اليتيم } أي: بل [هناك] (1) شر من هذا القول، وهو أن الله يكرمهم بكثرة المال فلا يؤدون ما يجب عليهم من إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين.
قرأ أبو عمرو: "يكرمون" و"يحضون" و"يأكلون" و"يحبون" بالياء فيهن، على لفظ الغيبة؛ لتقدم ذكر الإنسان الذي هو اسم للجنس. وقرأ الباقون: بالتاء فيهن (2) ، على الخطاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أرسل إليه. على معنى: قل لهم يا محمد كذا وكذا.
وقرأ الكوفيون: "تَحَاضُّونَ" بألف قبل الضاد (3) ، ويمدُّون الألف لسكونها وسكون أول المشدد، أصله: يتحاضضون، أي: يحضّ بعضكم بعضاً ويحرّضه على إطعام المسكين، فحذفوا إحدى التائين طلباً للخفة، وأدغموا الضاد في الضاد.
قوله تعالى: { ويأكلون التراث } أي: تراث اليتيم، وهو ميراثه.
قال ابن قتيبة (4) : التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واو، كما قالوا: تُجَاه، والأصل: وُجَاه.
{ أكْلاً لَماً } شديداً.
__________
(1) ... في الأصل: هذاك. والتصويب من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (4/121)، والحجة لابن زنجلة (ص:762)، والكشف (2/372)،
... والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:685).
(3) ... الحجة للفارسي (4/122)، والحجة لابن زنجلة (ص:763)، والكشف (2/372)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:685).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:527).(1/668)
قال الزمخشري (1) : أكْلاً ذا لَمّ، وهو الجمع من الحلال والحرام. يعني: أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم.
وقيل: كانوا لا يورِّثون النساء والصبيان، ويأكلون تُراثَهم مع تُراثِهم.
{ ويحبون المال حباً جماً } أي: يحبون جمعه حباً كثيراً مع الشَّرَه والحرص ومنع الحقوق.
Hxx. إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ
__________
(1) ... الكشاف (4/754).(1/669)
وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي اجةب
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ لهم عن ذلك.
ثم توعدهم وأخبرهم بما تؤول إليه حالهم من الحسرة، وتمني ما لا سبيل لهم إلى تداركه، من تقديم الإنفاق في سُبُل الخير والعمل الصالح فقال: { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } أي: مرّة بعد أخرى (1) بالزلازل، حتى يتحطَّم ما عليها من شيء.
وقال ابن قتيبة (2) : دُقَّت جبالها وأنشازُها حتى استوَت.
{ وجاء ربك } (3) مذكور في البقرة عند قوله: { إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } [البقرة:210].
__________
(1) ... في ب: مرة.
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:527).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: { والملك } . وستأتي بعد.(1/670)
{ والملك } يريد: الملائكة { صفاً صفاً } أي: يأتي [أهل كل] (1) سماء صَفّاً على حِدَة.
[قال] (2) الضحاك: [يكونون] (3) سبعة صفوف (4) .
{ وجيء يومئذ بجهنم } قال مقاتل (5) : يُجاء بها فتُقام عن يسار العرش.
[وأخرج] (6) مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [يجرّونها] (7) " (8) .
{ يومئذ يتذكّر الإنسان } أي: يتّعظ.
وقيل: يتذكّر ما فرّط فيه.
{ وأنّى له الذكرى } لا بد فيه من إضمار، تقديره: وأنّى له منفعة الذكرى. ولولا هذا الإضمار لتنافى صدر الآية وعجزها.
{ يقول يا ليتني قدمت لحياتي } [أي: قدمت لحياتي] (9) هذه، وهي حياة
__________
(1) ... في الأصل: كل أهل. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: وقال. والمثبت من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/485)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/121).
(5) ... تفسير مقاتل (3/465).
(6) ... في الأصل: أخرج. والمثبت من ب.
(7) ... في الأصل: يجرنها. والتصويب من ب، وصحيح مسلم (4/2184). ...
(8) ... أخرجه مسلم (4/2184 ح2842).
(9) ... زيادة من ب.(1/671)
الآخرة.
{ فيومئذ لا يُعذب عذابه أحد } أي: لا يُعذّب مثل عذاب الله أحد من الخلق ولا يستطيع ذلك.
{ ولا يوثق وثاقه أحد } وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري للكسائي من جميع طرقه، ولعاصم من رواية المفضل عنه، وليعقوب الحضرمي: "يُعذَّبُ" و"يُوثَق" (1) بفتح الذال [والثاء] (2) ، والضمير للإنسان، على معنى: لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه.
ويجوز أن يكون المعنى: لا يحمل عذاب الإنسان أحدٌ سواه، كما قال: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام:164].
قوله تعالى: { يا أيتها النفس المطمئنة } قال ابن عباس: المطمئنة بالإيمان (3) .
وقال مجاهد: الراضيةُ بقضاء الله، التي علمت أن ما أصابها لم يكن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/123)، والحجة لابن زنجلة (ص:763)، والكشف (2/373)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:439)، والسبعة (ص:685).
(2) ... في الأصل وب: والتاء.
(3) ... ذكره الطبري (30/192)، والواحدي في الوسيط (4/486) كلاهما بلا نسبة.
... وأخرج الضياء المقدسي في المختارة (10/124-125) عن ابن عباس في قوله: { يا أيتها النفس المطمئنة } أي: المؤمنة. وذكر أيضاً هذا المعنى: الماوردي (6/272)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/123)، والسيوطي في الدر (8/513) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة.(1/672)
ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها (1) .
قال قتادة: الموقنة بما وعد الله (2) .
فإن قيل: متى يقال لها ذلك؟
قلتُ: عند خروجها من الدنيا (3) .
وفي الحديث (4) : "أن هذه الآية قرئت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر الصديق: إن هذا لحَسَنٌ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أما إن المَلَك سيقولها لك عند الموت" (5) .
وقال عبدالله بن عمر: إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عز وجل ملكين وأرسل إليه بتُحفة من الجنة فيقال: أُخرجي أيتها النفس المطمئنة، أُخرجي إلى روحٍ وريحانٍ، وربٍ عنك راضٍ، فتخرجُ كأطيب ريح مسك وَجَدَه في
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/487).
(2) ... أخرجه الطبري (30/190)، وابن أبي حاتم (10/3431). وذكره السيوطي في الدر (8/515) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... في هامش ب: قلت: وقيل: يقال لها ذلك عند البعث. وقيل: عند دخولها الجنة. والقائل لها إما الله أو مَلَك.
(4) ... في هامش ب: هو من مراسيل ابن جبير. ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو عنده عن ابن عباس بلفظ آخر وهو: "نزلت وأبو بكر جالس فقال: ما أحسن هذا؟ فقال: أما إنه سيقال لك هذا" هذا لفظه.
(5) ... أخرجه الطبري (30/191)، وابن أبي حاتم (10/3430)، وأبو نعيم في الحلية (4/283-284). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/513) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير.
... قال ابن كثير (4/512): وهذا مرسل حسن.(1/673)
أنفه (1) . وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال عطاء وعكرمة والضحاك: يقال لها ذلك عند البعث، حين يأمر اللهُ الأرواحَ أن تعود إلى الأجساد (2) .
ويؤيده قراءة ابن مسعود: "في جسد عَبْدِي" (3) ، وقراءة ابن عباس: "فادخلي في عَبِيدِي" (4) .
وقيل: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
وقال الحسن: المعنى: ارجعي إلى ثواب ربك راضية بما أوتيت، مرضية عند ربك (5) .
{ فادخلي في عبادي } أي: في جملة عبادي الصالحين، منتظمة في سلكهم، { وادخلي جنتي } معهم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/487).
(2) ... أخرجه الطبري (30/191). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/123).
(3) ... انظر هذه القراءة في: القرطبي (20/58).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (30/192)، وزاد المسير (9/124) وفيهما: "عبدي". ولم أجد ما ذكر المصنف من قراءة ابن عباس.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/124).(1/674)
سورة البلد
ijk
وهي عشرون آية (1) . وهي مكية بإجماعهم.
Iw أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:274).(1/675)
وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ اتةب
قال الله تعالى: { لا أقسم بهذا البلد } وقرأ عكرمة ومجاهد وأبو عمران وأبو العالية: "لأقسم" (1) . وقد ذكرنا توجيه القراءتين في أول القيامة.
أقسم الله تعالى بالبلد الحرام، وهو مكة شرفها الله تعالى، وبما بعده، على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاقّ والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: { وأنت حِلٌّ بهذا البلد } .
واختلفوا في معنى : "وأنت حِل" ؛ فقال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين: المعنى: وأنت يا محمد في المستقبل من الزمان، ونظيره : { إنك ميت وإنهم ميتون } [الزمر:30] حلال بهذا البلد، تصنع فيه ما تشاء، من قتل وأسر، فيكون خارجاً مخرج البشارة له، بأنه سيفتح عليه، فيكون [فيه] (2) حِلاًّ، فظهر أثر ذلك يوم الفتح، وأحله له ساعة من النهار، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة، وغيرهما (3) . ثم قال: "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/126).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (30/194)، وابن أبي حاتم (10/3432). وذكره السيوطي في الدر (8/516) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس.(1/676)
تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار" (1) .
ويحتمل عندي على هذا القول: أن تكون الواو في "وأنْتَ" حاليّة، فيكون مُقْسِماً بالبلد الحرام على أكمل أوصافه، وأحسن أحواله، مُطهَّراً من الأصنام وعابديها، مُحَلَّى بزينة أهل الإيمان، فإنه لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعن فيها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" (2) ، وأذّن بلال على الكعبة رافعاً صوته بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله"، فنال منهم ذلك كل منال، وأعزّ الله دين الإسلام في ذلك اليوم، وأذلّ سلطان الشرك.
وقيل: المعنى: وأنت حِلٌّ عند المشركين، يستحلون أذاك وقتلك وإخراجك، ويحرّمون قتل الصيد.
فإن قيل: ما فائدة الاعتراض بقوله: { وأنت حِلٌّ بهذا البلد } على ما قاله المفسرون؟
قلتُ: فائدته على القول الأول: ما أشرتُ إليه من البشارة بأنه سيُفتح عليه هذا البلد العظيم، الذي وقع القسم به، ويَحكم فيه وعلى أهله بما يشاء.
وفائدته على القول الآخر: ذَمُّ المشركين حيث استحلوا مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - في بلد من شأنه أن الله أقسم به، والإعلام بأن مثله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا البلد الحرام ما خلا من مكابدة الشدائد، فيكون ذلك خارجاً مخرج التقرير والتحقيق لما أقسم
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1567 ح4059).
(2) ... أخرجه البخاري (2/876 ح2346) من حديث عبدالله بن مسعود.(1/677)
الله عليه من خلق الإنسان في كبد.
فإن قيل: هلاّ اكتفى بالكناية عن البلد فقال: "وأنت حِلٌّ به"؟
قلتُ: كرره تفخيماً لشأنه (1) ، كقول الشاعر:
لا أرَى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا (2)
قوله تعالى: { ووالد وما ولد } قال الحسن ومجاهد وقتادة: آدم وذريته (3) .
وقال أبو عمران الجوني: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما (4) .
قال بعض العلماء (5) : فيكون قد أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرمُ أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه.
__________
(1) ... قوله: "لشأنه" ساقط من ب.
(2) ... تقدم.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:758)، والطبري (30/195-196)، وابن أبي حاتم (10/3433). وذكره السيوطي في الدر (8/519) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبراني (30/196)، وابن أبي حاتم (10/3433) ولفظهما: إبراهيم وما ولد. وذكره السيوطي في الدر (8/519) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. ولفظه كلفظ ابن أبي حاتم.
(5) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/758).(1/678)
وقيل: هو عام في كل والد وما ولد (1) .
وقوله: { لقد خلقنا الإنسان } جواب القسم، وهو اسم جنس، عند ابن عباس وعامة المفسرين (2) .
وقال مقاتل (3) : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه أذنب ذنباً، فاستفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره أن يُكفّر فقال: لقد ذهب مالي في النفقات والكفارات منذ دخلت في دين محمد.
وقال ابن زيد: آدم عليه السلام (4) .
وقال الحسن: يعني: أبا الأشدين (5) ، وهو رجل من بني جمح، كان كثير المال، شديد القوة، عظيم الخَلْق، يظن لذلك أن لن يقدر عليه الله ولا يُعاقبه.
وقيل: الوليد بن المغيرة (6) .
والصحيح: الأول، وأنه اسم جنس.
ولا منافاة بين ذلك وبين [النزول على] (7) ما نُقل من السبب.
__________
(1) ... وهو اختيار الطبري (30/196) قال: لأن الله عمّ كل والد وما ولد، وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه، فهو على عمومه كما عمّه.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/128).
(3) ... تفسير مقاتل (3/485).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/129).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/128).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/129) حكاية عن الثعلبي.
(7) ... زيادة من ب.(1/679)
وقوله: { في كبد } من قولهم: كَبدَ الرجل كَبَداً فهو أكْبَد؛ إذا وجِعتْ كبدُه وانتفخَت (1) ، فاتُّسعَ فيه حتى استُعمل في كل تعبٍ ومشقة، ومنه اشتُقَّت: المكابدة، وأنشدوا قول لبيد:
يا عينُ هلاّ بكيتِ أرْبَدَ إذْ ... ... [قُمْنَا] (2) وقَامَ الخُصُومُ في كَبَد (3)
أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
قال عمر رضي الله عنه: يُكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما (4) .
وقال الحسن: لا أعلم خليقة تُكابد من الأمر ما يُكابد هذا الإنسان (5) ، لا يزال يُكابد أمراً حتى يُفارق الدنيا (6) ، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: كبد).
(2) ... في الأصل: قنا. والتصويب من ب. وانظر: مصادر البيت.
(3) ... البيت للبيد بن ربيعة، من قصيدة يرثي بها أخاه أربد. وهو في: اللسان (مادة: كبد، عدل)، والخصائص (2/205، 3/318)، والأغاني (17/60، 68)، والعين (5/333)، والطبري (30/198)، والقرطبي (9/297، 20/62)، والماوردي (6/276)، والبحر (8/468)، والدر المصون (6/525).
(4) ... ذكره الماوردي (6/276) عن ابن عمر، وابن الجوزي في زاد المسير (9/129) عن الحسن.
(5) ... أخرجه الطبري (30/197)، وابن المبارك في الزهد (ص:78). وذكره السيوطي في الدر (8/520) وعزاه لابن المبارك.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/489).(1/680)
وقال في رواية أخرى: يكابد مضايق الدنيا، وشدائد الآخرة (1) .
قوله: { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } أي: أيظن الذي نزل ما نزل بسببه -وهو الحارث-، أن لن يقدر عليه أحد.
قال قتادة: أيظن أني لا أسأله عن هذا المال من أين اكتسبه، وأين أنفقه؟ (2) .
أو هو أبو الأشدين، على معنى: أيظن هذا الصنديد الشديد لاستحكام خلقه، واشتداد قوته، أني لا أقدر على الانتقام منه (3) .
[وكان] (4) يقوم على الأديم العكاظي ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا يُنزع إلا قَطْعاً، ويبقى موضع قدميه (5) .
{ يقول أهلكت مالاً لبداً } يريد: كثرة ما أنفقه.
قال ابن قتيبة (6) : هو المال المتلبد، كأن بعضه على بعض.
وقرأ أبو بكر الصديق وعائشة وأبو عبد الرحمن وقتادة: "لُبَّداً" بتشديد الباء. وبها قرأتُ لأبي جعفر (7) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3433). وذكره السيوطي في الدر (8/520) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (6/276)، والواحدي في الوسيط (4/490).
(3) ... انظر: الطبري (30/198).
(4) ... في الأصل: وكا. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/759).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:528).
(7) ... النشر (2/401)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:439). وانظر: زاد المسير (9/131).(1/681)
وقرأ عثمان بن عفان والحسن ومجاهد: بضم الباء واللام من غير تشديد (1) .
وقرأ علي وأبو الجوزاء: بكسر اللام وفتح الباء مخففة (2) .
وقرأ أبو عمران وأبو المتوكل: "لُبْداً" بتخفيف الباء وتسكينها (3) .
فقراءة الجمهور جمع: لُبْدَة، بضم اللام، وقراءة الصِّدِّيق ومن تابعه جمع: لابد، مثل: راكع ورُكَّع، وقراءة عثمان ومن وافقه جمع: لبُود، وقراءة علي رضي الله عنهم أجمعين جمع: لِبَدَة، بكسر اللام.
فإن قلنا: هو الحارث، فالمعنى ظاهر على ما ذكرناه من قوله في سبب النزول.
وإن قلنا هو أبو الأشدين، فالمعنى: يقول أهلكت مالاً لبداً في عداوة محمد.
{ أيحسب أن لم يره أحد } حين أنفق ما أنفق حتى يُكذّب ويتزيّد في قوله: لقد [ذهب] (4) مالي في النفقات، وفي (5) عداوة محمد، كأنه كان يفتخر بذلك، ويتّخذ به يداً عند المشركين.
وهذا [التقرير] (6) والتحرير وتهذيب المعاني على مُساوقة الأقوال،
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:439). وانظر: زاد المسير (9/131).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/131).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... في الأصل: هب. والتصويب من ب.
(5) ... في ب: أو في.
(6) ... في الأصل: التقدير. والمثبت من ب.(1/682)
وكيفية ارتباط الاعتراض بقوله: "وأنت حِلٌّ" بالقسم وجوابه، وتحرير كون الواو في "وأنت حِلٌّ" حاليّة، فلا يكون حينئذ اعتراضاً، كل ذلك مما عقلْتُه فقلته، لا مما وجدته فنقلته.
ثم ذكّره الله سبحانه وتعالى نِعَمَهُ عليه ليعتبر، فذلك قوله تعالى: { ألم نجعل له عينين } يبصر بهما المرئيات.
{ ولساناً وشفتين } يُترجم بهما عن ضميره، ويستعين بهما على كثير من مصالحه.
{ وهديناه النجدين } سبيل الخير والشر (1) .
وقيل: الثديين (2) . على معنى: ألهمناه الارتضاع منهما. والقولان عن ابن عباس.
والأول قول علي عليه السلام، والحسن البصري، وجمهور المفسرين. والثاني قول سعيد بن المسيب والضحاك وقتادة (3) .
ںxsù اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/200). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/132).
(2) ... أخرجه الطبري (30/201)، وابن أبي حاتم (10/3434). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/132)، والسيوطي في الدر (8/522) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
(3) ... انظر: الطبري (30/201)، وابن أبي حاتم (10/3434).(1/683)
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ اثةب
قوله تعالى: { فلا اقتحم العقبة } الاقتحام: الدخول بشدة. وقد فسرناه في(1/684)
صاد (1) .
والعقبة: مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.
وقال الحسن: عقبةٌ والله شديدةٌ، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان (2) . وهذا معنى قول قتادة وابن زيد وكثير من المفسرين، وإليه ميلُ أهل المعاني.
وللمفسرين في العقبة أقوال:
أحدها: [أنها] (3) جبل في جهنم. قاله ابن عمر (4) .
الثاني: سبعون [دركة] (5) في جهنم. قاله كعب الأحبار (6) .
الثالث: عقبة دون الجسر. يُروى عن الحسن (7) .
فإن قيل: العرب لا تكاد تتكلم بصيغة "لا" الداخلة على الماضي إلا مكررة، كقوله: { فلا صدّق ولا صلى } [القيامة:31]، فما لها لم تتكرر هاهنا؟
__________
(1) ... عند الآية رقم: 59.
(2) ... ذكره الماوردي (6/278).
(3) ... في الأصل: أنه. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (30/201)، وابن أبي حاتم (10/3434)، وابن أبي شيبة (7/118 ح34640). وذكره السيوطي (8/522) وعزاه لابن أبي شيبة والطبري وابن أبي حاتم.
(5) ... في الأصل: درجة. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (30/202)، وابن أبي حاتم (10/3435). وذكره السيوطي في الدر (8/523) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/134).(1/685)
قلتُ: هي مكررة في المعنى؛ لأن معنى: { فلا اقتحم العقبة } : لا فَكَّ رقبة، ولا أطْعَمَ مسكيناً. فكأنه قال: لا فعل ذا ولا ذا ولا ذا. قاله الفراء والزمخشري (1) ، وأشار إليه الزجاج (2) .
قوله تعالى: { وما أدراك ما العقبة } قال سفيان بن عيينة: كل ما فيه "وما أدراك" فقد أخبره به، وكل ما فيه "وما يدريك" فإنه لم يخبره به (3) .
قوله تعالى: { فَكُّ رقبة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "فَكَّ" بفتح الكاف، "رقبةً" بالنصب، "أو أطْعَمَ" على صيغة الفعل الماضي، على الإبدال من قوله: "اقتحم العقبة". وقرأ الباقون: "فَكُّ" بضم الكاف، "رقبةٍ" بالجر على الإضافة، "أو إطعامٌ" (4) ، على معنى: هي فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة.
ومعنى فك الرقبة: تخليصها من أسْر الرقّ.
وفي الحديث: "أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! علمني عملاً يُدخلني الجنة. قال: إن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال: أو ليسا واحداً؟ قال: لا، عتق النسمة: أن تنفرد
__________
(1) ... معاني الفراء (3/265)، والكشاف (4/759).
(2) ... معاني الزجاج (5/329).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/134).
(4) ... الحجة للفارسي (4/124)، والحجة لابن زنجلة (ص:764)، والكشف (2/375)، والنشر (2/401)، والإتحاف (ص:439)، والسبعة (ص:686).(1/686)
بعتقها. وفك الرقبة: أن تُعين في ثمنها" (1) .
قوله تعالى: { ذي مسغبة } أي: مجاعة.
ووصف اليوم بالمجاعة نحو قولهم: همٌّ ناصبٌ، وليلٌ نائمٌ، ونهارٌ صائمٌ.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: "ذا مسغبة" (2) ، على معنى: أطعم في يوم من الأيام شخصاً ذا مجاعة.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من موجبات المغفرة: إطعام السغبان" (3) .
قوله تعالى: { يتيماً ذا مقربة } أي: ذا قرابة.
قال الزجاج (4) : تقول: زيد ذو قرابتي، وذو مقربتي. وزيد قرابتي قبيح؛ لأن القرابة: المصدر. قال الشاعر:
يبكْي الغريبُ عليه ليسَ يعرفُه ... وذوا قَرابتِهِ في الحيِّ مسرُور (5)
{ أو مسكيناً ذا متربة } يقال: تَرِبَ الرجل؛ إذا افتقر، وأترب؛ إذا استغنى، أي: صار ذا مال كالتراب في الكثرة (6) .
والمعنى هاهنا: قد لصق بالتراب من فقره وضُرّه.
__________
(1) ... أخرجه أحمد (4/299)، والحاكم (2/236 ح2861)، والدارقطني (2/135 ح1). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/240): رواه أحمد، ورجاله ثقات.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:439).
(3) ... أخرجه الحاكم (2/570 ح3935)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/216 ح3363).
(4) ... معاني الزجاج (5/329-330).
(5) ... انظر البيت في: روح المعاني (8/143، 30/138)، والإصابة (5/115).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: ترب).(1/687)
قال ابن عباس: هو المطروحُ في التراب لا يقيه شيء (1) .
وقال مجاهد: المطروح في الطريق ليس له بيت (2) .
وقال الضحاك: كثير العيال (3) .
أخبرنا القاضي أبو القاسم عبدالصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع في ذي القعدة سنة تسع وستمائة بجامع دمشق قال: أخبرنا أبو محمد عبدالكريم بن حمزة بن الخضر السلمي الحداد، أخبرنا أبو محمد عبدالعزيز بن أحمد بن محمد الكتاني الحافظ، أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد بن عبدالله بن جعفر بن الجنيد الرازي الحافظ، حدثنا يوسف بن القاسم [بن] (4) سوار، أخبرنا علي بن العباس بن الوليد المقانعي، حدثنا [الحسين] (5) بن نصر بن مزاحم، حدثنا خالد بن عيسى العكلي، عن حصين بن أبي عبدالرحمن، عن مسعر بن كدام، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن رجاء بن حيوة، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/570)، والطبري (30/204)، وابن أبي حاتم (10/3435). وذكره السيوطي في الدر (8/525) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم.
(2) ... أخرجه الحاكم (30/205). وذكره السيوطي في الدر (8/525) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد. وانظر: تفسير مجاهد (ص:760-761).
(3) ... أخرجه الطبري (30/206).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل و ب: الحسن. والتصويب من الفوائد (2/178).(1/688)
يقول: "لا تبخلن على إخوانكم بذات [أيديكم] (1) ، يُمسك الله ما في يديه عنكم، فإن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، فلا تمنعوهم المعونة بأنفسكم، أو المشي في حوائجهم، فيحجب الله دعاءكم، فإن من القرابة القريبة غداً عند الله والزلفى لديه: إطعام الرجل منكم أخاه الجائع السغبان، ومن الوسيلة إلى ربكم غداً: أن يكسو أحدكم أخاه ثوباً، فيكسوه الله عز وجل من خضر الجنة غداً، وإن من مقدمات الخير بكم إلى ربكم أن يسقي أحدكم أخاه، ويرويه من الماء البارد، يسقيه الله عز وجل من الرحيق المختوم، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } " (2) .
قوله تعالى: { ثم كان من الذين آمنوا } (3) فيه إعلام أنَّ فَكَّ الرقبة وإطعامَ الجائع، إنما ينفع مع الإيمان والعمل الصالح، وهو أداء الفرائض.
{ وتواصوا بالصبر } على طاعة الله وعن معصيته { وتواصوا بالمرحمة } بالعطف والتراحم فيما بينهم.
وقيل: بما يؤدي إلى الرحمة، وهو الثبات على الإيمان وشرائعه.
{ أولئك } الذين هذه صفتهم { أصحاب الميمنة } مُفسّر في الواقعة (4) ، وكذلك { أصحاب المشأمة } .
__________
(1) ... في الأصل: أيدكم. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه تمام الرازي في كتاب الفوائد (2/178).
(3) ... في الأصل و ب زيادة قوله: { وعملوا الصالحات } وهو خطأ. وموضعها في سورة العصر.
