجاهد ، والضحاك والنخعي ، وهو مذهب المالكية .
قال ابن عباس : ما كان في القرآن بلفظ ( أو ) فصاحبه بالخيار .(1/255)
وقال قوم من السلف : الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على الجنايات ، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض ، وهذا مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وهو مروي عن ابن عباس .
وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير ، لكن لا في مطلق المحارب ، بل في محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال فالإمام مخير في أمور أربعة :
أ - إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم .
ب - وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم .
ج - وإن شاء صلبهم فقط دون قطع الأيدي والأرجل .
د -وإن شاء قتلهم فقط حسب ما تقتضيه المصلحة .
ولا بد عنده من انضمام القتل أو الصلب إلى قطع الأيدي ، لأن الجناية كانت بالقتل وأخذ المال ، والقتلُ وحده عقوبته القتل ، وأخذُ المال وحده عقوبته القطع ، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل أن يكون القطع وحده ، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة .
الحكم الثالث : كيف تكون عقوبة الصلب؟
جمهور الفقهاء على أن الإمام مخيّر على ظاهر الآية ، وأنه يجوز له صلب المجرم المحارب لقوله تعالى : { أَوْ يصلبوا } وكيفية الصلب أن يصلب حيّاً على الطريق العام يوماً واحداً ، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء ، ثم يطعن برمح حتى يموت وهو مذهب المالكية والحنفية وقال قوم : لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل ولكن بعده لئلا يحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ، فيقتل أولاً ثم يُصلّى عليه ثم يصلب ، وهو مذهب الشافعية .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : أكره أن يُقتل مصلوباً لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المًثْلة .
وقال الألوسي : « والصلبُ قبل القتل بأن يُصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا » .
الحكم الرابع : متى تقطع يد السارق ، وما هي الشروط في حد السرقة؟
السرقة في اللغة أخذ المال في خفاء وحيلة ، وأما في الشرع فقد عرفها الفقهاء بأنها ( أخذ العاقل البالغ مقداراً مخصوصاً من المال خفية من حرزٍ معلوم بدون حق ولا شبهة ) .
والسارق إنما سمي سارقاً لأنه يأخذ الشيء في خفاء ، واسترق السمع : إذا تسمّع مستخفياً ، فقطعُ اليد لا يكون في مطلق السرقة ، بل في سرقة شخص معين ، مقداراً معيناً ، من حرز مثله ، بهذا ورد الشرع الحنيف .
أما العقل والبلوغ فلأن السرقة جناية ، وهي لا تتحقق بدونهما ، والمجنون والصغير غير مكلفين ، فما يصدر منهما لا يدخل في دائرة التكليف الذي يعاقب عليه الفاعل ، وإن كانت السرقة من الصغير لا قطع فيها إلا أنها تدخل في باب التعزير .
وأما المقدار الذي تقطع فيه اليد فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة والثوري : لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها .(1/256)
وقال مالك والشافعي : لا قطع إلا في ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم .
حجة الحنفية : أ - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا قطع فيما دون عشرة دراهم » .
ب - ما نقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء أنهم قالوا : لا قطع إلا في عشرة دراهم .
حجة المالكية والشافعية : أ - ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً »
ب - ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ ثمنة ثلاثة دراهم .
ج - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً » وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي .
قال فضيلة الشيخ السايس : « وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وأن الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه ، وأن الحظر مقدّم على الإباحة ، أمكن ترجيح ( مذهب الحنفية ) لأن المجنّ المسروق في عهده عليه السلام الذي قطعت فيه يد السارق ، قدّره بعضهم بثلاثة دراهم ، وبعضهم بأربعة ، وبعضهم بخمسة ، وبعضهم بربع دينار ، وبعضهم بعشرة دراهم ، والأخذ بالأكثر أرجح ، لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية ، والحدود تدرأ بالشبهات ولأن التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة ، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها ، والحاظر مقدم على المبيح .
وأما اعتبار الحرز فلقوله عليه السلام : » لا قطع في ثَمَر معلق ولا في حريسة جبل ، فإذا أواه المُرَاحُ أو الجرينُ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن « .
والحرز هو ما نصب عادةً لحفظ أموال الناس كالدور والخيم والفسطاط ، التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها ، وقد يكون الحرز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه ، فإذا كان الحافظ قطع لما روي عن ( صفوان بن أمية ) أنه قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة ( عباءة أو ما أشبهها ) لي ثمن ثلاثين درهماً ، فجاء رجلٌ فاختلسها مني ، فأخذت الرجل فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع ، فقلت : اتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأُنْسئه ثمنها ، قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به »؟
وأما اعتبار عدم الشبهة فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم » وقد اشتهر هذا فأصبح كالمعلوم بالضرورة ، فلا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده ، ولا الأب من مال ابنه ، ولا الشريك من شريكه ، ولا الدائن من مدينة لوجود الشبهة .
الحكم الخامس : من أين تقطع يد السارق؟
دل قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } على وجوب قطع اليد في السرقة ، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تقطع هي ( اليمنى ) لقراءة ابن مسعود ( فاقطعوا أيمانهما ) .(1/257)
ثم اختلفوا من أين تقطع اليد فقهاء الأمصار تقطع من المفصل ( مفصل الكف ) لا من المرفق ، ولا من المنكب ، وقال الخوارج : تقطع إلى المنكب ، وقال قوم : تقطع الأصابع فقط .
حجة الجمهور ما روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ » ، وكذلك ثبت عن ( علي ) و ( عمر بن الخطاب ) أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ ، فكان هو المعول عليه .
وإذا عاد إلى السرقة ثانياً قطعت رجله اليسرى باتفاق الفقهاء لما رواه ( الدارقطني ) عنه عليه السلام أنه قال : « إذا سرق السارق فاقطعوا يده ، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى » ولفعل ( علي ) و ( عمر ) من قطع يد سارق ثم قطع رجله ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان ذلك إجماعاً .
وأما إذا عاد إلى السرقة ثالثاً فلا قطع عند الحنفية والحنابلة ، ولكنّه يضمن المسروق ويسجن حتى يتوب ، وقال المالكية والشافعية : إذا سرق تقطع يده اليسرى ، وإن عاد إلى السرقة رابعاً تقطع رجله اليمنى .
ويروى أن أبا حنيفة قال : « إني استحيي من الله أن أدعه بلا يدٍ يأكل بها ، وبلا رجل يمشي عليها » وهذا القول مروي عن ( علي ) و ( عمر ) وغيرهما من الصحابة .
خاتمة البحث
حكمة التشريع
صان الإسلام بتشريعه الخالد كرامة الإنسان ، وجعل الاعتداء على النفس أو المال أو العرض جريمة خطيرة ، تستوجب أشد أنواع العقوبات ، فالبغي في الأرض بالقتل والسلب ، والاعتداء على الآمنين بسرقة الأموال ، كل هذه جرائم ينبغي معالجتها بشدّة وصرامة ، حتى لا يعيث المجرمون في الأرض فساداً ، ولا يكون هناك ما يُخل بأمن الأفراد والمجتمعات .
وقد وضع الإسلام للمحارب الباغي أنواعاً من العقوبات ( القتل ، الصلب ، تقطيع الأيدي والأرجل ، النفي من الأرض ) كما وضع للسارق عقوبة ( قطع اليد ) وهذه العقوبات تعتبر بحقٍ رادعة زاجرة ، تقتلع الشر من جذوره ، وتقضي على الجريمة في مهدها وتجعل الناس في أمنٍ ، وطمأنينة ، واستقرار .
وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل ، وقطع يد السارق ، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يَحْظَوا بعطف المجتمع ، لأنهم مرضى بمرضٍ نفساني ، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة إنهم يرحمون المجرم من المجتمع ، ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم ، وأقلق مضاجعهم ، وجعلهم مهدّدين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح .
وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند على عقل ولا منطق سليم ، أن أصبح في كثير من البلاد ( عصابات ) للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال ، وزادت الجرائم ، واختل الأمن ، وفسد المجتمع ، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطّاع الطريق .(1/258)
والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضّر ، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة ( القتل والزنى وقطع يد السارق ) إلخ هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرؤوس ، وتنخلع لهوله الأفئدة ، فالحروب الهمجية التي يثيرونها ، والأعمال الوحشية التي يقومون بها من قتل الأبرياء ، والاعتداء على الأطفال والنساء ، وتهديم المنازل على من فيها ، لا تعتبر في نظرهم وحشية ، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله :
قتلُ امرىءٍ في غابةٍ ... جريمةٌ لا تغتفر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ ... مسألة فيها نظر
نعم إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق ، وهي عقوبة صارمة ولكنه أمّن الناس على أموالهم وأرواحهم ، وهذه اليد الخائنة التي قطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض ، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد ، ولكنّ الرحمة أن نبترها ليسلم سائر البدن ، ويدٌ واحدة تقطع كفيلة بردع المجرمين ، وكف عدوانهم وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع ، فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم ، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!!(1/259)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
[ 4 ] كفارة اليمين وتحريم الخمر والميسر
التحليل اللفظي
{ عَقَّدتُّمُ } : عقّدتم من العقد وهو على ضربين : حسّي كعقد الحبل ، ومعنوي كعقد البيع ، فاليمين المنعقدة هي اليمن التي انعقد عليها العزم بالفعل أو الترك .
ومعنى عقدّتم الأيمان أي وكّدتموها ووثقّتموها بذكر اسم الله تعالى .
{ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : التحرير الإخراج من الرق ، ويستعمل في الأسر ، والمشقات ، وتعب الدنيا ونحوها ومنه قول مريم { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] وقال الفرزدق :
أبني غُدانة إنني حرّرتكم ... فوهبتكم لعطيّة بن جِعَال
أي حررتكم من الهجاء ، وخصّ الرقبة من الإنسان لأنها موضع الملك فأضيف التحرير إليها .
{ رِجْسٌ } : أي قذر تعافه العقول قال الزجاج : الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل ، يقال رَجُسَ الرجل يرجُس إذا عمل عملاً قبيحاً . ويقال للنتن والعذِرة والأقذار رجسٌ لأنها قذارة ونجس .
{ فاجتنبوه } : يعني أبعدوه واجعلوه في ناحية ، فالاجتناب في اللغة : الابتعاد وقد أمر تعالى باجتناب هذه الأمور المحرمة ، واقترنت بصيغة الأمر فكان ذلك على جهة التحريم القطعي .
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } : أي راجين الفوز والفلاح بهذا الاجتناب .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا يؤاخذكم الله - أيها المؤمنون - بما جرى على ألسنتكم من لغو اليمين ، الذي لم تتقصدوا فيه الكذب ، أو لم تتعمد قلوبكم العزم على الحلف به ، ولكن يؤاخذكم بما وثّقتموه من الأيمان فكفارة هذا النوع من الأيمان أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم ، أو تكسوهم بكسوة وسط ، أو تعتقوا عبداً مملوكاً أو أمة لوجه الله ، فإذا لم يقدر الشخص على الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق ، فليصم ثلاثة أيام متتابعة ، ذلك كفارة أيمانكم أيها المؤمنون فاحفظوا أيمانكم عن الابتذال وأقلوا من الحلف لغير الضرورة .
ثم أخبر تعالى في الآية الثانية بأن الخمر ، والقمار ، والذبح للأصنام ، والاستقسام بالأزلام ( الأقداح ) كل ذلك رجسٌ مستقذر لا يليق بالمؤمن فعله وهو من تزيين الشيطان للإنسان ، فيجب اجتنابه والبعد عنه ، لأن غرض الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، ويمنعهم عن ذكر الله وأداء الصلاة ، بسبب هذه المنكرات والفواحش التي يزينها للناس ، فانتهوا أيها المؤمنون عن ذلك . ثم ختم تعالى الآيات بالأمر بطاعته وطاعة رسوله ، والحذر من مخالفة أوامر الله تعالى ، فإذا لم ينته الإنسان عن مقارفة المعاصي فقد استحق الوعيد والعذاب الشديد يوم القيامة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى : { فاجتنبو } أبلغ في النهي والتحريم من لفظ ( حُرّم ) لأن معناه البعد عنه بالكلية فهو مثل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] لأن القرب منه إذا كان حراماً فيكون الفعل محرماً من باب أولى فقوله { فاجتنبو } معناه كونوا في جانبٍ آخر منه ، وكلّما كانت الحرمة شديدة جاء التعبير بلفظ الاجتناب كما قال تعالى :(1/260)
{ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ومعلوم أنه ليس هناك ذنب أعظم من الإشراك بالله فتنبه له فإنه دقيق .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؟ استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا ، فقد خرج عن صيغته الأصلية إلى معنى الأمر أي انتهوا عن ذلك .
قال الفرّاء : ردّد عليّ أعرابي : هل أنتَ ساكتٌ؟ وهو يريد : اسكت ، اسكت . أقول : ومما يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه لما سمع الآية : انتهينا ربنا ، انتهينا ربنا .
اللطيفة الثانية : لم يُذكر في القرآن الكريم تعليلُ الأحكام إلاّ بالإيجاز ، أمّا هنا فقد ذكر بالإطناب والتفصيل ، وذكرت فيه الأسباب لتحريم الخمر والميسر بالإسهاب ، منها : إلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، والصدّ عن ذكر الله ، وشغل المؤمنين عن الصلاة ، كما وصفت الخمر والميسر بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان إلخ وكل ذلك ليشير إلى الضرر العظيم ، والخطر الجسيم ، من جراء اقتراف هاتين الرذيلتين ( جريمة القمار ) و ( جريمة تناول المسكرات ) استمع إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؟
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } ظاهر اللفظ الإخبار ، وحقيقته الوعيد والتهديد ، فكأنه تعالى يقول : ليس على رسولي إلا أن يبلّغكم وحسابكم عليّ يوم الدين { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 25-26 ] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي أنواع اليمين؟
قسم العلماء اليمين إلى ثلاثة أقسام : ( لغو ، ومنعقدة ، وغموس ) .
فأما اللغو : فهي اليمين التي لا يتعلق بها حكم ، وقد ورد عن عائشة أنها قالت : اللغو هو كلام الرجل : لا والله ، وبلى والله ، روي ذلك عنها مرفوعاً .
وروي عن ابن عباس في لغو اليمين أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك ، أي أن يحلف على ظنه واعتقاده فيتبيّن الأمر خلافه ، وقد تقدم هذا في سورة البقرة .
وأمّا المنعقدة : فهي أن يحلف على أمرٍ في المستقبل بأن يفعله أو لا يفعله ثم يحنث في يمينه ، فهذه يجب فيها الكفارة كما فصّلها القرآن الكريم .
وأما الغموس : فهي اليمين التي يتعمد فيها الإنسان الكذب كقوله : والله ما فعلت كذا وقد فعله ، أو والله لقد فعلتُ كذا ولم يفعله ، وسمّي غموساً لأنه يغمس صاحبه في نار جهنم ، وذنبه أعظم من أن يكفّر؛ لأنه استهان بعظمة الله جلّ وعلا حين حلف كاذباً . روى الدارقطني في « سننه » عن علقمة عن عبد الله أنه قال : الأيمان أربعة : يمينان يُكفّران ، ويمينان لا يُكفّران ، فاليمينان اللذان يُكفّران فالرجلُ الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل ، والرجل الذي يقول : والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل ، واليمينان اللذان لا يُكفّران فالرجل يحلف والله ما فعلتُ كذا وكذا وقد فعل ، والرجل يحلف لقد فعلتُ كذا وكذا ولم يفعله .(1/261)
قال القرطبي : وقد اختلف في اليمين الغموس ، فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكرٍ وخديعةٍ وكذب فلا تنعقد ، ولا كفارة فيها .
وقال الشافعي : هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة . والصحيح الأول ، قال ابن المنذر : وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال أحمد : وأصحاب الحديث ، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة .
أخرج البخاري في « صحيحه » « أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكبائر؟ قال : الإشراك بالله ، قال : ثم ماذا؟ قال : عقوق الوالدين ، قال : ثم ماذا؟ قال : اليمين الغموس ، قلت : وما اليمين الغموس؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ هو فيها كاذب » .
الحكم الثاني : هل تصح الكفارة قبل الحنث في اليمين؟
ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالاً ، وأمّا إذا كانت صوماً فلا يجوز حتى يتحقق السبب بالحنث ، واستدلوا بظاهر هذه الآية { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ . . . } حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين من غير ذكر الحنث ، واستدلوا كذلك بقوله تعالى : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } وقاسوها أيضاً على إخراج الزكاة قبل الحول .
وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله ، ولا يتحقق العجز إلاّ بعد الحنث ووجوب التكفير ، واستدلوا بحديث « لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير » وهذا القول هو مشهور مذهب مالك رحمه الله .
وذهب الحنفية إلى عدم جواز إخراج الكفارة قبل الحنث ، وقالوا : إن في الآية إضمار الحنث فكأنه تعالى يقول : فكفارته إذا حنثتم ، وهو على حد قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] أي إذا أفطر في رمضان ، واستدلوا بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » .
واستدلوا أيضاً بالمعقول فقالوا : إن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم ، وإذا لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يرفع فلا معنى للكفارة .
واستدلوا أيضاً بأن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ اعتباراً بالصلوات وسائر العبادات ، وهذا القول في رواية أشهب عن مالك رحمه الله .
الحكم الثالث : هل يشترط التتابع في صيام كفارة اليمين؟
نصت الآية الكريمة على جواز الصيام عند العجز عن الإطعام ، وقد اختلف الفقهاء في الصيام هل يشترط فيه التتابع أم يجزئه التفريق؟
أ - فذهب الحنفية إلى اشتراط التتابع لقراءة ابن مسعود ( فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات ) وهو مروي عن عباس ومجاهد .
ب - وذهب الشافعية إلى عدم اشتراط التتابع ، وأنه يجزئ التفريق فيها وهو قول مالك .(1/262)
قال القرطبي : « فإذا لم يجد الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة صيام لقوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } قرأها ابن مسعود ( متتابعات ) فيقيّد بها المطلق ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي . واختاره المزني قياساً على الصوم في ( كفارة الظهار ) .
وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريقُ ، لأن التتابع صفة لا تجب إلاّ بنص ، أو قياس منصوص وقد عُدما » .
الحكم الرابع : هل الخمر تتناول جميع المسكرات .
الخمر اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة هذا رأي جمهور الفقهاء ، وقال الحنفية : الخمر خاصٌ بما كان من ماء العنب النِّيء إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط ، وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً وإن كان حراماً . والجمهور على أن الخمر ليست خاصة بعصير العنب ، فغير ماء العنب حرام بالنص ، وكل مسكر خمر لما روي عن أنس أنه قال : « حرمت الخمر وهي من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير ، والذرة » والجميع متفقون على حرمة كل مسكر والخلاف يكاد يكون شكلياً وقد تقدم في سورة البقرة .
الحكم الخامس : هل الخمر نجسة أم أنها حرام فقط؟
فهم العلماء من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها ، وخالفهم في ذلك ( المزني ) صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من فقهاء الحنفية فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرّم إنما هو شربها ، وقالوا لا يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون نجساً ، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس!
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، لأن قوله تعالى : { رِجْسٌ } يدل على نجاستها ، فإن الرجس في اللغة القذر والنجاسة ، وقد دلّ على نجاستها أيضاً ما روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله : إنّا نمر في سفرنا على أهل كتاب يطبخون في قدورهم الخنزير ، ويشربون في آنيتهم الخمر فماذا نصنع؟ فأمرهم عليه السلام بعدم الأكل أو الشرب منها ، فإن لم يجدوا غيرها غسلوها ثم استعملوها .
فالأمر بالغسل يدل على عدم الطهارت إذ لو كانت طاهرة غير متنجسة لما أمرهم بغسلها .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - اليمين اللغو لا كفارة فيها وإنما تجب في اليمين المنعقدة .
2 - لا تصح الكفارة بالصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق .
3 - الخمر والميسر من أخطر الجرائم الإجتماعية ولهذا قرنا بالأنصاب والأزلام .
4 - العداوة والبغضاء تتولدان من جريمتي ( الخمر ) و ( القمار ) .
5- القمار مرض اجتماعي خطير يهدّم البيوت ويخرّب الأسر ويقضي على الاقتصاد .
6 - وجوب الابتعاد عن كل ما حرّمه الله عز وجل وخاصة الكبائر كالخمر والميسر .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شدّد المولى جل وعلا في الآية الكريمة النكير على أمر ( الخمر ) و ( الميسر ) تشديداً بالغاً يضرف النفوس عنهما إلى غير عودة ، وقرنهما بالأنصاب والأزلام - وهما من أشنع المنكرات ، وأقبح الفواحش في نظر الإسلام - ليشير إلى ما في الخمر والميسر من ضررٍ بالغ ، وخطورة عظيمة ، تهدّد الأمة والمجتمع ، وتقوّض دعائم الحياة .(1/263)
أما الخمر فإنها تذهب العقل ، وتُنهك الصحة ، وتُضيع المال ، ومتى ذهب العقل جاء الإجرام ، وكانت العربدة ، وأفعال الطيش والجنون ، وحسبُ السكران ألاّ يفرّق بين النافع والضار ، ولا يميّز بين الجواهر والأقذار ، لفقدان العقل .
وأما الميسر ( القمار ) فإنه يفقد الإنسان الإحساس والشعور حال انشغاله باللعب ، حتى لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة ، طمعاً في أن ينال أكثر منه ، فإذا رجع خاسراً أكل قلبَه الحسدُ ، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال ، وربما أداه ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته ، أو عزم على قتل نفسه بطريق الانتحار ، وكم من أسرةٍ تهدّمت ، وكم من عائلةٍ تشرّدت ، بسبب ( القمار ) وأصبحت في ذل وفاقة ، بعد أن كانت في عزّ ورفاهية ، والحوادث التي نسمعها كل يوم أصدق شاهد على ما يجره ( القمار ) من ويلاتٍ ونكبات على الأشخاص والأسر التي بليت في بعض أفرادها بأناسٍ مقامرين . . دعْ ما يتخذه المقامرون من وسائل خسيسة وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم وصدق الله حيث يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؟(1/264)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
8 - سورة الأنفال
[ 1 ] حكم الأنفال في الإسلام
التحليل اللفظي
{ الأنفال } : جمع نفل بالتحريك والمراد به هنا الغنيمة ، قال لبيد :
إن تقوى ربنا خير نَفَل ... وقال عنترة :
إنّا إذا احمرّ الوغى نرَوى القَنَا ... ونَعِفُّ عند مقاسم الأنفال
وأصل النفل ( بالسكون ) الزيادة . ومنه صلاة النافلة لأنها زيادة على الفريضة الواجبة . ويسمى ( ولد الولد ) نافلة قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] وتسمى الغنيمة نافلة لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرها وفي الحديث : « وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وهنا ثلاثة ألفاظ ( النفل ، الغنيمة ، الفيء ) فالنفل الزيادة كما بينا وتدخل في الغنيمة أيضاً ، لأنها زيادة أحلت لهذه الأمة خاصة ، والغنيمة ما أخذ من أموال الكفار بقتال وأما الفيء فهو ما أخذ بغير قتال قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } [ الحشر : 6 ] .
{ فاتقوا الله } : بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وأصل التقوى أن يجعل الرجل بينه وبين الشيء الذي يخافه وقاية والمراد أن يتقي عذاب الله بطاعته ، ويتقي غضبه بامتثال أوامره قال ابن الوردي :
واتقِ الله فتَقوى الله ما ... جاورتْ قلبَ امريءٍ إلاّ وصل
ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً ... إنما من يتقي الله البَطل
{ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } : أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، والبين في اللغة يطلق على الوصل ، والافتراق ، وقد جمع المعنيان في قول الشاعر :
فوالله لولا البيْنُ لم يكن الهَوَى ... ولولا الهَوَى ما حنّ للبيْنِ آلفُ
{ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } : أي فزعت لذكره واقشعرت إشفاقاً من عظمته وجلاله ، وأصلُ الوجل : الخوف والفزع قال تعالى : { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 52-53 ] .
{ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } : أي زادتهم ثباتاً في الإيمان . وقوة في الاطمئنان ، ونشاطاً في الأعمال الصالحة ، وقد استدل الجمهور بهذه وأشباهها على زيادة الإيمان ، فالإيمان يزيد وينتقص ، يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي كما نبه عليه البخاري .
{ يَتَوَكَّلُونَ } : أي يعتمدون عليه والتوكل على الله شعار المؤمنين المتقين قال الله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
{ يُقِيمُونَ الصلاة } : أي يؤدونها كاملة مقوّمة تامة الأركان والشروط ولم يقل يؤدون الصلاة أو يصلون لأنه ليس المراد أداء الصلاة فحسب بل المراد الإتيان بها على الوجه الكامل من الاطمئنان والخشوع وأداء الأركان التي أوجبها الله وهذا هو السر في التعبير في كثير من الآيات الكريمة بقوله تعالى : { أَقَامُواْ الصلاة } [ الحج : 41 ] أو { وَيُقِيمُونَ الصلاوة } [ البقرة : 3 ] فافهم رعاك الله .
{ دَرَجَاتٌ } : أي منازل ومقامات عاليات في الجنة .
{ وَمَغْفِرَةٌ } : أي تجاوز عن سيئاتهم .
{ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } : وهو ما أعدلهم من نعيم الجنة . والعرب يصفون الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم .
المعنى الإجمالي
يقول الله عز وجل مخاطباً رسوله الكريم : يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها في أول معركة وقعت بينك وبين المشركين وهي « غنائم بدر » لمن هي؟ وما حكمها؟ وكيف تقسم؟ فقل لهم : هي لله وللرسول يحكم فيها الله عز وجل بحكمه ويقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم على حسب تشريع الله عز وجل ، فاتقوا الله ولا تختلفوا ولا تتنازعوا في شأنها ، لأن ذلك يوجب سخط الله وغضبه عليكم ، ويضعفكم أمام عدوكم ، وربما كان اختلافكم سبباً لتحريمها عليكم ، كما كانت حراماً على من كان قبلكم .(1/265)
وقد كانت الغنائم محرمة على الأمم السابقة فأحلها الله لهذه الأمة رحمة بها وتيسيراً عليها ، وعوناً لها على الجهاد في سبيل الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » فلا تختلفوا أيها المؤمنون في شأنها ولا تتنازعوا في أمرها وأطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمركم به ، واجتنبوا نواهيه في كل ما يحذركم عنه ، حتى تنالوا الدرجات العالية في الجنة وتكونوا من المؤمنين الصادقين في دعوى الإيمان . ثم بين الله عز وجل أوصاف المؤمنين وختما بما أعده لهم من الجزاء الكريم في الآخرة في دار النعيم التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، اللهم اجعلنا من السعداء الأبرار وأكرم نزلنا في دار القرار إنك سميع مجيب الدعاء .
سبب النزول
أولاً : عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : « نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله ، وطاعة رسوله ، وإصلاح ذات البين » .
ثانياً : وروى « أبو داود » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال « » لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صنع كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا رِدْءاً لكم لو انكشفتم لثُبْتم إلينا فتنازعوا « فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية .
ثالثاً : وروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي » عمير « وقتلت ( سعيد بن العاص ) وأخذت سيفه - وكان يسمى ذا الكتيفة - فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال اذهب فاطرحه في القبض قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي قال فما جاوزت يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذهب فخذ سلبك .(1/266)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكرُ اسم الجلالة في الأمرين { اتقوا الله } و { وَأَطِيعُواْ الله } لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين ، وذكرُ اسم الرسول مع الله تعالى أولاً وأخيراً لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، وللإيذان بأن في طاعة الرسول طاعة الله تعالى كما قال عزّ شأنه : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] .
اللطيفة الثانية : توسيطُ الأمر بإصلاح ذات البين { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } بين الأمر بالتقوى ، والأمر بالطاعة ، لإظهار كمال العناية بشأن الإصلاح بحسب المقام ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة ، فإنّ الإصلاح بين المسلمين من أعظم الطاعات والقربات إلى الله .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الشرط متعلق بالأوامر الثلاثة ، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله ، والمعنى : إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله ، وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله ، وليس الغرض التشكيك في إيمانهم ، وإنما هو للإلهاب وتحريك الهمة .
قال الزمخشري : « جعل التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وإطاعة الله ورسوله ، من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : الغنائم وحكمها وكيفية تقسيمها :
وضحت هذه الآية الكريمة حكم الأنفال ( الغنائم ) وذكرت أن أمرها مفوضٌ إلى الله عز وجل ورسوله وليس لأحد دخل في قسمتها فالله وحده هو الذي يحكم بما شاء والرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها بحسب حكم اله تعالى . وقد اختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟
فذهب الجمهور إلى أنها محكمة لم ينسخها شيء وأن هذه الآية بينت إجمالاً حكم الغنائم ثم وردت الآية الثانية { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] فوضحت هذا الإجمال ، وبينت بالتفصيل قسمة الغنائم ومصارفها فالخمس يصرف في المصارف التي بينتها الآية الكريمة ، والباقي وهو أربعة أخماس يوزع على الغانمين وهذا الرأي الراجح .
وقال بعضهم : إن الآية الكريمة منسوخة بقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] وهذا الرأي ضعيف والصحيح ما ذكرنا من أنه لا نسخ في الآية وإنما هو بيان للإجمال المذكور .
قال ابن كثير : والصواب أنها مجملة محكمة بيّن مصارفها في آية الخمس .
الحكم الثاني : تنفيل بعض المجاهدين من الغنيمة .
التنفيل : إعطاء بعض المجاهدين من الغنيمة قبل قسمتها فاللإمام أن يُنفل من شاء من الجيش قبل التخميس لقصة « سعد بن أبي وقاص » المتقدمة في سبب النزول . ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة بدر « من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا » وهذا هو رأي الجمهور وهو الصحيح لظاهر الآية الكريمة .
وقد نقل عن الإمام ( مالك ) رحمه الله أنه كره ذلك وقال هو قتال على الدنيا .(1/267)
.
قال ابن العربي في « تفسير آيات الأحكام » ما نصه :
« قال علماؤنا النفل على قسمين : جائز ، ومكروه - فالجائز بعد القتال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين : من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلَبُه ، والمكروه أن يقال قبل القتل : من فعل كذا وكذا فله كذا . . وإنما كره هذا لأنه يكون القتال فيه للغنيمة . » قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل للمغنم ويقاتل ليرى مكانهُ أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال : « من قاتل لتكن كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ثم قال : ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك الغنيمة وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة « انتهى .
الحكم الثالث : هو التنفيل من أصل الغنيمة أم من الخمس؟
1 - ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أن النفل يكون من الخمس لا من رأس الغنيمة ، وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : » ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم « .
2 - وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن النفل يكون في أصل الغنيمة لا من الخمس . . . لما روي » أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبي جهل « لمعاذ بن عمرو » وقال يوم حنين : من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه « .
قال ابن العربي : هذه الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل ، وهل إعطاء ذلك له من رأس المال مال الغنيمة ، أو من الخمس؟
ذلك إنما يؤخذ من دليل آخر وقد قسم الله الغنيمة قسمة حق على الأخماس فجعلها خمسها لرسوله وأربعة أخماسها لسائر المسلمين ، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما » روي أن ( عوف بن مالك ) قال : قتل رجل من حمير رجلاً من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد - وكان والياً عليهم - فأخبر عوفٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لخالد : ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال : استكثرته يا رسول الله! قال : ادفعه إليه ، فلقي « عوف » خالداً فجرّ بردائه وقال هل أنجزت ما ذكرت لك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضِب فقال : لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركوا لي إمْرَتي «
قال : فلو كان السلب حقاً له من رأس الغنيمة لما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها عقوبة في الأموال وذلك لا يجوز بحال ، وقد ثبت أن - ابن المسيب - قال : ما كان الناس ينفلون إلا من الخمس .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمور الدين .
ثانياً - الأحكام كلها مرجعها إلى الله تعالى وإلى رسوله الكريم .
ثالثاً - اهتمام الشارع الحكيم بإصلاح ذات البين حفظاً لوحدة المسلمين .
رابعاً - الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون الصادقون ليصلوا إلى حقيقة الإيمان .
خامساً - امتثال أوامر الله وطاعته في ما أمر ونهى سبب لسعادة الإنسان في الدارين .(1/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
[ 2 ] الفرار من الزحف
التحليل اللفظي
{ زَحْفاً } : زحف الرجل إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دبّ على مقعده كالصبي ، وشبّه به هنا مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف زحفاً .
{ الأدبار } : جمع دُبُر وهو الخَلْف ويقابله ( القُبُل ) وهو الأمام ، ويطلق القُبُل والدّبُر على سوأتي الإنسان ، وأمّا إطلاقه على الأمام والخلف فمشهور في اللغة قال تعالى : { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 25 ] .
{ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } : يقال : تحرّف وانحرف إذا مال وعدل من طَرَف إلى طرف ، مأخوذ من الحَرْف وهو الطرف أي الجانب ، والتحرف للقتال الفرّ للكرّ أي يتظاهر بالفرار ليغرّ عدوه حتّى يُخيّل له أنه انهزم ، ثم يكر عليه فيقتله ، وهذا من باب مكايد الحرب ( والحرب خدعة ) .
{ مُتَحَيِّزاً } : أي منظماً ، والفئة : الجماعة قال تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } [ الأنفال : 45 ] والمراد أن ينهزم لينضمّ إلى جماعة أُخرى يعينهم أو يستعين بهم .
{ بَآءَ بِغَضَبٍ } : أي رجع بغضب وسخط من الله .
{ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } : أي مسكنه وملجأه جهنم وبئس هذا الملجأ والمصير .
{ مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } : أي مضعف بأس الكافرين بخذلانهم ونصر المؤمنين عليهم .
قال ابن كثير : هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر فإنه تبارك وتعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ومصغرّ أمرهم ، وأنهم في تبار ودمار وقد وُجد المخبرُ وفق الخبر فصار معجزاً للنبي صلى الله عليه وسلم فللَّه الحمد والمنة .
المعنى الإجمالي
هذه الآيات الكريمة نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين في أول غزوة وقعت بينهم وبين المشركين ألا وهي « غزوة بدر » وقد كانت هذه المعركة هي الفارقة بين عهدين عهد الكفر ، وعهد الإيمان ولذلك سمي يومها بيوم الفرقان قال تعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] لأنها فرقت بين الظلام والنور وبين الكفر والإيمان وفي هذه الآيات يأمر الله عباده المؤمنين أن يصمدوا أمام أعدائهم ، وألا ينهزموا مهما كان جيش الكفر عظيماً وكبيراً ، فإن الغلبة ليست بالكثرة ، والمؤمنون أولى بالثبات والشجاعة من الكافرين ، لأنهم يطلبون إحدى الحسنيين : إما العزة في الدنيا والنصر على الأعداء ، وإما الشهادة في سبيل الله التي لا يعادلها شيء من الأشياء وقد حذرهم من الفرار والهزيمة لأن فيه كسراً لجيش المسلمين والقاءً للرغب في قلوب المجاهدين وبين تعالى أن الفرار يجوز في حالتين اثنتين .
الأولى : إذا كان بقصد خداع العدو والتغرير به ، لأن الحرب خدعة ، والعاقل من عرف كيف يبطش بعدوه ويستدرجه .
والثانية : إذا بقي هذا المسلم وحيداً فريداً فانضم إلى جماعة أخرى ليتقوى بها أو رأى أنها بحاجة إليه ليشد أزرهم ويقوي عزمهم .
وما عدا ذلك فالفرار من الزحف جريمة نهى الله تعالى عنه وتوعد عليه أشد التوعيد وهو أن يرجع بغضب من الله وأن مقره في جهنم وبئس ذلك المقر والمصير .(1/269)
ثم بين تعالى أن المؤمنين لم ينتصروا في بدر ولا في غيرها من الغزوات بقوة سلاحهم ولا بوفرة عددهم وإنما انتصروا بتأييد الله لهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، فليعتمدوا إذاً على الله وليتوكلوا عليه فإنه نعم المولى ونعم النصير .
تنبيه وفائدة : ذكر المفسرون عند قوله تبارك وتعالى { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } « أن النبي صلى الله عليه وسلم صفّ الصفوف يوم بدر ثم أخذ قبضة من تراب وحصباء ثم استقبل بها قريشاً فقال : شاهت الوجوه ثم رمى بها المشركين فلم يبق أحد منهم إلا وقد أصابه ذلك اليوم منها فدخلت في عيونهم ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يشدوا عليهم فكانت الهزيمة وقتل من قتل من صناديد قريش وأُسر من أُسر من أشرافهم » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : الفرار من الزحف من الكبائر .
تدل ظواهر النصوص الشرعية على حرمة الفرار من الزحف إلا في حالتين اثنتين وهما : حالة الفر من أجل الكرّ خدعة للعدو - وحالة الالتحاق إلى جماعة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم ليتقوى بهم وقد بينت السنة النبوية أن الفرار من الزحف من الكبائر فقد قال صلى الله عليه وسلم « اجتنبوا السبع الموبِقات » قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حمر الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات « .
الحكم الثاني : كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه؟
هذه الآية حرمت الفرار من القتال ، وأما عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته الآية في آخر سورة الأنفال وهي قوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 66 ] فقد أوجبت هذه الآية على المسلمين أن يثبتوا أمام أعدائهم إذا كان العدو ضعفهم وقد كانوا من قبل مكلفين بملاقاة العدو والصمود حتى ولو كانوا عشرة أضعافهم فنسخ الله ذلك وخفف عن عباده رحمة بهم وتيسيراً عليهم ، فإذا كان جيش الكفار يزيد أضعافاً مضاعفة على جيش المسلمين فإنه لا يجب عليهم ملاقاته إلا إذا كان هناك خطر جسيم كهجوم المشركين على ديار المسلمين فإنه يجب حينئذٍ الدفاع عليهم ، ويفترض القتال على الرجل والمرأة والصغير والكبير .
وأما المغامرة في الحرب فقد قال بعض العلماء : لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء إلى التهلكة .
والصحيح كما قال ( ابن العربي ) : إنه تجوز المغامرة لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فإنهم إذا رأوا هذه الشجاعة النادرة من شخص واحد دبّ الرعب في قلوبهم وأيقنوا بعدم قدرتهم على مقاومة المسلمين وفي ذلك إعزاز لدين الله وقهر للمشركين والله أعلم .(1/270)
الحكم الثالث : هل يجوز الفرار عند الضرورة؟
يجوز الفرار عند الضرورة في غير الحالتين السابقتين التي أشارت إليهما الآية وذلك كأن يحيط العدو بالجيش أو يقطعوا على المجاهدين طريق المؤنة والغذاء فقد « روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : » كنا في غزاة فحاص الناس حيَصةً « أي » فروا أمام العدو « قلنا كيف نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال : من القوم؟ فقلنا : نحن الفرّارون . فقال : لا بل أنتم العكّارون فقبلنا يده . فقال : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين » ثم قرأ { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } .
العكارون : أي الكرارون العطافون .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - المؤمن يجاهد لإعلاء كلمة الله فعليه أن يتحمل الشدائد لأن العمر بيد الله .
ثانياً - الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر لأنه يعرض جيش المسلمين للتدهور والخطر .
ثالثاً - لا يجوز الفرار إلا في الحالات الضرورية .
رابعاً - النصر بيد الله ، فعلى المؤمن أن يعتمد على الله مع الأخذ بالأسباب .(1/271)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
[ 3 ] كيفية قسمة الغنائم
التحليل اللفظي
{ غَنِمْتُمْ } : الغنيمة . . ما أخذ من الكفار قهراً بطريق القتال والغلبة ، أما ما أخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو « فيء » كما مر سابقاً . قال الشاعر :
وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
{ خُمُسَهُ } : بضم الميم وإسكانها لغتان وقد قرئ بهما ، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء ثم يؤخذ جزء واحد منه ، والواجب الشرعي أن تخمسّ الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله ، ويوزع الباقي وهو أربعة أخماس بين الغانمين .
قال القرطبي : لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين .
{ وَلِذِي القربى } : هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم : « بنو هاشم ، وبنو المطلب » على الصحيح من الأقوال كما سيأتي إن شاء الله .
{ واليتامى } : هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ ، لأنه لا يتم بعد البلوغ .
{ والمساكين } : هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .
{ وابن السبيل } : هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته وإنما قيل « ابن السبيل » لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أبٌ له .
{ يَوْمَ الفرقان } : هو يوم بدر لأن الله سبحانه وتعالى فرق فيه بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر وهذه الغزوة كانت في السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان وهي أول معركة وقعت بين المسلمين والمشركين .
{ الجمعان } : المرد به جمع المؤمنين وجمع المشركين .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين أياً كان قليلاً أو كثيراً حق ثابت لكم . وحكمه : أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فاقسموه - خمسة أقسام - واجعلوا خمسة لله ، ينفق في مصالح الدين ، وإقامة الشعائر ، وعمارة الكعبة وكسوتها ، ثم اعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم منه كفايته لنفسه ولنسائه ، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته ، ثم المحتاجين من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ثم بين سبحانه وتعالى أن هذا هو مقتضى الإيمان وهو الإذعان . والخضوع لأوامره وأحكامه وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم لأن الله عز وجل هو الذي قسم فأعطى كلَّ ذي حق حقه كما راعى مصالح العباد جميعاً فما على المؤمنين إلا الرضى والتسليم لحكم الله العلي الكبير .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
لما أمر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بقتال الكفرة المعتدين ، الذين كانوا يفتنون المؤمنون ، ويقفون في وجه الدعوة الإسلامية ، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم ، وكان ذلك مستلزماً لكسب الغنائم منهم ، بيّن جل وعلا هنا حكم قسمة هذه الغنائم ، وأوضح وجوه المصارف فيها حتى لا يكون ثمة نزاع ولا خلاف بين الغانمين ، فهذا هو وجه الارتباط .(1/272)
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التنكير في قوله تعالى : { مِّن شَيْءٍ } يفيد التقليل أي أي شيء كان ، سواء كان هذا الشيء قليلاً أو كثيراً ، عظيماً أو حقيراً ، حتى الخيط والمخيط ( الإبرة ) .
اللطيفة الثانية : ذكرُ الله تعالى في القسمة في قوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم ، واستفتاح الأمور باسمه تعالى ، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة منها ( الله ) فإنّ الله الدنيا والآخرة ، والله هو الغني الحميد ، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله فيكون الكلام على ( حذف مضاف ) .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا } المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكره باسمه تعظيماً له وتكريماً ، لأن أعظم وأشرف أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بالعبودية ، وهذا هو السر في ذكره في سورة الإسراء بهذا الوصف الجليل { سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وإضافة العبد إليه تعالى تشعر بكمال العناية والتكريم كما قال أحد العارفين :
وممّا زادني شرفاً وتيهاً ... وكدتُ بأخمصي أطَأ الثُريّا
دخولي تحت قولك « يا عبادي » ... وإنْ صيّرْتَ « أحمد » لي نبياً
فائدة هامة : قال المراغي : في « تفسيره » وإنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم من ذي القربى بني هاشم ، وبني المطلب دون بني عبد شمس ، ونوفل لأن قريشاً لما كتبت وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب ، لأنهم ناصروا الرسول صلى الله عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل لذلك خصهم عليه الصلاة والسلام بالقسمة تكريماً لهم وتقديراً .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الغنيمة والفيء شيء واحد؟!
بينا فيما سبق التعريف لكلٍ من الغنيمة والفيء . وقد اختلف العلماء فيهما :
فقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ عَنوة من الكفار في الحرب . والفيء ما أخذ عن صلح . . وهذا قول الشافعي .
وقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ من مال منقول . والفيء هو مال غير المنقول كالأرضين والعقارات وغيرها . . وهذا قول مجاهد .
وقيل : الغنيمة والفيء بمعنى واحد . والصحيح الأول وهو ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله .
قال القرطبي : واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بينا ، ولكنْ عُرْفُ الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع . وسمّى الشرع المال الواصل إلينا من الكفار باسمين : ( غنيمة ) و ( فيء ) فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب « غنيمة » ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً ، والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرضين .(1/273)
الحكم الثاني : كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟
ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يوزع لمن سمّاهم الله عز وجل في كتابه العزيز وهم ستة ( الله ، الرسول ، ذو القربى ، اليتامى ، المساكين ، ابن السبيل ) وسكتت عن الباقي فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين .
سهم الله : أما سهم « الله » عز وجل فقد اختلف المفسرون فيه على قولين :
أ - إنه يصرف على الكعبة لأن قوله ( لله ) أي لبيت الله فهو على ( حذف مضاف ) .
ب - وقال الجمهور إن قوله ( لله ) استفتاح كلام يقصد به التبرك فللَّه الدنيا والآخرة وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض فليس سبحانه بحاجة إلى سهم من هذه السهام لأنه هو الغني وإنما ذكر تبارك وتعالى اسمه ليعلمنا التبرك بذكره وافتتاح الأمور باسمه وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة ( الرسول ، ذي القربى ، اليتامى ، المساكين ، ابن السبيل ) .
سهم الرسول : أما سهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حق له صلى الله عليه وسلم يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم « ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم » .
وقال آخرون إن لفظ ( الرسول ) في الآية استفتاح كلام كما قالوا في قوله ( لله ) وأن الخمس يقسم على أربعة أسهم ( ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) .
سهم ذي القربى : والمراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في ( ذي القربى ) على ثلاثة أقوال :
أ - قيل إنهم قريش جميعاً .
ب - وقيل إنهم بنو هاشم فقط .
ج - وقيل إنهم ( بنو هاشم وبنو المطلب ) وهذا هو الرأي الصحيح والراجح .
ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن ( مطعم بن جبير ) من بني نوفل قال : مشيتُ أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام » فدلّ الحديث على أن المراد بذي القربى ( بنو المطلب وبنو هاشم ) ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء وهذا الحكم ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي قرباه في حياته وأما بعد وفاته يرجع إلى بيت مال المسلمين .
قال أبو حنيفة : يقسم الخمس على ثلاثة ( اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) لأنه قد ارتفع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع سهم أقربائه بموته وهذا منقول عن الشافعي أيضاً . قالوا : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر ، وبناء المساجد ، وأرزاق القضاة والجند .
ويصرف في مصالح المسلمين .
سهم اليتامى : وهذا السهم يصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتم .(1/274)
سهم المساكين : وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة .
سهم ابن السبيل : وهو الغريب الذي انقطع في سفره فإنه يعطى من الخمس حتى ولو كان غنياً في بلده . ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن .
مذهب المالكية : وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعاً ورأوا أن الخمس - خمس الغنيمة - يجعل في بيت المال ينفق منه على ما ذكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة وقالوا : إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك وهو من باب إطلاق ( الخاص وأريد به العام ) .
أدلة المالكية :
وقد استدل المالكية لمذهبهم ببضعة أدلة ثبتت في المغازي والسير جعلتهم يذهبون إلى هذا الرأي وقد ذكرها ابن العربي في « أحكام القرآن » وهي :
أولاً : روي في الصحيح « أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيراً بعيراً » .
ثانياً : ثتب عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في أساري بدر : ( لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ) والمراد بالنتنى ( الأسرى من المشركين ) والمطعم بن عدي هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف وهو الذي قام بنقض الصحيفة ، فقال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة له على جميلة وإحسانه .
ثالثاً : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ سبي هوازن وفيه الخمس .
رابعاً : روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : « آثر النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أناساً من الغنيمة فأعطى ( الأقرع بن حابس ) مائة من الإبل وأعطى ( عيينة ) مائة من الإبل ، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة فقال رجل : والله إن هذه القسمة ما عدل فيها . أو ما أريد بها وجه الله!! فقلت : والله لأخبرنّ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته : فقال : » يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر « » .
خامساً : روي في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمسُ والخمس مردود عليكم » .
فمن هذه الأحاديث يتبين أن الخمس من حق الإمام يتصرف به كيف يشاء ، ويجعله في مصالح المؤمنين وأن ذكر هذه الأصناف في الآية إنما هو على سبيل ( التمثيل ) لا على سبيل ( التمليك ) إذ لو كان ملكاً واستحقاقاً لهم لما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان في غيرهم وهذا الرأي للماليكة سديد ووجيه .(1/275)
الحكم الثالث : كيف توزع الغنائم؟
ظاهر الآية يدل على أن توزيع الغنيمة يكون بين المحاربين على السوية ، من دون تفضيل أو زيادة أو نقص ، وقد وردت السنة النبوية تشير إلى التفضيل ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم « جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً » وفي « البخاري » عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم « جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً » .
ورأي الجمهور من العلماء أن يعطى الفارسُ سهمين ويُعطى الراجلُ سهماً واحداً وذلك لأن الذي يركب الفرس يحتاج إلى نفقةٍ لفرسه ويكون بلاؤه في الحرب أعظم ولذلك فإن الشارع الحكيم راعى هذه الناحية فزاده في القسمة فأعطى سهماً له وسهماً لفرسه .
الحكم الرابع : هل الآية هذه ناسخة للآية السابقة؟
يذهب بضع العلاء إلى أن هذه الآية ناسخة لأول السورة لأن الآية الأولى ذكرت أن الأنفال لله والرسول . وهذه الآية بينت أنّ للغانمين أربعة أخماس الغنيمة فتكون هذه الآية ناسخة لتلك ، والصحيح أنه لا نسخ كما وضحنا ذلك في السابق والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - التشريع لله سبحانه وليس لأحدٍ أن يشرّع من تلقاء نفسه .
ثانياً - الخمس يصرف في سبيل الله وفي المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة .
ثالثاً : الغنائم توزع بين المجاهدين حسب ما شرع الله وفصله الرسول صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : على المؤمن أن يمتثل أمر الله ويطيع رسوله في كل شؤون الحياة .
خامساً : يوم بدر هو يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان .(1/276)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
9- سورة التوبة
[ 1 ] عمارة المساجد
التحليل اللفظي
{ أَن يَعْمُرُواْ } : عمارة المسجد تطلق على بنائه وإصلاحه ، وتطلق على لزومه والإقامة فيه لعبادة الله ، فالعمارة قسمان : حسيّة ومعنوية ، وكلاهما مراد في الآية .
{ شَاهِدِينَ } : أي مقرين ومعترفين به ، وذلك بإظهار آثار الشرك والوثنية .
{ حَبِطَتْ } : ضاعت وذهب ثوابها .
{ وَأَقَامَ الصلاة } : إقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الأكمل ، معتدلة مقوّمة بسائر شروطها وأركانها .
{ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } : أي لم يخف إلا الله ، والخشية في اللغة معناها الخوف .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا ينبغي للمشركين ولا يليق بهم ، وليس من شأنهم أن يعمروا بيوت الله ، وهم في حالة الكفر والإشراك بالله ، لأن عمارة المساجد تقتضي الإيمان بالله والحبّ له ، وهؤلاء كفروا بالله شهدت بذلك أقوالهم وأفعالهم ، فكيف يليق بهم أن يعمروا بيوت الله!!
هؤلاء المشركون ضاعت أعمالهم وذهب ثوابها ، وهم في جهنم مخلّدون في العذاب ، لا يخرجون من النار ، ولا يخفف عنهم من عذابها بسبب الكفر والإشراك .
ثم أخبر تعالى أنّ عمارة المساجد إنما تحصل من المؤمنين بالله ، المطيعين له ، المصدّقين باليوم الآخر ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويخشون الله حق خشيته ، فهؤلاء المتقون لله جديرون بعمارة بيوت الله ، وهم أهل لأن يكونوا من المهتدين ، الفائزين بسعادة الدارين ، المستحقين لرضوان الله .
