والمنع، والضر والنفع، وغير ذلك.
{ وكم من ملك في السموات } مع قربهم مني وعبادتهم إياي وطاعتهم لي { لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله } في الشفاعة { لمن يشاء } الشفاعة له { ويرضى } عنه. وهذه الآية كقوله: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء:28].
فإن قيل: ما وجه الجمع في قوله: "شفاعتهم" واللفظ واحد؟
قلتُ: "كم" هاهنا يراد به الجمع، ولو قيل: "شفاعته" كان جائزاً حملاً على اللفظ.
وقال الأخفش: الملك موحَّد، ومعناه: الجمع، فهو كقوله: { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [الحاقة:47].
¨bخ) الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ(1/528)
ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ(1/529)
وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى اجثب
قوله تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة } أي ليسمون كل واحد من الملائكة بنتاً؛ لقولهم: الملائكة بنات الله.
{ وما لهم به } (1) أي: بذلك، أو بقولهم.
وقرأ أبيّ: "بها" (2) .
{ من علم } أي: بالتسمية أو بالملائكة.
{ وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي: لا يقوم مقام العلم الموصل إلى إدراك حقيقة الشيء.
قوله تعالى: { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } منسوخ عند عامة
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: { من علم } . وستأتي بعد.
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/210)، والكشاف (4/425).(1/530)
المفسرين بآية السيف (1) .
{ ذلك مبلغهم من العلم } قال الزجاج (2) : إنما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة.
قال الفراء (3) : صَغَّرَ رأيهم وأزرى بهم، يقول: ذلك قدْر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.
{ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } وسيجازيهم على ضلالهم واهتدائهم.
وقيل: هو تسكينٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان شديدَ الحرص على إيمانهم.
المعنى: خفض على نفسك، فإن ربك قد فرغ منهم، وعَلِمَ الضال من المهتدي، وليس عليك إلا البلاغ.
قوله تعالى: { ليجزيَ } متعلق بقوله: { هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } ؛ لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي: جزاؤهما، [وما] (4) بينهما اعتراض. ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: { ولله ما في السماوات وما في الأرض } على معنى: له ما فيهما مُلْكاً وخلْقاً، خَلَقَهم ليجزيهم بالعقوبة والمثوبة. والحسنى: الجنة، و"الكبائر" مذكورة في سورة
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:170)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:58)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:475).
(2) ... معاني الزجاج (5/74).
(3) ... معاني الفراء (3/100).
(4) ... في الأصل: ما. والتصويب من ب.(1/531)
النساء (1) .
وقرأ حمزة والكسائي: "كبير الإثم" (2) . قيل: هو النوع الكبير منه، وهو الإشراك بالله.
والفواحش: ما فَحُشَ من الكبائر، كأنه قال: ويجتنبون الفواحش منها خاصة. وقد سبق ذكرها فيما مضى.
{ إلا اللمم } قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة والشعبي ومسروق وعامة المفسرين: هو صغار الذنوب؛ كالنَّظْرة والقُبْلَة، وما كان دون الزنا (3) .
وإلى هذا نظر وضاح اليمن في قوله:
فما نَوَّلَتْ حتى تَضَرَّعْتُ حولَها ... وأقرأتُها ما رخَّص الله في اللمم (4)
ويؤيد هذا المعنى: ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، فزنا العينين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تشتهي وتتمنى، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج)) (5) . فإن تقدم بفرجه كان الزنا، وإلا فهو اللمم. هذا حديث صحيح.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 31.
(2) ... الحجة للفارسي (4/6)، والحجة لابن زنجلة (ص:686)، والكشف (2/253)، والنشر (2/367-368)، والإتحاف (ص:403)، والسبعة (ص:615).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/201)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/76).
(4) ... انظر البيت في: اللسان وتاج العروس (مادة: نول، لمم)، والأغاني (6/240).
(5) ... أخرجه البخاري (5/2304 ح5889)، ومسلم (4/2046 ح2657).(1/532)
وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألمَّ بالقلب، أي: خَطَرَ (1) .
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو الرجل يُلِمُّ بالفاحشة، ثم يتوب (2) .
وروى عمرو بن دينار عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنْ تغفر اللهم تغفرْ جماً، وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمّا)) (3) . أخرجه الترمذي.
قال الزمخشري (4) : ولا يخلو قوله: "إلا اللمم" من أن يكون استثناء منقطعاً أو صفة، كقوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله } [الأنبياء:22] كأنه قيل: كبائر الإثم والفواحش غير اللمم، وآلهة غير الله.
قوله تعالى: { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس: لمن فعل ذلك ثم تاب (5) .
قال أبو وائل: رأى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل -وهو من أفاضل أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه- في المنام، قال: رأيت كأني أدخلت الجنة، فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: لذي الكلاع
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/76).
(2) ... أخرجه الطبري (27/66)، والحاكم (2/510 ح3750)، والبيهقي في الكبرى (10/185)، وشعب الإيمان (5/392 ح7055). وذكره السيوطي في الدر (7/656) وعزاه لسعيد بن منصور والترمذي وصححه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) ... أخرجه الترمذي (5/396 ح3284).
(4) ... الكشاف (4/426).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/202)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/76).(1/533)
وحوشب، وكانا [قُتلا] (1) مع معاوية، فقلت: أين عمار وأصحابه؟ فقالوا: أمامك. قلت: وقد قَتَلَ بعضهم بعضاً، فقال: إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة (2) .
قوله تعالى: { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } أي: هو أعلم بالبَرِّ منكم والفاجر، والصالح والطالح، وقت خلق أبيكم آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، { وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم } جمع: جنين، { فلا تزكوا أنفسكم } لا تمدحوها وتشهدوا لها بأنها زاكية طاهرة من المعاصي، { هو أعلم بمن اتقى } .
قال علي عليه السلام: يعني: عمل حسنة وارعوى عن سيئة (3) .
وقال الحسن: أخلص العمل لله (4) .
وكان السبب في نزول هذه الآية: أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون: صُمْنا وصلَّيْنا وغَزَوْنا وفَعَلْنا، يزكون أنفسهم بذلك (5) .
وقيل : إن اليهود كانوا إذا مات لهم صبي قالوا : صدّيق ، فنزلت هذه الآية (6) .
__________
(1) ... في الأصل: قاتلا. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/263)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/143).
(3) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/150).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/150) من قول الكلبي ومقاتل.
(6) ... أخرجه الطبراني في الكبير (2/81 ح1368).(1/534)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى احتب
قوله تعالى: { أفرأيت الذي تولى } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد ركن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعيّره بعض المشركين وقال له: تركتَ دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في(1/535)
النار، وكان ينبغي لك أن تَنْصُرَهُم، فقال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له عاتِبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله وعاد إلى شركه أن يتحمّل عنه عذاب الله، ففعل، فأعطاه بعض الذي ضمن له، ثم بخل ومنعه تمام ما ضمن له، فأنزل الله هذه الآية. قاله مجاهد وابن زيد (1) .
الثاني: أنه النضر بن الحارث، أعطى بعض فقراء المسلمين خمس قلائص حين ارتدَّ عن الإسلام، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه عن الإسلام. قاله الضحاك (2) .
الثالث: أنه العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور. قاله السدي (3) .
الرابع: أنه أبو جهل، فإنه قال يوماً: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق. قاله محمد بن كعب القرظي (4) .
ومعنى "تولى": أعرض عن الإيمان.
{ وأعطى قليلاً وأكدى } قَطَعَ ومَنَعَ، أصله من إكْدَاء الحافر، وهو أن تلقاه كُدْيَة (5) صخرة أو نحوها، فيمسك عن الحفر، ثم قيل لكل من طلب شيئاً
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/70). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/659) وعزاه لابن جرير عن ابن زيد. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (5/402)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/78).
(3) ذكره الماوردي (5/402)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/78).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/78).
(5) ... الكُدْيَة: قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيها الفأس (اللسان، مادة: كدا).(1/536)
فلم يبلغ آخره، أو أعطى ولم يتمم: أكْدَى.
قال الحطيئة:
فأعْطَى قليلاً ثمَّ أكْدَى بماله ... ومنْ يبذُلِ المعروفَ في الناس يُحمد (1)
قال ابن عباس: أطاع قليلاً ثم عصى (2) . وهو معنى قول مجاهد: أعطى قليلاً من نفسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع (3) ، ومعنى قول مقاتل (4) : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع.
وقال الضحاك: أعطى قليلاً من ماله ثم منع (5) .
{ أعنده علم الغيب } وهو ما غاب عنه من أمر الآخرة { فهو يرى } حاله فيها، وأن ما صنعه نافع له إذا وافاها.
{ أم } معادلة [لهمزة] (6) الاستفهام، أو منقطعة بمعنى: بل والهمزة { لم ينبأ بما في صحف موسى } يعني: التوراة.
{ وإبراهيم } أي: وصحف إبراهيم.
وفي حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الله تعالى أنزل على إبراهيم
__________
(1) ... البيت للحطيئة. انظر: البحر (8/153)، والقرطبي (17/112).
(2) ... أخرجه الطبري (27/71). وذكره الماوردي (5/402)، والسيوطي في الدر (7/659) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الماوردي (5/402)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/78).
(4) ... تفسير مقاتل (3/293).
(5) ... ذكره الماوردي (5/403)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/78).
(6) ... في الأصل: همزة. والتصويب من ب.(1/537)
عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف)) (1) .
{ الذي وفى } وقرأ سعيد بن جبير وأبو عمران وابن السميفع: "وَفَى" بالتخفيف (2) . وقراءة الأكثرين أبلغ في المدح بالوفاء.
أخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؛ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون... } [الروم:17] حتى يختم الآية )) (3) .
وروى أبو أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أنه قرأ { وإبراهيم الذي وفى } يعني: عمل يومه [أربع] (4) ركعات كان يصليهن من أول النهار)) (5) .
وفي حديث نعيم بن همار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تعالى: يا [ابن آدم] (6) ! لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفيك آخره)) (7) .
__________
(1) ... أخرجه ابن حبان (2/77 ح361).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/79)، والدر المصون (6/212).
(3) ... أخرجه أحمد (3/439).
(4) ... في الأصل: وأربع.والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (27/73)، والديلمي في الفردوس (1/134 ح471). وذكره السيوطي في الدر (7/660) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والشيرازي في الألقاب والديلمي بسند ضعيف.
(6) ... في الأصل: إبراهيم. والتصويب من ب، ومسند أحمد (5/286).
(7) ... أخرجه النسائي في الكبرى (1/177 ح468)، وأحمد (5/286 ح22522).(1/538)
وقال ابن عباس: وفّى جميع شرائع الإسلام (1) .
وقال الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به (2) .
ويدخل في هذا قول الضحاك: وفّى شأن المناسك (3) .
وقول سفيان بن عيينة: أدّى [الأمانة] (4) .
وقول الربيع بن أنس: وفّى برؤياه وقام بذبح ابنه (5) .
وقال عطاء بن السائب: بلغني: أن إبراهيم عليه السلام كان عاهد الله أن لا يسأل مخلوقاً شيئاً، فلما قُذف في النار قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فوفّى بما عاهد (6) .
وقال مجاهد وعكرمة والنخعي: وفّى ألا تزر وازرة وزر أخرى (7) ، على معنى: وفّى العمل بها، وذلك أنهم كانوا فيما بين نوح وإبراهيم يأخذون الرجل بجريرة أبيه وجريرة ابنه (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/72-73). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/80).
(2) ... ذكره الماوردي (5/403).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/80).
(4) ... في الأصل: أمانة. والتصويب من ب. وذكر هذا القول ابن الجوزي في: زاد المسير (8/80).
(5) ... أخرجه الطبري (27/72) عن القرظي. وذكره السيوطي في الدر (7/660) وعزاه لابن جرير عن القرظي.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/80).
(7) ... أخرجه الطبري (27/72). وذكره السيوطي في الدر (7/660) وعزاه لابن جرير عن مجاهد وعكرمة.
(8) ... انظر: الماوردي (5/403).(1/539)
قوله تعالى: { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } أي: لا تحملُ نفسٌ حاملةٌ حِمْل نفس أخرى، ولا تُؤخذ بإثمها.
و"أَنْ" مخففة من الثقيلة، على إضمار الشأن، ومحل "أنْ" وما في [حيزها] (1) : الجر بدلاً من "ما في صحف موسى"، أو الرفع على معنى: هو أن لا تزر (2) .
قوله تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي: وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى.
قال الزجاج (3) : هذا في صحفهما أيضاً. ومعناه: ليس للإنسان إلا جزاء سعيه، إن عَمِلَ خيراً جُزِيَ عليه خيراً، وإن عَمِلَ شراً جُزي عليه شراً.
فصل
يروى عن ابن عباس: أن هذه الآية منسوخة بقوله: { ألحقنا بهم ذرياتهم } [الطور:21]، فأدخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة (4) .
وهذا لا يستقيم؛ لأنه يمكن الجمع بين الآيتين.
__________
(1) ... في الأصل: خبرها. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/248)، والدر المصون (6/213).
(3) ... معاني الزجاج (5/76).
(4) ... أخرجه الطبري (27/74)، والنحاس في ناسخه (ص:689). وذكره السيوطي في الدر (7/662) وعزاه لأبي داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه. وانظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:170)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:475-476).(1/540)
ولأن هذا خبر، والأخبار لا تنسخ.
فإن قيل: فما وجه الآية ، وقد صحت الأخبار بنفع الميت بالصدقة عنه ، والحج عنه ، ومضاعفة الثواب زائداً على ما يستحقه على عمله ، ووصول ثواب القراءة إليه ، [على أصل الإمام] (1) أحمد رضي الله عنه (2) ، وكل هذا ليس من سعيه؟
[قلتُ] (3) : قال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى خاصة، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم (4) ؛ بخبر سعد حين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل لأمي إن تطوَّعت عنها؟ قال: نعم.