(4) ... عند الآية رقم: 7 و 8.(1/689)
قوله تعالى: { عليهم نار مؤصدة } قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: "مُؤْصَدَة" بالهمز.
وقرأ الباقون بغير همز (1) ، ومثله في الهُمَزَة (2) .
فمن جعله من قولهم: آصَدتُ الباب، أي: أطبقته، فهو أفْعَلْتُ، وفاء الفعل فيه همزة ساكنة، أُبدل منها ألف، فتثبت همزة في [اسم] (3) المفعول، وهو "مؤصدة"، أي: مُطْبَقَة.
ومن لم يهمز جعله من: أوصدتُ الباب، بمعنى: أطبقته أيضاً، ففاء الفعل في هذه اللغة واو، فلا يهمز [اسم] (4) المفعول، إذ لا أصل له في الهمز. ويؤيد ذلك: إجماعهم على ترك الهمز في قوله: { بالوصيد } [الكهف:18]، ولو كان من المهموز لكان: "بالأصيد"، فهما لغتان بمعنى.
ويجوز على قراءة من لم يهمز: أن يكون قد أبدل من الهمزة واواً؛ لانضمام ما قبلها على أصل تخفيف الهمزة الساكنة.
قال مقاتل (5) : أبوابُها عليهم مُطبقة، فلا يُفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. والله أعلم.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/125-126)، والحجة لابن زنجلة (ص:766)، والكشف (2/377)، والنشر (1/395)، والإتحاف (ص:439)، والسبعة (ص:686).
(2) ... عند الآية رقم: 8.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: واسم. والتصويب من ب.
(5) ... تفسير مقاتل (3/487).(1/690)
سورة الشمس
ijk
وهي خمس عشرة آية مكية (1) .
ؤ÷KO±9$#ur وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:275).(1/691)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قال الله تعالى: { والشمس وضحاها } أقسم الله تعالى بجرم الشمس، وبضوئها إذا [أفرط] (1) في الاستنارة، وذلك عند ارتفاع الشمس.
وقيل: الضَّحْوُ: ارتفاع النهار، والضُّحى فوق ذلك.
والضَّحاء -بالفتح والمد-: إذا امتد النهار وَكَرَبَ (2) أن [ينتصف] (3) .
قوله تعالى: { والقمر إذا تلاها } قال مجاهد: ساواها (4) .
قال الزجاج (5) : إذا استدار، فكان يتلو الشمس في الضياء والنور.
قال غيره: وذلك في الليالي البيض.
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: تلاها بمعنى: تبعها (6) .
ثم في ذلك ثلاثة أقوال:
__________
(1) ... في الأصل: فرط. والتصويب من ب.
(2) ... في هامش ب: كرب معناه: قرب.
(3) ... في الأصل: يتنصف. والمثبت من ب. وانظر: اللسان (مادة: ضحا).
(4) ... ذكره الماوردي (6/281)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/138).
(5) ... معاني الزجاج (5/331).
(6) ... أخرجه الطبري (30/208) عن مجاهد، وابن أبي حاتم (10/3436)، والحاكم (2/571 ح3938) كلاهما عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (8/528، 529) وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس. ومن نفس الطريق من رواية عكرمة عزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/692)
أحدها: أنه في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس، تلاها القمر في الإضاءة. قاله ابن زيد (1) .
الثاني: أنه أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس يُرى القمر عند سقوطها. قاله قتادة (2) .
الثالث: أنه في الخامس عشر [من] (3) الشهر يطلع القمر مع غروب الشمس. قاله الطبري (4) .
قوله تعالى: { والنهار إذا جلاها } الكناية للشمس، والنهار يُجَلِّيها غاية التَّجَلِّي عند انبساطه وارتفاعه. وهذا قول مجاهد (5) .
وقال جمهور المفسرين: الكناية للظلمة.
قال الزجاج (6) : المعنى يدل على الظلمة وإن لم يَجْرِ لها ذكْر، كما تقول: أصبحتْ باردةً، تريد: أصحبتْ غَداتُنا باردة.
قوله تعالى: { والليل إذا يغشاها } أي: إذا يغشى الشمس فتغيب وتُظلم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/208). وذكره الماوردي (6/282).
(2) ... أخرجه الطبري (30/208)، وابن أبي حاتم (10/3437). وذكره السيوطي في الدر (8/529) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(4) ... تفسير الطبري (30/208). وذكره الماوردي (6/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/138).
(5) ... وهو اختيار الطبري (30/208). ذكره الماوردي (6/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/138).
(6) ... معاني الزجاج (5/332).(1/693)
الآفاق.
قوله تعالى: { والسماء وما بناها } و"ما" هاهنا موصولة، وكذلك: "وما طحاها، وما سواها".
قال عطاء: يريد: الذي بناها (1) .
وقال ابن السائب: ومن بناها (2) . وهو مذهب عامة المفسرين واللغويين.
ويؤيده قراءة أبي عمران: "ومن بناها، ومن طحاها، ومن سواها" (3) . وقد قررنا هذا في غير موضع.
وقال الفراء والزجاج (4) : "ما" مصدرية، تقديره: والسماء وبنائها، والأرض وطحوها.
قال صاحب الكشاف (5) : وليس بالوجه؛ لقوله: { فألهمها } ، وما يؤدي إليه من فساد النظم.
قوله تعالى: { والأرض وما طحاها } قال أبو عبيدة (6) : طحاها: بسطها من كل جانب.
قال ابن قتيبة (7) : يقال: [خيرٌ] (8) طاحٍ، أي: كثيرٌ متّسع.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/495).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/139).
(4) ... معاني الزجاج (5/332).
(5) ... الكشاف (4/762).
(6) ... مجاز القرآن (2/300).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:529).
(8) ... في الأصل و ب: خبر. والتصويب من زاد المسير (9/139).
... وفي تفسير غريب القرآن: حيٌّ.(1/694)
قوله تعالى: { ونفس وما سواها } قال الحسن: يريد: نفس آدم (1) .
وقال عطاء: يريد: جميع ما خلق من الجن والإنس (2) . وهو الصحيح؛ لدلالة ما بعده من التفصيل بقوله: "قد أفلح"، "وقد خاب" عليه.
قال صاحب الكشاف (3) : إن قلت: لم نكّرت النفس؟
قلتُ: فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد نفساً خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم، كأنه قال: وواحدة من النفوس.
والثاني: أن يريد كل نفس، ويُنَكَّرُ للتكثير، على الطريقة المذكورة في قوله: { علمت نفس } [التكوير:14].
وقد حُكيت في قوله: { علمت نفس } فاطلبه هناك.
وقد سبق معنى التسوية في قوله: { فسواك فعدلك } [الانفطار:7].
قوله تعالى: { فألهمها فجورها وتقواها } الإلهام في اللغة: إيقاع الشيء في النفس.
قال ابن زيد: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/283)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/139).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/495)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/139).
(3) ... الكشاف (4/763).(1/695)
للفجور (1) . وهذا هو التفسير الذي تقتضيه لغة العرب، وهو اختيار الزجاج والواحدي وأبي الفرج ابن الجوزي (2) .
ويؤيده ما روي في الحديث: "أن النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ هذه الآية رفع صوته قائلاً: اللهم! ألهم نفسي تقواها، أنت [وليها] (4) ومولاها، وأنت خير من زكّاها" (5) .
وقال ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة: بَيَّنَ لها الخير والشر (6) .
وقال في رواية أبي صالح: عَرَّفَها ما تأتي وما تتّقي (7) .
وقال مجاهد: أعْلَمَها (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/210). وذكره الواحدي في الوسيط (4/495)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/140).
(2) ... معاني الزجاج (5/332)، والوسيط للواحدي (4/495)، وزاد المسير لابن الجوزي (9/140).
(3) ... في ب: رسول الله.
(4) ... في الأصل: ولويها. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/106 ح 11191) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/138): "إسناد حسن". وذكره السيوطي في الدر (8/529) وعزاه للطبراني وابن المنذر وابن مردويه.
... وأصله عند مسلم (4/2088 ح2722) بلفظ: "... اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها".
(6) ... أخرجه الطبري (30/210)، وابن أبي حاتم (10/3436). وذكره السيوطي في الدر (8/528) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/495).
(8) ... ذكره الماوردي (6/283).(1/696)
وجواب القسم: "قد أفلح". والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حُذفت؛ لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها (1) .
وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف (2) .
قال غيره (3) : تقديره: ليُدَمْدِمَنَّ الله عليهم لتكذيبهم رسول الله، كما دَمْدَمَ على ثمود لتكذيبهم صالحاً. وأما "قد أفلح" فكلامٌ تابعٌ لقوله: { فألهمها فجورها وتقواها } على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
وقال ابن عباس: معناه: قد أفلحت نفس زكاها الله تعالى، وأصلحها وطهّرها. والمعنى: وفّقها للطاعة. وقد خابت نفسٌ أضلّها الله وأغواها (4) .
وقال الحسن وقتادة وابن قتيبة (5) : المعنى: قد أفلح من زكَّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال (6) .
{ وقد خاب من } أثمها وفجرها، و { دسّاها } أصله: دسّسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلوا من السين الثانية تاء، كما قال:
__________
(1) ... هو قول الزجاج في معانيه (5/331).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/141).
(3) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/764).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/497).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:530)، وتأويل مشكل القرآن (ص:344).
(6) ... أخرجه الطبري (30/211). وذكره الماوردي (6/284) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (9/141).(1/697)
.......................... ... تَقَضِّي البَازي إذا البازي كَسَرْ (1)
ومعناه: تقضّض، فكأن المتنظف بارتكاب الفواحش دَسَّ نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شَهَرَ نفسه ورفعها.
ôMt/Ox. ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا اتخب
قوله تعالى: { كذبت ثمود بطغواها } الباء هاهنا مثلها في قولك: كتبت بالقلم، وضربت بالسيف. والطَّغْوى: اسم من الطغيان، كالدعوى من الدعاء.
[قال] (2) الزجاج (3) : أصل طغواها: طغياها. وفَعْلَى إذا كانت من ذوات
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... في الأصل: وقال. والمثبت من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/333).(1/698)
الياء، أُبدلت في الاسم واواً؛ لتفصل بين الاسم والصفة، تقول: هي التقوى، وإنما هي: من تقيت، وقالوا: امرأة خزياً؛ لأنه صفة.
وقال الفراء (1) : أراد بطغواها: طغيانها، وهما مصدران، إلا أن الطغوى أشكلُ برؤوس الآيات، فاختير لذلك.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: اسمُ العذاب الذي جاءها: الطغوى، فقال: { كذبت ثمود بطغواها } أي: بعذابها (2) .
وقرأ الحسن: "بطُغواها" بضم الطاء (3) ، كالحُسنى والرُّجعى في المصادر.
قوله تعالى: { إذ انبعثَ } أي: انتدب، وهو منصوب بـ"كذبت" أو "بطغواها"، { أشقاها } قدار بن سالف عاقر الناقة، أشقى الأولين، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي عليه السلام: "من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة، قال: صدقت. قال: من (4) أشقى الآخرين؟ قال: قلت: لا أعلم يا رسول الله، قال: الذي ضربك على هذه، وأشار بيده إلى يافوخه" (5) .
وفي لفظ آخر: "الذي يخضب منك هذه من هذه، ووضع يده على قرنه
__________
(1) ... معاني الفراء (3/267).
(2) ... أخرجه الطبري (30/213). وذكره السيوطي في الدر (8/531) وعزاه لابن جرير.
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:440).
(4) ... في ب: فمن.
(5) ... أخرجه الطبراني في الكبير (8/38 ح7311)، وأبو يعلى في مسنده (1/377 ح485).(1/699)
ولحيته" (1) .
قوله تعالى: { ناقةَ الله } نصب على التحذير (2) ، كقولك: الأسدَ الأسدَ.
وقال الزجاج (3) : هو منصوب، على معنى: ذروا ناقة الله، كما قال: { هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله } [الأعراف:73].
قال الفراء (4) : { وسقياها } عطف على: "ناقة الله"، وهي شربها من الماء. على معنى: لا تتعرّضوا للماء يوم شربها.
{ فكذبوه } فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا { فعقروها } مذكور في الأعراف (5) .
{ فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } قال عطاء ومقاتل (6) : فدمّر عليهم ربهم.
قال [المؤرج] (7) : الدَّمْدَمَة: إهلاك باستئصال (8) .
وقال الزجاج (9) : معنى: دَمْدَمَ عليهم: أطبق عليهم العذاب، يقال:
__________
(1) ... أخرجه البزار (4/254 ح1424). وذكره الواحدي في الوسيط (4/499).
(2) ... انظر: التبيان (2/287)، والدر المصون (6/532).
(3) ... معاني الزجاج (5/333).
(4) ... انظر: معاني الفراء (3/268)، والوسيط (4/499).
(5) ... عند الآية رقم: 77.
(6) ... ذكره مقاتل في تفسيره (3/489)، والواحدي في الوسيط (4/500).
(7) ... في الأصل: المؤرخ. والمثبت من ب.
(8) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/500)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/143).
(9) ... معاني الزجاج (5/333).(1/700)
[دَمَّمْتُ] (1) على الشيء؛ إذا أطبقتُ عليه، فإذا كررت الإطباق قلت: دَمْدَمْتُ عليه (2) .
والمعنى: فسوّى الدمدمة عليهم وعمّهم، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم.
وقال مقاتل (3) : سوى بيوتهم على قبورهم، وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها، فلما صِيح بهم فهلكوا زُلزلت بيوتهم، فوقعت على قبورهم.
قوله تعالى: { ولا يخاف عقباها } أي: عاقبتَها وتبعتَها.
قرأ نافع وابن عامر: "فلا يخاف" وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون: بالواو (4) ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والكوفة والبصرة.
والمعنى: لا يخاف الله عقبى الدمدمة أو التسوية أو الفعلة.
قال ابن عباس والحسن: لا يخاف الله من أحد تَبعَةً في إهلاكهم (5) .
__________
(1) ... في الأصل: دمت. والمثبت من ب.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: دمم).
(3) ... تفسير مقاتل (3/489).
(4) ... الحجة للفارسي (4/129)، والحجة لابن زنجلة (ص:766)، والكشف (2/382)، والنشر (2/401)، والإتحاف (ص:440)، والسبعة (ص:689).
(5) ... أخرجه الطبري (30/215)، وابن أبي حاتم (10/3438). وذكره السيوطي في الدر (8/531) عن ابن عباس والحسن.(1/701)
فعلى هذا القول: الواو في "ولا يخاف" حالية، والحال من الضمير المرفوع في ["فسواها" أو من "فدمدم".
وقال الضحاك والسدي وابن السائب: لا يخاف الذي عقرها عقبى ما صنع (1) .
فعلى هذا الحال: من الضمير المرفوع في] (2) "فعقروها" أي: عقرها غير خائف، ونسب الفعل إلى الجميع؛ لرضاهم به وتماليهم عليه، أو يكون التقدير: انبعث أشقاها وهو لا يخاف.
وقال قوم: المعنى: ولا يخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح عقباها.
فعلى هذا الحال منه. ويجوز أن تكون الواو مقحمة.
ومن قرأ بالفاء كان التقدير -على قول ابن عباس-: فسوّاها الله فلا يخاف عقباها.
وعلى قول الضحاك: فكذبوه فعقروها فلا يخاف العاقر عقباها.
وعلى القول الثالث: يكون قد تبع قول الرسول عدم خوفه من عقبى مقالته أو نذارته.
والوجه الأول: هو الوجه الصحيح. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/215-216)، وابن أبي حاتم (10/3438). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/144)، والسيوطي في الدر (8/531) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لابن جرير.
(2) ... زيادة من ب.(1/702)
سورة الليل
ijk
وهي إحدى وعشرون آية مكية (1) .
ب@ّ©9$#ur إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:276).(1/703)
(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قال الله تعالى: { والليل إذا يغشى } قال ابن عباس: يغشى بظلمته النهار (1) .
وقال الزجاج (2) : يغشى الأفق، ويغشى جميعَ ما بين السماء والأرض.
{ والنهار إذا تجلى } ظهر بزوال ظلمة الليل.
قال قتادة: هما آيتان عظيمتان يُكورهما الله تعالى على الخلائق (3) .
قوله تعالى: { وما خلق الذكر والأنثى } القول في "ما" هاهنا كالقول في { وما بناها } [الشمس:5].
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول بن عيسى بن شعيب، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/501)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/145).
(2) ... معاني الزجاج (5/335).
(3) ... أخرجه الطبري (30/217). وذكره الواحدي في الوسيط (4/501).(1/704)
البخاري، حدثنا قبيصة بن عقبة (1) ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "دخلتُ في نفر من أصحاب عبد الله الشام، فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال: أفيكم من يقرأ؟ فقلنا: نعم. قال: فأيكم أقرأ؟ فأشاروا إليّ، فقال: اقرأ، فقرأت: { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى } قال: أنت سمعتها من صاحبك؟ قلت: نعم. قال: وأنا سمعتها من فِيّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهؤلاء يأبون علينا" (2) .
قال البخاري: وحدثنا عمر قال: حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: "قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم، فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قال: كلنا. قال: فأيكم أحفظ، فأشاروا إلى علقمة، قال: كيف سمعته يقرأ: { والليل إذا يغشى } ؟ قال علقمة: { والذكر والأنثى } قال: أشهد أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كذا، وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ: { وما خلق الذكر والأنثى } ، والله لا أتابعهم" (3) .
وفي المراد بالذكر والأنثى قولان:
أحدهما: أنه آدم وحواء. قاله الأكثرون.
والثاني: أنه عام. حكاه الماوردي (4) .
__________
(1) ... قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان بن عقبة بن ربيعة بن جنيدب بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي، أبو عامر الكوفي، كان ثقةً صدوقاً كثير الحديث، مات سنة خمس عشرة ومائتين (تهذيب التهذيب 8/312، والتقريب ص:453).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1889 ح4659).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1889 ح4660).
(4) ... تفسير الماوردي (6/287).(1/705)
وجواب القسم: { إن سعيكم لشتى } .
قال ابن عباس: إن أعمالَكم لمختلفة؛ عملٌ للجنة، وعملٌ للنار (1) .
وقال الزجاج (2) : سعيُ المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْد.
وفي سبب نزول هذه السورة قولان:
أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأبيّ بن خلف ببردةٍ وعشر أَوَاق، فأعتقه [لله] (3) عز وجل، فأنزل الله عز وجل هذه السورة إلى قوله: { إن سعيكم لشتى } يعني: سعي أبي بكر وأمية وأبيّ. قاله عبد الله بن مسعود (4) .
الثاني: أن رجلاً كانت له نخلة، فَرْعُها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا صعد النخلة يجتنيها، ربما سقطت منه التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته فيأخذ التمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه في فيه حتى يخرجها، فشكا ذلك الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : تُعطني نخلتك التي في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة، فقال الرجل: إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجبُ إليّ منها، ثم ذهب الرجل، فقال رجل ممن سمع ذلك الكلام: يا رسول الله! أتعطيني
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/502).
(2) ... معاني الزجاج (5/335).
(3) ... في الأصل: الله. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3440). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:478). وذكره السيوطي في الدر (8/534-535) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.(1/706)
نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم، فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال [له] (1) : أشعرت أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعطاني بها نخلة في الجنة؟ فقلت له: ما لي نخلة أعجب إليّ منها، فقال له: أتريد بيعها؟ قال: لا، إلا أن أعطى بها ما لا أظنه أعطى، قال: ما مُناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال: أنا أعطيك أربعين نخلة، وأشهد له أناساً، [ثم ذهب] (2) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن النخلة قد صارت في ملكي وهي لك، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صاحب الدار فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عز وجل: { والليل إذا يغشى } إلى قوله: { إن سعيكم لشتى } (3) .
وقال عطاء: الذي اشتراها من الرجل: أبو الدحداح، أخذها بحائط له (4) .
وهذا يُوهم أن السورة مدنية؛ لأن أبا الدحداح أنصاري حليف لهم، وقصته مدنية بغير شك، غير أن المنقول في التفاسير أنها مكية، ولم أرهم ذَكَروا في ذلك خلافاً. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: { فأما من أعطى واتقى } قال ابن مسعود وجمهور
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: فذهب. والمثبت من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3439-3440) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (8/532-533) وعزاه لابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:477).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/147-148).(1/707)
المفسرين: هو أبو بكر الصديق (1) .
قال ابن عباس: أعطى من فضل ماله (2) .
وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه (3) .
"واتقى": قال ابن عباس: اتقى ربه (4) .
وقال مجاهد: اتقى البخل (5) .
{ وصدق بالحسنى } أي: بالخصلة الحسنى.
قال ابن عباس في رواية عطية: صدّق بلا إله إلا الله (6) .
وقال في رواية عكرمة: صدّق بالخلف (7) .
__________
(1) ... ذكره الطبري (30/221)، والماوردي (6/287)، والواحدي في الوسيط (4/503)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/148).
(2) ... أخرجه الطبري (30/219)، وابن أبي حاتم (10/3440)، والبيهقي في الشعب (7/421-422 ح10825). وذكره السيوطي في الدر (8/535) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/149).
(4) ... أخرجه الطبري (30/219)، وابن أبي حاتم (10/3440)، والبيهقي في الشعب (7/422 ح10825). وذكره السيوطي في الدر (8/535) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(5) ... ذكره الماوردي (6/287)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/149).
(6) ... أخرجه الطبري (30/220). وذكره السيوطي في الدر (8/535) وعزاه لابن جرير.
(7) ... أخرجه الطبري (30/219)، وابن أبي حاتم (10/3440)، والبيهقي في الشعب (7/422 ح10825). وذكره السيوطي في الدر (8/535) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عكرمة عن ابن عباس.(1/708)
وقال مجاهد: صدّق بالجنة (1) .
وقال قتادة: صدّق بالثواب على عمله (2) .
{ فسنيسره لليسرى } أي: فسنُهيؤه ونُوفّقه ونُسهّل عليه أسباب الخير، حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه.
قال عروة بن الزبير: أعتق أبو بكر على الإسلام قبل أن يهاجر من مكة ست رقبات، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأم عُبيس، وزِنِّيرَة، فأُصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فردّ الله إليها بصرها، وأعتق النهديّة وابنتها، [وكانتا] (3) لامرأة من بني عبدالدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما تطحنان لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر: [حل] (4) يا أم فلان،
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:765)، والطبري (30/220). وذكره السيوطي في الدر (8/535) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (30/220)، وابن أبي حاتم (10/3440) ولفظهما: صدّق بموعود الله على نفسه.
(3) ... في الأصل و ب: وكانت. والتصويب من السيرة النبوية (2/161).
(4) ... في الأصل و ب: خلا. والتصويب من السيرة النبوية (2/161). وكذا وردت في الموضع التالي.
... ومعنى حل: يريد: تحللي من يمينك واستثني فيها.(1/709)
قالت: حِلّ، أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرّتان، ومر أبو بكر بجارية من بني نوفل وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذّبها لتترك دين الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملّ قال: إني أعتذر إليك، إني لم أترُكك إلا ملالة، فابتاعها أبو بكر رضي الله عنه (1) .
قوله تعالى: { وأما من بخل } قال ابن مسعود: أمية وأُبيّ ابنا خلف (2) .
وقال عطاء: صاحب النخلة (3) .
{ واستغنى } [عن] (4) ثواب الله فلم يرغب فيه.
{ وكذب بالحسنى } تفسيره على العكس من: { صدق بالحسنى } .
{ فسنيسره للعسرى } أي: فسنهيء له أسباب الشر.
قال مقاتل (5) : نُعَسِّرُ عليه أن يُعطي خيراً.
وقال ابن مسعود: ندخله النار (6) .
{ وما يغني عنه ماله إذا تَرَدَّى } قال ابن عباس: إذا تردّى في جهنم (7) .
__________
(1) ... سيرة ابن هشام (2/160-161).
(2) ... ذكره الماوردي (6/288)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/150).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/150).
(4) ... في الأصل: من. والمثبت من ب.
(5) ... تفسير مقاتل (3/492).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3440). وذكره الماوردي (6/288)، والسيوطي في الدر (8/535) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/504)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/150).(1/710)
وقال مجاهد: إذا مات فتردى في قبره (1) .
¨bخ) عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:765)، والطبري (30/225). وذكره السيوطي في الدر (8/536-537) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/711)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى اثتب
قوله تعالى: { إن علينا للهدى } قال الزجاج (1) : المعنى: إن علينا أن نبيّن طريق الهدى من طريق الضلال.
{ وإن لنا للآخرة والأولى } قال مقاتل (2) : مُلْكُ الدنيا والآخرة.
وقيل: ثواب الدارين.
ومعنى { تلظى } : تتوقَّد وتتوهَّج.
قوله تعالى: { لا يصلاها إلا الأشقى } [نارٌ] (3) مخصوصة لا يصلاها إلا أشقى الأشقياء؛ كأمية وأبيّ ابنا خلف. ويدل عليه قوله تعالى: { الذي يصلى النار الكبرى } .
{ وسيجنبها الأتقى } : أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وبهذه الآية مع انضمام قوله: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات:13] احتج جماعة من صناديد النُظَّار على تفضيل أبي بكر الصديق على غيره بعد النبيين.
وقال الزجاج (4) : وهذه [الآية] (5) التي من أجْلِها زعم أهلُ الإرْجَاء أنه لا
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/336).
(2) ... تفسير مقاتل (3/492).
(3) ... كلمة غير ظاهرة في الأصل. وفي ب سقط من هنا إلى قوله: أشقى. ولعلها كما أثبتناها.
(4) ... معاني الزجاج (5/336).
(5) ... زيادة من ب.(1/712)
يدخل النار إلا كافر، وليس كما ظنوا، هذه نارٌ مخصوصة (1) موصوفةٌ بعينها، [ولأهل النار منازل] (2) . فلو كان [كل] (3) من لا يشرك بالله لا يُعذب، لم يكن في قوله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء:48] فائدة.
قال أبو عبيدة (4) : والأشقى بمعنى: الشقي. وأنشد:
تمنى رجال ........... ... ... ...................