سبب النزول
روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيّروهم بالشرك ، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخُ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، فقال العباس : تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا : وهل لكم من محاسن؟ قالوا : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني فنزلت { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { أَن يَعْمُرُواْ } وقرأ ابن السميقع ( أن يُعْمِروا ) بضم الياء وكسر الميم من ( أعمر ) الرباعي بمعنى أن يعينوا على عمارته .
2 - قرأ الجمهور { مَسَاجِدَ الله } بالجمع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( مسجد الله ) بالإفراد .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ } أن المصدرية وما بعدها في موضع رفع اسم كان و ( للمشركين ) خبرها مقدم ، و ( شاهدين ) حال من الواو في ( يعمروا ) .
2 - قوله تعالى : { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } عسى من أخوات ( كان ) وجملة ( أن يكونوا ) خبرها ، واسم الإشارة اسمها ، والخبر يكون فعلاً مضارعاً في الغالب كما قال ابن مالك :
ككان « كاد » و « عسى » لكنْ ندر ... غير مضارع لهذين خَبَرْ(1/277)
وجه المناسبة بين الآيات الكريمة
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين ، وأنواعاً من قبائحهم وجرائمهم التي توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة تعلي مقامهم وترفع مكانتهم ، منها سقايتهم للحاج وعمارتهم للمسجد الحرام فردّ الله عليهم بهذه الآيات الكريمة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أطلق المساجد وأراد به المسجد الحرام على رأي بعض المحققين ، وعبّر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها ، فهو من باب إطلاق العموم وإرادة الخصوص .
اللطيفة الثانية : العلة الحقيقية في منع المشركين من عمارة بيوت الله ، هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها أنه كفر صريح لا تمكن المكابرة به ، لأنه كفرٌ مقرون بالإقرار ، وهو قولهم في الطواف : ( لبيّك لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ) ونصبهم الأوثان والأصنام حول البيت العتيق .
اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : أمرُ المؤمنين بعمارة المساجد ، يتناول عمارتها ، ورمّ ما تهدم منها ، وتنظيفها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر دراسة العلم - وصونها عمّا لم تبنَ له من الخوض في أحوال الدنيا ، وفي الحديث الشريف : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان » .
اللطيفة الرابعة : التعبير بقوله تعالى : { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } في جانب المؤمنين ، يؤخذ منه قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعموها وافتخروا بها ، حيث بيّن تعالى أن حصول الإهتداء لمن آمنوا بالله ولم يخشوا غيره دائرٌ بين ( لعلّ ) و ( عسى ) وإذا كان هذا حال المؤمنين ، فكيف يطمع المشركون بالهداية والفوز وهم على ما هم عليه من كفر وإشراك؟!
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بعمارة المساجد في الآية الكريمة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بعمارة المساجد هو بناؤها وتشييدها وترميم ما تهدم منها ، وهذه هي ( العمارة الحسية ) ويدل عليه قوله عليه السلام : « من بنى الله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة » .
وقال بعضهم : المراد عمارتها بالصلاة والعبادة وأنواع القربات كما قال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } [ النور : 36 ] وهي هي ( العمارة المعنوية ) التي هي الغرض الأسمي من بناء المساجد ، ولا مانع أن يكون المراد بالآية النوعين ( الحسية ) و ( المعنوية ) وهو اختيار جمهور العلماء لأن اللفظ يدل عليه ، والمقام يقتضيه .
قال أبو بكر الجصاص : « وعمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما : زيارته والمكث فيه ، والآخر : بناؤه وتجديد ما استرم منه ، وذلك لأنه يقال : اعتمر إذا زار ، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت ، وفلان من عُمّار المساجد إذا كان كثير المضيّ إليها ، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ، ومن بنائها ، وتولّي مصالحها ، والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين » .
الحكم الثاني : ما المراد بالمساجد في الآية الكريمة؟
1 - قال بعض العلماء : المراد به المسجد الحرام لأنه المفرد العلم ، الأكمل الأفضل وهو قبلة المساجد ، وسبب النزول يؤيد هذا القول وهو مروي عن عكرمة ، واختاره بعض المحققين لقراءة الإفراد ( أن يعمروا مسجد الله ) .(1/278)
ب - وقال آخرون : المراد به جميع المساجد ، لأنه جمع مضاف فيعم ، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أوّلياً ، كما إذا قلنا : فلان لا يقرأ كتب الله ، يدخل فيه القرآن بطريق أوكد .
أقول : هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، لأن الصيغة تفيد عموم الحكم ، فلا يليق بالمشركين أن يعمروا أي مسجد من مساجد الله بأنواع العمارة ، لأن الكفر ينافي ذلك ، كما لا يصح لهم دخول هذه الأماكن الطاهرة المقدسة ، كما قال الإمام مالك رحمه الله ، وسيأتي حكم دخول المشركين للمساجد في الآيات التالية .
الحكم الثالث : هل يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد؟
أخذ بعض العلماء من الآية الكريمة أنه لا يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المسجد ، لأنه من العمارة الحسيّة ، وقد نهى تعالى عن تمكين المشركين من عمارة بيوت الله .
والظاهر جواز استخدامه لأن الممنوع منها إنما هو ( الولاية ) عليها ، والاستقلال بتصريف شؤونها ، كأن يكون ناظر المسجد ، أو المتصرف بالوقف كافراً ، وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه ، كنحت الحجارة والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، وهذا قول جمهور الفقهاء .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - أعمال البر الصادرة من المشركين لا ثواب فيها بسبب الكفر والإشراك لقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
2 - عمارة المساجد جديرٌ بها أهل الإيمان الذين يعظّمون حرمات الله .
3 - وجوب الإخلاص لله في القول والعمل .
4 - ينبغي أن يكون الغرض من بناء المسجد رضوان الله لا الرياء والسمعة .(1/279)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
[ 2 ] منع المشركين دخول المسجد الحرام
التحليل اللفظي
{ نَجَسٌ } : أي قذر ، قال الزجاج : يقال لكل شيء مستقذر : نجسٌ .
وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نَجِسٌ إلا وقبلها رجسٌ ، فإذا أفردوها قالوا : نجس .
{ عَيْلَةً } : العيلة : الفقر والفاقة ، يقال : عال يعيل عيلةً إذا افتقر ، وأعال فهو مُعيل إذا صار صاحب عيال ، وقال أبو عبيدة : العيلة مصدر عال بمعنى افتقر وأنشد :
وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يدري الغنيّ متى يَعيل
{ يَدِينُونَ } : من دان الرجل يدين إذا اتخذ الأمر له عقيدة والتزمه تقول : فلان يدين بكذا أي يلتزمه ويعتنقه ، والمراد في الآية أنهم لا يلتزمون بدين الحق وهو دين الإسلام .
{ الجزية } : اسم لما يعطيه المعاهد على عهده . قال ابن الأنباري : هي الخراج المجعول عليهم ، سميت جزية لأنها قضاء ما وجب عليهم من قولهم : جزى يجزي إذا قضى .
قال أبو حيان : سميت جزية من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدى عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
نجزيكَ أو نُثْني عليكَ وإنّ من ... أثنَى عليكَ ما فعلت فقد جزى
{ عَن يَدٍ } : أي يؤدون الجزية عن قهر وذل وطاعة يقال : أعطى يده إذا انقاد ، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة .
{ صَاغِرُونَ } : الصاغر : الذليل الحقير ، والصّغار الذل .
ومعنى الآية : حتى يدفعوا الجزية منقادين طائعين في حال الذل والهوان .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله ، إنما المشركون قذر ورجس لخبث بواطنهم ، وفساد عقائدهم ، فهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فلا تمكنوهم من دخول المسجد الحرام ، بعد هذا العام ، وإن خفتم - أيها المؤمنون - فقراً أو فاقة بسبب منعكم إياهم من الحج ودخول الحرم ، فسوف يغنيكم الله من فضله ، ويوسع عليكم من رزقه ، حتى لا يدعكم بحاجة إلى أحد وذلك راجع إلى مشيئته جل وعلا إن الله عليم حكيم .
قاتلوا أيها المؤمنون الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله من أهل الكتاب ، ولا يصدقون باليوم الآخر على الوجه الذي جاء به رسول الله ، ولا يدخلون في دين الإسلام دين الحق ، ولا يحرمون ما حرّمه الله ورسوله ، من ( اليهود والنصارى ) حتى يدفعوا لكم الجزية ، عن انقياد وطاعة ، وذل خضوع ، وهم صاغرون مهينون .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } بفتح الجيم ، وقرأ أبو علي حيوة ( نِجْسٌ ) على وزن رجس ، وقرأ ابن السميقع ( أنجاسٌ ) على صيغة الجمع .
2 - قرأ الجمهور { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } وقرئ ( عائلة ) و ( عايلة ) .
سبب النزول
لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة ، ويَنْبِذَ إليهم عهدهم ، وأن يخبرهم أنّ الله بريءٌ من المشركين ورسولهُ ، قال أناسٌ : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبُل وفقد الحمولات فنزلت الآية الكريمة { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا .(1/280)
. . } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أطلق القرآن الكريم على المشركين أنهم نجس ، والإخبار عنهم بصيغة المصدر فيه مبالغة كأنهم صاروا عين النجاسة ، وأصل التعبير ( إنما المشركون كالنجس ) لكنه حذفت منه أداة الشبه ، ووجه الشبه ، فأصبح ( تشبيهاً بليغاً ) .
وقال بعض العلماء : المراد أنهم ذوو نجس أي أصحاب نجس فالكلام على ( حذف مضاف ) وإنما عبّر عنهم أصحاب نجس لخبث بواطنهم ، وفساد عقائدهم ، وإشراكهم بالله ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون .
اللطيفة الثانية : النهي عن قربان المسجد الحرام جاء بطريق المبالغة لأن الغرض نهيهم عن دخول المسجد الحرام ، فإذا نهوا عن قربانه كان النهي عن دخوله من باب أولى ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } [ الأنعام : 152 ] وقوله { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] فيكون النهي عن أكل مال اليتيم ، وارتكاب الزنى محرماً من باب أولى .
اللطيفة الثالثة : تعليق الإغناء بالمشيئة في قوله جل وعلا : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أن المطلوب سيحصل حتماً ، بل لا بدّ من التضرع إلى الله تعالى في طلب الخير ، وفي دفع الآفات .
اللطيفة الرابعة : في التعبير في ختام الآية { إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } إشارة لطيفة إلى أن الغنى والفقر بيد الله تعالى ، وأن الرزق لا يأتي بالحيلة والاجتهاد ، بل هو راجع إلى الحكمة والمصلحة ، فإن شاء الله أغنى ، وإن شاء أفقر ، فهو تعالى لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة ومصلحة ، وممّا يروى للإمام الشافعي قدّس الله روحه قوله :
لو كانَ بالحيَلِ الغِنَى لوجدتني ... بنجوم أقطارِ السّماءِ تعلّقي
لكنّ من رَزَقَ الحجا حَرَم الغِنَى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ
اللطيفة الخامسة : نفى الله تعالى الإيمان عن أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) لأن إيمانهم مغشوش مدخول ، وليس إيماناً كما يجب ، لأنهم جعلوا لله ولداً ، وزوجة ، وبدّلوا كتابهم ، وحرّموا ما لم يحرّم الله ، وأحلّوا ما لم يُحلّه ، ووصفوا المولى جل وعلا بما لا يليق ، فهم وإن زعموا الإيمان غير مؤمنين إيماناً صحيحاً ، وهذا هو السرّ في التعبير القرآن بنفي الإيمان عنهم .
قال الكرماني : نفيُ الإيمان بالله عنهم لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به جل وعلا .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالمشركين في الآية الكريمة؟
ذهب جمهور المفسرين إلى أن لفظ المشركين خاص بعبّاد الأوثان والأصنام ، لأن لفظ المشرك يتناول من اتخذ مع الله إلهاً آخر ، وأن أهل الكتاب وإن كانوا كفاراً إلا أن لفظ ( المشركين ) لا يتناولهم ، لأنه خاص بمن عبد الأوثان والأصنام .(1/281)
وقال بعض العلماء إن لفظ المشركين يتناول جميع الكفار ، سواء منهم عُبّاد الأوثان أو أهل الكتاب لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] أن يكفر به فأطلق لفظ الإشراك على الكفر .
أقول : هذا هو الصحيح وهو أن اللفظ يشمل كل كافر ، وأن النهي عن دخول المسجد الحرام عام لكل كافر ، فلا فرق بين الوثني واليهودي أو النصراني في الحكم .
الحكم الثاني : هل أعيان المشركين نجسة؟
دلّ ظاهر قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } على نجاسة المشركين . وقد تقدم معنا أن المراد من اللفظ ( النجاسة المعنوية ) أي أن معهم الشرك المنزّل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه ، أو أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجناية والطهارة ، وعدم اجتنابهم النجاسات وقد نقل صاحب « الكشاف » : عن ابن عباس أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكاً بظاهر الآية . وروى ابن جرير عن الحسن البصري أنه قال : من صافحهم فليتوضأ .
ولكنّ الفقهاء على خلاف ذلك فقد ذهبوا إلى أن أبدانهم طاهرة ، لأنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة بالإجماع ، مع أنه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو ما شابه ذلك ، والآية لا تدل على نجاسة الظاهر وإنما يدل على نجاسة الباطن ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ، ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة .
الترجيح : الصحيح رأي الجمهور لأن المسلم له أن يتعامل معهم ، وقد كان عليه السلام يشرب من أواني المشركين ، ويصافح غير المسلمين والله أعلم .
الحكم الثالث : هل يمنع المشرك من دخول المسجد؟
دلّ قوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } على منع المشركين من دخول المسجد الحرام ، وقد اختلف العلماء في المراد من لفظ ( المسجد الحرام ) على أقوال عديدة :
أ - المراد خصوص المسجد الحرام أخذاً بظاهر الآية وهو مذهب الشافعية .
ب - المراد الحرم كلّه ( مكة ) وما حولها من الحرم وهو قول عطاء ومذهب الحنابلة .
ج - المراد المساجد جميعاً المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد بالقياس وهو مذهب المالكلية .
د - المراد النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة وهو مذهب الحنفية .
دليل الشافعي : احتج الشافعي رحمه الله بظاهر الآية { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فقال : الآية خاصة في المسجد الحرام . عامة في الكفار . فأباح دخول غير المسلمين سائر المساجد . ومنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام .
دليل أحمد : واستدل الإمام أحمد رحمه الله بأن لفظ ( المسجد الحرام ) قد يطلق ويراد به الحرم كله كما في قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام }(1/282)
[ الفتح : 25 ] وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وقد كان الصد عن دخول مكة ، وأخبر تعالى بأنهم سيدخلونها آمنين .
دليل مالك : واستدل مالك رحمه الله بأن العلة وهي ( النجاسة ) موجودة في المشركين . والحرمة ثابتة لكل المساجد ، فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها . فقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد .
دليل أبي حنيفة : واستدل أبو حنيفة رحمه الله على أن المراد النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة بما يلي :
أولاً : قوله تعالى : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } فإن تقييد الني بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام ، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام .
ثانياً : قول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بسورة براءة : « وألاّ يحجّ بعد هذا العام مشرك » .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } فإن خشية الفقر إنما تكون بسبب انقطاع تلك المواسم ومنع المشركين من الحج والعمرة حيث كانوا يتاجرون في مواسم الحج ، فإن ذلك يضر بمصالحهم المالية ، فأخبرهم تعالى بأن الله يغنيهم من فضله .
رابعاً : إجماع المسلمين على وجوب منع المشركين من الحج ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ، وسائر أعمال الحج وإن لم تكن هذه الأفعال في المسجد الحرام .
قال صاحب « الكشاف » : « إن معنى قوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } أي لا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل عليه قول علي : » وألاّ يحج بعد عامنا هذا مشرك « فلا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة » .
الحكم الرابع : ما هي الجزية ، وما هو مقدارها وممن تؤخذ؟
الجزية : ما يدفعه أهل الكتاب للمسلمين لقاء حمايتهم ونصرتهم ، سميت جزية لأنها من الجزاء ، جزاء الكفر وعدم الدخول في الإسلام ، أو جزاء الحماية والدفاع عنهم .
وقد اختلف الفقهاء في الذين تؤخذ منهم الجزية ، فالمشهور عن أحمد : أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس ، وبه قال الشافعي .
وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل مشرك عابد وثنٍ ، أو نارٍ ، أو جاحدٍ مكذب .
وقال أبو حنيفة ومالك : الجزية تؤخذ من الكل إلاّ من عابدي الأوثان من العرب فقط .
فأما الذين تؤخذ منهم الجزية فهم الرجال البالغون ، فأما الزمنى ، والعمي ، والشيوخ المسنون ، والنساء ، والصبيان ، والرهبان المنقطعون في الصوامع فلا تؤخذ منهم الجزية .
وأما مقدارها فعلى الموسر ثمانية وأربعون درهماً ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهماً ، وعلى الفقير القادر على العمل إثنا عشر درهماً في السنة ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى .
وقال مالك : على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الفضّة أربعون درهماً ، وسواءٌ في ذلك الغني والفقير .(1/283)
وقال الشافعي : على كل رأسٍ دينار سواءٌ فيه الغني والفقير .
الترجيح أقول : ما روي عن مالك رحمه الله هو ما فرضه عمر رضي الله عنه ، وقد رويت عن عمر ضرائب مختلفة أخد كل مجتهد بما بلغه ، وأظن أن ذلك كان بحسب الاجتهاد ، وبحسب اليسر والعسر ، وقد روي أن عمر ورضع الجزية عن شيخ يهودي طعن في السن رآه يسأل الناس ، وأعاله من بيت مال المسلمين ، فالأمر فيه سعة ، والله أعلم .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أوجبت الشريعة الإسلامية الغراء على المسلمين قتال أهل الكفر والعدوان ، ممن أبوا أن يدخلوا في دين الله ، وأن ينعموا بظلال الإسلام الوارفة ، وأحكامه العادلة ، ويستجيبوا لدعوة الحق التي فيها الخير والسعادة لني الإنسانية جمعاء .
وقد استثنى الباري جل وعلا من قتال الكفار أهل الكتاب ، فأمر بدعوتهم إلى الدخول في الإسلام فإن أبوا دفعوا الجزية ، وإلاّ وجب قتالهم حتى يفيئوا إلى دين الله ، ويرضوا بحكم الله جل وعلا { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] والجزية هي - في الحقيقة - رمزٌ للخضوع والإذغان ، رمزٌ لقبول غير المسلم بالعيش في ظل نظام الإسلام ، رمزٌ لإظهار الطاعة والرضى والانقياد للدولة الإسلامية ، وهي بعد ذلك تعبيرٌ عن مبدأ التعاون ، بين الذميين والدولة الإسلامية ممثلة في خليفة المسلمين ، بحيث لا يكون هناك خروجٌ عن الطاعة ، ولا تمرد على نظام الإسلام ، أو بتعبير آخر : الاستسلام لحكم الإسلام ، والرضى بكل تشريعاته وأحكامه .
وإذا كان المسلم يدفع زكاة ماله كل عام لتنفق في مصارفها التي حدّدها القرآن الكريم ، فإن هذا الذمي المعاهد ( اليهودي أو النصراني ) لا يكلف بدفع الزكاة ، وإنما يكلف بدفع الجزية وهي مبلغ يسير زهيد ، لا يزيد على ثمانية وأربعين درهماً في العام مقابل الدفاع عنه ، وحمايته ونصرته ، ومقابل استمتاعه بالمرافق العامة للدولة التي يعيش في كنفها ، وتحت ظل حكمها ، فليس الهدف إذاً من الجزية الجباية وسلب الأموال ، وإنما الهدف الاطمئنان إلى رضى أهل الكتاب بالعيش في ظلال حكم الإسلام ، والانقياد ، والطاعة لأحكامه وأوامره ، وصدق من قال : « إنّ الله لم يبعث المسلمين ليكونوا جباة وإنما بعثهم ليكونوا هداة »!!(1/284)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
22 - سورة الحج
[ 1 ] التقرب إلى الله بالهدي الأضاحي
التحليل اللفظي
{ والبدن } : جمع بدنة وهي اسم للواحد من الإبل ، ذكراً أو أنثى ، وسميت بذلك لعظم بدنها ، وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير الذي يهدى للكعبة .
{ صَوَآفَّ } : جمع صافة وهي التي قد صُفَت قوائمها للذبح ، والبعير ينحر قائماً . ومن قرأ ( صوافن ) فالصافن التي تقوم على ثلاث ، والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فهو الصافن .
{ وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } : أي سقطت جنوبها ، والجُنُوبَ جمع جَنْب وهو الشق ، أي إذا سقطت على الأرض يقال : وجب الحائط وجبةً إذا سقط ، ووجب القلب وجيباً إذا تحرك من فزع ، وسقوط الجنوب كناية عن الموت ومفارقة الروح بعد الذبح .
{ القانع والمعتر } : القانع الراضي بما قدّر الله له من الفقر والبؤس ، العفيف الذي لا يتعرض لسؤال الناس ، مأخوذ من قنع يقنع إذا رضي .
وأمّا المعْترّ فهو الذي يتعرض لسؤال الناس ، فهو كالمعتري الذي يعتري الأغنياء ويذهب إليهم المرة بعد المرة ، وقيل بالعكس ، القانع : السائل ، والمعتر الذي لا يسأل الناس .
قال ابن عباس : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل ، واختاره الفرّاء .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أن طريق التقوى إنما هو في تعظيم شعائر الله والالتزام بما شرعه من الأحكام وقد امتنّ الله على عباده بأن جعل لهم البُدْن يسوقونها إلى مكة قٌربة عظيمة ، حيث جعلها شعيرة من شعائر الله ، وعلماً من أعلام دينه ، ودليلاً على طاعته ، ففي سوقها للحرم ونحرها هناك خيرٌ عظيم ، وثواب كبير ، يناله أصحابها في الآخرة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لقد جعلنا لكم - أيها المؤمنون - الإبل من شعائر دين الله ، لكم فيها عبادة لله ، من سوقها إلى البيت ، وتقليدها ، وإشعارها ، ونحرها ، والإطعام منها ، لكم فيها النفع في الدنيا ، والأجر في الآخرة ، فاذكروا اسم الله عند نحرها ، قائماتٍ قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ ، فإذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها ، وسكنت حركتها ، فكلوا منها وأطعموا السائل المحتاج ، والمعتر الذي يتعرض للسؤال ولا يسأل ، مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون ، سخرناها وذلّلناها لكم مع قوتها وعظم أجسامها ، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحرٍ وركوب ، وحلبٍ وغير ذلك من وجوه المنافع ، ولولا تسخيرها لكم لم تقدروا عليها لأنها أقوى منكم ، فاشكروا الله على نعمه وآلائه التي لا تعد ولا تحصى .
ثم بيّن الله تعالى في الآية الثانية أنه جلا وعلا لا يصل إليه شيء من لحوم هذه الأضاحي والقرابين التي يهدونها لبيته الحرام ، ويذبحونها تقرباً إليه ، فلا شيء من هذا يصل إلى الله أو يرضيه ، وإنما يرضيه جلّ وعلا امتثال الأمر منكم وطاعته وتقواه ، فالأعمال إنما تكون مقبولة بمقدار التقوى والإخلاص فيها ، وبدون التقوى والإخلاص تكون أشبه بصور أجسام لا روح فيها ولا حياة ، فلا يظن أنه ينال ثواب الله باللحم يقطعه وينشره ، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة ، فعل أهل الشرك في الجاهلية وإنما ينال ذلك بتقوى الله ، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجافي روح الإسلام وطهارته .(1/285)
ثمّ ختم الله تعالى هذه الآية بتذكير المؤمنين بوجوب شكره وتعظيمه على ما سخّر لهم من الأنعام ، يتقربون بها إلى المولى جل وعلا ، فيأكلون من لحومها ، ويتصدقون ببعضها ، لينالوا الأجر من الله والثواب العظيم ، وليبشرهم بالفضل العميم في جنات النعيم .
سبب النزول
روي عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما أن جماعة من المسلمين كانوا قد همّوا أن يفعلوا بذبائحهم فعل أهل الجاهلية ، يقطعون لحومها وينشرونها حول الكعبة ، وينضحون على الكعبة من دمائها ، فلما أسلموا وعزموا على ذلك نزلت الآية الكريمة تزجرهم عن هذا الفعل ، وترشدهم إلى ما هو الأجدرُ بهم والأليق .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } جمع صافّة ، وقرئ ( صوافن ) جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث قوائم والرابعة مرفوعة ، وقرئ ( صوافي ) جمع صافية بمعنى خالصة لله تعالى .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا } البُدنَ : مفعول مقدم لجعلنا مثل قوله تعالى : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } [ يس : 39 ] وقرئ برفعها ( والبُدنُ ) على الابتداء .
ثانياً : قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجار والمجرور خبر مقدم و ( خيرٌ ) مبتدأ مؤخر .
ثالثاً : قوله تعالى : { صَوَآفَّ } منصوب على الحال وهو حال من المفعول البدن .
رابعاً : قوله تعالى : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } كذلك : نعتٌ لمصدرٍ محذوف تقديره سخرناها لكم تسخيراً كذلك التسخير العجيب ، وعلى هذا تكون الكاف صلة ، ويصح أن تكون على معناها مفيدة للتشبيه ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : بيّن الباري جل وعلا أن تسخيره الأنعام لبني آدم ، نعمةٌ من إنعامه تستوجب الشكر وقد جاء هذا الامتنان على العباد ( مجملاً ) في هذه الآية { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } وجاء التفصيل في آيات أخرى كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 71-73 ] وكقوله : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 5-7 ] .
اللطيفة الثانية : المراد من قوله تعالى : { مِّن شَعَائِرِ الله } أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده ، وإضافتها إلى الله جلّ وعلا للتعظيم مثل { نَاقَةُ الله } [ الأعراف : 73 ] ، و ( بيت الله ) وإنما كانت هذه البُدنُ من الشعائر ، لأن الغرض منها التقرب إلى الله بالهدايا والضحايا وغيرها من وجوه البر والإحسان .(1/286)
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } إشارة لطيفة إلى أنّ الإبل لا تذبح ذبحاً وإنما تُنحر نحراً ، وأنّ المطلوب عند نحرها أن تكون قائمة قد صُفّت أيديها وأرجلها ، فإنّ ذلك هو الطريق الأمثل في ذبح الإبل كما وضحته السنة النبوية المطهرة .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل تطلق البُدن على الإبل والبقر؟
اتفق العلماء على أن البُدن اسم للواحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى ، فهي تطلق على الإبل باتفاق ، وقد اشتهر في الشرع إطلاقها على البعير يهدى إلى الكعبة ، واختلفوا هل تطلق البدنة على البقرة؟ باعتبار أنها تجزئ في الهَدْي والأضحية عن سبعة كالبعير على مذهبين :
أولاً - مذهب الحنفية : أن البدنة تطلق على البقرة كما تطلق على البعير ، فهي من قبيل المشترك في المعنيين ، فمن نذر بدنةً أجزأته بقرة فهي مثلها في اللفظ والحكم ، وبهذا قال ( عطاء ) و ( سعيد بن المسيّب ) واستدلوا بما يلي :
1 - روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال : « كنّا ننحر البدنة عن سبعة ، فقيل : والبقرة؟ قال : وهل هي إلاّ من البُدن »؟
ب - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : لا نعلم البُدن إلا من الإبل والبقر .
ثانياً - مذهب الشافعية : أما الشافعية فقالوا : لا تطلق البدن بالحقيقة إلاّ على الإبل ، وإطلاقها على البقر إنما يكون مجازاً ، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة ، وبهذا قال ( مجاهد ) .
ودليلهم ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : « تجزئ البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة » قالوا : فلهذا يدل على ما قلنا لأن العطف يقتضي المغايرة .
والظاهر أن اسم البدنة حقيقة في الإبل لقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } فالإبل هي التي تنحر واقفة بخلاف البقر فإنها تذبح ذبحاً ، وقول جابر : وهل هي إلا من الإبل؟ وقول ابن عمر : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر ، فمحمولٌ على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما ، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما والله أعلم .
الحكم الثاني : ما هو الأفضل في الهدي والأضاحي .
أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم ( الإبل ، البقر ، الغنم ، الماعز ) وأن الذكر والأنثى بالنسبة للأضاحي والهدي سواءٌ ، واتفقوا على أن الأفضل الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم على هذا الترتيب ، لأن الإبل أنفع للفقراء لعظمها ، والبقر أنفع من الشاة كذلك ، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاةٌ ، والبدنةُ تجزئ عن سبعة وكذلك البقرة . واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد :
هي يُهدي سُبْع بدنة ، أو سُبْع بقرة ، أو يهدي شاةً؟ والظاهر أن الاعتبار إنما يكون بما هو أنفع للفقراء ، وهذا هو الأصح .(1/287)
ومما يدل على أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة ما رواه جابر رضي الله عنه أنه قال : « حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ » .
وللمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم ، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائةً من الإبل ، وكان هديه عليه السلام هدي تطوع .
الحكم الثالث : الأكل من لحوم الهدي .
أمر الله تعالى بالأكل من لحوم الهدي في قوله جل ثناؤه { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } [ الحج : 28 ] وهذا الأمر يتناول بظاهره ( هدي التمتع ) و ( هدي التطوع ) والهدي الواجب بسبب ارتكاب بعض المحظورات في الحج أو العمرة .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال نلخّصها فيما يلي :
1 - ذهب أبو حنيفة وأحمد إلى جواز الأكل من هدي التمتع ، وهدْي القِران ، وهدي التطوع ، ولا يأكل من دم الجزاء .
وقال مالك رحمه الله : يأكل من هدي التمتع ، والقِران ، والهدي الذي ساقه لفساد حجه أو لفوات الحج ، ومن الهدي كله إلا فدية الأذى ، وجزاء الصيد ، وما نذره للمساكين .
وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل دم الجزاء ، وجزاء الصيد ، وهدي التمتع والقِران ، وإفساد الحج ، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه .
أمّا كان تطوعاً فله أن يأكل منه ويُهدي ، ويتصدّق ، فأباح الأكل من هدي التطوع فحسب .
ومبنى الخلاف بين الجمهور والإمام الشافعي في ( هدي التمتع ) أنّ الدم الواجب عندهم دم شكر فيباح له أن يأكل منه ، وعنده أنه دم جزاء فلا يباح الأكل منه والتفصيل في كتب الفروع .
وقد استدل الإمام الشافعي على وجوب إطعام الفقراء من الهدايا بقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } وقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } [ الحج : 28 ] .
وقال أبو حنيفة : إن الإطعام مندوب ، لأنها دماء نُسُك فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم ، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب .
الحكم الرابع : وقت الذبح ومكانه .
اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي .
فعند الشافعي : أن وقت ذبحه يوم النحر ، وأيام التشريق ( الثاني والثالث والرابع ) من أيام عيد الأضحى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وكلّ أيام التشريق نحرٌ » فإن فات وقته ذبح الهدي الواجب قضاءً وأثم بالتأخير .
وعند مالك وأحمد أن وقت ذبح الهدي - سواءً كان واجباً أمّ تطوعاً - أيام النحر ( الأول والثاني والثالث ) من أيام عيد الأضحى ، ولا يصح الذبح في اليوم الرابع .
ووافق الحنفية مذهب مالك وأحمد بالنسبة لهدي التمتع والقرآن ، وأما النذر ، والكفارات ، والتطوع فيذبح في أي وقت كان .
وحكي عن النخي : أن وقت الذبح يمتد من يوم النحر ، إلى آخر ذي الحجة .
وأما مكان الذبح - سواءً كان واجباً أم تطوعاً - فهو الحرم لقوله تعالى :(1/288)
{ هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] وقوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] ومَحِلّه هو الحرم فيجوز أن يذبح في أي مكان من الحرم ، في مكة ومنى وغيرها من حدود الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم : « كل مِنى منحرٌ ، وكلّ المزدلفة موقفٌ ، وكلّ فِجاج مكة طريق ومنحر » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تعظيم الهدي والتقرب به إلى الله من شعائر الدين الإسلامي .
2 - الهدي والأضحية لا تكون إلاّ من الأنعام ( الإبل والبقر والغنم ) .
3 - الأفضل في الإبل النحرُ ، وفي البقر والغنم الذبحُ .
4 - في إراقة الهدي نفع الفقير ، والحصولُ على مرتبة التقوى .
5 - النسك بالأضاحي فيه إحياء لذكرى ( الفداء ) لإسماعيل مع أبيه الخليل عليهما السلام حين أمر بذبح ولده في المنام .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جعل الباري - تباركت أسماؤه - الهَدْي والأضاحي من شعائر دين الله ، يذبحها المسلم ليتقرب بها إلى ربه جلّ وعلا وينال مغفرته ورضوانه ، ولتكون تكفيراً لما جنته يداه من الذنوب والآثام ، وليتعودّ على الإخلاص في القول والفعل والعمل ، فالمؤمن إنما يذبح على اسم الله ، وبأمره جل وعلا ، ألاّ يذكر معه اسم غيره ، ولا يتوجه إلى أحد سواه ، ولا يقصد بعمله غير وجه الله ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 162-163 ] .
وبهذا التوجه بالنسك لله يتعود المؤمن على الإخلاص ، ويكتسب مرتبة التقوى التي أشارت إليها الآية الكريمة { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] .
ولئن كان المشركون يذبحون هذه القرابين للأصنام رجاء النفع ودفع الضر ، فإن المؤمن لا يذبح لصنمٍ ، ولا وثن ، وإنما يتقرب بنسكه إلى الله وحده ، مخلصاً له العبادة جل وعلا والإسلام يربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وبين تقوى القلوب ، فالتقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره ، وهذه المناسك والشعائر كلها رموزٌ تعبيرية عن التوجه إلى ربّ البيت وطاعته ، وهي تحمل في طياتها ( ذكرى الفداء ) ذكرى إقدام الخليل إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده ( إسماعيل ) امتثالاً لأمر الله حين أمر بذبح ولده في المنام { إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } [ الصافات : 102 ] إلى قوله : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] فهوى ذكرى لآيةٍ من آيات الله ، ومعجزة من معجزاته الباهرة ، حين فدى ولد خليله بذبح عظيم ، وهي بعد ذلك صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء ، ومعونة أهل الحاجة من الضعفاء .(1/289)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
التحليل اللفظي
{ سُورَةٌ } : السورة في اللغة معناها المنزلة السامية والمكانة الرفيعة ، قال النابغة :
« ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... تَرى كلَّ مَلْك دونها يتذبذب »
وهي في الاصطلاح : مجموعة من الآيات الكريمة لها بدء ونهاية كسورة الكوثر . وسميت ( سورة ) لشرفها وارتفاعها ، كما يسمّي السور للمرتفع من الجدار .
{ أنزلناها } : المراد : أوحينا بها إليك يا محمد ، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول مع العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى لا من تأليف محمد كما زعم المشركون .
{ وفرضناها } : أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً . وأصلُ الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه ، وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ما قيل ، وقرئ بالتشديد { فرضناها } للمبالغة ، ولتأكيد الإيجاب ، ولتعدد الفرائض وكثرتها .
{ آيات بينات } : الآيات جمع ( آية ) وهي قد ترد بمعنى الآية القرآنية ، وقد ترد بمعنى العلامة ، أو الشاهد على القدرة الإلهية ، مثل قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ] وقول الشاعر :
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه واحد
ومعنى ( بينات ) أي واضحات ، فإن أريد بالآيات ( الآيات القرآنية ) كان المعنى أنها واضحات الدلالة على أحكامها ، مثل الآيات التي فيها أحكام الزنى ، والقذف ، واللعان وغيرها ، وإن أريد بالآيات ( الآيات الكونيّة ) كان المعنى أنها واضحات الدلالة على وحدانية الله ، وكمال قدرته مثل التأليف بين السحاب ، ووميض البرق ولمعانه ، وتقليب الليل والنهار ، واختلاف المخلوقات في أشكالها ، وهيئاتها ، وطبائعها ، مع اتحاد المادة التي خلقت منها . إلى غير ما هنالك من أدلة التوحيد ، وشواهد القدرة .
{ تَذَكَّرُونَ } : مضارع حذف منه إحدى التائين وأصلها تتذكرون . ومعنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة الشيء الذي غاب عنها ، والمراد به هنا الاتعاظ والاعتبار أي ( لعلكم تعتبرون وتتعظون ) .
{ الزانية والزاني } : الزنى في اللغة : الوطء المحرّم ، وفي الشرع : ( وطءَ الرجل المرأةَ في الفرج من غير نكاحٍ ولا شبهة نكاح ) ويسمى الفاحشة قال تعالى : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ . . . } [ النساء : 15 ] الآية وقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
وهو في اللغة الفصحى - لغة أهل الحجاز - مقصورٌ ، وقد يمد في لغة - أهل نجد -0 فيقال الزناء وعليه قول الفرزدق :
أبا طاهرٍ من يزنِ يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً
قال القرطبي : كان الزنى في اللغة معروفاً قبل الشرع مثل اسم ( السرقة ) و ( القتل ) وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح ، وإن شئت قلت : هو إدخال فرجٍ في فرجٍ مشتهى طبعاً محرّمٍ شرعاً .
{ فاجلدوا } : الجَلد بفتح الجيم ضرب الجِلد بكسرها ، قال الألوسي : وقد اطرد صوغ ( فَعَل ) الثلاثي المفتوح العين من أسماء الأعيان فيقال : رأسَه ، وظَهرَه ، وبَطنَه ، إذا ضرب رأسه وظهره وبطنه .(1/290)
وجوّز ( الراغب ) أن يكون معنى جَلَده : أي ضربه بالجِلّد ، نحو عَصَاه ضربه بالعصا ، ورَمَحه طعنه بالرمح .
والمراد هنا المعنى الأول : فإنّ الأخبار قد دلت على أنّ الزانية والزاني يضربان بسوط ( عصا ) لا عقدة عليه ولا فرع له . ويرى بعضهم : أن الجَلد في العرف الضربُ مطلقاً ، وليس خاصاً بضرب الجِلد بلا واسطة .
{ رَأْفَةٌ } : شفقة وعطف ، مأخوذ من رؤف إذا رق ورحم ، والرؤوف من أسماء الله تعالى : العطوفُ الرحيم ، وقيل الرأفة تكون في دفع المكروه ، والرحمة أعم ، والمراد : النهي عن التخفيف في الجلد ، أو إسقاط الحد بالكلية كما نبذه عليه الألوسي .
{ دِينِ الله } : أي في شرع الله وحكمه ، أو في طاعته وإقامة حده ، وروى عن عطاء أنّ المراد النهي عن إسقاط الحد بشفاعة ونحوها .
{ طَآئِفَةٌ } : الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف ، وهو الدَّوران والإحاطة وقد تطلق في اللغة ويراد بها الواحد ، أو الجماعة ، قال الألوسي : والمراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الماكن والأشخاص .
{ لاَ يَنكِحُ } : المراد بالنكاح هنا ( العقد ) بمعنى لا يتزوج الزاني إلا زانية مثله ، ويوافقه سبب النزول كما سيأتي والنفي في الآية بمعنى النهي للمبالغة ويؤيده قراءة { لا يَنْكِحْ } بالجزم ، ويشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تُنْكِحُ البِكرُ حتى تُستَأذن » فهو خبر بمعنى النهي أي لا تزوِّجوا البكر حتى تستأذنوها . وقيل المراد بالنكاح في الآية : الوطء وأنكر ذلك الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزوج .
{ مُشْرِكَةً } : هي التي ليس لها دين سماوي والتي لا تؤمن بالله كالمجوسية ، والوثنية ، وهي تختلف عن الكتابية في الحكم ، فالكتابية يجوز الزواج بها ، والمشركةُ لا يجوز قال تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ . . . } [ البقرة : 221 ] الآية .
{ وَحُرِّمَ ذلك } : أي حرَّم الله تعالى الزنى على المؤمنين لما فيه من أضرار جسيمة ، ومفاسد عظيمة ، أو المراد حرم الله نكاح الزانيات والمشركات .
المعنى الإجمالي
يخبر الله جل وعلا بما أنزل على عباده المؤمنين في هذه السورة الكريمة ، من تشريع وأحكام ومواعظ وآداب وإرشادات حكيمة ، وأخلاق كريمة ، ونُظم وتشريعات ، بها صلاح دينهم ودنياهم ، وسعادتهم في الدنيا والآخرة فيقول سبحانه ما معناه : هذه سورة من جوامع سور القرآن أنزلتها عليكم أيها المؤمنون لتطبقوا أحكامها وتتأدبوا بما فيها من آداب . ولم أنزلها عليكم لمجرد التلاوة وإنما فرضتها عليكم وألزمتكم أن تعملوا بما فيها لتكون لكم قبساً ونبراساً ، ولتعتبروا بما فيها من الآيات البيذنات ، والدلائل المحكمات والشواهد الكثيرة على رحمة الله عز وجل العادلة في تشريع هذه الأحكام التي بها سعادة المجتمع ، وحياة الإنسانية(1/291)
{ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] .
ومن هذه الأحكام والحدود التي شرعتها لكم ، أن تجلدوا كلاً من الزانيين مائة جلدة ، تستوفونها منهما كاملة دون رحمة أو شفقة ، ودون تخفيف من العقاب ، أو إنقاصٍ من الحد ، فإن ( جريمة الزنى ) أخطر وأعظم من أن تستدر العطف أو تدفع إلى العفو عن مرتكب هذه الجريمة النكراء ، فإن من عرف آثارها وأضرارها من تدنيسٍ للعرض والشرف ، وضياع للأنساب ، واعتداء على كرامة الناس ، وتلطيخ لهم بالعار والشنار وتعريض للأولاد للتشرد والضياع ، حيث يولد ( اللقيط ) وهو لا يدري أباه ، ولا يعرف حسبه ونسبه - إلى غير ما هنالك من أضرار - من عرف ذلك أدرك حكة الله تعالى في تشريع هذا العقاب الزاجر الصارم . وليس هذا فحسب بل لا بد أن تشهدوا على هذه العقوبة لتكون زجراً له ولأفراد المجتمع من اقتراف مثل هذا المنكر الشنيع ، فتحصل العظة والعبرة . . . { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } .
ثم بين تعالى أن الزاني لا يليق به أن ينكح المؤمنة العفيفة الشريفة إنما ينكح مثله أو أخسّ منه ، ينكح الزانية الفاجرة أو المشركة الوثنية ، ولا عجب فإن الفاسق الخبيث لا يرغب غالباً إلا في فاسقة من شكله أو مشركة ، والزانيةُ الخبيثة كذلك لا يرغب فيها إلا خبيث مثلها أو مشرك . فالنفوس الطاهرة تأبى مثل هذا الزواج بالفواجر الفاسقات وصدق الله : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] .
وقد حرم الله الزنى لما فيه من أضرار عظيمة ، ومخاطر جسيمة تودي بحياة الأفراد والجماعات ، وتقوّض بنيان المجتمعات ، وتعرِّض الأولاد للتشرد والضياع .
سبب النزول
رُويَ في سبب نزول الآية الكريمة { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } عدة أسباب ذكرها المفسرون ونحن ننقل أجمعها وأصحها وهي كالآتي :
أولاً - روى أن رجلاً يقال له ( مرثد الغنوي ) كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، وكانت امرأة بغّي بمكة يقال لها ( عَنَاق ) وكانت صديقة له ، وأنه وعد رجلاً من أسارى مكة أن يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، فجاءت ( عَنَاق ) فأبصرتْ سوادَ ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفتني فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد ، فقالت : مرحباً وأهلاً هلمّ فبت عندنا الليلة ، فقلتُ يا عناق : قد حرَّم الله تعالى الزنى ، فنادت يا أهل الخيام : هذا الرجل يحمل أسراكم ، قال : فتبعني منهم ثمانية ، فانتهيت إلى غار فجاءوا حتى قاموا على رأسي وبالوا ، حتى ظلّ بولهم على رأسي ، وأعماهم الله تعالى عني ، ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : أأنكح عناقاً؟ فأمسك فلم يردّ عليَّ شيئاً فأنزل الله { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } الآية فقرأها عليَّ الرسول ، ثم قال يا مرثد : لا تَنكحها .(1/292)
ثانياًً - وروي أن امرأة تُدعى ( أم مهزول ) كانت من البغايا ، فكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه ، فأراد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله تعالى : { الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } .
ثالثاً - وروي أنها نزلت في أهل الصفّة وكانوا قوماً من المهاجرين ، ولم يكن لهم مساكن ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمأة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل وكان بالمدينة ( بغايا ) متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام ، فهمّ بعضهم أن يتزوجوا بهنّ . ليأووا إلى مساكنهنّ ، ويأكلوا من طعامهن فنزلت هذه الآية .
لطائف التفسير
1- اللطيفة الأولى : التنكير في قوله ( سورة ) للتفخيم فكأن الله تعالى يقول : هذه سورة عظيمة الشأن جليلة القدر ، لما فيها من الآداب السامية والأحكام الجليلة ، قال الألوسي : وهي ( خبر ) لمبتدأ محذوف أي هذه سورة ، وأشير إليها بهذه تنزيلاً لها منزلة ( الحاضر ) المشاهد وقوله تعالى : { أَنزَلْنَاهَا } وما بعده صفات لها مؤكدة ، لما أفاد التنكير من ( الفخامة ) من حيث الذات ، بالفخامة من حيث الصفات .
2- اللطيفة الثانية : تكرير لفظ { أَنزَلْنَا } في قوله : { أَنزَلْنَاهَا } و { أَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ } لإبراز كمال العناية بشأنها ، وهو يشبه ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام .
3- اللطيفة الثالثة : قال الفخر الرازي : أنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود وذكر في آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى : { فَرَضْنَاهَا } إشارة إلى الأحكام ، وقوله : { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } إشارة إلى دلائل التوحيد ويؤيده قوله : { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكروا بها . قال الألوسي : وهذا الوجه عندي حسن .
4- اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أصل ( لعل ) للترجي والترجي لا يليق من الله تعالى ولذلك تكون لعل هنا بمعنى ( لام التعليل ) أي لتتذكروا وتتدبروا بما فيها واستشهدوا بقول الشاعر :
فقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا ... نكفّ ووثّقثتم لنا كل مَوثِقِ
أي كفوا الحروب لنكف ، وذكر القرطبي وجهاً آخر وهو أن تبقى ( لعل ) للترجي ولكن يكون الترجي من المخلوق لا من الخالق أي رجاء منكم أن تتذكروا .
5- اللطيفة الخامسة : فإن قيل : ما الحكمة في أن يبدأ الله في الزنى بالمأة وفي السرقة بالرجل؟ فالجواب أنَّ الزنى من المرأة أقبح ، وجرمه أشنع ، لما يترتب عليه من تلطيخ فراش الرجل وفساد الأنساب وإلحاق العار بالعشيرة ثم الفضيحة بالنسبة للمرأة ( بالحمل ) تكون أظهر وأدوم فلهذا كان تقديمها على الرجل .
وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجل لأنه أجرأ عليها وأجلد وأخطر فقدم عليها لذلك . قال القرطبي : قدمت { الزانية } في هذه الآية ، من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاشٍ وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك ، وذرك وجوهاً أخرى تؤيد ما سبق .(1/293)
6- اللطيفة السادسة : عبّر بقوله : ( فاجلدوا ) ولم يقل ( فاضربوا ) للإشارة إلى أن الغرض من الحد الإيلام بحيث يصل ألمه إلى الجِلد ، لعظم الجُرم ردعاً له وزجراً .
قال العلماء : ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به ، وأما بقية الحدود فالأمر فيها أخف .
7- اللطيفة السابعة : قال القرطبي : ذكر الله سبحانه وتعالى : ( الذكر والأنثى ) وكان يكفي منهما لفظ ( الزاني ) فقيل : ذكرهما للتأكيد ، ويحتمل أن يكون ذكرهما لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي - رحمه الله - فقالوا : لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان .
8- اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله } هذا من باب التهييج والإلهاب كما يقال إن كنت رجلاً فافعل كذا ، ولاشك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم ، ولكن قصد تهييج وتحريك حميتهم ليجتهدوا في نتفيذ الأحكام على الوجه الأكمل .
9- اللطيفة التاسعة : قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } الآية قال الألوسي : فيه تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة ، والزانية بعتد أن رضيت بالزنى لا يليق أن ينكحها إلاّ مَنْ هو مثلها وهو الزاني ، أو هو أشد حالاً منها وهو المشرك وأما المسلم العفيف فأسَدُ غيرته يأبى ورود جَفْرتها :
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماء ... إذا كان الكلاب ولَغْن فيه
والسر في تقديم ( الزانية ) في الآية الأولى ، ( والزاني ) في الآية الثانية ، أو الأولى في بيان عقوبة الزنى والأصل فيه المرأة لموافقتها ورضاها ، وأما الثانية فهي في حكم نكاح الزناة ، والأصلُ في النكاح الذكور . قال في « التفسير الواضح » : إن الزنى ينشأ غالباً وللمرأة فيه الضلع الأكبر ، فخروجها سافرة متبرجة متزينة داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة ، ونظرات كلها إغراء للشباب وفتنة فهذه كلها حبائل الشيطان .
وليس معنى هذا أن الرجال بريئون بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسطُ المرأة أكبر ، ولهذا قدمها على الزاني وفي الآية الثانية يعالج النكاح بمعنى ( العقد ) وللمرأة فيه الخطوة الثانية ، أما الرجل فله الخطوة الأولى ولهذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه .
10 اللطيفة العاشرة : قرن الله عز وجل الزاني بالمشرك وذلك ليشير إلى عظيم خطر الزنى وكبير ضرره وذلك جرم من أعظم الجرائم الاجتماعية يهدم بنيان الأسرة ويحطم كيان المجتمع ولهذا قرنه الله تعالى : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ . . . } [ الفرقان : 68 ] الآية .(1/294)
جنبنا الله السوء والفاحشة . بمنّه وكرمه آمين .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { وَفَرَضْنَاهَا } قرئ بالتخفيف والتشديد ، فقراء التخفيف { فَرَضْناها } بمعنى أوجبنا وألزمنا العمل بما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وقراءة التشديد { فرّضْناها } لتأكيد الايجاب أو المبالغة في لزومه وقيل : هو على التكثير ، أي لكثرة ما فيها من الفرائض كأحكام الزنى ، والقذف ، واللعان ، والأمر بالحجاب ، والاستئذان وغضّ البصر ، وغير ذلك .
2- قوله تعالى : { الزانية والزاني } قرأ الجمهور بالرفع وقرئ بالنصب ( الزانية ) واختار الخليل وسيبوية الرفع اختيار الأكثرين . قال الزجاج : والرفع أقوى في العربية لأن معناه : من زنى فاجلدوه فتأويله الابتداء ويجوز النصب على معنى : اجلدوا الزانية .
3- قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ } قرأ الضحاك والأعمش { ولا يأخذكم } بالياء بدل التاء وقوله تعالى : { رَأْفَةٌ } بإسكان الهمزة هي القراءة المشهور وقرئ { رَأَفة } بفتح الهمزة قال القرطبي : وفيه ثلاث لغات : ( رَأَفة ، ورأْفة ، ورآفة ) بالمد وهي كلها مصادر أشهرها الأولى .
4- قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ } بضم الحاء وقرئ بإسكانها { لا ينكحْ } فالأولى ( نفيٌ ) ، والثانية ( نهيٌ ) ، وقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذلك } قرئ بالتشديد أي بضم الحاء وتشديد الراء ، وقرئ بالتخفيف { وحَرُم } بفتح الحاء وضم الراء - قال ابن الجوزي : وقرأ أُبيَّ بن كعب { وحَرَم اللَّهُ } بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف ( حَرّم ) .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } سورة خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذه سورة ، وإنما قدرنا ذلك لأنها نكرة ، والمشهورُ عند علماء النحو أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة كما قال ابن مالك :
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ... مال لم تفد كعند زيد نمرة
وجوَّز بعضهم أن تكون مبتدأ لأنها موصوفة بجملة ( أنزلناها ) وهو رأي ( الأخفش ) قال القرطبي : ويحتمل أن يكون قوله ( سورة ) ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك .
ويرى ( الزمخشري ) أنه يجوز أن تكون مبتدأ موصوفاً والخبر محذوف تقديره فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها ، وقد رد العلامة ( أبو السعود ) هذا الرأي وقال : وأما كونها متبدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير : ( فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها ) الخ فيأباه أنّ مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام سورة شأنها كذا وكذا . وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات .
2- قوله : { أَنزَلْنَاهَا } الجملة من الفعل والفاعل في محل رفع ( صفة ) لأن الجمل من بعد النكرات صفات . كما يقول علماء النحو .
3- قوله : { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لعل للترجي وهي من أخوات ( إنَّ ) والكاف في محل نصب اسم لعل ، وجملة ( تَذكَّرون ) من الفعل والفاعل في محل رفع خبرها .
4- قوله : { الزانية والزاني } الزانية مبتدأ والزاني معطوف عليها والخبر هو جملة ( فاجلدوا ) والتقدير الزانية والزاني مجدلودان في حكم الله أو ينبغي أن يُجْلدا ، وإنما دخلت الفاء على الخبر لأن في الجملة معنى الشرط أي من زنى أو من زنت فاجلدوهما مائة جلدة ، وأما قراءة النصب ( الزَّانيةَ والزاني ) فهو منصوب بفعل محذوف يفسِّره المذكور أي اجلدوا الزانيةَ واجلدوا الزاني .(1/295)
5- قوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ } أن الشرطية جازمة ( وكنتم ) فعل الشرط متصرفة من ( كان ) الناقصة والضمير اسمها وجملة ( تؤمنون ) من الفعل والفاعل خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن كنتم مؤمنين حقاً فلا تأخذكم بهما رأفة والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : كيف كانت عقوبة الزنى في صدر الإسلام؟
كان عقوبة الزنى في صدر الإسلام . عقوبة حفيفة موقَّتة ، لأن الناس كانوا حديثي عهد بحياة الجاهلية . ومن سنة الله جل وعلا في تشريع الأحكام ، أن يسير بالأمة في طريق ( التدرج ) ليكون أنجح في العلاج . وأحكم في التطبيق ، وأسهل على النفوس لتتتقبل شريعة الله عن - رضى واطمئنان - كما رأينا ذلك في تحريم الخمر والربا وغيرهما من الأحكام الشرعية .
وقد كانت العقوبة في صدر الإسلام هي ما قصه الله علينا في سورة النساء في قوله جل شأنه { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً * واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [ النساء : 15 - 16 ] فكانت عقوبة المرأة ( الحبس ) في البيت وعدم الإذن لها بالخروج منه ، وعقوبة الرجل ( التأنيث والتوبيخ ) بالقول والكلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ . . . } الآية . ويظهر أن هذه العقوبة كانت أو الإسلام من قبيل ( التعزير ) لا من قبيل ( الحدّ ) بدليل التوقيت الذي أشارت إليه الآية الكريمة { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] وقد استبدلت هذه العقوبة بعقوبة أشد هي ( الجلد ) للبكر و ( الرجم ) للزاني المحصن ، وانتهى ذلك الحكم الموقت إلى تلك العقوبة الرادعة الزاجرة .
روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : ( كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربّد وجهه ، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقي كذلك فلما سُرِّي عنه قال خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهنَّ سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيبُ بالثيب جلد مائة والرجم ) .
الحكم الثاني : ما هو حدُّ البكر ، وحدُّ المحصن؟
فرقت الشريعة الإسلامية بين حد البكر ( غير المتزوج ) فخففّفت العقوبة في الأول فجعلتها مائة جلدة ، وغلّظت العقوبة في الثاني فجعلتها الرجم بالحجارة حتى الموت ، وذلك لأن جريمة الزنى بعد الإحصان ( التَّزوج ) أشد وأغلظ من الزنى المحض في نظر الإسلام فالجريمة التي يرتكبها رجل محصن من ( امرأة محصنة ) عن طريق الفاحشة أشنع وأقبح من الجريمة التي يرتكبها مع البكر لأنه قد أفسد نسب غيره ودنّس فراشه وسلك لقضاء شهوته طريقاً غير مشروع مع أنه كان متمكناً من قضائها بطريق مشروع فكانت العقوبة أشد وأغلظ .(1/296)
« الجلد ثابت بالنص القرآني القاطع »
أم الجلد : فقد ثبت بالنص القرآني القاطع { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } والآية الكريمة إنما هي في حد الزاني ( غير المحصن ) والآية وإن كانت عامة في كل ( زان ) إلا أن السنة النبوية قد بينت ذلك ووضحته كما في حديث ( عبادة بن الصامت ) المتقدم ومهمة الرسول البيان كما قال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] وكفى بتوضيح الرسول وبيانه وتفصيلاً وبياناً لمجمل القرآن!!
« الرجم ثابت بالسنة النبوية المتواترة »
وأمّا الرجم : فقد ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله ، وعمله ، وكذلك بإجماع الصحابة والتابعين فقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا يتطرأ إليها الشك ، وبطريق التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام ( حد الرجم ) على بعض الصحابة كماعز ، والغامدية ، وأن الخلفاء الراشدين من بعده قد أقاموا هذا الحد في عهودهم وأعلنوا مراراً أن الرجم هو الحد للزنى بعد الإحصان .
ثم ظلّ فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه حكماً ثابتاً وسنة متبعة وشريعة إلهية قاطعة ، بأدلة متضافرة لا مجال للشك فيها أو الارتياب ، وبقي هذا الحكم إلى عصرنا هذا لم يخالف فيه أحد إلا فئة شاذة من المنحرفين عن الإسلام هم ( الخوارج ) حيث قالوا : إن الرجم غير مشروع وسنبين فساد مذهبهم فيما يأتي :
أدلة الخوارج والرد عليها :
استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بأدلة ثلاثة هي أوهَى من بيت العنكبوت نلخصها فيما يلي :
أولاً : قالوا الرجمُ أشدُّ العقوبات فلو كان مشروعاً لذكِر في القرآن ولمّا يذكر دل على أنه غير مشروع .
ثانياً : إن حدّ الأمة نصف حد الحرة { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] والرجم لا ينتصف فلا يصح أن يكون حداً للحرة .
ثالثاً : إن الحكم عام في جميع الزناة وتخصيص ( الزاني المحصن ) من هذا الحكم مخالف للقرآن .
هذه هي خلاصة أدلتهم وهي في الواقع تدل على جهلهم الفاضح وعدم فهمهم لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم أو سوء إدراكهم لأسرار القرآن ومقاصده ، وذلك منتهى الجهل والغباء .
الرد على أدلة الخوارج :
وقد ردّ أهنل السنة والجماعة على الخوارج بأدلة دامغة تقصم ظهر الباطل ، وتخرس كلّ أفّاك أثيم نلخصها فيما يلي :
أولاً : إن عدم ذكر الرجم في القرآن لا يدل على عدم المشروعية فكثير من الأحكام الشرعية لم تذكر في القرآن وإنما بينتها السنة النبوية والله تعالى قد أمرنا باتباع الرسول والعمل بأوامره(1/297)
{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] والرسولُ مبلغ عن الله عزَّ وجلَّ ، وكلُّ ما جاء به إنما هو بوحي سماوي من العليم الحكيم { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3 - 4 ] . وكيف يكون الرجم غير مشروع وقد رجم صلى الله عليه وسلم ورجم معه أصحابه وبيّن ذلك بهدية وفعله!! .
ثم إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينها القرآن بقوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] وليس قول الرسول « خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً . . وفيه : والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » ليس هذا القول إلا من البيان الذي أشار إليه القرآن وهو نص قاطع على حكم الزاني المحصن وقد أشار صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف بقوله : « ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه » إلى أن سنته المطهرة بوحي من الله فثبت أن كل ما جاء به الرسول هو تشريع من الله ، وأنه واجب الاتّباع .
ثانياً : إن قوله تعالى : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] ليس فيها دليل على ما قاله الخوارج من عدم مشروعية الرجم ، فإن الآية الكريمة قد أشارت إلى أن المراد بالعذاب هنا ( الجلد ) لا ( الرجم ) بدليل التنصيف في العقوبة والله تعالى يعلم أن الرجم لا ينصف ولا يمكن للناس أن يميتوا إنساناً نصف موتة فدل ( العقل ) و ( الفهم السليم ) على أن المراد بهذه العقوبة الجلد لا الرجم .
فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة ، وتجلد الحرة البكر مائة جلدة . والسر في هذا التخفيف على ( الأمة ) دون الحرة أن الجريمة من الحرة أفظع وأشنع لكون الحرة في مأمن من الفتنة ، وهي أبعد عن داعية الفاحشة والأمة ضعيفة عن مقاومتها ، فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها .
ثالثاً : وأما دعواهم أن الحكم عام ، وتخصيصه مخالف للقرآن فجهلٌ مطبق ألا ترى أن كثيراً من الأحكام جاءت عامة وخصصتها السنة النبوية!! مثل : قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] فإن هذا اللفظ عام يشمل كل سارق حتى ولو كانت سرقته لشيء حقير ( وتافه ) وعلى دعواهم ينبغي أن نقطع يد من سرق فلساً أو يإبرة ، مع أن السنة النبوية قد خصصت هذا الحكم وقيدته بربع دينار أو ما قيمته عشرة دراهم ، وكذلك قوله تعالى : { وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة } [ النساء : 23 ] لم تنص الآية إلا على حرمة الأم والأخت من الرضاعة ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، فيجب أن تكون حرمة ( البنت من الرضاعة ) مخالفة للقرآن بموجب دعواهم . والقرآن نهى عن ( الجمع بين الأختين ) فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها ، أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن .(1/298)
. . وهذا جهل واضح لا يصدر من مسلم عاقل .
قال العلامة الألوسي في تفسيره « روح المعاني » :
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت ، وإنكار الخوارج ذلك باطل ، لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب ، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه السلام ( متواتر ) المعنى ، وهم كسائر المسلمين أوقعهم في جهالات كثيرة ، ولهذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات ، فقالوا : ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقال لهم : وهذا أيضاً كذلك .
ومراده أنهم لما احتجوا عليه بعدم وجود الرجم في القرآن ، سألهم عن عدد ركعات الصلاة ، هل هي مذكورة في القرآن؟ مقدار نصاب الزكاة وشروط وجوبها ، هل هو موجود في القرآن؟ فلما أقروا بأن هذا ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعل المسلمين أقام عليهم الحجة بذلك .
شهادة صادقة وبصيرة نافذة :
وكأني بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه ، وقد ألهم أمر هؤلاء الخوارج فكشف نواياهم وأطلع الناس على خبث عقيدتهم فخطب على المنبر وكان فيما قال : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وأخشى أن يطول الناس زمان فيقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل في كتابه . ألا وإنّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف ، والله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها .
الحكم الثالث : هل يجمع بين الرجم والجلد؟
ذهب أهل الظاهر إلى وجوب ( الجلد والرجم ) في حق الزاني المحصن وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله . وذهب الجمهور إلى أن حده ( الرجم ) فقط وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار والرواية الأخرى عن أحمد .
أدلة الظاهرية :
استدل أهل الظاهر على الجمع بين الجلد والرجم بما يلي :
أ- العموم الوارد في الآية الكريمة { الزانية والزاني } فإنّ ( أل ) للجنس والعموم ، فيشمل جميع الزناة وجاءت السنة بزيادة حكم في حق المحصن وهو ( الرجم ) فيزاد على الجلد .(1/299)
ب- حديث عبادة بن الصامت ( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) وقد تقدم .
ج- ما روي عن ( علي ) كرم الله وجهه حين جلد ( شراحة ) ثم رجمها من قوله : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على عدم الجمع بين الجلد والرجم ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي :
أولاً : ما روي في « الصحيحين » : أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى ، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه - نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل : فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ، ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني ( جلد مائة وتغريب عام ) وأن على امرأة هذا الرجم . .
فقال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله ، الوليدةُ والغنمُ ردٌّ عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها » .
فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت .
قالوا فأمره برجمها ولم يقل له اجلدها ثم ارجمها .
ثانياً : واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكرر الرجم في زمانه ، فرجم ( ماعزاً ) و ( الغامدية ) ورجم أصحابه معه ولم يَروِ أحدٌ أنه جمع بينه وبين الجلد ، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا ( الرجم ) لا غير .
ثالثاً : واستدلوا بالمعقول أيضاً فقالوا : إن الغرض من الجلد الزجرُ والتأديبُ ، فإذا حكمنا عليه بالرجم فلا يبقى ثمة داع إلى الجلد ، لأن الجلد يَعرى عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار ، لأن هذا الشخص سيرجم حتى الموت فلا ينفع الجلد مع وجود الرجم . ومثله إذا وجب الغسل على إنسان يدخل معه الوضوء .
وأجابوا عن أدلة الظاهرية بأن حديث ( عبادة بن الصامت ) منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله حيث رجم ولم يجلد ، فوجب أن يكون الخبر السابق منسوخاً . . . وأما استدلالهم بالعموم في الآية الكريمة فغير مسلّم لأن الآية كما يقول الجمهور خاصة ب ( البكرين ) وليست عامة بدليل خروج العبيد والإماء منها حيث أن حد العبد خمسون جلدة لا مائة جلدة وهذا يدفع العموم .
وأجابوا عن فعل علي كرم الله وجهه بشراحة حيث جلدها ثم رجمها بن هذا رأيٌ له لا يقاوم الثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله ، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة ، ويمكن حمله على أنه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد فأخبِرَ أولاً بأنها بكر فجلدها ، ثم أُخبِرَ بأنها محصنة أي ( متزوجة ) فرجمها ويشبه هذا ما رواه جابر رضي الله عنه أن رجلاً زنى بامرأة ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد الحَدّ ثم أُخبر أنه محصن فأمر به فرجم .(1/300)
الترجيح : وبهذا يتبين لنا قوة أدلة الجمهور وضعف أدلة الظاهرية والله أعلم .
الحكم الرابع : هل يُنْقى الزاني ويغرّبُ من بلده؟
يرى الإمام ( أبو حنيفة ) أن حدّ الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة أو النفي ليس من الحد في شيء وأنه مفوض إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء ترك .
ويرى الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن حده الجلد مائة جلدة وتغريب عام .
أدلة الأحناف :
أولاً : استدل أبو حنيفة بظاهر الآية الكريمة ، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مائة جلدة ، فلو كان النفي مشروعاً لكان ذلك نسخاص للكتاب ، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ الكتاب ، ولو كان النفي حداً مع الجلد لبيَّنه عليه الصلاة والسلام للصحابة لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع الحد ، ولكان وروده فيوزن ورود نقل الآية وشُهرتها ، ولمّا لم يكن ذلك كذلك ثبت أ نه ليس بحد ، وأن حد الزنى ليس إلا ( الجلدُ ) .
ثانياً : استدل بحديث إذا زنتْ الأمةُ فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يُثرِّبْ عليها ، صم غن زنت فلْيَبعها ولو بحبل من شعر فدل الحديث على أن الجلد هو تمام الحد ، ولو كان النفي من الحد لذكره .
ثالثاً : واستدل أيضاً بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إذا زنى البكران فإنهما يجلدان ولا ينفيان لأن نفيهما فتنة لهما وقال : « وكفى بالنفي فتنة » .
أدلة الجمهور :
1- واستدل الجمهور بحديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه ( البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام ، والثيَّبِ جلدُ مائةٍ والرجمُ ) .
2- قصة العسيف الذي زنى بامرأة الأعرابي وقد تقدم وفيه قوله : ( إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام ) والحديث مروي في « الصحيحين » .
3- قالوا وقد تكرر ذكر النفي في قصة العسيف على أنه من الحد ، ولا مانع من الزياة عل حكم الآية بخبر الآحاد ، فقد أنزل الله الجلد ( قرآناً ) وبقي التغريب في البكر ( سنة ) .
هل التغريب يشمل المرأة؟
ثم إن القائلين بالنفي - وهم الجمهور - اختلفوا هل التغريب خاص بالرجل أم يشمل المرأة أيضاً ، فذهب مالك والأوزاعي إلى أن النفي خاص بالرجل ولا تُنفى المرأة لقوله عليه السلام : ( البكر بالبكر ) الحديث .
وقال الشافعي وأحمد : إن النفي عام للرجال والنساء فتغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها ودليلهما عموم الأحاديث وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : « إنّ الزاني لا يخلو : إما أن يكون بكراً وهو الذي لم يتزوج ، أو محصناً وهو الذي قد وَطِيءَ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل ، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية ، ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله ، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرَّب ، وإن شاء لم يغرِّب .(1/301)
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في « الصحيحين » . وذكر قصة العسيف التي مرّ ذكرها « .
يقول الشيخ السايس في كتابه » تفسير آيات الأحكام « :
» ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بإبقاء الآية على حكمها ، وأن الجلد هو تمام الحد ، وجعل النفي على وجه التعزير ، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر ، وكسر الأواني ، لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة « .
الحكم الخامس : ما هو حد الذمي المحصن؟
اختلف العلماء في حد الذمي المحصن فذهب الحنفية إلى أن حدَّه ( الجلد ) وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن حده الرجم .
دليل الأحناف :
1- حديث ابن عمر ( من اشرك بالله فليس بمحصن ) قالوا : والمراد به إحصان الرجم ، وأما رجم الرسول صلى الله عليه وسلم لليهودِيّيْنِ فإنما كان بحكم التوراة .
2- قالوا : إن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ ولهذا تُشدّد العقوبة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في حق أمهات المؤمنين { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
3- واستدلوا أيضاً بأن إحصان القذف يعتبر فيه ( الإسلام ) بالإجماع ، فكذلك إحصان الرجم ، والجامعُ هو كمال النعمة .
دليل الشافعية :
1- استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : » إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين « .
2- واستدلوا بما ثبت في » الصحيحين « عن ابن عمر رضي الله عنهما : » أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا ، فقال : ما تجدون في كتابكم؟ قالوا : نسخِّم وجوههما ويخزيان ، قال : كذبتم إنَّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فجاءوا بقارئ لهم ، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل له ارفع يدك ، فرفع يده فإذا هي تلوح ، فقالوا يا محمد : إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . . . قال : فلقد رأيته يُحنى على المرأة يقيها الحجارة بنفسه « رواه البخاري ومسلم .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه : » مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّم مجلود ، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا . . ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ، ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم إني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه » «(1/302)
فأمر به فرجم ، فأنزل الله عز وجل { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } إلى قوله { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } [ المائدة : 41 ] يقولون : ائتوا محمداً ، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا . . . « فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين فإن كان ذلك حكماً بشرعِهِ فالأمرُ ظاهر ، وإن كان حكماً بشرع من قبله فقد صار شرعاً له .
3- وقالوا : إنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزَّاجر فلذا يرجم .
4- وتأولوا حيدث ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) بأن المراد به ليس على قاذف المشرك عقوبة كما تجب على قاذف المسلم العفيف .
5- وأجابوا على القياس على حد القذف ، بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامةً للمقذوف ، والكافرُ لا يكون محلاً للكرامة . . .
الترجيح : ولعلَّ ما ذهب إلأيه الشافعية أرجح لقوة أدلتهم حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود فكان ذلك حجَّةً واضحة .
الحكم السادس : من الذي يتولى إقامة الحدود؟
الظاهر من قوله تعالى : { فاجلدوا } أنه خطاب موجه ( لأولي الأمر ) من الحكام لأن فيه مصلحة للمجتمع وذلك بدرء الفساد ، واستصلاح العباد وكلُّ ما كان من قبيل المصلحة العامة ، فإنما يكون تنفيذه على الإمام أو من ينيبه من القضاء أو الولاة أو غيرهم . وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه أما الأرقاء ( العبيد ) فقد اختلفوا فيهم على مذهبين :
أ- مذهب ( مالك والشافعي وأحمد ) قالوا : يجوز للسيد أن يقيم الحد على بعده وأمته في الزنى والخمر والقذف وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام .
ب- مذهب ( الأحناف ) : قالوا : إقامة الحدود كلها من حق الإمام ، ولا يملك السيد أن يقيم حدّاً ما إلى بإذن الإمام .
تحجة الجمهور : احتج الجمهور بنصوص من السنة النبوية وبآثار عن الصحابة نلخصها فيما يلي : 1- حديث أبي هريرة ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يُثَرّبْ ثمَّ إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر ) .
قالوا : فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للسيد بإقامة الحد على العبد ، ومعنى لا يثرّب : أي لا يجاوز الحدّ في الجلد ولا يبالغ فيه .(1/303)
2- حديث علي كرم الله وجهه ( أقيموا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكم مَنْ أُحْصِن أوْ لم يحْصن ) .
3- ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حداً على بعض إمائه فجعل يضرب رجليها وساقيها ، فقال له ولده ( سالم ) فأين قول الله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } ؟ فقال يا بنيّ : أتراني أشفقت عليها إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها .
قالوا : ولم يكن ابن عمر والياً ولا نائباً عن الوالي فدل على جواز إقامة الحد من جهة السيِّد .
حجة الأحناف :
1- واحتج الأحناف بظاهر الآية الكريمة { الزانية والزاني فاجلدوا } وقالوا : إن الآية عامة في كل زان وزانية وهو خطاب مع الأئمة دون سائر الناس ، والآية لم نفرق بين الأحرار والعبيد ، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون الناس .
2- وتأولوا الأحاديث التي استدل بها الجمهور بأن المراد بها أن يرفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا عليهم الحد ، ولا يسكتوا عنهم فيكون المراد من الحديث الشريف ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) إي بلغوا أمرهم للحكام ولا تخفوا عنهم ذلك ليقيموا عليهم حدود الله .
3- وقالوا : إن جلد ابن عمر بعض إمائه - إن صح - كان رأياً له لا يعارض العموم في الآية .
الترجيح : ولعل ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح سيما بعد أن وضَّحته السنة النبوية وتعزّز بفعل بعض الصحابة الأخيار ، والله أعلم .
الحكم السابع : ما هي صفة الجلد وكيفيته؟
استدل العلماء من قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } على أنه لا يجوز تخفيف العقوبة على الزاني بإسقاطها وإنقاص العدد ، أو تخفيف الضرب ، فإن العقوبة ما شعرت إلا للزجر والتأديب .
قال القرطبي : والضرب الذي يجب تنفيذه ، هو أن يكون مؤلماً لا يجرح ، ولا يبضع ، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه ، وقد أتى عمر رضي الله عنه برجل في حد فقال : للضارب اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه ، وأتي بشارب فقال : لأبعثنك إلى رجلا لا تأخذه فيك هوادة ، فبعثه إلى ( مطيع بن الأسود ) فقال : إذا أصبحت الغد فاضربه الحد ، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضرباً شديداً فقال : قتلتَ الرجل كم ضربته؟ فقال : ستين فقال : اقصَّ عنه بعشرين . يريد بذلك أن يجعل شدة الضرب الذي ضربه قصاصاً بالعشرين التي بقيت ولا يضربه العشرين .
فينبغي أن يكون الضرب معتدلاً ، لأن الغرض ( الإيلام ) لا سلخ الجلود وإزهاق الأرواح ، وهذا كما مر في حديث ابن عمر حين جلد جاريته ، واعترض عليه ولده فقال أين قول الله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } فقال يا بين ( ورأيتني أخذتني بها رأفة ) إن الله تعالى لم يأمرني أن اقتلها ولا أن أجعل جَلْدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت .(1/304)
هل الضرب في الحدود على السواء؟
وقد اختلف الفقهاء في الحدود أيها أشد؟
فقال الأحناف : ضربُ الزِّنى أشد من ضرب الخمر ، وضربُ الشُرْب أشدُ من ضرب القذف ، وأشدُّ الضربِ إنما هو في التعزير .
وقال المالكية والشافعية : الضرب في الحدود كلها سواء . ضربٌ غيرُ مبرّح ، ضربٌ بين ضربين .
وقال الثوري : ضربُ الزنى أشدُّ من ضرب القذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر .
احتج ( أبو حنيفة ) بفعل عمر ، حيث ضرب في التعزير ضرباً أشد منه في الزنى .
واحتج ( مالك والشافعي ) بأن الحدود موقوفة على الشاعر وليس فيها مجال للاجتهاد ، ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم شيء في التخفيف أو التثقيل فتكون الحدود سواء .
واحتج ( الثوري ) بأن الزنى لمّا كان أكثر في العدد ، فلا بد أن يكون الجُرم فيه أعظم ، والعقوبة أبلغ ، بخلاف القذف والخمر .
ومذهب الثوري على ما عرفت قريب من مذهب الأحناف .
وقد انتصر ( الجصاص ) رحمه الله للمذهب الأول فقال ما نصه :
قد دلَّ قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } على شدة ضرب الزاني ، وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال ، وضربُ الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب . وإنما جعلوا ضرب ( القاذف ) أخف الضرب لأن القاذف جائزٌ أن يكون صادقاً في قذفه وأنّ له شهوداً على ذلك ، والشهودُ مندوبون إلى الستر على الزاني وإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب .
ومن جهة أخرى : فإنَّ القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب .
وينبغي أن نعلم ان الحدود موقوفة على تقدير الشارع ، فلا تجوز الزيادة فهيا ولا النقصان إلا إذا كان على وجه التعزير ، فللحاكم أن يشدِّد في العقوبة .
قال العلامة القرطبي :
نصَّ الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف ، وثبت التوقيف في الخمر على ( ثمانين ) جلدة من فعل عمر رضي الله عنه في جمعٍ من الصحابة فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله ، قال ابن العربي : وهذا لم يتتابع الناس في الشرّ ، ولا احلَوْلَت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضَراوة ويعطف الناس عليهم بالهَوادة فلا يتناهوا عن منكرٍ فعلوه فحيئذ تتعين الشدة ويزيد الحد لأجل زيادة الذنب ، وقد أتي عمر بسكران في رمضان ، فضربه مائةً ، ( ثمانين ) حد الخمر ، و ( عشرين ) لهتك حرمة الشهر ، فهكذا يجب أن تتركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات ، وقد لعبق رجلٌ بصبيٍّ ، فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغيّر ذلك ( مالك ) رحمه الله حين بلغه ، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات ، والاستهتار بالمعاصي ، والتظاهر بالمناكر ، وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة لمات كمداً ولم يجالس أحداً وحسبنا الله ونعم الوكيل .(1/305)
الحكم الثامن : ما هي الأعضاء التي تضرب في الحد؟
اتفق العلماء على أن الضرب في الحدود ينبغي أن يتقي به ( الوجه ، والعورة ، والمقاتل ) حتى حكى ابن عطية الإجماع على ذلك ولكن اختلفوا فيما عداها من الأعضاء .
قال ابن الجوزي في « زاد المسير » : ( فأما ما يضرب من الأعضاء فنقل عن الإمام أحمد في حد الزاني أنه قال يجرّد من الثياب ويعطي كل عضو حقه ، ولا يضرب وجهه ورأسه وروي عنه أيضاً : لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير وهو قول أبي حنيفة وقال مالك : لا يضرب إلا في الظهر . وقال الشافعي : يتقي الفرج والوجه ) .
قال القرطبي : واختلفوا في ضرب الرأس ، فقال الجمهور : يتقي الرأس وقال ( أبو يوسف ) يضرب الرأس وضرب عمر رضي الله عنه ( صبيغاً ) في رأسه وكان تعزيزاً لا حداً .
أما الوجه والعورة فمتفق على حرمة الضرب فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه » .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سكران أو في حد ، فقال : اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير . . . وإنما يتقي الفرج لأنه مقتل - وجاء في بعض الروايات - أنه قال : ( إجْتَنِبْ رأسه ومذكيره وأعطِ كل عضو حقه ) . وقد استدل الجمهور على حرمة ضرب الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق ، وفيه النص على اجتناب الرأس ، وقالوا : إن الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق ، وفيه النص على اجتناب الرأس ، وقالوا : إن الرأس كالوجه سمنع من ضربه وربما أثر الضربُ فيه على السمع والبصر وربما حدث بسبب الضرب خلل في العقل ، واستدل الشافعي وأبو يوسف على جواز ضرب الرأس بما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أتي برجدل انتفى من ابنه ، فقال أبو بكر : اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس . وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب ( صبيغ بن عسيل ) على رأسه حين سأل عن ( الذاريات ذروا ) على وجه التعنت .
وأما مالك رحمه الله فمذهبه أن الحدود كلها يجب أن تكون في الظهر وحجته في ذلك عمل السلف الصالح وقوله عليه السلام : لهلال بن أمية حين قذف امرأته ( البينة أو حدّ في ظهرك ) .
وينبغي أن يجرّد المجلود من الثياب ويضرب قائماً غير ممدود ، إلا ( حد القذف ) فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو ، وأما المرأة فتترك عليها ثيابها وتضرب قاعدة ستراً عليها ، والدلي ما روي في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين ، وفيه يقول الراوي ( ورأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة ) .(1/306)
. وهذا يدل على أن الرجل كان قائماً والمرأة قاعدة والله أعلم .
الحكم التاسع : تحريم الشفاعة في الحدود .
لا تجوز الشفاعة في الحدود لقوله صلى الله عليه وسلم : « من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عز وجل » ولأن الحدود إنما شرعت للزجر والتأنيب ، والشفاعةُ تدفع هذا المعنى ولا تحققه وقد دلت الآية الكريمة على تحريم الشفاعة وهي قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } وقد تأولها السلف على أحد وجهين :
1- المراد منها تخفيف الحد ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري .
2- المراد إسقاطُ الحد ، وهو قول مجاهد والشعبي .
قال ابن العربي : وهو عندي محمول عليهما جميعاً ، فلا يجوز أن يحمل أحداً رأفة على زان بأن يُسْقط الحد أو يخفَّفه عنه .
ولما كانت الشفاعة تحول دون تنفيذ الحد كانت محرمة .
ومما يدل على تحريم الشفاعة في ( الحدود ) ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : مَنْ يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكلمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال : « إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » .
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبولها فقد روي أن ( الزبير بن العوام ) لقي رجلاً قد أخذ سارقاً يريد أن يهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال : ل ، حتى أبلغ به إلى السلطان فقال الزبير : إنما الشفاعة قبل أن تبلغ إلى السلطان فإذا بلغ السلطان لُعِنَ الشافعُ والمشفَّع ) رواه البخاري .
الحكم العاشر : حضور الحد وشهوده .
ظاهر الأمر في قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } يقتضي وجوب حضور جمع من المؤمنين عند إقامة الحد والمقصود من حضورهم ( حدَّ الزانيين ) التنكيلُ ، والعبرةُ ، والعظة . وقد أختلف العلماء في هذه الطائفة على أقوال :
أ- الطائفة : رجل واحد فما فوقه وهو قول مجاهد .
ب- الطائفة : اثنان فأكثر وهو قول عكرمة وعطاء وبه أخذ المالكية .
ج- الطائفة : ثلاثة فأكثر لأنه أقل الجمع وهو قول الزهري .
د- الطائفة : أربعة فأكثر بعدد شهود الزنى وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وبه أخذ الشافعية وهو الصحيح .
قال الزمخشري في « الكشاف » بعد سرده الأقوال :
( والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى :(1/307)
{ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] وفي قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] ولذلك وفّى الله في عقد المائة بكماله ، وشرع فيه القَتْلَة الهُوْلة وهي الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة بالمجلود وأمر بشهادة الطائفة للتشهير فوجب أن يكون طائفة يحصل بها التشهير ، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة ، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ويسهد له قول ابن عباس رضي الله عنهما : أربعة إلىأربعين رجلاً من المصدِّقين بالله ) .
الحكم الحادي عشر : ما هو حكم اللواط ، والسحاق ، وإتيان البهائم؟!
جريمة اللواط من أشنع الجرائم وأقبحها ، وهي تدل على انحراف في الفطرة ، وفساد في العقل ، وشذوذ في النفس ومعنى ( اللواط ) أن ينكح الرجلُ الرجلَ ، ويأتيَ الذكرُ الذكرَ ، كما قال تعالى عن قوم لوط { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165 - 166 ] ؟ - وسميت باللواط نسبة إلى قوم ( لوط ) الذين ظهرت فيهم هذه الفعلة الشنيعة ، وقد عاقبهم الله تعالى عليها بأقسى عقوبة ، فخسب الأرض بهم ، وأمطر عليهم حجار من سجيل جزاء فَعْلتهم القذرة . . . وجعل ذلك قرآناً يتلى ، ليقي عبرةً للأمم والأجيال { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } [ هود : 82 - 83 ] .
قال الشوكاني رحمه الله : ( وما أحق مرتكب هذه الجريمة ، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة ، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسِرُ شهوة الفسقة المتمردين ، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يَصْلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشبهاً لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بِكْرَهُم وثيبّهم ) .
رأي الفقهاء في حكم اللواط :
وهذه الجريمة النكراء غاية في القبح والشناعة ، تعافها حتى الحيوانات فلا نكاد نجد حيواناً من الذكور ينزو على ذكر ، وإنما يظهر هذا الشذوذ بين البشر ، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقول إنَّ هذا النوع من الشذوذ ( لوثة أخلاقية ) ، ومرض نفسي خطير وهو انحراف بالفطرة تستوجب أخذ مقترفها بالشدة ، وقد اختلف الفقهاء في تقدير العقوبة اللازمة لها على ثلاثة مذاهب :
أولاً : مذهب القائلين بالقتل مطلقاً .
ثانياً : مذهب القائلين بأن حده كحد الزنى .
ثالثاً : مذهب القائلين بالتعزير .
المذهب الأول :
أما المذهب الأول فهو مذهب ( مالك وأحمد ) وقول ( للشافعي ) وقد ذهبوا إلى أنّ حدّه القتل ، سواء كان بكراً أم ثيباً ، فاعلاً أو مفعولاً به ، وهذا القول مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين وإليه ذهبت طائفة من العلماء ، ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أن الحد في اللواط القتل .(1/308)
واستدلوا بما يأتي :
أ- حديث ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) .
ب- ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم من عمل هذا العمل - أي ارتكب اللواطة - قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصناً كان أو غير محصن .
ج- واستدلوا أيضاً بما روي عن أبي بكر أنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن رجل يُنْكح كما تنكح النساء فكان أشدهم يومئذ قولاً ( علي بن أبي طالب ) قال : ( هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم ، إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن تحرقه بالنار ) فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار .
كيفية القتل :
ثم إن هؤلاء القائلين بالقتل قد اختلفوا في كيفية القتل على أقوال :
أحدها : تحزّ رقبته كالمرتد ، وهو مروي عن ( أبي بكر وعلي ) .
ثانيها : يرجم بالحجارة ، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال ( مالك وأحمد ) .
ثالثها : يلقى من أعلى شاهق ، وهو مشهور مذهب مالك .
رابعها : يهدم عليه جدار ، وهو مروي عن أبي بكر الصديق . وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذَّب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ هود : 82 ] ولك العقاب إنما استحقوه بسبب عظم الجريمة .
المذهب الثاني :
وذهب ( الشافعية ) إلى أن اللواط حده كحد الزنى ، يجلد البكر ، ويرجم المحصن ، وهذا المذهب مروي عن بعض التابعين كعطاء ، وقتادة والنخعي وسعيد بن المسيب وغيرهم .
وقد استدلوا على مذهبهم بالنص ، والمعقول ، والقياس .
أ- أما النص فما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان » .
فقد دل الحديث على أن حكمه كحكم الزنى .
ب- وأما المعقول فقد قالوا : إن الزنى عبارة عن إيلاج فرج في فرج ، مشتهى طبعاً محرم شرعاً . والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمي فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدّبر فيكون مثله في الحكم .
ج- وأما القياس فقد قالوا : إن الأدلة الواردة في ( الزانيْين ) وإن لم تشملهما أيضاً لكنهما لاحقان بالزنى بطريق القياس ، فقضاءُ الشهوة كما يكون في القبل يكون في الدبر بجامع الاشتهاء فيهما ، وهو قبيح فيناسبه الزجر والحد يصلح زاجراً له .
المذهب الثالث :
وذهب الأئمة الأحناف إلى أن ( اللواط ) جريمة عظيمة وشنيعة ولكنه ليس كالزنى ، فلا يكون حدُّه حدّ الزنى ، وإنما فيه التعزير ، واستدلوا بما يأتي :
أ- قالوا : الزنى غير اللواط من حيث اللغة فإن الزنى اسم لوطء الرجل المرأة في القبل ، واللواطُ : اسم لوطء الرجل الرجل ، ألا ترى أن القرآن فرَّق بينهما حيث قال عن قوم لوط(1/309)
{ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وقال تعالى : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165 - 166 ] فنسبهم إلى الجهل والعدوان ولم ينسبهم إلى الزنى .
ب- قالوا والعرف أيضاً يعارض هذا وينقضه فالذي يأتي الفاحشة بالنساء يسمى ( زانياً ) والذي يأتي الفاحشة بالذكور يسمى ( لوطياً ) وقد تعارف الناس هذا منذ القديم ، ألا ترى لو حلف لا يزني فلاط وبالعكس لم يحنث .
ج- وقالوا أيضاً - كيف يكون ( اللواط ) زنى وقد اختلف الصحابة في حكمه وهم أعلم باللغة وموارد اللسان ولو كان زنى لأغناهم نص الكتاب عن الاختلاف والاجتهاد .
د- وقالوا أيضاً : إن قياسه على الزنى ليس بسديد ، لأن الزنى يدعو إليه الطبع وتشتهيه النفس ، بخلاف اللواط فإنه تأباه الطباع حتى الحيوانات تعافه فكيف يكون مشتهى مع أنه تقذره النفوس ولا تميل إليه الطباع السليمة . ولو سلمنا أن الطبع يدعو إلى اللواط ، فإن الزنى أعظم ضرراً وأسوء خطراً لما يترتب عليه من ( فساد الأنساب ) فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى .
ه - واستدلوا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير نفس » وقالوا : لقد حظر صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عنها لنه لا يسمى زنى ثم لو كان بمنزلة الزنى لفرّق عليه الصلاة والسلام في حكمه بين المحصن ، وغير المحصن : عندما قال : ( فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) فلما لم يفرّق دلّ على أنه لم يوجبه على وجه ( الحد ) وإنما أوجبه على وجه ( التعزير ) وللحاكم في باب التعزير سعة في الأمر .
هذه هي خلاصة أدلة الأحناف وأدلة الآخرين .
وقد رجَّح العلامة الشوكاني المذهب الأول القاضي بالقتل وضعّف ما سواه من مذهب الشافعية والأحناف ولعله في صواب فيما رجح ، فإن عظم هذه الجريمة ( جريمة اللواط ) تستدعي عقاباً شديداً صارماً يستأصل الجريمة من جذورها ، ويكسر شهوة الفسقة المتمردين ويقضي على الفساد والمفسدين ، وليس هناك من طريق أجدى ولا أنفع من تنفيذ الإعدام حرقاً أو هدماً أو رجماً أو إلقاء من شاهق جبل ليكون عبرة للمعتبرين وفي ذلك تطبيق لهدي النبوة : « من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » .
حكم السحاق وإيتان البهائم :
وأما السحاق ( وهو ما يكون بين المرأة والمرأة ) فقد اتفق الفقهاء على أنه ليس فيه إلا ( التعزير ) وأما إتيان البهائم فالجمهور على أنَّ حده التعزير إلاّ ما ورد في بعض الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله أن عقوبته كاللواط يقتل الفاعل وتقتل الدابة .(1/310)
ولا شك في أن من يأتي مثل هذه القبيحة النكراء يكون أخس من الحيوان ولكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور والله تعالى أعلم .
الحكم الثاني عشر : كيف تثبت جريمة الزنى؟
لما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي ( الجلد أو الرجم ) لذلك فقد شرطت الشريعة الإسلامية شروطاً شديدة من أجل إقامة الحد ، فلم تقبل شهادة النساء أبداً ، وفرضت أن يكون الشهود من الرجال العدول الذين هم أهل لأداء الشهادة ، وأن يكونوا قد رأوا بأم عينهم هذه الفاحشة ( كالميل في المكحلة ) وهذا بلا شك لا يمكن أن يتحقق بسهولة ولا يتصور إلا إذا كان - والعياذ بالله - يرتكبها الفرد على قارعة الطريق كما يفعل الحيوان .
شروط الشهادة في الزنى :
وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسد السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً أو لأدنى حزازة بعار الدهر وفضيحة الأبد ، فاشترط في الشهادة على الزنى الشروط الآتية :
أولاً : أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } [ النساء : 15 ] الآية بخلاف سائر الحقوق فإنه يقبل فيها شهادة اثنين فقط .
ثانياً : أن يكون الشهود ذكوراً ، فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب لقوله تعالى : { أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } [ النساء : 15 ] أي من الرجال وقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] الآية . والمراد بالشهداء الرجال بدليل تأنيث العدد .
ثالثاً : أن يكون الشهود من اهل العدالة لقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] الآية وقوله { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] الآية .
رابعاً : أن يكون الشهود ( مسلمين عاقلين بالغين ) وهذه شروط التكليف .
خامساً : أن يعاينوا الجريمة برؤية فرجه في فرجها كالميل في المكحلة ، والرشاء في البئر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ادرءوا الحدود بالشبهات » فربما كان في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى .
سادساً : اتحاد المجلس بأن يشهدوا مجتمعين ، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم وهو مذهب الجمهور .
هذه هي الشروط التي تشترط لإثبات الزنى ، وهي الطريقة الأولى .
وهناك طريقة ثانية لإثبات الزنى وهي طريقة ( الإقرار ) بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف صريحاً بالزنى . والإقرار - كما يقولون - سيّدُ الأدلة { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية ، وأقام عليهما الحد بمجرد الاعتراف ولم يكلفهما البينة ، ولكن يطلب التثبت في أمر الإقرار . واعتبر بعض الفقهاء ( الحبل ) كقرينة على اقتراف فاحشة الزنى . ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حد الزنى إلا عن طريق الإقرار وذلك في حادثتين اثنتثن هما : حادثة ماعز ، وحادثة الغامدية وإليك بيانهما .
1- قصة ماعز الأسلمي :
وري أن ( ماعز بن مالك الأسلمي ) كان غلاماً يتيماً في حجر ( هزال بن نعيم ) فزنى بجارية من الحي فأمره هزال أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بما صنع لعله يستغفر له ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه : يا رسول الله ( إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه ، فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال ( إني زنيت ) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال ( طهرني يا رسول الله فقد زنيت ) فقال له أبو بكر الصديق : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أبى فقال يا رسول الله ( زنيت فطهرني ) .(1/311)
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ » قال لا ، فسأله رسول الله باللفظ الصريح الذي معناه ( الجماع ) فقال نعم ، قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال : نعم ، قال كما يغيب الميل في المكحلة والرشاة في البئر؟ قال : نعم فسأله النبي هل تدري ما الزنى؟ قال : نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل أهله حلالاً ، قال : فما تريد بهذا القول : قال إني أريد أن تطهرني فأمر صلى الله عليه وسلم به فرجم ، فلما أحسّ مسّ الحجارة صرخ بالناس : يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي ، ولكن ضربوه حتى مات فذكروا فراره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه وسمع الرسول بعض الصحابة يتكلم عنه ويقول : لقد رجم رجم الكلاب فغضب وقال « لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم » وفي رواية أخرى : « والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها » .
2- قصة الغامدية :
وروى مسلم في « صحيحه » أن امرأة تسمى ( الغامدية ) جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ( إني زنيت فطهرني ) فردها صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد قالت : يا رسول الله لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني حبلى ، فقال : أما الآن فاذهبي حتى تلدي ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت هذا قد ولدته ، قال : فاذهبي فارضعيه حتى تفطيمه ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبيّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها ، فنضح الدم على وجه ( خالد بن الوليد ) فسبها ، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال : « مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت » .(1/312)
أقول : إن مثل هذه الحوادث قد وقعت في ( عصر النبوة ) أفضل العصور وحصلت مع بعض الأفاضل من أصحاب الرسول ، وذلك لحكمة سامية حتى يكتمل التشريع ويتم الدين بتنفيذ الحدود من الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره وزمانه وليظل تشريعاً عاماً خالداً مدى الأزمان وعبر الأجيال ، فلو لم تحصل أمثال هذه الحوادث لأصبحت هذه ( الحدود الشرعية ) التي فرضها الله وأوجبها على عبادة أخباراً تروى ، وحكايات تذكر ، ولما أمكن أن تنفذ في عصر من العصور بعد ، وقد أراد الله عز وجل أن تبقى شريعة خاتم المرسلين شريعة كاملة خالدة مطبقة في جميع العصور ، وقانوناً نافذاً على جميع الأمم ، فحصل ما حصل من وقوع بعض الصحابة في بعض المخالفات - مع أنهم أكمل الناس - ليتم التشريع ويكمل الدين بتنفيذ الرسول الحدود عليهم . فانظر إلى هذه النفوس الكريمة التي لم تتحمل عِظَم هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه ( إني زنيت فطهرني ) لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فيا لها من نفوس كريمة ربَّاها الإسلام ودرّبها على الطهر والعفة والاستقامة؟
الحكم الثالث عشر : هل يصح الزواج بالزانية؟
اختلف علماء السَّلف في هذه المسألة على قولين :
الأول : حرمة الزواج بالزانية ، وهو منقول عن علي والبراء وعائشة وابن مسعود .
الثاني : جواز الزواج بالزانية وهو منقول عن أبي بكر وعمر وابن عباس وهو مذهب الجمهور . وبه قال الفقهاء الأربعة من الأئمة المجتهدين .
دليل القول الأول :
وقد استدل القائلون بتحريم الزواج من الزانية بظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . . } الآية فقالوا : إن هذه الآية ظاهرها الخبر وحقيقتها النهي والتحريم بدليل آخر الآية { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } وقد قال ( علي ) كرَّم الله وجهه : إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته ، وكذلك إذا زنت المرأة فُرِّق بينها وبين بعلها .
واستدلوا بما ورد أن ( مرثد بن أبي مرثد ) جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من ( عناق ) وكانت من بغايا الجاهلية ، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية الكريمة فقال : ( يا مرثد لا تنكحها ) وقد تقدمت قصته في بيان سبب النزول .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على جواز النكاح بغير العفيفة من النساء بما يلي :
أ- حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال « أولُه سفاح وآخره نكاح ، والحرامُ لا يحرِّم الحلال » .
ب- ما روي عن ابن عمر أنه قال ( بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثاً من كلام وهو دَهِشٌ فقال لعمر : قم فانظر في شأنه فإنّ له شأناً ، فقام إليه عمر فقال : إنّ ضيفاً ضافه فزنى بابنته ، فضرب عمر في صدره وقال ( قبَّحك الله ألا سترت على ابنتك؟ فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد ، ثم زوَّج أحدهَما الآخر وغرّبهما حولا ) .(1/313)
ج- وروى عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : أوله سفاح وآخره نكاح ، ومَثَلُ ذلك كمثل رجل سرق من حائطٍ ثمره ، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرهُ ، فما سرق حرام ، وما اشترى حلالا .
د- وتأولوا الآية الكريمة { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } بأنها محمولةٌ على الأعم والأغلب ومعناها أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة من النساء إنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو مشركة ، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال وإنما يرغب فيها الذي هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب .
وقال بعضهم إن الآية منسوخة نسختها الآية في سورة النور { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] والزانية من الأيامى وسيأتي معنى ( الأيامى ) مفصلاً إن شاء الله فارجع إليه هناك والله يتولاك .
ما يرشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - القرآن دستور الأمة الإسلامية وعلى المسلمين أن يتمسكوا بتعاليمه الرشيدة .
ثانياً - التشريع لله وحده الذي شرع الأحكام لمصالح عبادة المؤمنين .
ثالثاً - الأحكام الشرعية يجب تنفيذها بدقة ، وتطبيقها على الوجه الأكمل .
رابعاً - الحدودُ شرعت لحفظ الأعراض ، وصيانة الأنساب ، والحِفاظ على الكرامة الإنسانية .
خامساً - يجب أن تنفَّذ الحدودُ بمشهد من الناس ليرتدع أهل الفسق والفجور .
سادساً - استيفاء الحدود من واجب الحاكم المسلم لتطهير المجتمع من أدران الفاحشة .
سابعاً - الرجل والمرأة في اقتراف الفاحشة سواء فيجب أن تسوّى بينهما العقوبة .
ثامناً - الزنى جريمة دينية ، وخلقية ، واجتماعية ، ولذلك حرَّمه الله تعالى .
تاسعاً - لايجوز تعطيل الحدود ، ولا الشفاعة فيها لئلا تكثر الجرائم في المجتمع ، ويختلَّ الأمن .
عاشراً - لا يليق بالمؤمن العفيف أن يتزوج بالفاسقة أو الفاجرة ، كما لا يليقُ بالعفيفة أن تتزَّوج بالفاسق أو الفاجر من الرجال .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يعتبر الزنى في نظر الإسلام جريمة من أشنع الجرائم ، ومنكراً من أخبث المنكرات ، ولذلك كانت عقوبته شديدة صارمة ، لأن في هذه الجريمة هدراً للكرامة الإنسانية ، وتصديعاً لبنيان المجتمع ، وفيه أيضاً تعريض النسل للخطر ، حيث يكثر ( اللقطاء ) وأولاد البغاء ، ولا يكون هناك من يتعهدهم ويربيهم وينشِّئُهم النشأة الصالحة!!
ومن أهداف الشريعة الإسلامية الغراء ، وأغراضها الأساسية ، حفظُ الضروريات الخمس وهي ( العقل - والنسل - والنفس - والدين - والمال ) وسميت بالضروريات : أو الكليات الخمس لأن جميع الأديان والشرائع قررت حفظها ، وشرعت ما يكفل حمايتها لأنها ضرورية لحياة الإنسان . ولما كان ( النسل ) هو أحد هذه الضروريات لذلك شرع الإسلام من العقوبات الصارمة الزاجرة ما يقطع دابر هذه الجريمة ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع .(1/314)
ولعل بعض الذين تأثروا بالثقافة الغربية ، يرون في هذه الحدود والعقوبات شيئاً من الشدة والقسوة لا تتفق مع روح العصر ، وتعارض الحرية الشخصية وخاصة ( حرية المرأة ) التي أطلقها لها الغرب باسم التحرر والمساواة ، وتحت شعار ( الديمقراطية ) التي قررها لها القانون .
والواقع أن العقوبة التي شرعها الإسلام صارمة ، ولكنها في الوقت نفسه عادلة فمن الذي يعاقب بهذا العقاب؟ أليس هو الشخص المستهتر الذي يسعى في طريق شهوته كالحيوان لا يبالي بأي طريق نال الشهوة ولا ما يترتب عليها من أخطار وأضرار؟
إن الذي يرتكب هذه الجريمة لمجرد الاستمتاع والشهوة ليس إنساناً بل هو حيوان ، وذلك لأن الحيوان تسيطر عليه شهوته فهو يسير تبعاً لها ، والإنسانُ يحكمه عقله ولهذا يسير مع منطق العقل ، وليست هذه الغريزة التي أودعها الله في الإنسان لمجرد نيل الشهوة أو قضاء الوطر ، بل هي من أجل غاية نبيلة سامية هي ( بقاء النسل ) .