وخَبَر المرأة التي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أبي مات ولم يحج؟ فقال: حُجِّي عنه (5) .
وقال الربيع بن أنس: المراد بالإنسان هاهنا: [الكافر] (6) ، يريد: أنه ليس له من عمل الخير إلا ما سعاه، فيُطْعَم به في الدنيا، حتى يُوافي الآخرة وليس له عمل يُثاب عليه (7) .
__________
(1) ... في الأصل: على إمام. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: المغني (2/225).
(3) ... في الأصل: قالت. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/204)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/81).
(5) ... أخرجه النسائي (5/116 ح2634).
(6) ... في الأصل: الكافرين. والتصويب من ب.
(7) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/153).(1/541)
وقال الحسين بن الفضل: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل (1) . فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله تعالى ما يشاء.
وقيل: اللام بمعنى: على، تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
وذكر بعض المتأخرين عن هذه الآية جوابين محررين (2) :
أحدهما: أن سعي غيره لمّا لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه -وهو أن يكون مؤمناً صالحاً- كان سعي غيره كأنه سعي له، لكونه قائماً مقامه، وتابعاً له.
الثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه.
قوله تعالى: { وأن سعيه سوف يرى } [أي] (3) : يُرى الإنسان جزاءه.
{ ثم يجزاه } أي: يجزى سعيه، يقال: جزاه الله تعالى عمله، بحذف الجار وإيصال الفعل، وجزاه على عمله، { الجزاء الأوفى } الأكمل الأتمَّ.
¨br&ur إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/81).
(2) ... هو قول الزمخشري في: الكشاف (4/428).
(3) ... في الأصل: أن. والتصويب من ب.(1/542)
هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى(1/543)
(54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى اخخب
{ وأن إلى ربك المنتهى } أي: منتهى الخلق ومرجعهم.
قال الزجاج (1) : هذا كله في صحف موسى وإبراهيم.
قوله تعالى: { وأنه هو أضحك وأبكى } قالت عائشة رضي الله عنها: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم يضحكون فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فنزل جبريل فقال: إن الله يقول: { وأنه هو أضحك وأبكى } فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى جاء جبريل فقال: ائت هؤلاء فقل لهم: إن الله تعالى هو أضحك وأبكى (2) .
قال مجاهد: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار (3) .
وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر (4) .
وقيل: أضحك المؤمن في الآخرة، وأبكاه في الدنيا (5) .
وقيل: أضحك الكافر في الدنيا، وأبكاه في الآخرة.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/76).
(2) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/155)، والواحدي في أسباب النزول (ص:416-417)، والسيوطي في الدر (7/663) وعزاه لابن مردويه.
(3) ... ذكره الطبري (27/74) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (8/83) عن مجاهد.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/204)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/83).
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/117) عن محمد بن علي الترمذي.(1/544)
{ وأنه هو أمات وأحيا } أي: أفنى في الدنيا وأحيا للبعث.
وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء (1) .
وقيل: أمات الكافر بكفره، وأحيا المؤمن بإيمانه. قال الله تعالى: { أو من كان ميتاً فأحييناه } [الأنعام:122].
{ وأنه خلق الزوجين } أي: الصنفين { الذكر والأنثى } من جميع الحيوانات.
{ من نطفة إذا تمنى } أي: تُراق في الرَّحم. يقال: مَنَى الرجل وأمْنَى. وهذا المعنى قول الضحاك وعطاء بن أبي رباح وابن السائب (2) .
وقيل: "تُمْنَى": تُخْلَق وتُقَدَّر، من قولهم: ما تدري ما يَمْنِي لك الماني. قاله ابن قتيبة وأبو عبيدة (3) .
{ وأن عليه النشأة الأخرى } أي: الخلق الآخر يوم البعث.
{ وأنه هو أغنى وأقنى } أي: أغنى الناس بالأموال وأعطاهم القِنْيَة (4) ، وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية.
قال الضحاك: أغناهم بالذهب والفضة، وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم (5) .
__________
(1) ... ذكره القرطبي (17/117)، والبغوي (4/255).
(2) ... ذكره الماوردي (5/405)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/83) كلاهما من قول ابن السائب الكلبي.
(3) ... تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:429)، ومجاز القرآن لأبي عبيدة (2/238).
(4) ... بكسر القاف وفتحها (اللسان، مادة: قنا).
(5) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/256).(1/545)
وقال الحسن وقتادة: "أقنى": أخدم (1) .
وقال ابن زيد: "أغنى": أكثر، و"أقنى": أقلّ، وتلا: { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } (2) [الرعد:26].
وقال الأخفش: "أقنى": أفقر (3) .
قال (4) بعض العلماء: إن كان هذا الحرف من الأضداد، وإلا فمعنى "أقنى": أحوج إلى طلب القنية.
والمنقول عن ابن عباس: "أغنى": بالكفاية، و"أقنى": أرضى بما أعطى (5) .
وفي رواية عنه: أقنى بالزيادة (6) .
وقال سفيان: أغنى بالقناعة (7) .
وقيل: أغنى نفسه، وأفقر الخلائق إليه (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/76).
(2) ... أخرجه الطبري، الموضع السابق.
(3) ... ذكره القرطبي (17/119)، والبغوي (4/256).
(4) ... في ب: وقال.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/83).
(6) ... ذكره الماوردي (5/405).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... أخرجه الطبري (27/76) عن الحضرمي. وذكره السيوطي في الدر (7/665) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ عن الحضرمي.(1/546)
{ وأنه هو رب الشعرى } وهو نجم يطلع وراء الجوزاء، يقال له: مِرْزَم الجوزاء، وهما شعريان، يقال لأحدهما: العَبُور (1) ، وللأخرى: الغُمَيْصَاء (2) . وأراد هاهنا: العَبُور. وكانت خزاعة تعبدها من دون الله، وكان أول من سنَّ لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له: أبو كبشة.
{ وأنه أهلك عاداً الأولى } قرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب والمفضل: "عاداً لُّولى" بإدغام التنوين في اللام وطرح الهمزة، ونقل ضمتها إلى لام التعريف. وكان قالون يأتي بهمزة ساكنة بعد اللام في موضع الواو.
وقرأ الباقون من العشرة بكسر التنوين وتحقيق الهمزة (3) .
[قال أبو علي (4) : لما حقق الهمزة من] (5) "الأولى" سكنت لام المعرفة والتنوين ساكن، فحرّك التنوين لالتقاء الساكنين بالكسر. فأما من أدغم التنوين في اللام فإنه لما خفف الهمزة ألقى حركتها على اللام الساكنة قبلها، فلما ألقى حركتها عليها تحركت، وقبلها نون ساكنة فأدغمها في اللام بعد أن قلبها لاماً.
قال ابن سوار صاحب كتاب المستنير: أجمعوا على الوقف على "عادا"
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عبر).
(2) ... انظر: اللسان (ماة: غمص).
(3) ... الحجة للفارسي (4/8)، والحجة لابن زنجلة (ص:687)، والكشف (2/296)، والنشر (1/410)، والإتحاف (ص:403)، والسبعة (ص:615).
(4) ... الحجة للفارسي (4/9).
(5) ... زيادة من ب.(1/547)
بالألف، واختلفوا [في الابتداء] (1) بلفظة "الأولى"، فكان أهل المدينة والبصرة والمفضّل يبتدئون: "الأولى" بإثبات الهمزة وضم اللام الأولى.
وروى قالون إلا أبا نشيط كذلك، ويهمز الواو على أصله، الباقون يبتدئون بهمزة مفتوحة وإسكان اللام وبعدها همزة مضمومة. تمّ كلامه.
وقال الزجاج (2) : فيها ثلاث لغات؛ "الأولى": بسكون اللام وإثبات الهمزة، وهي أجود اللغات.
قال جمهور المفسرين: هم قوم هود، وكان لهم عقب هم عاد الأخرى (3) .
قال قتادة: عاد الآخرة كانت بحضرموت (4) .
وقال كعب الأحبار: قوم هود هم عاد الآخرة، وهم من أولاد عاد الأولى (5) .
{ وثمود } وهم قوم صالح { فما أبقى } أحداً منهم. وقد ذكرنا قصة هلاكهم في الأعراف (6) ، واختلاف القرّاء في صرف ثمود وعدم صرفه في
__________
(1) ... في الأصل: بالابتداء. والمثبت من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/77).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/84).
(4) ... ذكره الماوردي (5/405)، والسيوطي في الدر (7/665) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/84).
(6) ... عند الآية رقم: 73.(1/548)
سورة هود (1) .
{ وقوم نوح من قبل } أي: وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } أشد ظلماً وأعظم طغياناً من غيرهم؛ لفرط عنادهم وعتوهم على الله تعالى، وتماديهم في غيّهم [وضلالهم] (2) ، مع طول دعوة نوح إياهم، وكثرة أذاهم له.
{ والمؤتفكة أهوى } أي: وأهلك القرى التي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت بهم، وهي سدوم وأخواتها، قُرى قوم لوط، رفعها الله إلى السماء على جناح جبريل عليه السلام ثم أهواها، أي: أسقطها إلى الأرض، ثم أتبعها بالحجارة، فذلك قوله: { فغشاها ما غشى } أي: ألبسها ما ألبسها من العذاب.
وقوله تعالى: { ما غشى } تعظيم وتفخيم لشأن ذلك العذاب الشديد.
قال المفسرون: عدَّد الله نعماً ونقماً، وسمى الجميع "آلاء"؛ لما في النقمة من نعمة التذكير والزجر عن الحال المفضية إلى العذاب.
ثم قال: { فبأي آلاء ربك } أيها الإنسان.
وقال ابن عباس: الخطاب للوليد بن المغيرة (3) .
{ تتمارى } تتشكَّك.
#x"yd نَذِيرٌ مِنَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 68.
(2) ... في الأصل: وضلالتهم. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/205)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/84).(1/549)
النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ادثب
{ هذا } إشارة إلى سيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وسلم - { نذير من النذر الأولى } أي: من جماعة النذر الأولى.
وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن (1) .
{ أزفت الآزفة } أي: قَرُبَت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله: { اقتربت الساعة } [القمر:1]، وأمثالها من الآيات.
{ ليس لها من دون الله كاشفة } أي: نفسٌ كاشفة.
وقيل: الهاء للمبالغة؛ كعلاّمة ونسّابة.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/406)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/85).(1/550)
والمعنى: لا يكشف أحد عن وقتها إلا الله، كما قال تعالى: { لا يجلّيها لوقتها إلا هو } [الأعراف:187].
وقال الضحاك وقتادة وعطاء: إذا غشيت [الخلق] (1) شدائدها وأهوالها لا يكشفها عنهم أحد ولم يَرُدَّهَا (2) .
وقيل: "الكاشفة" مصدر بمعنى: كشف، كالخائنة بمعنى: خيانة.
ثم أنكر عليهم ضحكهم واستهزاءهم وغفلتهم عن مواعظ القرآن وزواجره وحِكَمه فقال تعالى: { أفمن هذا الحديث تعجبون } إنكاراً. { وتضحكون } استهزاءً { ولا تبكون } خوفاً من وعيده وزواجره.
{ وأنتم سامدون } ساهون لاهون، يقال: دَعْ عنك سُمُودَك، قال الشاعر:
ألا أيها الإنسان إنك سامد ... ... كأنك لا تفنى ولا أنت هالك (3)
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس (4) .
وروي عنه: سَامِدون: شامخون مستكبرون (5) .
وروي عنه: أن السُّمُود: الغناء (6) .
__________
(1) ... في الأصل: الحق. والتصويب من ب، وزاد المسير (8/85).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/85).
(3) ... انظر البيت في: الدر المصون (6/219).
(4) ... أخرجه الطبري (27/82)، والطبراني في الكبير (11/276 ح11722). وذكره السيوطي في الدر (7/667) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
(5) ... ذكره الماوردي (5/407). وقوله: "مستكبرون" عن السدي.
(6) ... أخرجه الطبري (27/82)، والبيهقي في الكبرى (10/223)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص:73)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/170). وذكره السيوطي في الدر (7/667) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وأبي عبيد في فضائله وغيرهم.(1/551)
وقال قتادة: غافلون (1) .
وقال الضحاك: أشِرُون بَطِرُون (2) .
وقال الحسن: واقفون عن الطاعة (3) .
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى.
وقال مجاهد: "سامدون": غِضَابٌ مُبرطِمُون، فقيل له: ما [البرطمة] (4) ؟ قال: الإعراض (5) .
أخرج الإمام أحمد بإسناده عن صالح بن الخليل قال: لما نزلت: { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون } ما رؤي النبي - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/83). وذكره السيوطي في الدر (7/667) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/86).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/123) بلفظ: واقفون للصلاة.
(4) ... في الأصل: المبرطم. والمثبت من ب.
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:634) بلفظ: قال: البرطمة، وهو العابس الوجه، والطبري (27/82) بلفظ: غضاباً مبرطمين. وذكره السيوطي في الدر (7/667) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(6) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد للإما م أحمد، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (7/82 ح34356)، والثعلبي (9/158).(1/552)
قوله تعالى: { فاسجدوا لله واعبدوا } أي: خُصُّوه سبحانه بالسجود والعبادة، ولا تسجدوا لآلهتكم ولا تعبدوها.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني نصر بن علي (1) ، حدثني أبو أحمد (2) ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق (3) ، عن الأسود بن يزيد (4) ، عن عبد الله بن مسعود قال: ((أول سورةٍ أنزلت فيها سجدة: النجم، قال: فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه إلا رجل رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد قُتل كافراً، وهو أمية بن خلف)) (5) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجاه من طرق.
وبالإسناد قال محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا أبو معمر (6) ، حدثنا
__________
(1) ... نصر بن علي بن نصر بن علي بن أصبهان الأزدي الجهضمي، أبو عمرو البصري الصغير، ثقة ثبت، طلب للقضاء فامتنع، مات في ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين أو بعدها (تهذيب التهذيب 10/384، والتقريب ص:561).