وقد سبق.
{ وسيجنبها الأتقى } أبو بكر الصديق رضي الله عنه (5) . قال الواحدي (6) : يعني: أبا بكر، في قول الجميع.
ثم وصفه فقال: { الذي يؤتي ماله يتزكى } يطلب أن يكون عند الله [زاكياً] (7) ، لا يطلب رياء ولا سمعة.
ولا محل لقوله: "يتزكى" من الإعراب إن جعلته بدلاً من "يؤتي"؛ لأنه داخل في حكم الصلة (8) . وإن جعلته حالاً فمحله: النصب (9) .
__________
(1) ... قوله: "مخصوصة" ساقط من ب.
(2) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج (5/336).
(3) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... مجاز القرآن (2/301).
(5) قوله: "أبو بكر الصديق رضي الله عنه" ساقط من ب.
(6) ... الوسيط (4/505).
(7) ... في الأصل: زكياً. والتصويب من ب.
(8) ... قال أبو حيان في البحر المحيط (8/479): وهو إعراب متكلف.
(9) ... ذكر هذين الوجهين الزمخشري في الكشاف (4/769). وانظر: الدر المصون (6/536).(1/713)
قوله تعالى: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } أي: لم يفعل ذلك مجازاة لِيَدٍ أُسديت إليه.
وروى عطاء عن ابن عباس: أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان يُعَذَّبُ، قال المشركون: ما فعل هذا إلا لِيَدٍ كانت لبلال عنده، فنزلت هذه الآية (1) .
قوله تعالى: { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } استثناء منقطع.
{ ولسوف يرضى } أبو بكر الصديق، لما ينال في الجنة من الكرامة عند الله تعالى، والزلفى لديه.
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:480)، والوسيط (4/505)، وزاد المسير (9/152).(1/714)
سورة الضحى
ijk
وهي إحدى عشرة آية مكية (1) .
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله (2) : اتفق المفسرون على أن هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعن الروح فقال: سأخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
الثاني: لقلة النظافة في بعض أصحابه.
الثالث: لأجل جروٍ كان في بيته. قاله زيد بن أسلم.
وفي مدة احتباسه عنه أقوال ذكرناها في مريم (3) .
4سyص'ز9$#ur (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:277).
(2) ... زاد المسير (9/154-155).
(3) ... عند الآية رقم: 66.(1/715)
قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ Wxح !%tو فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ں@ح !$،،9$# فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ اتتب
وفي الصحيحين من حديث جندب قال: "قالت امرأة من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى شيطانك إلا قد ودَّعك، فنزلت: { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " (1) .
والمرأة: هي أم جميل، امرأة أبي لهب.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1906 ح4698)، ومسلم (3/1422 ح1797).(1/716)
والمراد بالضحى: وقت الضحى، وهو صدر النهار.
وقال الفراء (1) : النهارُ كلُّه.
وقرَّره غيره بقوله: { أن يأتيهم بأسنا ضحى } (2) [الأعراف:98] في مقابلة قوله: { بياتاً } .
{ والليل إذا سجى } قال ابن عباس: أظلم (3) .
وقال قتادة: سكن (4) ، يعني: استقر ظلامه، فلا يزداد بعد ذلك.
وقال الأصمعي: سُجُوُّ الليل: تغطية النهار (5) .
وقال الزمخشري (6) : "سجى": سَكَنَ ورَكَدَ ظلامه.
وقيل: ليلةٌ ساجيةٌ: ساكنة الريح.
وقيل: معناه: سكون الناس والأصوات فيه. وسجا البحر: سكنت أمواجه. وطرفٌ ساجٍ: فاتر.
قوله تعالى: { ما ودعك ربك } جواب القسم. ومعناه: ما قَطَعَكَ قَطْعَ المودّع.
وقال أبو عبيدة (7) : "ما ودّعك": من التوديع، كما يُودّع المفارق.
__________
(1) ... معاني الفراء (3/273).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: { وهم } .
(3) ... ذكره الماوردي (6/291)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/156).
(4) ... أخرجه الطبري (30/230). وذكره السيوطي في الدر (8/541) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... انظر: لسان العرب (مادة: سجا)، والوسيط (4/508).
(6) ... الكشاف (4/770).
(7) ... مجاز القرآن (2/302).(1/717)
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو رحمهما الله ليعقوب [الحضرمي] (1) من رواية أبي حاتم عنه: "وَدَعَكَ" بالتخفيف، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) ، على معنى: ما تركك. كقول الشاعر:
وثمَّ وَدَعْنا آلَ عمْرٍو وعَامِرٍ ... ......................... (3)
{ وما قلى } أي: أبغض، يقال: قَلاَهُ يَقْلِيه قِلَىً.
قال الزجاج (4) : المعنى: وما قلاك، كما قال: { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [الأحزاب:35]، المعنى: والذاكراته.
ولما كان قوله: { ما ودعك ربك وما قلى } مؤذناً بمكانته عند الله، وأنه مُواصِلُهُ ومُحِبُّهُ، وهذا نهاية ما يكون من الكرامة (5) قال: { وللآخرة خير لك من الأولى } أي: ما أعددتُ لك فيها من الكرامة وقُرْب المنزلة أعظم وأكمل مما أعطيتك في الدنيا.
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } قال علي عليه السلام: هو الشفاعة في
__________
(1) ... في الأصل: الحرمي. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/157)، والدر المصون (6/537).
(3) ... صدر بيت، وعجزه: (فرائس أطراف المثقفة السمر). وهو في: البحر (8/480)، والدر المصون (6/537)، والقرطبي (20/94)، وروح المعاني (30/156)، والكشاف (4/770).
(4) ... معاني الزجاج (5/339).
(5) ... في ب: الإكرام.(1/718)
أمته حتى يرضى (1) .
وقيل: استعلاؤه وظهور دينه على سائر الأديان.
قوله تعالى: { ألم يجدك يتيماً فآوى } أي: ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، وعطفه عليك، حتى كنتَ آثَرَ عنده من ولَدِه.
{ ووجدك ضالاً } عن معالم النبوة وشرائع الدين { فهدى } أي: أرشدك إليها، كما قال: { ما كنت تدري من الكتاب ولا الإيمان } [الشورى:52].
وقال سعيد بن المسيب: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ميسرة -غلام خديجة- إلى الشام أخذ إبليس بزمام ناقته فَعَدَلَ به عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليسَ نفخةً وقع منها إلى الحبشة، وردَّه إلى القافلة، فامتنَّ الله عليه بذلك (2) .
وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَلَّ وهو صغير في شِعاب مكة، فردَّه الله على يدي عدوه أبي جهل إلى عمه (3) .
وقرأ الحسن بن علي عليهما السلام: "ووجدك ضَالٌ" بالرفع (4) ، على معنى: وجدك شخص ضَالٌّ فاهتدى بك، ويكون التنكير هاهنا للتكثير، كما قرّر في { علمت نفس } [التكوير:14].
{ ووجدك عائلاً } فقيراً، تقول: عال؛ إذا افتقر، وأعال؛ إذا كثر عياله (5) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/510)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/157).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/159).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/158).
(4) ... انظر هذه القراءة في: القرطبي (20/99).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: عول).(1/719)
وقد ذكرناه في براءة (1) .
{ فأغنى } أي: فأغناك بالقناعة وشرف النفس.
وقيل: فأغناك بمال خديجة.
وقيل: بما أفاء عليك من الغنائم.
قال عليه السلام: "جُعل رزقي تحت ظِلّ رُمحي" (2) .
قوله تعالى: { فأما اليتيم فلا تقهر } أي: لا تغلبه على ماله.
وقرأ ابن مسعود: "فلا تَكْهَر" (3) أي: لا تعبس في وجهه.
{ وأما السائل فلا تنهر } أي: لا تزجره، إما أن تعطيه، وإما أن ترده إلينا.
وقال جماعة من المفسرين: ليس بالسائل: المُسْتَجْدِي، ولكنه طالب العلم.
{ وأما بنعمة ربك فحدث } قال مجاهد: القرآن (4) .
وقيل: النبوة (5) .
وقال جماعة؛ منهم مقاتل (6) : هي عامة في جميع الخيرات.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 28.
(2) ... ذكره البخاري في صحيحه (3/1067).
(3) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (30/233)، والماوردي (6/295).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3444). وذكره السيوطي في الدر (8/545) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (30/233) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (8/545) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(6) ... لم أقف عليه في تفسير مقاتل. وانظر قول مقاتل في: زاد المسير (9/160).(1/720)
قال الحسن: إذا أصبتَ خيراً أو عملتَ خيراً فحدّث به الثقة من إخوانك (1) .
وإنما ندَبَ إلى التحديث بالنعم؛ إظهاراً للشكر.
قال مجاهد: قرأتُ على ابن عباس، فلما بلغت: { والضحى } قال: كَبِّرْ إذا ختمت كل سورة، حتى تختم (2) .
ويروى ذلك مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وهكذا قرأتُ على شيخنا أبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري اللغوي، هلّلتُ وكبّرتُ من أول سورة الضحى، ثم من أول كل سورة إلى آخر القرآن.
وقرأتُ عليه بالتهليل والتكبير في رواية أخرى من أول { ألم نشرح } .
وقرأتُ عليه في رواية أخرى بالتكبير من غير تهليل، وجميع [ذلك] (4) عن ابن كثير بالاسناد المذكور في آخر كتاب المستنير لابن سوار رحمه الله.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3444). وذكره الماوردي (6/295)، والسيوطي في الدر (8/545) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/513)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/160-161).
(3) ... أخرجه الحاكم (3/344 ح5325)، والبيهقي في الشعب (2/371 ح2079). وذكره السيوطي في الدر (8/539) وعزاه للحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
(4) ... زيادة من ب.(1/721)
سورة ألم نشرح
ijk
وهي ثماني آيات مكية (1) .
َOs9r& نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ارب
قال الله تعالى: { ألم نشرح لك صدرك } هذا استفهام في معنى التقرير،
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:277).(1/722)
أي: قد فعلنا ذلك.
والمعنى: فتحناه وفسحناه حتى احتمل أثقال النبوة، ودعوة الثقلين، والصبر عليهم، ووسِع ما استودعناك من العلم والحلم واليقين والرضا.
{ ووضعنا عنك وزرك } قال ابن عباس: حططنا عنك إثمك الذي سلف منك في الجاهلية (1) ، كقوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } [الفتح:2].
قال الزجاج (2) : { أنقض ظهرك } : أثقله حتى سمع له نقيض، أي: صوت. وهذا مَثَلٌ معناه: أنه لو كان حِمْلاً يُحمل لسُمِعَ نقيض ظهره.
وقيل: هذا إشارة إلى تخفيف أعباء النبوة عليه، وتسهيل نهوضه بها.
{ ورفعنا لك ذكرك } بما خصصناك به من أنواع الكرامة والفضل.
وروى أبو سعيد الخدري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية، فقال: قال الله عز وجل: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي" (3) .
قال قتادة: فليس خطيبٌ، ولا متشهّد، ولا صاحب صلاة، إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (4) . وهذا قول جمهور المفسرين.
وقيل: رفعنا لك ذكْرك في السماء (5) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/516)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/162).
(2) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قول الزجاج في: الوسيط (4/516).
(3) ... أخرجه ابن حبان في صحيحه (8/175 ح3382). وفي هامش ب: خرجه ابن حبان في صحيحه من حديثه.
(4) ... أخرجه الطبري (30/235)، وابن أبي حاتم (10/3445). وذكره السيوطي في الدر (8/548) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/164) حكاية عن الثعلبي.(1/723)
وقيل: بأخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا بك ويُقرّوا بفضلك (1) .
قوله تعالى: { فإن مع العسر يسراً } وجه ارتباطه بما قبله: أن المشركين أولِعُوا باحتقار الرسول والمؤمنين لأجل فقرهم، حتى قالوا: { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [الفرقان:8]، فقرَّرَه بهذه النعم الجسيمة المخصوصة به، ثم قال: { إن مع العسر يسراً } أي: إن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. المعنى: [فلا] (2) تيأسوا من فضلي.
ثم كرر ذلك فقال: { إن مع العسر يسراً } .
قال ابن عباس: يقول الله تعالى: خلقتُ عسراً واحداً وخلقتُ يُسْرَين، فلن يغلبَ عسرٌ يُسْرَين (3) .
وقال ابن مسعود: لو أن العسر دخل في جُحْر لجاء اليسر حتى يدخل معه، قال الله تعالى: { فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً } (4) .
ويحكى عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة [من الغم] (5) ، فألقي في روعي بيت شعر فقلت:
أرى الموتَ لمن أصبح ... مَغْمُوماً له رَوَّح
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... في الأصل: لا. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/517).
(4) ... أخرجه الطبري (30/236). وذكره السيوطي في الدر (8/551).
(5) ... زيادة من الوسيط (4/519)، وزاد المسير (9/166).(1/724)
فلما جَنَّ الليل سمعتُ هاتفاً يهتف من السماء، يقول:
ألا أيها المرءُ الـ ... ـذي الهَمُّ به بَرَّح
وقدْ أنشدَ بيتاً لم ... يزلْ في فِكْرِه يَسْنَح
إذا اشتدَّ بكَ [العسر] (1) ... فَفَكِّر في "ألمْ نَشْرَح"
فَعُسْرٌ بين يُسْرَين ... إذا أبْصَرْتَهُ فافرَح
قال: فحفظتُ الأبيات، وفرّج الله تعالى غَمِّي (2) .
فإن قيل: هذه الآثار وأقوال المفسرين متطابقة على أن العسر واحد واليسر اثنان، وفي ظاهر التلاوة عسران ويسران؟
قلتُ: هو عسرٌ واحد؛ لأنه مذكور بلفظ التعريف.
قال الفراء (3) : العربُ إذا ذكَرَت نكرة ثم أعادت بنكرةٍ مثلِها صارتا اثنتين، كقولك: إذا اكتسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفةً فهي هي، كقولك: إذا اكتسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول.
ونحو هذا قال الزجاج (4) : ذكَرَ العُسْرَ بالألف واللام، ثم ثنَّى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يُسْرين.
__________
(1) ... في الأصل: الأمر. والمثبت من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/519-520)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/165-166).
(3) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: زاد المسير (9/164).
(4) ... معاني الزجاج (5/341).(1/725)
وقال صاحب النظم: معنى الكلام: لا يَحْزُنْكَ ما يُعيّرك به المشركون من الفقر، فإن مع العسر يسراً عاجلاً في الدنيا، فأنجزه ما وعده بما فتح عليه. ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: { إن مع العسر يسراً } . والدليل على ابتدائه؛ تعرّيه من [الفاء و] (1) الواو، وهو وعدٌ لجميع المؤمنين؛ لأنه يعني بذلك: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسراً في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران؛ يُسْرُ الدنيا ويُسْرُ الآخرة (2) .
قال: وقوله: "لن يغلب [عسرٌ] (3) يسرين" أي: يُسْرُ الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: { فإذا فرغت فانصب } أي: فاتعب. يقال: نَصِبَ ينْصَبُ نَصْباً؛ إذا تَعِبَ (4) .
وهذا حثٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - على النَّصَبِ في العبادة؛ شكراً للذي أنعم عليه بشرح صَدْرِه، ووضع وِزْرِه، ورفع ذِكْرِه، وتبديل عُسْرِه بيُسْرِه.
قال ابن مسعود: إذا فرغتَ من الفرائض، فانصبْ في قيام الليل (5) .
وقال ابن عباس: إذا فرغتَ من الصلاة، فانصبْ في الدعاء (6) .
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (9/164).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/164).
(3) ... في الأصل: عسراً. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: نصب).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3446). وذكره السيوطي في الدر (8/551) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (30/236)، وابن أبي حاتم (10/3446). وذكره السيوطي في الدر (8/551) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.(1/726)
وقال الحسن: إذا فرغتَ من جهاد عدوك، فانصبْ في عبادة ربك (1) .
وقال مجاهد: إذا فرغتَ من أمر دنياك، فانصبْ في عمل آخرتك (2) .
وقال الشعبي: فإذا فرغتَ من التشهد، فادْعُ لدنياك وآخرتك (3) .
{ وإلى ربك فارغب } قال الزجاج (4) : اجعل رغبتك إليه وحده.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/237). وذكره الماوردي (6/299)، والسيوطي في الدر المنثور (8/552).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:768)، والطبري (30/237). وذكره الماوردي (6/299)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/167).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/521)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/167).
(4) ... معاني الزجاج (5/341).(1/727)
سورة التين
ijk
وهي ثماني آيات (1) . وهي مكية في قول عامة المفسرين.
ويروى عن ابن عباس وقتادة: أنها مدنية (2) .
بûüدnG9$#ur وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:279).
(2) ... انظر: الماوردي (6/300)، وزاد المسير (9/168).(1/728)
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ارب
قال الله تعالى: { والتين والزيتون } قال ابن عباس: هو تينكم هذا وزيتونكم (1) .
قال أهل التفسير: أقسم الله بهما؛ لامتيازهما بالفضل على سائر الثمار. فالتين فاكهة مستلذّة، خالصة من شوائب النُّغَص، [خالية] (2) من
العَجَم (3) ، الواحدة منه على مقدار اللقمة، إلى غير ذلك من منافعه الطيبة.
وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت، ومنافعه كثيرة جداً.
وقال كعب الأحبار: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس (4) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3448)، والحاكم (2/576 ح3951) كلاهما بلفظ: الفاكهة التي يأكلها الناس. وذكره السيوطي بلفظيهما في الدر المنثور (8/555) وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم.
(2) ... في الأصل: خالصة. والمثبت من ب.
(3) ... العَجَم -بالتحريك-: النَّوى. والعامة تقوله: عَجْم، بالتسكين (اللسان، مادة: عجم).
(4) ... أخرجه الطبري (30/239). وذكره السيوطي في الدر (8/555) وعزاه لابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر.(1/729)
قال قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس (1) .
وقال ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس (2) .
وقيل: التين: جبال ما بين حُلْوَان وهمذان، والزيتون: جبال الشام (3) .
قال بعض العلماء (4) : سُمّيا بذلك؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.
قوله تعالى: { وطور سينين } قال كعب وجمهور المفسرين: هو الجبل الذي كَلَّمَ الله تعالى عليه موسى (5) .
و"سينين" لغة في سيناء، وكذلك هو في قراءة علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، [وأبي الدرداء] (6) ، إلا أن الأوَّلَين فتحا السين (7) .
وقرأ الجحدري وأبو رجاء مثلَ قراءة العامة، إلا أنهما فتحا السين (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/239)، وابن أبي حاتم (10/3447). وذكره السيوطي في الدر (8/554) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر.
(2) ... أخرجه الطبري (30/239). وذكره الماوردي (6/300)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/169).
(3) ... هو قول الفراء. انظر: معاني الفراء (3/276).
(4) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/778).
(5) ... أخرجه الطبري (30/240). وذكره السيوطي في الدر (8/555) وعزاه لابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن كعب.
(6) ... في الأصل: وابن أبي الدرداء. والتصويب من ب.
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/170)، والدر المصون (6/543).
(8) ... مثل السابق.(1/730)
وقد ذكرنا معناه في { قد أفلح } (1) .
قال مقاتل (2) : كُلُّ جبلٍ فيه شجرٌ مُثمر [فهو] (3) سينين، وسيناء بلغة [النَّبط] (4) .
قوله تعالى: { وهذا البلد الأمين } يعني: مكة، يأمن فيه الخائف، وهو مِنْ أمِنَ الرجلُ يأمَنُ أمانةً فهو آمِن.
وجواب القسم قوله: { لقد خلقنا الإنسان } .
والصحيح: أنه اسم جنس.
{ في أحسن تقويم } أي: في أحسن صورة وأعدل هيئة.
قال ابن عباس: [منتصبُ] (5) القامة (6) .
قال المفسرون: خلق اللهُ كُلَّ ذي روح مكباً على وجهه، إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده (7) .
{ ثم رددناه } بعد امتداد قامته واشتداد قوته { أسفل سافلين } فصار عند
__________
(1) ... سورة المؤمنون، عند الآية رقم: 20.
(2) ... تفسير مقاتل (3/498) ولفظه: كل جبل لا يحمل الثمر لا يقال له سيناء. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/170).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: القبط. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: منصوب. والمثبت من ب.
(6) ... ذكره الماوردي (6/302)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/172).
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/524).(1/731)
الكبر [محدودب] (1) الظهر بعد الاعتدال، مُبْيَضَّ الشعر بعد الاسوداد، متقبّضَ الجلد بعد الانبساط، هَرِماً بعد شبابه، ضعيفاً بعد قوته، خَرِفاً بعد رصانة عقله ورزانة حلمه.
والسافلون: هم الضعفاء من الزمنى والأطفال والهرمى، واحدهم: سَفِيل، وسِفل، وسَافِل. قال المخبَّل:
لئن رُدِدتُ إلى النَّعْمَانِ ثانيةً ... إني إذاً لسفيلُ الجدِّ محرُوم
وقوله تعالى: { أسفل سافلين } نكرة تعمّ الجنس، كما تقول: فلان أكرم قائل، ولا تقول: أكرم القائل، إلا أن تجمع، فإذا جمعت وأردت [به] (2) المعرفة قلت: أكرم القائلين، وإن أردت النكرة قلت: أكرم قائلين. وهذا قول ابن عباس وعامة المفسرين.
وقال الحسن ومجاهد: ثم رددناه إلى النار (3) .
قال أبو العالية: إلى النار في [شر] (4) صورة، في صورة خنزير (5) .
__________
(1) ... في الأصل: محدوب. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (30/245)، وابن أبي حاتم (10/3448). وذكره السيوطي في الدر (8/556، 557) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... في الأصل: أشر. والمثبت من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (30/245)، وابن أبي حاتم (10/3449). وذكره السيوطي في الدر (8/557) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/732)
قال الواحدي (1) : والنار أسفل سافلين؛ لأن جهنم بعضها أسفل من بعض. والمعنى: ثم رددناه إلى أسفل سافلين.
ثم استثنى المؤمنين فقال: { إلا الذين آمنوا } وهو استثناء متصل، على قول الحسن ومجاهد، ومنقطع على قول غيرهما. على معنى: لكن الذين كانوا صالحين، من الهرمى، { فلهم أجر غير ممنون } .
قال عكرمة: من رُدَّ منهم إلى أرذل العمر، كُتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه (2) .
{ فما يكذبك } أيها الإنسان { بعد } أن [استنارت] (3) لك دلائل قدرتي على البعث بما تشاهده من تقلّب أحوالك، وآثار تصرفي فيك.
{ بالدين } أي: بالجزاء. أو فما يكذبك بعد أن تبيَّنْتَ قدرتي ودلائلَ وحدانيتي بديني، الذي هو دين الإسلام.
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } أي: بأقضى القاضين.
قال مقاتل (4) : هو يحكم بينك يا محمد وبين مُكَذِّبِيكَ.
وقيل: أليس الله بأحكم الحاكمين صُنْعاً [وتدبيراً] (5) .
وقد ذكرنا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله إذا ختم هذه السورة في آخر
__________
(1) ... الوسيط (4/524).
(2) ... أخرجه الطبري (30/244)، وابن أبي حاتم (10/3449). وذكره السيوطي في الدر (8/557) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... في الأصل: استنار. والتصويب من ب.
(4) ... تفسير مقاتل (3/499).
(5) ... في الأصل: وتقديراً. والمثبت من ب.(1/733)
القيامة.(1/734)
سورة القلم
(وتسمى سورة العلق)
ijk
وهي عشرون آية في المدني، وتسع عشرة في الكوفي (1) . وهي مكية بإجماعهم.
وقد أسلفنا أنها أول ما نزل من القرآن (2) إلى قوله: { ما لم يعلم } ، وباقيها نزل في أبي جهل، لعنه الله.
ù&tچّ%$# بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:280).
(2) ... وذلك في مقدمة الكتاب، وهي ضمن القسم المفقود من الكتاب.(1/735)
يَعْلَمْ (5)
قال الله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } قال صاحب الكشاف (1) : محل "باسم ربك": النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربك، قل: بسم الله، ثم اقرأ.
فإن قلت: ما باله لم يذكر مفعول "خلق"؟
قلتُ: إما أن يكون المعنى الذي حصل منه الخلق فلا يستدعي مفعولاً، وإما أن يكون المفعول محذوفاً، فتقديره: خلق كل شيء.
ثم خصَّصَ جنس الإنسان بالذكر؛ لشرفه، وكونه المخاطب بالتكاليف فقال: { خلق الإنسان من علق } .
وقوله: { من علق } على جمع علقة، تدل على إرادة جنس الإنسان.
قوله تعالى: { اقرأ } [تكرير] (2) توكيد. ثم استأنف فقال: { وربك الأكرم } أي: الذي لا نظير له في كرمه.
وفي قوله: { الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } عقيب قوله: { الأكرم } تنبيهٌ على أن إفادة العلم كرم محض، وتنبيهٌ على فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع التي لا يحيط بها علماً سوى الله عز وجل، وبه انتظام علم الدنيا والآخرة. وقد ذكرت في سورة "نون" طرفاً من فضائل القلم.
__________
(1) ... الكشاف (4/781).
(2) ... في الأصل: تكير. والتصويب من ب.(1/736)
ومن بديع ما سمعت فيه ما أنشدنيه صاحبنا أبو نصر بن عثمان بن خليفة الموصلي الحنبلي لنفسه:
أيُّها الصاحبُ الكريمُ ومنْ ... أصبحَ زيْنَ الكُتَّابِ والأصْحَاب
بيَرَاعٍ ريعَتْ له نُوبُ الدَّهْر ... وهانتْ به جميعُ الصِّعَاب
وإذا ما يشاءُ أمراً فلا يَحْفَلْ ... يوماً بالصَّارمِ القِرْضَاب
فهو يَجْزِي للأولياء بأرْيٍ ... ولأعدائه بشَرْيٍ وَصَاب
أقسمَ اللهُ باسمه وكَفَاهُ ... [مَفْخَرَاً] (1) إذْ أتى بنصِّ الكِتَاب
والمعنى: علّم الإنسان الكتابة بالقلم، علّم الإنسان من العلوم والصنائع ما لم يعلم.