والله - جل وعلا - بحكمته العلية ، جعل هذا الارتباط بين الذكر والأنثى ، ولكنه لم يسمح به بطريق الفوضى كما تفعل الحيوانات ، حيث ينزو بعضها على بعض ، وإنما سمح به في دائرة ( الطهر والعفة ) وبطريق الزواج الشرعي ، الذي يحقِّق الهدف النبيل والغاية الإنسانية المُثْلى في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [ النحل : 72 ] .
والإسلام يعتبر الزنى لوثه أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة ، ينبغي أن تكافح بدون هوادة ، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة ( الجلد أو الرجم ) لمجرد التهمة أو الظن بل على العكس يودب التحقق والتثبت ، ويدرأ الحد بالشبهات ويشرط شروطاً شديدة تكاد لا تتوفر هي شهادة ( أربعة رجال ) مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها ، ويشهدون على مثل ضوء الشمس ، أو اعترافاً صريحاً لا شبهة فيه من الشخص الذي قارف الجريمة .
والغربيون لا يعتبرون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا كان بالإكراه أو كان اعتداء على حرية الغير ، أما إذا كان بالرضى فليس فيه ما يدعو إلى العقوبة لأنه يخلو حينئذ عن فكرة ( العدوان ) .
فالزنى - في نظرهم - وإن كان عيباً إلا أنه ليس بجريمة على كل حال ، فإذا زنى الرجل البكر بامرأة بكر فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة إلا إذا كان ذلك بالإكراه فإنه يعاقب للإكراه بعقوبة خفيفة ، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة فللزوج أن يطالبه بتعويضٍ ( غرامة مالية ) من الرجل الذي أفسد زوجته فنظرتهم إذن هي نظرة مادية ، ومن أجل ذلك تهدَّم المجتمع وتخربت الأسر ، وانتشرت تلك الأوباء والجرائم الخلقية فيهم .
فأين هذا من تشريع العليم الحكيم الذي صان الأعراض ، وحفظ الأنساب ، وطهَّر المجتمع من لوثه تلك الجريمة الشنيعة؟(1/315)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
[ 2 ] قذف المحصنات من الكبائر
التحليل اللفظي
{ يَرْمُونَ } : أي يقذفون بالزنى ، وأصل الرمي القذف بالحجارة أو بشيء صلب ، ثم استعير للقذف باللسان ، لأنه يشبه الأذى الحسي كما قال النابغة : ( وجرحُ اللسان كجرح اليد ) وقال الشاعر :
رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطَوّي رماني
أي اتهمني بشيء أنا منه برئ .
{ المحصنات } : العفيفات جمع محصنة بمعنى العفيفة قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ الأنبياء : 91 ] أي عفّت ، وأصل الإحصان المنع ومنه يسمى ( الحصن ) قال في « لسان العرب » : يقال امرأة حَصَان وحَاصِن وكلّ امرأة عفيفة مُحصَنَة ومُحْصنة ( بالفتح والكسر ) وكل امرأة متزوجة مَحصَنة ( بالفتح ) لا غير ، وفي شعر حسان يثني على عائشة رضي الله عنها :
حَصَان رزان ما تُزَنّ بريبة ... وتصبح غَرْثى من لحوم الغوافل
والمرأة تكون محصنة بالإسلام ، والعفاف ، والحرية ، والتزوج كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
{ شُهَدَآءَ } : جمع شاهد ، أي يشهدون عليهن بوقوع الزنى ، والمراد بالشهداء الرجال لأن الآية ذكرت العدد مؤنثاً ( بأربعة ) ومن المعلوم أن العدد يؤنث إذا كان المعدود مذكراً ، ويُذكَّر إذا كان المعدود مؤنثاً فتقول ( أربع نسوة ، وأربعة رجال ) فلا تقبل شهادة النساء في حد القذف كما لا تقبل في حد الزنى ستراً على العباد .
{ فاجلدوهم } : قال القرطبي : الجلد الضرب ، والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره ، ومه قول ( قيس بن الخطيم ) :
أجالدهم يومَ الحديقة حاسراً ... كأنَّ يدي بالسيف محْرَاق لاعب
وقد تقدم معنى الجلد في آيات الزنى مفصلاً فارجع إليه .
{ الفاسقون } جمع فاسق وهو العاصي ، والفسقُ الخروجُ عن الطاعة ، ومجاوزة الحد في ارتكاب المعاصي قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وكل خارج عن طاعة الله يسمى فاسقاً ، وكل منكر أو مكذب لآيات الله يسمى كافراً .
المعنى الإجمالي
يخبر الله جل ثناؤه بأن الذين ينتهكون حرمات المؤمنين ، فيرمون العفائف الشريفات الطاهرات بالفاحشة ، ويتهمونهن بأقدس وأثمن شيء لدى الإنسان ألا وهو ( العرض والشرف ) فينسُبونهن إلى الزنى ، ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهداء عدول ، يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة فاجلدوا الذين رموهن بذلك ( ثمانين ) جلدة ، لأنهم فسقة كذبة يتهمون الأبرياء ويحبون إشاعة الفاحشة ، وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإنسانية ، فلا تقبلوا شهادة أي واحد منهم ما دام مصراً على بهتانه وأولئك عند الله من أسوأ الناس منزلة وأشدهم عذاباً ، لأنهم فساق خارجون عن طاعة الله عزّ وجلّ ، لا يحفظون كرامة مؤمن ، ويقعون في أعراض الناس شأن أهل الضلال والنفاق ، الذين يسعون لتهديم المجتمع الإسلامي وتقويض بينانه ، وأما إذا تابوا وأنابوا وغيّروا سيرتهم وأصلحوا أحوالهم ، ورجعوا عن سلوك طريق الغي والضلال فاعفوا عنهم واصفحوا ، واقبلوا اعتذارهم ، وردوا إليهم اعتبارهم ، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب وأصلح حاله .(1/316)
سبب النزول
يرى بعض المفسرين أن هذه الآيات نزلت بسبب ( حادثة الإفك ) التي اتهمت فيها أم المؤمنين العفيفة البريئة الطاهرة الصدِّيقة ( عائشة بنت أبي بكر الصديق ) رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي نزلت براءتها من السماء فكان ذلك درساً بليغاً للأمة ، وعبرة للأجيال في جميع العصور والأزمان .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله : وذُكِر أن هذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك : ثم روى عن سعيد بن جبير أنه سئل ( هل الزنى أشد أو قذف المحصنة ) ؟ قال : لا بل الزنى ، قلت : إن الله يقول : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } قال : إنما هذا في حديث عائشة خاصة .
والصحيح ما ذكره القرطبي واختاره الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب القذفة عامة لا في تلك النازلة بعينها فهي حكم من الله عام لكل قاذف ، ومن المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { يَرْمُونَ المحصنات } أجمع العلماء أن المراد به ( الرمي بالزنى ) واستدلوا على ذلك بوجوه :
أحدها : تقدم ذكر الزنى في الآيات السابقة .
ثانيها : أنه تعالى ذكر ( المحصنات ) وهن العفائف فدل على أن المراد رميها بضد العفاف وهو الزنى .
ثالثها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب ( الجلد ) بالرمي بغير الزنى .
رابعها : قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ومعلوم أن هذا العدد غير مشروط إلا في الزنى . أفاده الفخر الرازي .
اللطيفة الثانية : تخصيص النساء في قوله { المحصنات } لخصوص الواقعة ، ولأن قذفهن أغلب وأشنع ، وفيه إيذاء لهن ولأقربائهن ، وإلا فلا فرق بين الذكر والأنثى في الحكم ، وقيل في الآية حذف تقديره ( الأنفس المحصنات ) فيكون اللفظ شاملاً للنساء والرجال وقد حُكي هذا عن ابن حزم ، والراجح أنه من باب التغليب .
اللطيفة الثالثة : في التعبير بالإحصان إشارة دقيقة إلى أن من قذف غير العفيف ( من الرجال أو النساء ) لا يحد حد القذف ، وذلك فيما إذا كان الشخص معروفاً فجوره ، أو اشتهر بالعبث والمجون ، فإن حد القذف إنما شرع لحفظ كرامة الإنسان الفاضل ، ولا كرامة للفاسق الماجن ، فتدبر السر الدقيق .
اللطيفة الرابعة : حكم الله تعالى على قاذف المحصنة ( العفيفة ) بثلاث عقوبات .
1- الجلد ثمانين جلدة عقوبة له .
2- إهدار الكرامة الإنسانية برد الشهادة .
3- تفسيق القاذف بجعله في زمرة ( الفسقة ) .
ولم يحكم في الزنى إلا بالجلد مائة جلدة للبكر ، وفي ذلك دليل على خطورة هذه التهمة ، وعلى أن القذف من الكبائر ، وأن جريمته عند الله عظيمة .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى { وَأَصْلَحُواْ } وفيه دليل على أن التوبة وحدها لا تكفي ، بل لا بد من ظهور أمارات الصلاح عليه ، فإن هذا الذنب مما يتعلق بحقوق العباد ولذلك شدد فيه .(1/317)
قال الرازي : قال أصحابنا إنه بعد التوبة لا بد من مضيِّ مدة عليه لظهور حسن الحال حتى تقبل شهادته وتعود ولايته ، ثم قدَّروا تلك المدة بسنة كما يضرب للعنيّن أجل سنة .
اللطيفة السادسة : قال ابن تيمية : ذكَرَ تعالى عدد الشهداء ، وأطلق صفتهم ، ولم يقيدهم ( ممن نرضى ) ولا ( من ذوي العدل ) لكن يقال : لم يقيدهم بالعدالة وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضى لقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ الأنعام : 152 ] وقوله : { كُونُواْ قوامين بالقسط } [ النساء : 135 ] وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } [ المعارج : 33 ] فهم يقومون بها بالقسط لله فيشترط هنا ما اشتُرط هناك .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي الإحصان؟
ورد معنى ( الإحصان ) في الشريعة الإسلامية لأربعة أمور وهي :
أ- العفة : قال تعالى : { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] بمعنى العفيفات من المؤمنات والعفيفات من الكتابيات .
ب- الحرية : قال تعالى : { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] أي أن عقوبة الأمة المملوكة نصف عقوبة الحرة .
ج- التزوج : قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم . . . } إلى قوله { والمحصنات مِنَ النسآء } [ النساء : 23 - 24 ] أي المتزوجات من النساء .
د- الإسلام : قال صلى الله عليه وسلم « من أشرك بالله فليس بمحصن » فالإنسان يكون محصناً بالعفاف وبالحرية وبالإسلام وبالتزوج وأشهر معاني إطلاق لفظ الإحصان ( العفة ) وهو المراد بالآية الكريمة فمن قذف شخصاً غير عفيف لا يحد باتفاق الفقهاء .
الحكم الثاني : ما هي شروط القذف؟
للقذف شروط لا بد من توفرها حتى يكون جريمة تستحق عقوبة الجلد ، وهذه الشروط عديدة . . منها ما يجب توفره في ( القاذف ) ومنها ما يجب توفره في ( المقذوف ) ومنها ما يجب توفره في الشيء ( المقذوف به ) .
أما شروط القاذف فهي ثلاثة ( 1- العقل ، 2- البلوغ ، 3- الاختيار ) فإن هذه أصل التكليف ، ولا تكليف بدون هذه الأشياء والآية الكريمة وإن لم تشرط إلا عجز القاذف عن الإيتان بأربعة شهداء { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ولم تشرط العقل والبلوغ وعدم الإكراه ، إلا أن ذلك من قواعد الشريعة التي عُلِمت من النصوص الأخرى فإذا قذف المجنون او الصبي أو المكره ، فلا حد على واحد منهم لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق » وقال صلى الله عليه وسلم : « رُفعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانُ ، وما استكرهوا عليه » أي ما أكرهوا عليه من الأقوال والأعمال . ولأن العقل مدار التكليف ، والمجنونُ لا يعتد بكلامه فلا يؤثر قذفه . . . أما إذا كان الصبي مراهقاً بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزَّر تعزيراً مناسباً لكن لا يحد حد القذف .(1/318)
لأن من شروط حد القذف البلوغ .
الحكم الثالث : ما هي الشروط اللازم توفرها في المقذوف؟
ظاهر الآية الكريمة { والذين يَرْمُونَ المحصنات } يتناول جميع العفائف سواء أكانت مسلمة أو كافرة ، حرة أو رقيقة إلاَّ أن الفقهاء شرطوا في المقذوف خمسة شروط وهي : ( 1- الإسلام ، 2- العقل 3- البلوغ 4- الحرية 5- العفة عن الزنى ) وهذه الشروط يجب أن تتوفر في المقذوف حتىيقام الحد على القاذف وسنفصلها بعض التفصيل :
أولاً : أما الإسلام : فهو شرط لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أشرك بالله فليس بمحصن » وقد تقدم الحديث ومعناه على رأي جمهور العلماء : من أشرك بالله فلا حد على قاذفه ، لأن غير المسلم ( المشرك ) لا يتورع عن الزنى فليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة إذ أنه ليس بعد الكفر ذنب ، وكل جريمة تتصور من الكافر .
قال ابن العربي : ولأن عِرض الكافر لا حرمة له ، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه ، بل هو أولى لزيادة الكفر على المعلن بالفسق .
ثانياً : وأما العقل : فلأنَّ الحد إنما شرع للزجر عن الأذية بالضرر الواقع على المقذوف ، ولا مضرة على من فقد العقل ، فلا يحد قاذفه .
ثالثاً : وأما البلوغ : فالأصل فيه أن الطفل لا يتصور منه الزنى كما لا يتصور النظر من الأعمى ، فلا يحد قاذف الصغير أو الصغيرة عند الجمهور . وقال مالك رحمه الله : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفاً : وقال أحمد رحمه الله : في الصبيَّة بنت تسع يحد قاذفها .
قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة ، لكن مالك غلْب عرض المقذوف ، وغيره راعي حماية ظهر القاذف ، وحمايةُ عرض المقذوف أولى لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد . وصحح ابن المنذر الرأي الأول فقال : لا يحد من قذف من لم يبلغ ، لأن ذلك كذب ويعزر على الأذى .
رابعاً : وأما الحرية : فالجمهور على اشتراطها ، لأن مرتبة العبد تختلف عن مرتبة الحر ، فقذف العبد - وإنْ كان حراماً - إلا أنه لا يحد القاذف وإنما يعزر لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قذف مملوكة بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال » ولأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعبير بالزنى . قال العلماء : ( وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك ، واستواء الشريف والوضيع ، والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ، ولما كان ذلك تكافأ الناس ، وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين ، وتفسد العلاقة بين السادة والعبيد ، فلا تصل لهم حرمة ، ولا فضلٌ في منزلة وتبطل فائدة التسخير ، حكمة من الحكيم العليم لا إله إلا هو . . . ) .
وأما ابن حزم فقد خالف جمهور الفقهاء ، فرأى أن قذف العبد يوجب الحد ، وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية وقال : « وأما قولهم لا حرمة للعبد ، ولا للأَمَةِ ، فكلام سخيف ، والمؤمن له حرمة عظيمة ، وربَّ عبد جلفٍ خيرٌ من خليفة قرشي عند الله تعالى » أقول : رأيُ ابن حزم هذا رأي وجيه لو لم يصادم النص المتقدم الذي استدل به الجمهور والأحكامُ لا تؤخذ بالآراء ، وإنما بما ثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله .(1/319)
. . والحديث ثابت في الصحيحين « فلا عبرة بخلافه .
خامساً : وأما العفة : فهي شرط عند جميع الفقهاء لم يخالف في ذلك أحد وإنما اعتبرناها للنص القرآني الكريم ( يرمون المحصنات ) فشرطت الآية أن يكون المقذوف ( محصناً ) أي عفيفاً ، إذ غير العفيف قد يتباهى بالفسق والفجور ، ويعتبر ذلك ( تقدمية ) والتمسك بالفضيلة والدين ( رجعية ) كما نسمع في زماننا هذا عن بعض الفاسقين الخارجين على الدين والأخلاق والآداب . ولأن الحد مشروع لتكذيب القاذف فإذا كان المقذوف زانياً فعلاً فالقاذف صادق في قذفه ، وإذا كان المقذوف مشهوراً بالمجون والدعارة فقد أوجد شبهة لقاذفه ( والحدودُ تدرأ بالشبهات ) فلا يحد القاذف . ولو زنى شاب في عنفوان شبابه ، ثم تاب وحسن حاله ثم شاخ في الصلاح لا يحد قاذفه ، لأن القاذف لم يكذب ، وإنما يعزّر لأنه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه فكذلك لو قذف شخصاً مشهوراً بالفسق والفجور . ولكن ليس معنى عدم إقامة الحد في هذه الصور الخمس أن قاذف ( المجنون أو الصبي أو الكافر أو العبد أو غير العفيف ) لا يستحق عقوبة بل إنه يستحق التعزير ويبلغ به غايته لأنه أشاع الفاحشة ، وقد حذّر الله تعالى منها بقوله : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } [ النور : 19 ] الآية .
الحكم الرابع : ما هي ألفاظ القذف الموجبة للحد؟
تنقسم ألفاظ القذف إلى ثلاثة أقسام : ( صريح ، وكناية ، وتعريض ) :
أما الصريح : فهو أن يصرح القاذف في كلامه بلفظ الزنى مثل قوله : ( يا زاني ، أو يا زانية ، أو يا ابن الزنى ) أو ينفي نسبه عنه كقوله : لست ابن أبيك فهذا النوع قد اتفق العلماء على أنه يجب فيه الحد .
أما الكناية : فمثل أن يقول : ( يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ) أو هي لا تردُّ يدَ لامس ، فهذه لا تكون قذفاً إلا أن يريده ، وتحتاج إلى توضيح وبيان .
أما التعريض : فمثل أن يقول : ( لست بزانٍ . . وليست هي بزانية ) ، وقد اختلف العلماء في التعريض هل هو من القذف الموجب للحد أم لا؟ فذهب ( مالك ) رحمه الله إلى أنه قذف ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يكون قذفاً إلا إذا قال أردت به القذف .
دليل مالك :
استدل مالك بما روي عن عمرة بنت عبد الرحمن : أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر : واللَّهِ ما أبي بزان ، ولا أمي بزانية ، فاستشار عمر في ذلك فقال قائل : مدح أباه وأمه وقال آخرون : قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد ، فجلده ثمانين .(1/320)
وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال :
دع المكارمَ لا تَرْحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنتَ الطّاعمُ الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون .
قال القرطبي : والدليل لما قاله ( مالك ) هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرّة التي أوقعها القاذف بالمقذوف فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً وقد قال تعالى حكاية عن مريم { ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء . وعرّضوا لمريم بذلك ولذلك قال تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ النساء : 156 ] وكفرُهم معروف ، والبهتانُ العظيم هو التعريض لها أي ما كان أبوك امرأ سوء ، وما كانت أمك بغيا ، أي وأنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد .
دليل الشافعية والأحناف :
استدل الشافعي وأبو حنيفة بأن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره ، والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما ورد في الحديث : ( ادرءوا الحدود بالشبهات ) .
وقالوا : إن الله عز وجل قد فرّق بين ( التصريح ) و ( التعريض ) في عدة المتوفى عنها زوجها ، فحرم التصريح بالخطبة ، وأباح التعريض بقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } [ البقرة : 235 ] الآية .
فدل على أنهما ليسا في الحكم سواء . . . وروي عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان : إحادهما أن التعريض ليس بقذف ولا حد فيه . والثانية : أنه قذف في حال الغضب دون حال الرضا .
ومما يدل على ما ذهب إليه ( الشافعية والأحناف ) ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ، فقال : هل لك من إبل؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانها قال حمر ، قال : فهل فيها أورق؟ قال : نعم ، قال : فكيف ذاك؟ قال لعله نزعه عرق؟ قال : فلعل هذا نزعه عرق فلم يعتبر هذا قذفاً مع أنه تعريض بزنى الزوجة .
الحكم الخامس : ما هو حكم قاذف الجماعة؟
اختلف الفقهاء في حكم من قذف جماعة على ثلاثة مذاهب :
أ- المذهب الأول : مذهب القائلين بأن يحد حداً واحداً وهم الجمهور ( أبو حنيفة ومالك وأحمد ) .
ب- المذهب الثاني : مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حداً وهم ( الشافعي والليث ) .
ج- المذهب الثالث : مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم : يا زناة أو يقول لكل واحد يا زاني . ففي الصورة الأولى يحد حداً واحداً ، وفي الثانية عليه لك واحد منهم حد ، وهو مذهب ( ابن أبي ليلى ، والشعبي ) .
دليل الجمهور : احتج أبو بكر الرازي على قول الجمهور بالكتاب والسنة ، والقياس .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } والمعنى أن كل من رمى المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف الجماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية .(1/321)
وأما السنة : فما روي عن ابن عباس أن ( هلال بن أمية ) قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « البينة أو حد في ظهرك » فلم يوجب النبي على هلال إلا حداً مع أنه قذف زوجته وقذف معها ( شريك ين سحماء ) .
وأما القياس : فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا تكرر منه مراراً لم يجب إلا حد واحد ، كمن سرق مراراً ، أو شرب الخمر مراراً ، لم يحد إلا حداً واحداً فكذا هاهنا .
أدلة الشافعية :
وأجاب الشافعية عن الأول بان قوله ( والذين ) صيغة جمع ، وإذا قوبل الجمع بالجمع اقتضى القسمة على الآحاد ، فيصير المعنى : كل من رمى محصناً واحداً وجب عليه الحد .
وأجابوا عن الثاني بأنه قذفهما بلفظ واحد وقد قال الشافعي - في القديم - لا يجب إلا حدٌ واحدٌ اعتبارا ً باللفظ .
وأجابوا عن القياس بأنه قياس مع الفارق فإن حد القذف حق الآدمي ، بخلاف حد الزنى والشرب فإنه حق الله تعالى وحقوق الآدمي لا تتداخل .
الترجيح : والصحيح الراجح هنا هو رأي الجمهور لقوة أدلتهم لأنه لو قذف قبيلة فأقمنا عليه لكل واحدٍ حداً هلك ، والله أعلم .
الحكم السادس : هل تشترط في الشهود العدالة؟
لم تذكر الآية الكريمة في صفة الشهداء أكثر من أنهم ( أربعة ) رجال من أهل الشهادة وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هم؟ فالشافعية يقولون : لا بد للشاهد أن يكون عدلاً ، والحنفية يقولون : الفاسق من أهل الشهادة وعلى هذا تظهر ثمرة الخلاف؛ فإذا شهد أربعة فساق على المقذوف بالزنى فهم قذفةٌ عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول ، والحنفية يقولون : لا حد على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة ، إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في ( الفاسق ) فثبت بشهادتهم شبهة الزنى فيسقط الحد عنهم وعن القاذف ، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه ، فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنه وعن الشهود .
وجه قول الشافعي رحمه الله : أنهم غير موصوفين بالشرائط في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين وبقوا محض قاذفين فيحدون حد القذف .
وقد ارجح ابن تيمية رحمه الله رأي الأحناف ودفع الحد عن الشهود . لوجود الشبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، كما وضَّحت ذلك السنَّة المطهرة .
الحكم السابع : هل يشترط في الشهود أداؤهم للشهادة مجتمعين؟
ظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين أن يؤدي الشهود شهادتهم مجتمعين أو متفرقين ، وهذا مذهب ( مالك والشافعي ) رحمهما الله أخذاً بظاهر الآية .(1/322)
وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاءوا متفرقين فعليهم حد القذف ، ولا يسقط الحد عن القاذف .
حجة مالك والشافعي : أن الآية لم تشترط إلا أن يكونوا أربعة ، ولم تَشْرط أداؤهم للشهادة مجتمعين ، فيكفي في الشهادة كيفما اتفق مجتمعين ، أو متفرقين ، بل إن شهادتهم متفرقين أبعدُ عن التهمة ، وعلى القاضي أن يفرقهم إذا ارتاب من أمرهم ليظهر له وجه الحق في أدائهم للشهادة هل هم صادقون أم كاذبون؟
حجة أبي حنيفة : أما حجة أبي حنيفة فهي أن الشاهد الواحد لما شهد بمفرده صار قاذفاً فيجب عليه الحد وكذلك الثاني والثالث ، ولا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الإجتماع . . واستدل بحادثة ( المغيرة بن شعبة ) لما شهد عليه أربعة وخالف أحدهم في الشهادة جلدهم عمر وستأتي قصتهم قريباً إن شاء الله تعالى .
الحكم الثامن : هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر؟
اتفق الفقهاء على أن العبد إذا قذف الحر المحصن وجب عليه الحد ، ولكن هل حده مثل حد الحر ، أو على النصف منه؟ لم يثبت حكم ذلك في السنة المطهرة ولهذا اختلف الفقهاء فيه فالجمهور ( وهو مذهب الأئمة الأربعة ) على أن العبد إذا ثبت عليه القذف ، فعقوبته ( 40 ) أربعون جلدة ، لأنه حد يتنصف بالرق مثل حد الزنى ، واستدلوا بقوله تعالى : { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] وذهب الأوزاعي وابن حزم وهو مذهب الشيعة إلى أنه يجلد ( 80 ) ثمانين جلدة ، لأنه حد وجب صيانة لحق الآدميين إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية .
ومن أدلة الجمهور ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال « أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بَعدهَم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين جلدة » . . وعن علي كرم الله وجهه أنه قال ( يجلد العبد في القذف أربعين ) .
قال ابن المنذر : والذي عليه الأمصار القول الأول ( أي قول الجمهور ) وبه أقول .
وردّ الجمهور بأن آية القذف خاصة بالأحرار ، فالحر إذا قذف محصناً حد ثمانين جلدة ، وأما العبد فحده أربعون ، فقاسوا القذف على حد الزنى ، والله تعالى أعلم .
الحكم التاسع : هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟
ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق ( الله ) ويترتب على كونه حقاً من حقوق الله تعالى ما يلي :
أ- أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامة الحد وإن لم يطلب المقذوف .
ب- لا يسقط بعفو المقذوف عن القاذف ، وتنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى .
ج- يتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنى .
وذهب ( الشافعي ومالك ) إلى أنه حق من حقوق ( الآدميين ) ويترتب عليه ما يلي :
أ- أن الإمام لا يقيمه إلا بطلب المقذوف .(1/323)
ب- يسقط بعفو المقذوف عن القاذف .
ج- إذا مات المقذوف قبل إقامة الحد فإنه يورث عنه ، ويسقط بعفو الوارث .
ويرى بعض الفقهاء أن ( حد القذف ) فيه شائبة من حق الله . وشائبة من حق العبد ، ومما لا شك فيه أن في القذف تعديّا على حقوق الله تعالى ، وانتهاكاً لحرمة المقذوف ، فكان في شرع الحد صيانةً لحق الله ، ولحق العبد فيكون الحد مزيجاً منهما . . . ولعلَّ هذا الأرجح والله تعالى أعلم .
الحكم العاشر : هل تقبل شهادة القاذف إذا تاب؟
حكم القرآن على القاذف بثلاثة أحكام :
الأول : أن يجلد ثمانين جلدة .
والثاني : أن لا تقبل له شهادة أبداً .
والثالث : وصفة بالفسق والخروج عن طاعة الله تعالى .
ثم عقّب الباري جل وعلا بعد هذه الأحكام الثلاثة بما يدل على ( الاستثناء ) فقال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قد اختلف الفقهاء في هذا ( الاستثناء ) هل يعود إلى الجملة الأخيرة فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ على مذهبين :
أ- مذهب أبي حنيفة : أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة { وأولئك هُمُ الفاسقون } فيرفع عنه وصف الفسق إذا تاب ولكن لا تقبل شهادته . ولو أصبح أصلح الصالحين ، وهذا المذهب مروي عن ( الحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير ) وغيرهم من فقهاء التابعين .
ب- مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن الاستثناء راجع إلى الجملتين الأخيرتين { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } فإذا تاب قبلت شهادته ورفع عنه وصف الفسق وهذا المذهب مروي عن ( عطاء وطاووس ومجاهد والشعبي وعكرمة ) وغيرهم من علماء التابعين وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري رحمهم الله أجمعين .
وهذا الاختلاف بين الفقهاء مردّه إلى قاعدة أصولية : وهي : ( هل الاستثناء الوارد بعد الجمل المتعاطفة بالواو يرجع إلى الكل أو إلى الأخير ) ؟ فالشافعية والمالكية يرجعونه إلى الجميع ، والأحناف يرجعونه إلى الأخير فقط والمسألة تطلب من كتب الأصول وليس هذا محل تفصيلها .
أدلة الأحناف :
استدل الأحناف على عدم قبول شهادة القاذف مطلقاً بما يلي :
أولاً : إن الاستثناء لو رجع إلى جميع الجمل المتقدمة لوجب أن يسقط عنه ( الحد ) وهو الجلد ( ثمانين جلدة ) ، وهذا باطل بالإجماع ، فتعَيّن أن يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط .
ثانياً : إن الله تعالى قد حكم بعدم قبول شهادته على التأبيد { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } فلفظ ( الأبد ) يدل على الدوام والاستمرار حتى ولو تاب وأناب وأصبح من الصالحين ، وقبول شهادته يناقض هذه الأبدية التي حكم بها القرآن .
ثالثاً : ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « المسلمون عدول بعضهم على بعض إلاّ محدوداً في قذف » فإنه يدلّ على أن القاذف لا تقبل شهادته إذا حُدّ في القذف .(1/324)
أدلة الجمهور :
وأما الجمهور فقد استدلوا على قبول شهادته بما يلي : أولاً : قالوا : إنّ التوبة تمحو الذنب ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، فوجب أن يكون القاذف بعد التوبة مقبول الشهادة .
ثانياً : إنّ الكفر أعظم جرماً من القذف ، والكافر إذا تاب تقبل شهادته فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقد قال الشافعي رحمه الله : عجباً يقبل الله من القاذف توبته وتردُّون شهادته .
ثالثاً : ما روي في حادثة ( المغيرة بن شعبة ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الحد الذين شهدوا على المغيرة وهم ( أبو بكر ، ونافع ، ونفيع ) حين قذفوه ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلتُ شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته ، فأكذب ( نافع ونفيع ) أنفسهما وكان عمر يقبل شهادتهما ، وأما ( أبو بكرة ) فكان لا يقبل شهادته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .
رابعاً : وقالوا : إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل ولكن لما كان ( الجلد ثمانين ) من أجل حق المقذوف وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة ، فبقي رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة .
يقول العلامة المودودي في « تفسير سورة النور » بعد أن ساق أدلة الفريقين :
فرأيُ الطائفة الأولى هو الأرجح عندي في هذه القضية فإن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله . ومن تاب عندنا فإن غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه ( الفاسق ) ولا نذكره بالفسق وليس من الصحيح أن نبالغ في مجاملته ، حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا في ظاهر الأمر .
وزد على ذلك أن أسلوب عبارة القرآن بنفسه يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة { إِلاَّ الذين تَابُواْ . . . وَأَصْلَحُواْ } إنما يرجع إلى جملة { وأولئك هُمُ الفاسقون } لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } وجاء الحكم عليه بالفسق بصيغة الخبر { وأولئك هُمُ الفاسقون } فإذا جاء قوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بعد هذا الحكم الثالث مقترناً به فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين . . وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها باللسان بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه ، ورجوعه إلى الخير ، وكلّ ذلك مما لا يعلم حقيقة إلا الله ، ولأجل هذا فإنه لا تغتفر بالتوبة ( العقوبة الدنيوية ) وإنما تغتفر بها ( العقوبة الأخروية ) فحسبُ . . . ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل : إلا الذين تابوا وأصلحوا فاتركوهم أو خلوا سبيلهم أو لا تعذبهم بل قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فإنه لو كانت العقوبات الدنيوية أيضاً تغتفر بالتوبة فمن ذا الذي ترونه من الجناة لا يتوب اتقاء لعقوبته .(1/325)
مذهب الشعبي والضحاك : وهناك مذهب وسط بين المذهبين هو مذهب ( الشعبي والضحاك ) فقد قالا : لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف فحينئذ تقبل شهادته ، قال شهيد الإسلام ( سيد قطب ) عليه الرحمة والرضوان : وأنا اختار هذا المذهب الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعترافٍ مباشر من القاذف وبذلك يُمْحَى آخرُ أثرٍ للقذف .
أقول : وهذا المذهب الذي اختاره سيد قطب تبدو عليه مخايل الجودة والإنصاف ويحقق العدل بين جميع الأطراف ( القاذف والمقذوف ) فلا يَظْلم أحداً منهما ولا يضيع حق الله ، ولا حق العبد . . . فلعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - قذف المحصنات من الكبائر التي تهدد المجتمع وتقوّض بنيانه .
ثانياً - اتهام المؤمنين بطريق ( القذف ) إشاعة للفاحشة في المجتمع .
ثالثاً - على المسلم أن يصون كرامة إخوانه بالستر عليهم إذا أخطأوا .
رابعاً - لا بد لحماية ظهر القاذف من إحضار أربعة شهود ، ذكور ، عدول .
خامساً - العقوبات الثلاث ( البدنية والأدبية والدينية ) تدل على عظم جريمة القذف .
سادساً - لا يجوز الولوغ في أعراض الناس لمجرد السماع أو الظن بحصول التهمة .
سابعاً - الحدود كفارات للذنوب وعلى الحكام أن يقيموها تنفيذاً لأمر الله .
ثامناً - التوبة والندم على ما فرط من الإنسان تدفع عنه سمة الفسق فلا يسمى فاسقاً .
تاسعاً - إذا أصلح القاذف سيرته وأكذب نفسه فيرد له اعتباره وتقبل شهادته .
عاشراً - الله واسع الرحمة عظيم الفضل لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية ، ينتقم للمظلوم من الظالم .
حكمة التشريع
يعتبر القذف جريمة من الجرائم الشنيعة التي حاربها الإسلام حرباً لا هوادة فيه ، فإن اتهام البريئين والوقوع في أعراض الناس ، والخوض في ( المحصنات الحرائر ) العفيفات ، يجعل المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئاً بتلك التهمة النكراء ، فتصبح أعراض الأمَّة مجرحة وسمعتها ملوثة وإذا كل فرد منها متهم أو مهدد بالاتهام ، وإذا كلُّ زوج فيها شاك في زوجه وأهله وولده .
وجريمة القذف والاتهام للمحصنات تولِّد أخطاراً جسيمة في المجتمع ، فكم من فتاة عفيفة شريفة لاقت حتفها لكلمة قالها قائل ، فصدقها فاجر ، فوصل خبرها إلى الناس ولاكتها الألسن فكان أن أقدم أقرباؤها وذووها على قتلها لغسل العار ، ثم ظهرت حصانتها وعفتها عن طريق ( الكشف الطبي ) ولكن بعد أن حصل ما حصل وفات الأوان .
لذلك وصيانةً للأعراض من التهجم ، وحمايةً لأصحابها من إهدار الكرامة ، قطع الإسلام ألسنة السوء ، وسدَّ الباب على الذين يلتمسون للبرآء العيب ، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس ، ويلغوا في أعراضهم .(1/326)
وشدَّد في عقوبة القذف فجعلها قريبة من عقوبة الزنى ( ثمانين جلدة ) مع إسقاط الشهادة ، والوصف بالفسق .
والعقوبة الأولى ( جسدية ) تنال البدن والجسد ، والثانية ( أدبية ) تتعلق بالناحية المعنوية بإهدار كرامته وإسقاط اعتباره ، فكأنه ليس بإنسان لأنه لا يوثق بكلامه ولا يقبل قوله عند الناس ، والثالثة ( دينية ) حيث أنه فاسق خارج عن طاعة الله ، وكفى بذلك عقوبة لذوي النفوس المريضة ، والضمائر الميِّتة .
وقد اعتبر الإسلام ( قذف المحصنات ) من الكبائر الموجبة لسخط الله وعذابه ، وأوعد المرتكبين لهذا المنكر بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة فقال جل ثناؤه : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 23 ] وجعل الولوغ في أعراض الناس ضرباً من ( إشاعة الفاحشةِ ) يستحق فاعلة العذاب الشديد كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة } [ النور : 19 ] وقد عدّها عليه الصلاة والسلام من الكبائر المهلكات فقال صلوات الله عليه : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هنَّ يا رسول الله؟ قال : « الشِّركُ بالله ، والسحرُ ، وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكلُ الربا ، وأكلُ مال اليتيم ، والتولي يومَ الزَّحف ، وقذفُ المحصنات المؤمنات الغافلات » .
وغرضُ الإسلام من هذه العقوبة صيانة الأعراض ، وحفظ كرامة الأمة ، وتطهير المجتمع من مقالة السوء لتظل ( الأسرة المسلمة ) موفورة الكرامة ، مصونة الجناب ، بعيدة عن ألسنة السفهاء ، وبهتان المغرضين .(1/327)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
[ 3 ] اللعان بين الزوجين
{ يَرْمُونَ } : أي يتهمون أزواجهم بالفاحشة ، ويقذفونهن بالزنى ، وقد تقدم معنى الرمي في الآية السابقة وأن المراد به القذف بالزنى بقرينة اشتراط الأربعة من الشهداء وهنا اشترط أربع شهادات أيضاً .
{ أَزْوَاجَهُمْ } : جمع زوج بمعنى ( الزوجة ) فإنّ حذف التاء منها أفصح من إثباتها ، إلا في الفرائض ، قال تعالى : { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ الأعراف : 19 ] وأنكر بعضهم اطلاق لفظ زوجة في العربية وقال هي خطأ والصحيح أنها خلاف الأفصح .
{ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } : أي الشهادة التي ترفع عنه حدّ القذف أن يحلف أربع مرات بالله أنه صادق فيما رماها به من الزنى والشهادة في اللغة معناها الخبر القاطع ، وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحق لإنسانٍ على آخر ، وتسمى أيضاً بينة .
{ لَعْنَتَ الله } : أي غضبه ونقمته ، وأصل اللعن : الطردُ من رحمة الله عز وجل كما قال تعالى لإبليس { وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين } [ ص : 78 ] وسمي اللعان لعاناً لأن فيه ذكر اللعنة .
{ وَيَدْرَؤُاْ } : أي يدفع والدرء معناه في اللغة : الدفعُ قال تعالى : { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] أي تخاصمتم في شأنها وأصبح بعضكم يدفع على بعض .
{ العذاب } : المراد به العذاب الدنيوي وهو الحد ( الجلد أو الرجم ) الذي شرع عقوبةً للزاني أو الزانية في الآيات المتقدمة .
{ تَوَّابٌ } : أي كثير التوبة يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة والمغفرة وهي من صِيغِ المبالغة .
{ حَكِيمٌ } : أي يضع الأشياء في مواضعها ويشرع من الأحكام ما فيه مصلحة العباد . ومعنى الآية : لولا فضله ورحمته لعاجلكم بالعقوبة وفضح الكاذب منكم ولكنه تعالى تواب رحيم .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جل وعلا أن من قذف زوجته بالفاحشة واتهمهما بالزنى ولم يكن لديه بينة تثبت صدقة فيما ادعى ولا شهود يشهدون على صحة ما قال فالواجب عليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، تقوم مقام الشهداء الأربعة ليدفع عنه ( حد القذف ) وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه إن كان منالكاذبين في رميه لها بالزنى .
وأما المرأة المقذوفة إذا لم تعترف بالذنب ، وأرادت التخلص من إقامة ( حد الزنى ) فعليها أن تحلف أربعة أيمان بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى تقوم مقام الشهداء الأربعة في إثبات عفتها ، وفي المرة الخامسة عليها أن تحلف بغضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها بالزنى . ثم بين الباري جل وعلا أن هذا التشريع الذي شرعه لعباده وهو تشريع ( اللعان بين الزوجين ) إنما هو من رحمته بالناس ولطفه بالمذنبين من عباده ولولا ذلك لهتك الستر عنهم ففضحهم وعجّل لهم العقوبة في الدنيا وعذبهم في الآخرة ، ولكنه سبحانه رحيم ودود ، غفار للذنوب ، يقبل توبة العبد إذا أناب(1/328)
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] .
سبب النزول
أ- أخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ( هلال بن أمية ) قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم ( بشريك بن سحماء ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « البينة وإلا حد في ظهرك » فقال يا رسول الله : إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : البينة وإلاّ حد في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إنّي لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فأنزل الله { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الله يعلم إن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب » ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت . . فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابع الأليتين ، خدلَّجَ الساقين فهو لشريك بن سحماء ، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن .
ب- وروى ابن جرير الطبري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] قال سعد بن عبادة : أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكاع قد تفخّدها رجل ، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته . . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار أما تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا : لا تلمه يا رسول الله فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجلٌ منا أن يتزوجها؟ . . . قال سعد يا رسول الله : بأبي وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت أن لو وجدت لكاع قد تفخدها رجل لم يكي لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته فوالله ما لبثوا يسيراً حتى جاء ( هلال بن أمية ) من حديقة له ، فرأى بعينيه وسمع بأذنية . . . ثم ذكر قصة هلال السابقة وطريقة اللعان .
ج- وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن ( عاصم بن عدي ) الأنصاري قال لأصحابه : « إن دخل رجل منا بيته فوجد رجلاً على بطن امرأته ، فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قُتِلَ به وإن قال وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضُرب ، وإن سكت سكت على غيظ اللهم افتح .(1/329)
. . وكان لعاصمٍ هذا ابن عم يقال له ( عويمر ) فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت رجلاً على بطن امرأتي . . . « وساق الحديث .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال الإمام ( الفخر الرازي ) : إنما اعتبر الشرع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات لوجهين :
أ- أنه لا معرّة على الرجل في زنى الأجنبية والأولى له سترهُ ، أما زنى الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه .
ب- إن الغالب المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقاً إلاأن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الأيمان .
اللطيفة الثانية : تخصيص ( اللعنة ) بجانب الرجل ، وتخصيص ( الغضب ) بجانب المرأة ، لأن الغضب أشد في العقوبة من اللعنة ، والمرأة في اقتارفها جريمة الزنى أسوأ من الرجل في ارتكابه جريمة القذف ، لذلك أضيف الغضب إلى المرأة . ومن جهة أخرى فإن النساء كثيراً ما يستعملن اللعن فربما يجترئن على التفوه به لاعتيادهن عليه وسقوط وقعه من قلوبهن بخلاف غضب الله فتدبره .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } فيه التفات ، وهذا ( الالتفات ) من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطبين ( عليكم ) ، وسر هذا الالتفات أنيستوفي مقام الامتنان حقه لأن حال الحضور أتم وأكمل من حال الغيبة ، أفاده أبو السعود .
اللطيفة الرابعة : جواب ( لولا ) في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } موف لتهويل الأمر حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان وأبعد في التهويل والإرهاب ، مثل قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } [ الأنعام : 27 ] حذف جوابه كذلك للتهويل . أي لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً يشيب له الوليد ولا يستطيع أن يعبر عن هوله لسان لأنه فوق الوصف والبيان ، وربّ مسكوت عنه أبلغ من منطوق به ، ومثل هذا قول عمر : ( لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ) أي لنكلت به وشددت له العقوبة ، وتقديره في الآية : لولا فضل الله عليكم لهلكتم ، أو لفضحكم ، أو لعاجلكم بعقابه .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { تَوَّابٌ حَكِيمٌ } الرحمة تناسب التوبة فلماذا عدل عنها إلى قوله : ( تواب حكيم ) بدل ( تواب رحيم ) ؟
والجواب : أن الله عز وجل حكم باللعان وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده ، فلو لم يكن اللعان مشروعاً لوجب على الزوج ( حد القذف ) ، مع أن الظاهر صدقه وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الخزي والعار ، ولو اكتفى بشهاداته لوجب عليها ( حد الزنى ) فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعاً أن شرع هذا الحكم ودرأ العذاب عنهما بتلك الأيمان فسبحانه ما أوسع رحمته وأجل حكمته؟
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ } .(1/330)
. . قرئ : { ولم تكن } بالتاء لأن الشهداء جماعة والجمهور بالياء { ولم يكن } قال أبو حيان وهو الفصيح .
2- قوله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } قرأ حفص والحسن { أربع } بالضم - وقرأ الجمهور { أربعَ } بالفتح نصباً على المصدر .
3- قوله تعالى : { لَعْنَتَ الله } و { أَنَّ غَضَبَ الله } بالتشديد وهي قراءة الجمهور وقرأ نافع { أنْ لعنةُ } و { غَضَبُ } بالتخفيف فتكون { أن } مخففة من أن الثقلة واسمها ضمير الشأن ، ولكل وجه من وجوه القراءات سند من جهة الإعراب والله أعلم .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } . ( شهداء ) : اسم كان و ( لهم ) خبرها ، و ( إلاّ ) أداة حصر ، و ( أنفسُهم ) بدل من شهداء مرفوع بالضمة الظاهرة وهو مضاف .
ويصح أن تكون كان تامة والمعنى : ولم يوجد شهداء إلا أنفُسهم ، فيكون ( شهداء ) فاعل ، و ( أنفسُهم ) بدل من شهداء ، ومثلها ( وإن كان ذو عسرة ) أي إن وجد ذو عسرة .
ثانياً : قوله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } .
( شهادة ) مبتدأ ، و ( أربع ) خبره ، كما تقول : صلاة العصر أربعُ ركعات . ويجوز أن يكون ( شهادة ) خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : فالحكم شهادة أحدهم .
ثالثاً : قوله تعالى : { والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ } .
( الخامسةُ ) مبتدأ ، وجملة ( أنّ لعنتَ الله ) هي الخبر ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم .
رابعاً : قوله تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله } .
( أن تشهد ) أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل ( يدرأ ) وتقديره : ويدرأ عنها العذاب شهادتها ، وجملة ( إنه لمن الكاذبين ) في محل نصب ب ( تشهد ) إلاّ أنه كسرت الهمزة من ( أنّه ) لدخول اللام في الخبر .
خامساً : قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } .
قال أبو البركات ابن الأنباري : لم يذكر جواب ( لولا ) إيجازاً واختصاراً لدلالة الكلام عليه ، وتقديره : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعاجلكم بالعقوبة ، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : متى يجب اللعان؟
إذا رمى الرجل امرأته بالزنى ولم تعترف بذلك ولم يرجع عن ريمه فقد شرع لهما اللعان ويجب اللعان في حالتين :
أ- الحالة الأولى : إذا رمى امرأته بالزنى كأن يقول لها : زنيتِ أو رأيتك تزنين وليس عنده أربعة شهود يشهدون بما رماها به ، وإذا قال لها : يا زانية ، فالجمهور أنه يلاعن خلافاً لمالك .
ب- الحالة الثانية : أن ينفي حملها منه فيقول : هذا الحمل ليس مني أو ينفي ولداً له منها .
الحكم الثاني : هل اللعان يمين أم شهادة؟
اختلف الفقهاء في اللعان هل هو يمين أم شهادة على مذهبين :
أ- المذهب الأول : أنه شهادة فيأخذ أحكام الشهادة وهو مذهب الإمام أبي حنيفة .
ب- المذهب الثاني : أنه يمين وليس بشهادة فيأخذ أحكام اليمين وهو مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) .
أدلة الأحناف :
1- استدل الأحناف على أن اللعان شهادة بقوله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } وقالوا الملاعن يقول في لعانه : أشهد بالله فدل على أنه شهادة .(1/331)
2- واستدلوا بحديث ابن عباس المتقدم في قصة ( هلال بن أمية ) وفيه : ( فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت ) . . . الحديث وفيه لفظ الشهادة صراحة .
3- وقالوا : إن كلمات الزوج في اللعان قائمة مقام الشهود ، فتكون هذه الألفاظ شهادة .
أدلة الجمهور :
1- واستدل الجمهور بأن لفظ الشهادة قد يراد به ( اليمين ) بقوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } [ المنافقون : 1 ] ثم قال تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [ المنافقون : 2 ] فسمى الشهادة يميناً .
2- واستدلوا بقوله سبحانه ( أربع شهادات بالله ) فقد قرن لفظ الجلالة ( الله ) بالشهادة فدل على أنه أراد بها اليمين ، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل بخلاف يمينه .
3- واستدلوا بما ورد في بعض روايات حديث ابن عباس من قوله صلى الله عليه وسلم : « لولا الأيمان لكان لي ولها شأن » .
والخلاصة : فإن الأحناف يقولون : ألفاظ اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان . . . والجمهور يقولون : إنها أيمان مؤكدة بالشهادة وردت بهذه الصيغة للتغليظ . فالأولون غلّبوا جانب الشهادة والآخرون غلبوا جانب اليمين .
الحكم الثالث : هل يجوز اللعان من الكافر والعبد والمحدود في القذف؟
وبناء على اختلاف الفقهاء في ( اللعان ) هو هو شهادة أم يمين ترتب عليه اختلافهم فيمن يجوز لعانه ، فشرط الأحناف : في الزوج الذي يصح لعانه أن يكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم وكذلك الزوجة أن تكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم ( فلا لعان بين رقيقين ، ولا بين كافرين ، ولابين المختلفين ديناً ، ولا بين محدودين في قذف ) واستدلوا على مذهبهم بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين الحرة والعبد لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان » .
واحتجوا بأن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله : ( ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) وجب ألاّ يلاعن إلا من تجوز شهادته فلا يصح اللعان إلا من ( زوجين ، حرين ، مسلمين ) .
وذهب الشافعي ومالك وهو رواية عن أحمد : إلى أن كل من يصح يمينه يصح قذفه ولعانه فيجوز اللعان من كل زوجين حرين كانا أو عبدين ، مؤمنين أو كافرين ، فاسقين أو عدلين . وحجتهم أن قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } عام يتناول جميع الأزواج ، والآية لم تخصص زوجاً دون زوج فوجب أن يكون اللعان بين كل الأزواج . . . وقالوا إن المقصود من اللعان دع العار عن النفس ، ودفع ولد الزنى عن النفس ، فكما يحتاج إليه المسلم يحتاج إليه غير المسلم ، وكما يدفع الحر العار عن نفسه يدفع العبد العار عن نفسه والخلاصة : فإنَّ كلَّ من يجوز يمينه يجوز لعانه عند الجمهور .(1/332)
قال ابن العربي : ( والفصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب وكيف يجوز لأحد أن يدعيَ في الشريعة أن شاهداً يشهد لنفسه بما يوجب حكماً على غيره ، هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر ) .
وقال ابن القيم رحمه الله : ( والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين : اليمين والشهادة فهو شهادة مؤكدة بالقسم . والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر ، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع . . . ثم سرد تلك الأنواع ) .
الحكم الرابع : هل يجوز اللعان بدون حضور الحاكم؟
اتفق الفقهاء على أن اللعان لا يجوز إلا بحضرة الحاكم أو من ينيبه الحاكم لأنه إذا نكل أحدهما أو ثبت عليه الأمر وجب الحد . وإقامة الحد من خصائص الحكام . . وينبغي أن يعظ الإمام الزوجين ويذكرهما بعذاب الله ويقول لكل واحد منهما : عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ويخوفهما بمثل قوله صلى الله عليه وسلم : « أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة . . . وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين » .
الحكم الخامس : كيفية اللعان وطريقته .