(2) ... محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي مولاهم، أبو أحمد الزبيري الكوفي، ثقة صدوق، مات بالأهواز سنة ثلاث ومائتين (تهذيب التهذيب 9/227، والتقريب ص:487).
(3) ... هو عمرو بن عبد الله بن عبيد، أبو إسحاق السبيعي. تقدمت ترجمته.
(4) ... الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الرحمن، مخضرم ثقة مكثر، مات بالكوفة سنة خمس وسبعين (تهذيب التهذيب 1/299، والتقريب ص:111).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1842 ح4582)، ومسلم (1/405 ح576).
(6) ... عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة التميمي المنقري مولاهم، أبو معمر المقعد البصري، كان ثقة ثبتاً صدوقاً، رمي بالقدر، مات سنة أربع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 5/293، والتقريب ص:315).(1/553)
عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ((سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس)) (1) . هذا حديث صحيح. والله أعلم.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1842 ح4581).(1/554)
سورة القمر
ijk
وهي خمس وخمسون آية (1) . وهي مكية.
واستثنى قوم ثلاث آيات من قوله: { أم يقولون نحن جميع } إلى قوله: { أدهى وأمرّ } (2) ؛ لما أخبرني به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إبراهيم بن موسى (3) ، أخبرنا هشام بن يوسف (4) ، أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يوسف بن ماهك قال: ((إني عند عائشة أم المؤمنين قالت: لقد نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بمكة وإني لجارية ألعب: { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } )) (5) . هذا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:236).
(2) ... وقال السيوطي في الإتقان (1/53): استثني منها: { سيهزم الجمع } . وقيل: { إن المتقين } الآيتين. وانظر: الماوردي (5/408)، وزاد المسير (8/87).
(3) ... إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زاذان التميمي، أبو إسحاق الرازي الفراء، المعروف بالصغير، ثقة حافظ، مات بعد العشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/148، والتقريب ص:94).
(4) ... هشام بن يوسف الصنعاني، أبو عبد الرحمن الأبناوي، قاضي صنعاء، ثقة مأمون، مات سنة سبع وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 11/51، والتقريب ص:573).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1846 ح4595).(1/555)
حديث صحيح.
دMt/uژtIّ%$# السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ اخب
قال الله تعالى: { اقتربت الساعة } أي: دَنَتِ القيامة، { وانشق القمر } أي:(1/556)
وقد انشق، وكذلك هي في قراءة حذيفة بن اليمان (1) ، وكان يقول: ألا إن الساعة قد اقتربت، والقمر قد انشق.
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا مسدد (2) ، حدثنا يحيى، عن شعبة وسفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: ((انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اشهدوا)) (3) .
وبه قال البخاري: حدثنا علي، حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله: ((انشق القمر ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصار فرقتين، فقال لنا: اشهدوا اشهدوا)) (4) . هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق.
وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة، منهم: عبد الله بن العباس (5) ،
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/171).
(2) ... مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد البصري الأسدي، أبو الحسن الحافظ، ثقة صدوق، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 10/98، والتقريب ص:528).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1843 ح4583).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1843 ح4584)، ومسلم (4/2158 ح2800).
(5) ... حديث عبدالله بن عباس، أخرجه البخاري (3/1331 ح3439)، ومسلم (4/2159 ح2803). وذكره السيوطي في الدر (7/671) وعزاه للبخاري ومسلم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.(1/557)
وعبد الله بن عمر (1) ، وحذيفة (2) ، وجبير بن مطعم (3) ، وأنس بن مالك (4) .
قال ابن مسعود: رأيت فلقتيه (5) .
وقال مجاهد: ثبتت فرقة [وذهبت] (6) فرقة من وراء الجبل (7) .
__________
(1) ... حديث عبدالله بن عمر، أخرجه مسلم (4/2159 ح2801)، والترمذي (5/398 ح3288)، والطبري (27/85). وذكره السيوطي في الدر (7/671) وعزاه لمسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبي نعيم في الدلائل.
(2) ... حديث حذيفة، أخرجه ابن أبي شيبة (7/139 ح34798)، وعبد الرزاق (3/193 ح5285)، والطبري (27/86)، وأبو نعيم في الحلية (1/281). وذكره السيوطي في الدر (7/672) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم.
(3) ... حديث جبير بن مطعم، أخرجه الترمذي (5/398 ح3289)، وأحمد (4/18)، والطبري (27/86)، والحاكم (2/513 ح3760). وذكره السيوطي في الدر (7/671) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وأبي نعيم والبيهقي.
(4) ... حديث أنس بن مالك، أخرجه البخاري (3/1331 ح3438)، ومسلم (4/2159 ح2802)، والترمذي (5/397 ح3286)، والحاكم (2/513 ح3761)، والنسائي في الكبرى (6/376 ح11554)، وأحمد (3/165 ح12711). وذكره السيوطي في الدر (7/670) وعزاه للبخاري ومسلم وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(5) ... أخرجه أحمد (1/413 ح3924)، والحاكم (2/512 ح3756)، والطبراني في الكبير (10/75 ح9997)، والطبري (27/85) كلهم بلفظ نحو هذا اللفظ. وذكره السيوطي في الدر (7/670) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل.
(6) ... في الأصل: وذبت. والتصويب من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (27/87).(1/558)
وقال ابن زيد: كان يُرى نصفه على قعيقعان (1) ، والنصف الآخر على أبي قبيس (2) .
قال المفسرون: كان انشقاق القمر من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وآياته التي اقترحها قومه عليه.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن فعلتُ أتؤمنون؟ قالوا: نعم. فسأل ربه أن يعطيَه ما سألوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: يا فلان يا فلان اشهدوا، وذلك بمكة قبل الهجرة (3) .
وعلى هذا القول عامة المفسرين.
وشذَّ قوم فقالوا: المعنى: سينشق القمر. وليس هذا القول بشيء؛ لمصادمته الأحاديث، والآثار الصحيحة، وإجماع العلماء، والآية التي بعد
__________
(1) ... قعيقعان: جبل بمكة يشرف على المسجد الحرام من جهة الشمال، والشمال الغربي، ويعرف بأسماء عدة، فالجزء المشرف على المعلاة يسمى بجبل العبادي، وجبل السليمانية، أما الجزء الجنوبي المتصل بالفلق فيسمى بجبل هندي وطرفه المشرف على حارة الباب بريع الرسام. ومن هذه الأسماء جبل القرارة، وجبل فلفلة من جهة الشامية، وكل هذه الأجزاء تمثل جبل قعيقعان (معالم مكة التاريخية ص:223).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/88).
... وأبو قبيس هو: الجبل المشرف على الكعبة المشرفة من مطلع الشمس، وكان يزحم السيل فيدفعه إلى المسجد الحرام، فنُحِتَ منه الكثير وشق بينه وبين المسجد الحرام طريقاً للسيل وطريقاً للسيارات، وهو مكسو بالبنيان (معجم معالم الحجاز 7/89).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/206).(1/559)
هذه الآية، وما تشتمل عليه من نسبتهم السحر إليه. هذا مع ما فيه من مخالفة مدلول اللفظ، فإنه فعل ماض، فَصَرْفُهُ إلى المستقبل يفتقر إلى دليل صارف له عن موضوعه الأصلي.
ومعنى الآية: اقتربت الساعة وقد حصل من أمارات اقترابها انشقاق القمر، الدالّ على رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المبعوث في آخر الزمان.
قوله تعالى { سحر مستمر } قال مجاهد وقتادة: ذاهبٌ (1) ، من قولهم: مَرَّ الشيء واستمرّ: إذا ذهب (2) . أي: هذا سحر، والسحر يذهب ولا يثبت. وهذا اختيار الكسائي والفراء (3) .
وقال أبو العالية والضحاك: "مستمر" أي: شديد قوي محكم (4) .
قال ابن قتيبة (5) : هو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل (6) .
وقيل: سحر دائم مطّرد. قالوا ذلك حين رأوا تتابع معجزاته وتواصل آياته.
قوله تعالى: { وكلُّ أمر مستقر } أي: كل أمر، [فهو] (7) صائرٌ إلى غاية
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:635)، والطبري (27/88). وذكره السيوطي في الدر (7/673) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: مرر).
(3) ... معاني الفراء (3/104).
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/127).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:431).
(6) ... انظر: اللسان، مادة: (مرر).
(7) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب.(1/560)
يستقر عليها، وسيصير أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل، وستظهر لهم عاقبته.
وقيل: وكل أمر من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأمرهم يستقر على حالة خذلان ونصر وشقاء وسعادة.
قال قتادة: الخير يستقر بأهل الخير، والشر بأهل الشر (1) .
وقرأتُ لأبي جعفر: "مستقرٍ" بالجر (2) ، عطفاً على "الساعة"، على معنى: اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر.
ويروى عن نافع فتح القاف (3) ، على معنى: ذو مستقر، أي: ذو موضع استقرار أو زمان استقرار.
{ ولقد جاءهم } أي: أتاهم من أنباء الأمم المكذبة الماضية وأخبار هلاكهم في القرآن { ما فيه مزدجر } ازدجار أو موضع ازدجار، فهو مصدر بمعنى: ما فيه نهي وعظة. والأصل فيه: مزتجر، ولكن التاء إذا وقعت بعد الزاي أبدلت دالاً، نحو: مَزْدَان.
{ حكمة بالغة } بدل من "ما"، أو خبر مبتدأ محذوف (4) ، تقديره: هو حكمة تامة قد بلغت الغاية، { فما تُغْنِ النُّذر } استفهام بمعنى الإنكار
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/88). وذكره السيوطي في الدر (7/673) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير.
(2) ... النشر (2/380)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:404).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/172)، والدر المصون (6/221). قال أبو حاتم: لا وجه لفتح القاف.
(4) ... انظر: التبيان (2/249)، والدر المصون (6/222).(1/561)
والتوبيخ، كقوله: { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [يونس:101].
وجائز أن تكون "ما" نافية، أي: لا تغني النذر عنهم شيئاً.
OAuqtFsù عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ارب
{ فتولَّ عنهم } أعرض عن إنذارهم، وهو منسوخ بآية السيف عند عامة المفسرين (1) ، وهاهنا تم الكلام.
قوله تعالى: { يوم يدعُ الداعي } منصوب بقوله: { يخرجون } المعنى:
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:171)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:477).(1/562)
يخرجون من قبورهم في ذلك اليوم، أو بإضمار "اذكر"، أي: اذكر يوم يدعو الداعي، وهو إسرافيل يوم ينفخ النفخة الثانية.
وأبو عمرو وأبو جعفر والبزي ووَرْش وإسماعيل يثبتون الياء في "الداعي" في الوصل، زاد يعقوب إثباتها في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين، اكتفاء بالكسرة عنها (1) .
{ إلى شيء نكر } وقرأ ابن كثير: "نكْر" بسكون الكاف (2) .
وقال أبو علي (3) : ضم الكاف هو الأصل؛ لأن الكلمة على فُعُل؛ كرُسُل، نحو: عُنُق ورُسُل. ومن أسكن الكاف حذف الضمة استخفافاً، وهي في تقدير الثبات.
والمعنى: يوم يدعو الداعي إلى أمر فظيع منكر لم يُر مثله.
قرأ أهل العراق إلا عاصماً: "خاشِعاً" بالألف وكسر الشين وتخفيفها. وقرأ الباقون من العشرة: بغير ألف وفتح الشين وتشديدها (4) .
وخشوع أبصارهم كناية عن ذلّهم. والنصب على الحال (5) ، على معنى:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/11)، والحجة لابن زنجلة (ص:689-690)، والكشف (2/298)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:404)، والسبعة (ص:617).
(2) ... الحجة للفارسي (4/11)، والحجة لابن زنجلة (ص:688)، والكشف (2/297)، والنشر (2/216)، والإتحاف (ص:404)، والسبعة (ص:617).
(3) ... الحجة للفارسي (4/11).
(4) ... الحجة للفارسي (4/11)، والحجة لابن زنجلة (ص:688)، والكشف (2/297)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:404)، والسبعة (ص:617-618).
(5) ... انظر: التبيان (2/249)، والدر المصون (6/224).(1/563)
يخرجون خشعاً.
قال الزجاج (1) : لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة: التوحيد، نحو: خاشعاً أبصارهم، [ولك] (2) التوحيد والتأنيث لتأنيث الجماعة، نحو: { خاشعة أبصارهم } [القلم:43]، ولك الجمع نحو: { خشعاً أبصارهم } ، تقول: مررت بشبان حَسَنٍ [أوجههم] (3) وحِسَانٍ أوجههم، وحَسَنَةٍ أوجههم. قال الشاعر:
وَشَبَابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهُمْ ... ... منْ إيادِ بن نزار بن معد (4)
وقال أبو علي (5) : من قرأ "خاشعاً" فوجهه: أنه فعل متقدِّم، فكما أنه لم تلحقه علامة التأنيث لم يُجمع، وحَسُن أن لا يؤنث؛ لأن تأنيث فاعله ليس بحقيقي.
ومن قرأ "خُشَّعاً" فقد أثبت ما يدل على الجمع، وهو على لفظ الإفراد، ودلَّ الجمع على ما يدلُّ عليه التأنيث الذي ثبت في نحو قوله تعالى: { خاشعة أبصارهم } [القلم:43]، فلذلك ترجَّحَ قولهم: مررت برجلٍ حِسَانٍ قومُه، على
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/86).
(2) ... في الأصل: وذلك. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج (5/86).
(3) ... في الأصل: وجههم. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... البيت لأبي داود الإيادي. وهو في: اللسان (مادة: خشع)، والطبري (27/90)، والقرطبي (17/129)، وزاد المسير (8/91)، والبحر (8/173) وفيه: "ورجال" بدل: "وشباب"، والدر المصون (6/223).