Hxx. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ
__________
(1) ... في الأصل: فخراً. والمثبت من ب.(1/737)
كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) اتزب
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن الطغيان بالنعمة، وإن لم يُذكر؛ لدلالة الكلام عليه.
وعامة المفسرين يقولون: المعنى: حقاً.(1/738)
{ إن الإنسان } (1) يعني: أبا جهل { ليطغى } .
قال الكلبي: كان إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه، فذلك طغيانه (2) .
{ أن رآه استغنى } قال ابن قتيبة (3) : المعنى: أن رأى نفسه استغنى.
وقال غيره (4) : يقال في أفعال القلوب: رأيتني وعلمتني، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. و"استغنى" هو المفعول الثاني.
قال عبدالله بن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وصاحب الدنيا. أما طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان، ثم قرأ: { إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } (5) .
قال مقاتل (6) : ثم خوّفه الله تعالى بالرجعة فقال: { إن إلى ربك الرجعى } .
والرُّجْعَى: مصدر؛ كالبُشْرَى، بمعنى: الرجوع.
{ أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى } استفهام في معنى الإنكار، وتعجيب للمخاطب.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: "لفي خسر". وهو خطأ. وموضعه في سورة العصر.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/528)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/176) بلا نسبة.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:533).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/783).
(5) ... أخرجه الدارمي (1/108 ح332)، وابن أبي حاتم (10/3450). وذكره السيوطي في الدر (8/564) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... تفسير مقاتل (3/501).(1/739)
أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنْهَكَ عن هذا؟ فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فَزَبَرَهُ، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تبارك وتعالى: { فليدع ناديه * سندع الزبانيه } . قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله" (1) .
وقال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، فقيل له: ها هو ذاك يصلي، فانطلق ليطأ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتّقي بيديه، فأتوه فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال نبي الله: والذي نفسي بيده، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً، فأنزل الله عز وجل: { أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى } إلى آخر السورة (2) .
فتبين بهذا أن الناهي: أبو جهل.
والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته.
{ أرأيت إن كان على الهدى } قال عامة المفسرين: المعنى: أرأيت إن كان المنهي عن الصلاة على الهدى.
{ أو أمر بالتقوى } يعني: الإخلاص والتوحيد.
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/444 ح3349).
(2) ... أخرجه مسلم (4/2154 ح2797)، والنسائي (6/518 ح11683)، وأحمد (2/370 ح8817)، والطبري (30/256). وذكره السيوطي في الدر (8/565) وعزاه لأحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي.(1/740)
{ أرأيت إن كذب } الناهي أبو جهل { وتولى } عن الإيمان.
قال الفراء (1) : المعنى: أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى وهو كاذبٌ مُتَوَلٍّ عن الذِّكْر؟ فأيُّ شيء أعجب من هذا.
وقال ابن الأنباري: [التقدير: أرأيته مصيباً] (2) .
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى: أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما يَنْهَى عنه من عبادة الله، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب والتَّوَلِّي عن الدين الصحيح، كما [نقول] (4) نحن. { ألم يعلم بأن الله يرى } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد.
قال (5) : فإن قلت: ما متعلق "أرأيت"؟
قلتُ: "الذي ينهى" مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين.
فإن قلت: فأين جواب الشرط؟
قلتُ: هو محذوف، تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن الله يرى.
وإنما حَذَفَ لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
__________
(1) ... معاني الفراء (3/278).
(2) ... في الأصل: المعنى: أرأيته مصلياً. والمثبت من ب.
(3) ... الكشاف (4/783).
(4) ... في الأصل: تقول. والمثبت من ب، والكشاف (4/783).
(5) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/783-784).(1/741)
فإن قلت: كيف صحّ أن يكون "ألم يعلم" جواباً للشرط؟
قلتُ: كما صحَّ في قولك: إن أكرمتُكَ أتُكرمني؟ وإن أحسَنَ إليك زيدٌ هل تُحسن إليه؟.
فإن قلت: فما "أرأيت" الثانية وتوسطها بين مفعولي "أرأيت"؟
قلتُ: هي زائدة مكررة للتوكيد.
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ لأبي جهل عن نهيه عباد الله عن الصلاة.
ثم تهدده فقال: { لئن لم ينته } يعني: عن إيذاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ونهيه عن الصلاة { لنسفعاً بالناصية } أي: لنأخذنّ بناصيته ولنسحبنّه بها إلى النار.
والسَّفْع: القبض على الشيء وجَرُّه بشدة (1) . وأنشدوا قول عمرو بن معدي كرب:
قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُم ... مِنْ [بين] (2) مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سَافِع (3)
قوله تعالى: { ناصية } بدل من "الناصية"، وجاز بدل النكرة عن المعرفة؛ لأنها وصفت (4) .
والتقدير: لنسفعاً بناصيةٍ { كاذبة خاطئة } ، وتأويله: بناصيةٍ صاحبها كاذبٌ خاطئ، كما يقال: فلان نهاره صائم، وليله قائم.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: سفع).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... البيت لعمرو بن معدي كرب. انظر: ديوانه (ص:145)، واللسان (مادة: سفع)، والبحر (8/487)، والدر المصون (6/547)، وتاج العروس (مادة: سفع).
(4) ... انظر: التبيان (2/290)، والدر المصون (6/547).(1/742)
{ فليدع ناديه } على حذف المضاف، أي: أهل ناديه.
{ سندع الزبانية } قال عطاء: هم الملائكة الغلاظ الشداد (1) .
قال مقاتل (2) : هم خَزَنَةُ جهنم.
قال الفراء (3) : لا واحد للزبانية من لفظها. وقال: كان الكسائي يقول: لم أسمع للزبانية بواحد، ثم قال بأَخَرَة: واحد الزبانية زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً.
قال الزمخشري (4) : كأنه نسب إلى الزَّبن، ثم غُيّر للنسب، كقولهم: أمسى.
وقال أبو عبيدة (5) : واحده: زِبْنِيَّة؛ [كعِفْريَّة] (6) ، وهو كل متمرد من إنس أو جان.
قال ابن قتيبة (7) : هو مأخوذ من الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النار إليها.
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ لأبي جهل { لا تطعه } يا محمد في ترك الصلاة، { واسجد } لله { واقترب } إليه بالسجود.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/179).
(2) ... تفسير مقاتل (3/502).
(3) ... معاني الفراء (3/280).
(4) ... الكشاف (4/784-785).
(5) ... مجاز القرآن (2/304).
(6) ... في الأصل: كعقربة. والتصويب من ب.
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:533).(1/743)
وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (1) .
ومن مُستبعد التفسير: قول زيد بن أسلم: اسجد يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النار (2) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/350 ح482).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3451). وذكره السيوطي في الدر (8/566) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/744)
سورة القدر
ijk
وهي خمس آيات (1) .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: هي مكية (2) .
وقال الضحاك ومقاتل (3) : مدنية.
!$¯Rخ) أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:281).
(2) ... انظر: زاد المسير (9/181).
(3) ... تفسير مقاتل (3/503). وانظر: الماوردي (6/311)، وزاد المسير (9/181).(1/745)
كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ اخب
قال الله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } اتفقوا على أن الكناية في "أنزلناه" للقرآن (1) ، ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ ثقةً بعلم السامع به؛ لموضع نباهته وشُهرته.
وقال الزجاج (2) : لم يَجْرِ له ذِكْرٌ في هذه السورة، [ولكنه] (3) جرى فيما قبلها.
وقد ذكرنا كيفية إنزاله في ليلة القدر في مقدمة الكتاب.
والكلام في ليلة القدر تحصره فصول:
الفصل الأول: اختلفوا في تسميتها بليلة القدر على خمسة أقوال:
أحدها: أنه من القَدْر، الذي هو بمعنى: العَظَمَة، من قولك: لفلان قَدْرٌ، فسُميتْ بذلك؛ لِعِظَم قدرها عند الله تعالى. قاله الزهري (4) .
__________
(1) ... في هامش ب: قال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مسلم البطين والمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أنزلَ اللهُ القرآنَ إلى السماء الدنيا ليلةَ القدر جملةً واحدةً، فكان جبريلُ ينزل، يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم - . كذا قال، وقد صح -يعني هذا- عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) ... معاني الزجاج (5/347).
(3) ... في الأصل: لكنه. والمثبت من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/182).(1/746)
الثاني: أنه من القَدْر، الذي [هو] (1) بمعنى: الضيق؛ كقوله: { ومن قدر عليه رزقه } [الطلاق:7] أي: ضيّق عليه.
فالمعنى: هي ليلة تضيق فيها الأرض بالملائكة الذين ينزلون من عند الله بالخير والرحمة. قاله جماعة، منهم: الخليل بن أحمد (2) .
الثالث: أن الأمور تُقدَّر فيها، كما قال: { فيها يُفْرَقُ كل أمر حكيم } [الدخان:4]، وقد سبق تفسيره في الدخان (3) . قاله قوم، منهم: ابن قتيبة (4) .
الرابع: أنه أُنزل فيها كتابٌ ذو قدر ورحمة، ذاتُ قدرٍ، وملائكةٌ [ذوو] (5) أقدار (6) .
الخامس: أن من لم يكن له قدْر صار بمراعاتها ذا قدر. قاله أبو بكر الوراق (7) .
الفصل الثاني: اختلفوا هل هي باقية أو كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة؟ على قولين.
والصحيح: أنها باقية.
واختلفوا هل هي مخصوصة بشهر رمضان، أو تكون في جميع السنة؟
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/182).
(3) ... (ج7/160).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:534).
(5) ... في الأصل: ذو. والمثبت من ب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/182) حكاية عن علي بن عبيدالله.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.(1/747)
على قولين.
والصحيح: اختصاصُها بشهر رمضان.
وذهب الأكثرون إلى اختصاص الأفراد من العشر الأخير منه بها، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة والآثار، على ما سنذكره.
واختلفوا أيُّ لياليه أخصُّ بها؟ على أقوال:
أحدها: ليلة سبع وعشرين (1) . قاله علي وابن عباس وعائشة وجمهور الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وكان أبيّ بن كعب يحلف ولا يستثني: أنها ليلة سبع وعشرين، وإليه ذهب الإمام أحمد رضي الله عنه (2) .
الثاني: ليلة إحدى وعشرين (3) , وهو مذهب الشافعي (4) .
الثالث: ليلة ثلاث وعشرين (5) . قاله عبدالله بن أنيس (6) .
الرابع: ليلة خمس وعشرين. قاله أبو بكرة، ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) .
الإشارة إلى الدلائل على ذلك:
أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال: "قلت يا رسول
__________
(1) ... ودليله: حديث ابن عمر الآتي.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/187).
(3) ... ودليله: حديث أبي سعيد الآتي.
(4) ... انظر: الماوردي (6/312)، وزاد المسير (9/184).
(5) ... أخرجه أحمد (2/251 ح7417)، والبيهقي في سننه (4/310 ح8322).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/186).
(7) ... مثل السابق.(1/748)
الله: أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال بل: هي في رمضان، قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قُبضوا رُفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة، قلت: في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول أو في العشر [الأواخر] (1) ، ثم حدَّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَّث، ثم اهْتَبَلْتُ (2) غفلته، فقلت: في أي العشرين هي؟ قال: فابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها... وساق الحديث إلى آخره" (3) .
وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، أو سابعة تبقى، أو في خامسة تبقى" (4) .
وفي أفراد مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان متحرِّياً فليتحرَّها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين" (5) .
وفي أفراده أيضاً من حديث زِرٍّ قال: "سألت أبيّ بن كعب قلت: يا أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يُصب ليلة القدر، فقال:
__________
(1) ... في الأصل: الآخر. والمثبت من ب، ومسند أحمد (5/171).
(2) ... في هامش الأصل: قوله: اهتبلت: أي: اغتنمت. كذا في النهاية (مادة: هبل).
(3) ... أخرجه أحمد (5/171 ح21538).
(4) ... أخرجه البخاري (2/711 ح1917).
(5) ... أخرجه مسلم (2/822 ح1165).(1/749)
[يرحمه] (1) الله، لقد علم أنها في شهر رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، قال: وحلف، قلت: وكيف تعلمون ذلك؟ قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها، تطلع ذلك اليوم -يعني: الشمس- لا شعاع لها" (2) .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: "اعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً صبيحة [عشرين] (3) من رمضان فقال: من كان اعتكف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فليرجع، فإني أريتُ ليلة [القدر] (4) وإني أُنسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيتُ كأني أسجد في طين وماء، فجاءت قَزَعَة فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبصرته، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه" (5) .
وأخرج الترمذي بإسناده عن أبي قلابة أنه قال: "ليلةُ القدر تنتقل في العشر الأواخر" (6) .
الفصل الثالث: في تفسيرها وفضيلتها.
قوله تعالى: { خير من ألف شهر } قال مجاهد: قيامُها والعملُ فيها خير
__________
(1) ... في الأصل: يرحمك. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه مسلم (2/828 ح762).
(3) ... في الأصل: إحدى وعشرين, وهي خطأ. والتصويب من ب، والصحيح (1/280).
(4) ... زيادة من ب، والصحيح، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه البخاري (1/280 ح780).
(6) ... أخرجه الترمذي (3/158).(1/750)
من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر (1) . وهو قول قتادة، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والزجاج (2) .
[وفي] (3) الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (4) .
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت [نحوه] (5) ، وزاد: "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (6) .
وأخرج أيضاً من حديث عائشة قالت: "يا رسول الله! إن وافقت ليلة القدر فبما أدعو؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني" (7) .
وقال ابن عباس: ذُكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله على عاتقه ألف شهر، فعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: هي خير من الألف شهر التي
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/259). وذكره السيوطي في الدر (8/569) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: معاني الفراء (3/280)، ومعاني الزجاج (5/347)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 534). وذكره السيوطي في الدر (8/568) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر عن قتادة.
(3) ... في الأصل: في. والمثبت من ب.
(4) ... أخرجه البخاري (2/672 ح1802)، ومسلم (1/523 ح760).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... أخرجه أحمد (5/318 ح22765).
(7) ... أخرجه أحمد (6/182 ح25534).(1/751)
حَمَلَ فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله عز وجل (1) .
وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد، حتى يعبد الله ألف شهر، فأُعطيت هذه الأمة ليلةُ القدر، وجُعل إحياؤها خيراً من عبادة العابد من أولئك ألف شهر.
قوله تعالى: { تنزل الملائكة والروح } أي: تنزل الملائكة والروح جبريل إلى الأرض بالرحمة من الله تعالى، والسلام على أوليائه. ففي حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كَبْكَبَةٍ (2) من الملائكة، يُصلّون ويُسلّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل" (3) .
{ بإذن ربهم } أي: بأمره { من كل أمر } أي: بكل أمر؛ كقوله: { يحفظونه من أمر الله } [الرعد:11].
والمعنى: بكل أمرٍ قضاه الله عز وجل لتلك السنة إلى قابل.
وقيل: بكل أمرٍ من الخير والبركة.
{ سلام هي } أي: ما هي إلا سلام.
قال مجاهد: لا يُحدث اللهُ فيها أذى ولا يُرسل فيها شيطاناً (4) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/537)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/191-192).
(2) ... الكَبْكَبَة: الجماعة من الناس (اللسان، مادة: كبب).
(3) ... أخرجه البيهقي في الشعب (3/343 ح3717).
(4) ... أخرج ابن أبي حاتم (10/3453)، والبيهقي في الشعب (3/338 ح3699)، عن مجاهد. وذكره الماوردي (6/314)، والواحدي في الوسيط (4/537)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/194).(1/752)
وقيل: هو تسليم الملائكة على المؤمنين (1) .
{ حتى مَطْلَعِ الفجر } وقرأ الكسائي: "مَطْلِعِ" بكسر اللام (2) .
وقد سبق ذكره في الكهف (3) ، وذكر أمثاله في مواضعه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/314)، والواحدي في الوسيط (4/537)، كلاهما من قول الكلبي.
(2) ... الحجة للفارسي (4/134)، والحجة لابن زنجلة (ص:768)، والكشف (2/385)، والنشر (2/403)، والإتحاف (ص:442)، والسبعة (ص:693).
(3) ... عند الآية رقم: 90.(1/753)
سورة لم يكن (1)
ijk
وهي ثماني آيات (2) .
وهل هي مكية أو مدنية؟ فيه قولان (3) .
َOs9 يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
__________
(1) ... وتسمى سورة البيّنة، وسورة القيامة.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:282).
(3) ... الجمهور على أنها مدنية. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: مكية. وهو اختيار يحيى بن سلام. انظر: تفسير الماوردي (6/315)، وزاد المسير (9/195).(1/754)
(3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قال الله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى، { والمشركين } أي: [ومن] (1) المشركين.
وقرأ الأعمش: "والمشركون" عطفاً على محل "الذين كفروا" من الإعراب (2) .
{ منفكّين } منفصلين عن كفرهم { حتى تأتيهم البينة } وهي محمد - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... في الأصل: من. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/494)، والدر المصون (6/551).(1/755)
الذي بين لهم ضلالهم.
وهذا تنبيهٌ لمن آمن [من] (1) الفريقين على موقع نعمة الله عليهم، بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم.
{ رسول من الله } بدل من "البينة" (2) ، { يتلو صحفاً مطهرة } يريد: ما تضمّنته الصحف المطهرة من القرآن.
والمراد بتطهيرها: تنزيهها عن الباطل.
{ فيها كتب } أي: مكتوبات { قيّمة } مستقيمةٌ عادلةٌ، فاصلة بين الهدى والضلال.
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } وهم الذين أقاموا على يهوديّتهم ونصرانيّتهم.
{ إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وهي (3) محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم لم يزالوا متّفقين على الإيمان به حتى بُعث، فتفرقوا، فآمن بعضٌ وكفر بعض (4) .
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } أي: إلا أن يعبدوا الله. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود (5) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/291)، والدر المصون (6/552).
(3) ... في ب: وهو.
(4) ... وفي البينة قولان آخران، أحدهما: أن المراد بالبيّنة: القرآن. قاله أبو العالية.
... والثاني: ما في كتبهم من صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - . (انظر: تفسير الماوردي 6/316، وزاد المسير 9/197).
(5) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/552)، والقرطبي (20/144).(1/756)
قال الفراء (1) : العرب تجعل اللام في موضع "أنْ".
والمعنى: وما أمروا في الكتابين إلا أن يعبدوا الله على صفة الإخلاص.
{ حنفاء } على ملة إبراهيم { ويقيموا الصلاة } على الوجه الذي أُمروا به، { ويؤتوا الزكاة } على [ما] (2) شرع لهم، { وذلك } الذي أُمروا به { دين القيِّمة } أي دين الملّة المستقيمة.
ثم ذكر ما للفريقين في تمام السورة.
¨bخ) الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِن الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
__________
(1) ... معاني الفراء (3/282).
(2) ... زيادة من ب.(1/757)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ارب
قرأ نافع وابن ذكوان: "البَرِيئَة" بالهمز على الأصل؛ لأنه من: بَرَأَ الله الخلق. وقرأ الباقون: بتشديد الياء من غير همز (1) .
قال ابن قتيبة (2) : أكثر العرب والقراء على ترك الهمز؛ لكثرة الاستعمال.
قال مكي (3) : لما كثُر استعمالهم لهذه الكلمة وفيها همزة ومدّة وياء، والهمز أثقل من غيره، خفَّفوا الهمزة، فأبدلوا منها ياء، وأدغموا الياء الزائدة التي قبلها فيها.
قوله تعالى: { ذلك لمن خشي ربه } أي: خافه في الدنيا، فعمل بطاعته.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/135)، والحجة لابن زنجلة (ص:769)، والكشف (2/385)، والنشر (1/407)، والإتحاف (ص:442)، والسبعة (ص:693).
(2) ... انظر قول ابن قتيبة في: زاد المسير (9/199).
(3) ... الكشف (2/385).(1/758)
سورة الزلزلة
ijk
وهي تسع آيات في المدني، وثمان في الكوفي (1) .
وهل هي مكية أو مدنية؟ فيه قولان (2) .
أخبرنا أبو المجد محمد بن محمد الكرابيسي، أخبرنا الشيخان عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه المطهر بن عبدالكريم بن محمد قالا: أخبرنا عبدالرحمن بن حمد الدوني، أخبرنا أبو نصر الكسار، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد السني، أخبرنا أبو عبدالرحمن النسائي، أخبرنا [محمد بن] (3) عبدالله بن يزيد، عن أبيه (4) ، عن سعيد (5) ، حدثني عياش بن عباس (6) ، عن عيسى بن
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:283).
(2) ... ممن قال بأنها مدنية: ابن عباس وقتادة ومقاتل والجمهور. وقال ابن مسعود وجابر وعطاء: مكية (انظر: تفسير الماوردي 6/318، وزاد المسير 9/201).
(3) ... زيادة من سنن النسائي (6/180). وانظر ترجمته في: التقريب (ص:490)، وتهذيب الكمال (25/570).
(4) ... عبد الله بن يزيد العدوي، مولى آل عمر، أبو عبد الرحمن المقرئ القصير، ثقة، مات بمكة سنة ثلاث عشرة ومائتين (تهذيب التهذيب 6/75، والتقريب ص:330).
(5) ... هو سعيد بن أبي أيوب، واسمه مقلاص الخزاعي. تقدمت ترجمته.
(6) ... عياش بن عباس القتباني الحميري، أبو عبد الرحيم، ويقال: أبو عبد الرحمن المصري، ثقة، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة (تهذيب التهذيب 8/176، والتقريب ص:437).(1/759)
هلال (1) ، عن عبدالله بن عمرو قال: "أتى رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرئني سورة جامعة، فأقرأه: { إذا زلزلت الأرض زلزالها } حتى فرغ منها، قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلح الرويجل، أفلح الرويجل" (2) .
#sŒخ) زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
__________
(1) ... عيسى بن هلال الصدفي المصري، صدوق (تهذيب الكمال 23/53-56، والتقريب ص:441).
(2) ... أخرجه أبو داود (2/57 ح1399)، والنسائي في الكبرى (6/180 ح10552)، وأحمد (2/169 ح6575)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:322).(1/760)
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ارب
اعلم أن الزلزلة: الحركة الشديدة، والمراد بها هاهنا: زلزلة تكون عند قيام الساعة.
قال مقاتل (1) : تُزَلْزَل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها، ولا تَسْكُنُ حتى تُلقي ما على ظهرها من جبل وبناء وشجر، ثم تتحرك وتضطرب فتخرج ما في جوفها.
وفي قراءة أبي حيوة والجحدري: "زَلْزَالها" بفتح الزاي (2) ، فالمكسور مصدر، والمفتوح اسم.
والأثقال: جمع ثِقَل. والمعنى: أخرجت ما فيها من الدَّفَايِن.
قال ابن عباس: أخرجت ما فيها من الموتى (3) .
وقال عطية: كنوزها (4) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/506).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/202)، والدر المصون (6/554).
(3) ... أخرجه الطبري (30/266)، وابن أبي حاتم (10/3455). وذكره السيوطي في الدر (8/592) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3455). وذكره السيوطي في الدر (8/592) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/761)
{ وقال الإنسان } لما خامره من هول تلك الزلزلة الشديدة مُستعظماً لها: { ما لها } ، كما يقول يوم البعث: { من بعثنا من مرقدنا هذا } [يس:52].
وقيل: هذا قول الكافر؛ لأنه لم يكن مؤمناً بالبعث.
{ يومئذ } بدل من "إذا"، وناصبهما: { تحدِّث } ، ويجوز أن ينتصب "إذا" بمضمر (1) .
والمعنى: تحدث الخلق { أخبارها } .
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد وأَمَة بما عَمِلَ على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا" (2) .
والباء في قوله: { بأن ربك أوحى لها } تتعلق بـ"تحدِّث"، أي: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك وإلهامه إياها أن تحدث.
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } أي: يرجعون عن موقف الحساب فِرَقاً فِرَقاً، سعداء وأشقياء، كل فِرْقة على حِدَة { ليروا أعمالهم } .
قال ابن عباس: جزاء أعمالهم (3) .
{ فمن يعمل مثقال ذرة } أي: فمن يعمل في الدنيا زِنَة ذرّة، وهي أصغرُ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/292)، والدر المصون (6/554).
(2) ... أخرجه الترمذي (4/619 ح2429).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/542)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/204).(1/762)
النمل { خيراً يره } في صحيفة عمله، أو يرى ثوابه.
و"خيراً" و"شراً" تمييزان (1) .
قرأ الكسائي من رواية نصير عنه: "يُرَهُ" بضم الياء فيهما (2) .
وقرأ هشام: "يَرَهْ" بإسكان الهاء في الموضعين (3) .
وقرأ أبو جعفر ويعقوب بخلاف عنهما: بضم الهاء من غير إشباع (4) .
أخبرنا القاضي أبو القاسم عبدالصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري، قراءة عليه وأنا أسمع سنة تسع وستمائة، أخبرنا عبدالكريم بن حمزة السلمي الحداد، قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا عبدالعزيز بن أحمد بن محمد الكتاني الحافظ قال: أخبرنا تمام بن محمد [بن] (5) عبدالله الرازي، أخبرنا خيثمة بن سليمان إملاءً، حدثنا أبو يحيى عبدالله بن أبي [مسرة] (6) بمكة قال: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا محمد بن زياد، حدثنا ميمون بن مهران، عن ابن عباس: "أن عائشة رضي الله عنها أتتها امرأة مشتملة على
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/292)، والدر المصون (6/556).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/498)، والدر المصون (6/556).