وضحت الآيات الكريمة طريقة اللعان وكيفيته بشكل جلي واضح وهي : أن يبدأ الزوج فيقول أربع مرات الصيغة التالية : « اشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى » ثم يختم في المرة الخامسة بقوله : « لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما زماني به من الزنى » ثم تختم في المرة الخامسة بقولها : « غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى » .
وظاهر الآية الكريمة أنه لا يقبل من الرجل أقل من خمس مرات ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب ، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة ، والبداءة تكون بالرجل في اللعان وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : يُعْتد بلعانها إذا بدئ به . ومرجع الخلاف أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة ولعانها يسقط ذلك الحد ، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخراً عن لعانه . وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود ، أو بالإقرار ، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه .
هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن ويزاد عليها من السنة أنه إذا كانت المرأة حاملاً وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه فيقول : ( وإن هذا الحمل ليس مني ) وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه وجب التعرض لذلك في اللعان ، ويندب أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد ويستحب التغليظ بالزمان والمكان وبحضور جمع من عدول المسلمين ، وكل ذلك إنما ثبت بالسنة المطهرة ، فيجري اللعان في مسجد جامع وأمام جمع غفير للتغليظ والله أعلم .(1/333)
الحكم السادس : النكول عن اللعان هل يوجب الحد؟
اختلف الفقهاء فيما إذ نكل أحد الزوجين عن اللعان هل يجب عليه الحد؟ على مذهبين :
أ- مذهب الجمهور : ( مالك والشافعي وأحمد ) أن الزوج إذا نكل عن اللعان فعليه ( حد القذف ) وإذا نكلت الزوجة عن اللعان فعليها ( حد الزنى ) .
ب- وقال أبو حنيفة : إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه . . . وإذ نكلت المرأة حبست حتى تلاعن أو تقر بالزنى فيقام عليه حينئذ الحد .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب الحد بأدلة نلخصها فيما يأتي :
أولاً : إن الله تعالى قال في أول السورة { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد .
ثانياً : قوله تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } لا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة ، لنه الزوجة إن كات كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذاباً في الآخرة ، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة ، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا وهو المذكور في الآية السابقة وهي قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] وهو حد الزنى .
ثالثاً : قالوا : ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لخولة زوج هلال « الرجم أهون عليك من غضب الله » وهو نص في الباب . وقوله لهلال بن أمية : « البينة أو حد في ظهرك » .
أدلة أبي حنيفة :
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بما يلي :
أولاً : قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } يُفهم منه أ ن الواجب في قذف الزوجات ( اللعان ) لا الحد وهذه الآية إمّا ناسخة لآية القذف ، وإمَّا مخصّصة فلا يجب على كلا الحالين سوى ( اللعان ) فإذا امتنع الزوج حبس حتى يلاعن وإذا امتنعت الزوجة حبست حتى تلاعن .
ثانياً : إن المرأة إذا امتنعت لم تفعل شيئاً سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس ببينة على الزنى فلا يجوز رجمها لقوله عليه السلام : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفس بغير نفس » .
ثالثاً : النكول عن اللعان ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنى وغيره لا يجوز إثبات الحد به .
قال العلامة الألوسي : في الانتصار لمذهب أبي حنيفة : ( والعَجَبُ من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنى مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبداً فاسقاً .(1/334)
. . وأعجب منه أن ( اللعان ) يمين عنده وهولا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب ، وأسقط به كلٌ من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به ( الرجم ) الذي هو أغلظ الحدود على المرأة!! وكون النكول إقراراً به شبهة ، ( والحدود تدرأ بالشبهات ) .
ووافق الإمام ( أحمد ) رحمه الله الأحناف في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه بأنها تحبس ولا ترجم وفي رواية أخرى عنه : لا تحبس ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة .
وجاء في كتاب « فقه السنة » للسيد سابق ما نصه :
قال ابن رشد : ( وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو الاعتراف ، ومن الواجب ألاّ تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك ) . . فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله وقد اعترف أبو المعالي في كتابه « البرهان » بقوة الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي ) انتهى .
أقول : رأي أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أنه ليس بقوة رأي الجمهور لظهور أدلتهم النقلية ، وهو ما نختاره كما اختاره شيخ المفسرين الطبري وغيره من الجهابذة الأعلام .
الحكم السابع : هل آية اللعان ناسخة لآية القذف؟
إنّ الروايات التي ذكرت في سبب النزول متفقة كلها على ثلاثة أمور : أولها : أن آيات اللعان نزلت بعد آية القذف أن حكم من رمى زوجة كحكم من رمى الأجنبية .
ثالثها : أن آية ( اللعان ) نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه من القذف .
وبناء على ذلك فإن قواعد أصول الحنيفية تقضي بأن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] لتراخي نزولها عنها .
وعلى مذهب الأحناف : يكون ثبوت ( حد القذف ) على من قذف زوجته منسوخاً بآيات اللعان وليس على الزوج سوى الملاعنة لا غير . . . وعلىمذهب الأئمة الثلاثة : تتكون آيات اللعان مخصّصة للعموم في آية القذف لا ناسخة لها .
ويصبح معنى الآيتين : كل من قذف محصنة ولم يأتي بأربعة شهداء فعليه ( حد القذف ) إلا من قذف زوجته فعليه ( الحد أو اللعان ) ، والخلاف في الحقيقة شكلي لا جوهري .
الحكم الثامن : هل يُفَرّقُ بين المتلاعنَيْن؟
قضت السنة النبوية أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً ، فإذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل ( التأبيد ) لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً » . وعن علي وابن مسعود قالا : ( مضت السنة ألاّ يجتمع المتلاعنان ) . . والحكمة في ذلك ( التحريم المؤبد ) أنه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة . فإن الرجل إنْ كان صادقاً فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد ، وأقامها مقام الخزي والغضب ، وإن كان كاذباً فقد أضاف إلى ذلك أنه بهتها وزاد في إيلامها وحسرتها وغيظها .(1/335)
وكذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها ، وألزمته العار والفضيحة . فقد حصل بينهما النفرة الدائمة والوحشة البالغة . ومن المعلوم أنَّ أساس الحياة الزوجية السكنُ والمودة ، والرحمة ، وقد زالت هذه باللعان فكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة .
وقد اتفق الفقهاء على وجوب التفريق بين المتلاعنين وعلى أن الحرمة بينهما . تكون ( مؤبدة ) لم يخالف في ذلك أحد إلاّ ما روي عن ( عثمان البتي ) أنه قال : لا يقع باللعان فرقة إلا أن يطلقها وهو قول مردود للنصوص المتقدمة .
ولكنّ الفقهاء اختلفوا متى تقع الفرقة بين المتلاعنين؟
فذهب ( الشافعي ) رحمه الله إلى أن الفرقة تقع بمجرد لعان الزوج وحده ولو لم تلاعن الزوجة .
وذهب ( مالك وأحمد ) في إحدى الروايتين عنه إلى أن الفرقة لا تقع إلا بلعانهما جميعاً .
وذهب ( أبو حنيفة وأحمد ) في روايته الأخرى إلى أن الفرقة لا تقع إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما .
أما حجة الشافعي : فهي أن الفرقة حاصلة بالقول ، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها كما قال تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } فدل على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها .
أما حجة مالك : فهي أن الشارع قد أمر بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده . . وأيضاً لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لأصبحت المرأة أجنبية عنه فتكون الملاعِنَةُ أجنبية وقد أوجب الله اللعان بين الزوجين .
أما حجة أبي حنيفة وأحمد : فهي أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما عملاً بالسنة المطهرة ففي حديث ابن عباس السابق ( ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ) وهذا يتقضي أن الفرقة لم تحصل قبله ، ولأن اللعان نوع من الحدود ، والحدودُ إنما يجريها الحاكم فلا بد إذاً من تفريق الحاكم . . . ولعلّ هذا الرأي هو الأصح والأرجح .
الحكم التاسع : إذا أكذب الرجل نفسه فهل تعود إليه زوجته؟
وإذا تلاعن الزوجان ثم أكذب الرجل نفسه فحُدَّ حد القذف فهل تحل له زوجته؟
قال ( مالك والشافعي ) لا تحل له زوجته لأن الفرقة مؤبدة وقد قضت السنة بأنهما لا يجتمعان أبداً فلا طريق إلى العودة عملاً بالنصوص المتقدمة كما في المطلقة ثلاثاً وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين .
وقال ( أبو حنيفة ) إذا أكذب الرجل نفسه فهو خاطب من الخطاب لأنه إذا اعترف بكذبه وحُدَّ حدَّ القذف لم يبق ملاعنا وإنما أصبح كاذباً فيحل له العودة إلى زوجته . قال ابن الجوزي : وروي عن أحمد روياتان أصحهما أنه لا تحل له زوجته ، والثانية يجتمعان بعد التكذيب وهو قول أبي حنيفة .(1/336)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن اللعان يوجب الحرمة المؤبدة كما دلت بذلك الآثار سواء أكذب نفسه أم لا والله أعلم .
الحكم العاشر : هل يلحق ولد اللعان بأمه؟
إذا نفى الرجل ابنه وتم اللعان بنفيه له انتقى نسبه من أبيه وسقطت نفقته عنه ، وانتفى التوارث بينهما ولحق بأمه فهي ترثه وهو يرثها لحديث ( عمرو بن شعيب ) : « وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه ، ومن رماها به جلد ثمانين » ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للقراش ولا فراش هنا لنفي الزوج إياه . . وأما من رماها به اعتبر قاذفاً وجلد ثمانين جلدة لأن ( الملاعِنة ) داخلة في المحصنات ولم يثبت عليها ما يخالف ذلك فيجب على من رماها بابنها حد القذف ومن قذف ولدها يجب حده كمن قذف أمه سواء بسواء . . .
أما بالنسبة للأحكام الشرعية فإنه يعامل كأنه أبوه من باب الاحتياط فلا يعطيه زكاة المال ، ولو قتله لا قصاص عليه ، ولا تجوز شهادة كل منهما للآخر ، ولا يعد مجهول النسب فلا يصح أن يدعيه غيره ، وإذا أكذب نفسه ثبت نسب الولد منه ويزول كل أثر اللعان بالنسبة للولد .
وروى الإمام الفخر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : يتعلق باللعان خمسة أحكام : ( درء الحدّ ، ونفي الولد ، والفرقة ، والتحريم المؤبّد ، ووجوب الحدّ عليها ) ، وكلها تثبت بمجرد لعانه ، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- إذا قذف الرجل زوجته ولم تكن لديه بينة فإمّا أن يُحدّ أو يلاعن .
2- لا يجري اللعان في اتهام غير الزوجة من المحصنات لأنه خاص بالزوجين .
3- تشريعُ اللعان لمصلحة الزوجين يبرئ الزوج من ( حد القذف ) والزوجة من ( حدّ الزنى ) .
4- لا بدّ في المُلاَعَنَة أن تكون خمس مرات بالصيغة المذكورة في القرآن الكريم .
5- ينبغي تغليظ أمر « اللّعان » بالزمان والمكان وحضور جمع من المسلمين .
6- اللّعانُ يوجب ( الحُرْمة المؤبّدة ) بين الزوجين ، فلا ترجع للزوج بحالٍ من الأحوال .
7- تخصيص الرجل باللعنة ، وتخصيص المرأة بالغضب ، للتفريق بين نفسيّة الزوجين .
8- الله واسع المغفرة ، عظيم الفضل والمِنّة ، لولا ستره على العباد لعذّبهم وأهلكهم .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الحكيم العليم ( اللعان ) لحكمة جليلة سامية ، هي من أدق الحكم وأسماها في صيانة المجتمع ، وتطهير الأسرة ، ومعالجة المخاطر والمشاكل التي تعترض طريق ( الحياة الزوجية ) وما يهددها من متاعب وعقبات .
وعالج القرآن بهذا التشريع الدقيق ناحية من اخطر النواحي التي يمكن أن يجابهها الإنسان في حياته الواقعية الأليمة ، حين يبصر بعينه ( جريمة الزنى ) ترتكب في أهل بيته فلا يستطيع أن يتكلم ، ولا أن يجهر ، لأنه ليس لديه بينة تثبت ذلك ، ولا يستطيع أن يقدم على القتل ( لغسل العار ) لأن هناك القصاص ويبقى ذاهلاً ، مشتتاً ، محتاراً ، كيف يصنع!! أيترك عرضه ينتهك وشرفه يُلوّث ، وفراشه يدنّس ، ثم يغمض عينيه خشية الفضيحة أو خوف العار؟ أم يقدم على الانتقام من زوجة الخائن ، وذلك اللص الماكر ، شريكها في الخيانة والإجرام فيكون سبيله العقاب والقصاص؟!
إنها حالات من الضيق النفسي والقلق والاضطراب لا يملك المرء لها دفعاً ولا يدري ماذا يصنع تجاهها وهو يعاني هذه الأزمة النفسية الخائفة؟! وتشاء حكمة الله أن تقع مثل هذه الحوادث في أفضل العصور ( عصر النبوة ) وبين أطهر الأقوام ( صحابة الرسول ) والقرآن ينزل والوحي يتلى ، ليكون درساً عملياً تربوياً يتلقاه المسلمون بكل قولة ، وصلابة عزم .(1/337)
فهذا ( هلال بن أمية ) يأتي بيته مساء فيرى بعينه وسيمع بأذنية صوت الخيانة واضحاً فيكبح جماح نفسه ، ويغالب غضبه وثورته ، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر ، وهو واثق من نفسه لأنها رؤيا العين ويطلب منه الرسول البينة ولكن من أين يأتي بها؟ وكيف له أن يأتي بأربعة شهود يشهدون معه لإثبات دعواه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له : البينة أو حد في ظهرك!! ويسمع ( سعد بن عبادة ) وهو سيد الأنصار ذلك فيقول يا رسول الله : إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً لم يكن له أن يحركه أو يُهيجَه حتى يأتي بأربعة شهداء ، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه ويلتفت الرسول إلى أصحابه قائلاً : أتعجبون من غيره سعد والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، يطلب الرسول البينة من هلال وليس معه بينة ويشتد الأمر على الرسول وعلى أصحابه ويتحدث الناس : الآن يضرب الرسول هلالاً ، ويبطل بين الناس شهادته ، فيقول ( هلال ) يا رسول الله والله إني لصادق وإني لأرجو أن يجعل الله لي منها فرجاً ومخرجاً وينزل الوحي على الرسول بهذه الآيات الكريمة التي أصبحت قرآناً يتلى ودرساً يحفظ ونظاماً يطبقه المسلمون في حياتهم ويقول الرسول الكريم : « أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً » فيقول هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل .
هذه ناحية دقيقة ، عالجها الإسلام بحكمته الرفيعة وجعل لها فرجاً ومخرجاً فشرع ( اللعان ) بين الزوجين ، ليستر المولى على عباده زلاتهم ويفسح أمامهم المجال للتوبة والإنابة . ولولا هذا التشريع الحكيم لأريقت الدماء . وأزهقت الأرواح في سبيل الدفاع عن ( العرض والشرف ) وقد يكون هناك عدوان من أحد الزوجين على الآخر فلو سمح للزوج أن ينتقم بنفسه فيقتل زوجه لكان هناك ضحايا بريئات يذهبن ضحية المكر والخبث إذ ليس كل زوج يكون صادقاً؛ ولو أقيم عليه ( حد القذف ) لأنه قذف امرأة محصنة لكان في ذلك أبلغ الألم والضرر إذ قد يكون صادقاً في دعواه فيجتمع عليه ( عقوبة الجلد ) و ( تدنيس الفراش ) فإذا تكلم جلد ، وإذا سكت سكت على غيظ .(1/338)
فكان في هذا التشريع الإلهي الحكيم أسمى ما يتصوره المرء من العدالة والحماية وصيانة الأعراض وقبر الجريمة في مهدها فهو ( بطريق اللعان ) إذ يترك الأمر معلقاً لا يستطيع أحد أن يجزم بوقوع الجريمة أو بخيانة الزوجة ، ولا يقطع بكذب الزوج إذ يحتمل أن يكون صادقاً ثم يفرق بينهما فرقة مؤبدة تخلِّص الإنسان من الشقاء ، وتقطع ألسنة السوء ، وتصون كرامة الأسرة .
فللَّه ما أسمى تشريع الإسلام وما أدق نظره وأحكامه!! وصدق الله { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .(1/339)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
[ 4 ] في أعقاب حادثة الإفك
التحليل اللفظي
{ يَأْتَلِ } : أي يحلف من ( الأليّة ) بمعنى الحلف ، ووزنها ( يَفْتَعِلْ ) ومنه قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ البقرة : 226 ] وقال بعضهم : معناه يقصّر من قولك : ألَوْتُ في كذا إذا قصّرت فيه ومنه قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] .
قال الزمخشري : ( يأتل ) من ائتلى إذا حلف : افتعال من الأليّة ، وقيل : من قولهم : ما ألوت جهداً ، إذا لم تدّخر منه شيئاً ، ويشهد للأول قراءة الحسن : ولا يتألَّ والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان .
{ أُوْلُواْ الفضل } : أصحاب الصلاح والدين ، ومعنى الفضل الزيادة والمراد هنا أهل البر والدين والصلاح .
{ والسعة } : المراد بها السعة في الرزق والمال ، الذين وسّع الله عليهم وأغناهم من فضله ، قال الشاعر :
ومن يك ذا مال فيبخل بفضله ... على غيره يستغنى عنه ويذمم
{ أَن يؤتوا } قال ابن قتيبة معناه : أن لا يؤتوا ، وقال القرطبي قوله تعالى : { أَن يؤتوا } أي ألاّ يؤتوا فحذف ( لا ) كقول القائل :
فقلتُ يمينُ اللَّه أبرحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
أقول : هذا الحذف وارد في كلام العرب ومثله قوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلّوا أو خشية أن تضلوا .
{ وَلْيَعْفُواْ } : أي يغفروا الزلات ، من عفا الربع إذا محي أثره ودرس ، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع .
{ المحصنات } : العفائف الشريفات الطاهرات ، وقد تقدم معنى الإحصان فيما سبق .
{ الغافلات } : جمع غافلة وهي التي غفلت عن الفاحشة ، بحيث لا تخطر ببالها ، وقيل : هي السليمة الصدر ، النقية القلب ، التي ليس فيها دهاء ولا مكر ، لأنها لم تجرب الأمور ، ولم تزن الأحوال ، فلا تفطن لما تفطن له المجرِّبة العارفة .
{ لُعِنُواْ } : اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل { وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ النساء : 52 ] وقد يراد به الذكر السَّيِّئ أو الحد ( الجلد ) كما في هذه الآية حيث أقيم عليهم حد القذف .
{ تَشْهَدُ } : تقر وتعترف ، وشهادة الألسنة إقرارها بما تكلموا به من الفرية ، وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم . وقال ابن جرير : المعنى أنّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان .
{ يُوَفِّيهِمُ } : التوفية إعطاء الشيء وافياً ، يقال : تَوفّى حقه إذا أخذه كاملاً غير منقوص .
{ دِينَهُمُ الحق } : أي حسابهم العدل ، أو جزاءهم الواجب ، والدين في اللغة بمعنى الجزاء ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « إعمل ما شئت كما تدين تدان » أي كما تفعل تجزى .
{ الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، وهو جمع خبيثة وخبيث ، والخبيثُ الذي يعمل الفواحش والمنكرات سمّى خبيثاً لخبث باطنه وسوء عمله قال تعالى :(1/340)
{ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } [ الأنبياء : 74 ] وذهب جمهور المفسّرين إلى أن معنى الآية : الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال . والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول . . قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية واختاره ابن جرير الطبري .
{ مُبَرَّءُونَ } : أي منزّهون مما رُمُوا به ، والمراد بالآية براءة الصدّيقة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان ، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم .
{ مَّغْفِرَةٌ } : أي محو وغفران للذنب ، والبشر جميعاً معرضون للخطأ وقيل في الآية إنه من باب : ( حسناتُ الأبرار سيئات المقربين ) .
{ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } : قال الألوسي : هو الجنة كما قال أكثر المفسرين . ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] فإن المراد به الجنة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا يحلف أهل الفضل والصلاح والدين . الذين وسّع الله عليهم في الرزق وأغناهم من فضله ، على ألا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كان يعطونهم إياه من الإحسان لجرم ارتكبوه ، أو ذنب فعلوه . وليعفوا عما كان منهم من جرم ، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة . وليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من الإفضال والإحسان ، ألا تحبون أيها المؤمنون أن يكفر الله عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، ويدخلكم الجنة مع الأبرار!!
ثم أخبر تعالى بأن الذين يرمون المؤمنات العفيفات الطاهرات بالزنى ، ويقذفونهن بالفاحشة ، وهنّ الغافلات عن مثل هذا الافتراء والبهتان . . . هؤلاء الذين يتهمون الحرائر العفيفات الشريفات ، قد لعنهم الله بسبب هذا البهتان . فطردهم من رحمته ، وأوجب لهم العذاب الأليم ، الجلد في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة ، بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة في حق أولئك المؤمنات . . . وليس هذا فحسب بل سوف تنطق عليهم جوارحهم ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، في ذلك اليوم الرهيب . بما كانوا يفعلونه من الإفك والبهتان ، وستكون فضيحتهم عظيمة ، عندما ينكشف أمرهم على رؤوس الأشهاد ، وينالون جزاءهم العادل من أحكم الحاكمين ، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة ويعلمون في ذلك اليوم أن الله عادل ، لا يظلم أحداً من خلقه؛ لأنه هو الحق المبين ، الذي يكشف لكل إنسان كتاب أعماله ، ويجازيه عليها الجزاء العادل .
ثم أخبر تعالى ببراءة السيدة عائشة الصدّيقة أم المؤمنين رضوان الله عليها ، مما رماها به أهل الضلال والنفاق ، وتقوّلوا له عليها من الفاحشة ، وأتى بالبرهان الساطع ، والدليل القاطع ، على عصمتها ونزاهتها وبراءتها ، فهي زوج رسول الله الطاهرة الشريفة ، ورسول الله طيّب طاهر . وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه ، فالخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء . والطيبات من النساء للطّيبين من الرجال ، والطّيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أولئك المتهمات في أعراضهن ، بريئات من تلك التهمة الشنيعة ، كيف لا وهنَّ أزواج أشرف رسول ، وأكرم مخلوق على الله ، وما كان الله ليقسمهنَّ لأحب عباده إليه إن لم يكنَّ طاهرات النفس { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } !!
سبب النزول
1- روى ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزل قوله تعالى :(1/341)
{ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } [ النور : 11 ] الآية في عائشة وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر : - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً ، ولا أنفعه بنفع أبداً ، بعد الذي قال لعائشة ما قال ، وأدخل عليها ما أدخل ، قالت فأنزل الله في ذلك : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى . . . } الآية قالت : فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجّع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : « والله لا أنزعها منه أبداً »
2- وأخرج ابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان مسطح بن أثاثة ) ممن تولى كِبْرَه أهل الإفك ، وكان قريباً لأبي بكر ، وكان في عياله ، فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } الآية قالت : فأعاده أبو بكر إلى عياله ، وقال : لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلاّ تحلّلتها وأتيت الذي هو خير .
وفي رواية أخرى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر فتلاها عليه ، فقال : ألا تحب أن يغفر الله لك؟ قال : بلى ، قال : فاعف عنه وتجاوز ، فقال أبو بكر : لا جرم والله لا أمنعه معروفاً كنت أوليه قبل اليوم ، وضعّف له بعد ذلك فكان يعطيه ضِعْفي ما كان يعطيه .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { ولا يأتل } على وزن ( يفتعِل ) وقرأ الحسن وأبو العالية { ولا يتألّ } بهمزة مفتوحة مع تشديد اللام على وزن ( يتعَلَّ ) وهو مضارع تألى بمعنى حلف قال الشاعر :
تألّى ابن أوس حِلفةً ليردّني ... إلى نسوة لي كأنهن مقائد
وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل . وليس كما قال أبو عبيدة إنه من ( الألْو ) بوزن الدلو بمعنى لا يقصّر ، واستشهد بقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] فإنّ سبب النزول يؤيد الرأي الأول .
2- قرأ الجمهور { أن يؤتوا } وقرأ أبو حيوة { أن تُؤتوا } بتاء الخطاب على طريق الالتفات .
3- قوله : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } قراءة الجمهور بالياء ، وقرأ الحسن ، وسفيان بن الحسين { ولتَعْفوا ولتَصْفحوا } بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } .
4- قرأ الجمهور { يوم تشهد } بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي { يوم يشهد } بالياء بدل التاء ، قال الألوسي : ووجهه ظاهر .(1/342)
5- قرأ الجمهور { دينَهم الحقّ } بالفتح على أنه صفة للدّين بمعنى حسابهم العدل ، وقرأ مجاهد والأعمش { دينَهم الحقُّ } برفع القاف على أنه صفة للإسم الجليل . ( ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ) ويصبح المعنى : يومئذ يوفيهم اللَّهُ الحقّ دينهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . . } الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر ، وأنه أفضل الصحابة .
قال الفخر الرازي : أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى : { أُوْلُواْ الفضل } أبو بكر رضي الله عنه ، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز . فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين . ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله ( والسعة ) تكريراً . فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو السعود : قوله تعالى : { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } أي في الدين ، وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { أَن يؤتوا } فيه حذف بالإيجاز ، فقد حذفت منه ( لا ) لدلالة المعنى على ذلك ، أي على أن لا يؤتوا . قال الزجّاج ، إنّ ( لا ) تحذف في اليمين كثيراً قال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } [ البقرة : 224 ] يعني أن لا تبروا . وقال امرؤ القيس : « فقلت يمين الله أبرح قاعداً » أي لا أبرح .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } هذا خطاب بصيغة الجمع ، والمراد به أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] .
قال الإمام الفخر رحمه الله : « فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه » وحين سمعها أبو بكر قال : بلى أحب أن يغفر الله لي . وأعاد النفقة إلى مسطح .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } قال العلامة ابن الجوزي : فإن قيل : لم أقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلا بدّ أن يرمي معها مؤمناً ، فاستغني عن ذكر المؤمنين . ومثله قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أراد : والبرد ، قاله الزجاج .
اللطيفة الخامسة : ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات } والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين ، رضوان الله عليهن أجمعين ، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولاً أولياً ، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام ل ( بيت النبوّة ) ، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات } قال : هذه في ( عائشة ) وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة ، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات ، من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ، ثم تلا هذه الآية { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره .(1/343)
اللطيفة السادسة : أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات } إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية ، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها ، والنفوس الطيبة لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها ، وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وأفضل الأولين والآخرين ، تبيّن أنّ الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب النساء بالضرورة ، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } ويا لها من شهادة قاطعة!!
قال أبو السعود : « هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلهية ، الجارية فيما بين الخلق ، على موجب أنّ لله ملكاً يسوق الأهل إلى الأهل ، لأن المجانسة من دواعي الانضمام . . . وما في الإشارة من معنى البعد ( أولئك ) للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم ، وبعد منزلتهم في الفضل ، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن ، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة » .
اللطيفة السابعة : قال الزمخشري في تفسيره « الكشاف » : « لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة : برّأ يوسف بلسان الشاهد { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] . وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه . . وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] . وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز ، المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم ، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين ، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم قدمه ، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق ، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك ، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه » .
خصائص السيدة عائشة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « لقد أُعطِيتُ تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري .(1/344)
ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي . ولقد حفّته الملائكة في بيتي . وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيفرقون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنه خليفته وصديقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب . ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي؟
أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى : { أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } مِسْطَح ، لأنه كان قريباً لأبي بكر ، وكان من المساكين ، والمهاجرين البدريّين ، وكان قد وقع في حديث الإفك ، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك ، ولا شك أن القذف من الذنوب والكبائر ، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي ، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف ( مسطحاً ) بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف ، وهذه صفة مدح ، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف . وقالوا : لا يحبط العمل إلا بالإشراك ، والردة عن الإسلام والعياذ بالله ، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 5 ] وقال تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة . . . } [ البقرة : 217 ] الآية .
الحكم الثاني : هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان؟
اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه ، لقوله تعالى : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } والأمر هنا للندب والإرشاد ، وليس للوجوب ، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه ، فلو كان العفو واجباً لما جاز طلب القصاص ، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } [ الشورى : 40 ] وقال صلى الله عليه وسلم : » لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه « فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } ؟ فعلّق الغفران بالعفو والصفح ، قال الإمام الفخر : ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى .
الحكم الثالث : هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيراً منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام : » من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه « .
فتجب الكفارة بالحنث في اليمين ، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك .(1/345)
وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه ، واستدلوا بظاهر هذه الآية { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة .
واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته » .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي :
أ- قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] الآية .
ب- وقوله تعالى : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ المائدة : 89 ] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره .
ح - وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] والحنث كان خيراً من تركه ، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة .
د- وبحديث « فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه » وقد تقدم .
قال الجصاص : « أم استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة ، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } [ المائدة : 89 ] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره ، وأما استدلالهم بالحديث » فليأت الذي هو خير وذلك كفارته « فإن معناه تكفير الذنب . لا الكفارة المذكورة في الكتاب ، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة ، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف » .
وقال ابن العربي : عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون ، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح ، ثم رجَّع إليه نفقته ، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء .
الترجيح : ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم .
الحكم الرابع : هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟
تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا ، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عز وجل في قوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] . قال الفخر الرازي : « في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة ، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير ، لا صارفة عنه » .
وقال الألوسي : « وظاهر هذا حمل النهي على التحريم ، وقيل : هو للكراهة ، وقيل : إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً ، وقد يكون مكروهاً ، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً » .(1/346)
الحكم الخامس : هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين؟
ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول ( أمهات المؤمنين ) رضوان الله عليهن ، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته .
وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين ، طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام .
قال العلامة الألوسي رحمه الله : « وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجلّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين ، والذي ينبغي أن يعوِّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين ، بعد نزول الآيات ، وتبيّن أنهن طيبات ، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد ، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر .
والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحاً ، أو قاصداً الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أُبيّ لعنه الله تعالى ، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان . ومِسطَح ، وحمنة ، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين ، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً ، فوبخوا على ذلك توبيخاً شديداً » .
أقول : إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر ، فكيف بمن يستحل قف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم ، ونزلت براءتها من السماء؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم ، تكذيب لله عز وجل في إخباره ، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات ، الطاهرات ، الشريفات ، فيكون قاذفهن كافراً بلا تردد . والله تعالى يقول : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ الأحزاب : 57 ] .
الحكم السادس : هل يجوز لعن الفاسق أو الكافر؟
دلّ قوله تعالى : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } على جواز لعن الفاسق أو الكافر ، وقد اتفق الفقهاء على جواز لعن من مات على الكفر كأبي جهل وأبي لهب ، وعلى جواز التعميم باللعنة على الكفرة والفسقة والظالمين كقوله : لعنة الله على الظالمين ، أو لعنة الله على الفاسقين ، أو الكافرين . . . أما إذا خصّص باللعنة إنساناً معيّناً فلا يجوز حتى ولو كان كافراً ، لأن معنى اللعنة : الطرد من رحمة الله . والدعاء عليه بأن يموت على الكفر ، ولا يجوز لمسلم أن يتمنى موت غيره على الكفر ، لأن الرضى بكفر الكافر كفر ، والمسلم يريد الخير للناس ، ويتمنى أن يموتوا على الإيمان جميعاً .(1/347)
قال الألوسي : « واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين ، تحقّق موته على الكفر ، إن لم يتضمن إيذاء مسلم ، أما إن تضمّن ذلك حرم ، ومن الحرام لعن ( أبي طالب ) على القول بموته كافراً ، بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه ، ثمّ أن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمّن مصلحةً شرعية ، وأما لعن كافر معيّن حي ، فالمشهور أنه حرام ، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر ، لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة ، وسؤالُ ذلك كفر » .
وقال العلامة ابن حجر : « ينبغي أن يقال : إن أراد بلعنة الدعاء عليه بتشديد الأمر ، أو أطلق لم يكفر ، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر ، أو الرضى ببقائه عليه كفر ، فتدبر ذلك حق التدبر » .
أقول : وردت نصوص في السنة المطهّرة تدل على جواز لعن الفاسق المعين ، أو العاصي المشتهر الذي كثر ضرره ، منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بحمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال : « لعن الله من فعل هذا » .
ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال : « اللهم العن رَعْلاً ، وذَكوان ، وعُصيّة ، عصَوا الله تعالى ورسوله » .
ومنها حديث « إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء ، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح » .
فيجوز لعن من اشتهر بالفسق والمعصية ، وخاصة إذا كان ضرره بيناً أو أذاه واضحاً يتعدى إلى الناس ، أو كان سيفاً للحجاج مسلطاً بالظلم والطغيان ، كزبانية هذا الزمان ، الذين يعتدون على عباد الله بدون حق ، وقد أصبحنا في زمان لا يأمن فيه الإنسان على نفسه أو ماله وإنا لله وإنّا إليه راجعون ، وقد حدّث المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى عن مثل هذا الصنف من الظلمة ، وذلك من معجزات النبوة ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : « صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس » . الحديث .
فيجوز لعن مثل هؤلاء الظلمة ، المستبيحين للحرمات . . والدعاء لهم بالصلاح أفضل من اللّعن ولكن هيهات أن ينفع الدعاء بالصلاح لأمثال ( أبي جهل ) و ( أبي لهب ) !!
وقد قال ( السراج البلقيني ) بجواز لعن العاصي المعيّن ، أو الفاسق المستهتر ، وذلك ما دلت عليه النصوص النبوية الكريمة والله أعلم .
الحكم السابع : هل يقطع لأمهات المؤمنين بدخول الجنة؟
اتفق العلماء على أن العشرة المبشرين بالجنة ، الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، يقطع لهم بدخول الجنة ، لأنّ خبر الرسول حق وهو بوحي من الله تعالى ، وقد ألحق بعض العلماء أمهات المؤمنين بالعشرة المبشرين ، بأن يقطع لهن بدخول الجنة ، واستدلوا بقوله تعالى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بناءً على أن الآيات الكريمة نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عامة وفي شأن عائشة خاصة ، والرزق الكريم الذي أشارت إليه الآية يراد منه الجنة بدليل قوله تعالى في مكان آخر(1/348)
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] وهو استدلال حسن .
قال الإمام الفخر : « بيّن الله تعالى أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يجوز أن يكنّ الاّ طيبات . ثمّ بيّن تعالى أنّ { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به . فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هنّ معه في الجنة ، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنّة ، بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفّرونها بسبب حرب يوم الجمل ، فإنهم يردّون بذلك نصّ القرآن الكريم » .
وقال العلامة الألوسي : « وممّا يرد زعم الرافضة ، القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل ، قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله وجهه مع الحسن يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة : والله إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة . ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها »؟ ثم قال : « ومما يقضي منه العجب ما رأيته في كتب بعض الشيعة . من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأمير كرّم الله وجهه : » قد أذنت لك أن تُخْرج بعد وفاتي من الزوجيّة من شئت من أزواجي « ، فأخرجها من ذلك لما صدر منها معه ما صدر . ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى ، وفي حسن معاملة الأمير إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر ما يكذب ذلك . ولو لم يكن في فضلها إلا ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام « لكفى ذلك ، لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها » .
قصة الإفك
لم تسترح نفوس المنافقين من الكيد للإسلام ، على المسلمين ، حتى استهدفوا صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فرموه في أقدس شيء وأعزه ، في عرضه المصون ، وأهله الطاهرة البريئة ، السيدة عائشة بن الصدّيق الأكبر رضي الله عنهما ، وقد حاولوا بذلك أن يوجهوا ضربة للإسلام في الصميم ، في شخص نبيه الكريم ، عن طريق الطعن في عرضه واتهام أهله بارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق ، وكان الذي تولى كقر هذه التهمة النكراء ، وأشاع ذلك الإفك المفتري المزعوم .(1/349)
رأس المنافقين ( عبد الله بن أُبيّ بن سلول ) لعنه الله ، الذي ما فتئ يكيد للإسلام ولرسوله الكريم حتى أهلكه الله تعالى ، وخلّص المسلمين من شره وبلائه .
وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذا المنافق قرآناً يُتلى ، وآيات تسطّر ، ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة ، لتعرف فيه خطر ( النفاق والمنافقين ) وضررهم على الأمة الإسلامية ، فيأخذوا الحيطة والحذر . والقرآن الكريم يكشف لنا عن شناعة الجرم وبشاعته ، وهو يتناول بيت النبوّة الطاهر ، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الأول ( أبي بكر ) رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض رجل من خيرة الصحابة ( صفوان بن المعطل ) رضي الله عنه ، يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً . . . ذلك هو حديث الإفك الذي نزل فيه عشر آيات في كتاب الله تعالى ، تبتدئ من قوله تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] وتنتهي بالبراءة التامة لبيت النبوة في قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون للطيبات أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
هذا الحادث - حادث الإفك - قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق . وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ، وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق ، وعلّق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق ، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً . وجعلها في حالة من الألم الذي لا يطاق ، حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول ، الطاهرة العفيفة الشريفة ، وببراءة ذلك المؤمن المجاهد المناضل ( صفوان ) وإدانة أهل النفاق ، وحزب الضلال وعلى رأسهم ( عبد الله بن أبي بن سلول ) بالتآمر على بيت النبوة ، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه السلام ، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات ، في تلك الحادثة المفجعة الأليمة .
ومن المؤسف أن يغترّ بهذه التهمة النكراء بعض المسلمين ، وأن يتناقلها السذّج البسطاء منهم ، وهم في غفلة عن مكائد المنافقين ، ومؤامراتهم ومخططاتهم ، الي يستهدفون بها الإسلام . وأن تروج أمثال هذه الفرية المكذوبة ، فيقع في حبائل هذا الإفك والبهتان ، أناس مؤمنون مشهورون بالتقى والصلاح . كأمثال ( مسطح بن أثاثة ) و ( حسّان بن ثابت ) و ( حمنة بنت جحش ) أخت السيدة زينب زوج الرسول الكريم ، فلنترك المجال لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ، تروي لنا قصة هذا الألم ، وتكشف عن سرّ هذه الآيات الكريمة التي نزلت بشأنها ، وما افتراه عليها أهل الإفك والبهتان .(1/350)
قصة الإفك كما في « الصحيحين »
روى الإمام البخاري ومسلم في « صحيحيهما » عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه . وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي . فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج وأُنْزَل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظِفَار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه .
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم . وإنما نأكل العُلْقَة من الطعام . فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه وكنت جارية حديثة السن . فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش . فجئت منزلهم وليس فيه أحد منهم . فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ .
فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت ، وكان ( صفوان بن المعطل السُّلَمي ) ثم الذكواني قد عرّس وراء الجيش فادّلج فأصبح عندي منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني - وكان يراني قبل الحجاب - فاستيقطت باسترجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها فركبها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين ، قالت : فهلك في شأني من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإثم ( عبد الله بن أبيّ بن سلول ) فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر .
وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلّم ثم يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف ، فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت .
فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل . وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق - وابنها ( مسطح بن أثاثة ) حتى فرغنا من شأننا نمشي ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟
فقالت يا هنتاه : ألم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضاً إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تيكم؟ فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي - وأنا حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي ، فأتيت أبويّ فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيّة : هوّني على نفسك الشأن ، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة ، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟
قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .(1/351)
. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستبشرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم من الودّ لهم ، فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيراً .
وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله : لم يضيّق الله عليك ، والنساءُ سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها : أي بريرة : هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبياً ، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه واستعذر من ( عبد الله بن أبي بن سلول ) فقال وهو على المنبر : من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً . . . ولقد ذكروا لي رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي .
قالت : فقام ( سعد بن معاذ ) فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك!
فقام ( سعد بن عبادة ) وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ : كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك .
فقام ( أُسَيْد بن خُضَيْر ) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل في المنافقين .
فثال الحيّان ( الأوس ) و ( الخزرج ) حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها .(1/352)
فجلست تبكي معي .
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس - ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها ، وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء - فتشهّد حين جلس ثم قال : « أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب ، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه » .
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه بقطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن ، فقلت : إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدّث الناس به ، واستقرَّ في نفوسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ ، واللَّهُ يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني ، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ كلاماً يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها .
فوالله ما رام مجلسه ، ولا خرج أحد من البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسرّي عنه وهو يضحك . . . فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : « يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك » .
فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه - فقلت : والله لا أقوم إليه . ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ . . . } [ النور : 11 ] الآيات العشر .
فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة فأنزل الله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة .(1/353)
. . } إلى قوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فقال أبو بكر رضي الله عنه : بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال : « يا زينب ما علمت وما رأيت » «؟ فقالت يا رسول الله : أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع . قالت : فطفقت أختها ( حمنة ) تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك » .
قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
« رواه البخاري ومسلم »
وهكذا يظهر لنا خطر النفاق والمنافقين ، وتآمرهم على الإسلام ، وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، حيث استهدفوا عرضه وكرامته ، وأرادوا أن يلوّثوا سمعته الطاهرة ، بالطعن في عفاف زوجه الصدّيقة عائشة رضي الله عنها . . . ولكنّ الله جلّ ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم ، وبرّأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم ، وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر ، وعنوان مجد وفخار لزوجاته الطاهرات ، ودليل طهر ونزاهة لبيت النبوة الكريم { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1- وصفُ المرء بالتقى والصلاح جائز إذا لم يدع ذلك إلى العُجب والخيلاء .
2- إذا حلف الإنسان على ترك فعل الخير فليكفّر عن يمينه وليفعل الخير .
3- الصفح والعفو عمن أساء من مظاهر الكمال ودلائل الإيمان .
4- قذف العفائف المحصنات من الكبائر التي توجب سخط الله وغضبه .
5- الجوارح والحواس تشهد على الإنسان يوم القيامة بما عمل في الدنيا .
6- الجزاء العادل يلقاه المرء يوم القيامة على ما اقترف من سيِّئ الأعمال .
7- اتهام زوجات الرسول الطاهرات إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوان على الدين نفسه .
8- براءة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها أهل الإفك والبهتان .
9- بيت النبوة بيت الطهر والعفة فلا يتصور أن تخرج منه رائحة الخنا أو الفجور .
10- السُنّة الإلهية قضت بالامتزاج الروحي فالنساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس بالعكس .(1/354)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
[ 5 ] آداب الاستئذان والزيارة
التحليل اللفظي
{ تَسْتَأْنِسُواْ } : أي تستأذنوا ، قال الزجاج : ( تستأنسوا ) في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير كما نقل عن ابن عباس .
وأصل الاستئناس : طلب الأنس بالشيء وهو سكون النفس ، واطمئنان القلب وزوال الوحشة قال الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير
وقال بعضهم : الاستئناس هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً . ومنه قوله تعالى : { إني آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] أي أبصرت ناراً . ومعنى الآية : حتى تستعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟
قال الزمخشري : هو من ( الاستئناس ) ضد الاستيحاش . لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس .
قال الطبري : والصواب عندي أن ( الاستئناس ) استفعال من الأنس وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم ، ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ويأنسوا إلى استئذانه .
{ على أَهْلِهَا } : المراد بالأهل السكان الذين يقيمون في الدار سواء كانت سكناهم بالملك ، أو بالإجارة ، وبالإعارة ، وقد دل على هذا معنى قوله تعالى : { غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } قال الألوسي : والمراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها . لأنه كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فلا حاجة إلى القول بأن ذلك خارج مخرج العادة .
{ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } : الإشارة راجعة إلى الاستئذان والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } : أي كي تتعظوا وتتذكروا وتعملوا بموجب تلك الآداب الرفيعة وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين .
{ أزكى لَكُمْ } : أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على الأبواب فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر للإنسان العاقل .
{ جُنَاحٌ } : أي إثم وحرج قال تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } [ الأحزاب : 5 ] .
{ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } : المراد البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تخص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات فهذه وأمثالها لا حرج في دخولها بغير إذن .
{ متاع لَّكُمْ } : المتاع في اللغة يطلق على ( المنفعة ) أي فيها منفعة لكم كالاستظلال من الحر وحفظ الرحال والسّلع والاستحمام وغيره . ويطلق ويراد منه ( الغرض والحاجة ) أي فيها لكم غرض من الأغراض ، أو حاجة من الحاجات .
المعنى الإجمالي
يؤدب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالآداب الجليلة ، ويدعوهم إلى التخلق بكل أدب رفيع فيامرهم بالاستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت الناس ، وبالتلطف عند طلب الاستئذان ، وبالسلام على أهل المنزل لأن ذلك مما يدعو إلى المحبة والوئام ، وينهاهم عن الدخول بغير إذن لئلا تقع أعينهم على ما يسوءهم فيطلعوا على عورات الناس أو تقع على مكروه لا يحبه أهل المنزل ، فإن في الاستئذان والسلام ما يدفع خطر الريبة أو القصد السيِّئ ويجعل الزائر محترماً مكرماً مستأنساً به .(1/355)
وإذا لم يؤذن له فعليه بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على الأبواب أو الإثقال على أهل المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين .
وإذا لم يكن في البيوت أحد فلا يجوز الدخول أو الاقتحام لأن البيوت حرمة ، ولا يحل دخولها إلا بإذن أربابها ، وربما كان أهل البيت لا يرغبون أن يطلع أحد على ما عندهم في المنزل من مال أو متاع وربما أدى الدخول إلى فقدان شيء أو ضياعة ووقعت التهمة على ذلك الإنسان .
أما البيوت التي ليس بها ساكن ، أو التي فيها للإنسان منفعة أو مصلحة فلا مانع من دخولها بغير إذن . ذلك هو أدب الإسلام وتربيته الحميدة الرشيدة التي أدّب بها المؤمنين .
وجه الارتباط بين الآيات الكريمة
الآيات التي تقدمت في صدر السورة كانت في بيان ( حكم الزنى ) وبيان ضرره وخطره . وبيان أنه قبيح ومحرم وأنَّ مرتكبه يستحق العذاب والنكال .
ولما كان الزنى طريقُه النظر ، والخلوة ، والاطلاع على العورات . . . وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مَظِنَّة حصول ذلك كله ، أرشد الله عز وجل عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت ، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل ، والخطر الجسيم ، الذي يقضي على أواصر المجتمع ، ويدمر الأسر ، ويشيع الفحشاء بين الناس .
وقد تحدثت الآيات السابقة عن ( حادثة الإفك ) التي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي برّأها القرآن مما نسبها إليه أهل النفاق والبهتان ، ولم يكن لأصحاب الإفك متكأ في رميها إلا أنها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة ، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار ، ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك الشر الخطير .
سبب النزول
أ- روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا والد ولا ولد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت الآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ . . . } الآية .
ب- وروى ابن حاتم عن ( مقاتل ) أنه لما نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ . . . } إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله : فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة ، والمدينة ، والشام ، وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلِّمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ .(1/356)
. . } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تصدير الخطاب بلفظ ( الإيمان ) مشعر بعلو مكانة المؤمن عند الله فالمؤمن أهل للتكليف والخطاب ، والكافر كالدابة والحيوان ليس بأهل للتكريم أو الخطاب وصدق الله { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] وهذا هو السر في نداء المؤمنين بقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } خارج مخرج العادة إذْ الأصل في الأصل أن يسكن في بيته الذي هو ملكه ، والتنكير في قوله { بُيُوتاً } يفيد العموم والشمول .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } فيه معنى دقيق ، فليس المراد من اللفظ مجرد الإذن وإنما المراد معرفة أنس أهل البيت بدخول الزائر عليهم هل هم راضون بدخوله أم لا؟
قال العلامة المودودي : ( وقد يخطئ الناس إذ يجعلون كلمة ( الاستئناس ) بمعنى الاستئذا فقط مع أن الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن ينصرف عنه النظر ، فكلمة ( الاستئناس ) أعم وأشمل من كلمة ( الاستئذان ) كما لا يخفى بأدنى تأمل والمعنى : حتى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم ) .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً } هذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق ، فربما كان في البيت صاحبه ولم يردّ على الزائر ، أو لم يأذن له فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحداً ، ولو قال ( فإن لم يكن فيها أحد ) لما كان هذا المنزع اللطيف ، والسر الدقيق ، والحاصل أن الآية تنهى عن الدخول في حالتين :
أ- في حالة الاعتذار الضمني { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً } وهي إشارة إلى عدم الإذن .
ب- في حالة الاعتذار الصريح { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } وهي تصريح بعدم الإذن صريح .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى { فارجعوا } قال العلامة ابن كثير : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها . . . أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي : إرجعْ ، فأرجع وأنا مغتبط لقوله تعالى : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ } .
اللطيفة السادسة : قال الزمخشري : فإذا نُهي الزائر عن الإلحاح لأنه يؤدي إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فيه وعيد شديد لأهل الريبة والنوايا الخبيثة الذين لا يقصدون إلا التطلع على عورات الناس أو غيرها من الأغراض السيئة .
حكمة التشريع
يقول شهيد الإسلام سيد قطب تغمده الله برحمته في تفسيره « ظلال القرآن » ما نصه :
( لقد جعل الله البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس فتسْكن أرواحهم ، وتطمئن نفوسهم ، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب ) .(1/357)
والبيوتُ لا تكون كذلك إلا حين تكون حَرَماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم ، وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس ، ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان يجعل أعينهم تقع على عورات ، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ، وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة ، والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقطتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ، وتحولها إلى علاقات آثمة ، أو إلى شهوات محرمة ، تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً فيدخل الزائر البيت وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد ، وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل ، وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويَحرِم البيوت أمنَها وسكينتها ، كما يعرّض النفوس من هنا وهناك للفتنة حين تقع العين على ما تثيره .
من أجل هذا أو ذاك أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي « أدب الاستئذان » على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم - قبل الدخول - وعبر عن الاستئذان ب ( الاستئناس ) وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به . واستعداداً لاستقباله ، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل السلام قبل الاستئذان أم بعده؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على تقديم الاستئذان على السلام ، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء ، وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان حتى قال النووي : الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان لحديث « السلام قبل الكلام » .
أ- استدل الجمهور بما روي أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال : أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : السلام عليكم أأدخل؟
ب- واستدلوا بحديث أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلِّم قال : لا يؤذن له حتى يسلِّم . .
ج - واستدلوا بما روي عن ( زيد بن أسلم ) قال : أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فجئت فقلت : أألج؟ فقال : ادخل فلما دخلت قال مرحباً يا ابن أخي ، لا تقل أألج ، ولكن قل : السلام عليكم ، فإذا قيل : وعليك فقل أأدخل؟ فإذا قالوا : ادخل فادخل .
د- واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام على رسول الله السلام عليكم ، أيدخل عمر؟ .
وفصَّل بعض العلماء المسألة فقال : إن كان القادم يرى أحداً من أهل البيت سلّم أولاً ثم استأذن في الدخول ، وإن كانت عينه لا ترى أحداً قدذم الاستئذان على السلام ، وهذا اختيار ( الماوردي ) وهو قول جيد وفيه جمع بين الأدلة كما نبه عليه ( الألوسي ) .(1/358)
ولا يشترط أن يكون الإذن صريحاً بلفظ ( أألج أو أأدخل ) بل يجوز بكل لفظ يشير إلى الاستئذان كالتسبيح ، والتكبير ، أو التنحنح فقد روى الطبراني عن أبي أيوب أنه قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله { حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال : يتكلم الرجل بتسبيحة ، وتكبيرةٍ ، وتحميدةٍ ، ويتنحنح فيؤذن أهل البيت .