(5) ... الحجة للفارسي (4/11-12).(1/564)
قولهم: مررت [برجلٍ] (1) حَسَنٍ قومه؛ لأن حِسَاناً [قد] (2) حصل فيه ما يدل على الجمع، والجمع كالتأنيث في باب أنه يدل عليه.
وقرأ ابن مسعود: "خاشعة" (3) .
قوله تعالى: { كأنهم جراد منتشر } الجراد مَثَلٌ في الكثرة. والمعنى: يخرجون من قبورهم عند النفخة الثانية، كأنهم في كثرتهم واضطرابهم وتموجهم جراد مُنبثّ في كل مكان، ليست له جهة يقصدها.
{ مهطعين } مذكور في إبراهيم (4) ، يريد: مسرعين، مادّي أعناقهم إلى صوت الداعي إسرافيل.
{ يقول الكافرون } لما لابسهم من أهوال القيامة وشدائدها { هذا يوم عسر } صعب شديد.
قال ابن عباس: عسر على الكافرين، سهل يسير على المؤمنين، كقوله: { يوم عسير * على الكافرين غير يسير } (5) [المدثر:9-10].
* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ
__________
(1) ... زيادة من ب، والحجة للفارسي (4/12).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/90)، والدر المصون (6/223).
(4) ... عند الآية رقم: 43.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/208).(1/565)
وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ 9ژك كٹur (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا(1/566)
الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ اتذب
قوله تعالى: { كذبت قبلهم } أي: كذبت قبل أهل مكة { قوم نوح } قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: ما معنى قوله: { فكذبوا } بعد قوله: { كذبت } ؟
قلتُ: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا، أي: كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن [مُكذّب] (2) تبعه قرن مُكذّب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة: كذبوا نوحاً؛ لأنه من جملة الرسل.
{ وقالوا مجنون } أي: هو مجنون { وازدجر } .
قال المفسرون: زجروه عن دعوته بالشتم والوعيد (3) .
{ فدعا ربه أني مغلوب } أي: بأنّي.
وقرأ [عيسى] (4) بن عمر: "إني" بكسر الهمزة (5) ، على إرادة القول، أو لتضمُّن الدعاء معنى القول.
{ ففتحنا } وشدّد التاء ابن عامر (6) .
__________
(1) ... الكشاف (4/434).
(2) ... في الأصل: كذب. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الطبري (27/92)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/92).
(4) ... في الأصل: موسى. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير (8/92).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/92)، والدر المصون (6/225).
(6) ... الحجة للفارسي (4/12)، والحجة لابن زنجلة (ص:689)، والكشف (2/297)، والنشر (2/258)، والإتحاف (ص:404)، والسبعة (ص:618).(1/567)
قال علي عليه السلام: إن أبواب السماء فُتحت بالماء من المجرّة، وهي شَرْجُ السماء (1) .
{ أبواب السماء بماء منهمر } مُنْصَبٌّ بسرعة في كثرة.
{ وفجَّرنا الأرض عيوناً } تقديره: بعيون، فحذف الجار، وإن شئت كان "عيوناً": تمييزاً، أو حالاً، وإن شئت كان التقدير: وفجرنا من الأرض عيوناً (2) .
قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفجرت الأرض من تحتهم أربعين يوماً (3) .
{ فالتقى الماء } النازل من السماء والنابع من الأرض.
وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري: "الماءان" (4) ، أي: النوعان من الماء؛ السمائي، والأرضي.
وقرأ ابن مسعود: "المايان" بقلب الهمزة ياء (5) .
وقرأ الحسن: "الماوان" بقلب الهمزة واواً (6) ، كقولهم: علباوان.
__________
(1) ... أخرجه البخاري في الأدب (ص:268)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1297-1298 ح7901)، وابن أبي حاتم (10/3320). وذكره الماوردي (5/412)، والسيوطي في الدر (7/675) وعزاه للبخاري في الأدب وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: الدر المصون (6/226).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/92).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/92)، والدر المصون (6/226).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... مثل السابق.(1/568)
{ على أمر قد قُدِر } أي: قضي عليهم.
وقال مقاتل (1) : قدّر الله أن يكون [الماءان] (2) سواء، فكانا على قَدَر.
{ وحملناه } يعني: نوحاً { على } سفينة { ذات ألواح ودُسُر } . قال الزجاج (3) : الدُّسُر: المسامير والشُّرط التي تُشدُّ بها الألواح، وكل شيء كان نحو السَّمْر، أو إدخال شيء في شيء بقوّة وشِدِّة فهو الدَّسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أَدْسُرُهُ دَسْراً (4) . والدُّسُرُ: واحدها: دِسَار، نحو: حِمَار وحُمُر.
وقال عكرمة: الدُّسر: صدر السفينة الذي يَدْسُرُه الموج (5) .
{ تجري بأعيننا } أي: بمرأى منا.
وقال الضحاك: بأمرنا (6) .
وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها (7) .
والأول أصح.
{ جزاء } مفعول له، أي: فعلنا ذلك جزاء (8) { لمن كان كُفِر } وهو نوح
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/297).
(2) ... في الأصل: الماء. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/87-88).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: دسر).
(5) ... ذكره الماوردي (5/412)، والسيوطي في الدر (7/676) وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... ذكره الماوردي (5/423).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... انظر: التبيان (2/249)، والدر المصون (6/227).(1/569)
عليه السلام، على معنى: مكافأة لنوح حين كفر به قومه، وأفرطوا في أذاه، فصبر عليهم.
وقال السدي: جزاء لتكذيبهم نوحاً (1) .
قال ابن جني (2) : تأويله: جزاء لهم لكفرهم بنوح. واللام الأولى التي هي مفعول بها محذوفة، واللام الثانية الظاهرة في قوله: { لمن كان كفر } [لام المفعول له. وهناك مضاف محذوف، أي: جزاء لهم، لكفر من كُفِر] (3) ، أي: لكفرهم بمن كفروا به.
وقرأ جماعة؛ منهم: مجاهد وقتادة: "كَفَر" بفتح الكاف والفاء (4) ، على معنى: جزاءً للكافرين.
{ ولقد تركناها } (5) يعني: الفعلة [أو السفينة] (6) { آية } يعتبر بها.
قال قتادة: أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة دهراً طويلاً، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة (7) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/413).
(2) ... المحتسب (2/298).
(3) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/94)، والدر المصون (6/227).
(5) ... في الأصل: والتقدير كناها. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: والسفينة. والتصويب من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (27/95). وذكره السيوطي في الدر (7/676) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/570)
وقد ذكرنا ذلك وقصة هلاكهم (1) وكيفية عمل السفينة في سورة هود (2) .
{ فهل من مُدَّكر } مُتَّعِظٌ مُعتبر.
وقرئ: "مُذْتَكِر" على الأصل (3) .
قال الزجاج (4) : أصله: مُذْتَكِر، بالذال والتاء، ولكن التاء أبدل منها الدال، والذال من موضع التاء، وهي أشبه بالذال (5) من التاء، وأدغمت الذال في الدال. وقد قال بعض العرب: "مُذَّكِر" بالذال المعجمة، فأدغم التاء في الأول. وهذا ليس بالوجه، [إنما] (6) الوجه: إدغام الأولى في التاء.
قال قتادة: هل من طالب خير فَيُعان عليه (7) .
{ فكيف كان عذابي } استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم لذلك العذاب الشديد، والتخويف [لكفار] (8) قريش (9) .
قرأ يعقوب: "ونذري" بإثبات الياء في الحالين، في المواضع الستة في
__________
(1) ... في ب: إهلاكهم.
(2) ... عند الآية رقم: 25-44.
(3) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/227)، والكشاف (4/436).
(4) ... معاني الزجاج (5/88).
(5) ... في معاني الزجاج: بالدال.
(6) ... زيادة من معاني الزجاج (5/88).
(7) ... أخرجه الطبري (27/96). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/676) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(8) ... في الأصل: لكافر. والمثبت من ب.
(9) ... في ب: مكة.(1/571)
هذه السورة، وافقه في الوصل وَرْش عن نافع. وقرأ الباقون بحذفها في الحالين (1) .
قال ابن قتيبة (2) : النُّذُر هاهنا: جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار.
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي: سَهَّلناه للحفظ والتلاوة، على ذوي الألسنة المختلفة، حتى إن الأعجمي والعجمي يُشارك الفصيح والعربي في تلاوته وحفظه، إعانة للمتذكرين، وتيسيراً لطريق [الوصول] (3) إلى الاتعاظ به.
قال سعيد بن جبير: ليس كِتابٌ من كُتب الله تعالى يُقرأ كله [ظاهراً] (4) إلا القرآن (5) .
وقيل: يسرناه [للادّكار] (6) والاتعاظ بما أودعناه من [المواعظ] (7) الشافية، وصرفنا فيه من الوعيد.
{ فهل من مدكر } ذاكر يذكره، وقارئ يقرأه.
ومعنى ذلك: الحث على تعلّم القرآن وتدبر مواعظه.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/12)، والحجة لابن زنجلة (ص:690)، والكشف (2/298)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:404)، والسبعة (ص:618).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:432).
(3) ... في الأصل: الموصل. والمثبت من ب.
(4) ... في الأصل: طاهراً. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/209)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/95).
(6) ... في الأصل: للاذتكار. والتصويب من ب.
(7) ... في الأصل: الموعظ. والتصويب من ب.(1/572)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ اثثب
وقد سبق تفسير "الصَّرْصَر" في حم السجدة (1) .
قوله تعالى: { في يوم نحس مستمر } أي: شُؤْمٍ دائم.
وقرأ الحسن: "يومٍ" بالتنوين (2) ، كقوله: { في أيام نحسات } [فصلت:16].
قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم (3) .
__________
(1) ... سورة فصلت، عند الآية رقم: 16.
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:404).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/210)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/95).(1/573)
قال الزجاج (1) : قيل: في يوم الأربعاء في آخر الشهر.
{ تنزع الناس } تقلعهم من الأرض وقد تماسكوا ودخل بعضهم في بعض، واعتصم بعضهم بالشعاب والحفائر، فتنزعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم، فتدقّ رقابهم، { كأنهم } وقد بانت رؤوسهم عن أجسادهم، أو مَالَتْ على أكتافهم، صرعى على الأرض، وهم جُثث طوال عظام { أعجاز نخل } قطعت فروعها { منقعر } منقلع عن مغارسها.
والأعْجَاز: جمع عَجُز، وهو مؤخر الشيء (2) .
وقرأ أبي بن كعب: "أعْجُز" بضم الجيم من غير ألف بعد الجيم (3) .
وقرأ ابن مسعود وأبو مجلز وأبو عمران: "عُجُز" بضم العين والجيم من غير ألف قبل العين وبعد الجيم (4) .
قال الفراء (5) : المنقعر: المُنْصَرِع من النخل.
قال ابن قتيبة (6) : يقال: قَعَرْتُهُ فانقَعَرَ، أي: قلعته فسقط.
قال أبو عبيدة (7) : والنخل يذكر ويؤنث. فهذه الآية على لغة من ذَكَّر.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/89).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: عجز).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/95)، والدر المصون (6/228).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير، الموضع السابق.
(5) ... معاني الفراء (3/108).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:433).
(7) ... مجاز القرآن (2/241).(1/574)
وقوله: { أعجاز نخل خاوية } [الحاقة:8] على لغة من أنَّث.
ôMt/Ox. ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ(1/575)
بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ اجثب
قوله تعالى: { كذبت ثمود بالنذر } أي: بالرسل.
وقد ذكرنا فيما مضى أن المكذِّب لرسول واحد مكذِّب لجميع الرسل.
وقيل: النذر بمعنى [الإنذار. والمعنى] (1) : كذبت ثمود [بالإنذار] (2) الذي جاءهم به صالح.
__________
(1) ... في الأصل: الإذار والعنى. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: بالإذار. والتصويب من ب.(1/576)
{ فقالوا أبشراً منا } منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده [وهو: { نَتَّبِعُه } ] (1) .
وقرأ أبو [السمَّال] (2) العدوي: "أبَشَرٌ" بالرفع، "واحِدَاً" بالنصب (3) .
قال أبو الفتح (4) : "بَشَرٌ" عندي مرتفع بفعل يدل عليه قوله تعالى: { أألقي الذكر عليه من بيننا } كأنه قال: أيُنَبَّأ، أو أيُبعث بَشَر منا.
وأما انتصاب "واحداً"؛ فإن شئت جعلته حالاً من الضمير في ["مِنَّا" (5) أي: أيُنَبَّأُ بَشَرٌ كائن مِنَّا؟ والناصب لهذه الحال الظرف، كقولك: زيد في الدار جالساً.
وإن شئت جعلته حالاً من الضمير في] (6) قوله: "نَتَّبِعه" (7) ، أي: نتبعه واحداً منفرداً لا ناصر له.
وقال الزمخشري (8) : قرئ: "أبشرٌ منا واحدٌ" على الابتداء، و"نتبعه" خبره.
فإن قيل: ما مرادهم بقولهم: "منا"؟
__________
(1) ... في الأصل: ونتبعه. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/178)، والدر المصون (6/229).
(4) ... المحتسب (2/298-299).
(5) ... أي الضمير المستقر في متعلقه.
(6) ... ما بين المعكوفين زيادة من المحتسب (2/298-299).
(7) ... انظر: التبيان (2/250)، والدر المصون (6/229).
(8) ... الكشاف (4/437).(1/577)
قلتُ: الذي يظهر لي: أنهم أرادوا انتظامه معهم في سلك المساواة في البشرية والقبيلة، كأنهم قالوا: نتبع بشراً، ثم مع كونه بشراً هو رجل منا لا امتياز له علينا بوجه من الوجوه.
وقَلَّ أن ترى مثل هذا التدقيق والتحقيق في تفسير، فإذا قرأته فادْعُ بالرحمة والمغفرة لمن أسهَر فيه ناظره، وأتعب في استثماره خاطره.
واعلم أنني بعد ذلك رأيت بعض نَحارِير (1) العلماء قد ألمّ بهذا المعنى، فحمدتُ الله على مماثلته في التوفيق، [لإصابة] (2) جهة التحقيق.