(3) ... انظر: الحجة للفارسي (4/136)، والحجة لابن زنجلة (ص:769)، والكشف (2/386)، والنشر (1/311)، والإتحاف (ص:442)، والسبعة (ص:694).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:442).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... في الأصل: ميسرة. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (12/632).(1/763)
يمينها قد شُلَّتْ، لا تنتفع بها، فقالت لها عائشة: [ما لكِ] (1) ؟ قالت: أخبرك بالعجب، كان أبي معطاءً كثير المعروف، وكانت أمي امرأة مُمْسِكَةً، لا يكاد يخرج من يدها خير، فمات أبي قبلها بزمان، ثم ماتت هي بعد، فعرج (2) بروحي، فخرجت فإذا أنا بأبي قائم على حوض يسقي من أقْبَلَ وأدْبَرَ، فقلت: يا أبَه، هل جاءتكم أمي؟ قال: وقد قُبضت؟ قلت: نعم، قال: ما جاءتنا، ولكن التمسيها في ذات الشمال، قالت: فخرجت فإذا أنا بها قائمة عريانة ليس عليها إلا خريقة [وَارَتْ] (3) بها عورتها، وفي (4) يديها شُحَيْمَة تَدْلُك بها راحتها، كلما نديت لَحَسَتْها، وبين يديها نهر يجري، وهي تنادي: وا عطشاه وا عطشاه، فقلت لها: يا أماه، ما لكِ؟ قالت: أي بنية، دعيني فإني لم أقدّم لنفسي خيراً قط غير هذه الخرقة، وهذه الشُّحَيْمَة، فقلت لها: ما يمنعك من هذا الماء أن تشربي منه، قالت: لا أُتْرَكُ وإياه، فقلت لها: أفلا أسقيك؟ قالت (5) : بلى، فغرفتُ غَرفةً بيدي فسقيتها، فنادى مُناد من السماء: [شُلَّتْ] (6) يمين من سقاها، فاستيقظت وأنا كما ترين، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد قصّت عليه القصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل
__________
(1) ... في الأصل: ما لي أراها كذا. والمثبت من ب، والفوائد (2/166).
(2) ... في ب: فأعرج.
(3) ... في الأصل: وارزة. والتصويب من ب، والفوائد (2/167).
(4) ... في ب: في.
(5) ... في ب: فقالت.
(6) ... زيادة من ب، والفوائد (2/167).(1/764)
مثقال ذرة شراً يره" (1) .
قال الحسن رحمه الله: "قدم صعصعةُ عَمُّ الفرزدق على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } قال: حسبي ما أبالي أن لا أسمع [من] (2) القرآن غير هذا" (3) .
وروى [أبو] (4) الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله! إلى ما ينتهي الناس يوم القيامة؟ قال: إلى أعمالهم، من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" (5) .
قال الماوردي (6) : وفي ذلك قولان:
أحدهما: أنه يَلْقَى ذلك في الآخرة، مؤمناً كان أو كافراً؛ لأن الآخرة هي دار الجزاء.
والثاني: أنه إن كان مؤمناً رأى جزاء سيئاته في الدنيا، وجزاء حسناته في الآخرة، حتى يصير إليها وليس عليه سيئة.
قلتُ: والقول الأول هو الأصح، وهو (7) أشبه بسياق السورة ودلالة
__________
(1) ... أخرجه تمام الرازي في الفوائد (2/166-167). وأخرج نحوه الحاكم في المستدرك (4/518 ح8455).
(2) ... زيادة من تفسير الثعلبي.
(3) ... أخرجه أحمد (5/59 ح 20612)، والثعلبي (10/267).
(4) ... زيادة على الأصل. وانظر: الوسيط (4/543).
(5) ... أخرجه الواحدي في الوسيط (4/543).
(6) ... تفسير الماوردي (6/321).
(7) ... قوله: "هو الأصح وهو" ساقط من ب.(1/765)
اللفظ. والله تعالى أعلم.(1/766)
سورة العاديات
ijk
وهي إحدى عشرة آية (1) . وهل هي مكية أو مدنية؟ فيه قولان.
دM"tƒد‰"yèّ9$#ur ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:284).(1/767)
الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ اتتب
قال مقاتل (1) : بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سريةً إلى حيّين من كنانة، واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، فأبطأ عنه خبرها، فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناجوا، فيظن الرجل أنه قد قُتِلَ أخوه أو أبوه أو عمه، فيجدُ من ذلك [أمراً عظيماً] (2) ، فنزلت: { والعاديات ضبحاً } ، فأخبر الله تعالى كيف فعل بهم.
قال ابن عباس وجمهور المفسرين واللغويين: هي الخيل في سبيل الله تعدو فَتَضْبَح (3) .
والضَّبْحُ: صوت أنفاسها إذا عَدَوْن، ليس بصهيل ولا حمحمة (4) .
وعن ابن عباس أنه حكاه فقال (5) : أح أح (6) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/510).
(2) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (30/271-272)، وابن أبي حاتم (10/3457). وذكره السيوطي في الدر (8/600) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: ضبح).
(5) ... في ب: وقال.
(6) ... أخرجه الطبري (30/273). وذكره السيوطي في الدر (8/601) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.(1/768)
وانتصاب "ضَبْحاً" على: يَضْبَحْنَ ضبحاً، أو على الحال، أي: ضابحات (1) .
ويروى عن علي وابن مسعود والسدي في آخرين: أنها الإبل في الحج (2) .
قال علي عليه السلام: والعاديات من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى (3) .
قال الشعبي: تمارى علي وابن عباس في قوله: { والعاديات ضبحاً } فقال ابن عباس: هي الخيل، ألا تراه [يقول] (4) : { فأثرن به نقعاً } فهل تُثيره إلا بحوافرها، وهل تَضْبَحُ الإبل، إنما تَضْبَحُ الخيل؟ فقال علي: ليست كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرسٌ أبلق للمقداد بن الأسود (5) .
وفي رواية أخرى: وفرسٌ لمرثد بن أبي مرثد الغنوي.
وفي رواية أخرى: [فرسٌ] (6) للمقداد، وفرس للزبير.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/292)، والدر المصون (6/557).
(2) ... أخرجه الطبري (30/272-273)، وابن أبي حاتم (10/3457).
(3) ... انظر: التخريج بعد الآتي.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (30/272-273)، وابن أبي حاتم (10/3457). وذكره السيوطي في الدر (8/601) وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... في الأصل: وفرس. والمثبت من ب.(1/769)
وقال بعضهم: من قال: هي الإبل؟ قال: ضبحاً يعني: ضبعاً تمد أعناقها في السير. وضَبَحَت وضَبَعَت بمعنًى واحد. قالت صفية بنت عبدالمطلب:
ألا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... ... بأيديها إذا سَطَعَ الغُبَار (1)
قال صاحب الكشاف (2) : إن صحت الرواية -[يعني] (3) : عن علي عليه السلام- فقد استعير الضبح للإبل، [كما استعير] (4) المشافر والحافر للإنسان.
قال (5) : وقيل: الضَّبْحُ لا يكون إلا للفرس والكلب والثعلب.
وقيل: الضَّبْحُ بمعنى الضبع، يقال: ضَبَحَت الإبل وضَبَعَت؛ إذا مدَّت أضباعها في السير، وليس بثبت (6) .
قوله تعالى: { فالموريات قدحاً } قال جمهور المفسرين واللغويين : هي الخيل إذا [جَرَت] (7) فأصابت بحوافرها الحجارة، تُوري النار
بقدحها (8) . وتسمى تلك النار: نار الحباحب، وهو شيخ من جاهلية مضر من
__________
(1) ... البيت لصفية بنت عبدالمطلب. وهو في: القرطبي (20/155)، والماوردي (6/323)، والبحر (8/500)، والدر المصون (6/558).
(2) ... الكشاف (4/794).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: واستعير. والمثبت من ب، والكشاف (4/794).
(5) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/795).
(6) ... الكشاف (4/795).
(7) ... في الأصل: أجرت. والتصويب من ب.
(8) ... أخرجه الطبري (30/273). وذكره السيوطي في الدر (8/600، 602) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة.(1/770)
أبخل الناس، وكان لا يُوقد ناراً حتى ينام كل ذي عين، فإذا ناموا أوقد نويرة تخمد مرّة وتلوح أخرى، فإن استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد، فشبّهت العرب هذه النار بناره؛ لأنه لا يُنتفع بها (1) .
وانتصب "قَدْحاً" بما انتصب به "ضَبْحاً" (2) .
وقال قتادة: هي الخيل تُهَيِّجُ الحربَ ونارَ العداوة بين أصحابها وفرسانها (3) .
وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هي نيران المجاهدين إذا أُشعلت وأُكثرت إرهاباً (4) .
وقال عكرمة: هي الألسنة (5) ، أُظْهِرَتْ بها الحجج، وأُقيمت بها الدلائل، وأُوضح بها الحق (6) .
وقال محمد بن كعب [القرظي] (7) : هي نيران الحجيج (8) .
قوله تعالى: { فالمغيرات صبحاً } وهي الخيل، تُغير على العدو عند
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/510).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/558).
(3) ... أخرجه الطبري (30/274). وذكره الماوردي (6/324).
(4) ... ذكره الماوردي (6/324)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/208).
(5) ... أخرجه الطبري (30/274).
(6) ... ذكره الماوردي (6/324)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/208).
(7) ... زيادة من ب.
(8) ... ذكره الماوردي (6/324)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/208)، والسيوطي في الدر (8/603) وعزاه لعبد بن حميد.(1/771)
الصباح.
وقال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: هي الإبل حين تغدو صبحاً من مزدلفة إلى منى (1) .
والإغارة: سُرعة السير، ومنه: أشْرِقْ ثبير كيما نغير.
{ فَأَثرْنَ به } وقرأ أبو حيوة: "فَأَثَّرْنَ" بتشديد الثاء، من التأثير (2) .
"به" أي: بِعَدْوِهِنَّ، ودلّ عليه: "والعاديات"، أو بمكان عدوهن. وفي الكلام دليل عليه.
{ نَقْعاً } أي: غباراً، ومنه الحديث: "أن جبريلَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وعلى ثناياه النَّقْع" (3) .
{ فوسَطْن به } وقرأ قتادة: "فوسَّطْن" بتشديد السين (4) ، تقول: وسَطت المكان ووسّطته -بالتشديد-، وتوسّطته؛ إذا صرت في وسطه (5) .
وقوله: { جمعاً } يحتمل وجهين من الإعراب:
أحدهما: أن يكون مفعولاً، على معنى: فوسطن بِعَدْوِهِنَّ، أو بمكان عَدْوِهِنَّ جَمْعاً من جموع الأعداء، أو فوسطن بعدوهنَّ جَمْعاً، يعني: مزدلفة. وهو قول ابن مسعود (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/275)، وابن أبي حاتم (10/3457). وذكره الماوردي (6/324).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/559).
(3) ... ذكره السيوطي في الدر (4/74) عن حيان بن واسع بن حيان عن أشياخ من قومه.
(4) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/560).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: وسط).
(6) ... أخرجه الطبري (30/277).(1/772)
الثاني: أن يكون حالاً، على معنى: فوسطن به جميعاً (1) .
وقال صاحب الكشاف (2) : "فأثرن به نقعاً" أي: فهيّجن بذلك الوقت غباراً، فوسطن بذلك الوقت، أو بالنقع، [أي: وسطن] (3) النقع الجمع. أو فوسطن متلبسات به جَمْعاً من جموع الأعداء.
ويجوز أن يراد بالنقع: الصياح، كقوله عليه السلام: "ما لم يكن نقع ولا (4) لقلقة" (5) . أي: فهيجن في [المُغَار] (6) عليهم صياحاً وجلبة.
قوله تعالى: { إن الإنسان لربه لكنود } هذا جواب القسم. والإنسان: اسم جنس.
وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة (7) .
وفي الحديث [عن] (8) النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الكَنُود: الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده" (9) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/292)، والدر المصون (6/560).
(2) ... الكشاف (4/794).
(3) ... في الأصل: أوسطن. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في ب: أو.
(5) ... ذكره البخاري معلقاً (1/434) عن عمر موقوفاً.
(6) ... في الأصل: الغبار. والمثبت من ب، والكشاف (4/794).
(7) ... ذكره الماوردي (6/326)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/209).
(8) ... في الأصل: أن. والتصويب من ب.
(9) ... أخرجه الطبراني في الكبير (8/245 ح7958)، والطبري (30/278) كلاهما من حديث أبي أمامة.(1/773)
وقال ابن عباس: هو الكفور الجحود (1) . يقال: كَنَدَ النعمة كُنُوداً؛ إذا كَفَرَها (2) .
وقال الحسن وابن سيرين: لوَّامٌ لربه، يَعُدُّ المصائب وينسى النعم (3) .
وقيل: هو البخيل، في لغة بني مالك (4) .
ومن عجيب ما سمعت بإسناد لا يحضرني الآن: أن بعض الأعراب أرسل ابناً له، حين سمع بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ما يقول، فجاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: { والعاديات ضبحاً } فرجع إلى أبيه فقال: ما سمعته يقول يا بني؟ فقال: سمعته يُقسم على ربه بخيلٍ تضبح خواصرها، فتقدح الحصا [بسنابكها] (5) ، فتغير على الأحياء غَلَساً، فتثير قَسْطَلَ القَتَام، فتتوسط بالفارس الجمع، وغضون القصة: إن الإنسان لربه لمعاند، فقال: هذا الكلام بعينه يا بني، قال: بل معناه.
قوله تعالى: { وإنه } يعني: الإنسان (6) . وقيل: الله عز وجل (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/277).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: كند).
(3) ... أخرجه الطبري (30/278)، وابن أبي حاتم (10/3458)، والبيهقي في الشعب (4/153 ح4629) كلهم عن الحسن. وذكره السيوطي (8/603) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعبه عن الحسن.
(4) ... ذكره الماوردي (6/325).
(5) ... في الأصل: بسنكائكها. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره الماوردي (6/326)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/210)، والسيوطي في الدر (8/604) وعزاه لابن المنذر.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/545)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/210).(1/774)
{ على ذلك } إشارة إلى كنود الإنسان { لشهيد } . والقولان عن ابن عباس.
فإن قلنا: تعود الكناية إلى الله -وهو قول أكثر المفسرين-؛ فهو تهديد.
وإن قلنا: تعود إلى الإنسان -وهو قول ابن كيسان، وهو أجود في نظري؛ لما فيه من اتحاد الضمائر وانتظامها في سمط واحد-، فشهادته على ذلك: ظهور أثره عليه، وعلمه من نفسه صحة ما نُسب إليه.
{ وإنه لحب الخير } وهو المال. والمعنى: لأجل حُبِّ المال.
{ لشديد } بخيل، مُمسك. يقال: فلان شديد ومُتَشدّد؛ إذا كان بخيلاً مُمْسِكاً (1) . وأنشدوا قول طرفة:
أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ ويَصْطَفِي ... عقيلةَ مالِ الفَاحِشِ المتَشَدِّد (2)
وقيل: [وإنه] (3) لحب المال لشديد قوي مُطيق، وهو في شكر نعمة الله ضعيف.
وقال الفراء (4) : كان موضع الحب: أن يكون بعد "لشديد"، وأن يضاف شديد إليه، فيقال: وإنه لشديد الحب للخير، فلمّا تقدّم "الحبُّ" قبل "شديد"
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: شدد).
(2) ... البيت لطرفة بن العبد، انظر: ديوانه (ص:34)، واللسان (مادة: شدد، فحش، عيم)، وتاج العروس (مادة: شدد، عقل)، والعين (2/269)، والبحر المحيط (8/502)، والدر المصون (6/561).
(3) ... في الأصل: إنه. والمثبت من ب.
(4) ... معاني الفراء (3/286).(1/775)
حُذف من آخره؛ لما جرى ذكره في أوله، ولرؤوس الآيات.
{ أفلا يعلم إذا بعثر } أي: أُثير وأخرج { ما في القبور } .
{ وحُصّل ما في الصدور } أُبرز ما فيها من الخير والشر، كأنه حين أُبرز وأُظهر صار حاصلاً موجوداً.
وقيل: مُيِّزَ بين خيره وشره.
وأصل التحصيل: التمييز، ومنه حصّلت الدراهم؛ إذا ميّزتها من زُيُوفها (1) . قال لبيد:
وكلُّ امرئٍ يوماً سَيَعْلَمُ أمرَهُ ... إذا كُشِفَتْ عند الإلهِ الحَصَائِلُ (2)
ومنه قيل للمنخل: المحصل.
وفي قوله: { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } إيذانٌ بإحاطة علمه بمقادير أعمالهم وجزائهم. والله أعلم.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: حصل).
(2) ... البيت للبيد، وهو في: اللسان وتاج العروس (مادة: حصل)، والعين (3/116)، والمستطرف (1/16) مع اختلاف في بعض الكلمات. وفي ب: الخصائل.(1/776)
سورة القارعة
ijk
وهي عشر آيات في المدني، وإحدى عشرة في الكوفي (1) . [وهي مكية] (2) بإجماعهم.
èptمح'$s)ّ9$# (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:285).
(2) ... في الأصل: ومكية. والمثبت من ب.(1/777)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ اتتب
والقارعة: القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تقرع القلوب.
والعامل في قوله: { يوم يكون الناس } مُضمرٌ دل عليه "القارعة"، أي: تقرع يوم يكون الناس { كالفراش } ، وهو ما تراه يتهافت في النار، و { المبثوث } المتفرّق.
وقال الكلبي: الذي يجول بعضه في بعض (1) .
شَبَّه سبحانه وتعالى الناس في كثرتهم وانتشارهم وضعفهم وذلتهم وتطايرهم إلى الداعي من كل مكان بالفراش المبثوث.
{ وتكون الجبال كالعهن المنفوش } وهو الصوف المصبوغ المندوف.
وقد فسرناه في سأل سائل (2) .
وقد سبق ذكر الموازين في أول الأعراف (3) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/328).
(2) ... عند الآية رقم: 9.
(3) ... عند الآية رقم: 8.(1/778)
قوله تعالى: { فأمه هاوية } أي: فمسكنه جهنم.
وقيل لمسكنه: "أمُّه"؛ لأن أصل السكون إلى الأم.
والهاوية: من أسماء جهنم، وهي المهواة لا يُدرك قعرها.
ويدل على صحة هذا المعنى: ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين، فيقول له: ما فعل فلان؟ فإذا قال: مات، قالوا: ذُهِبَ به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم [وبئست] (1) المربيّة" (2) . وهذا المعنى قول ابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج (3) .
وقال عكرمة: أراد: أمّ رأسه، يهوي عليها في نار جهنم (4) .
قال قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل منهم إذا وقع في أمر شديد قالوا: هَوَتْ أمُّه (5) ، وأنشدوا:
هَوَتْ أمُّهُ ما يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادياً ... [وماذا يرُدُّ الليلُ] (6) حينَ
__________
(1) ... زيادة من الحاكم.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/581 ح3968).
(3) ... انظر: معاني الفراء (3/287)، ومعاني الزجاج (5/356).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3458). وذكره السيوطي في الدر (8/606) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) ... ذكره السيوطي في الدر (8/606) وعزاه لابن المنذر.
(6) ... في الأصل: وما يرد إذا لليل. والتصويب من ب، ومصادر البيت.(1/779)
يَؤُوب (1)
{ وما أدراك ما هيه } يعني: الهاوية.
وعلى قول عكرمة: يريد: الداهية، التي دلّ عليها قوله تعالى: { فأمه هاوية } . ثم فسرها فقال: { نار } أي: هي نار { حامية } .
قرأ حمزة: "ما هِيَ" بغير هاء في الوصل، وقرأ الباقون: بالهاء في الحالين (2) .
قال الزجاج (3) : الوقف: "هِيَهْ"، والوصل "هي نار"؛ لأن الهاء دخلت في الوقف تبين فتحة الياء (4) ، والذي يجب اتباع المصحف فيوقف عليها ولا توصل؛ لأن السنة اتباع المصحف، والهاء ثابتة فيه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... البيت لكعب بن سعد الغنوي، من قصيدة له يرثي أخاه أبا المغوار الباهلي. وهو في: جمهرة الأمثال (2/354)، ومجمع الأمثال (2/390)، واللسان (مادة: هبل، أمم، هوا)، والقرطبي (20/167)، والبحر المحيط (8/504)، والدر المصون (6/564).
... وقوله: ما يبعث الصبح غادياً، يريد من ذكراه والحزن عليه، لأنه وقت الغارات وحمايتهم من العاديات.
... وقوله: وماذا يرد الليل يعني من ذكراه أيضاً لأنه وقت الضيفان وطروقهم للقرى (فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، ص: 84).
(2) ... الحجة للفارسي (4/138)، والحجة لابن زنجلة (ص:770)، والكشف (2/386)، والنشر (2/142)، والإتحاف (ص:443)، والسبعة (ص:695).
(3) ... معاني الزجاج (5/356).
(4) ... يريد: حيث دخلت هاء السكت وهي ساكنة فتحت الياء، إذا لم تعد الياء آخر الكلمة (هامش معاني الزجاج 5/356 حاشية 1).(1/780)
سورة التكاثر
ijk
وهي ثماني آيات (1) . وهي مكية بإجماعهم.
والسبب في نزولها على ما ذكره [ابن السائب] (2) ومقاتل (3) : أن حَيَّين من قريش؛ بني عبد مناف، وبني سهم، جرى بينهما لحاء، فقال هؤلاء: نحن أكثر سيداً وأعز نفراً، وقال أولئك مثل ذلك (4) ، فتعادّوا السادة والأشراف أيهم أكثر، فكَثَرَتْهم بنو عبد مناف [بالأحياء] (5) ، ثم قالوا: نعدّ موتانا، فزاروا القبور، فعدّوا موتاهم فكثرتهم بنو سهم؛ لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية، فنزلت هذه السورة (6) .
وقال قتادة: نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلانٍ أكثرُ من بني فلان، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلاَّلاً (7) .
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:286).
(2) ... في الأصل: ابن أبي السائب. والمثبت من ب.
(3) ... تفسير مقاتل (3/515).
(4) ... في ب: هذا.
(5) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(6) ... ذكره الماوردي (6/331)، والواحدي في أسباب النزول (ص:490).
(7) ... أخرجه الطبري (30/283)، وابن أبي حاتم (10/3460). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:490)، والسيوطي في الدر المنثور (8/610).(1/781)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ارب
قال الله تعالى: { ألهاكم التكاثر } وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس والشعبي: ["أألهاكم"] (1) بهمزتين مقصورتين، على الاستفهام، بمعنى الإنكار والتوبيخ (2) .
والمعنى: شغلكم التفاخر بكثرة الرجال الأشراف، ويدخل في ذلك:
__________
(1) ... في الأصل: ألهاكم. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/219)، والبحر المحيط (8/506).(1/782)
التكاثر بالأموال والأولاد.
{ حتى زرتم المقابر } فعدَّدْتُم من فيها من أشرافكم.
وقيل: المعنى: حتى أدرككم الموت على تلك الحال.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن الشخير أنه قال: "انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: { ألهاكم التكاثر } قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟" (1) .
قوله تعالى: { كلا } ردعّ لهم ولكل عاقل عن أن يجعل ذلك وما أشبهه من أمور الدنيا الحائلة الزائلة أكبر همّه ومبلغ علمه.
ثم توعدهم فقال: { سوف تعلمون } .
ثم أكّد ذلك بقوله: { ثم كلا سوف تعلمون } قال الحسن: هو وعيد بعد وعيد (2) .
والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم سلطانُ الموت، وما بعده من القبر وأهوال القيامة، والمجازاة.
ثم كرر تنبيههم أيضاً فقال: { كلا } . وجواب: { لو تعلمون } محذوف.
والمعنى: لو تعلمون ما بين أيديكم { علم } الأمر { اليقين } أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور، أو لو تعلمون الأمر علماً يقيناً لشغلكم عن التكاثر.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2273 ح2958). ولم أقف عليه في صحيح البخاري.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/549).(1/783)
ثم [توعدهم] (1) أيضاً فقال: { لترون الجحيم } وقرأ ابن عامر والكسائي: "لتُرَوُنَّ" بضم التاء (2) .
{ ثم لَتَرَوُنَّها } وقرأ يعقوب في رواية أبي حاتم: "لتُرَوُنَّها" بضم التاء (3) .
{ عين اليقين } أي: الرؤية التي هي نفس اليقين.
{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الحسن: هو خاص بالكفار (4) .
وقال قتادة: هو عام (5) .
وهو الصحيح، فالمؤمن يُسأل عن الشكر، والكافر يُسأل سؤال توبيخ، لم قابل النِّعَم بالكفر.
وللمفسرين في النعَم أقوال كثيرة؛ قال ابن مسعود: الأمن والصحة (6) .
وقيل: الماء البارد.
وقال الحسن: الغداء والعشاء (7) .
__________
(1) ... في الأصل: توعد. والمثبت من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (4/139)، والحجة لابن زنجلة (ص:771)، والكشف (2/387)، والنشر (2/403)، والإتحاف (ص:443)، والسبعة (ص:695).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/220)، والدر المصون (6/565).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/549).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... أخرجه الطبري (30/285)، والبيهقي في الشعب (4/149 ح4615)، وهناد في الزهد (2/364 ح694). وأخرجه ابن أبي حاتم (10/3460) مرفوعاً. وذكره السيوطي في الدر (8/612) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(7) ... ذكره الماوردي (6/332)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/222).(1/784)
وقال عكرمة: الصحة والفراغ (1) .
وقيل: غير ذلك.
والصحيح: عمومها في صنوف نِعَم الله على الآدمي.
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - حين أكل هو وأبو بكر وعمر رُطَباً وشربوا ماء: "هذا من النعيم الذي تُسألون عنه" (2) .
وفي حديث (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عز وجل: ثلاثٌ لا أسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سوى ذلك، بيتٌ يسكنه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يواري به عورته من اللباس" (4) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/222)، والبغوي (4/522).
(2) ... أخرجه النسائي (6/246 ح3639)، وأحمد (3/338 ح14678).
(3) ... في ب: الحديث.
(4) ... أخرجه هناد في الزهد (1/317 ح568).(1/785)
سورة العصر
ijk
وهي ثلاث آيات (1) .
قال ابن عباس وابن الزبير وعامة المفسرين: هي مكية (2) .
وقال مجاهد وقتادة ومقاتل (3) : مدنية (4) .
خژَاyèّ9$#ur (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ اجب
قال ابن عباس: العصر: الدهر (5) . واختاره الفراء وابن قتيبة (6) .
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:287).