أقول : ومثل هذا في عصرنا أن يطرق الباب أو يقرع الجرس فهذا نوع من الاستئذان مشروع لأن الدور في عصر الصحابة لم يكن لها هذه الستور والأبواب فيكفي للقادم أن يقرع الجرس ليدل على طلبه الاستئذان والله أعلم .
الحكم الثاني : كم عدد الاستئذان؟
لم توضح الآية الكريمة عدد الاستئذان ، وظاهرها يدل على أن من استأذن مرة فأجيب دخل ، وإلاّ رجع . ولكنّ السنة النبوية قد بيَّنت أن الاستئذان يكون ثلاثاً ، لما روي عن أبي هريرة مرفوعاً : ( الاستئذان ثلاث : بالأولى يستنصتون ، وبالثانية يستصلحون ، وبالثالثة يأذنون أو يردون ) .
ومما يدل على أن الاستئذان يكون ثلاثاً قصة ( أبي موسى الأشعري ) مع عمر بن الخطاب وتفصيل القصة كما رواها البخاري ومسلم في « الصحيحين » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبي موسى فزعاً ، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال عليه الصلاة والسلام : « إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع » فقال : لتأتينِّي على هذه البينة أو لأعاقبنك ، فقال ( أُبيُّ بن كعب ) لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، قال أبو سعيد : وكنتُ أصغرَهم فقمتُ معه ، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ) .
وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أثبت .
والراجح أن إكمال العدد ( ثلاثاً ) إنما هو حق المستأذن ، وأما الواجب فإنما هو مرة وذكر ( أبو حيان ) أنه لا يزيد على الثلاث ، إلا إن تحقَّق أن من في البيت لم يسمع .
الحكم الثالث : ما الحكمة في إيجاب الاستئذان؟
الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } فدل بذلك على أن الذي حرم من أجله الدخول هو كون البيوت مسكونة ، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات الناس ، وما لا يحل النظر إليه ، وربما كان الرجل مع امرأته في فراش واحد ، فيقع نظره عليهما ، وهذا بلا شك يتنافى مع الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام .(1/359)
الحكم الرابع : هل يستأذن على المحارم؟
ومن الآداب السامية أن يستأذن الإنسان على المحارم لما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال : نعم ، قال : إنها ليس لها خادم غير أفأستأذن عليها كما دخلت؟ قال : أتحب أن تراها عُريانة؟ قال الرجل : لا ، قال فاستأذن عليها .
قال الفخر الرازي : واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز ، إلا أنه أيسر ، لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء ، والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا ( الزوجات ) و ( ملك اليمين ) . وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً بأمر يكره اطلاع الغير عليه وجب أن يعمّ في الكل ، حتى لا يكون له أن يدخل إلاّ بإذن .
الحكم الخامس : هل الاستئذان والسلام واجبان على الداخل؟
ظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من ( الاستئذان والسلام ) معاً ، وعليه جمهور الفقهاء غير أنهما ليسا بمرتبة واحدة ، فالاستئذان واجب والسلام مستحب ، وذلك لأن الاستئذان من أجل البصر لئلا يقع نظره على عورات الناس ، وقد جاء في الحديث الشريف « إنما جعل الاستئذان من أجل النظر » فكان واجباً . وأما السلام فهو من أجل المحبة والمودة كما قال صلى الله عليه وسلم : « أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم » فكان ذلك مندوباً ، وقد أرشد إليه القرآن الكريم في مواطن عديدة فقال جل ثناؤه { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً . . . } [ النور : 61 ] الآية .
الحكم السادس : كيف يقف الزائر على الباب؟
من الآداب الشرعية في الاستئذان ، ألا يستقبل الزائر الباب بوجهه ، بل يجعله عن يمينه أو شماله ، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : السلام عليكم ، السلام عليكم ، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور .
وروي عن ( سعيد بن عبادة ) قال : جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقمت مقابل الباب فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد ، وقال : هل الاستئذان إلا من أجل النظر؟
وهذا الأدب ينبغي أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا فإن الدور ولو كانت مغلقة الأبواب فإن الطارق إذا استقبلها فإنه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه .
الحكم السابع : هل يجب الاستئذان على النساء أو العميان؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنه يجب الاستئذان على كل طارق سواء كان رجلاً أو امرأة ، مبصراً أو أعمى ، وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك أن من العورات ما يدرك بالسمع ففي دخول الأعمى على أهل بيت بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الداخل إلى ما يجري من الحديث بين الرجل وزوجته فأما قوله عليه السلام :(1/360)
« إنما جعل الاستئذان من أجل النظر » فذلك محمول على الغالب ، ولا يقصد منه الحصر .
قال الزمخشري في « الكشاف » : ( إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطَّلع المرء على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ) .
والحكمة التي شرع من أجلها الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معاً ولهذا قال العلماء أن التعبير باسم الموصول { ياأيها الذين } فيه تغليب الرجال على النساء كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء ، أو المراد بالخطاب الوصف ويكون معنى الآية : ( يا من اتصفتم بالإيمان ) فيدخل فيه الرجال والنساء على السواء . ومما يدل على أن المرأة تستأذن كما تستأذن الرجل ما روي عن ( أم إياس ) قالت : « كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها ، فقلت : ندخل؟ فقالت : لا ، فقالت واحدة : السلام عليكم؟ قالت : ادخلوا ، ثم قالت { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } . . الآية . فدل هذا على أن المرأة تستأذن كما يستأذن الرجل .
الحكم الثامن : ما هي الحالات التي يباح فيها الدخول بدون إذن؟
ظاهر الآية يدل على النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال ولكن يستثنى منه الحالات التي تقضي بها الضرورة وهي حالات اضطرارية تبيح الدخول بغير إذن وذلك إذا عَرَض أمر في دار من حريق ، أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فاحش ، فإنَّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها كما نبه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره الشهير .
الحكم التاسع : هل يجب الاستئذان على الطفل الصغير؟
أحكام الاستئذان خاصة بالبالغين من الرجال والنساء ، وأما الأطفال فإنهم غير مكلفين بهذه التكاليف الشرعية ، وليس هناك محظور يخشى من جانبهم لأنهم لا يدركون أمور العورة ، ولا يعرفون العلاقات الجنسية فيجوز لهم الدخول بدون إذن إلا إذا بلغوا مبلغ الرجال لقوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النور : 59 ] .
وهناك أوقات ثلاثة يجب على الأطفال الاستئذان فيها وهي : ( وقت الفجر ) ، و ( وقت الظهيرة ) ، و ( وقت العشاء ) كما سيأتي إن شاء الله .
الحكم العاشر : لو اطلع إنسان على دار غيره بغير إذنه فما الحكم؟
اختلف الفقهاء في مسألة هامة تتعلق بالنظر وهي : إذا رأى أهل الدار أحداً يطلع عليهم من ثقب الباب فطعن أحدهم عينه فقلعها ، فهل يجب القصاص؟ وما الحكم؟
1- ذهب الإمامان ( الشافعي وأحمد ) إلى أنه لو فقئت عينه فهي هدر ولا قصاص .(1/361)
2- وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنها جناية يجب فيها الأرش أو القصاص .
دليل الشافعية والحنابلة :
أ- حديث أبي هريرة ( من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه ) .
ب- حديث سهل بن سعد قال : ( اطَّلع رجل في حُجْرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مِدْرَى ( آلة رفيعة من الحديد ) يحك بها رأسه فقال : لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر ) .
دليل المالكية والأحناف :
أ- عموم قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين . . . } [ المائدة : 45 ] فمن أقدم على هذا النحو كان جانباً ، وعليه القصاص ، إن كان عامداً ، والأرش إن كان مخطئاً .
ب- واستدلوا بإجماع العلماء على أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدى عليه بعض أهلها بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص .
قالوا : فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك الداخل ، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحاً لقلع عينه من باب أولى .
ج- وتأولوا الحديث الذي استدل به ( الشافعية والحنابلة ) على أنّ من اطَّلع في دار قوم ونظر إلى حُرَمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر ، لأنه ظالم معتد في هذه الحالة .
قال أبو بكر الرازي :
« والفقهاء على خلاف ظاهر الحديث وهذا من أحاديث أبي هريرة التي تُرَدّ لمخالفتها الأصول مثل ما روي أن ابن الزنى لا يدخل الجنة ، ومن غسّل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ . . ثم قال : ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وعليه القصاص . . . إلخ » .
قال الفخر الرازي من فقهاء الشافعية وصاحب التفسر المسمى « التفسير الكبير » :
« واعلم أن التمسك بقوله تعالى : { والعين بالعين } [ المائدة : 45 ] في هذه المسالة ضعيف .
وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقأ عينه فكذا إذا نظر . قلنا : الفرق بين الأمرين ظاهر ، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستَّروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطَّلع على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة » .
أقول : ولعلّ ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح ، لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - وجوب الاستئذان عند دخول ببيت الغير .
ثانياً - حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد .
ثالثاً - وجوب الرجوع إذا لم يؤذن للداخل .
رابعاً - السلام مشروع للزائر لأنه من شعائر الإسلام .
خامساً - لا يجوز لإنسان أن يطلع على عورات الناس .
سادساً - البيوت إذا لم تكن مسكونة فلا حرج من دخولها .
سابعاً : على المسلم أن يرعى حرمة أخيه المسلم فلا يؤذيه في نفسه أو ماله .
ثامناً - في هذه الآداب التي شرعها الله طهارة للمجتمع والأفراد .(1/362)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
[ 6 ] آيات الحجاب والنظر
التحليل اللفظي
{ يَغُضُّواْ } : غضّ بصره بمعنى خفضه ونكّسه قال جرير :
فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
وأصل الغض : إطباق الجفن على الجفن بحيث تمنع الرؤية ، والمراد به في الآية : كف النظر عما لا يحل إليه بخفضه إلى الأرض ، أو بصرفه إلى جهة أخرى وعدم النظر بملء العين ، قال عنترة :
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
{ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } : قال بعض المفسرين : المراد سترها من النظر إليها أي النظر إلى العورات . . وقال آخرون : المراد حفظها من الزنى ، والصحيح ما ذكره القرطبي أن الجميع مراد لأن اللفظ عام ، فيطلب سترها عن الأبصار ، وحفظها من الزنى ، قال تعالى : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] وفي الحديث : « إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال : الرجل يكون مع الرجل؟ قال : إن استطعت ألاّ يراها فافعل : قلت : فالرجل يكون خالياً؟ فقال : والله أحق أن يستحيا منه » .
{ أزكى لَهُمْ } : أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، مأخوذ من الزكاة بمعنى الطهارة والنقاء النفسي ، قال تعالى : { وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } [ فاطر : 18 ] وفي الحديث : « النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه » .
{ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } : الخبرة العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء ، ويكشف دخائلها فالله خبير بما يصنعون ، عليم علماً تاماً بظواهر الأعمال وبواطنها لا تخفى عليه خافية وهو وعيد شديد لمن يخالف أمر الله أو يعصيه في ارتكاب المحرمات .
{ زِينَتَهُنَّ } : الزينة : ما تتزين به المرأة عادة من الثياب والحليّ وغيرها مما يعبر عنه في زماننا بلفظ ( التجميل ) : قال الشاعر :
يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عَطِلْنَ فهنّ خير عواطل
قال العلامة القرطبي : الزينة على قسمين : خلقية ، ومكتسبة . . . فالخلقية : وجهُهَا فإنه أصل الزينة وجمال الخِلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع ، وأما الزينة المكتسبة : فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها كالثياب ، والحلي ، والكحل ، والخضاب ، ومنه قوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } [ الأعراف : 31 ] .
{ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : قال بعضهم : المراد بقوله { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي ما دعت الحاجة إلى ظهوره كالثياب والخضاب والكحل والخاتم مما لا يمكن إخفاؤه وقيل : بل المراد ما ظهر منها بدون قصد ولا تعمد ، وقيل : المراد به الوجه والكفان وسنبين ذلك بالتفصيل عند ذكر الأحكام .
{ بِخُمُرِهِنَّ } : قال ابن كثير : الخمُرُ : جمع خمار ، وهو ما يخمّر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس ( المقانع ) وفي « لسان العرب » : الخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وكل مغطى مخمّر ومنه حديث ( خمّروا آنيتكم ) أي غطوها وخمّرت المرأة رأسها غطته .(1/363)
ويسمَّى الخمار ( النصيف ) .
قال الشاعر :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
ويجمع الخمار على ( خُمُر ) جمع كثرة مثل : كتاب ، وكُتُب قال الشاعر :
« كرؤوس قطعت فيها الخُمُر » ... ويجمع على أخمرة جمع قلة أفاده ( أبو حيان ) .
{ جُيُوبِهِنَّ } : يعني النحور والصدور ، فالمراد بضرب النساء بخمرهن على جيوبهن أن يغطين رؤوسهنَّ وأعناقهنَّ وصدورهن بكل ما فيها من زينة وحلي . والجيوب جمع ( جيب ) وهو الصدر وأصله الفتحة التي تكون في طوق القميص ، قال القرطبي : والجيب هو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من ( الجَوْب ) بمعنى القطع وقد ترجم البخاري رحمه الله ( باب جيب القميص من عند الصدر وغيره ) .
قال الألوسي : وأما إطلاق الجيب على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ( ابن تيمية ) ولكنه ليس بخطأ بحسب المعنى ، والمراد بالآية كما رواه ( ابن أبي حاتم ) : أمرهن الله بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء .
{ بُعُولَتِهِنَّ } : قال ابن عباس : لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن .
والبعولة جمع بعل بمعنى الزوج ، قال تعالى : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] . وفي القرطبي : البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل : « إذا ولدت الأمة بعلها » يعني سيدها إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات .
{ مَلَكَتْ أيمانهن } : يعني الإماء والجواري ، وقال بعضهم المراد : العبيد والإماء ذكوراً وإناثاً وروي عن ( سعيد بن المسيب ) أنه قال : لا تغرنكم هذه الآية { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } إنما عنى بها ( الإماء ) ولم يعن بها ( العبيد ) وهو الصحيح .
{ الإربة } : الحاجة ، والأرَبُ ، والإرْبةُ والإربُ ومعناه الحاجة والجمع مآرب قال تعالى : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وقال طرفة :
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ... تقدَّم يوماً ثمَّ ضاعت مآربه
والمراد بقوله تعالى : { غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال } أي غير أولي الميل والشهوة أو الحاجة إلى النساء كالبُلْه والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً .
{ الطفل } : الصغير الذي لم يبلغ الحلم قال الشاعر :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطهم
قال الراغب : كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد كما تقع على المفرد فهي مثل كلمة ( ضيف ) والدليل أن المراد به الجمع { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } حيث جاء بواو الجماعة .
{ لَمْ يَظْهَرُواْ } : أي لم يطَّلعوا يقال : ظهر على الشيء أي اطَّلع عليه ومنه قوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } [ الكهف : 20 ] ومعنى الآية أن الأطفال الذين لا يعرفون الشهوة ولا يدركون معاني الجنس لصغرهم لا حرج من إبداء الزينة أمامهم .
المعنى الإجمالي
قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم ، ولا ينظروا إلا إلى ما أبيح لهم النظر إليه ، وأن يحفظوا فروجهم عن الزنى ويستروا عوراتهم حتى لا يراها أحد ، فإن ذلك أطهر لقلوبهم من دنس الريبة ، وأنقى لها وأحفظ من الوقوع في الفجور ، فالنظرة تزرع في القلب الشهوة ، ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً ، فإن وقع البصر على شيء من المحرمات من غير قصد ، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعاً ولا يديموا النظر ، ولا يرددوه إلى النساء ، ولا ينظروا بملء أعينهم فإن الله رقيب عليهم مطلع على أعمالهم ، لا تخفى عليه خافية(1/364)
{ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] .
ثم أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وزادهنّ في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فإن ذلك أولى بهن وأجمل إلا إذا ظهرت هذه الزينة بدون قصد ولا نية سيئة فلا إثم عليهن فالله غفور رحيم .
وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم - في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر ، بادية النحر ، حاسرة الذراعين ، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال ، وكنَّ يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى صدورُهنّ مكشوفة عارية فأمرت المؤمنات بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار ، وأمرن بألاّ يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض .
ثم ختم تعالى تلك الأوامر والنواهي بالأمر ( للرجال والنساء ) جميعاً بالإنابة والرجوع إلى الله لينالوا درجة السعداء ، ويكونوا عند الله من الفائزين الأبرار .
سبب النزول
أولاً : أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة ، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه ، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به ، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط ( صُدم به ) فشق أنفه ، فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أمري؟ فأتاه فقصّ عليه قصته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( هذا عقوبة ذنبك ) وأنزل الله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . . } الآية .
ثانياً : وروى ابن كثير رحمه الله ، عن مقاتل بن حيان ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : ( بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها في بني حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير مؤتزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل ، ويبدوا صدروهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا؟ فأنزل الله في ذلك { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . . . } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : السر في تقديم غض البصر على حفظ الفروج هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور وهو مقدمة للوقوع في المخاطر كما قال الحماسي :(1/365)
وكنتَ إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ولأنّ البلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه وهو الباب الأكبر الذي يوصل إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته . ولله در شوقي :
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
وقد قال أحد الأدباء :
وما الحب إلا نظرة إثر نظرةٍ ... تزيد نمواً إن تزده لَجَاجا
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } المراد غض البصر عما حرم الله ، لا غضّ البصر عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاء بفهم المخاطبين وهو من باب ( الإيجاز بالحذف ) .
اللطيفة الثالثة : قال العلامة الزمخشري : فإن قلت كيف دخلت ( من ) التي هي للتبعيض في ( غضّ البصر ) دون ( حفظ الفرج ) ؟ قلت : لأن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثُديِّهن ، وأما أمر الفرج فمضيّق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني فيه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { أزكى لَهُمْ } أفعل التفضيل هنا ليس على بابه وإنما هو ( للمبالغة ) أي أن غض البصر وحفظ الفرج طهرة للمؤمن من دنس الرذائل أو نقول ( المفاضلة ) على سبيل الفرض والتقدير .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } المراد بالزينة مواقعها من باب ( اطلاق اسم الحال على المحل ) كقوله تعالى : { فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ آل عمران : 107 ] المراد بها الجنة لأنها مكان الرحمة وإذا نهي عن إبداء الزينة فالنهي عن إبداء أماكنها من الجسم يكون من باب أولى .
قال الزمخشري : وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكناً في الحظر ثابت القدم في الحرمة .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ } في لفظ الضرب ( مبالغة ) في الصيانة والتستر وقد عدى اللفظ ب ( على ) لأنه ضُمِّن معنى الإلقاء ويكون المراد أن تسدل وتلقي بالخمار على صدرها لئلا يبدوا شيء من النحر والصدر .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ } قال أبو السعود : مفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قل لهم غضوا يغضوا من أبصارهم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن المؤمن يسارع إلى تنفيذ أمر الله فهو لا يحتاج إلا إلى تذكير .
اللطيفة الثامنة : قال بعض العلماء : كما يكون التلذُّذ بالنظر يكون بالسمع أيضاً وقد قيل ( والأذن تعشق قبل العين أحياناً ) وهذا هو السر في نهي المرأة عن الضرب برجلها على الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك شهوة الرجال .(1/366)
وقد دل على أن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ في الزجر . وعلى أن كل ما يحرك الشهوة أو يثيرها منهي عنه ، كالتعطر ، والتطيب ، والتبختر في المشية . والتلاين في الكلام { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] وقيل : إذا نهي عن استماع صوت حليهن ، فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهو استدلال لطيف .
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى : { وتوبوا إِلَى الله } هو من باب ( الالتفات ) وتلوين الخطاب فقد كان الكلام في صدر الآية موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم ثم صرف عن الرسول إلى الجميع بطريق ( الالتفات ) .
اللطيفة العاشرة : قال الإمام ( ابن القيم ) رحمه الله : في غض البصر فوائد عديدة أحدها : امتثال أمر الله الذي هو غاية السعادة . ثانيها : أنه يمنع وصول أثر السهم لمسموم . ثالثها : أنه يقوي القلب ويفرحه . رابعها : أنه يورث في القلب أنساً في الله واجتماعاً عليه . خامسها : أنه يكسب القلب نوراً . سادسها : أنه يورث الفراسة الصادقة . سابعها : أنه يسد على الشيطان مداخله ثامنها : أنَّ بين العين والقلب منفذاً يوجب انفعال أحدهما بالآخر .
وقد أحسن من قال :
قالوا : جُننتَ بمن تهوى فقلت لهم ... العشقُ أعظم ممَّا بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرّ صاحبه ... وإنّما يُصرع المجنون في الحين
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم النظر إلى الأجنبيات؟
حَرَّمت الشريعة الإسلامية النظر إلى الأجنبيات فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء . أما نظرة الفجأة فلا إثم فيها ولا مؤاخذة لأنها خارجة عن إرادة الإنسان ، فلم يكلفنا الله جل ثناؤه ما لا نطيق ولم يأمرنا أن نعصب أعيننا إذا مشينا في الطريق ، فالنظرة إذا لم تكن بقصد لا مؤاخذة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية » وعن جرير بن عبد الله البجلي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري . والنظرة المفاجئة إنما تكون في أول وهلة ولا يحل لأحد إذا نظر إلى امرأة نظرة مفاجئة وأحس منها اللذة والاجتلاب أن يعود إلى النظرة مرة ثانية فإنْ ذلك مدعاة إلى الفتنة وطريق الفاحشة وقد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بزنى العين؛ فقد ورد في « الصحيحين » : « كُتِبَ على ابن آدم حظُه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر وزنى اللسان النطق ، وزنى الأذنيين الاستماع ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين الخُطى ، والنفس تمَنَّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه » .
والمؤمن يؤجر على غض البصر لأنه كف عن المحارم وقد قال صلى الله عليه وسلم :(1/367)
« ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها » . وعدَّه صلى الله عليه وسلم من حقوق الطريق ففي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والجلوس على الطرقات . فقالوا يا رسول الله : ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها ، قال : غضُّ البصر ، وكف الأذى ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » .
الحكم الثاني : ما هو حد العورة بالنسبة للرجل والمرأة؟
أشارة الآية الكريمة { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } إلى وجوب ستر العورة فإن حفظ الفرج كما يشمل حفظه عن الزنى ، يشمل ستره عن النظر ، يشمل ستره عن النظر ، كما بيناه فيما سبق وقد اتفق الفقهاء على حرمة كشف العورة ولكنهم اختلفوا في حدودها وسنوضح ذلك بالتفصيل إن شاء الله مع أدلة كل فريق فنقول ومن الله نستمد العون :
1- عورة الرجل مع الرجل .
2- عورة المرأة مع المرأة .
3- عورة الرجل مع المرأة وبالعكس .
أما عورة الرجل مع الرجل : فهي من ( السرة إلى الركبة ) فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل فيما بين السرة والركبة وما عدا ذلك فيجوز له النظر إليه . وقد قال النبي « لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة » . وجمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة كما صحّ في الأحاديث الكثيرة ، وقال مالك رحمه الله : الفخذ ليس بعورة : ومما يدل لقول الجمهور ما روي عن ( جرهد الأسلمي ) وهو من أصحاب الصفة أنه قال : « جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة فقال : أما علمت أن الفخذ عورة » .
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : « لا تبرز فخذك » وفي رواية « لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت » بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتعرى المرء ويكشف عورته حتى إذا لم يكن معه غيره فقال : « إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يُفْضي الرجل إلى أهله » .
وأما عورة المرأة مع المرأة : فهي كعورة الرجل مع الرجل أي من ( السرة إلى الركبة ) ويجوز النظر إلى ما سوى ذلك ما عدا المرأة الذمية أو الكافرة فلها حكم خاص سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى .
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة : ففيه تفصيل فإن كان من ( المحارم ) ك ( الأب والأخ والعم والخال ) فعورته من السرة إلى الركبة . وإن كان ( أجنبياً ) فكذلك عورته من السرة إلى الركبة . وقيل جميع بدن الرجل عورة فلا يجوز أن تنظر إليه المرأة وكما يحرم نظرة إليها يحرم نظرها إليه والأول أصح ، وأما إذا كان ( زوجاً ) فليس هناك عورة مطلقاً لقوله تعالى :(1/368)
{ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون : 6 ] .
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل : فجميع بدنها عورة على الصحيح وهو مذهب ( الشافعية والحنابلة ) وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على ذلك فقال : ( وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر ) . .
وذهب ( مالك وأبو حنيفة ) إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا ( الوجه والكفين ) ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى .
أدلة المالكية والأحناف :
استدل المالكية والأحناف على أن ( الوجه والكفين ) ليسا بعورة بما يلي :
أولاً : قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } فقد استثنت الآية ما ظهر منها أي ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان وقد نقل هذا عن بعض الصحابة والتابعين ، فقد قال ( سعيد بن جبير ) في قوله تعالى : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال : الوجه والكف ، وقال ( عطاء ) : الكفان والوجه وروي مثله عن الضحاك .
ثانياً : واستدلوا بحديث عائشة ونصه : ( أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : « يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا » وأشار إلى وجهه وكفيه .
ثالثاً : وقالوا : مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضاً في الإحرام فلو كانا من العورة لما أبيح لها كشفهما لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة .
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على أنّ الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول :
أولاً : أما الكتاب فقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة ، والزينةُ على قسمين : خلقية ، ومكتسبة ، والوجه من الزينة الخلقية بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب . . والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقاً ، وحرمت عليها أن تكشف شيئاً من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم وتأولوا قوله تعالى : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد مثل أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أي شيء من جسدها ، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل ( ولا يبدين زينتهن أبداً وهنّ مؤاخذاتٍ على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه وانكشف بغير قصد ولا عمد ، فلسن مؤاخذاتٍ عليه فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبذاؤها ) .
ثانياً : وأما السنة فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر منها :
أ- حديث جرير بن عبد الله « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال : اصرف نظرك » .(1/369)
ب- حديث علي « يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة » .
ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما وفيه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فجاءته امرأة من خثعم تستفيته فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر . . . ) الحديث في حجة الوداع .
فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية ، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه فهو إذاً عورة .
د- واستدلوا بقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الأحزاب : 53 ] فإن الآية صريحة في عدم جواز النظر . والآية وإن كانت قد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن ، والعلة هي أن المرأة كلها عورة .
وأما المعقول : فهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة ، والفتنةُ في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق .
فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى باعتبار أنه أصل الجمال ، ومصدر الفتنة ، ومكمن الخطر وقد قال الشاعر :
كلُّ الحوادث مبداها من النظر ... ومعظمُ النار من مستصغر الشرر
أقول : الآية الكريمة قد عرفتَ تأويلها على رأي ( الشافعية والحنابلة ) فلم يعد فيها دليل على أن الوجه ليس بعورة . وأما حديث أسماء ( إن المرأة إذا بلغت المحيض . . . ) فهو حديث منقطع الإسناد وفي بعض رواته ضعف وفيه كلام وهو في « سنن أبي داود » ، قال أبو داود : « هذا مرسل خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري ، نزيل دمشق مولى ابن نصر وقد تكلم فيه غير واحد » انتهى .
فإذا كان هذا كلام ( أبي داود ) فيه ولم يروه غيره فكيف يصلح للاحتجاج وعلى فرض صحته فإنه يحتمل أنه كان قبل نزول آية الحجاب ثم نسخ بآية الحجاب ، أو أنه منحمول ما إذا كان النظر إلأى لاوجه والكفين لعذر كالخاطب ، والشاهد ، والقاضي .
قال ابن الجوزي رحمه الله : ( ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر ، فإن كان لعذر مثل أ ن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصة ، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها ، وسواءٌ في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن .
فإن قيل : فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟ فالجواب : أن في تغطيته مشقة فعفى عنه .
أقول : الأئمة الذين قالوا بأن ( الوجه والكفين ) ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة وألا يكون هناك فتنة أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة ، ثم إن قول بعضهم : أن الوجه والكفين ليسا بعورة ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة فإن ذلك ما لا يقول به مسلم وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند الضرورة ، وبشرط أمن الفتنة .(1/370)
أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان ، وانتشر فيه الفسق والفجور ، فلا يقول أحد بجواز كشفه ، لا من العلماء ، ولا من العقلاء ، إذ من يرى هذا الداء والوباء الذي فشى في الأمة وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب ، فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق ودعاء السوء منتشرون ، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة ويستمع لمثل قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « إصرف بصرك » فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الحكم الثالث : ما هي الزينة التي يحرم إبداؤها :
دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } على حرمة إبداء المرأة زينتها أمام الأجانب خشية الافتتان ، والزينة في الأصل اسم لكل ما تتزين به المرأة وتتجمل من أنواع الثياب والحلي والخضاب وغيرها ثم قد تطلق على ما هو أعم وأشمل من أعضاء البدن . . والزينةُ على أربعة أنواع : ( خلقية ، ومكتسبة ، وظاهرة ، وباطنة ) فمن الزينة ما يقع على محاسن الخلقة التي خلقها الله تعالى كجمال البشرة ، واعتدال القامة ، زسعة العيون كما قال الشاعر :
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخِلْقة لأنه لا يقال في الخِلْقة إنها من زينتها وإنما يقال فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره ، والقرب أن الخلقة داخلة في الزينة فإن الوجه أصل الزينة وجمال الخلقة وبه تعرف المليحة من القبيحة وقد قال الله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ } فإن ضرب الخمار وسدله على الوجه والصدر إنما هو لمنع هذه الأعضاء فدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة . . . فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار . . . وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا : إنه سبحانه ذكر الزينة ، ومن المعلوم أنه لا يراد بها الزينة نفسها المنفصلة عن أعضاء المرأة فإن الحُليَّ والثياب والقرط والقلادة لا يحرم النظر إليها إذا كانت المرأة غير متزينة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن الخلقية إلا أنهم متفقون على حرمة النظر إلى بدن المرأة وأعضائها فكان إبداء مواقع الزينة ومواضعها من الجسم منهياً عنه من باب أولى .(1/371)
وأما الزينة الظاهرة فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه : ظاهر الزينة الثياب .
وقال مجاهد : الكحل والخاتم والخضاب . وقال سعيد بن جبير : الوجه والكفان وقد عرفت ما فيه من الأقوال للفقهاء . قال بان عطية : ( ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية ، أن المرأة مأمورة بألا تبدي شيئاً وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء - فيما يظهر - بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه ) .
وأما الزينةُ الباطنة فلا يحل إبداؤها إلا لمن سمَّاهم الله تعالى في هذه الآية { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } الآية وهم الزوج والمحارم من الرجال كما سنذكره قريباً . . وقد كان نساء الجاهلية يشددن خمرهن من خلفهن فتنكشف نحورهن وصدروهن فأمرت المسلمات أن يشددنها من الأمام ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بالرأس من شعر وزينة من الحلي في الأذن والقلائد في الأعناق وذلك قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } الآية .
الحكم الرابع : من هم المحارم الذين تبدي المرأة أمامهم زينتها؟
استثنى القرآن الكريم من الرجال الذين منعت أن تكشف المرأة أمامهم زينتها ( الخفية ) أصنافاً هم جميعاً من ( المحارم ) ما عدا الأزواج .
والعلة في ذلك هي الضرورة الداعية إلى المداخلة والمخالطة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة ، والفتنةُ مأمونة من جهتهم وهم كالآتي :
أولاً : البعولة ( الأزواج ) فهؤلاء يباح لهم النظر إلى جميع البدن والاستمتاع بالزوجة بكل أنواعه الحلال .
قال القرطبي : ( فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محلٍ من بدنها حلالٌ له لذة ونظراً ولهذا المعنى بدأ بالبعولة ) .
ثانياً : الآباء وكذا الأجداد سواء كانوا من جهة الأب أو الأم لقوله تعالى : { أَوْ آبَآئِهِنَّ } .
ثالثاً : آباء الأزواج لقوله تعالى : { أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } .
رابعاً : أبناؤهن وأبناء أزواجهن ، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا لقوله تعالى : { أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } .
خامساً : الإخوة مطلقاً سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم لقوله تعالى : { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ } .
سادساً : أبناء الإخوة والأخوات كذلك لأنهم في حكم الإخوة لقوله تعالى : { أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } وهؤلاء كلهم من المحارم .
تنبيه : لم تذكر الآية ( الأعمام ، والأخوال ) وهم من المحارم كما لم تذكر المحارم من الرضاع ، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية . . . أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فالسر في ذلك أنهم بمنزلة الآباء فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال وكثيراً ما يطلق الأب على العم قال تعالى : { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق }(1/372)
[ البقرة : 133 ] وإسماعيل عم يعقوب . . وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرها للاكتفاء ببيان السنة المطهرة ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
وأما الأنواع الباقية التي استثنتهم الآية الكريمة فهم ( النساء ، المماليك ، التابعين غير أولي الأربة ، الأطفال ) وسنوضح كل نوع من هذه الأنواع مع بيان ما يتعلق بها من أحكام .
الحكم الخامس : هل يجوز للمسلمة أن تظهر أمام الكافرة؟
اختلف الفقهاء في المراد من قوله تعالى : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } فقال بعضهم : المراد بهن ( المسلمات ) اللاتي هنَّ على دينهن وهذا قول أكثر السلف .
قال القرطبي في تفسيره : قوله تعالى : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } يعني المسلمات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمَةً لها . . وكره بعضهم أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها وكتب عمر رضي الله عنه إلى ( أبي عبيدة بن الجراح ) يقول : ( إنه بلغني أن نساء أهل الذميَّة عِرْيَةَ المسلمة فقام عند ذلك أبو عبيدة وابتهل ) وقال : ( أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر ، لا تريد إلا أن تبيّضَ وجهها فسوّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها ) . . وقال بعضهم المراد بقوله تعالى : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } جميع النساء فيدخل في ذلك المسلمة والكافرة .
قال الألوسي : وذهب الفخر الرازي إلى أنها كالمسلمة فقال : والمذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء ، وقولُ السلف محمول على الاستحباب ثم قال : وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات .
وقال ابن العربي : ( والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء . وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فهيا خمسة وعشرون ضميراً لم يَرَوْا في القرآن لها نظيراً فجاء هذا للإتباع ) .
وقال الأستاذ المودودي : والذي يجدر بالذكر في هذا المقام أن الله تعالى لم يقل ( أو النساء ) ولو أنه قال كذلك لحل للمرأة المسلمة أن تكشف عورتها وتظهر زينتها لكل نوع من النساء من المسلمات ، والكافرات ، والصالحات والفاسقات ولكنه تعالى جاء بكلمة { نِسَآئِهِنَّ } فمعناها أنه حدّ حرية المرأة المسلمة في إظهار زينتها إلى ( دائرة خاصة ) ، وأما ما هو المراد بهذه الدائرة الخاصة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء والمفسرين؟
تقول طائفة : إن المراد بها النساء المسلمات فقط ، وهذا ما رآه ابن عباس ومجاهد وابن جريج في هذه الآية واستدلوا بما كتبه عمر لأبي عبيدة بن الجراح .
وتقول طائفة أخرى : إن المراد ( بنسائهن ) جميع النساء وهذا هو أصح المذاهب عند الفخر الرازي . إلا أننا لا نكاد نفهم لماذا خص النساء بالإضافة وقال ( نسائهن ) .
وتقول طائفة ثالثة : إن المراد ( بنسائهن ) النساء المختصات بهن بالصحبة والخدمة والتعارف سواء أكن مسلمات أو غير مسلمات وأن الغرض من الآية أن تخرج من دائرة النساء ( الأجنبيات ) اللاتي لا يعرف شيء عن أخلاقهن وآدابهن وعاداتهن فليست العبرة ( بالاختلاف الديني ) ، بل هي ( بالاختلاف الخلقي ) فللنساء المسلمات .(1/373)
أن يظهرن زينتهن بدون حجاب ولا تحرج للنساء الكريمات الفاضلات ولو من غير المسلمات . وأما الفاسقات اللاتي لا حياء عندهن ولا يعتمد على أخلاقهن وآدابهن فيجب أن تحتجب عنهن كل امرأة مؤمنة صالحة ولو كنَّ مسلمات لأن صحبتهن لا تقل عن صحبة الرجال ضرراً على أخلاقها ) .
أقول : هذا الرأي وجيه وسديد وحبذا لو تمسكت به المسلمات في عصرنا الحاضر إذاً لحافظن على أخلاقهن وآدابهن ، وكفين شر هذا التقليد الأعمى للفاسقات الفاجرات في الأزياء والعادات الضارة الذميمة ، التي غزتنا بها الحضارة المزيفة ( حضارة الغرب ) التي يسميها البعض حضارة القرن العشرين ، وما هي بحضارة وإنما هي قذارة وفجارة ولقد أحسن من قال :
إيه عصر العشرين ظنوك عصراً ... نيّرَ الوجهِ مسعد الإنسان
لست ( نوراً ) بل أنت ( نارٌ ) وظلم ... مذ جعلتَ الإنسان كالحيوان
الحكم السادس : هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟
ظاهر قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } أنه يشمل ( العبيد والإماء ) وبهاذ قال بعض العلماء وهو مذهب ( الشافعية ) ؛ فقد نصّ ابن حجر في المنهاج على أن نظر العبد العدل إلى سيدته كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة . وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة ( وهو قول للشافعي أيضاً ) إلى أن العبد كالأجنبي فلا يحل نظره إلى سيدته لأنه ليس بمحرم . وتأولوا الآية بأنها في حق الإماء فقط ، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال : ( لا تغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور ) يعني قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } فإنها في الإماء دون العبيد . وعلَّلوا ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجاً ولا محارم ، والشهوةُ متحققة فيهم فلا يجوز التكشف وإبداء الزينة أمامهم .
وقالوا إنما ذكر الإماء في الآية ، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال .
قال ابن عباس : لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته ( وهذا مذهب مالك ) .
ومما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله ما روي عن أنس « أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأسٌ إنما هو أبوك وغلامك » .
الحكم السابع : من هم أولة الإربة من الرجال؟
استثنت الآية الكريمة { التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة } فسمحت للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم الرجال البُله المغفّلون .(1/374)
الذين لا يعرفون من أمور النساء شيئاً وليس لهم ميل نحو النساء أو اشتهاء لهن ، بحيث يكون عجزهم الجسدي ، أو ضعفهم العقلي ، أو فقرهم ومسكنتهم ، تجعلهم لا ينظرون إلى المرأة بنظر غير طاهر أو يخطر ببالهم شيء من سوء الدخيلة نحوهن .
ونحن ننقل هنا بعض أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ليتوضح لنا المعنى الصحيح للآية الكريمة ، وندرك المراد من قوله تعالى : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال . . . } .
قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا حاجة له في النساء .
وقال قتادة : هو التابع يتبعك ليصيب من طعامك .
وقال مجاهد : هو الأبلة الذي لا يهمه إلا بطنه ولا يعرف شيئاً من النساء .
وهناك أقوال أخرى : تشير كلها إلى أن ( أولي الإربة ) المراد به غير أولي الحاجة إلى النساء وليس له شهوة أو ميل نحوهن إما لأنه أبله مغفل لا يعرف من أمور الجنس شيئاً أو لأنه لا شهوة فيه أصلاً .
قصة المخنث :
روى البخاري وغيره عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما : أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وعندها هذا المخنث وعندها أخوها ( عبد الله بن أبي أمية ) والمخنث يقول : يا عبد الله إن فتح الله عليك الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع ، وتدبر بثمان فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال : « يا عدو الله لقد غلغلت النظر فيها ، ثم قال لأم سلمة : » لا يدخلنَّ هذا عليك « » .
يقول الأستاذ المودودي : « ولعمر الحق إن كل من يقرأ هذا الحكم بنية الطاعة لا بنية أن ينال لنفسه سبيلاً إلى الفرار من الطاعة لا يلبث أن يعرف لأول وهلة أن هؤلاء الخدام والغلمان المكتملين شباباً في البيوت ، أو المطاعم والمقاهي ، والفنادق ، لا يشملهم هذا التعريف للتابعين غير أولي الإربة بحال من الأحوال » .
الحكم الثامن : من هو الطفل الذي لا تحتجب منه المرأة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } فقال بعضهم : المراد الذين لم يبلغوا حد الشهوة للجماع وقال آخرون : بل المراد الذين لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر .
ولعلَّ هذا الأخير أقرب للصواب ، وأنَّ المراد بهم الأطفال الذين لا يثير فيهم جسم المرأة أو حركاتها وسكناتها شعوراً بالجنس ، لأنهم لصغرهم لا يعرفون معاني الجنس ، وهذا لا يصدق إلا على من كان سنة دون ( العاشرة ) أما الطفل المراهق فإن الشعور بالجنس يبدأ يثور فيه ولو كان لم يبلغ بعد سنَّ الحلم فينبغي أن تحتجب منه المرأة .
الحكم التاسع : هل صوت المرأة عورة؟
حرم الإسلام كل ما يدعو إلى الفتنة والإغراء .(1/375)
فنهى المرأة أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك الشهوة في قلوب بعض الرجال { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
وقد استدل الأحناف بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة فإذا منعت عن صوت الخلخال فإن المنع عن رفع صوتها أبلغ في النهي .
قال الجصاص في تفسيره : ( وفي الآية دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها . ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأةُ منهية عن ذلك ، وهو يدل على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة ) . . ونقل بعض الأحناف أن نغمة المرأة عورة واستدلوا بحديث ( التكبير للرجال والتصفيق للنساء ) فلا يحسن أن يسمعها الرجل .
وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن صوت المرأة ليس بعورة لأن المرأة لها أن تبيع وتشتري وتُدْلي بشهادتها أمام الحكام ، ولا بد في مثل هذه الأمور من رفع الصوت بالكلام .
قال الألوسي : ( والمذكور في معتبرات كتب الشافعية - وإليه أميل - أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة ) .
والظاهر أنه إاذ أمنت الفتنة لم يكن صوتهن عورة فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كُنَّ يروين الأخبار ، ويحدِّثن الرجال ، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم .
وذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن المرأة منهية عن كل شيء يلفت النظر إليها ، أو يحرك شهوة الرجال نحوها ، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها لقوله عليه السلام « كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا » يعني زانية ومثل ذلك أن تحرك يديها لإظهار أساورها وحليها .
أقول : ينبغي على الرجال أن يمنعوا النساء من كل ما يؤدي إلى الفتنة والإغراء ، كخروجهن بملابس ضيقة ، أو ذات ألوان جذابة ، ورفع أصواتهن وتعطرهن إذا خرجن للأسواق وتبخترهن في المشية وتكسرهن في الكلام وقد قال الله تعالى : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] وأمثال ذلك ممّا لا يتفق مع الآداب الإسلامية ، ولا يليق بشهامة الرجل المسلم ، فإن الفساد ما انتشر إلا بتهاون الرجال ، والتحلل ما ظهر إلا بسبب فقدان ( الغيرة ) والحمية على العرض والشرف ، والذي لا يغار على أهله لا يكون مسلماً وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ديوثاً فقال : « ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها : الرجلة من النساء ( أي المتشبهة بالرجال ) ومُدْمِنُ الخمر والديوث ، قالوا : من هو الديوث يا رسول الله؟ قال الذي يُقِرُّ الخبث في أهله »(1/376)
وفي رواية الذي يغار على أهله .
وقديماً قال شاعرنا العربي :
جرد السيف لرأس ... طارت النخوة منه
نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وشرفنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع مجيب الدعاء .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - النظر بريد الزنى ورائد الفجور فلا ينبغي للمؤمن ان يسلك هذا الطريق .
ثانياً - في غض البصر وحفظ الفرج طهارة للإنسان من الرذائل والفواحش .
ثالثاً - لا يجوز للمسلمة أن تبدي زينتها إلا أمام الزوج أو المحارم من أقاربها .
رابعاً - على المسلمة أن تستر رأسها ونحرها وصدرها بخمارها لئلا يطلع عليها الأجانب .
خامساً - الأطفال والخدام والغلمان الذين لا يعرفون أمور الجنس لصغرهم لا مانع من دخولهم على النساء .
سادساً - يحرم على المسلمة أن تفعل ما يلفت أنظار الرجال إليها أو يثير بواعث الفتنة .
سابعاً - على جميع المؤمنين والمؤمنات أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والإنابة ويتمسكوا بأداب الإسلام .
ثامناً - الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام ، فيها صيانة لكرامة الأسرة ، وحفظ للمجتمع المسلم .
حكمة التشريع
أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار ، وحفظ الفروج كما أمر المؤمنات بمثل ما أمر به المؤمنين تزكية للنفوس وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة والتردي في بؤرة الفساد والتحلل الخلقي ، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء والغواية .
وقد زاد الإسلامُ المرأة تزكية وطهراً ، أن كلَّفها زيادة على الرجل بعدم إبداء الزينة لغير المحارم من الأقرباء وفرض عليها الحجاب الشرعي ليصون لها كرامتها ، ويحفظها من النظرات الجارحة ، والعيون الخائنة ، ويدفع عنها مطامع المغرضين الفجار . ولما كان ( إبداء الزينة ) والتعرض بالفتنة من أهم أسباب ( التحلل ) الخلقي و ( الفساد ) الاجتماعي لذلك فقد أكد الباري جل وعلا ذلك الأمر للمؤمنات بتجنب إظهار الزينة أمام الأجانب ليسد نوافذ الفتنة ويغلق أبواب الفاحشة ويحول دون وصول ذلك السهم المسموم فالنظرة بريد الشهوة ورائد الفجور ولقد أحسن من قال :
كلُّ الحوادث مبداها من النظر ... ومعظمُ النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين ( الغيد ) موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتر
يقول شهيد الإسلام ( سيد قطب ) عليه رحمه الله في تفسيره « ظلال القرآن » ما نصُّه :
( إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار ، فعمليات ( الاستثارة ) المستمرة تنتهي إلى سُعَار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي . والنظرة الخائنة والحركة المثيرة ، والزينة المتبرجة ، والجسم العاري ، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون .
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء ( مجتمع نظيف ) هي الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً .(1/377)
دون استثارة مصطنعة ، وتصريفُه في موضعه المأمون النظيف .
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة ، والحديث الطليق ، والاختلاط الميسور ، والدعابة المرحة بين الجنسين ، والاطلاع على مواطن الفتنة المخبوءة . . شاع أن كل هذا ( تنفيس ) وترويح ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية . . . شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان والرجوع إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية .
رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية ، والدينية ، والإنسانية ، ما يكذبها وينقضها من الأساس .
نعم شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي ، بكل صوره وأشكاله ، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها إنما انتهى إلى سعار مجنون ، لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع .
وشاهدت من الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان . شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة ( للاختلاط ) الذي لا يقيده قيد ولا يقف عنده حد .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق ، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته فالنظرة تثير ، والحركة تثير ، والضحكة تثير ، والدعابة تثير ، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات . وذلك هو المنهج الذي يختاره الإسلام مع تهذيب الطبع وتشغيل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة غير تلبية دافع اللحم والدم .
خاتمة البحث :
بدعة كشف الوجه
ظهرت في هذه الأيام الحديثة ، دعوة تطورية جديدة ، تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها ، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل ، بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي ، وأن الوجه ليس بعورة . دعوة ( تجددية ) من أناس يريدون أن يظهروا بمظهر الأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها ، ويبعثوا فيها روح التضحية ، والإيمان ، والكفاح .
دعوة جديدة ، وبدعة حديثة من أناس يدعون العلم ، ويزعمون الاجتهاد ويريدون أن يثبتوا بآرائهم ( العصرية الحديثة ) أنهم أهل لأن يُنافِسوا الأئمة المجتهدين وأن يجتهدوا في الدين كما اجتهد أئمة المذاهب ويكون لهم أنصار وأتباع .
لقد لاقت هذه الدعوة ( بدعة كشف الوجه ) رواجاً بين صفوف كثير من الشباب وخاصة منهم العصريين ، لا لأنها ( دعوة حق ) ولكن لأنها تلبي داعي الهوى ، والهوى محبَّب إلى النفس وتسير مع الشهوة ، والشهوة كامنة في كل إنسان ، فلا عجب إذاً أن نرى أو نسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها « حكم الإسلام » وشرع الله المنير .
يقولون : إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به المسلمات في كتابه العزيز ، وأنهم يريدون أن يتخلصوا من الإثم بكتمهم العلم(1/378)
{ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } [ البقرة : 159 ] إلى آخر دعاواهم الطويلة العريضة .
ولست ادري أي إثم يتخلصون منه ، وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى ويتبجح بالدعارة ، والفسق ، والفجور؟!
ولقد سبقهم بهذه ( البدعة المنكرة ) بعض أهل ( الهوى ) من الشعراء حين قال :
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أذهبتِ دينَ أخ التُّقى المتعبد
نور الخمار ونور وجهك ساطع ... عجباً لوجهك كيف لم يتوقد
ولو أن هؤلاء ( المجدِّدين ) اقتصرت دعوتهم على النساء العاريات ، المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى ، اللواتي خالفن تعاليم الإسلام بخلعهن للحجاب فدعوهن إلى التستر والاحتشام وارتداء الجلباب الذي أمرهن به الله عز وجل وقالوا لهن : إن أمر ( الوجه والكفين ) فيهما سعة وإن بإمكانهن أن يسترن أجسادهن ويكشفن وجوههن لهان الخطب ، وسهل الأمر ، وكانت دعوتهم مقبولة لأنها تدرج بالتشريع بطريق الحكمة ، ولكنهم يدعون المرأة المؤمنة المحتشمة الساترة لما أمر الله عز وجل ستره ، فيزينون لها أن تكشف عن وجهها وتخرج عن حيائها ووقارها فتطرح النقاب تطبيقاً للكتاب والسنة بحجة أن الوجه ليس من العورة؟
وإنه لتحضرني قصة تلك المرأة المؤمنة الطاهرة التي استشهد ولدها في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة فقيل لها : تبحثين عنه وأنت متنقبة؟ فأجابت بقولها : لأن أرزأ ولدي فلن أرزأ حيائي؟ . . عجباً والله لهؤلاء وأمثالهم أن يدعوا ( المرأة المسلمة ) إلى كشف الوجه باسم الدين ، وأن يزينوا لها طرح النقاب في مثل هذا العصر الذي فسد رجاله ، وفسق شبابه ، إلا من رحم الله وكثر فيه الفسق والفجور والمجون .
ونحن نقول لهؤلاء ( المجدِّدين ) من أئمة العصر المجتهدين : رويدكم فقد أخطأتم الجادة وتنكبتم الفهم السليم الصحيح للإسلام وأحكامه التشريعية ، ونخاطبهم بمنطق العقل والشرع ، وكفى بهما حجة وبرهاناً .
لقط شرط الفقهاء - الذين قالوا بأن الوجه ليس بعورة - أمن الفتنة فقالوا : الوجه ليس بعورة ، ولكن يحرم كشفه خشية الفتنة ، فهل الفتنة مأمونة في مثل هذا الزمان؟
والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئاً من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة ، فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها ، فهل يسمح لها أن تشكف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر؟ .