{ إنا إذاً } إن فعلنا ذلك { لفي ضلال } عن الصواب { وسُعُر } أي: جنون.
قال الفراء (3) : يقال: نَاقَةٌ مسعورةٌ؛ إذا كانت خفيفة الرأس، هائمةً على وجهها (4) .
قال الشاعر يصف ناقته:
تَخَالُ بها [سُعْراً] (5) إذا العيسُ هزَّها ذميلٌ [وإيضاعٌ من السَّيْر] (6) مُتْعِبُ (7)
__________
(1) ... النحارير: جمع نحرير، وهو الرجل الفَطِن المُتقن البصير في كل شيء، أو الحاذق الماهر العاقل المجرِّب (اللسان، مادة: نحر).
(2) ... في الأصل: والإصابة. والتصويب من ب.
(3) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظره في: تفسير البغوي (4/262).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: سعر).
(5) ... زيادة من ب، ومن مصادر البيت.
(6) ... في الأصل: وإيضاح من السر. والمثبت من ب، ومصادر البيت. والإيضاع: سيرٌ مثل الخَبَب (اللسان، مادة: وضع).
(7) ... البيت لم أعرف قائله، وهو في: البحر (8/178)، والدر المصون (6/229)، والكشاف (4/437)، والقرطبي (17/138)، وروح المعاني (27/88).(1/578)
العِيس: الإبل البيض وفي بياضها ظُلمة خفيفة (1) . يريد: تَخَالُ بها من شدة نشاطها وسرعة مشيها (2) جُنوناً. وهذا التفسير منقول عن ابن عباس وكثير من المفسرين (3) .
وقيل: السُّعُر: وقود النار (4) .
ثم في تأويل ذلك وجهان:
أحدهما: أنه كقول من وقع في [خَطْبٍ] (5) عظيم وعذاب أليم: أنا في النار، يريد: تشبيه حاله في الألم بحال من يُعذّب بالنار ويحرق بها.
الثاني: أنهم عكسوا على صالح ما كان يتوعدهم به إن لم يتبعوه من نار جهنم، فقالوا على طريقة الفَرَض والتقدير: إن اتبعناك كنا إذاً في ضلال وسُعُر.
ثم أنكروا اختصاصه من بينهم بالنبوة والرسالة فقالوا: { أألقي الذكر } أي: أنزل { عليه } الوحي { من بيننا بل هو كذابٌ أشِر } بَطِرٌ متكبّر، حمله كبره على الكذب في [ادعاء] (6) النبوة ليتعظَّم علينا بها.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عيس).
(2) ... في ب: سيرها.
(3) ... انظر: القرطبي (17/138).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: سعر).
(5) في الأصل: خصب. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: الدعاية. والتصويب من ب.(1/579)
وقرأ مجاهد: "أَشُر" بضم الشين (1) ، وهما لغتان، مثل: حَذِر وحَذُر، ويَقِظ ويَقُظ، وعَجِل وعَجُل.
{ سيعلمون غداً } وقرأ ابن عامر وحمزة: ["ستعلمون"] (2) بالتاء (3) ، على معنى: قيل لهم ستعلمون غداً عند نزول العذاب بكم أو يوم القيامة { من الكذاب الأشِر } .
وقرأ أبو قلابة: "الأشَرُّ" بفتح الشين وتشديد الراء (4) .
والصحيح: ما عليه عامة القرّاء؛ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنها نُقلت بطريق التواتر الذي لا يثبت كونه قرآناً إلا به.
الثاني: أنه رام عكس قولهم عليهم، وهم إنما نسبوه إلى الأشَر لا إلى الشَّرَارة.
الثالث: أنه وإن كان أصل قولهم هو شر منه، لكنه أصل مرفوض.
وقد حكى ابن الأنباري أن العرب تقول: هو أخْيَر وأشَرّ، وما أخيَرَه وما أشرّه (5) .
قوله تعالى: { إنا مرسلو الناقة فتنة لهم } أي: باعثوها ومخرجوها على حسب ما اقترحوا من الصخرة ابتلاء وامتحاناً لهم، { فارتقبهم } انتظر ما هم
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/179)، والدر المصون (6/230).
(2) ... في الأصل: وستعلمون. والتصويب من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (4/12)، والحجة لابن زنجلة (ص:689)، والكشف (2/297)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:405)، والسبعة (ص:618).
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/179)، والدر المصون (6/230).
(5) ... انظر قول الأنباري في: البحر المحيط (8/179).(1/580)
صانعون { واصطبر } على أذاهم، منتظراً أمري فيهم وحكمي عليهم.
{ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } لهم شِرْبٌ وللناقة شِرْبٌ. وإنما قال "بينهم": تغليباً للعقلاء.
{ كل شرب محتضر } محضور إما لهم أو للناقة.
{ فنادوا صاحبهم } قدَّار بن سالف { فتعاطى } عقر الناقة { فعقر } فبلغ ما أراد، أو فتعاطى السيف فعقر الناقة.
و"المحتظِر": الذي يعمل الحَظِيرة يمتنع بها، من [الحَظْر] (1) ، وهو المنع (2) .
قال ابن عباس: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك ودَاسَتْهُ الغنم فهو الهَشِيم (3) .
قال الزجاج (4) : الهَشِيم: ما يَبِسَ من الورق وتكسّر وتحطّم.
وقرأ الحسن: "المحتَظَر" بفتح الظاء (5) ، وهو موضع الاحتظار، أي: كهشيم المكان الذي فيه الحظيرة.
وقد ذكرنا قصتهم في موضعها (6) .
__________
(1) ... في الأصل: الظر. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حظر).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/98).
(4) ... معاني الزجاج (5/90).
(5) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:405).
(6) ... وذلك في تفسير سورة الأعراف عند الآية رقم: 73.(1/581)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ(1/582)
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ احةب
قوله تعالى: { إنا أرسلنا عليهم حاصباً } قال ابن عباس: يريد: ما حُصبوا به من الحجارة من السماء (1) .
قال أبو عبيدة والنضر (2) : الحاصب: الحجارة في الريح.
وقد ذكرنا ذلك في بني إسرائيل عند قوله: { أو يرسل عليكم حاصباً } [الإسراء:68].
قوله تعالى: { نجيناهم بسَحَر } قال الأخفش: إنما أجراه؛ لأنه نكرة، ومجازه: بسحر من الأسحار، ولو أراد سحراً بعينه لقال: بسحر، غير مجرى، ونظيره قوله تعالى: { اهبطوا مصراً } (3) [البقرة:61].
{ نعمةً من عندنا } مفعول له (4) ، أي: نجيناهم للإنعام عليهم، { كذلك نجزي من شكر } [أنعُمَنا] (5) فَوَحَّد وأطاع.
{ ولقد أنذرهم } لوط قبل حلول العذاب بهم { بطشتنا } أخْذَنا إياهم بالعقوبة { فتماروا بالنذر } وكذبوا بالإنذار متشاككين فيه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/417) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/211).
(2) ... ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن (2/241)، والماوردي (5/418) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/211).
(3) ... انظر قول الأخفش في: القرطبي (17/143).
(4) ... انظر: التبيان (2/250)، والدر المصون (6/231).
(5) ... في الأصل: أنعامنا. والتصويب من ب.(1/583)
{ ولقد راودوه عن ضيفه } مثل قوله: { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } [يوسف:23].
{ فطمسنا أعينهم } مسحناها وجعلناها كسائر الوجه، على ما ذكرناه في سورة هود (1) . وهذا قول الحسن وقتادة وجمهور المفسرين (2) .
وقال الضحاك: أُخفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم مع بقاء أعينهم (3) .
{ فذوقوا } على إضمار القول، تقديره: فقلنا لهم على ألسنة الملائكة { ذوقوا عذابي ونذري } ما أنذركم به لوط من العذاب، سمى العذاب باسم الإنذار.
{ ولقد صبّحهم بكرة } أول النهار، وأراد بُكْرة: من البُكَر، فلذلك صُرِفَت { عذاب مستقر } دائم إلى أن يُفضي بهم إلى عذاب الآخرة.
وما [كرّره] (4) في هذه السورة في آخر كل قصة ففائدته: قرع [الأسماع] (5) بالزواجر والمواعظ، وإيقاظ البصائر من رقدة الغفلة عن هذا النبأ العظيم، [والخَطْب] (6) الجسيم.
ô‰s)s9ur جَاءَ آَلَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 81.
(2) ... أخرجه الطبري (27/105). وذكره الماوردي (5/418).
(3) ... ذكره الماوردي (5/418).
(4) ... في الأصل: ذكره. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: المسماع. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: والخطاب. والتصويب من ب.(1/584)
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ احدب
قوله تعالى: { ولقد جاء آل فرعون النذر } وهم موسى وهارون(1/585)
وغيرهما من الأنبياء، [لأنهما] (1) عَرَضَا عليه ما جاءت به النُّذُر من قبلهما.
وقيل: النُّذُر: جمع نذير، إما بمعنى الإنذار، وإما لأن كل آية من الآيات التسع نذير.
{ كذبوا بآياتنا كلها } يعني: الآيات التسع. وقد ذكرناها في بني إسرائيل (2) .
{ فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } لا يُغالَب مقتدر على ما يريد.
{ أكفاركم } يا أهل مكة { خير } أقوى وأشد، أو بمعنى: أقلّ كُفْراً { من أولئكم } المذكورين المهلكين. وهذا الاستفهام بمعنى: الإنكار والتوبيخ.
{ أم لكم براءة في الزبر } أي: براءة أنزلها الله تعالى في الكتب المتقدمة بأنكم آمنون من حلول مثل ذلك العذاب بكم.
{ أم يقولون } لاتفاق كلمتهم وشدة شكيمتهم: { نحن جميع منتصر } .
قال الكلبي: نحن جميع ننتصر من أعدائنا (3) .
قال الثعلبي (4) : وكان حقُّه: مُنْتَصِرُون، فَتَبعَ رُؤوس الآي.
وقال الواحدي (5) : وَحَّدَ "مُنْتَصِر" للفظ الجميع، وهو واحد في اللفظ، وإن كان اسماً للجماعة، كالرَّهْط والجَيْش.
__________
(1) ... في الأصل: بأنهما. والمثبت من ب.
(2) ... سورة الإسراء، الآية رقم: 101.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/213).
(4) ... تفسير الثعلبي (9/169).
(5) ... الوسيط (4/213).(1/586)
{ سيُهزم الجمع } وقرأ يعقوب في رواية أبي حاتم عنه: "سَنَهْزِمُ" بالنون وكسر الزاي، "الجَمْعَ" بالنصب، "وتُوَلُّونَ" بالتاء (1) .
والمعنى: سيهزم جمع كفار قريش، { ويولون الدُّبُر } يريد: الأدبار، فذهب به مذهب [الجنس] (2) . وهذا مما وعد الله به رسوله والمؤمنين، فحققه لهم يوم بدر، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
ولقدْ وليتُمُ الدُّبُرَ لنا حين ... ... سالَ الموتُ من رأسِ الجبل (3)
أخبرنا الشيخان أحمد بن عبدالله وعلي بن أبي بكر بن عبدالله البغداديان قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن حوشب (4) ، حدثنا عبد الوهاب (5) ، حدثنا خالد الحذّاء (6) .
__________
(1) ... النشر (2/380).
(2) ... في الأصل: الجيش. والتصويب من ب.
(3) ... انظر البيت في: الماوردي (5/419).
(4) ... محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي، نزيل الكوفة، صدوق (تهذيب التهذيب 9/226، والتقريب ص:487).
(5) ... عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن عبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، مات أربع وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 6/397، والتقريب ص:368).
(6) ... خالد بن مهران الحذّاء، أبو المنازل البصري، مولى قريش، وقيل: مولى بني مجاشع، ثقة كثير الحديث، وسمي بالحذّاء؛ لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول أحذ على هذا النحو، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان (تهذيب التهذيب 3/104، والتقريب ص:191).(1/587)
قال البخاري: وحدثنا عفان بن مسلم، عن وهيب، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قُبَّةٍ يوم بدر: اللهم! إني أنشدك عهدك ووعدك، إن تشأ لا تُعبد بعد اليوم، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبُك يا رسول الله، ألححتَ على ربك، وهو يَثِبُ في الدرع، فخرج وهو يقول: { سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } )) (1) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
قوله تعالى: { بل الساعة موعدهم } أي: موعد الجميع للعذاب، { والساعة أدهى } قال الزجاج (2) : الداهية: الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه.
والمعنى: والساعة أفظع { وأمرّ } أشد مرارة مما نالهم من القتل والأسر والهزيمة يوم بدر.
¨bخ) الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1845 ح4594).
(2) ... معاني الزجاج (5/92).(1/588)
شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ اخخب
قوله تعالى: { إن المجرمين في ضلال وسُعُر } أي: في ضلال عن الحق في الدنيا، ونار تُسْعَر عليهم في الآخرة.
أخرج مسلم في صحيحه والترمذي من حديث أبي هريرة قال: ((جاء مشركوا قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاصمون في القَدَر، فأنزل الله: { إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا(1/589)
مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقَدَر } )) (1) .
وهذه الآية المعتضدة بالأحاديث الصحيحة المبين لسبب النزول الدافع لكل تأويل يعتصم به الخصم من جملة الدلائل الدامغة للقدرية، والبراهين المبطلة لمذهبهم الخبيث.
قال وهب بن منبه: قرأتُ اثنين وسبعين كتاباً من كُتُب الله عز وجل، فوجدت فيها كلها: أن من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر (2) .
ويكفي في إثبات كفرهم وضلالهم؛ ما أخبرنا به شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه بقراءتي عليه قال: قرئ على [فاطمة] (3) بنت علي بن عبدالله وأنا أسمع، أخبركم أبو القاسم بن بنان، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا أبو حفص بن شاهين (4) ، حدثنا محمد بن سليمان، حدثنا إبراهيم بن عبدالله الهروي (5) ، حدثنا زكريا
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2046 ح2656)، والترمذي (4/459 ح2157).