(2) ... انظر: زاد المسير (9/224).
(3) ... قلت: الذي في تفسير مقاتل (3/516): أنها مكية.
(4) ... الماوردي (6/333)، وزاد المسير (9/224).
(5) ... ذكره الطبري (30/289)، والماوردي (6/333)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/224).
(6) ... معاني الفراء (3/289)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:538).(1/786)
أقسم الله به؛ لما فيه من الآيات والعبر، ومروره على نظام بديع لا ينخرم.
وقال [الحسن] (1) : العصر: ما بين زوال الشمس وغروبها (2) .
قال الزجاج (3) : والعصر الدهر، والعصر اليوم، والعصر الليلة.
قال الشاعر:
ولنْ يَلَبَثَ العَصْرانِ يومٌ وليلةٌ ... إذا طَلَبَا أن يُدْرِكَا ما تَيَمَّمَا (4)
وقال آخر:
وأَمْطُلُهُ العَصْرَيْن حتى يَمَلَّنِي ... ويرضَى بنصفِ الدَّيْنِ والأنْفُ رَاغِمُ (5)
وقال مقاتل (6) : صلاة العصر.
قال غيره: أقْسَمَ اللهُ بها لفضلها، من كونها الصلاة الوسطى، [وكان] (7)
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الماوردي (6/333)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/224).
(3) ... معاني الزجاج (5/359).
(4) ... البيت لحميد بن ثور الهلالي. وهو في: إصلاح المنطق (ص:394)، واللسان وتاج العروس (مادة: عصر)، والعين (1/293)، والبحر المحيط (8/507)، والدر المصون (6/567)، والقرطبي (20/179)، وروح المعاني (30/228).
(5) ... انظر البيت في: إصلاح المنطق (ص:395)، واللسان وتاج العروس (مادة: عصر)، والقرطبي (20/179).
(6) ... تفسير مقاتل (3/516).
(7) ... في الأصل: فكان. والمثبت من ب.(1/787)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحض الناس على مراعاتها حتى قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله" (1) .
وجواب القسم: { إن الإنسان } وهو اسم جنس { لفي خسر } أي: خسران.
قال أهل المعاني: الخسْرُ: هلاك رأس المال أو نقصانه، فإذا لم يعمل الإنسان بطاعة الله فقد خسر نفسه وعمره، وهما أكبر رأس ماله (2) . وقد ذكرت هذا المعنى في البقرة.
[ { وعملوا الصالحات } وهو أداء الفرائض] (3) .
قوله تعالى: { وتواصوا بالحق } التوحيد والقرآن وغيرهما، من الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.
{ وتواصوا بالصبر } على طاعة الله وعن معصيته.
قال (4) إبراهيم النخعي: أراد: أن الإنسان إذا عمّر في الدنيا [لفي] (5) نقص وضعف، إلا المؤمنين فإنهم تُكتب لهم أجورهم ومحاسن أعمالهم التي
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/203 ح527)، ومسلم (1/436 ح626).
(2) ... انظر: الوسيط (4/551)، وزاد المسير (9/225).
(3) ... ما بين المعكوفين ذُكر في الأصل في سورة البلد، وموضعه الصحيح هنا. وقد أشرت إلى ذلك في سورة البلد. وقد أشار ناسخ ب إلى ذلك فقال: هذا ذكره الشيخ في سورة البلد، وليس فيها { وعملوا الصالحات } فنقلته إلى هنا وهو موضعه.
(4) ... في ب: وقال.
(5) ... في الأصل: وجد. والمثبت من ب، وزاد المسير (9/225).(1/788)
كانوا يعملونها في حال شبابهم وقوتهم وصحتهم (1) . وهي مثل قوله: { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... الآية } [التين:4-6].
وروى علي بن رفاعة عن أبيه قال: حججتُ فوافيت علي بن عباس يخطب على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم * والعصر * إن الإنسان لفي خسر } أبو جهل بن هشام، { إلا الذين آمنوا } أبو بكر الصديق، { وعملوا الصالحات } عمر بن الخطاب رضي الله عنه، { وتواصوا بالحق } عثمان بن عفان، { وتواصوا بالصبر } علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ويُروى مثل هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/225).
(2) ... ذكره القرطبي (20/180).(1/789)
سورة الهمزة
ijk
وهي تسع آيات (1) . وهي مكية بإجماعهم.
×@÷ƒur لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:288).(1/790)
مُمَدَّدَةٍ ازب
قال الله تعالى: { ويل لكل همزة لمزة } قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق (1) .
وقال عروة: في العاص بن وائل (2) .
وقال [ابن] (3) إسحاق: في أمية بن خلف (4) .
وقال مقاتل (5) : في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورائه، ويطعن عليه في وجهه.
وقال مجاهد: هي عامة (6) .
ولا منافاة بين الأقوال وأن يكون نزلت بسبب المذكورين، ولفظها عام يشمل من نزلت فيه وغيره.
قال أبو عبيدة والزجاج (7) : الهُمَزَة واللُّمَزَة: الذي يغتاب الناس.
وقيل: معناهما مختلف.
__________
(1) ... ذكره الطبري (30/293)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/226).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/226).
(3) ... زيادة من زاد المسير (9/226).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/226).
(5) ... تفسير مقاتل (3/517).
(6) ... أخرجه الطبري (30/293). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/227).
(7) ... مجاز القرآن (2/311)، ومعاني الزجاج (5/361).(1/791)
قال ابن عباس: الهُمَزَة: المغتاب، واللُّمَزَة: العَيَّاب (1) .
وقال الحسن: الهُمَزَة: الذي يهمِزُ الإنسان في وجهه، واللُّمَزَة: الذي يلمِزُه إذا أدبر عنه (2) .
وقال ابن زيد: الهُمَزَة: الذي يهمِزُ الناس بيده، واللُّمَزَة: الذي يلمزُهُم بلسانه (3) .
وقيل: غير ذلك.
ثم وصفه فقال: { الذي جمع مالاً } وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: "جَمَّعَ" بالتشديد (4) ، وهو مطابق لقوله: { وَعَدَّدَه } .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن: "وَعَدَدَه" بالتخفيف (5) .
قال الزجاج (6) : فمن قرأ "وعدَّدَه" بالتشديد كان معناه: عدَّدَه للدهور، فيكون من العدّة، يقال: أعددت الشيء وعدَّدْتُه؛ إذا أمسكتُه (7) .
ومن قرأ بالتخفيف -قال الزجاج (8) -: معناه: جمع مالاً وعَدداً، أي:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/335)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/227).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/227).
(3) ... أخرجه الطبري (30/293). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/228).
(4) ... الحجة للفارسي (4/144)، والحجة لابن زنجلة (ص:772)، والكشف (2/389)، والنشر (2/403)، والإتحاف (ص:443)، والسبعة (ص:697).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:443). وانظر: زاد المسير (9/228).
(6) ... معاني الزجاج (5/361).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: عدد).
(8) ... معاني الزجاج (5/361).(1/792)
وقوماً أعدَّهم أنصاراً. فيكون الضمير على هذا عائداً إلى الهُمَزَة.
وقال الزمخشري (1) : "وعَدَدَه" -بالتخفيف- بمعنى: وضَبَطَ عَدَدَه وأحصاه.
{ يحسب أن ماله أخلده } تَرَكَهُ خالداً في الدنيا لا يموت، فهو يدأب في تثميره، غير مهتمّ بأمر آخرته، ولا عاملٍ بحق الله فيه.
{ كلا } ردعٌ له عن حسبانه، أو كلا لا يُخلده ماله.
{ ليُنْبَذَنَّ } وقرأ الحسن: "ليُنْبَذَانَّ" (2) يعني: هو وماله { في الحطمة } وهو اسم من أسماء جهنم.
قال مقاتل (3) : تُحَطِّم العظام، وتأكلُ اللحمَ حتى تهجم على القلوب، وذلك قوله: { نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة } قال: يخلص حَرُّها إلى القلوب، ثم تُكسى لحماً جديداً، ثم تُقبِل عليهم فتأكلهم.
قال الفراء (4) : يبلغ ألمها الأفئدة. والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعتَ أرضنا، أي: بلغت.
فإن قيل: العذاب شامل لجميع أجزائه، فلم خصّ الأفئدة؟
قلتُ: فيه إيذانٌ بزيادة عذابها، ومضاعفة ألمها.
فإن قيل: فلم خُصّت بالزيادة؟
__________
(1) ... الكشاف (4/802).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:443).
(3) ... تفسير مقاتل (3/517).
(4) ... معاني الفراء (3/290).(1/793)
قلتُ: لأنها مَقَرُّ الكفر والعقائد الخبيثة.
وقيل: خصّ الأفئدة؛ لأن الألم إذا وصل إلى الفؤاد مات صاحبه، فأخبر أنهم في حال من يموت، وهم لا يموتون.
ومعنى { مؤصدة } : مُطْبِقَة. وقد ذكرناه في آخر سورة البلد (1) .
قوله تعالى: { في عَمَدٍ ممددة } قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "عُمُدٍ" بضم العين والميم، وفتحهما الباقون (2) .
قال الفراء وغيره (3) : هما جمعان [للعَمُود] (4) ، كرسُول ورُسُل، وأديم وأُدُم.
قال مكي (5) : الياء كالواو في البناء.
وقال أبو عبيدة والزجاج (6) : كلاهما جمع: العِمَاد، مثل: إِهَابٍ وأَهَبٍ [وأُهُبٍ] (7) ، وهي أوتاد الأطباق التي تُطبق على أهل النار.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 20.
(2) ... الحجة للفارسي (4/145)، والحجة لابن زنجلة (ص:773)، والكشف (2/389)، والنشر (2/403)، والإتحاف (ص:443)، والسبعة (ص:697).
(3) ... معاني الفراء (3/291).
(4) ... في الأصل: للعمد. والمثبت من ب.
(5) ... الكشف (2/389).
(6) ... مجاز القرآن (2/311)، ومعاني الزجاج (5/362).
(7) ... زيادة من ب.(1/794)
وفي قراءة عبد الله: "بعُمُد" (1) ، وهذا تفسيرٌ لقراءة العامة.
المعنى: أنها عليهم مُطْبَقَة بعُمُد. وفي آخر البلد (2) عن مقاتل (3) ما يؤيد هذا المعنى.
وقيل: المعنى (4) مؤصدة موثقين في عمد ممددة مثل المقاطر التي تُقْطَرُ [فيها] (5) اللصوص، أجارنا الله تعالى منها.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/230).
(2) ... عند الآية رقم: 20.
(3) ... تفسير مقاتل (3/487).
(4) ... قوله: وقيل المعنى، ساقط من ب.
(5) زيادة من ب.(1/795)
سورة الفيل
ijk
وهي خمس آيات (1) . وهي مكية.
قال محمد بن إسحاق وغيره -دخل كلام بعضهم في بعض ومعظم [السياقة] (2) لابن إسحاق-: كان من حديث أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس وعمن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم: أن أبرهة بن الصباح الأشرم -ملك اليمن- بنى كنيسة بصنعاء، وسماها القُلَّيس، وأراد أن يصرف إليها حج العرب، فخرج رجلٌ من كنانة فقَعَدَ فيها (3) ليلاً، فبلغ أبرهة ذلك، فقال: من اجترأ على ذلك؟ فقيل: رجلٌ من العرب من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت، فصنع هذا، فحلف ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فخرج سائراً في الحبشة وخرج معه بفيل يقال له: محمود، وكان قوياً عظيماً -وقيل: استصحب معه أيضاً اثنا عشر فيلاً-، حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه مسعود بن [مُعَتّب] (4) الثقفي في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك إنما نحن عبيدك، ليس لك عندنا خلاف، وبعثوا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:289).
(2) ... في الأصل: السياق. والمثبت من ب.
(3) ... قَعَدَ فيها: أي: أحدث فيها.
(4) ... في الأصل و ب: مغيث. والصواب ما أثبتناه. وانظر: مصادر تخريج القصة.
... وقال ابن حجر: "معتب": بمهملة ومثناة ثم موحدة (فتح الباري 6/263).(1/796)
معه أبا رغال -مولىً لهم- ليدله على البيت، فلما بلغ المُغَمَّس (1) مات [أبو] (2) رغال -وهو الذي يُرجم قبره- فبعث أبرهة من المغمّس رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود، على مقدمة خيله، فجمع إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة بعث رجلاً (3) إلى أهل مكة فقال: سَلْ عن شريفها، ثم قل له: إني لم آت لقتال أحد إلا أن يُقاتلني، إنما جئت لأهدم هذا البيت، ثم انصرف، فلما أتى مكة سأل عن شريفها، فدُلّ على عبدالمطلب، فأبلغه الرسالة، فقال له عبدالمطلب (4) : ما له عندنا قتال، وما لنا به يدان، سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه.
قال: فانطلق معي إلى الملك، فخرج معه، فلما دخل على الملك أعظمه وأكرمه، وكان عبدالمطلب رجلاً جسيماً وسيماً. وقال الملك لترجمانه: قل له: حاجتك إلى الملك؟ فقال عبدالمطلب: حاجتي أن تردّ عليّ إبلي، فقال [لترجمانه] (5) : قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك،
__________
(1) ... المغمس: سهل أفيح يمتد من الشمال إلى الجنوب، مبدؤه من الصفاح وأسفل حنين ولبن الأسفل، ومنتهاه عرفة وجبل سعد والخطم، تشرف عليه من الشرق سلسلة جبلية عالية، عظمها كبكب الذي تطلع شمس وسط المغمس من فوقه، وهو شرق مكة على 20 كيلاً (معجم معالم الحجاز 8/209).
(2) ... في الأصل: أبا. والتصويب من ب.
(3) ... واسمه: حناطة الحميري، كما في تاريخ الأزرقي (1/221)، والطبري (30/301).
(4) ... في ب: فقال عبدالمطلب: قل له.
(5) ... زيادة من ب.(1/797)
جئت إلى بيتٍ هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه فلم تكلّمني فيه وكلّمتني في مائتي بعير أصبتها، فقال عبدالمطلب: قل له: أنا رب هذه الإبل، وإن لهذا البيت رباً سيمنعه منه، فأمر بإبله فرُدَّت عليه.
قال ابن إسحاق: وكان فيما زعم (1) بعض أهل العلم: قد ذهب عبدالمطلب إلى أبرهة بسيد بني كنانة (2) وسيد بني هذيل (3) ، فعرضوا على أبرهة ثلُثَ أموال أهل تهامة، [على] (4) أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، [فأبى] (5) عليهم.
فلما رُدّت الإبل على عبدالمطلب رجع فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشِّعاب، ويتحرَّزوا في رؤوس الجبال، تخوفاً عليهم من معرّة الجيش إذا دخل، ففعلوا، وأتى عبدالمطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا ربِّ لا أرجو [لهمْ] (6) سِوَاكَا ... يا ربِّ فامنعْ منهُم حِمَاكَا
__________
(1) ... في الأصل: عزم. والتصويب من ب.
(2) ... وهو يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل، كما في تاريخ الأزرقي (1/223)، وتفسير الطبري (30/302).
(3) ... وهو خويلد بن واثلة الهذلي، كما في تاريخ الأزرقي وتفسير الطبري، الموضعان السابقان.
(4) ... في الأصل: إلى. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: فأتى. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من ب.(1/798)
إنَّ عدوَّ البيت منْ عَاداكَا ... امنعهمُ أن يُخْرِبُوا قِرَاكَا (1)
وقال أيضاً:
لاهُمَّ إنَّ المرءَ يمنعُ ... رَحْلَهُ فامنعْ حِلاَلَك
لا يغلبنَّ صليبُهم ... ومِحَالُهم عَدْواً مِحَالَك
جَرُّوا جُموعَ بلادِهم ... والفيلّ كيْ يسْبُوا عِيالَك
عَمَدُوا حِمَاكَ بكيْدِهِم ... جَهْلاً وما رَقَبُوا جَلالَك
إنْ كنتَ تاركَهُم وكَعْـ ... ـبَتَنَا فأمْرٌ ما بَدَا لَك (2)
ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فقدّم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، فإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف (3) ، مع كل طير منها ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، أمثال الحمص والعدس، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب أحداً إلا هلك، ولم تُصب كل القوم، فخرج من لم تُصبه الحجارة منهم يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه، وماج بعضهم في بعض، وهلكوا في كل طريق ومنهل، وبعث
__________
(1) ... انظر البيتين في: القرطبي (20/191)، وتفسير الطبري (30/302)، وتاريخ الطبري (1/442)، وزاد المسير (9/233)، والماوردي (6/341).
(2) ... انظر الأبيات في: زاد المسير (9/233-234)، وتاريخ الطبري (1/442)، وسيرة ابن إسحاق (1/39)، وتاريخ الخميس (1/190).
(3) ... الخُطّاف: الطائر المعروف، الذي تدعوه العامة: عصفور الجنة (اللسان، مادة: خطف).(1/799)
الله على أبرهة داء في جسده، فجعلت أنامله تتساقط، كلما سقطت أنملة تبعتها أنملة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثلُ فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه (1) .
قالوا: فلما رأى عبد المطلب الطير قد أقبلت من ناحية البحر قال: إن هذه لطيرٌ غريبة، وبعث ابنه عبدالله -أبا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر أمر القوم، فرجع يركض فرسه ويقول: هلك القوم جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه، فغنموا أموالهم. وقيل: لم ينج من القوم إلا وزير أبرهة أبو يكسوم، فسار وطائرٌ يحلّق فوقه، حتى دخل على النجاشي وهو الملك الأعظم، وكان أبرهة دونه، فلما أخبره الخبر أرسل الطائر عليه الحجر فهلك، فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه (2) .
فصل
ذهب أكثر علماء النقل إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد عام الفيل.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن الفيل كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث وعشرين سنة (3) .
وحكى مقاتل (4) : أنه كان قبل مولده بأربعين سنة. والأول أصح.
__________
(1) ... أخرج القصة بطولها: الطبري (30/300-303)، والأزرقي في تاريخه (1/219-227). وانظر: سيرة ابن هشام (1/163-173)، وتاريخ الطبري (1/439-443).
(2) ... ذكره الماوردي (6/339-342)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/232-235).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/236).
(4) ... تفسير مقاتل (3/523).(1/800)
قال عبد الملك بن مروان لقباث بن أشيم الكناني: أنت أكبر أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر وأنا أسن منه، وُلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، ووقَفَتْ بي أمي على روث الفيل (1) .
ويروى: أن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه [أعميَيْن] (2) مُقْعَديْن يستطعمان (3) .
وقال الواقدي: كان أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) .
َOs9r& تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (3/724 ح6624)، والطبراني في الكبير (19/37 ح75) كلاهما بدون لفظ: "ووقَفَتْ بي أمي على روث الفيل". وانظر لفظ المصنف في: تهذيب الكمال (23/467)، والاستيعاب (3/1303)، وتاريخ الطبري (1/453).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الأزرقي في تاريخه (1/229). وذكره ابن هشام في سيرته (1/176)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/285) وعزاه للبزار، قال: ورجاله ثقات.
(4) ... ذكره الماوردي (6/341)، والقرطبي (20/193).(1/801)
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ اخب
قال الله تعالى: { ألم تر } قال الفراء (1) : ألم تُخْبَر.
قال الزجاج (2) : ألم تعلم. وقد سبق ذلك.
قال صاحب النظم: معناه: التعجيب (3) .
وقد ذكرنا سبب مسيرهم لتخريب الكعبة، وهو قول ابن عباس وعامة المفسرين.
وقال مقاتل (4) : كان السبب في ذلك: أن قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي، فنزلوا إلى جانب بِيعَة، فأوقدوا ناراً، فلما رحَلُوا أطارت الريح النار، فاضطرم الهيكل، وانطلق الصريخ إلى النجاشي، فأخبره فأسف عند ذلك غضباً للبِيعَة، فبعث أبرهةَ ليهدم (5) الكعبة.
قوله تعالى: { ألم يجعل كيدهم في تضليل } يعني: مكرهم وسعيهم في
__________
(1) ... معاني الفراء (3/291).
(2) ... معاني الزجاج (5/363).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/554).
(4) ... تفسير مقاتل (3/520).
(5) ... في ب: لهدم.(1/802)
تخريب الكعبة "في تضليل" عما قصدوا له (1) ، يريد: سعيهم ضل وبطل، كما قال: { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } [غافر:25].
{ وأرسل عليهم طيراً أبابيل } قال ابن عباس ومجاهد: أبابيل: متتابعة يتبع بعضها بعضاً (2) .
وقال ابن مسعود: متفرّقة من هاهنا ومن هاهنا (3) .
قال أبو عبيدة (4) : جماعات في تفرقة.
قال الفراء (5) وأبو عبيدة: لا واحد لها.
وحكى الزجاج (6) : واحدها: إبّالة. قال: وبعضهم يقول: واحدها: إبَّوْل، مثل: عِجَّوْل وعَجَاجِيل.
واختلفوا في صفتها ولونها؛ فقال ابن عباس: كان لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفٌّ كأَكُفِّ الكلاب (7) .
__________
(1) ... ساقط من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (30/297). وفي تفسير مجاهد (ص:782): مجتمعة متتابعة. وذكره السيوطي في الدر (8/631) وعزاه لابن مردويه.
(3) ... ذكره الماوردي (6/342)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/236).
(4) ... مجاز القرآن (2/312).
(5) ... معاني الفراء (3/292).
(6) ... معاني الزجاج (5/364).
(7) ... أخرجه الطبري (30/297)، وابن أبي شيبة (7/326 ح36536). وذكره السيوطي في الدر (8/630) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.(1/803)
وقد ذكرنا عن ابن إسحاق: أنها كانت أمثال الخطاطيف (1) .
وقال سعيد بن جبير: كانت خضراء (2) .
وقال قتادة: بيضاء (3) .
وقال [عبيد] (4) بن عمير: سوداء (5) .
وغير ممتنع أن تكون مختلفة الألوان، فلا منافاة بين الأقوال.
واختلفوا في صفة الحجارة؛ فقال ابن إسحاق كما حكيناه في سياق القصة.
وقال عبيد بن عمير: بل كان الحجر كرأس الرجل (6) .
وقد سبق ذكر السِّجِّيل في هود، والعَصْف في الرحمن (7) .
والمعنى: فجعلهم كزرع وتِبْن قد أكلته الدواب، ثم راثتْه، قد نَسَّ وتفرقت أجزاؤه، لكنه جاء على ما عليه آداب القرآن، كقوله: { كانا يأكلان الطعام } [المائدة:75].
وقال ابن عباس: المأكول: الذي أكله الدود.
قال الزجاج (8) : أي: جعلهم كورق الزرع الذي جَفَّ (9) وأُكل، أي: وقع
__________
(1) ... سبق قبل قليل. وانظر: زاد المسير (9/234).
(2) ... أخرجه الطبري (30/298). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/234).
(3) ... ذكره الطبري (30/297) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: عبدالله. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير، الموضع السابق.
(5) ... ذكره الطبري (30/297) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/234).
(7) ... السجيل في سورة هود، الآية رقم: 82، والعصف في سورة الرحمن، الآية رقم: 12.
(8) ... معاني الزجاج (5/364).
(9) ... في معاني الزجاج: جُزَّ.(1/804)
فيه الأكال.
وقيل: أُكل فبقي صِفْراً منه.
قال الزجاج (1) : وجاء في التفسير: أن الله تعالى جلّ ذكره أرسل عليهم سيلاً، فحملهم إلى البحر. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/364).(1/805)
سورة قريش
ijk
وهي خمس آيات في المدني، وأربع في الكوفي (1) . وهي مكية عند الأكثرين.
وقال ابن السائب: مدنية (2) .
ة#"n=ƒ\} قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ احب
قوله تعالى: { لإيلاف قريش } قرأ ابن عامر: "لإِلاَفِ" بغير ياء بعد
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:290).
(2) ... انظر: زاد المسير (9/238).(1/806)
الهمزة، مثل: لَعِلافِ، جعله مصدر ألِفَ [إلافاً] (1) .
قال أبو طالب يوصي أبا لهب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - :
ولا تَتْرُكْنَهُ ما حييتَ لِمُعْظَمٍ ... وكنْ رَجُلاً ذا نَجْدَةٍ وعَفَاف
تذُودُ العِدَى عن ربوةٍ هاشميةٍ ... إِلافُهُمُ في الناسِ خيرُ إِلاف (2)
وقرأ الباقون بياء بعد الهمزة (3) ، جعلوه مصدر آلَفَ، وهما لغتان.
واتفقوا على إثبات الهمزة في الموضع الثاني، مصدر آلَفَ.
وكأن ابنَ عامر آثَرَ الجمع بين اللغتين في الكلمتين.
واختلفوا في متعلق اللام من "لإيلاف"، فذهب جمهور العلماء إلى أنه متعلق بقوله: { فجعلهم كعصف مأكول } [الفيل:5]، أي: أهلكهم الله لتبقى قريش، [وما] (4) قدْ ألِفُوا من رحلة الشتاء والصيف (5) . فتكون هذه السورة مرتبطة بما قبلها.
وقيل: إنهما في مصحف أبيّ سورة واحدة من غير فصل.
ويروى: أن عمر رضي الله عنه قرأهما في الركعة الثانية من صلاة المغرب (6) .
وقال الأعمش والكسائي: هذه لام التعجب، كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت (7) .
وقال الزجاج (8) : قال النحويون الذين تُرتضى عربيَّتُهُم: هذه اللام معناها متصل بما بعدها. المعنى: فليعبدوا رب هذا البيت لإِلْفِهِمْ رحلة الشتاء والصيف.
والتأويل: أن قريشاً كانوا يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام فيَمْتارون، وكانوا في الرحلتين آمنين، والناس يُتخطّفون، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهلُ حرم الله، فلا يُتعرّض لهم.
وكل من كان من ولد النضر بن كنانة، فهو من قريش.
واختلفوا في سبب تسميتهم بذلك؛ فقال الأكثرون: سُمُّوا قريشاً؛ لجمعهم المال، وكانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب زرع ولا ضرع، والقَرْشُ: الكَسْبُ (9) .