كلمة العلامة المودودي
وأختم هذه الكلمة بما ذكره العلامة المودودي في تفسيره لسورة النور حيث قال أمد الله في عمره :
« وهذه الجملة في الآية الكريمة { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن ، أو ما كان ظاهراً بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن ( يعني الملاءة ) لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود والحسن البصري .(1/379)
أما ما يقوله غيرهم إن معنى { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما يظهره الإنسان على العادة الجارية . ثم هم يدخلون فيه ( وجه المرأة وكفيها ) بكل ما عليها من الزينة ، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمساحيق والصبغ ، ويديها بالحناء والخاتم والأسورة ، ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها . . . أما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما يُظْهره الإنسان فإن الفرق بين أن يَظْهر الشيء بنفسه ، أو أن يُظهره الإنسان بقصده واضح لا يكاد يخفى على أحد ، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد ، فالتوسع في حد هذه الرخصة إلى حد إظهارها ( عمداً ) مخالف للقرآن ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه ، وأن الأمر بالحجاب كان شاملاً للوجه ، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام .
وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفها للأجانب ، يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة مع أن الفرق كبير جداً بين ( الحجاب ) و ( ستر العورة ) فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال ، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة . انتهى .(1/380)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
[ 7 ] الترغيب في الزواج والتحذير من البغاء
التحليل اللفظي
{ الأيامى } : جمع أيّم وهو من لا زوج له رجلاً كان أو امرأة ، ذكراً أو أنثى قال في « لسان العرب » : الأيامى : الذين لا أزواج لهم من الرجال أو النساء ، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم : « الأيمّ أحقّ بنفسها » فهذه الثيب لا غير ، وكذا قول الشاعر :
لا تنكحنَّ الدهر ما عشتَ أيما ... مجرّبة قد مُلّ منها وملّت
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الأيمة وهي طول الغُزْبة ، وأنشد ابن بري :
لقد إمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت
وآمت المرأة : إذا مات عنها زوجها . ومنه قول علي ( مات قيّمها وطال تأيّمها ) وفي التنزيل : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } أدخل فيه الذكر والأنثى والبكر والثيب .
{ عِبَادِكُمْ } : بمعنى العبيد وقرأ مجاهد ( من عبيدكم ) وأكثر استعماله في الأرقاء والمماليك وإذا أضيف إلى الله فيراد منه الخلائق قال تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] الآية . .
{ واسع } : ذو غنى وسعة يبسط الرزق لمن يشاء من عباده وهوالغني الحميد .
{ عَلِيمٌ } : عالم بحاجات الناس ومصالحهم فيجري عليهم من الرزق ما قسم لهم .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ } : أمر من العفة واستعفف وزنه : استفعل ومعناه : طلب أن يكون عفيفاً ، قال في « لسان العرب » العفة : الكف عما لا يحل ويجمل ، يقال عفّ عن المحارم يعِفُّ عفة وعفافاً وامرأة عفيفة أي عفيفة الفرج ، وفي الحديث « من يستعفف يعفه الله » وقيل الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء .
ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم « اللهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى » .
{ الكتاب } : قال الزمخشري : الكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، وهي أن يقول الرجل لمملوكه : ( كاتبتك على ألف درهم فإن أداها عتق ) ، والمكاتبة ( مفاعلة ) لا تكون إلا بين اثنين لأنها معاقدة بين ( السيد وعبده ) فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع ، والمكاتبة هيَ : العقد الذي يجري بين ( السيد وعبده ) على أن يدفع له شيئاً من المال مقابل عتقه وسمي مكاتبة لأن العادة جارية بكتابته لأن المال فيه مؤجل ، وهي لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية نبه عليه العلاّمة ابن حجر .
{ خَيْراً } : لفظ الخير يطلق على المال { إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ } [ البقرة : 180 ] وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] أي لحب المال ، ويطلق على فعل الصالحات وقد فسره بعضهم بالمال وهو ضعيف ، والصحيحُ أن المراد به : الصلاح والأمانة والوفاء ، والمعنى : إن علمتم فيهم القدرة على الكسب والوفاء والأمانة فكاتبوهم على تحرير أنفسهم .
قال الطحاوي : وقول من قال إن المراد به ( المال ) لا يصح ، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ وانكر بعضهم ذلك من حيث اللغة فقال : لا يقال علمت فيه المال ، وإنما يقال علمت عنده المال .(1/381)
والأصح أن المراد بالخير الأمانة والقدرة على الكسب وبه فسره الشافعي كما مر معنا .
{ فتياتكم } : المراد به ( المملوكات من الإماء ) وهو جمع فتاة ، قال الألوسي وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن ( العبد والأمة ) .
وفي الحديث : « لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي » وكأنه صلى الله عليه وسلم كره العبودية لغير الله عز وجل وعلّم السادة أن يتلطفوا عند مخاطبة العبيد .
{ البغآء } : مصدر بغت المرأة تَبْغي بغاءً إذا زنت وفجرت ، وهو مختص بزنى النساء فلا يقال للرجل إذا زنى : إنه بغى قاله ( الأزهري ) .
والجمع بغايا ، والمراد بالآية إكراه الإماء على الزنى ، وفي الحديث « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي » .
{ تَحَصُّناً } : أي تعففاً ومنه المُحْصنة بمعنى العفيفة وقد تقدم .
{ عَرَضَ الحياوة } : أي متاع الحياة الدنيا وسمي عرضاً لأنه يعرض للإنسان ثم يزول ، فهو متاع سريع الزوال وشيك الاضمحلال { وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } [ الحديد : 20 ] .
{ آيات مبينات } : أي آيات واضحات ، وحكم باهرات ، ودلائل ظاهرة ، تدل على حكمة الله العلي الكبير ، قال الزمخشري : هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت معاني الأحكام والحدود .
المعنى الإجمالي
يأمر المولى تبارك وتعالى بتزويج الشباب وتحصين الأحرار من الرجال ، فيقول تعالى ذكره ما معناه : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، ومن أهل الصلاح والتقى من عبيدكم ومواليكم ، إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقة وفقر ، فإن الله تعالى يغنيهم من فضله ، فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم . فالله واسع الفضل ، جواد كريم ، يعطي الرزق من يشاء من عباده ، ولا تخفى عليه خافية من شؤونهم وأحوالهم .
ثم يأمر تعالى الشباب الذين لا تتيسر لهم سُبل الزواج - لأسباب مادية أو عقبات اجتماعية - بالعفة عن الفواحش والابتعاد عما حرم الله ، حتى يوسّع الله عليهم ، ويسهل لهم أمر الزواج . فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ الطلاق : 4 ] كما أمر السادة بمكاتبة العبيد الأرقاء ، الذين يريدون أن يتحرروا من رق العبودية فقد أرشدهم أن يقبلوا منهم فكاك أنفسهم بما يدفعونه من مال ، ونهاهم أن يُكْرهوا فتياتهم ( الإماء ) على البغاء ، كما كان يفعل أهل الجاهلية ، ليحصُلوا من وراء ذلك على الثروة الطائلة ، ويجمعوا حُطَام هذه الحياة الزائل ، ويتمعوا عن طريق - الفحش والرذيلة - بعرض الدنيا ، ثم حذر تعالى الظالمين المعتدين المُكْرهين للفتيات بالعذاب الأليم ، وأنه سينتقم منهم ويعفو ويغفر للمُكْرَهات على الزنى ، لأنه لاإرادة لهن ولا اختيار ، وإثمهن على من أكرههن .
ثم ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بأنه قد أنزل على عباده آياتٍ واضحات وأحكاماً وحدوداً مفصَّلات ، ليسيروا عليها ، فيها خيرهم وسعادتهم ، وتَرَكهم على المحجَّة البيضاء ، وضرب لهم الأمثال ليتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الأمم(1/382)
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] .
سبب النزول
أولاً : روى السيوطي عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال : كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى ، فسألته الكتاب فأبى فأنزل الله { والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فَكَاتِبُوهُمْ } [ النور : 33 ] . الآية .
قال القرطبي : بعد أن ذكر القصة : فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها ، وقتل بحنين في الحرب .
ثانياً : وروى مسلم في « صحيحه » عن جابر بن عبد الله أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها ( مُسَيْكة ) وأخرى يقال لها ( أمَيْمة ) وكان يريدهما على الزنى فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء } الآية .
وروي أن عبد الله بن أبيّ بن سلول كان يكرههما على الزنى ويضربهما فقالت إحداهما : إن كان خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فنزلت الآية .
ثالثاً : وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال : ( كانوا يأمرون ولائدهم يباغين يفعلن ذلك فيصبن فيأتينهم بكسبهن فكانت لعبد الله بن أبيّ سلول جارية فكانت تباغي فكرهت وحلفت ألا تفعله فأكرهها أهلها فانطلقت فباغت ببرد أخضر فأتتهم به فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء . . . } الآية .
وقال مقاتل : إنها نزلت في ست جوار كنّ لعبد الله بن أبيّ ( معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وقتيلة ، وعمرة ، وأروي ) فكان يأمرهن بالزنى ليستدرّ من ورائهن المال . فنزلت الآية الكريمة ، وكل الروايات ذكرت أن الذي كان يكرههنَّ هو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
في الآيات السابقة حذر الله جل ثناؤه من مقارفة الفواحش وارتكاب الموبقات فنهى عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة ، من النظر إلى النساء ، والاختلاط بهن ، وكشف العورات ، وإبداء الزينة ، ودخول البيوت بغير استئذان . وغير ذلك مما يدعو إلى الفساد وضياع الأخلاق والوقوع في المهالك ، وفي هذه الآيات الكريمة رغب المولى جل وعلا في النكاح وأمر بالإعانة عليه وتسهيل سبله ، لأن النكاح من خير ما يحقق العفة ، ويعصم المؤمن من الزنى ، ويبعده عن آثامه وهو الطريق الوحيد لبقاء النوع الإنساني . وبناء المجتمع الفاضل ولهذا وردت هذه الآيات الكريمة تحثُّ على إعفاف الشباب والفتيات عن طريق الزواج . وتدعو إلى تذليل كل العقبات التي تعترض طريق الزواج سواء كانت هذه العقباتُ مالية ، أو غير مالية . وهذا وجه الارتباط بين الآيات الكريمة . والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال تعالى : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } فيه إشارة إلى قيمة التقى والصلاح في الإنسان . فلا يكرم الإنسان لماله أو جاهه ، وإنما يُكرَّم لدينه وصلاحه كما قال تعالى :(1/383)
{ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } في هذه الآية وعد من الله بإغناء من سلك طريق الزواج وقصد إعفاف نفسه به . وقد نقل عن عدد من الصحابة أنهم فهموا ذلك حتى قال أبو بكر : ( أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، يُنْجزْ لكم ما وعدكم من الغنى ) وعن عمر وابن عباس : ( التمسوا الرزق بالنكاح ) .
فإن قيل : فنحن نرى كثيراً من الفقراء يتزوجون ويستمر فقرهم ولا يستغنون ونرى من كان غنياً فيتزوج يصبح فقيراً؟ فالجواب : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] ومما يدل على إضماره أن الله تعالى ختم الآية بقوله : { والله واسع عَلِيمٌ } ولم يقل ( واسع كريم ) وهذا يفيد أنه تعالى يعلم مصلحة عباده فيبسط لمن يشاء ويقدر لمن يشاء ، حسب الحكمة والمصلحة . وقد ورد ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله ) . . . وحكمة هذا الربط بين ( الغنى والنكاح ) أنه قد يخيل إلى بعض الناس أن الأولاد والذرية سبب الفقر حتماً وأن عدمهم سبب لكثرة المال جزماً ، فأريد قلع هذا الخيال من الأوهام ، بأن الله قادر على إغناء العبد مع كثرة عياله ، وإفقاره ولو كان عزباً في داره ، ولا أثر للزواج في فقر الإنسان ولا للغزوبة في غناه فالله هو الرازق ذو القوة المتين وصدق الله { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } في الآية دعوة للشباب الذين لا يتيسر لهم أمر الزواج بإعفاف النفس حتى يهيئ الله لهم أسبابه فهو على سبيل ( المجاز ) أو تقدير مضاف أي لا يجدون أسباب النكاح أو استطاعة النكاح أو المراد بالنكاح : ما ينكح به من المال .
قال الشهاب : فإن ( فِعَالاً ) يكون صفة بمعنى مفعول ، ككتاب بمعنى مكتوب ، واسم آلة كركاب لما يركب به ، وهو كثير كما نص عليه أهل اللغة .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله } فيه إشارة لطيفة إلى أن المال الذي في أيدي الأغنياء إنما هو وديعة عندهم ، استخلفهم الله عليها ليحسنو التصرف فيها { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] فالمالك الحقيقي هو الله رب العالمين ، وليس الغني مالكاً للمال حقيقة وإنما هو مؤتمن عليه وهو وديعة بين يديه .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } جملة معترضة فائدتها ( التشنيع والتقبيح ) على السادة في ارتكاب هذه الرذيلة والإكراه عليها ، فالأصل في الأمة المملوكة أن يحصنها سيدها إذا مالت نحو الفجور ، أما أن يدعوها إلى عمل الفاحشة وتأبى وتمتنع وتريد العفة ، فذلك منتهى الخسة والدناءة منه .(1/384)
فالأمة في هذه الحالة خير من السيِّد ، لأنها آثرت التحصن على الفاحشة وهي أشرف من السيّد وأطهر .
قال أبو السعود : فإن من له أدنى مرؤءة لا يكاد يرضى من يحويه حرمه من إمائه فضلاً عن أمرها به أو إكراهها عليه لا سيما عند إرادة التعفف فليس هو إذاً « للقيد أو الشرط » وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته فتدبره فإنه دقيق .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياوة الدنيا } هذا التعليل فيه إشارة إلى تفاهة وحقارة ما صنعوا ، فإن أقدس وأشرف ما يملكه الإنسان هو ( العرض والشرف ) فهم يقدمون هذا الشيء ( النفيس ) مقابل النزر ( الخسيس ) فيا لها من خسة ونذالة .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إكراههن غَفُورٌ رَّحِيمٌ } المغفرة والرحمة مخصصة بالمكرَهات من الإماء وأما المُكْرهُون فعليهم اللعنة والسخط ، وقد كان الحسن البصري إذا قرأ هذه الآية يقول : لهنَّ والله ، أي إن الله غفور لهن ، لا لأولئك المجرمين الذين أكرهوا النساء على البغاء .
ففي الآية ( مجاز بالحذف ) أي غفور لهن رحيم بهن . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : ( من بعد إكراههن ) أي لأنهن مكرهات لا إرادة لهن ولا اختيار فقد رفع الله عنهن العذاب وبقي الإثم على المكره وما قاله بعض المفسرين : إن المغفرة والرحمة للمكرِهين إنْ تابوا وأصلحوا فإنه ضعيف يأباه السياق .
قال أبو السعود : وفي تخصيص المغفرة والرحمة بهن وتعيين مدارهما دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل : لهنَّ ( لا للمكِرهين ) فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة ستقلالاً ، أو معهن إخلالٌ بجزالة النظم الجليل ، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : من المخاطب في الآية الكريمة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن الخطاب في قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى } عام لجميع الأمَّة أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال الأحرار والنساء الحرائر . . وقال بعضهم إن الخطاب ( للأولياء والسادة ) فقط أي لأولياء الأحرار ، كالآباء وغيرهم ممن يتولون شؤون غيرهم ، ولسادات العبيد والإماء الذين يملكونهم ملك اليمين .
وقال آخرون : إنه للأزواج لأنهم هم المأمورون بالنكاح .
قال القرطبي : والخطاب للأولياء وقيل للأزواج والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال ( وانكحوا ) بغير همز ، وكانت الألف للوصل . والذي نختاره هو أن الأمر موجه إلى جميع الأمة ، وأنَّ عليهم أن يسهلوا أسباب الزواج ، ويسعوا سعياً حثيثاً لتزويج الشباب ، وإزالة العوائق والعقبات من الطريق لأن الزواج هو طريق الإحصان والعفة ، فالخطاب إذاً للجميع . . . وليس المراد بالتزويج في الآية هو أجراء ( عقد الزواج ) لأن لفظ الأيامى يشمل كل من لا زوج له من الرجال والنساء ، صغاراً كانوا أو كباراً ، كما تقدم .
ومن المعلوم أن الرجل الكبير لا ولاية لأحد عليه فالوجه ما قلنا إن الخطاب موجه للأمة ، وإن المراد بالتزويج هو الإعانة والمساعدة على النكاح وتسهيل أسبابه ، وقد قال عليه السلام(1/385)
« إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض » .
الحكم الثاني : هل الزواج واجب أو مستحب؟
اختلف الفقهاء في حكم الزواج على مذاهب نبينها فيما يلي :
أ- مذهب الظاهرية : أن الزواج واجب ، ويأثم الإنسان بتركه .
ب- مذهب الشافعية : أن الزواج مباح ولا إثم بتركه .
ج- مذهب الجمهور ( المالكية والأحناف والحنابلة ) : أن الزواج مستحب ومندوب وليس بواجب .
دليل الظاهرية : استدل أهل الظاهر بأن الصيغة وردت بلفظ الأمر ( وانكحوا ) والأمر للوجوب فيكون النكاح واجباً ، وبأن الزواج طريق لإعفاف النفس عن الحرام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيأثم تاركه .
دليل الجمهور : واستدل الجمهور من علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن الزواج ليس بواجب وأنه مندوب بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- لو كان الزواج واجباً لكان النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف شائعاً مستفيضاً لعموم الحاجة إليه ، ولما بقي أحد لم يتزوج في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو عهد الصحابة ، فلما وجدنا في عصره عليه السلام وسائر الأعصار بعده ( أيامى ) من الرجال والنساء لم يتزوجوا ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه ليس بواجب .
ب- لو كان الزواج واجباً لكان للولي إجبار الثيب على الزواج مع أن الإخبار غير جائز شرعاً لقوله عليه السلام : « ولا تُنْكَح الثيب حتى تستأمر » أي تأمر وترضى بالزواج .
ج - قال الجصاص : ( ومما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على ( الأيامى ) فدل على أنه مندوب في الجميع ) .
د- قوله عليه السلام : « من أحب فطرتي فليستن بسنتي وإن من سنتي النكاح » .
ه - قوله عليه السلام : « تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة » .
دليل الشافعي : واستدل الإمام الشافعي على أن النكاح مباح بانه قضاء لذة ونيل شهوة فكان مباحاً كالأكل والشرب .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أنّ الزواج مندوب للحديث الصحيح : « من رغب عن سنتي فليس مني » .
واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو في الحالات العادية التي يأمن فيها الإنسان على نفسه من اقتراف المحارم ، أما إذا خشي على نفسه الوقوع في الزنى ، فإنه لا خلاف في أن النكاح يصبح عليه ( واجباً ) لأن صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب فيتعين عليه الزواج .
قال القرطبي : قال علماؤنا : يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت ( الزنى ) ، ومن عدم صبره ، ومن قوته على الصبر ، وزوال خشية العنت عنه .(1/386)
وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا فالنكاح حتم ومن تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطَّوْل فالمستحب له أن يتزوج . وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم لأن الصوم له وِجاءٌ كما جاء في الخبر الصحيح .
الحكم الثالث : هل يجوز للولي إجبار البكر البالغة على الزواج؟
استدل الشافعية من قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } على أن للولي إجبار البكر البالغة على الزواج بدون رضاها لعموم الآية ، ولولا قيام الدلالة على أنه لا تُزَوَّج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها أيضاً بغير رضاها .
قال الجصاص : قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى } لا يختص بالنساء دون الرجال ، فلما كان اللفظ شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم ، فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر وقال « وإذنها صُمَاتها » فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها .
وأيضاً حديث ابن عباس في فتاة بكر زوَّجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أجيزي ما فعل أبوك » وهو يدل على وجوب الاستئذان .
الحكم الرابع : هل يجوز للمرأة أن تتولى عقد الزواج بنفسها؟
استدل فقهاء الشافعية والحنابلة على أن المرأة لا تلي عقد النكاح وإلى أن النكاح لا ينعقد بعبارتها لقوله تعالى { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } وقوله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } [ البقرة : 221 ] ووجه الاحتجاج بالآيتين أن الله تعالى خاطب الرجال بالنكاح ولم يخاطب به النساء ، ولأنه لو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوَّتت على وليها حق الولاية عليها ، ولأن الزواج له مقاصد متعددة والمرأة كثيراً ما تخضع لحكم العاطفة فلا تحسن الاختيار ، فجعل الأمر إلى وليها لتتحقق مقاصد الزواج على الوجه الأكمل .
أقول : هذا الذي ذهب إليه الشافعية والحنابلة هو الرأي الصحيح الراجح الذي عليه أكثر أهل العلم ، ولكنك قد علمت أن الأولى في الآية الكريمة حمل الخطاب على أنه للناس جميعاً لا للأولياء فقط ، بمعنى أن الله تعالى يندب المؤمنين إلى المساعدة في النكاح والإعانة عليه ، وأن على المسلمين عامة أن يهتم بعضهم ببعض حتى لا يبقى في مجتمعهم رجل ولا امرأة بدون زواج وعلى هذا فحكم مباشرة عقد الزواج ، لا يؤخذ من الآية وإنما يؤخذ من أدلة أخرى من السنة المطهرة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « لا نكاح إلا بولي » وقوله صلى الله عليه وسلم : « أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » . قال الألوسي : والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وإن المراد من الإنكاح : المعاونة والتوسط ، وتوقّفُ صحة النكاح في بعض الصور على الولي يُعلم من دليل آخر .(1/387)
الحكم الخامس : هل يجوز للحر التزوج بالأمة؟
استدل بعض الحنفية بظاهر قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } على أنّ الحر يجوز له التزوج بالأمة مطلقاً ولو كان مستطيعاً طَوْل الحرة أخذاً بالعموم في الآية الكريمة . . . وذهب الشافعية إلى أن هذا العموم غير مراد بدليل آية النساء التي قيدت ذلك بعدم الاستطاعة في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات } [ النساء : 25 ] الآية فهذه الآية خاصة ، والخاص مقدم على العام ، فلا يجوز لمن وجدَ طول الحرة أن يتزوج أمة .
والأدلةُ بالتفصيل يُرْجَع إليها في سورة النساء وليس هذا محل ذكرها فافهم ذاك رعاك الله .
الحكم السادس : هل للسيد إجبار عبده أو أمته على الزواج؟
استدل العلماء بقوله تعالى : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } على أن للسيد أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما لأن الآية جعلت للسيد حق تزويج كل منهما ولم تشترط رضاهما ، وكذلك أخذوا من الآية أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد . والعلّةُ في ذلك أنه لو جاز لهما الزواج بغير إذنه لفوّتا عليه استعمال حقه ، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أيما عبدٍ تزوّج بغير إذن مواليه فهو عاهر » .
قال العلامة القرطبي : ( أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وهو قول ( مالك وأبي حنيفة ) وغيرهما وروي نحوه عن الشافعي : أنه ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح ، وقال النخعي كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب .
تمسك أصحاب الشافعي فقالوا : العبد مكلف فلا يجبر على النكاح لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية وإنما تتعلق به المملوكية من جهة الرقبة والمنفعة ولعلمائنا : أنَّ مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع والنكاح إنما هو من المصالح ، ومصلحةُ العبد موكولة إلى السيد ) .
الحكم السابع : هل يفرق بين الزوجين بسبب الإعسار؟
استدل بعض العلماء بالآية الكريمة { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } على أن النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة ، لأنه تعالى لم يجعل الفقر مانعاً من الإنكاح ، بل حث على تزويج الفقراء ، ووعدهم بالغنى ، فإذا كان الفقر ليس مانعاً من ابتداء النكاح ، فإنه لا يكون مانعاً من استدامته من باب أولى .
قال النقاش : هذه الآية حجة على من قال : إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة لأن الله تعالى قال : { يُغْنِهِمُ الله } ولم يقل يفرق .
قال القرطبي : وهذا انتزاع ضعيف وليست هذه الآية حكماً فيمن عجز عن النفقة ، وإنما هو وعد بالإغناء لمن تزوج فقيراً ، فأما من تزوج موسراً وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما قال الله تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ }(1/388)
[ النساء : 130 ] ونفحات الله مأمولة في كل حال . . وهذه الآية دليل على تزويج الفقير ، ولا يقول : كيف أتزوج وليس لي مال؟ فإن رزقه على الله وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه ، وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسراً ، أو طرأ الإعسار بعدذلك لأن الجوع لا صبر عليه .
أقول : إن غاية ما تفيده الآية الكريمة أنه يندب لأهل الزوجة ألا يردّوا خاطباً فإذا خطب ابنتهم شاب صالح ، حسن السيرة والأخلاق فعليهم ألا يرفضوه لمجرد فقره ، فإن المال غاد ورائح ، وفي فضل الله ما يغني الجميع . وعلى الشاب نفسه ألا يرجئ أمر زواجه انتظاراً للمزيد من الغنى واليسر بل عليه أن يُقْدم على الزواج متوكلاً على الله ولو كان كسبه قليلاً ، فإن الزواج كثيراً ما يكون السبب في إصلاح حال الإنسان ، بسبب ما يبذله من جهد في سبيل الكسب بعد الزواج . والله عز وجل قد وعد بالعون من أراد أن يُعفَّ نفسه على الحرام ففي الحديث الصحيح « ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله » .
وليس في الآية ما يدل على فسخ النكاح بالإعسار أو عدم فسخه والله تعالى أعلم .
الحكم الثامن : ما هو حكم نكاح المتعة؟
استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } على بطلان انكاح المتعة ، لأنه لو كان صحيحاً لم يتعين الاستعفاف سبيلاً للتائق العاجز عن أسباب النكاح . ولم تجعل الآية سبيلاً لمث لهذه الحالة إلا ( الاستعفاف ) يعني الصبر علىترك الزواج حتى يغنيه الله من فضله ويرزقه ما يتزوج به ، فالأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه من الوجوه ولو كان ( نكاح متعة ) صحيحاً لأمر الله تعالى به . وهو استدلال دقيق فتدبره .
الحكم التاسع : هل تجب مكاتبة العبد؟
معنى المكاتبة في الشرع : هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّماً عليه فإذا أداه فهو حر لوجه الله تعالى وللمكاتبة حالتان :
أ- أن يطلبها العبد ويجيبه السيد عليها وهذا الذي أشارت إليه الآية الكريمة { والذين يَبْتَغُونَ الكتاب } .
ب- أن يطلبها العبد ويأباها السيد وهذا الذي اختلف فيه الفقهاء على مذهبين :
1- مذهب الظاهرية : قالوا يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك .
2- مذهب جمهور الفقهاء : قالوا : لا يجب على السيد أن يكاتب مملوكه بل يندب له المكاتبة .
أدلة الظاهرية :
استدل أهل الظاهر على وجوب المكاتبة بالآية والأثر .
أ- أما الآية فقوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ } فإنه أمر وظاهر الأمر للإيجاب ، وقالوا : مما يدل عليه أيضاً سبب النزول فقد نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له ( صبيح ) وقد تقدم .(1/389)
ب- وأما الأثر فهو ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سألني ( سيرين ) المكاتبة فأبيت عليه ، فأتى ( عمر بن الخطاب ) فأخبره فأقبل عليَّ بالدرّة وتلا قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فكاتبه أنس . قال داود الظاهري : وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس لو لم تكن الكتابة واجبة .
وهذا المذاهب منقول عن بعض التابعين كعطاء ، وعكرمة ، ومسروق ، والضحاك بن مزاحم .
أدلة الجمهور :
واستدل جمهور الفقهاء ( المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة ) على أنه مندوب بما يأتي :
أ- إن الله عز وجل قيَّد المكاتبة بشرط علم الخير فيه فقال : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } . فعلّق الوجوب على أمر باطن ، وهو علم السيد بالخيرية ، فإذا قال العبد : كاتبنْي ، وقال له السيد : لم أعلم فيك خيراً كان القول للسيد فدلّ على عدم وجوبه .
ب- حديث « لا يحل مال امرئٍ مسلم إلاّ بطيبٍ من نفسه » والعبدُ مالٌ فلا يجوز إلاّ برضى السيد .
ج - وتمسّكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبدُ سيده أن يبيعه من غيره ، لم يجب عليه ذلك ، ولم يجبر عليه فكذا الكتابة لأنها معاوضة .
قال الجصاص : فإن قيل : لو لم يكن يراها واجبة لما رفع لعيه الدِرّة ولم يضربه؟
قلنا : لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق على الرعية ، فكان يأمرهم بما لهم فيه الأفضل في الدين ، وإن لم يكن واجباً ، على وجه التأديب والمصلحة!
والصحيح ما قاله الجمهور إن الأمر للندب والاستحباب ، لا للوجوب والله أعلم .
الحكم التاسع : من هم المخاطبون بإيتاء المال؟ وما مقداره؟
اختلف المفسرون في قوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } من هم المخاطبون به؟ على قولين .
أحدهما : أنه خطاب للأغنياؤ الذين تجب عليهم الزكاة ، أُمروا أن يُعْطوا المكاتبين من سهم ( الرقاب ) وقد روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال : هو سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون ، أي المراد أن يدفعوا لهم من مال الزكاة .
والثاني : أنه خطاب للسادة أمروا أن يُعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً . ولعلّ هذا أصح لأن سياق الآية يدل على ذلك حيث أمر السادة بطريق ( الندب والاستحباب ) أن يكاتبوا عبيدهم ، وأمروا أيضاً أن يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة عوناً لهم على فكاك أنفسهم من ربقة العبودية .
قال القرطبي : هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة ، إمَّا بأن يعطوهم شيئاً مما في أيديهم أعني ( أيدي السادة ) أو يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الإيتاء هل هو واجب؟ وفي مقداره؟ على مذهبين :
1- مذهب ( الشافعية والحنابلة ) : أنه واجب وقدّره أحمد بربع بمال الكتابة . . . وقال الشافعي : ليس محدوداً ويكفي في أقل شيء يقع عليه اسم المال .(1/390)
2- مذهب ( المالكية والأحناف ) : أنه ليس بواجب وأنّ هذا الأمر على الندب .
حجة الشافعية والحنابلة :
أ- ظاهر قوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله } والأمر للوجوب .
ب- واستدلوا بما روي أن عمر بن الخطاب كاتب غلاماً يقال له ( أبو أمية ) فجاءه بنجمةِ حين حلّ فقال : اذهب يا أبا أمية فاستعن به في مكاتبتك ، قال : يا أمير المؤمنين : لو أخّرته حتى يكون في آخر النجوم؟ فقال : يا أبا أمية : إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } .
قال عكرمة : وكان ذلك أول نجمٍ أُدّي في الإسلام .
حجة المالكية والحنفية :
1- احتج المالكية والحنفية بأن الأمر في الكتابة للندب فكيف يكون الأمر بالإيتاء للوجوب؟ وقالوا : قد جاء في الآية أمرانِ ( فكاتبوهم ) و ( آتوهم ) فإمّا أن يكونا للوجوب ، أو للندب .
قال ابن العربي : ولو أن الشافعي حين قال : إن الإيتاء واجب يقول : إنّ الكتابة واجبة لكان تركيباً حسناً ولكنه قال : إنّ الكتابة لا تلزم ، والإيتاء يجب فجعل الأصل غير واجب . والفرع واجباً . وهذا لا نظير له فصارت دعوى محضة .
ب- واستدلوا من السنة بحديث « أيما عبدٍ كاتبَ على مائةِ أوقيةٍ فأدّاها إلا عشر أواق فهو عبد » فلو كان الحطّ واجباً لسقط عنه بقدَره .
واستدلوا كذلك بحديث عائشة حين جاءتها ( بريرة ) تستعينها على أداء كتابتها فقالت لها عائشة : إنْ أحبّ أهلك أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فأبوا ، فذكرتْ ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها عليه السلام : « إبتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق » قالوا : فلم ينكر عليها الرسول ولم يقل إنها تستحق أن يحطّ عنها من كتابتها أو يعطيها المولى شيئاً من ماله .
الحكم العاشر : ما هو الإكراه وهل يرتفع به الحد عن الرجل والمرأة؟
أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء . . . } إلى أنّ الإكراه يسقط التكليف عن الإنسان ، وبالتالي يبقى العبد غير مؤاخذ ، ويصبح الإثم على المُكْرِه . والإكراه إنما يحصل متى وجد التخويف بما يقتضي تلف النفس كالتهديد بالقتل ، أو بما يوجب تلف عضو من الأعضاء ، واما باليسير من الخوف فلا تصير مكرهة . فحال الإكراه على الزنى كحال الإكراه على ( كلمة الكفر ) ، وقد قال الله تعالى فيه { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] وقد ذكر بعض المفسرين أنّ الله تعالى إنما ذكر إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصوّر الإكراه ، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يُتصور إكراه وقال بعضهم : خرج مخرج الأغلب إذ الغالب أن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن .
والصحيح ما ذكرناه سابقاً أنّ المقصود به ( التقبيح والتشنيع ) على هذا المنكر الفظيع الذي كان يعمله أهل الجاهلية ، حيث كانوا يُكْرهو الفتيات على البغاء مع إرادتهن للتعفف .(1/391)
واختلف العلماء فيمن أكره على الزنى من الرجال هل يرتفع عنه الحد كما يرتفع عن المرأة؟
فذهب الجمهور : إلى أنّ الإكراه يرفع الحد عن الرجل والمرأة ، ولقوله عليه السلام « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما اسْتُكرهوا عليه » .
وذهب ( أبو حنيفة ) إلى أنّ الرجل إذا أكره على الزنى فإنه يحد إلا إذا أكرهه سلطان وأما المرأة فلا حدّ عليها ، وحجّتُه في ذلك أنّ الإكراه ينافي الرضى ، وما وقع عن طوع ورضى فغير مكره عليه . ومعلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلفٍ على النفس ، والانتشارُ والشهوةُ ينافيهما الخوفُ والوجل . فلمّا وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال عُلِمَ أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مكرهاً خائفاً لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة وفي ذلك دليل على ان فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد .
طريقة الزنى في الجاهلية :
والبغاء الذي كان منتشراً في الجاهلية كان على نوعين :
الأول : البغاء في صورة النكاح .
الثاني : البغاء العام في الإماء والحرائر .
أما الأول : فكانت تحترفه بعض الإماء اللواتي لم يكن لهن من يكفلهن ، أو الحرائر اللواتي لم يكن لهن بيت أو أسرة تضمهن ، فكانت إحداهن تجلس في بيت ، وتتفق في آن واحد مع عدة رجال ، على أن ينفقوا عليها ويقوموا أمرها ويقضوا منها حاجتهم . فإذا حملت ووضعت أرسل إليهم حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد وَلَدْتُ وهو ابنُك يا فلان ، فتسمي من أحبّت باسمه ، فيلتحق نسبه به .
فهذا نوع من البغاء كان يتناكح به أهل الجاهلية وهو البغاء في صورة النكاح .
وأما البغاء العام : فكان معظمه بواسطة الإماء وربما وقع من بعض الحرائر أيضاً وهو أيضاً على وجهين :
الأول : أن بعض السادة كانوا يفرضون على إمائهم مبلغاً كبيراً من المال يتقاضونه منهن في كل شهر ، فكنّ يكسبْن بالفجور ، لأنه لا يمكنهن أن يدفعن ما فرضه عليهن سادتهن بحرفة طاهرة فكنَّ يحترفن البغاء .
والوجه الثاني : أنّ بعض العرب كانوا يُجْلسون الفتيات الشابات من إمائهن في الغرفات ، وينصبون على أبوابهم رايات ، تكون علماً لمن أراد أن يقضي منهن حاجته ، وكانت بيوتهن تسمى ( المواخير ) وكانوا يستدرُّون من ورائهن المال فإذا أبت إحداهن أو تعففت عن ممارسة هذه الرذيلة ضربها سيدها وأكرهها على مزاولة الحرفة حتى لا ينقطع عنه ذلك المورد الخبيث الذي كان يُكْسبه المال الوفير .
وهذا ( عبد الله بن أبيّ ) رأس النفاق كان له ست إماء شابات جميلات يكرههن على البغاء ، طلباً لكسبهن ، وفيه نزلت الآيات الكريمة المتقدمة .
أقول : ما أشبه جاهلية ( القرن العشرين ) في زماننا بتلك الجاهلية الأولى حيث تنظّم بيوت الدعارة تحت حماية القانون ، وتحميها الشرطة ويقصدها الراغبون بأجرٍ معلوم ، وليس فيها ما يختلف عن الأولى إلا أنها ( أشنع وأفظع ) لأنها في ( الحرائر ) وبشكل فاضح مكشوف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :(1/392)
« ما ظهرت الفاحشة في قوم فعملوا بها إلاّ أصيبوا بالأمراض والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم!! » وهذا من أعلام النبوّة .
وإنّا لله وإنَّا إليه راجعون .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الله الزواج لحكم سامية ، وغايات نبيلة ، وفوائد جليلة . وأمر بتيسير أسبابه لأنه هو الطريق السليم للتناسل . وعمران الأرض بالذرية الصالحة . ولم يشأ الله تبارك وتعالى أن يترك الإنسان كغيره من المخلوقات . فيدع غرائز تنطلق دون وعي . ويترك الاتصال بين الذكر والأنثى فوضى ، لا ضابط له كما هو الحال عند الحيوان . بل وضع النظام الملائم الذي يحفظ للإنسان كرامته ، ويصون له شرفه . فجعل اتصال الرجل بالمرأة اتصالاً نظيفاً طاهراً قائماً على أساس التراضي والتفاهم . وبهذا وضع للغريزة طريقها المأمون ، وحمى النسل من الضياع ، وصان المرأة أن تكون دُمْيةً بين أيدي العابثين أو كلأً مباحاً لكل راتع .
والغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها فما لم يكن لها متنفّس عن طريق نظيف شريف تمردت وطغت . ونزعت بالإنسان إلى شر منزع ، والزواجُ هو أحسن وضع طبيعي لها . وأسلم طريقة لإرواء الغريزة وإشباعها ليهدأ البدن من الاضطراب . وتسكن النفس عن الصراع . ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام . وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله لها وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] .
والزواجُ أحسنُ وسيلة لإنجاب الأولاد . وتكثير النل . واستمرار الحياة ، مع المحافظة على الأنساب التي يوليها الإسلام عناية فائقةً . وقد خصّ الإسلام عليه ورغّب فيه . بطرق شتى . وصور عديدة . وعدّه الرسول صلى الله عليه وسلم خير متاعٍ في هذه الحياة فقال صلوات الله عليه « الدنيا متاعٌ وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة » بل عدّه خيرَ كنزٍ يكنزه الإنسان في حياته فقال عليه الصلاة والسلام « ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله » .
وقد أمر الإسلامُ بتيسير أسباب الزواج ، وتسهيل طرقه ، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها ، وأمر بإزالة جميع العقبات من وجهه ، والعقبةُ المالية هي ( العقبة الأولى ) في طريق بناء البيوت ، وتحصين النفوس ، لذلك نبه الباري جلّ وعلا إلى أنه لا يجوز أن يكون الفقر عائقاً عن التزويج ، فالرزق بيد الله ، وقد تكفّل بإغنائهم إن هم اختاروا طريق العفة النظيف ، فيجب على الأمة أن تعينهم على الزواج ، وأن تهيئ لهم أسبابه ، وتبذل كل ما لديها من جهودٍ حتى لا يبقى في المجتمع عضو أشل ، أو عضو غير نافع .(1/393)
وإلى أن تتهيأ للشباب فرصة الزواج ، جاء الأمر الإلهي لهم بالاستعفاف عن الحرام حتى يغنيهم الله من فضله { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
ومن الكذب والزور ما يقوله بعض أدعياء العلم اليوم من أن الكَبْتَ والحرمان يولِّدان عن الإنسان عُقداً نفسية وأضراراً جسمية ، وأنّ عليه أن يخفف طغيان الغريزة بالاتصال الجنسي ولو عن طريق البغاء .
إنهم يجعلون الزنى ( ضرورة اجتماعية ) لاتقاء الأمراض الجسدية والتخلص من أضرار ( الكبت والحرمان ) ويزعمون أنّ هذا هو الطريق السليم ، لمعالجة طغيان الغريزة ، وحماية الإنسان من العقد النفسية ، التي قد تؤدي به إلى الجنون .
والمتحلِّلون وعلى رأسهم الإباحي ( فرويد ) يرون أن خير علاج هو إباحة الزنى وأنّ فيه حماية للفرد والمجتمع من مخاطر الجنس ، وهم يستقون نظرياتهم ( التربوية ) فيما يزعمون من علم النفس ويقولون : يجب أن يعيش الإنسان حراً مطلقاً من كل قيد وشرط ، حتى لا يتعقد ولا تنتابه الهواجس والأمراض النفسية .
إنهم يقيسون الإنسان على الحيوان الذي نعيش طليقاً بدون قيود ولا حدود ، يأتي شهوته متى شاء ، وينال غريزته بأي طريق أحب ، وما دروا أن بين الإنسان والحيوان فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً ، فالحيوان تسيطر عليه شهوته وتتحكم فيه غريزته ، بينما الإنسان يتحكم فيه عقله ويضبطه إدراكه وإحساسه ، ولولا العقل في الإنسان لكان الحيوان خيراً منه وأفضل .
يقول شهيد الإسلام ( سيد قطب ) عليه رحمة الله ورضوانه في تفسيره « الظلال » ما نصه : « وهذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهنّ يردن الغفة - ابتغاء المال الرخيص ، كان جزءاً من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي ، ذلك أنّ وجود البغاء يُغري الكثيرين لسهولته ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ولا عبرة بما يقال : من أنّ » البغاء « صمام أمن يحمي البيوت الشريفة لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج ، أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض إن لم تجد هذا الكلأ المباح .
إن في التفكير على هذا النحو قلباً للأسباب ، فالميلُ الجنسي يجبُ أن يظلّ نظيفاً ، بريئاً موجهاً إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة ، وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج ، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجاً خاصاً ، وبذلك لا يحتاج إلى ( البغاء ) وإلى إقامة ( مقاذر إنسانية ) يمرّ بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس فيلقي فيها بالفضلات تحت سمع الجماعة وبصرها .
إنّ النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تُعالج بحيث لا تُخْرِجُ مثلَ هذا النتن . ولا يكون فسادها حجةًعلى ضرورة وجود ( المقاذر العامة ) في صور آدمية ذليلة . . . وهذا يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل ، النظيف ، العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله » .(1/394)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
[ 8 ] الاستئذان في أوقات الخلوة
التحليل اللفظي
{ لِيَسْتَأْذِنكُمُ } : اللام لام الأمر ، واستأذن طلب الإذن ، لأن السين والتاء للطلب مثل استنصر طلب النُصرة ، واستغفر طلب المغفرة ، والاستئذان المذكور في الآية يراد منه الإعلام بالحضور ، والسماح للمستأذن بالدخول . والمعنى : ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم ، والصغار من الأطفال .
{ الحلم } : بضم اللام الاحتلام ومعناه : الرؤيا في النوم ، والحلْم بكسر الحاء الأناة والعقل ، تقول : حلُم الرجل بالضم إذا صار حليماً .
وفي « القاموس » : الحُلْم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ، وحلم به رأى له رؤيا أو رآه في النوم ، والحُلْم بالضم والاحتلام : الجماع في النوم والاسم منه الحُلُم كعنق .
وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ سمي الحلم لكون صاحبه جديراً بالحِلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب . والصحيح أن الحلم هنا بمعنى ( الجماع في النوم ) وهو الاحتلام المعروف ، وأن الكلام ( كناية ) عن البلوغ والإدراك ، يقال : بلغ الصبي الحلم أي أصبح في سن البلوغ والتكليف .
{ عورات } : جمع عورة ومعناها الخلل وفي « الصحاح » : أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب : وأعور المكان إذا اختل حاله وبدا فيه خلل يخاف منه العدو ، ومنه قوله تعالى : { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [ الأحزاب : 13 ] والأعور المختل العين فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها .
وعورة الإنسان ( سوأته ) سميت عورة لأنها من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من المذمة والعار .
قال القرطبي : وعورات جمع عورة وبابه في التصحيح أن يجيء على فعَلات ( بفتح العين ) كجَفنة وَجَفَنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات لأن فتحة داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك .
{ العشآء } : المراد بها العشاء الأخيرة والعرب تسميها العَتَمة وفي حديث مسلم « لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يُعْتمون بالإبل » والمغرب تسمى العشاء الأولى وفي الحديث : فصلاها ( يعني العصر ) بين العشاءين المغرب والعشاء .
قال القرطبي : فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها الله تعالى به فكأنه نَهْيُ إرشاد إلى ما هو الأولى وليس له جهة التحريم والعرب كانوا يسمونها العتمة وهي الحلبة التي كانوا يحْلِبونها في ذلك الوقت ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم فإنها تعتِم بحلاب الإبل .
أقول : قد ورد تسميتها في الكتاب والسنة ( بالعشاء ) فالأفضل الاقتصار على ذلك ففي الحديث الصحيح « من صلى العشاء في جماعة فكأنه قام نصف الليل ، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله » . كما اشتهر في الشعر تسميتها بالعشاء قال حسان :
فدع هذا ولكن مَن لِطَيْف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء(1/395)
{ طوافون } : جمع طوّاف بالتشديد وهو الذي يدور على أهل البيت للخدمة ، والطوافُ في الأصل الدوران ومنه الطواف حول الكعبة ، ووصف هؤلاء الخدم بالطواف لأنهم يذهبون في خدمة السادة ويرجعون ومنه الحديث في الهرة « إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات » والمراد في الآية أنهم خدمكم يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة فلا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير استئذان في غير هذه الأوقات .
{ والقواعد } : جمع قاعد بغير هاء ، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث .
قال القرطبي : وحذفها يدل على أنه ( قعودُ الكِبَر ) كما قالوا امرأة حامل ليدل على أنه حَمل الحَبل ، قال الشاعر :
فلو أنّ ما في بطنه بين نسوة ... حبِلنَ وإنْ كنّ القواعدَ عُقّراً
وقالوا : في غير ذلك قاعدة في بيتها ، وحاملة على ظهرها .
قال في القاموس : إنها التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج .
والمراد بهن في الآية : العجائز اللواتي لم يبق لهن مطمع في الأزواج لكبرهن ، ولا يرغب فيهن الرجال لعجزهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل للشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية .
{ غَيْرَ متبرجات } : أصل التبرج : التكلف في إظهار ما يخفى من الأشياء ومادة ( تبرّج ) تدل على الظهور والانكشاف ، ومنه بروج مشيدة وبروج السماء ، والمراد بالتبرج في الآية : إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال قال تعالى : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } [ الأحزاب : 33 ] .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما حقيقة التبرج؟ قلت : تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم : سفينة بارج أي لا غطاء عليها ، والبَرَج سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها .
المعنى الإجمالي
يقول جل ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون الذين صدقوا بالله ورسوله وأيقنوا بشريعة الله نظاماً ، ودستوراً ، ومنهاجاً ، ليستأذنْكم في الدخول عليكم هؤلاء العبيد والإماء الذين تملكونهم بملك اليمين ، والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال من الأحرار فلا يدخلوا عليكم في هذه الأوقات الثلاثة ( وقت الفجر ) و ( وقت العشاء ) إلا بإذن منكم لأن هذه الأوقات أوقات خلودكم إلى النوم والراحة ، وهي أوقات يختل فيها تستركم ، والتكشف فيها غالب ، فعلّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في مثل هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان ، وأما في غير هذه الأوقات فلا إثم ولا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير إذن ، لأنهم يقومون على خدمتكم والله لا يكلفكم ما فيه حرج أو ضيق عليكم ، لأن تشريعه من أجل صالحكم وهو جل وعلا العليم الحكيم .
وأما إذا بلغ هؤلاء الأطفال مبلغ الرجال فعلموهم الأدب السَّامي ألاّ يدخلوا عليكم إلا بعد الاستئذان كما أُمر الكبارُ من قبل ، وذلك هو أدب الإسلام الذي ينبغي أن يتمسك به المؤمنون ، وأما النساء العجائز اللاتي لا يرغبن في الزواج ولا يطمع فيهن الرجال لكبرهن وقد انعدمت فيهن دوافع الشهوة والفتنة والإغراء ، فلا حرج ولا جناح عليهن أن يضعن بعض ثيابهن كالرداء والجلباب ويظهَرْنَ أمام الرجال بملابسهنَّ المعتادة التي لا تلفت انتباهاً ، ولا تثير شهوة .(1/396)
وإذا بالغن في التستر والتعفف ولبسن الجلباب الذي تلبسه الشابات من النساء فذلك خير لهن وأكرم ، وأزكى عند الله وأطهر ، والله يعلم خفايا النفوس ، ومجازٍ كلّ إنسانٍ على ما قدَّم فاتقوه واجتنبوا سخطه وعقابه .
سبب النزول
أولاً : روي ان أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم . . . } الآية . وروي عن مقاتل بن حيّان أنه قال : بلغنا أن رجلاً من الأنصار وامرأته ( أسماء بنت أبي مرثد ) صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ، فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا؟ إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية يعني بها العبيد والإماء .
ثانياً : وروي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماًمن الأنصار يقال له ( مُدْلج ) إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً ، قد أغلق عليه الباب فدقّ عليه الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء ، فقال عمر ( وددت أنّ اللَّهَ نهى أبناءنا ونساءنا ، وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلاّ بإذن ) ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرّ ساجداً شكراً لله تعالى .
قال الألوسي : وهذا احد موافات رايه الصائب رضي الله عنه للوحي .
ثالثاً : وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ، فيغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن فذلك قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ . . . } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { مِنكُمْ } يدل على أن المراد به الأطفال من الأحرار ، لأن الله سبحانه قد ذكر العبيد والإماء بقوله : { مَلَكَتْ أيمانكم } ثم عقّب ذلك بقوله ( منكم ) فدلت هذه المقابلة على أن المراد به الصغار من الأحرار .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { ثلاث مرات } ليس المقصود الاستئذان ثلاث مرات ، وإنما المراد به في ( ثلاثة أوقات ) بدليل ذكره تعالى الأوقات بعدها ( الظهيرة ، العشاء ، والفجر ) وهي أوقات الراحة والنوم . قال أبو السعود : والتعبير عن ( الأوقات ) بالمرات للإيذان بأنّ مدار وجوب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها .(1/397)
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة } صرّح تعالى في هذا الوقت بخلع الثياب وهو وقت القيلولة وعبّر بقوله : ( حين ) للإشارة بقلة زمانها ولم يذكر وضع الثياب في الوقتين الآخيرين ( العشاء ) و ( الفجر ) وفي ذلك إشارة إلى أن أ مرهما ظاهر بيّن لا يحتاج إلى تصريح ، فإذا كان وقت الظهيرة لا يحل الدخول فيه إلا بعد الاستئذان فوقت العشاء والفجر من باب أولى ، لأنهما وقت الخلود إلى الراحة والنوم ، والتكشفُ فيهما غالب .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { ثلاث عورات لَّكُمْ } إطلاق ( العورات ) على الأوقات الثلاثة التي يكثر فيها التكشف ( للمبالغة ) حتى كأن هذه الأوقات هي نفسها عورات ، والجملة مسوقة لبيان علة ( وجوب الاستئذان ) فكأن الله تعالى يقول هذه هي أوقات ظهور العورات فلا تدخلوا إلا بعد الاستئذان وفي التعبير من المبالغة ما فيه .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { والقواعد مِنَ النسآء } المراد بها العجائز كما أسلفنا قال ابن قتيبة : سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن من القعود في البيت لكبر سنهن قال الشاعر :
أُطوِّفُ ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لَكَاع
وقال ابن ربيعة : سميت العجائز قواعد لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج ، ويدل عليه قوله تعالى : { اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } ليس المقصود بذلك أن يضعن جميع ثيابهن وإنما المراد بعضها كالجلباب والرداء وهي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة ، فهو من باب ( إطلاق الكل وإرادة الجزء ) ويسميه علماء البلاغة ( المجاز المرسل ) .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } قال بعض العلماء : ( إذا كان استعفاف العجائز عن وضع الثياب خيراً لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب؟ وأبلغ من هذا أن التستر والتحفظ إذا كان مطلوباً من القواعد فكيف بالكواعب ) ؟!