(2) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/24)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/646، 683)، وابن سعد في طبقاته (5/543). وذكره السيوطي في الدر (8/436) وعزاه لابن سعد والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) ... في الأصل: طمة. والتصويب من ب.
(4) ... عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب، أبو حفص المعروف بابن شاهين البغدادي الواعظ، ولد في سنة سبع وتسعين ومائتين، ارتحل بعد الثلاثين إلى دمشق فسمع بها وبغيرها، وجمع وصنف الكثير، كان ثقةً مأموناً، مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/431-434).
(5) ... إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، أبو إسحاق الهروي، نزيل بغداد، صدوق حافظ تكلم فيه بسبب القرآن، مات بسر من رأى سنة أربع وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/115، والتقريب ص:90).(1/590)
بن منظور (1) ، عن أبي حازم (2) ، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) (3) .
وممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القدرية مجوس هذه الأمة: أبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو أمامة، وجابر بن عبدالله، وأنس، وسهل بن سعد.
قال أبو سليمان الخطابي: إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذاهب المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنويّة، وكذلك القدرية يُضيفون الخير إلى الله، والشر إلى غيره (4) . والله أعلم.
وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا هذه القدرية، فإنها شعبة من النصرانية)) (5) .
وروى عبدالله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما هلكت أمة قط، إلا كان
__________
(1) ... زكريا بن منظور، ويقال: اسم جده: عقبة بن ثعلبة بن أبي مالك، ويقال: زكريا بن يحيى بن منظور بن ثعلبة القرظي، أبو يحيى المدني القاضي، حليف الأنصار، ضعيف، منكر الحديث (تهذيب التهذيب 3/287، والتقريب ص:216).
(2) ... هو سلمة بن دينار. تقدمت ترجمته.
(3) ... أخرجه أبو داود (4/222 ح4691).
(4) ... ذكره النووي في شرحه على مسلم (1/154)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/120).
(5) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/262 ح11680)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/631 ح1128).(1/591)
بدؤها الشرك بالله، وما كان بدؤها الشرك إلا التكذيب بالقدر)) (1) .
وروى ابن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كذَّب بالقدر أو خاصم فيه فقد كفر بما جئت به، وجحد ما أنزل عليّ)) (2) .
وهذه الأحاديث تركت أسانيدها اختصاراً.
قرأتُ على الإمام أبي محمد عبدالله بن أحمد المقدسي، أخبركم أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي فأقرّ به، أخبرنا محمد بن الحسن المقوّمي، أخبرنا القاسم بن أبي المنذر، أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان، أخبرنا محمد بن [يزيد] (3) بن ماجه، حدثنا عبدالله بن عامر بن زرارة (4) ، حدثنا شريك (5) ، عن منصور، عن ربعي، عن علي بن أبي طالب كرَّمَ الله وجهه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يؤمن [عبد حتى
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الصغير (2/219 ح1059)، والبخاري في التاريخ الكبير (8/300 ح3081).
(2) ... أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/170 ح686)، والطبراني في الأوسط (8/169 ح8298) كلاهما بلفظ: "من كذب بالقدر فقد كذب بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
(3) ... في الأصل: زيد. والتصويب من ب.
(4) ... عبد الله بن عامر بن زرارة الحضرمي مولاهم، أبو محمد الكوفي، صدوق، مات سنة سبع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 5/238، والتقريب ص:309).
(5) ... شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة، صدوق يخطىء كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً، شديداً على أهل البدع، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 4/293-295، والتقريب ص:266).(1/592)
يؤمن] (1) بأربع: بالله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وبالبعث بعد الموت، والقدر)) (2) . هذا حديث صحيح.
وقرأتُ على شيخنا أبي محمد عبدالله بن أحمد، أخبركم أبو الحسن علي بن عساكر المقرئ فأقرَّ به، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبدالله (3) الفقيه، أخبرنا أبو الحسن علي بن البسري، [أنبأنا] (4) عبيدالله، حدثني يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن عبدالله المروزي، حدثنا يحيى بن أبي جعفر، أخبرني أحمد بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن سلمة (5) البصري، حدثنا إبراهيم بن سليمان السلمي، حدثنا ابن أبي روّاد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ينادي منادٍ يوم القيامة: أين خصماء الله؟ قال: فتقوم القدرية مسودّة وجوههم، مزرقّة أعينهم، مائلاً شقّهم، يسيل لُعابهم، يقذرهم كل من رآهم، فيقولون: والله ربنا ما عبدنا شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولا اتخذنا من دونك إلهاً، ثم قرأ ابن عباس: { ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [المجادلة:18] هم والله القدريون، هم والله القدريون، هم والله القدريون)) (6) .
__________
(1) ... زيادة من (ب).
(2) ... أخرجه الترمذي (4/452 ح2145)، وابن ماجه (1/32 ح81).
(3) ... في ب: عبيدالله.
(4) ... في الأصل: أنبأ. والتصويب من ب.
(5) ... في ب: سلم.
(6) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (7/162 ، ح7162). قال الهيثمي (7/206) : فيه محمد بن الفضل بن عطية، والدارقطني في العلل (2/70 ، ح115) وقال : هو حديث مضطرب الإسناد غير ثابت، والثعلبي في تفسيره (9/263). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/686) وعزاه لابن مردويه.(1/593)
قال بعض العلماء: إنما سُمُّوا خصماء الله؛ لأنهم يقولون: يكتب الله علينا المعاصي، ثم يُعذّبنا (1) .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناده عن وهب بن خالد، عن ابن الديلمي قال: ((لقيت أبيّ بن كعب فقلت: يا أبا المنذر، إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء فلعله يَذهب من قلبي. قال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم، ولو أنفقتَ جبل أُحد أو مثل جبل أُحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لدخلت النار. قال: فأتيت حذيفة فقال لي مثل ذلك، وأتيت ابن مسعود فقال لي مثل ذلك، وأتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك)) (2) .
وفي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب قال: ((بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/215).
(2) ... أخرجه أحمد (5/182 ح21629).(1/594)
وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر، تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) (1) . وهو مختصر من حديث طويل.
وقد ذكرت في أثناء كتابي هذا أنواعاً من الأدلة الدّالة على بطلان مذهبهم، ولولا خشية الإطالة لذكرتُ في إقامة حُجج الله عليهم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يملأ أوراقاً كثيرة، لكن في هذا القدر كفاية لمن أراد الله تعالى هدايته.
قال أبو الأسود الدؤلي: ما أدركتُ أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو يُثبت القدر (2) .
قوله تعالى: { ذوقوا مس سقر } على إرادة القول، أي: يقال لهم ذوقوا مسّ سقر.
قال الحسن البصري رحمه الله: والله لو أن قدرياً صام حتى يصير كالحبل، ثم صلى حتى يصير كالوَتَر، ثم أُخذ ظُلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الركن والمقام، لكبَّه الله على وجهه في سقر، ثم قيل له: ذُقْ مَسَّ سقر (3) .
قوله تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقَدَر } قرأ العشرة وأكثر القرّاء: "كلَّ" بالنصب بفعل مُضْمَر يفسره الظاهر.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/37 ح8).
(2) ... أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/585 ح1037، 4/662 ح1202)، وابن منده في الإيمان (1/143 ح11).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/214-215)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/102).(1/595)
وقرأ أبو [السَّمَّال] (1) العدوي البصري: "إِنَّا كُلُّ شَيْءٍ" بالرفع (2) .
قال أبو الفتح (3) : الرفع هنا أقوى من النصب، وإن كانت الجملة على النصب، وذلك أنه في موضع الابتداء، فهو كقولك: زيدٌ ضربتُه، وهو مذهب صاحب الكتاب (4) والجماعة. وذلك لأنها جملة وقعت في الأصل خبراً عن مبتدأ، من قولك: نحن كل شيء خلقناه بقدر، فهو كقولك: هندٌ زيدٌ ضربها، ثم دخلت "إِنَّ" فنصبت الاسم، وبقي الخبر على تركيبه الذي كان عليه من كونه جملة من مبتدأ وخبر.
ومعنى الآية: كل شيء خلقناه بقدر مقدور مكتوب في اللوح المحفوظ.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كل شيء بقدر حتى العَجْز والكَيْس)) (5) .
قال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدّك (6) .
قوله تعالى: { وما أمرنا } قال ابن عباس: قضاؤنا في خلقنا (7) .
__________
(1) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/181)، والدر المصون (6/232).
(3) ... المحتسب (2/300).
(4) ... انظر: الكتاب (1/148) وفيه عن الآية: "فأما قوله عز وجل: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } فإنما هو على قوله: زيداً ضربته، وهو عربي كثير".
(5) ... أخرجه مسلم (4/2045 ح2655).
(6) ... أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/318 ح998). وذكره السيوطي في الدر (7/684) وعزاه للبخاري في تاريخه.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/216)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/102).(1/596)
وقال ابن السائب: ما أمرنا بمجيء الساعة (1) .
{ إلا واحدة } كلمة واحدة، وهي: "كُنْ"، فهي في سرعة التكوين كلمْح البصر.
ومعنى اللمْح: النَّظَر بسرعة (2) .
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } أشباهكم ونظراءكم من كفار الأمم الماضية.
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } قال مقاتل (3) : مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ.
وقيل: في كتب الحفظة.
{ وكل صغير وكبير } من الأعمال، وما كان وما يكون { مستطر } مكتوب في اللوح.
وقيل: كونه ووقوعه.
{ إن المتقين في جنات ونهر } يريد: أنهار الجنة من الماء واللبن والخمر والعسل، فوحَّد لوفاق الفواصل، أو ذهب به مذهب الجنس، وأنشد الخليل وسيبويه (4) :
بها جِيَفُ [الحَسْرَى] (5) فأمَّا عِظَامُها ... ... فبيضٌ وأما جلدُها فصليبُ (6)
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: لمح).
(3) ... تفسير مقاتل (3/302).
(4) ... انظر: الكتاب لسيبويه (1/209).
(5) ... في الأصل: الحشرى. والمثبت من ب، ومصادر البيت.
(6) ... البيت لعلقمة بن عَبَدَةَ المعروف بالفحل. انظر: ديوانه (ص:40) والكتاب (1/209)، والمفضليات (ص:394)، والطبري (4/244، 17/12)، والقرطبي (1/190)، ومعاني الزجاج (1/83، 2/74)، وزاد المسير (1/307، 401، 2/128، 8/103)، والدر المصون (1/108، 2/125).(1/597)
وقيل: المراد بالنَّهَر: الضِّياء والسعة، من قولك: أنهرْتُ الطَّعْنة؛ إذا أوسعتها (1) .
وقرأ الأعمش والأعرج: "ونُهُر" بضم النون والهاء (2) ، [جمع] (3) نَهَر، كأَسَد وأُسُد، أو جمع نَهَار، يريد: لا ليل لهم، بل هم في ضياء أبداً.
{ في مقعد صدق } أي: في مكان مرضي ومجلس. وقد نبهنا على هذا في قوله تعالى: { أن لهم قدم صدق } [يونس:2].
{ عند مليك } (4) مالك، وجاء على بناء فعيل؛ للمبالغة، { مقتدر } قادر على ما يشاء.
والمراد: المجالس التي أعدّها الله تعالى لأوليائه في جواره. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: نهر). وفي ب: وسعتها.
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:405).
(3) ... في الأصل: وجمع. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: مقتدر. وستأتي بعد.(1/598)
سورة الرحمن عز وجل
ijk
وهي سبع وسبعون آية في المدني، وثمان في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول الحسن وعطاء ومقاتل (2) والأكثرين، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة عنه (3) ، واستثنى آية وهي: { يسأله من في السموات والأرض } (4) .
ومدنية في قول ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية عنه (5) .
والصحيح الأول؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها على الجن الذين صرفهم الله تعالى إليه، وكان ذلك بمكة.
وسنذكر الحديث في آخر السورة إن شاء الله.
ك`"oH÷qچ9$# (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:237).
(2) ... تفسير مقاتل (3/303).
(3) ... انظر: الإتقان (1/43).
(4) ... انظر: الماوردي (5/422)، وزاد المسير (8/105)، والدر المنثور (7/689).
(5) ... انظر: المصادر السابقة.(1/599)
الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ(1/600)
آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ اتجب
قال الله عز وجل: { الرحمن * علم القرآن } قال مقاتل (1) : لما نزل قوله: { اسجدوا للرحمن } [الفرقان:60] قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فأنكروه. فقال الله: الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن.
قال الكلبي: علَّم محمداً وعلَّم محمد أمته (2) .
وقال الزجاج (3) : يسّر القرآن لأن يذكر.
{ خلق الإنسان } قال ابن عباس وقتادة: آدم (4) .
و { البيان } : اللغات، والأسماء كلها.
وقال ابن كيسان: المراد بالإنسان: محمد - صلى الله عليه وسلم - ، علَّمَه بيان ما كان ويكون (5) .
والصحيح: أن الإنسان: اسم جنس، وهو قول جمهور المفسرين (6) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/303).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/217)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/106).
(3) ... معاني الزجاج (5/95).
(4) ... أخرجه الطبري (27/114) عن قتادة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير 8/106) عن ابن عباس وقتادة، والسيوطي في الدر (7/691) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/106).
(6) ... ذكره الطبري (27/114)، والماوردي (5/423)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/106).(1/601)
قال الحسن: البيان: النطق والتمييز (1) .
وقال يمان: البيان: الكتابة والخط (2) .
قال بعض العلماء: لما أراد الله تعديد نعمه على خلقه في هذه السورة بدأ بنعمة الدِّين؛ لكونها أجلّ المنن وأعظمها، وتعليم القرآن أعلى مراتبها وأقصى مراقيها؛ لأنه الصراط المستقيم المُفْضي إلى الجنة والسعادة الأبدية، وثَنَّى بخلق الإنسان؛ تنبيهاً له أنه خُلق للدين والعلم بالقرآن، وثَلَّث بنعمة تعليم البيان، وهو النطق الذي تميّز به عن سائر الحيوان، والذي هو وسيلة إلى العلم بالقرآن [والتمييز] (3) بين الخير والشر (4) .