وقال معاوية لابن عباس: لم سمّيت [قريشُ] (10) قريشاً؟ فقال: بدابّة تكون في البحر من أعظم دوابّه، يقال لها: قُريش، لا تمُرُّ بشيء من
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... البيتان لأبي طالب بن عبد المطلب، انظر: ديوانه (ص:177)، والقرطبي (20/202)، والماوردي (6/346).
(3) ... الحجة للفارسي (4/146)، والحجة لابن زنجلة (ص:773-775)، والكشف (2/389-390)، والنشر (2/403)، والإتحاف (ص:444)، والسبعة (ص:698).
(4) ... في الأصل: ما. والمثبت من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/238).
(6) ... ذكره الماوردي (6/345-346).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/239).
(8) ... معاني الزجاج (5/365-366).
(9) ... انظر: اللسان (مادة: قرش).
(10) ... في الأصل: قريشاً. والتصويب من ب.(1/807)
الغَثِّ (1) والسمين إلا أكلته. وأنشده شعر الجمحي:
وقُريشٌ [هي] (2) التي تسكنُ البحـ ... ـر، بها سُميت قُريشٌ قريشا
تأكُلُ الغَثَّ والسَّمينَ، ولا تترُكُ ... فيه لذي الجناحينِ رِيشَا
هكذا في البلادِ حيُّ قريشٍ ... يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَمِيشَا (3)
ولهم آخرُ الزمانِ نبيٌ ... يُكْثِرُ القتلَ فيهم والخُمُوشَا (4)
قوله: { إيلافهم } : ترجمة عن الأول وبدلٌ منه، { رحلة } : مفعول به (5) ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس.
{ فليعبدوا } أي: فليوحدوا { رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع } أي: من بعد جوع، كما تقول: كسوتك من عُرْي، أي: من بعد عُرْي.
قال عطاء عن ابن عباس: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم [هاشمٌ] (6) على الرحلتين، فكانوا يقْسمون ربحهم بين الغني والفقير، حتى كان فقيرُهم كغنيهم. فلم يكن [بنو] (7) أبٍ أكثر منهم مالاً ولا أعزّ من
__________
(1) ... الغَثُّ: الرديء من كل شيء (اللسان، مادة: غثث).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... كميشا: أي: سريعاً (لسان العرب، مادة: كمش).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/556)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/240).
... والخُمُوش: جمع الخَمْش، وهو مثل الخدش في الوجه والبدن (اللسان، مادة: خمش).
(5) ... انظر: التبيان (2/295)، والدر المصون (6/573).
(6) ... في الأصل: هشام. والتصويب من ب.
(7) ... في الأصل: أبو. والمثبت من ب.(1/809)
قريش (1) .
وقد قال الشاعر فيهم:
الخالطونَ فقيرَهُم بغنيِّهم ... ... حتى يكونَ فقيرُهُم كالكَافي (2)
{ وآمنهم من خوف } إن حضروا آمنهم الحرم، وإن سافروا لا يُتعرض لهم، وغيرهم من العرب يتغاورون ويتناحرون. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/557)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/242).
(2) ... جاء في هامش ب: وفي القصيدة:
... ... ... عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ... ورجال مكة مسنتون عجاف
... والبيت لابن الزبعرى، وقيل: لتبع، وهو في: الماوردي (6/347)، والبحر (8/516)، وتاريخ الأزرقي (1/180)، والقرطبي (20/205)، وسيرة ابن هشام (1/317).(1/810)
سورة أرأيت
ijk
وهي ست آيات في المدني، وسبع في الكوفي (1) .
قال الأكثرون: هي مكية.
وقال ابن عباس وقتادة: مدنية (2) .
وقيل: نصفها مكي نزل في العاص بن وائل، ونصفها الآخر مدني نزل في عبد الله بن أبيّ المنافق (3) .
|M÷ƒuنu'r& الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:291).
(2) ... انظر: الماوردي (6/350)، وزاد المسير (9/243).
(3) ... هو قول هبة الله ابن سلامة. انظر: الناسخ والمنسوخ (ص:205).(1/811)
سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ اذب
قوله تعالى: { أرأيت الذي يكذب بالدين } قال الكلبي: هو العاص بن وائل (1) .
والدِّين: الجزاء والحساب.
وقال صاحب الكشاف (2) : المعنى: هل عرفت الذي [يكذب بالجزاء] (3) من هو؟ إن لم تعرفه { فذلك الذي يدعُّ اليتيم } أي: يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوةٍ وأذى.
{ ولا يحض } أي: لا يبعثُ أهله ويحثهم { على طعام المسكين } . والمعنى: لا يُطعمه ولا يأمر بإطعامه.
ثم ذكر حالَ المنافقين، مُخبراً بجزائهم، فذلك قوله تعالى: { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } غافلون لاهون؛ لأنهم لا يرجون
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/350)، والواحدي في الوسيط (4/558)، وأسباب النزول (ص:493)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/244).
(2) ... الكشاف (4/809).
(3) ... في الأصل: يكذب بالدين أي: بالجزاء. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/812)
بفعلها ثواباً، ولا يخافون بتركها عقاباً (1) .
وأكثر المفسرين يقولون: هي عامة في كل من يغفل عن صلاته حتى يخرج وقتها، ويتخذ ذلك دَيْدَناً، وإذا صلى فقلبه متشاغل بالتردد في أودية الأماني، لا يطمأن في ركوع ولا سجود، ولا يذكر الله بقلب خاشع.
قال قتادة: سَاهٍ عنها لا يُبالي، صَلَّى أو لم يُصَلِّ (2) .
{ الذين هم يراؤون } قال الحسن: هو المنافق، إن صَلَّى صَلَّى رِيَاءً، وإن فاتته لم يندم (3) .
وعن سعد بن أبي وقاص: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها (4) .
{ ويمنعون الماعون } قال ابن عباس: المعروف كله، حتى القِدْر والقَصْعَة والفأس (5) .
أخرج أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود قال: "كنا نعد الماعون
__________
(1) ... في هامش ب: أسند البزار من حديث مصعب بن سعد عن أبيه، أنه سأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. رفعه عكرمة بن إبراهيم... رووه موقوفاً.
(2) ... أخرجه الطبري (30/312). وذكره السيوطي في الدر (8/643) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (30/316). وذكره الماوردي (6/351).
(4) ... أخرجه الطبري (30/313)، وابن أبي حاتم (10/3468)، والبيهقي في الكبرى (2/214 ح2982)، والطبراني في الأوسط (2/377 ح2276)، وأبو يعلى (2/140 ح822). وذكره السيوطي في الدر (8/642) وعزاه لأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(5) ... ذكره الطبري (30/319)، والماوردي (6/353)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/245-246).(1/813)
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عارية الدلو والقدر" (1) .
قال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا، إنما الويل لمن جمعهن فراءى في صلاته، وسَهَا عنها، ومنع هذا (2) .
ويروى عن عمر وعلي والحسن وقتادة: أن الماعون: الزكاة (3) .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (2/124 ح1657).
(2) ... أخرج نحوه البيهقي في الكبرى (6/88 ح11251). وذكره الواحدي في الوسيط (4/559)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/246). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/645) وعزاه للفريابي وابن المنذر والبيهقي.
(3) ... أخرجه الطبري (30/314-316)، والحاكم (2/585 ح3977)، والبيهقي في الكبرى (4/82 ح7020)، وابن أبي شيبة (2/420 ح10620). وذكره السيوطي في الدر (8/645) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم عن علي بن أبي طالب. وذكره الماوردي (6/352)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/246).(1/814)
سورة الكوثر
ijk
وهي ثلاث آيات (1) . وهي مكية في قول الأكثرين.
وقال الحسن وقتادة وعكرمة: هي مدنية (2) .
!$¯Rخ) أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ اجب
قال الله تعالى: { إنا أعطيناك الكوثر } وقرأ الحسن: "أنْطَيْنَاكَ" (3) ، وهما بمعنى واحد.
والكَوْثَر: فَوْعَلٌ من الكثرة.
والذي عليه جمهور المفسرين [وتدل] (4) عليه الأخبار والآثار: أنه نهر
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:292).
(2) ... انظر: زاد المسير (9/247).
(3) ... انظر هذه القراءة في: القرطبي (20/216)، والدر المصون (6/577).
(4) ... في الأصل: تدل. والتصويب من ب.(1/815)
في الجنة.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا آدم، حدثنا شيبان، حدثنا قتادة، عن أنس قال: "لما عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء قال: أتيت على نهرٍ حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفٌ، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" (1) .
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة، قال سألتها عن قوله: { إنا أعطيناك الكوثر } ؟ قالت: "نَهْرٌ أُعْطِيَه نبيُّكُم - صلى الله عليه وسلم - ، شاطئاه عليه دُرٌّ مجوّف، آنيته كعدد النجوم" (2) .
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر } ، ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، [عليه] (3) خيرٌ كثيرٌ، هو حوضٌ ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1900 ح4680).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1900 ح4681).
(3) ... زيادة من صحيح مسلم (1/300).(1/816)
عدد النجوم" (1) .
وفي رواية: "وعدنيه ربي في الجنة، عليه حوضي"، وساق الحديث.
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه [الله] (2) إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه" (3) .
قوله تعالى: { فصل لربك وانحر } قال قتادة: صَلِّ صلاة الأضحى (4) .
وقال مجاهد: صلاة الصبح بالمزدلفة (5) .
وقال مقاتل (6) : صَلِّ الصلوات الخمس.
وأما قوله: { وانحر } فقال عامة المفسرين: اذبح يوم النحر (7) .
وقال علي عليه السلام: ضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (8) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/300 ح400). ولم أقف عليه عند البخاري.
(2) ... زيادة من الصحيح.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1900 ح4682).
(4) ... أخرجه الطبري (30/327). وذكره السيوطي في الدر (8/651) وعزاه لابن جرير.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3470) عن مجاهد وعطاء وعكرمة. وذكره الماوردي (6/355)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/249)، والسيوطي في الدر (8/651) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء وعكرمة.
(6) ... تفسير مقاتل (3/528).
(7) ... أخرجه الطبري (30/326-327). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/249).
(8) ... أخرجه الطبري (30/325)، والحاكم (2/586 ح3980)، والضياء المقدسي في المختارة (2/292)، والبخاري في التاريخ (6/437 ح2911)، والبيهقي في الكبرى (2/29 ح2163)، وابن أبي شيبة (1/343 ح3941)، والدارقطني (1/285 ح6). وذكره السيوطي في الدر (8/650) وعزاه لابن أبي شيبة في المصنف والبخاري في تاريخه وابن جرير وغيرهم.(1/817)
قال ابن جرير (1) : ضعهما عند النحر في الصلاة. ويروى هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن عباس: قالت قريش: ليس لمحمد ولد، فسيموت وينقطع أثره، فأنزل الله تعالى سورة الكوثر إلى قوله: { إن شانئك هو الأبتر } .
وفي رواية عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل، لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب المسجد فوقف يحدثه، ثم دخل العاص المسجد وفيه ناسٌ من صناديد قريش فقالوا له: من الذي كنت تحدث؟ فقال: ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فأنزل الله هذه السورة (2) .
وقيل: شانئه: أبو جهل.
وقيل: أبو لهب.
وقيل: عقبة بن أبي معيط.
والأبتر: المنقطع عن كل خير.
__________
(1) ... في تفسيره (30/326).
(2) ... ذكره الواحدي في: أسباب النزول (ص:494)، وزاد المسير (9/250).(1/818)
سورة الكافرون (1)
ijk
وهي ست آيات (2) .
والأظهر عندهم -وهو قول الأكثرين-: أنها مكية.
ويروى عن قتادة: أنها مدنية (3) .
ِ@è% يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ادب
__________
(1) ... في ب: الكافرين.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:293).
(3) ... انظر: الماوردي (6/357)، وزاد المسير (9/252).(1/819)
أخبرنا محمد بن محمد بن أبي بكر الهمذاني، أخبرنا عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه المطهر بن عبدالكريم بن محمد [قالا] (1) : أخبرنا عبدالرحمن بن حمد الدوني، أخبرنا أبو نصر الكسار، أخبرنا أبو بكر السني، أخبرنا أبو عبدالرحمن -يعني: النسائي-، أخبرنا محمد بن عبدالله بن المبارك، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل (2) ، عن أبيه (3) ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما جاء بك؟ قال: جئت يا رسول الله لتعلمني شيئاً أقوله عند منامي، قال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ: { قل يا أيها الكافرون } ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك" (4) .
وبالإسناد قال أبو بكر السني: حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا عبيدالله بن أحمد، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا عيسى بن ميمون، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ في ليلة: "إذا زلزلت الأرض" كانت له كعدل نصف القرآن، ومن قرأ: "قل يا أيها الكافرون" كانت له كعدل ربع القرآن، ومن قرأ: "قل
__________
(1) ... في الأصل: قال. والتصويب من ب.
(2) ... فروة بن نوفل الأشجعي الكوفي، مختلف في صحبته، والصواب أن الصحبة لأبيه، قتل في خلافة معاوية (تهذيب التهذيب 8/445، والتقريب ص:445).
(3) ... نوفل الأشجعي، صحابي نزل الكوفة، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى عنه بنوه: فروة، وعبدالرحمن، وسحيم (تهذيب التهذيب 10/439، والتقريب ص:567).
(4) ... أخرجه أبو داود (4/313 ح5055)، والترمذي (5/474 ح3403)، والنسائي في الكبرى (6/200 ح10637)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:323).(1/820)
هو الله أحد" كانت له كعدل ثلث القرآن" (1) .
قال عامة المفسرين: لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم بمكة على المشركين، وألقى الشيطان في قراءته ما ألقى، طمع مشركوا قريش فيه، فأتوه فقالوا له: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : معاذ الله أن أشرك بالله غيره، فأنزل الله هذه السورة. فأتى المسجد وفيه صناديد قريش فقرأها عليهم، فأيسوا منه (2) .
والمعنى: { لا أعبد } في المستقبل من الزمان { ما تعبدون } من الأصنام اليوم، { ولا أنتم عابدون } في المستقبل { ما أعبد } أي: من أعبده اليوم، وهو الله تعالى.
{ ولا أنا عابد } أي: ولا كُنْتُ قطُّ عابداً فيما سلف { ما عبدتم } .
المعنى: ما فعلت ذلك في الجاهلية، فكيف تتوقعونه مني في الإسلام.
{ ولا أنتم عابدون } أي: ما عبدتم في زمان من الأزمان { ما أعبد } . وهذا التقرير اختيار صاحب الكشاف، قال (3) : لأن "لا" لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، ألا ترى أن "لن" تأكيد لما تنفيه "لا".
قال الخليل: أصل "لن": "لا أن" (4) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/166 ح2894) من حديث ابن عباس، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:322).
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:496).
(3) ... الكشاف (4/814).
(4) ... في هامش ب: وهذا على مذهبه في "لن" أنه مختصة بنفي المستقبل ولهذا خص المصنف التقرير السابق بأنه اختياره.(1/821)
وقال الزجاج (1) : المعنى: لا أعبد في حالي هذه ما تعبدون.
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم } أي: ولا أعبد في المستقبل ما عبدتم.
{ ولا أنتم } فيما تستقبلون { عابدون ما أعبد } .
وقيل: هو تكرير فائدته: حسم أطماع المشركين من عبادة محمد - صلى الله عليه وسلم - آلهتهم.
قال مقاتل (2) : نزلت هذه السورة في أبي جهل والمستهزئين، ولم يؤمن منهم أحد.
قوله تعالى: { لكم دينكم } أي: شرككم، { ولي دين } توحيدي.
وهذه مجاملة. أي: قد بُعثت إليكم لأرشدكم إلى الهدى، فإذا لم تتبعوني فَدَعُوني، ولا تَدْعُوني إلى الشرك.
وقيل: هو تهديد.
وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف (3) .
واختلف القراء في "وَلِيَ دين"؛ فقرأ نافع وحفص وهشام: "ولِيَ" بفتح الياء، وأسكنها الباقون (4) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/371).
(2) ... تفسير مقاتل (3/529).
(3) ... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:206)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:68)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:509).
(4) ... الحجة للفارسي (4/150)، والنشر (2/404)، والكشف (2/390)، والإتحاف (ص:444)، والسبعة (ص:699).(1/822)
وأثبت الياء في "ديني" في الحالين يعقوب، وحذفها الباقون (1) .
__________
(1) ... النشر (2/404)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:444).(1/823)
سورة النصر
ijk
وهي ثلاث آيات، مدنية بالإجماع (1) .
وقد ذكرنا في مقدمة الكتاب أنها آخر سورة أنزلت جميعاً.
#sŒخ) uن!$y_ مچَءtR "!$# كx÷Gxےّ9$#ur اتب |M÷ƒr&u'ur }¨$¨Y9$# ڑcqè=ن{ô‰tƒ 'خû ا`ƒدٹ "!$# %[`#uqّùr& اثب ôxخm7|،sù د‰ôJpt؟2 y7خn/u' çnِچدےَّtGَ™$#ur ¼çm¯Rخ) tb%ں2 $R/#qs? اجب
والمعنى: إذا جاءك يا محمد { نصر الله } على أعدائك من قريش وفتح مكة، وكان لعشر مضين من رمضان سنة ثمان.
{ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } قال أبو عبيدة (2) : جماعات
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:294).
(2) ... مجاز القرآن (2/315).(1/824)
في تفرقة.
قال الحسن: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قالت العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فدخلوا في دين الله أفواجاً (1) .
قوله تعالى: { فسبح } هو العامل في { إذا جاء } .
والمعنى: فَصَلِّ، أو فقل: سبحان الله.
{ بحمد ربك } حامداً له حيث ردَّك إلى مكة ظاهراً عزيزاً قاهراً، تجرُّ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، بعد أن خرجْتَ منها خائفاً متستراً، قد أظهر دينك، وأعلى كلمتك، وأوقع في القلوب هيبتك، وأنجز لك ما وعدك.
{ واستغفره } اطلب منه المغفرة؛ خضوعاً لجلاله، وإظهاراً لعظمته، وفقراً إلى رحمته، { إنه كان تواباً } .
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أنزلت عليه: { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (2) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/360)، والواحدي في الوسيط (4/566)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/256). وقوله: "فليس لكم به يدان" أي: ليس لكم به طاقة.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1900 ح4683).
... وفي هامش ب: وفي الباب عن عبدالله بن مسعود ذكر الإمام أحمد في مسنده، وهو بألفاظ في بعض طرقه: أنه كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، إنك أنت التواب الرحيم (انظر: المسند 1/388 ح3683، 1/392 ح3719، 1/394 ح3745).(1/825)
قال (1) : وأخبرني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن" (2) .
وأخرجه مسلم أيضاً عن زهير بن حرب، عن جرير.
قال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن حبيب [بن] (3) أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن عمر سألهم عن قول الله عز وجل: { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟ قالوا: فتح المدائن والقصور. قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أجل، أو مَثَلٌ ضُرِبَ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، نُعيت له نفسه" (4) .
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تُدْخِل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثله؟
__________
(1) ... أي البخاري.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1901 ح4684)، ومسلم (1/350 ح484).
(3) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب، والصحيح.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1901 ح4685).(1/826)
[فقال عمر] (1) : إنه مَنْ قد علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله عز وجل: { إذا جاء نصر الله والفتح } فقال بعضهم: أُمِرْنا نحمدُ الله ونستغفره إذا نُصِرْنا وفُتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: إذا جاء نصر الله والفتح، فذلك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول" (2) .
وكان ابن مسعود يقول: إن هذه السورة تسمى: سورة التوديع (3) .
__________
(1) ... زيادة من ب، والصحيح.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1901 ح4686).
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/818-819).
... وفي هامش ب: وفي مسند أحمد عن ابن عباس: لما نزلت قال - صلى الله عليه وسلم - : نُعيت إليَّ نفسي بأنه مقبوض في تلك السنة (انظر: المسند 1/217 ح1873).
... وفيه عن ابن مسعود: كنت معه ليلة وفد الجن، فلما انصرف تنفس، فقلت: ما شأنك؟ فقال: نُعيت إلي نفسي يا ابن مسعود (انظر: المسند 1/449 ح4294).
... وفيه عن عائشة: فلما خرجت نفسه لم أر ريحاً أطيب منها (انظر: المسند 6/121 ح24949).
... وفيه عنها: سمعته يقول: ما من نبي إلا تُقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم تُرد إليه ثم يُخير... (انظر: المسند 6/74 ح24498).
... وفيه عن علي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كُفّن في سبعة أثواب (انظر: المسند 1/102 ح801).
... وفيه عن أبي سعيد أو أبي عسيب: كيف نصلي عليك؟ قال: ادخلوا أرسالاً أرسالاً (انظر: المسند 5/81).(1/827)
قال قتادة: عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه السورة سنتين (1) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/567)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/257).(1/828)
سورة تبت
ijk
وهي خمس آيات (1) . وهي مكية بإجماعهم.
ôM7s? !#y‰tƒ 'خ1r& 5=ygs9 ،=s?ur اتب !$tB 4سo_ّîr& çm÷Ytم ¼م&è!$tB $tBur |=|،ں2 اثب 4'n?َءuy™ #Y'$tR |N#sŒ 5=olm; اجب ¼çmè?r&tچّB$#ur s's!$£Jym ة=sـysّ9$# احب 'خû $ydد‰إ_ ×@ِ7ym `دiB O‰|،¨B اخب
والسبب في نزولها: ما أخرج في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتكم إن حدّثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:295).(1/829)
شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تباً لك، فأنزل الله تعالى: { تبت يدا أبي لهب } إلى آخرها" (1) .
ومعنى: "تَبَّتْ": خَسِرَتْ يدا أبي لهب. [والمراد: جملته، فهو كقوله: { بما قدمت يداك } [الحج:10].
وأبو لهب] (2) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، اسمه: عبد العزى، وكُنِّي بأبي لهب: لتوقد وجهه حُسْناً.
وإنما كَنَّاهُ الله تعالى؛ لاشتهاره بالكنية، والتسجيل عليه بأنه لا يراد بهذا الأمر الفظيع سواه، ولما في تسميته بعبد العزى من الشرك (3) .
وقرأ ابن كثير: "لَهْبٍ" بإسكان الهاء (4) ، وهما لغتان، كالنَّهَر والنَّهْر، والشَّمْع والشَّمَع. وإنما يسوغ هذا فيما كان على هذا الوزن، وحرف الحلق عين الفعل [أو لامه] (5) .
قوله تعالى: { وَتَبّ } إخبار أن التَّباب قد حصل له ووقع به. فالأول دعاء عليه، والثاني خبر.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1902 ح4688)، ومسلم (1/193 ح208).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/737): ولا حجة فيه لمن قال بجواز تكنية المشرك على الإطلاق، بل محل الجواز إذا لم يقتض ذلك التعظيم له أو دعت الحاجة إليه.
(4) ... الحجة للفارسي (4/151)، والحجة لابن زنجلة (ص:776)، والكشف (2/390)، والنشر (2/404)، والإتحاف (ص:445)، والسبعة (ص:700).
(5) ... في الأصل: ولامه. والمثبت من ب.(1/830)
ويؤيده قراءة ابن مسعود: "وقد تبّ" (1) .
{ ما أغنى عنه ماله } استفهام في معنى الإنكار عليه. ويجوز أن يكون نفياً.
"وما" في قوله: { وما كسب } موصولة أو مصدرية، ومحلها الرفع. على معنى: ما أغنى عنه ماله والذي كسبه، أو كسبه.
والمراد بكسبه: ولده. وكان قال حين أنذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كان ما يقول محمد حقاً فإني أفتدي بمالي وولدي (2) .
ويجوز أن يراد: ما أغنى عنه رأس ماله ولا أرباحه التي اكتسبها، أو ما أغنى عنه ماله الذي ورثه وما كسبه هو.
ثم توعده بالنار فقال: { سيصلى ناراً ذات لهب } .
{ وامرأته } أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، { حمالة الحطب } .
قرأ عاصم: "حَمَّالَةَ" بالنصب على الذم. وقرأ الباقون: بالرفع على الصفة (3) ، أو على معنى: هي حمالة الحطب.
قال مجاهد والسدي: كانت تمشي بالنميمة (4) . والعرب تقول: فلانٌ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الماوردي (6/365)، والبحر المحيط (8/526).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/260).
(3) ... الحجة للفارسي (4/151)، والحجة لابن زنجلة (ص:776-777)، والكشف (2/390)، والنشر (2/404)، والإتحاف (ص:445)، والسبعة (ص:700).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:793)، والطبري (30/339)، وابن أبي حاتم (10/3473)، وابن أبي الدنيا في الصمت (ص:158)، والغيبة والنميمة (ص:115). وذكره الماوردي (6/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/260)، والسيوطي في الدر (8/667) وعزاه لابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.(1/831)
يحطب على فلان؛ إذا كان يُغري به ويُفسد أمره (1) . قال الشاعر يذكر امرأة:
منَ البيضِ لمْ تُصْطَدْ على ظَهْرِ سَوْأَةٍ ولم تَمْشِ بين الحيِّ بالحَطَبِ الرَّطْب (2)
وقال الضحاك وابن زيد: كانت تحتطب الشوك فتُلقيه في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً (3) .
والقولان عن ابن عباس.
وقال قتادة: كانت تُعَيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفقر، وكانت تحتطب، فعُيّرت بذلك (4) .
قال الثعلبي (5) : وهذا قول ليس بقوي؛ لأن الله وصفهم بالمال والولد،
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: حطب).
(2) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: حطب)، وتاج العروس (مادة: حطب، حظر)، والقرطبي (20/239)، والماوردي (6/367)، والبحر المحيط (8/528)، والدر المصون (6/586)، وروح المعاني (30/263).
(3) ... أخرجه الطبري (30/339)، وابن أبي حاتم (10/3473). وذكره الماوردي (6/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/261)، والسيوطي في الدر (8/667) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد. ومن طريق آخر عن ابن عباس وعزاه لابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر.
(4) ... ذكره الطبري (30/339) بلا نسبة، والماوردي (6/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/261).
(5) ... تفسير الثعلبي (10/327).(1/832)
وحمل الحطب ليس بعيب.