والمرأة ولو كانت عجوزاً لا تشتهي فإنّ بعض النفوس قد تميل إليها وتشتهيها ولهذا ينبغي لها الاستعفاف . وفي الأمثال ( لكل ساقطة لاقطة ) وقد قال الشاعر في هذا المعنى :
لكل ساقطةٍ في الحي لاقطة ... وكلّ كاسدةٍ يوماً لها سوق
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : من المخاطب في الآية الكريمة؟
ظاهر قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ } أنه خطاب للرجال ، وقد قال المفسرون : إنّ الآية نزلت في ( أسماء بنت أبي مرثد ) فيكون المراد فيها ( الرجال والنساء ) لأن التذكير يغلب التأنيث .
ودخولُ سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول فيكون الخطاب للرجال والنساء بطريق ( التغليب ) .
وقال الفخر الرازي : والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالاً من الرجال ، فهذا الحكم لمَّا ثبت في الرجال فثبوتهُه في النساء بطريق الأولى ، كما أنَّا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف .(1/398)
وقال أبو السعود : والخطاب إما للرجال خاثة ، والنساءُ داخلات في الحكم بدلالة النص أو ( للفريقين ) جميعاً بطريق التغليب .
أقول : اختار بعض المفسرين رأياً آخر خلاصته : أن قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ } ليس خطاباً للذكور بطريق التغليب وإنما هو خطاب لكل من اتصف بالإيمان رجلاً كان أن امرأة فيدخل فيه ( الرجال والنساء ) معاً ويكون المعنى يا من اتصفتم بالإيمان وصدقتم الله ورسوله ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم . . إلخ ، ولعل هذا الرأي أوجه فكل نداء بالإيمان يراد منه الوصف فيشمل الذكور والإناث والله أعلم .
الحكم الثاني : ما المراد بقوله : { مَلَكَتْ أيمانكم } في الآية الكريمة؟
المراد به ( العبيد والإماء ) وظاهر قوله تعالى : { الذين مَلَكَتْ أيمانكم } أن الحكم خاص بالذكور ، سواء أكانوا كباراً أم صغاراً ، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد .
والجمهور على أنه عام في ( الذكور والإناث ) من الأرقاء الكبار منهم والصغار وهو الصحيح الذي اختاره الطبري وجمهور المفسرين .
فكما أن الأطفال الصغار لا يحسن دخولهم بدون استئذان على الكبار في أوقات الخلوة ، فكذلك لا يحسن دخول الخادم الأنثى ، لأن هذه الأوقات أوقات تكشُّف في الغالب ، والإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره اطلاع النساء عليها كذلك .
قال ابن جرير الطبري : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال عني به ( الذكور والإناث ) لأن الله عمّ بقوله { الذين مَلَكَتْ أيمانكم } جميع أملاكِ أيماننا ولم يخصص منهم ذكراً ولا أنثى فذلك على جميع من عمّه ظاهر التنزيل .
الحكم الثالث : كيف يخاطب الصغار ولا تكليف قبل البلوغ؟
الخطاب وإن كان ظاهره للصغار الذين لم يبلغوا الحلم ، إلا أنَّ المراد به الكبار ، فقد أمر الله الرجال أن يعلِّموا مماليكهم وخدمهم وصبيانهم ، ألاّ يدخلوا عليهم إلا بعد الاستئذان ، فهو في ( الظاهر ) متوجه للصغار وفي ( الحقيقة ) للمكلفين الكبار ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر » وكقولك : للرجل : لِيَخَفْك أهلُكَ وولَدُك ، فظاهر الأمر لهم وحقيقةً الأمر له بفعل ما يخافون عنده .
الحكم الرابع : هل الاستئذان على سبيل الوجوب أو الندب؟
ظاهر الأمر في قوله تعالى : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } أنه للوجوب وبهذا الظاهر قال بعض العلماء . والجمهورُ على أنه أمر ( استحباب وندب ) وأنه من باب ( التعليم والإرشاد ) إلى محاسن الآداب . فالبالغُ يستأذنُ في كلّ وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث .
وقد رُويَ عن ابن عباس أنه قال : ( آيةٌ لا يؤمنُ بها أكثر الناس : آية الإذن ، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي ) وأشار إلى جارية عنده صغيرة .
والآية محكمة لم ينسخها شيء على رأي الجمهور ، وزعم بعضهم أنها منسوخة لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جارياً على خلافه . وقال آخرون : إنما كان هذا في العصر الأول لأنه لم تكن لهم أبواب تغلق ولا ستور تُرْخى واستدلوا بما رواه عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس : كيف ترى هذه الآية التي أُمِرْنا فيها بما أُمِرْنا ، ولا يعمل بها أحد؟ قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ .(1/399)
. . } .
قال ابن عباس : ( إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين ، يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم سترٌ ولا حجاب ، فربما دخل الخادم ، أو الولد ، أو يتيمة الرجل ، والرجلُ على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذك بعد ) . . والصحيح أن الآية ليست بمنسوخة كما قال القرطبي : وكلامُ ابن عباس لا يدل على النسخ ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقاً بسبب فلما زال السبب زال الحكم . وهذا يدل على أنه النسخ ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقاً بسبب فلما زال السبب زال الحكم . وهذا يدل على أنه لم ير الآية منسوخة ، وأنَّ مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وهذا ليس بنسخ .
الحكم الخامس : ما هو سن البلوغ الذي يلزم به التكليف؟
أشارت الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم } إلى أن الطفل يصبح مكلفاً بمجرد الاحتلام وقد اتفق الفقهاء على أن الصبيّ إذا احتلم فقد بلغ وكذلك الجارية ( الفتاة ) إذا احتلمت أو حاضت أو حَمَلت فقد بلغت . فالاحتلام علامة واضحة على بلوغ الصبي أو الجارية سن التكليف وهذا بإجماع الفقهاء لم يختلف فيه أحد . . ولكنهم اختلفوا في تقدير السن التي يصبح بها الإنسان مكلفاً على رأيين :
1- مذهب الحنفية في المشهور : إلى أن الطفل لا يكون بالغاً حتى يتم له ثماني عشرة سنة ودليله قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الأنعام : 152 ] وأشدُّ الصبي كما روي عن ابن عباس : أنه ثماني عشرة سنة ، وأما الإناث فنشوءهن وإدراكهن يكون أسرع فنقص في حقهن سنة فيكون بلوغهن سبع عشرة سنة .
2- مذهب الشافعية والحنابلة ( الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد ) إلى أنه بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً .
واستدلوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أنه عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ وله أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه ، وعُرِض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ) .
وقالوا : إنّ العادة جارية ألاّ يتأخر البلوغ في ( الغلام والجارية ) عن خمس عشرة سنة فيكون هو سن البلوغ الذي يصبح به الإنسان مكلفاً وذلك بحكم العادة .
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : قوله تعالى : { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم } يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك ، لأن الله تعالى لم يفرّق بين من بلغها وبين من قصّر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة(1/400)
« رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يُقيق ، وعن الصبي حتى يحتلم » ولم يفرّق بين من بلغ خمس عشرة وبين من لم يبلغها .
وأما حديث ابن عمر : أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد . . إلخ فإنه مضطرب لأن الخندق كان في سنة خمس ، وأُحد في سنة ثلاث ، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تَعلُّق لها بالبلوغ لأنه قد يُرَدّ البالغ لضعفه ، ويجاز غير البالغ لقوته على القتال . وطاقته لحمل السلاح كما أجاز ( رافع بن خديج ) وردّ ( سمرة بن جندب ) ويدل عليه أنه يسأله عن الاحتلام ولا عن السن .
وقد تكلم بكلام كثير انتصر فيه لمذهب الإمام حنيفة رحمه الله .
الترجيح : والصحيح هو قول الجمهور لما علمنا أن مثل هذا إنما يثبت بحكم العادة ، وقد جرت العادة في الأغلب على الاحتلام في مثل هذا الس ، فيكون هو سن البلوغ المعتبر في التكليف . وقد نص فقهاء الحنفية على أن الفتوى بقول ( الصاحبين ) وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أيضاً فيكون هو المعتبر ، وكفى الله المؤمنين القتال .
الحكم السادس : هل يعتبر الإنباتُ دليلاً على البلوغ؟
الراجح من أقوال الفقهاء أن البلوغ لا يكون إلا بالاحتلام أن بالسن وهي سن الخامس عشرة كما مر معنا ، وقد روي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه اعتبر الإنبات دليلاً على البلوغ ، واستدل بما روي عن ( عطية القرظي ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت ، قال : فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبتُّ فاستبقاني .
وما روي أيضاً أن عثمان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال : هل أخضرّ عذاره؟ وهذا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة .
وبقية الفقهاء لا يعتبرون الإنبات دليلاً على البلوغ حتى قال الجصاص إن حديث ( عطية القرظي ) لا يجوز إثبات الشرع بمثله لوجوه :
أحدها : أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر ولا سيما مع اعتراضه على الآية والخبرِ في نفي البلوغ إلاَّ بالاحتلام .
وثانيها : أنه مختلف الألفاظ ففي بعض الروايات أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى ، وفي بعضها من أخضرّ عذاره ، ومعلومٌ أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدّم بلوغة .
وثالثها : أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر للقتل لذلك لا للبلوغ .
والصحيح أن الإمام الشافعي رحمه الله جعل الإنبات دليلاً على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر ، والجزية ، والمعاهدة ، وغيرها من الأحكام لا أنه جعله دليلاً على البلوغ مطلقاً ، كما نبّه على ذلك بعض العلماء .(1/401)
قال الألوسي : ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله ( خمسة أشبار ) وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتصّ له ، ويقتصّ منه .
وعن أنس رضي الله عنه قال : أُتي أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلّى عنه وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار
وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب ، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً ، وفوق البلوغ ويكون قصيراً ، فلا عبرة بذلك ، ولعلّ الأخبار السابقة لا تصح ، وما نقل عن الفرزدق لا يتعيَّن إرادة البلوغ فيه فمن الناس من قال إنه أراد بخمسة أشبار ( القبر ) كما قال الآخر :
عجباً لأربع أذرع في خمسة ... في جوفه جبل أشم كبير
الحكم السابع : هل يؤمر الطفل بفعل الفرائض والطاعات؟
استدل بعض الفقهاء من قوله تعالى : { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح - وإن لم يكن من أهل التكليف - على وجه التعليم ، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، وقال عليه السلام « مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع » .
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « نعلِّم الصبي إذا عرف يمينه من شماله » .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : « إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم » .
قال أبو بكر الرازي : إنما يؤمر بذلك على وجه ( التعليم والتأدب ) ليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفوراً منه . وكذلك يجنّب شرب الخمر ، ولحم الخنزير ، ويُنْهى عن سائر المحظورات ، لأنه لو لم يمنع في الصغر ، لصعب عليه الامتناع في الكبر ، وقد قال الله تعالى : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] قيل في التفسير أي أدبوهم وعلموهم .
الحكم الثامن : ما المراد من وضع الثياب في الآية الكريمة؟
دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ } على أن المرأة العجوز التي لا تُشْتهى والتي لا يُرغب فيها في العادة أنه لا إثم عليها في وضع الثياب أمام الأجانب من الرجال ، بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة ، وليس المراد أن تخلع المرأة كل ما عليها من الثياب حتى تتعرى فإن ذلك لا يجوز للعجوز ولو كان أمام محارمها فكيف بالأجانب؟ ولذلك فقد اتفق الفقهاء والمفسرون على أن المراد بالثياب في هذه الآية ( الجلباب ) التي أُمِرت المسلمةُ أن تخفي به زينتها في قوله تعالى في سورة الأحزاب [ 59 ](1/402)
{ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } وهذا الإذن في وضع الجلابيب والخُمُر ليس إلا لأولئك النسوة العجائز اللاتي لم يعدن يرغبن في التزين ، وانعدمت فيهن الغرائز الجنسية ، غير أنه إذا كان لا يزال في هذه النار قبس يتقد ، ويكاد يميل بالمرأة إلى إظهار زينتها فلا يصح لها أن تضع جلبابها .
قال القرطبي : ( ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها فقد روي في « الصحيح » عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صنفان من أهل النار لم أرهما . . وذكر : ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسْنِمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » . وفي رواية : من مسيرة خمسمائة عام ) .
قال ابن العربي : وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن ، وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رقَّ يصفهن ويبدي محاسنهن وذلك حرام .
قلت : هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى ، والثاني : أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله فيه : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] وأنشدوا :
إذا المرءُ لم يلبس ثياباً من التُّقى ... تقلّب عُرياناً وإن كان كاسيا
وخيرُ لباسِ المرءِ طاعةُ ربه ... ولا خيرَ فيمن كان لله عاصيا
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : ضرورة استئذان الخدم من العبيد ، والإماء في أوقات الخلوات .
ثانياً : تعليم الأطفال الآداب الإسلامية منها ( الاستئذان عند الدخول ) في الأوقات الثلاثة .
ثالثاً : لا يطلب من الخادم أن يستأذن في كل وقت لضرورة قيامه بالخدمة لسيده .
رابعاً : إذا بلغ الطفل سن ( المراهقة ) فعليه أن يستأذن قبل الدخول في جميع الأوقات .
خامساً : لا يجوز للمسلمة أن تنكشف أمام الخدم من الغلمان إذا بلغوا مبلغ الرجال .
سادساً : النساء العجائز لا يجب عليهن المبالغة في التستر والبس الجلباب لرفع الحرج عنهن .
سابعاً : التبرج وإظهار الزينة أمام الأجانب يستوي فيه العجائز والأبكار .
ثامناً : شرعُ اللَّهِ حكيم ، ونظامه رحيم ، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا به .
حكمة التشريع
الإسلام رسالة إصلاحية فاضلة ، وآداب اجتماعية سامية ، ومُثُل إنسانية رفيعة ، حوى خير ما في التشاريع من نظم ومبادئ ، وخير ما في الأديان من سمو وأخلاق ، فتعاليمُه الرشيدة تدعو إلى الكمال ، ومبادئه الإنسانية تهدف إلى الإصلاح ، وإن شئت فقل : إنه رسالة ( الفضائل والآداب ) بل إنه رسالة الحياة .
وفي هذه الآيات الكريمة دعوة إلى الآداب الإنسانية ( آداب البيوت ) وتعليم للأمة أن يتمسكوا بالأخلاق الفاضلة التي ربَّاهم عليها الإسلام ، وأن يعلِّموا أطفالهم وخَدَمهم هذه الآداب الحميدة ، لتبقى الأسرة المسلمة ، والمجتمع المسلم ، في منأى عن المفاسد التي تعجُّ بها المجتمعات الأخرى .
وأول ما يجده الإنسان من ( الآداب الاجتماعية ) أدب الاستئذان عند دخول البيوت ، وقد تقدم في الآيات الكريمة السابقة(1/403)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] . ثم يأتي أدب الاستئذان ( داخل البيوت ) وهو للخدم والأطفال لئلا يطَّلعوا على العورات ، فقد يكون الإنسان في حالة لا يحِبّ أن يطلع عليه أحد ، وقد يكون مع أهله في حالة لا يصح أن يدخل عليه فيها أحد . لذلك فقد أوجب الإسلام الاستئذان حتى على ( الخدم والصغار ) في ثلاثة أوقات وسماها ( عورات ) لانكشاف العورات فيها وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم ، وأن يستأذن الخدم ، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحُلُم ، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم وهو أدب رفيع يُغْفله الكثيرون في حياتهم ، مستهينين بآثاره النفسية والخلقية ، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ، وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر بينما يقرر - علماء النفس - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في مستقبل حياتهم وقد تصيبهم بأمراض نفسية ، وخلقية ، وتوجد فيهم عقداً يصعب شفاؤهم منها .
وهذا الأدب الإسلامي الرفيع لا نجده عند غير المسلمين ، ويكفي الإسلام فخراً وشرفاً أنه دين ( الأدب والستر ) ودين الحشمة والوقار ، فهو يأمر بغض الأبصار عن عورات الناس ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات ، ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعاً للحرج؛ فهم كثيروا الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة وبذلك يجمع بين ( الحرص ) على ستر العورات وإزالة ( الحرج ) والمشقة عن الناس .
وأخيراً يدعو النساء إلى إخفاء الزينة منعاً لإثارة الفتن والشهوات ويأمر بالتحجب الكامل والتستر الشامل . ويستثني النساء العجائز اللواتي لا يحركن شهوة ، ولا يثرن فتنة ، فيسمح لهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية على ألا تنكشف عوراتهن ولا تظهر زينتهن ، وخير لهن وهنَّ العجائز المسنات أن يبقين كاسيات متسترات محتشمات بثيابهن الفضفاضة فذلك هو أدب الإسلام وذلك هو استعفاف المؤمنة الطاهرة التي تريد أن تحفظ نفسها ، وتصون كرامتها ، وهو ما سماه القرآن ( بالاستعفاف ) أي طلب العفة وإيثارها على حب الظهور وذلك لما بين ( التبرج والفتنة ) من صلة ، وبين ( التحجب والعفة ) من صلة وكفى بذلك برهاناً على سمو الشريعة وطُهْر مقصدها ونيل غايتها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .(1/404)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
[ 9 ] إباحة الأكل من بيوت الأقرباء
التحليل اللفظي
{ حَرَجٌ } : قال الزجّاج : الحَرَج في اللغة الضيق ، وفي الشرع : الإثم . قال تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } [ الأحزاب : 37 ] والمتحرّج : الكافّ عن الإثم ، وفي الحديث « حدّثُوا عن بني إسرائيل ولا حرج » وتحرّج تأثّم ، والتحريجُ : التضييق .
قال ابن الأثير : الحرج في الأصل الضّيقُ ويقع على الإثم والحرام ، وقيل الحَرَج : أضيق الضيق ، ومعنى الحديث لا بأس ولا إثم عليكم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم . وقد ورد الحرج في أحاديث كثيرة وكلها راجعة إلى هذا المعنى .
وفي التنزيل : { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] أي شديد الضيق لا ينشرح لخير .
{ مَّفَاتِحهُ } : جمع مِفْتحَ ، وأمّا المفاتيح فجمع مفتاح ، قال في « لسان العرب » : والمفتح ، بكسر الميم والمفتاح : مفتاح الباب وكل ما فتح به الشيء ، قال الجوهري : وكل مستغلق . وفي التنزيل { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] قيل هي مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب ، وقيل : هي الكنوز والخزائن .
قال الأزهري : والأشبه في التفسير أن قوله تعالى : { مَّفَاتِحهُ } خزائن ماله ، والله أعلم بما أراد .
{ أَشْتَاتاً } : متفرقين جمع شَتّ ، والشتات : الفرقة ، وتشتّت جمعهم : أي تفرّق جمعهم ، قال الطرماح :
شتّ شعبُ الحيّ بعدَ التئامِ ... وشَجَاكَ الرّبْعُ ربعُ المُقَام
قال في « لسان العرب » : الشَتّ : الافتراق والتفريق ، والشّتيتُ المتفرّق ، وفي التنزيل { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } [ الزلزلة : 6 ] أي يصدرون متفرقين ، منهم من عمل صالحاً ، ومنهم من عمل شراً . وجاء القوم أشتاتاً : متفرقين ، واحدهم شَتّ .
ومعنى الآية؛ أي ليس عليكم إثم أو جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين .
{ فَسَلِّمُواْ } : من التسليم بمعنى التحية ، والمعنى : حيّوا بعضكم بعضاً بتحية الإسلام ، وتحية الإسلام ( السلام عليكم ورحمة الله ) وفي الحديث « وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف » والتسليم : مشتق من السّلام اسم الله تعالى ، لسلامته من العيب والنقص .
قال في « للسان » : السلام والتحية معناهما واحد ، وهو السلامة من جميع الآفات ، وفي حديث التسليم : « قل السلام عليك ، فإن عليك السلام تحيةُ الموتى » وقد جرت به عادتهم في المراثي كانوا يقدّمون ضمير الميت على الدعاء له كقوله : « عليك سلام الله قيسَ بن عاصم » .
وفي حديث أبي هريرة : ( لما خلق الله آدم قال : اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة ، فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال : « السلام عليكم . . . » ) الحديث .
{ تَحِيَّةً } : قال الزجّاج : هي منصوبة على المصدر كقولك : قعدت جلوساً ، لأن قوله : ( فسلّموا ) بمعنى فحيّوا ، ومعنى الآية : فحيّوا بعضكم بعضاً تحية من عند الله مباركة طيبة . والتحية في اللغة : السلام ، قال تعالى :(1/405)
{ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } [ المجادلة : 8 ] . قال الأزهري : والتحية ( تَفْعِلة ) من الحياة ، وإنما أدغمت لاجتماع الأمثال . والهاء لازمة لها والتاء زائدة ، وروي عن أبي الهيثم أنه قال : التحية في كلام العرب ما يحيّي بعضهم بعضاً إذا تلاقَوْا قال الشاعر :
« تحيةُ بَيْنِهِم ضربٌ وَجيعُ » ... { مباركة } : بالأجر والثواب ، والبركة في اللغة أصلها : النماء والزيادة .
{ طَيِّبَةً } : حسنة طابت بالدعاء والإيمان أو تطيب نفس المحيّى بها ، قال أبو بكر الجصاص : يعني أن السلام تحية من عند اله ، لأن الله أمر به ، وهي مباركة طيبة ، لأنه دعاء بالسلامة ، فيبقى أثره ومنفعته ، وفيه الدلالة على أن قوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [ النساء : 86 ] قد أريد به السلام .
المعنى الإجمالي
يقول الله جلّ ذكره ما معناه : ليس على أهل الأعذار ولا على ذوي العاهات ( الأعمى ، والأعرج ، والمريض ) حرج أن يأكلوا مع الأصحاء ، فإن الله تعالى يكره الكِبْر والمتكبرين ، ويحب من عباده التواضع . وليس عليكم أيها المؤمنون حرج أن تأكلوا من بيوت أقربائكم أو أصدقائكم ، أو البيوت التي توكّلون عليها ، وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها ، ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، فإذا دخلتم بيوت إخوانكم أو أصدقائكم ، فابدءوهم ابالسلام ، وسلذموا عليهم بتحية الإسلام ، التي هي شعار المؤمنين ، تحية من عند الله مباركة طيبة ، ذلك شرع الله وحكمه إليكم ، لتتأدبوا بآداب الإسلام ، وتتمسكوا بتعاليمه الرشيدة ، التي فيها سعادتكم وصلاح دينكم ودنياكم ، كذلك يبيّن الله لكم طريق الخير والسعادة لعلكم تعقلون الخير والحق في جميع الأمور وتكونون من المؤمنين المتقين .
سبب النزول
أولاً : عن ابن عباس رضي الله عنهما : لمّا نزل قوله تعالى : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى ، والزَّمنى ، والعُمْي ، والعُرْج وقالوا : الطعام أفضل الأموال وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب ، والمريض لا يستوفي الطعام بسبب مرضه ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، فنزلت الآية الكريمة { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } .
ثانياً : وعن سعيد بن المسيّب رضي الله عنه أنه قال : إن ناساً كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا فكانوا يتقون أن يأكلوا منها ، ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيّبة ، فنزلت هذه الآية .
ثالثاً : وروي عن مجاهد في هذه الآية أنه قال : كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، فإن لم يجدوا لهم طعاماً ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية ، فكان أهل الزّمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام ، لأنه أطعمهم غير مالكة فنزلت هذه الآية .(1/406)
وجوه القراءات
أولاً - قرأ الجمهور { مَلَكْتُمْ } بالبناء للمعلوم ، وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو العالية { مُلِّكْتُمْ } بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها بالبناء للمجهول .
ثانياً - قرأ الجمور { مَفَاتِحَه } بالجمع ، وقرأ أنس بن مالك ، وقتادة { مِفْتَاحَه } بكسر الميم على الإفراد ، وقرأ بن جبير { مفاتيحه } جمع مفتاح .
ثالثاً - قوله تعالى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } قرئ بكسر الصاد اتباعاً لحركة الدال وقراءة الجمهور بفتح الصاد ، ومثلها ( أُمّهاتكم ) بضم الهمزة وقرأ طلحة ( إمّهاتكم ) بكسر الهمزة .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } الآية رفع الله تعالى الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ، ولم يذكر في الآية متعلق الحرج فذهب جمهور المفسّري على أن نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في ( المَطَاعم ) ويكون معنى الآية « ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه ، ولا في الأعرج حرج ، ولا في المريض حرج وتكون ( على ) بمعنى ( في ) » ذكره ابن جرير .
وقال الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد : الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهادفي سبيل الله ، وهو مقطوع ممّا قبله ، إذ متعلّق الحرجين ، مختلف ويكون معنى الآية : « ليس على الأعمى ، ولا على الأعرج ولا على المريض حرج في تركهم للجهاد وعدم خروجهم مع المجاهدين بسبب أعذارهم » ويكون الكلام قد تمّ هنا ، وأنّ ما بعده مستأنف لا تعلّق له به ، وهذا ما اختاره ( أبو حيّان ) في تفسيره « البحر المحيط » .
ثانياً : قوله تعالى : { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } قال أبو حيّان : انتصب « جميعاً » و « أشتاتاً » على الحال . أي مجتمعين ، أو متفرقين .
ثالثاً : قوله تعالى : { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً } .
قال الزجّاج : تحيّة منصوبة على المصدر ، لأن قوله ( فسلّموا ) بمعنى فحيّوا فتكونمفعولاً مطلقاً .
وقوله ( مباركة طيّبة ) صفتان للمصدر ( تحيّةً ) والجار والمجرور متعلق ب ( مباركة ) أو بنفس التحية والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى بيوت الأقارب ( الآباء ، الأمهات ، الإخوان ، الأخوات ، الأعمام ، العمات . . . ) إلخ ولم يذكر بيوت الأولاد ، والسّر في ذلك أن مال الولد مال الأب ، وبيته بيته كما ورد ( أنت ومالك لأبيك ) فلم يذكر اكتفاءً بذكر ( بيوتكم ) فما يملكه الولد كأنه ملك للأب ، لقوة حقّ القرابة وفي الحديث الشريف ( إنَّ أطيبَ ما يأكل الرجل من كسب ولده ، وإنَّ ولده من كسبه ) .
قال أبو حيان : ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاءً بذكر بيوتكم ، ومعنى قوله تعالى : { مِن بُيُوتِكُمْ } أي من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم . والولد أقرب من عدّد من القرابات ، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى .
اللطيفة الثانية : قيل لبعضهم من أحبّ إليك أخوك أم صديقك؟ فقال : لا أحبّ أخي إلا إذا كان صديقي .(1/407)
وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب ، فجاء فرآهم فسُرّ بذلك وقال : هكذا وجدناهم ، يعني كبراء الصحابة .
وكان الرجل يدخل بيت صديقه ، فيأخذ من كيسه ، فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك .
قال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة ، ألا ترى استغاثة الجهنّميّين حيث يقولون : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات .
اللطيفة الثالثة : اشتهر العرب بالكرم . وكان قوم من الأنصار لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم ، وكات قبيلة ( كنانة ) يتحرّج الرجل أن يأكل وحده ، فربما قدع والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء ، فإذا لم يجد من يؤاكله اضطر إلى الأكل وحده ، وقد قال بعضهم مفتخراً :
إذا ما صَنَعْتِ الزّاد فالتمسي لهُ ... أكيلاً فإنّي لستُ آكلُهُ وَحْدي
اللطيفة الرابعة : قال الزمخشري : ( فإذا دخلتم بيوتاً ) فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة . و ( تحية من عند الله ) أي ثابتة بأمره ومشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة ، وحياة للمسلّم عليه . ووصفُها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يُرْجى بها من الله زيادة الخير ، وطيب الرزق .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { بُيُوتاً } التنكير يفيد العموم ، أي إذا دخلتم أيّ بيت من البيوت فسلّموا على أنفسكم ، قال الفخر الرازي : ( فسلّموا على أنفسكم ) قال ابن عباس : فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل : السلام علينا من قبل ربنا .
وقال ابن جرير الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسملين ، فليسلّم بعضكم على بعض ، قال : وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } ولم يخصّص من ذلك بيتاً دون بيت ، وقال : ( فسلّموا على أنفسكم ) يعني : بعضكم على بعض ، فكان معلوماً إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض ، أنه معنيّ به جميعها ، مساجدها وغير مساجدها .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالأكل من البيوت؟
دلت الآية الكريمة على إباحة الأكل من بيوت الأقرباء ، وذلك جار مجرى المؤانسة والمباسطة وعدم الكلفة ، وقد جرت العادة ببذل الطعام للأقرباء ، لأنه بذلك يسرّهم ، فكان جريان العادة بالإذن كالنطق الصريح ، فيباح للإنسان أن يأكل من بيوت من سمّى الله عز وجل من الأقارب .
وقد اختلف المفسّرون في قوله تعالى : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد بها بيوت الأولاد ، أي بيوت أولادكم لأنها في حكم بيوتكم .
الثاني : أن المراد بها البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم ، فيكون الخطاب لأهل الرجل ، وولده ، وخادمه ، ومن يشتمل عليه منزله ، ونسبها إليهم لأنهم سكّانها .
الثالث : أن المراد بها بيوتهم ، والمقصود من الآية أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم ، لأن بيت المرأة بيت الرجل .(1/408)
واختار أبو بكر ( الجصّاص ) الرأي الثاني فقال : « يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكّانها ، وهم عيال غيرهم فيها مثل : أهل الرجل ، وولده ، وخادمه ، ومن يشتمل عليه منزله ، فيأكل من بيته ، ونسبها إليهم لأنهم سكانها ، وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل ، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباجة للرجل أن يأكل من مال نفسه ، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره . وقال الله : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم } فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم ، وفقد التمانع في أمثاله » .
الحكم الثاني : هل للوكيل أن يأكل من مال موكّله؟
ظاهر قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } يدل على أنه يرخّص للوكيل أن يأكل من مال الموكل ، بغير شطط ولا عدوان ، وقد روي عن ( عكرمة ) أنه قال : « إذا ملك المفتاح فهو جائز ، ولا بأس أن يَطْعم الشيء اليسير » .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } هو وكيل الرجل يُرخَّص له أن يأكل من التمر ، ويشرب من اللبن .
وقيل : المراد به وليّ اليتيم ، يتناول من ماله بالمعروف دون إضرار باليتيم كما قال تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } [ النساء : 6 ] .
الحكم الثالث : هل يباح الأكل من بيت الصّديق بغير إذنه؟
أباحة الآية الكريمة الأكل من بيوت من سمّى الله عز وجلّ من الأقارب ، ومن بيوت الأصدقاء . وقد كان الواحد لا يأكل من بيت غيره تأثماً ، فرخّص الله تعالى لأهل الأعذار ( العمي ، والعرج ، والمرضى ) أولاً ثمّ رخّص للنَّاس عامة ، فلو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً .
قال الجصاص : « وهذا أيضاً مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه ، فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به ، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها ، من غير استئذانها إيّاه ، لأنه متعارف أنهم لا يمنعون مثله ، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ، ويتصدقان باليسير ممّا في أيديهما ، فيجوز بغير إذن المولى . وقد روي عن نافع عن ابن عمر أنه قال : » لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم « .
وروى إسحاق بن كثير عن الرصافي قال : » كنا عند أبي جعفر يوماً فقال : هل يُدْخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو في كيسه فيأخذ ماله؟ قلنا : لا ، قال : ما أنتم بإخوان « .
أقول : يباح للإنسان أن يأكل من بيت صديقه في غيبته لما بينهما من المودّة والصداقة ، وقد جرت العادة بذلك ، ودلت الآية عليه . والصديق يفرح بأكل صديقه عنده ويُسرّ غاية السرور . اللهم إلا إذا كان ممن قال فيهم الشاعر :(1/409)
سِيَانِ كَسْرُ رغيفِهِ ... أو كَسْرُ عظم من عظَامِه
نسأله تعالى أن يقينا مرض البخل والشح إنه سميع مجيب الدعاء .
الحكم الرابع : ما هو حكم الشركة في الطعام؟
يجوز للإنسان أن يشارك غيره في الطعام ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي مجتمعين أو منفردين . فإذا اشترك جماعة في طعام جاز لهم أن يأكلوا منه مجتمعين . وقد كان الرجل يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه ، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام . فرخّص لهم القرآن الكريم وأباح لهم الأكل حتى ولو كان بعضهم أشهى نفساً ، وأوسع معدة . وقد دلّ على هذا قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعاً . ونحو هذا قوله تعالى عن أصحاب الكهف { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } [ الكهف : 19 ] .
فكان الورِق ( الفضة ) لهم جميعاً . والطعام بنهم فاستجازوا أكله وهذا ما يسميه الفقهاء ( المناهدة ) وهي الشركة التي يفعلها الناس في الأسفار .
الحكم الخامس : هل تقطع اليد في السرقة من بيت المحارم؟
قال ابو بكر الجصّاص رحمه الله في كتابه « أحكام القرآن » : « قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع؛ لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ، ودخولها من غير إذنهم ، فلا يكون ماله مُحْرَزاً منهم .
فإن قيل : فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه ، لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه؟ قيل له : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له » .
أقول : الحدود تُدْرأ بالشبهات ، ولمّا كانت السرقة من بيت ذي الرحم المحرم ، وبينهما هذه القرابة القوية وهي ( قرابة الرحم ) فقد وجدت الشبهة ، فلا قطع حينئذٍ وإنما فيه التعزير والله تعالى أعلم .
الحكم السادس : هل الآية الكريمة منسوخة بآية الاستئذان؟
ذهب بعض المفسّري إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } [ النور : 27 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » والصحيح أنها غير منسوخة وهو رأي جمهور المفسّري ومذهب الإمام أبي بكر الجصّاص والرازي وغيرهما . وقد قال أبو بكر : ليس في ذلك ما يوجب النسخ ، لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها - أي من أهل الأعذار والأقارب - وقوله { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } [ النور : 27 ] في سائر الناس غيرهم ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » فإنه في غير هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة والله أعلم .(1/410)
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - رفع الحرج عن أهل الأعذار في ترك الجهاد أو في الأكل من بيوت الناس .
ثانياً - إباجة الأكل من بيوت الأقارب للمؤانسة والمباسطة التي تكون في العادة بينهم .
ثالثاً - حق الصداقة عظيم ولذلك رخّص الله في الأكل من بيت الصديق بغير إذنه .
رابعاً - جواز الشركة في الطعام والأكل مع بقية الشركاء مجتمعين أو متفرقين .
خامساً - ضرورة التقيد بآداب الإسلام ومنها السلام على أهل المنزل عند الدخول .
سادساً - تحية المسلم لأخيه المسلم شرعها الباري جلّ وعلا وهي بلفظ السلام عليكم ورحمة الله .
سابعاً - الأحكام التي شرعها الله لعباده المؤمنين فيها خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدراين .
حكمة التشريع
حرّم الله تعالى الاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل ، فلا يجوز لإنسان أن يأكل مال غيره إلاّ بإذنه ، وبطيب نفسٍ منه كما قال صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » وقال صلى الله عليه وسلم : « كلُّ المسلم على المسلم حرام : دمُه ، ومالُه ، وعرضُه » .
وقد أباح الباري جلّ وعلا للإنسان أن يأكل من بيت أقاربه بدون إذن ، وهم الذين سمّاهم في كتابه العزيز وعدّد أصنافهم وهم ( الآباء ، الأمهات ، الإخوان ، الأخوات ، الأعمام ، العمات ، الأخوال ، الخالات ) وذلك لما بين هؤلاء من صلة الرحم ، ولأنه يستدعي المحبة والوداد والوئام ، فإنَّ أكل الإنسان من بيت أقربائه ، يقوّي أواصر القرابة ، ويزيل الكُلْفة ، ويدعو إلى المؤانسة والانبساط .
كما أباح الأكل من بيت الصديق بدون إذن أيضاً ، لأن الصداقة بمنزلة القرابة؛ وحق الصديق على صديقه عظيم وكبير ، وكم من صديق أنفع من أخٍ قريب . وقد قيل في الأمثال : « ربّ أخٍ لك لم تلده أمّك » .
ولهذا رخّص المولى جلّ ثناؤه بالأكل من بيوت الأصدقاء . وجعلهم في عداد الأقرباء ، حتى تدوم الألفة ، وتتمكن الصداقة والمودّة . وتتقوى روابط ( الأخوّة الدينيّة ) بين المسلمين ، وذلك من أغراضالشريعة الإسلامية ، وأهدافها الإنسانية السامية . وصدق الله : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] .
وقد أمر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ، عند دخولهم لبيوت الآخرين ، أن يبدءوهم بالتحية والسلام . فذلك من الآداب الإجتماعية الرفيعة . التي دعا إليها الإسلام . وأمر بإشاعة السلام لأنه تحية المؤمن وشعار الإسلام . وهو طريق المحبة بين المؤمنين . الذي يربط بين أفراد الأمة الإسلامية . كما قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم » .
وقد كان أهل الجاهلية إذا لقي الرجل منهم صديقه أو أخاه . يقول له : أنعم صباحاً ، أو أنعم مساءً . وأنعم الله بك عيناً إلخ . فجاء الإسلام بما هو خير وأزكى وأطهر . جاءهم بالتحية المباركة الطيبة ، بلفظ كريم لطيف « السلام عليكم ورحمة الله » وهذه التحية شرعها الله لعباده كما قال تعالى : { فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً } والسلام اسم من أسماء الله تعالى فلا يليق بالمسلم أن يدع هذه التحية إلى تحية الجاهلية . أو ما شابهها من ألفاظٍ مستحدثة كقولهم : احترماتي ، تحياتي . صباح الخير ، إلى غير ما هنالك من ألفاظ وعبارات ليس فيها ذلك المعنى اللطيف أو المغزى الدقيق الذي قصد إليه الإسلام ، دين الإنسانية الخالد .(1/411)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
سورة لقمان
[ 1 ] « طاعة الوالدين » أو « بر الوالدين »
التحليل اللفظي
{ الحكمة } : الإصابة في القول والعمل . وأصل الحكمة : وضع الشيء في موضعه قال تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] .
قال الرازي : الحكمة عبارة عن التوفيق بين العلم والعمل ، فكلّ من أوتي توفيق العلم بالعمل فقد أوتي الحكمة .
وفي « اللسان » : أحكم الأمر : أتقنه ، ويقال للرجل إذا كان حكيماً : قد أحكمته التجارب ، والحكيم : المتقن للأمور . وقد كان لقمان حكيماً على الرأي الراجح ولم يكن نبياً .
{ غَنِيٌّ } : مستغنٍ عن الخلق ليس بحاجة إلى أحد ، والعبادُ محتاجون إليه جلّ وعلا { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد } [ فاطر : 15 ] .
{ حَمِيدٌ } : فعيل بمعنى ( مفعول ) أي محمود يحمده أهل السماء وأهل الأرض .
قال أبو السعود : ( حميد ) أي حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد ، والمعنى أنه تعالى مستحق للحمد سواء شكره الناس أو لم يشكروه .
{ يَعِظُهُ } : العظة والموعظة بمعنى ( النصيحة ) و ( الإرشاد ) بالأسلوب الحكيم { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] . وفي حديث العرباض بن ساريه ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظةٍ ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب . . . . ) .
{ وَهْناً } : مصدر وَهَن بمعنى ضعف ، والوهن الضعف ، وفي التنزيل { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] .
قال الزجّاج : ( وهناً على وهنٍ ) أي ضعفاً على ضعف ، والمعنى : لزمها بحملها إيّاه أن تضعف مرة بعد مرة ، فلا يزل ضعفها يتزايد من حين الحمل إلى الولادة ، لأن الحمل كلما عظم ازدادت به ثقلاً وضعفاً . ثم هي في أصل خلقتها ضعيفة البنية والحمل يزيدها ضعفاً .
{ وفصاله } : فطامه ، والفِصال : يراد منه ترك الإرضاع ، وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة ، وأما الفصل فهو أعمّ منه ، لأنه يستعمل في الرضاع وغيره ، وقيل : هما بمعنى واحد .
قال في « اللسان » : والفصال : الفطام ، قال تعالى : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
وفصلت المرأة ولدها أي فطمته ، وفي الحديث ( لا رضاع بعد فصال ) قال ابن الأثير : أي بعد أن يفصل الولد عن أمه ، وبه سُمّي الفصيل من أولاد الإبل ، فعيل بمعنى مفعول .
ومعنى الآية : أي فطامه يتم في انقضاء عامين .
{ المصير } : المرجع والمآب قال تعالى : { وَإِلَيْهِ المصير } [ المائدة : 18 ] أي الرجوع والمآب ، وصِرْت إلى فلان مصيراً ، قال الجوهري : وهو شاذ والقياس مَصَار مثل معاش ، وفي كلام الفَزَاري لعمه ( ابن عنقاء ) : ما الذي أصارك إلى ما أرى يا عم؟ قال : بخلك بمالك ، وبخل غيرك من أمثالك ، وصوني أنا وجهي عن مثلهم وتسآلك!
{ جاهداك } : أي بذلا أقصى ما في وسعهما من أجل حملك على الإشراك بالله ، يقال : جاهد أي بذل جهده قال تعالى :(1/412)
{ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] والجهاد المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة ، ولهذا يسمى المحارب ( مجاهداً ) لأنه يبذل ماله ونفسه وروحه في سبيل الله . فهو قد بذل كل ما لديه قال الشاعر :
يقولونَ جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ ... وأي جهادٍ غيرهنّ أريد؟
{ مَعْرُوفاً } : أي صاحبهما مصاحبة بالمعروف ، والمعروف ما يستحسن من الأفعال .
{ أَنَابَ } : أي رجع إلى ربه وتاب إليه ، والمنيب : الراجع إلى ربه ، السالك طريق الاستقامة ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ سبأ : 9 ] .
قال الطبري : وقوله { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتّبع محمداً صلى الله عليه وسلم .
المعنى الإجمالي
نبّه الباري جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى المقام الرفيع الذي أُعطيه العبد الصالح ( لقمان ) . . وذكّر بحق الوالدين ، وحذّر من الشرك ، الذي هو أعظم الجرائم عند الله ، فالله جلّ ثناؤه يخبرنا عن أمر ذلك العبد الصالح ، الذي رزقه الله الحكمة ، وآتاه العقل والرشد ، فكان ينطق بالحكمة ويعلّمها الناس .
وقد عدّد سبحانه وتعالى بعض هذه النصائح ، التي أوصى بها ( لقمان الحكيم ) ولده ، وكان من أهمها وأخطرها ، التحذير من ( الكفر والإشراك ) لأنه نهاية القبح والشناعة { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] .
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اذكر يا محمد لقومك . موعظة لقمان لابنه ، وهو أشفق الناس عليه ، وأحبّهم لديه ، حين نبَّهه إلى خطر الشرك بالله ، وجحود نعمائه .
وحذّره من ضرره ، لأنه ظلم صارخ ، وعدوان مبين ، لما فيه من وضع الششيء في غير موضعه . فمن سوّى بين الخالق والمخلوق ، وبين الإله الرازق ، والصنم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يغني عن صاحبه شيئاً . فهو - بلا شك - أحمق الناس . وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة . وحريّ به أن يوصف بالظلم ، ويجعل في عداد البهائم .
وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم ، وذكر ما في الشرك من الشناعة . أتبعها سبحانه بوصيةٍ مستقلةٍ عن وصايا لقمان ألا وهي ( الوصية بالوالدين ) ليشير إلى قبح الشرك ، ويؤكد حكمة الرجل الصالح ( لقمان ) لابنه في نهيه عن الشرك فكأنه تعالى يقول : مع أننا أوصينا الإنسان بوالديه ، وأمرناه بالعطف عليهما ، والإحسان إليهما ، وألزمناه طاعتهما لما تحملا في سبيله من المتاعب والمصاعب ، مع كل هذا فقد حذَّرناه من طاعتهما في حالة الشرك والعصيان ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فالوضع السليم بين ( الأب وابنه ) هي الطاعة والإحسان ، وامتثال كمال الأدب مع من ربّاه وتعب في شأن تربيته .
{ وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فإذا تغيّر الوضع ، وأصبح الأب والأم مدعاةً للشرك ، ومصدراً للعصيان ، فلا سمع ولا طاعة ولا استجابة لصوت الضلال ، مهما بذلا من جهدٍ ، ومع كل ذلك فقد ختم الله جلّ ثناؤه الآية الكريمة بوجوب صحبتهما بالمعروف والإحسان إليهما في الدنيا حتى ولو كانا مشركَيْن ، لأنّ حقهما على ولدهما عظيم ، وكفرُهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمّلاها في تربية الولد ، فالإحسان إليهما واجب ، وطاعتهما في معصية الله ممنوعة ، واتباع سبيل المؤمنين الصادقين هو الطريق السوي الذي يوصل إلى رضوان الله تعالى .(1/413)
سبب النزول
روى الحافظ ( ابن كثير ) في تفسيره عن ( سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه أنه قال : ( كنتُ رجلاً براً بأمي ، فلما أسلمتُ ، قالت يا سعد : ما هاذ الدين الذي أراك قد أحدثت! لتَدَعن دينك هذا ، أو لا آكل ، ولا أشرب ، حتى أموت فتعيّر بي ، فيقال : يا قاتل أمه ، فقلتَ لها : يا أمّهْ لا تفعلي ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء أبداً ) !!
قال : فمكثتْ يوماً وليلة ولم تأكُلْ ، فأصبحتْ وقد جَهِدت ، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتدّ جهدها . . فلما رأيتُ ذلك جئتُ إليها فقلت : يا أُمّهْ ، تعلمينَ واللَّهِ ، فإن شئتِ فكلي وإن شئت فدعي . . فلما رأت صلابته في دينه أكلت فأنزل الله عز وجلّ { وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ . . . } الآية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذَكَرَ اللَّه سبحانه وتعالى في الوصية ( أمر الوالدين ) ثمّ نوّه بشأن الأم خاصة ، فهو من باب ذكر ( الخاص بعد العام ) لزيادة العناية والاهتمام ، ولبيان أن حق الأم على الولد أعظم من حق الأب ، وقوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } هذه جملة اعتراضية .
قال الزمخشري : في « الكشاف » : فإن قلت : قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } كيف اعترض به بين المفسَّر والمفسِّر؟ قلتُ : لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ والمتاعب ، في حملة وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً ، ومن ثمّ قال بعد ذلك : أباك .
وروي عن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره ، وهو يقول في حدائه : ( أحمل أمي وهي الحمّالة ، ترضعني الدرّة والعُلاَلة ، ولا يُجَازَى والدٌ فِعَاله ) .
اللطيفة الثانية : حين أمر سبحانه بشكر الوالدين قدّم شكره تعالى على شكرهما فقال { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وفي هذا التقديم إشارة إلى أن حقّ الله أعظم من حق الوالدين ، وشكره أوجب وألزم ، لأنه تعالى هو المنعم الحقيقي ، المتفضل على عباه بالنعم ، وشكر الوالدين جزء من شكر المنعِم ، والله جلّ وعلا هو السبب الحقيقي في الخلق والايجاد ، والوالدان سبب ظاهري ، فينبغي أن يُقدَّم السبب الحقيقي على السبب الظاهري .
اللطيفة الثالثة : تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر فقوله تعالى : { إِلَيَّ المصير } وقوله { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } تقدّم الجار والمجرور على المتعلّق به فأفاد معنى الحصر والمعنى : إليّ المرجع والمآب لا إلى غيري ، وإليّ مرجع الخلائق جميعاً لا إلى أحدٍ سواي .(1/414)
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { فِي الدنيا } ذكرُ الدنيا في الآية الكريمة ، فيه إشارة إلى ( تهوين ) أمر الصحبة ، وتقليل مدتها لأنها في أيام قلائل ، وشيكة الزوال والانقضاء ، فلا يصعب على الإنسان تحمّلها .
ولقد أحسن من قال :
دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له ... إنّ الحياةَ دقائقٌ وثواني
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } في الآية الكريمة إشارة إلى سلوك طريق الصالحين والاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين . وفسّره بعضهم بأن المراد بقوله تعالى : { وَهْناً على وَهْنٍ } هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أي أتّبع سبيله في الإيمان لأن إسلام ( سعد ) كان بسببه .
والصحيح كما قال الألوسي : أنها عامة تعمُ كل من اتصف بهذا الوصف .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { وَهْناً على وَهْنٍ } قراءة الجمهور بسكون الهاء ، وقرأ الضحاك وعاصم { وَهْناً على وَهْنٍ } بفتح الهاء فيهما .
2- قوله تعالى : { وفصاله فِي عَامَيْنِ } قرأ النخعي والأعمش { وفَصَاله } بفتح الفاء ، والجمهور بكسرها ، وقرأ الحسن وأبو رجاء { وفَصْله } بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف .
3- قوله تعالى : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] قراءة الجمهور بفتح الياء على تقدير { يا بُنَيّا } والاجتزاء بالفتحة عن الألف ، وقرأ البزي { يَا بْنِي } بالسكون ، وقرأ بعضهم { يا بُنَيِّ } بكسر الياء مع التشديد .
وجوه الإعراب
1- قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لقمان } إذْ ظرف متعلق بفعل مقدر ، وتقديره : إذكر إذ قال لقمان ، و ( لقمان ) ممنوع من الصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان ، وعمران ، ويجوز أن يكون أعجمياً ، فلا ينصرف للعجمة والتعريف .
2- قوله تعالى : { وَهُوَ يَعِظُهُ } وهناً : حال من الفاعل ، والمعنى حملته أمُمه ذات وهن أو واهنة ، وهذا اختيار أبي حيّان والزمخشري .
والمصدر يأتي ( حالاً ) بكثرة كما قال ابن مالك :
ومصدرٌ منكّرٌ حالاً يقع ... بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع
واختار ابن الأنباري أن يكون منصوباً بنزع الخافض وتقديره : حملته أمه بوهنٍ ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه .
والأرجح الأول لعدم احتياجه للتأويل بخلاف الثاني .
4- قوله تعالى : { أَنِ اشكر للَّهِ } قال الزجّاج : هي في موضع نصب على حذف حرف الجر ، وتقديره ، بأن اشكر ، وقيل ( أنْ ) مفسّرة بمعنى ( أيْ ) كقوله تعالى : { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } [ ص : 6 ] قال النحّاس : والأجود أن تكون مفسّرة .
5- قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } انتصب ( معروفاً ) على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : صحاباً معروفاً أو بنزع الخافض والتقدير : وصاحبهما بالمعروف .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي مدة الرضاع المحرِّم؟
استدل الفقهاء على أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم هو سنتان بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وفصاله فِي عَامَيْنِ } فإنّ المراد بالفصال الفطام فتكون السنتان هي تمام مدة الرضاع .(1/415)