قال صاحب الكشاف (5) : "الرحمن": مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيدٌ أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذل، كثّرك بعد قلّة، فَعَلَ بك ما لم يَفعل أحد بأحد.
قوله: { الشمس والقمر بحسبان } أي: يجريان بحساب معلوم، لمصالح
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/106).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في الأصل: والتميز. والتصويب من ب.
(4) ... قال السمين الحلبي في الدر المصون (6/35): فإن قيل: لِمَ قَدَّمَ تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟
... قيل: لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
(5) ... الكشاف (4/443).(1/602)
العالم، على ما بيناه في مواضعه.
{ والنجم } قال ابن عباس: هو كل نبت ليس له ساق (1) .
قال اللغويون (2) : هو النبات الذي ينجم، أي: يطلع ليس له ساق؛ كالبقول.
{ والشجر } الذي له ساق.
وقال مجاهد: المراد بالنجم: نجوم السماء (3) .
وجوّز الزجاج (4) أن يراد: جميع ما نَبَتَ على وجه الأرض، وما طلع من نجوم السماء. وقال: يقال لكل ما يطلع: قد نَجَمَ.
والأول أصح.
وسجودهما: انقيادهما لما خُلقا له.
وقيل: سجودهما: ميلهما مع الشمس.
وقيل: [تفيّؤ] (5) ظلالهما.
وقد أشرنا إلى ذلك وإلى ما هو المختار عندنا من القول في هذه الآية وأمثالها في سورة الحج (6) .
قوله تعالى: { والسماء رفعها } أي: جعلها رفيعة عالية؛ ليتسع الفضاء
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/424)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/107).
(2) ... انظر: معاني الزجاج (5/96)، ومعاني الفراء (3/112).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:639)، والطبري (27/117). وذكره السيوطي في الدر (7/692) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... معاني الزجاج (5/96).
(5) ... في الأصل: تفؤ. والتصويب من ب.
(6) ... عند الآية رقم: 18.(1/603)
بين الأرض والسماء، ولولا ذلك وجريان الريح؛ لمات الخلق كَرْباً.
وقرأ أبو [السمّال] (1) : "والسماءُ" بالرفع (2) ، جعلها جملة مركّبة من مبتدأ وخبر معطوفة على الجملة التي هي قوله: { والنجم والشجر يسجدان } .
{ ووضع الميزان } لينتصف بعض الناس من بعض.
قال الضحاك: هو الميزان ذو اللسان والكِفَّتين (3) .
وقال مجاهد وقتادة والسدي: المراد بالميزان: العدل (4) .
وقيل: القرآن (5) .
والعدل شامل لجميع الأقوال، وبه تقدير الأشياء ووزنُها، وتمييز باطلها من حقها.
فالمراد بالميزان على هذا: كل ما تُعرف به المقادير، من ميزان ومكيال ومقياس وغير ذلك.
{ أن لا تطغوا } أي: وضعها لئلا تطغوا وتتجاوزوا القدر والعدل.
ويجوز أن تكون "أنْ" مفسرة و "لا" للنهي، تقديره: أي: لا تطغوا { في الميزان } (6) .
__________
(1) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/188)، والدر المصون (6/237).
(3) ... ذكره الماوردي (5/424)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/107).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:640)، والطبري (27/118). وذكره الماوردي (5/424)، والسيوطي في الدر (7/692) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/107) من قول الحسين بن الفضل.
(6) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/443)، وأبي البقاء العكبري في التبيان (2/251)، إلا أن أبا البقاء كأنّه تنبّه للاعتراض فقال: و"أنْ" بمعنى: أي، والقول مقدّر. قال السمين الحلبي في الدر المصون (6/237): وقوله: "والقول مقدّر" ليس بجيد؛ لأنها لا تفسّر القول الصريح، فكيف يقدّر ما لا يصح تفسيره؟ فإصلاحه أن يقول: وما هو بمعنى القول مقدّر.
... وردّ هذا القول -أي: أن تكون "أنْ" مفسرة و "لا" للنهي- أبو حيان في البحر المحيط (8/188) فقال: ولا يجوز؛ لأنه فات أحد شرطيها، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول، ووضع الميزان جملة ليس فيها معنى القول، والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد، وأما ما لا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.(1/604)
{ وأقيموا الوزن } وفي قراءة ابن مسعود: "وأقيموا اللسان".
{ بالقسط } أي: لسان الميزان.
والمعنى: قوّموه بالقسط، وهو العدل.
{ ولا تخسروا الميزان } أي: لا تنقصوه. فنهى سبحانه أولاً عن الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الاعتداء، وأمر بالتسوية والعدل ثانياً، ثم نهى عن التطفيف والنقصان ثالثاً. وكرّر ذكر الميزان؛ مبالغة في الحث على الأخذ به والعدل فيه.
قرأ بلال بن أبي بردة: "ولا تَخْسَرُوا" بفتح التاء والسين، على معنى: لا تخسروا في الميزان، فلما سقط الحرف الجار تعدّى الفعل، فنصب (1) . وروي عنه: "تَخْسِرُوا" بفتح التاء وكسر السين (2) .
قال الزجاج (3) : روى أهل اللغة: أخْسَرْتُ الميزان، وخَسَرْتُ الميزان.
__________
(1) ... قال أبو حيان في البحر (8/188): ولا يحتاج إلى هذا التخريج؛ لأن خسر جاء متعدياً؛ كقوله تعالى: { خسروا أنفسهم } [الزمر:15]، و { خسر الدنيا والآخرة } [الحج:15].
(2) ... انظر القراءتين في: البحر المحيط (8/188)، والدر المصون (6/237).
(3) ... معاني الزجاج (5/96).(1/605)
وقال ابن جني (1) : هو ما يشترك فيه فَعَلْت وأفْعَلْت من المعنى
[الواحد] (2) ، نحو: أجْبَرْتُه وجَبَرْتُه، وأهْلَكْتُه وهَلَكْتُه.
وقال الزمخشري (3) : يقال أيضاً: خسر الميزان يَخْسَره ويَخْسِره، بضم السين وكسرها.
قوله تعالى: { والأرض وضعها للأنام } أي: بَسَطَها ومهَّدَها للأنام.
قال ابن عباس: الأنام: الإنس (4) . وأنشدوا قول [رقيقة] (5) بنت أبي صيفي في عبدالمطلب:
مُبارَكُ الوَجْهِ يُسْتَسْقَى الغمامُ به ... ما في الأنامِ له عِدْلٌ ولا خَطَرُ (6)
وقال الحسن والزجاج (7) : الإنس والجن (8) .
__________
(1) ... المحتسب (2/303).
(2) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(3) ... الكشاف (4/444).
(4) ... أخرجه الطبري (27/119)، وابن أبي حاتم (10/3322). وذكره السيوطي في الدر (7/692-693) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم. وذكره من نفس الطريق أيضاً، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... في الأصل: رفيقة. والمثبت من ب.
(6) ... البيت لرقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف، تمدح عمها عبد المطلب حين استسقى به قومه فسقوا، وأولها:
... ... ... بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... ... وقد فقدنا الحيا واجلوَّذ المطر
... وحديث رقيقة في سقيا عبد المطلب أخرجه ابن سعد في طبقاته (1/89-90)، والطبراني في الكبير (24/259 ح661)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (57/149).
(7) ... معاني الزجاج (5/97).
(8) ... أخرجه الطبري (27/119) عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر (7/693) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن الحسن.(1/606)
وقال مجاهد وقتادة: هو اسم لكل ذي روح (1) .
قال بعضهم: سُمِّي بذلك؛ لأنه ينام.
والآية التي بعد هذه مفسرة فيما مضى.
قوله تعالى: { والحب ذو العصف والريحان } قرأ ابن عامر: "والحبَّ" بالنصب، "ذا" بالألف، "والريحانَ" بالنصب (2) ؛ عطفاً على قوله: { وضعها للأنام } ، على أن "وَضَعَهَا" بمعنى: خَلَقَها. المعنى: والأرض خلقها وخلق الحب والريحان.
وقرأ الباقون: "والحبُّ" بالرفع (3) ، على معنى: فيها فاكهة والنخل والحب ذو العصف وفيها الريحان.
وقرأ حمزة والكسائي: "والريحانِ" بالجر (4) ، على معنى: ذو العصف وذو الريحان.
والحب: اسم جنس، يريد: الحبوب المأكولة.
قال ابن كيسان: يبدو أولاً ورقاً وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يُحدث
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/425)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/107-108).
(2) ... الحجة للفارسي (4/13)، والحجة لابن زنجلة (ص:690)، والكشف (2/299)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:405)، والسبعة (ص:619).
(3) ... انظر: المصادر السابقة.
(4) ... الحجة للفارسي (4/14)، والحجة لابن زنجلة (ص:690)، والكشف (2/299)، والنشر (2/380)، والإتحاف (ص:405)، والسبعة (ص:619).(1/607)
الله فيه أكماماً، ثم يُحدث في الأكمام الحَبّ (1) .
قال الزجاج (2) : والعَصْفُ: ورق الزرع، ويقال: التِّبْن.
والريحان: الرزق. في قول أكثر المفسرين (3) .
قال الفراء (4) : الريحان في كلام العرب: الرِّزق، يقولون: خرجنا نطلب ريحان الله. وأنشد الزجاج (5) للنمر بن تولب:
سَلامُ الإلهِ وريحانُهُ ... ورحمتُهُ وسَمَاءٌ دِرَر (6)
وبهذا التفسير تَحْسُنُ قراءة حمزة والكسائي.
المعنى: وفيها الحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام، وذو الريحان الذي هو [مَطْعَم] (7) الناس.
وقال الحسن والضحاك وابن زيد: هو الريحان المشموم (8) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/218).
(2) ... معاني الزجاج (5/97).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:640)، والطبري (27/122). وذكره السيوطي في الدر (7/693-694) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، وعزاه من طرق الثلاثة لابن جرير.
(4) ... معاني الفراء (3/113-114).
(5) ... معاني الزجاج (5/97).
(6) ... البيت للنمر بن تولب. انظر: ديوانه (ص:345)، واللسان (مادة: روح، درر)، وغريب القرآن (ص:426)، والطبري (27/123)، والقرطبي (17/157، 233)، وزاد المسير (8/108)، والماوردي (5/426)، وتهذيب اللغة (5/221)، والحجة للفارسي (4/13).
(7) ... في الأصل: طعام. والمثبت من ب.
(8) ... أخرجه الطبري (27/122). وذكره الماوردي (5/426)، والسيوطي في الدر (7/693-694) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن ابن زيد، وعزاه لابن جرير أيضاً.(1/608)
والقولان مرويان عن ابن عباس.
ثم خاطب الثقلين الإنس والجن بقوله: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي: بأيّ نعمه المذكورة في هذه السورة وغيرها تُكذبان.
والآلاء: النِّعَم، وهو جمع، واحده: إلىً، مثل: مِعَىً، ويقال: ألىً، مثل: قَفَاً (1) .
ڑYn=y{ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: ألا).(1/609)
يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ اثخب
قوله تعالى: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } أي: خلقه من طين يابس لم يُطبخ، إذا نقرته صوّت، فهو كالفخار، أي: كالطين المطبوخ بالنار.(1/610)
وقد ذكرنا "الصلصال" و"الجان" في الحِجْر (1) .
قال ابن عباس: "المارج": لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (2) .
وقال مجاهد: المختلطُ بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأخضر والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت (3) .
قال الزجاج (4) : هو اللهب المختلط بسواد النار.
قال غيره: من مَرَجَ الشيء؛ إذا اضطرب واختلط (5) .
وقال مقاتل (6) : المارج: لهب النار الصافي من غير دخان.
قال الزجاج (7) رحمه الله في قوله: { خلق الإنسان من صلصال } [الرحمن:14]، وقوله: { من طين لازب } [الصافات:11]، وقوله: { من حمأ مسنون } [الحجر:26]، وقوله: { كمثل آدم خلقه من تراب } [آل عمران:59]: لا مناقضة بين هذه الآيات، فأصل الطين: التراب، فأعلم الله عز وجل أنه خلق آدم من تراب جُعِلَ طيناً، ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون، ثم انتقل
__________
(1) ... عند الآية رقم: 26-27.
(2) ... أخرجه الطبري (27/126).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:640)، والطبري (27/126). وذكره السيوطي في الدر (7/694) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... معاني الزجاج (5/99).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: مرج).
(6) ... تفسير مقاتل (3/304).
(7) ... معاني الزجاج (5/98).(1/611)
فصار صلصالاً كالفخار. فهذا كله أصله التراب.
قوله تعالى: { رب المشرقين } أي: مشرق الشتاء ومشرق الصيف، { ورب المغربين } مغربهما.
وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما.
وقيل: مشرق الفجر والشمس، ومغرب الشمس والشفق.
قوله تعالى: { مَرَجَ البحرين } أرسل كل واحد من البحر العذب والبحر الملح على صاحبه { يلتقيان } .
{ بينهما برزخ } حاجز من قدرة الله { لا يبغيان } لا يختلطان فيبْغِي [أحدهما] (1) على الآخر.
وقد سبق هذا في سورة الفرقان (2) .
وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هو بحر السماء وبحر الأرض، يلتقيان كل عام (3) .
وقال الحسن وقتادة: "مرج البحرين" يعني: بحر فارس والروم (4) ،
__________
(1) ... في الأصل: إحداهما. والمثبت من ب.
(2) ... عند الآية رقم: 53.
(3) ... أخرجه الطبري (27/128) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (7/696) وعزاه لابن جرير. وهذا القول هو الذي رجّحه الطبري، وأيّده بسياق الآية فقال: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عني به بحر السماء وبحر الأرض، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء؛ فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء.