قلتُ: وليس هذا التضعيف بشيء؛ لأن الاحتطاب مع كثرة المال دناءة وخسّة يأباها ذووا الأَنَفَة.
وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا (1) . تقول العرب: فلانٌ حاطب قريته؛ إذا كان مفسداً فيهم، جانياً عليهم (2) .
قوله تعالى: { في جيدها } أي: في عنقها { حبل من مَسَد } .
قال ابن قتيبة وغيره (3) : المَسَد: ما أُحكم فَتْلُه من أي شيء كان.
والمعنى: في عنقها حبل من ما مُسِدَ، رابطةً به حزمة من الحطب على ظهرها.
ذكر الله صورتها وهيئتها والحطب على ظهرها، والحبل في عنقها؛ تصغيراً لها، وتحقيراً لشأنها. ولن تجد أنكى لها ولزوجها من المناداة عليها بذلك، وهما من الشرف والعزة والمنعة والمال بالمكانة التي كانا عليها.
وقيل: المعنى: في جيدها في جهنم حبل من مسد، وهي سلسلة من حديد، ذرعها سبعون ذراعاً، قد أُحكم فَتْلُها، تُعذَّبُ بها في النار.
قال أهل العلم (4) : وفي هذه السورة دلالة واضحة على صحة نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله تعالى أخبر عن مصير أبي لهب وامرأته إلى النار، وكانا
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/261).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حطب).
(3) ... تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص:161). وذكره الواحدي في الوسيط (4/569).
(4) ... هو قول ابن الجوزي في: زاد المسير (9/260).(1/833)
من أحرص الناس على إبطال أمره، وإفساد ما جاء به، ولم يؤمنا به نقاماً، ليظهرا للناس الخُلْفَ فيما تُوعِّدا به.
وعندي: أن فيه دلالة على صحة نبوته من وجهين آخرين:
أحدهما: أنه لو لم يكن هذا من عند الله تعالى لم يقدم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على التسجيل عليهما به؛ لجواز وقوع الإسلام منهما في ثاني الحال، فيفضي إلى تطرُّق الطعن عليه من أعدائه.
الثاني: أنه أخبر بذلك واستمرّ موجبه، وهو [كُفْرُهُما] (1) إلى الموت المفضي بهما إليه.
قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "لما نزلت هذه السورة أقبلت أم جميل (2) ولها ولولة وفي يدها فِهْر (3) وهي تقول: مذمّماً أَبَيْنا، ودينه قَلَيْنا، وأمره عَصَيْنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ومعه أبو بكر، فقال: هذه أم جميل يا رسول الله، وأنا أخاف أن تراك، فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به قال: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } [الإسراء:45]، ثم أقبلت على أبي بكر ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت: يا أبا بكر إني أُخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا، ورب هذا البيت ما هجاك، فولّت فعثرت في مِرْطها فقالت: تعس مذمم،
__________
(1) ... في الأصل: كفرهم. والتصويب من ب.
(2) ... في هامش ب: أسند البزار قصتها من حديث ابن عباس، وقال: حديث الإسناد، ويدخل في مسند أبي بكر رضي الله عنه.
(3) ... الفِهْر: الحجر مِلْءَ الكفّ (اللسان، مادة: فهر).(1/834)
ثم انصرفت" (1) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/393 ح3376) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/835)
سورة الإخلاص
ijk
وهي أربع آيات (1) .
وهل هي مكية أو مدنية؟ على قولين (2) .
والكلام فيها تحصره فصول ثلاثة:
الفصل الأول: في فضيلتها:
أخبرنا أبو المجد محمد بن أبي بكر الكرابيسي قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا الشيخان عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه [المطهر] (3) بن عبدالكريم بن محمد قالا: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن حمد الدوني، أخبرنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار الدينوري، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد السني، أخبرنا أبو يعلى، حدثنا حوثرة بن أشرس (4) قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: "أن رجلاً قال: يا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:296).
(2) ... ممن قال بأنها مكية: ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وممن قال بأنها مدنية: ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي (انظر: الماوردي (6/369، وزاد المسير 9/264).
(3) ... في الأصل: المظفر. والتصويب من ب.
(4) ... حوثرة بن أشرس بن عون بن مجشر بن حجين، المحدث الصدوق، أبو عامر العدوي البصري، توفي في آخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/668).(1/836)
رسول الله إني أحب { قل هو الله أحد } قال: حُبّك إياها أدخلك الجنة" (1) .
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ { قل هو الله أحد } ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: سَلُوهُ لأي شيء يصنع ذلك؟ فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبروه أن الله عز وجل يحبه" (2) .
وبالإسناد قال السني: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد -مولى آل زيد بن الخطاب- قال: سمعت أبا هريرة يقول: "أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمع رجلاً يقرأ: { قل هو الله أحد } ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وجبتْ، فسألته ماذا يا رسول الله؟ قال: الجنة" (3) .
وبالإسناد قال السني: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن علي بن مدرك، عن إبراهيم النخعي، عن الربيع بن خثيم، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن كل ليلة، قالوا: ومن يستطيع ذلك؟ قال: بلى { قل هو الله أحد } " (4) .
وبه قال الحافظ أبو بكر السني: أخبرنا الحسين بن يوسف، ثنا علي بن
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/268 ح741)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:323-324).
(2) ... أخرجه البخاري (6/2686 ح6940)، ومسلم (1/557 ح813).
(3) ... أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/177 ح10538)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:324).
(4) ... أخرجه النسائي في الكبرى (6/172 ح10511)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:324).(1/837)
عبدالرحمن بن المغيرة، حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، حدثني زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ: { قل هو الله أحد } حتى ختمها عشر مرات بُني له بها قصرٌ في الجنة" (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد الفربري، حدثنا محمد البخاري، حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك.
وأخبرنا حنبل بن عبدالله إذناً، أخبرنا أبو القاسم بن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا القطيعي، حدثنا عبد الله بن الإمام [أحمد] (2) قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: "أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي جاراً يقوم بالليل ولا يقرأ إلا { قل هو الله أحد } كأنه يقللها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" (3) . انفرد بإخراجه البخاري.
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/437)، والطبراني في الكبير (20/183 ح397)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:324-325).
... وفي هامش ب: قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ح وحدثنا يحيى بن غيلان، ثنا رشدين، ثنا زبان بن فائد الحبراني، فذكره. وفيه زيادة: قال عمر: يا رسول الله إذاً نستكثر، فقال: الله أكثر وأطيب (انظر: مسند أحمد 3/437).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1915 ح4726)، وأحمد (3/43 ح11410).(1/838)
وبالإسناد [قال] (1) الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن
[يزيد] (2) بن كيسان، حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، قال: فحشد من حشد، ثم خرج فقرأ: { قل هو الله أحد * الله الصمد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض: هذا خبر جاءه من السماء، فذلك الذي أدخله، ثم خرج فقال: إني قد قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، وإنها تعدل ثلث القرآن" (3) . انفرد بإخرجه مسلم فرواه عن يعقوب الدورقي، عن يحيى.
الفصل الثاني في سبب نزولها:
أخرج الترمذي من حديث أبي بن كعب: "أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : انسب لنا ربك، فأنزل الله تبارك وتعالى: { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد } لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث، { ولم يكن له كفواً أحد } قال: لم يكن له شبيه ولا [عدل] (4) ، وليس كمثله شيء" (5) .
وروى الشعبي عن جابر قال: "قالوا يا رسول الله: انسب لنا ربك،
__________
(1) ... في الأصل: عن. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: زيد. والتصويب من ب، والمسند (2/429).
(3) ... أخرجه مسلم (1/557 ح812)، وأحمد (2/429 ح9531).
(4) ... في الأصل: عديل. والتصويب من ب، وجامع الترمذي (5/451).
(5) ... أخرجه الترمذي (5/451 ح3364).(1/839)
فنزلت: { قل هو الله أحد } إلى آخرها" (1) .
الفصل الثالث: في تفسيرها:
ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& اتب ھ!$# ك‰yJ¢ء9$# اثب ِNs9 ô$خ#tƒ ِNs9ur ô‰s9qمƒ اجب ِNs9ur `ن3tƒ ¼م&©! #·qàےà2 7‰ymr& احب
قال الله تعالى: { قل هو الله أحد } قال الزجاج (2) : هو كناية عن ذكر الله تعالى. والمعنى: الذي سألتم تبيين نسبته: هو الله. و"أحد" مرفوع على معنى: هو أحد. المعنى: هو الله هو أحد. ويجوز أن يكون "هو" (3) [للأمر] (4) ، كما تقول: هو زيد قائم، أي: الأمر زيد قائم. فالمعنى: الأمر الله أحد.
قرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري لأبي عمرو
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (6/25 ح5687)، والطبري (30/343)، والبيهقي في الشعب (2/508 ح2552)، وأبو نعيم في الحلية (4/335). وذكره السيوطي في الدر (8/669) وعزاه لأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبي نعيم في الحلية والبيهقي بسند حسن.
(2) ... معاني الزجاج (5/377).
(3) ... في هامش ب: ويسمى ضمير الشأن.
(4) ... في الأصل: الأمر. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج (5/377).(1/840)
من رواية أبي خلاد عن اليزيدي عنه: "أحدُ الله" بضم الدال وصلتها باسم الله من غير تنوين ولالتقاء ساكنين (1) .
{ الله الصمد } قال بعض المفسرين: الصمد: الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج (2) . ويروى هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . يقال: صَمَدْتُ صَمْدَه؛ إذا قَصَدْتَ قَصْدَهُ (3) .
وقال الزجاج (4) : الصَّمَد: السيد الذي ينتهي إليه السُّؤدد.
قال الشاعر:
لقدْ بَكَّرَ النَّاعِي بخَيْرَي بني أسد ... بعمرو بن ميمونٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَد (5)
قال غيره: ومعنى هذا: أن السؤدد قد انتهى إليه، فلا سيد فوقه (6) .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي:
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (4/153)، والسبعة (ص:701).
(2) ... ذكره الطبري (30/347)، والماوردي (6/371)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/267).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: صمد).
(4) ... معاني الزجاج (5/377-378).
(5) ... البيت لسبرة بن عمرو الأسدي. وهو في: اللسان (مادة: صمد، خير)، ومجاز القرآن (2/316)، والطبري (30/347)، والقرطبي (20/245)، والماوردي (6/371)، وزاد المسير (9/268)، والبحر (8/529)، والدر المصون (6/589)، وإصلاح المنطق (ص:49)، والأغاني (22/96)، ونسبه الجاحظ في البيان والتبيين (ص:106) لامرأة من بني أسد. وفي كل المصادر: "عمرو بن مسعود" بدل: "عمرو بن ميمون".
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/571).(1/841)
الصَّمَد: الذي لا جوف له (1) .
قال ابن قتيبة (2) : كأن الدال في هذا التفسير مبدلة عن تاء.
وحكى الزجاج والخطابي (3) : أن الصَّمد: الباقي بعد فَنَاء خلقه.
قوله تعالى: { لم يلد ولم يولد } تكذيب لليهود والنصارى في قولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
والمعنى: " لم يلد " ؛ لأنه لا يجانس حتى يكونه له صاحبة من جنسه فيتوالدان، ويدل عليه قوله في موضع آخر : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } [الأنعام:101]، "ولم يولد"؛ لأن كل مولود محدث وجسم، وهو تعالى منزه عن ذلك.
{ ولم يكن له كفواً أحد } قرأ حمزة: "كُفْواً" بسكون الفاء. وقرأ حفص: بالتثقيل وقلب الهمزة واواً، الباقون: بالتثقيل والهمز (4) . وقد ذكرنا أنها لغات فيما مضى.
قال أبي بن كعب: المعنى: لم يكن له مثل ولا عديل (5) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:794)، والطبري (30/344-345). وذكره الماوردي (6/371)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/268)، والسيوطي في الدر (8/671) وعزاه للطبراني في السنة عن الضحاك.
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:542).
(3) ... شأن الدعاء للخطابي (ص:85).
(4) ... انظر: الحجة للفارسي (4/158)، والحجة لابن زنجلة (ص:777)، والكشف (1/116)، والنشر (2/215)، والإتحاف (ص:445)، والسبعة (ص:701-702).
(5) ... ذكره الماوردي (6/372).(1/842)
قال مجاهد: لم يكن له صاحبة (1) .
قال قتادة: لا يكافئه أحد من خلقه (2) .
وفيه تقديم وتأخير، تقديره: لم يكن له أحد كفواً، لكنه راعى رؤوس الآي.
قرأتُ على أبي الحسن علي بن أبي بكر، أخبركم أبو الوقت فأقرَّ به.
وأخبرنا أحمد بن عبدالله العطار قال: أخبرنا أبو الوقت قال: أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي [فقوله] (3) : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد" (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/348). وذكره الماوردي (6/372).
(2) ... ذكره الماوردي (6/372).
(3) ... في الأصل: قوله. والمثبت من ب، والصحيح.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1903 ح4690).(1/843)
سورة الفلق
ijk
وهي خمس آيات (1) .
وهل هي وأختها من المكي أو المدني؟ فيه قولان (2) .
وكان السبب في نزولها: على ما روي عن عائشة وابن عباس وعامة المفسرين، وصح به الحديث: "أن غلاماً من اليهود كان يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطَة رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدة أسنان من مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له: لبيد بن الأعصم، وجعله في بئر لبني زُرَيْق يقال لها: بئر ذرْوان (3) . فمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب، ولم يدر ما عراه، فبينا هو نائم أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: مَطْبُوب. فقال: ومن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن أعصم. قال: وبم طَبَّه؟ قال: بمشط ومشاطة. قال: وأين هو؟ قال: في جُفِّ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:297).
(2) ... ممن قال بأنها مكية: الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وممن قال بأنها مدنية: ابن عباس في أحد قوليه وقتادة (انظر: الماوردي 6/373، وزاد المسير 9/270). والقول بأنها مدنية أصح.
(3) ... ذرْوان: بئر لبني زريق بالمدينة (معجم معالم الحجاز 3/253).(1/844)
طَلْعَةٍ تحت راعوفة (1) في بئر ذَرْوَان. فانتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذعوراً فقال: يا عائشة! أشعرتِ أن الله أخبرني بدائي، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف -والجُفُّ: قِشْرُ الطَّلْع- وإذا فيه مُشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا وَتَرٌ معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله هاتين السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلّت عقدة، ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفة حين انحلَّت العقدة الأخيرة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يقول: بسم الله أرقيك، والله يشفيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين، الله يشفيك، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نأخذ الخبيث فنقتله؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شراً" (2) .
ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# اتب `دB خhژں° $tB t,n=y{ اثب `دBur خhژں° @,إ™%yٌ #sŒخ) |=s%ur اجب
__________
(1) ... في هامش ب: راعوفة البئر: هي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون ناتئة هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المستقي عليها. وقيل: هي حجر يكون على رأس البئر يقوم المستقي عليه. ويروى بالثاء المثلثة. والمشهور: الأول (انظر: اللسان، مادة: رعف).
(2) ... أخرجه مختصراً: البخاري (3/1192 ح3095)، ومسلم (4/1719-1720 ح2189) كلاهما من حديث عائشة. وذكره الثعلبي (10/338) واللفظ له.(1/845)
`دBur جhچx© دM"sV"Oے¨Z9$# †خû د‰s)مèّ9$# احب `دBur جhچx© >‰إ™%tn #sŒخ) y‰|،ym اخب
قال الله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق } أي: ألوذ به وألجأ إليه.
و"الفَلَق": الصبح، في قول الحسن ومجاهد (1) وسعيد بن جبير وقتادة وعامة المفسرين واللغويين والعرف (2) . تقول: هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.
وقال الضحاك: "الفلق": الخلق كله (3) .
قال الزجاج (4) : إذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق؛ كالأرض بالنبات، والسحاب بالمطر.
وقال وهب والسدي: سجن في جهنم (5) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:796).
(2) ... أخرجه الطبري (30/350). وذكره الماوردي (6/374)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/272)، والسيوطي في الدر (8/688) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(3) ... أخرجه الطبري (30/351)، وابن أبي حاتم (10/3475) كلاهما عن ابن عباس. وذكره الماوردي (6/374)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/273).
(4) ... معاني الزجاج (5/379).
(5) ... أخرجه الطبري (30/351) عن السدي، ولفظه: جب في جهنم. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/273).(1/846)
وجاء في بعض الآثار: أنه بيتٌ في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حرّه (1) .
وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس.
{ من شر ما خلق } من الجن والإنس وسائر المخلوقات.
{ ومن شر غاسق إذا وقب } أخرج الترمذي من حديث عائشة قالت: "نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر فقال: يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، هو الغاسق إذا وقب" (2) .
قال ابن قتيبة (3) : يقال: "الغاسق": القمر إذا كُسف فَاسْوَدَّ. ومعنى "وقب": دخل في الكسوف.
وقال ابن زيد: يعني: الثريا إذا سقطت. قال: وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها (4) .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعامة المفسرين واللغويين: "الغسق": الليل (5) . ومعنى "وقب": دخل في كل شيء فأظلم (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/350).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/452 ح3366).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:543).
(4) ... أخرجه الطبري (30/352)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1219 ح6941). وذكره السيوطي في الدر (8/689) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ.
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:796).
(6) ... أخرجه الطبري (30/351). وذكره الماوردي (6/375)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/274).(1/847)
قال الزجاج (1) : "الغاسق": البارد، فقيل لللّيل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار.
وقوله تعالى: { ومن شر النفاثات في العقد } وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه: "النافثات" بتقدم الألف على الفاء (2) ، وهنّ اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها بريقهن.
وقال بعض المفسرين: المراد بهن: بنات لبيد بن الأعصم، سحرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
والمعنى: استعذ بالله من شر سحرهن.
{ ومن شر حاسد إذا حاسد } وقد ذكرنا الحسد وما جاء فيه وفي ذمّه في سورة البقرة.
قال صاحب الكشاف (4) : إن قلت: قوله: { من شر ما خلق } تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة [بعده] من الغاسق والنفاثات والحاسد؟
قلتُ: قد خصّ شر هؤلاء من كل شر؛ لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به.
فإن قلت: لم عَرَّف بعض المستعاذ منه ونَكَّر بعضه؟
قلتُ: عرّف "النفاثات"؛ لأن كل نفاثة شريرة، ونكّر "غاسق"؛ لأن كل
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/379).
(2) ... النشر (2/404)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:445).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/275).
(4) ... الكشاف (4/827).(1/848)
غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه السلام: "لا حسد إلا في اثنتين" (1) .
وقال:
.......................... ... إن العُلَى حَسَنٌ في مِثْلِها الحَسَد (2)
وبالإسناد السابق قال أبو بكر السني: أخبرنا أبو عبد الرحمن -يعني: النسائي-، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر قال: "تبعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني سورة هود وسورة يوسف، فقال: لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله عز وجل من { قل أعوذ برب الفلق } " (3) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/39 ح73)، ومسلم (1/558 ح815).
(2) ... عجز بيت لأبي تمام الطائي، وصدره: (واعذر حسودك فيما قد خصصت به). وهو في: الكشاف (4/827)، والبحر المحيط (8/534).
(3) ... أخرجه النسائي في الصغرى (8/254 ح5439)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:325-326).(1/849)
سورة الناس
ijk
وهي ست آيات (1) .
ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# اتب إ7خ=tB ؤ¨$¨Y9$# اثب دm"s9خ) ؤ¨$¨Y9$# اجب `دB جhچx© ؤ¨#uqَ™uqّ9$# ؤ¨$¨Ysƒّ:$# احب "د%©!$# â¨بqَ™uqمƒ †خû ح'rك‰ك¹ ؤZ$¨Y9$# اخب z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur ادب
قال الله تعالى: { قل أعوذ برب الناس } قال أهل المعاني: لما كانت الاستعاذة من شر الموسوس في صدور الناس اقتطعهم من بين سائر الخلق،
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:298).(1/850)
بإضافة الرب إليهم، تحقيقاً لمعنى استحقاق الاستعاذة به، وتنبيهاً لهم على الالتجاء إليه، والخضوع بين يديه؛ لأنه ربهم ومالكهم الذي يقدر على دفع ما يضرهم عنهم.
و { ملك الناس } عطف بيان، لأنه قد يقال لغيره رَبُّ.
و { إله الناس } زيادة في البيان أيضاً، لأنه قد يقال لغيره جل وعلا رَبٌّ مَلِكٌ. وأما الإله فهو الذي لا يشارَك فيه.
{ من شر الوسواس الخناس } وهو الشيطان.
وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشيطانُ جاثمٌ على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس" (1) .
والخُنُوس: التأخر في خِفْيَة.
قوله تعالى: { الذي يوسوس } جائز أن يكون في محل الجر صفة لـ"الوسواس". وجائز أن يكون في محل النصب والرفع على الذم (2) .
وفي توجيه الآية أقوال:
أحدها: أن "مِنْ" يتعلق بـ"يُوَسْوِسُ"، ومعناه: ابتداء الغاية، على معنى: يوسوس في صدور الناس من جهة الجن ومن جهة الناس.
قال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/355)، وابن أبي شيبة (7/135 ح34774) كلاهما موقوفاً عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (8/694) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) ... انظر: الدر المصون (6/593).(1/851)
شياطين الإنس والجن (1) .
وقال ابن جريج: وَسْوَاسُ الإنس: وَسْوَسَةُ النَّفْس (2) .
القول الثاني: أن قوله: { من الجنة والناس } بيان لـ"الناس"، فإن الجن يسمون ناساً كما يسمون نفراً ورجالاً في قوله: { استمع نفر من الجن } [الجن:1]، وقوله: { يعوذون برجال من الجن } [الجن:6]. قاله الفراء (3) .
الثالث: أن قوله: "من الجنة" بيان لـ"الوسواس"، أي: الوسواس الذي هو من الجِنَّة. وقوله: "والناس" معطوف على "الوسواس". المعنى: من شر الوسواس ومن شر الناس. وهذا اختيار الزجاج.
قال (4) : وهذا المعنى عليه أمر الدعاء، أنه يستعاذ من شر الجن والإنس, ودليل ذلك: { من شر ما خلق } [الفلق:2].
الرابع: أن الكلام تم عند قوله: "الخناس"، وما بعده استئناف مضمونه البيان، بأن الموسوس من هذين النوعين؛ الجن والإنس، وتقريره ما ذكرناه في القول الثاني.
وبالإسناد السالف قال أبو بكر السني: حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد بن العاص، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا ابن جابر، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر الجهني قال: "بينما أنا أقود
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/379).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... معاني الفراء (3/302).
(4) ... ابن الجوزي في زاد المسير (9/279).(1/852)
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال لي: يا عقبة! ألا أعلمك من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقرأ عليّ "قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس"، قال: فلما أقيمت الصلاة -صلاة الصبح- قرأ بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم مرّ بي فقال: كيف رأيت [يا عقبة] (1) ؟ اقرأ بهما كلما نمت وقُمت" (2) .
وبه قال أبو بكر: أخبرنا أبو عبدالرحمن، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم قرأ (3) فيهما: "قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس" ثم مسح (4) بهما ما استطاع من جسده، يمر بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات" (5) .
وبالإسناد قال الحافظ أبو بكر السني: أخبرنا أبو عبدالرحمن -يعني: النسائي-، أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثني أَسِيد بن أبي أسيد (6) ، عن معاذ بن عبد الله بن (7) خبيب (8) ، عن أبيه (9)
__________
(1) ... في الأصل: أبا عقبة. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(2) ... أخرجه النسائي (8/253 ح5437)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:354-355).
(3) ... في ب: يقرأ.
(4) ... في ب: يمسح.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1916 ح4729)، والنسائي (6/197 ح10624)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:326).
(6) ... أسيد بن أبي أسيد يزيد البراد، أبو سعيد المديني، كان قليل الحديث، توفي في أول خلافة المنصور (تهذيب التهذيب 1/300، والتقريب ص:111).
(7) ... في الأصل زيادة قوله: أبي. وانظر ترجمته في: التقريب (ص:536)، وتهذيب الكمال (28/125).
(8) ... معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني المدني، ثقة صدوق ربما وهم، مات سنة ثماني عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 10/173، والتقريب ص:536).
(9) ... عبد الله بن خبيب الجهني المدني، حليف الأنصار، مدني له صحبة (تهذيب التهذيب 12/395، والتقريب ص:301).(1/853)
قال: "أصابنا عَطَشٌ وظُلْمَةٌ، فانتظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي بنا، ثم ذكر كلاماً معناه، فخرج فقال: قل؟ قلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثاً يكفيك كل شيء" (1) .
آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين (2) .
__________
(1) ... أخرجه النسائي (4/442 ح7860).
... وفي هامش ب: عن شداد بن أوس رفعه: ما من مسلم يأخذ مضجعه يقرأ سورة من كتاب الله إلا وكل الله به ملكاً، فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هبّ...
(2) ... جاء في آخر نسخة الأصل: وافق الفراغ منه رابع عشر شعبان المكرم سنة أربع وستين وسبعمائة، أحسن الله تعالى خاتمتها آمين يا رب العالمين.
... وكتبه أفقر عباد الله إليه محمد بن يحيى المقدسي الحنبلي، عفا الله تعالى عنه، بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير، وغفر لمن كتب منه أو طالع فيه، ودعا له بالرحمة واستغفر له آمين.
... وجاء في آخر نسخة ب: نجز الكتاب والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
... وكان الفراغ منه على يد الفقير إلى الله تعالى: أحمد بن محمد بن سلمان الشيرجي الحنبلي البغدادي، تجاوز الله عن سيئاته، وغفر له موبقات ذلاته، في ثاني عشرين رجب الحرام من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة الهلالية. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وما من كاتب إلا سيبلى ... ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه
... وفي هامشها: بلغ مقابلة وتصحيحاً بأصله المنقول منه، وهي نسخة عليها خط المصنف، فصحّ بحسب الإمكان. وفي طرة النسخة مكتوب: فرغ من تصنيفه في عشرين رمضان من سنة خمس وثلاثين وستمائة.(1/854)