(4) ... أخرجه الطبري (27/128). وذكره السيوطي في الدر (7/696) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/612)
"بينهما برزخ": وهو الجزائر (1) .
قوله تعالى: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } قرأ نافع وأبو عمرو: "يُخْرَجُ" بضم الياء وفتح الراء، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء (2) ؛ لأنه إذا أُخرج فقد خَرج.
وقرأتُ لأبي عمرو من رواية العباس بن الفضل عنه: "يُخْرِجُ منهما" بضم الياء وكسر الراء، ونصب "اللؤلؤ والمرجان" (3) .
قال الزجاج (4) : إنما يخرج من البحر الملح، وإنما جمعهما؛ لأنه إذا أُخرج من أحدهما فقد أُخرج منهما. ومثله: { وجعل القمر فيهن نوراً } [نوح:16].
وقال أبو علي (5) : أراد: [يخرج] (6) من أحدهما، فحذف المضاف.
وقال الزمخشري (7) : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد، جاز أن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/129). وذكره الماوردي (5/430)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/112)، والسيوطي في الدر (7/696) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، ولفظه: برزخ الجزيرة.
(2) ... الحجة للفارسي (4/15)، والحجة لابن زنجلة (ص:691)، والكشف (2/301)، والنشر (2/380-381)، والإتحاف (ص:405)، والسبعة (ص:619).
(3) ... الحجة للفارسي (4/15)، والسبعة (ص:619).
(4) ... معاني الزجاج (5/100).
(5) ... الحجة للفارسي (4/15).
(6) ... في الأصل: خرج. والتصويب من ب.
(7) ... الكشاف (4/445).(1/613)
[يقال] (1) : يخرج منهما، [كما] (2) يقال: يخرج من البحر، ولا يخرج من جميعه، ولكن من بعضه.
وجمهور المفسرين واللغويين: على أن اللؤلؤ: اسم جامع للحَبّ الذي يخرج من البحر، والمرجان: صغاره (3) . وقول مقاتل (4) والسدي على الضد من ذلك.
وقال ابن مسعود: "المرجان": الخرز الأحمر كالقضبان (5) .
قال ابن عباس: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها، فما وقع فيها من مطر السماء فهو لؤلؤ (6) .
قوله تعالى: { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام } وقرأ حمزة
__________
(1) ... في الأصل: يقول. والتصويب من ب، والكشاف (4/445).
(2) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (27/130-131). وذكره السيوطي في الدر (7/697) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، ومن عدة طرق أخرى عن قتادة ومجاهد والحسن والضحاك.
(4) انظر: تفسير مقاتل (3/305)، وزاد المسير (8/113).
(5) ... أخرجه الطبراني في الكبير (9/218 ح9058). وذكره الماوردي (5/431)، والسيوطي في الدر (7/697) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني.
(6) ... أخرجه الطبري (27/132)، وابن أبي حاتم (10/3324)، وابن أبي الدنيا في كتاب "المطر" (ص:9). وذكره السيوطي في الدر (7/696) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/614)
وعاصم بخلاف عنه: "المنشِآت" بكسر الشين (1) .
والمعنى: وله السفن الجواري، الواحدة منها: جارية، سميت بذلك؛ لأنها تجري في الماء بإذن الله.
والجارية: المرأة الشابّة، سميت بذلك لجريان ماء الشباب فيها.
والمنشآت: بفتح الشين: المرفوعات الشُّرَع، وبالكسر الرّافعات الشُّرَع، أو اللاتي يُنشئن [الأمواج بجريهن] (2) .
قال الكلبي: ما رُفع قلعه منها، فهي منشأة، وما لم يرفع فليس بمنشأة (3) .
والأعْلام: جمع عَلَم، وهو الجبل الطويل (4) . وقد سبق ذكره (5) .
'@ن. مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/15)، والحجة لابن زنجلة (ص:691-692)، والكشف (2/301)، والنشر (2/381)، والإتحاف (ص:406)، والسبعة (ص:619-620).
(2) ... في الأصل: بخروجهن. والتصويب والزيادة من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (5/431).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: علم).
(5) ... في سورة الشورى آية رقم: 32.(1/615)
تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ اجةب
قوله تعالى: { كل من عليها فان } أي: جميعُ مَنْ على الأرض هالك.
وقد تقدم ذكرها في قوله: { والأرض وضعها } [الرحمن:10].
{ ويبقى وجه ربك } مثل قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص:88].
{ ذو الجلال والإكرام } قال الخطابي (1) : الجلال: مصدر الجليل، [يقال] (2) : جليل بين الجلالة والجلال.
[والإكرام] (3) : مصدر أَكْرَمَ يُكْرِمُ إِكْراماً.
والمعنى: أنه يستحق أن يُجَلَّ ويُكْرَمَ؛ لعزَّته وعظمته، أو لأنه يُجِلُّ أولياءه ويُكرمهم برفع الدرجات في الجنات.
__________
(1) ... شأن الدعاء (ص:91-92).
(2) ... زيادة من ب، وشأن الدعاء (ص:91).
(3) ... في الأصل: وإكرام. والتصويب من ب، وشأن الدعاء، الموضع السابق.(1/616)
وهاتان الصفتان من أعظم صفات الله عز وجل. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [أمته] (1) أن يضرعوا إلى الله ويسألوه بهما على وجه الملازمة والإلحاح، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ألِظُّوا بياذا الجلال والإكرام)) (2) .
فإن قيل: أي نعمة في قوله: { كل من عليها فان } حتى عقبه بقوله: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ؟
قلتُ: هو نعمة لأولياء الله؛ حيث أفضى بهم إلى السعادة الأبدية والنعمة العظمى.
وجميع ما يأتيك في هذه السورة؛ فهو إما تحديث [بنعمة] (3) ، أو تحذير من نقمة، أو إعلام بقدرة باهرة، أو عظمة ظاهرة، وجميع ذلك نِعَمٌ. فإن شخصاً لو جاءك منقذاً لك من هَلَكَةٍ كنتَ غافلاً عنها لرأيتها له نعمة جسيمة ومنّة عظيمة.
قوله تعالى: { يسأله من في السموات والأرض } أي: يطلبون منه أنواع الحاجات؛ لِغِنَاهُ وفقرهم إليه.
{ كُلَّ يوم هو في شأن } أي: كل وقت وزمان هو في شأن من شؤون المُلْك، يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويُغْني ويُفْقِر، ويُحيي ويُميت، ويُسْعِدُ ويُشْقِي، ويُمْرِض ويَشْفِي، إلى غير ذلك من تدبير ملكوت السموات والأرض، مما لا يُحيط به علماً سواه.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه الترمذي (5/540 ح3525)، وأحمد (4/177).
(3) ... في الأصل: نعمة. والتصويب من ب.(1/617)
قرأتُ على أبي القاسم بن أبي منصور الموصلي، أخبركم أبو القاسم يحيى بن أسعد، أخبرنا أبو العز بن كادش، أخبرنا أبو علي الجازري، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسن بن الحسين بن عبدالرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن الحسن -يعني: أبا الحارث- الرملي، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي (1) ، حدثنا يونس بن ميسرة بن [حَلْبَس] (2) ، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((في قول الله عز وجل: { كل يوم هو في شأن } : من شأنه [أن] (3) يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويجيب داعياً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) (4) .
éّمچّےoYy™ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
__________
(1) ... الوزير بن صبيح الثقفي، أبو روح الشامي، صالح الحديث (تهذيب التهذيب 11/102، والتقريب ص:580).
(2) ... في الأصل: حليس. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (11/394)، والتقريب (ص:614).
(3) ... زيادة من سنن ابن ماجه (1/73).
(4) ... أخرجه ابن ماجه (1/73 ح202). وذكره البخاري معلقاً موقوفاً على أبي الدرداء (4/1847).(1/618)
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ اجدب
قوله تعالى: { سَنَفْرُغُ لكم أيها الثقلان } قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً وعبد الوارث عن أبي عمرو: "سَيَفْرُغُ لكم" بالياء، حملاً على قوله: "وله الجواري"، إلا أن الحلبي عن عبد الوارث زاد: ضم الياء وفتح الراء (1) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/115)، والدر المصون (6/242).(1/619)
وقرأ الباقون من العشرة بالنون وضم الراء (1) .
وقد سبق ذكر اختلافهم في "أيها الثقلان" (2) .
قال المفسرون: هذا وعيدٌ من الله وتهديدٌ منه لعباده (3) .
قال الزجاج (4) : تقول: سَأَفْرَغُ لفلان، أي: سأجعله قصدي.
فمعنى الآية: سيقصد لحسابكم. والثَّقَلان: الإنس والجن، سُمِّيا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض.
ويدل على ذلك قوله: { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } الأقْطَار: النواحي.
قال ابن عباس: المعنى: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض (5) .
وقيل: إن استطعتم أن [تخرجوا] (6) من ملكوتي ومن سمائي وأرضي وتهربوا من قضائي وقدري، فلا يدركم الموت ولا ما تكرهونه من مرض
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/16)، والحجة لابن زنجلة (ص:692)، والكشف (2/301)، والنشر (2/381)، والإتحاف (ص:406)، والسبعة (ص:620).
(2) ... في سورة النور، آية رقم: 31.
(3) ... أخرجه الطبري (27/136)، وابن أبي حاتم (10/3325). وذكره السيوطي في الدر (7/701) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... معاني الزجاج (5/99).
(5) ... أخرجه الطبري (27/137).
(6) ... في الأصل: تحروا. والتصويب من ب.(1/620)
وفقر وغيرهما، فانفذوا.
{ لا تنفذون } أي: لا تقدرون على ذلك { إلا بسلطان } أي: بقدرة تتسلطون بها على ما تريدون، وأنّى لكم ذلك وأنتم خلقي وتحت سلطاني وفي قبضتي.
وقيل: المعنى: لا تنفذون إلا في سلطاني وملكي.
قوله تعالى: { يرسل عليكما } أي: على الكفار من الثقلين { شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } . قرأ ابن كثير: "شِواظٌ" بكسر الشين، وضَمَّها الباقون (1) . وهما لغتان بمعنى واحد, وهو اللهب الخالص.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "ونحاسٍ" بالجر، عطفاً على "نار". وقرأ الباقون بالرفع، عطفاً على "شُواظ" (2) .
والنحاس -بالحركات الثلاث على النون-: الدخان (3) . وأنشدوا للنابغة الجعدي:
تُضيءُ كضوءِ سِراج السَّليـ ... ... ـط لم يجعل اللهُ فيه نُحَاسا (4)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/16)، والحجة لابن زنجلة (ص:693)، والكشف (2/302)، والنشر (2/381)، والإتحاف (ص:406)، والسبعة (ص:621).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.
(3) ... أخرجه الطبري (27/140)، وابن أبي حاتم (10/3325). وذكره السيوطي في الدر (7/701) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... البيت للنابغة الجعدي. انظر: ديوانه (ص:81)، واللسان (مادة: نحس)، ومجاز القرآن (2/245)، وغريب القرآن (ص:438)، والطبري (27/141) ونسبه للنابغة الذبياني، والقرطبي (17/172)، وزاد المسير (8/117)، والماوردي (5/435)، والبحر (8/184)، والدر المصون (6/243) ونسبه للأعشى، ومعاني الفراء (3/137).(1/621)
أي: دخاناً.
وقيل: النُّحاس: الصُّفْر المذاب يُصب على رؤوسهم (1) . والقولان عن ابن عباس.
قال ابن عباس: [إذا] (2) خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر (3) .
وجاء في الحديث: ((يُحاط على الخلق بلسان من نار، ثم ينادون: { يا معشر الجن والإنس... الآية } ، وذلك قوله: { يرسل عليكما شواظ من نار } )) (4) .
#sŒخ*sù انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/140). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/117)، والسيوطي في الدر (7/702) وعزاه لابن جرير، ولفظهما: النحاس: الصُّفْر يعذبون به.
(2) ... في الأصل: إذ. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/448)، وأبو حيان في البحر المحيط (8/193).
(4) ... ذكره القرطبي (17/170)، والبغوي (4/271).(1/622)
عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ احخب
قوله تعالى: { فإذا انشقت السماء } أي: تصدّعت من المجرة لنزول(1/623)
الملائكة يوم القيامة، { فكانت وردة } قال الزجاج (1) : كلون فرسٍ وردَةٍ،
والكُمَيْتُ (2) : [الوردُ] (3) يتلوّن فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الفصل (4) خلاف لونه في الشتاء والصيف. فالسماء تتلوّن من الفزع الأكبر.
وقال ابن قتيبة (5) : فكانت حمراء في لون الفرس الورد. وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك والربيع وجمهور المفسرين (6) .
وقيل: هي وردة النبات. وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحُمْرة (7) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/101).
(2) ... الكميت: الذي خالط حُمْرَتَهُ قُنوء، أي: الأحمر الأقنى. (انظر: اللسان، مادة: كمت).
(3) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج (5/101).
(4) ... قال محقق معاني الزجاج (5/101 حاشية 4): ويكون في أي فصل غير فصلي الشتاء والصيف بلون آخر، ولعله يعني بالفصل هنا أنه في الفاصل بين الشتاء والصيف بلون آخر.
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:439).
(6) ... أخرجه الطبري (27/141). وذكره السيوطي في الدر (7/702) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(7) ... قال الماوردي (5/436): وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبُعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحُمْرة الدم، وترى بالحائل زرقاء. فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنه أصل لونها.(1/624)
قال قتادة: هي اليوم خضراء كما ترون، ولها يوم القيامة لون آخر إلى الحُمْرة (1) .
{ كالدهان } جمع دُهْن.
قال عطاء بن أبي رباح: كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألواناً (2) .
وقال الحسين بن الفضل: كصبيب الدهن يتلوّن (3) .
قال الفراء (4) : شَبَّهَ تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل، وشبّه الورد في اختلاف ألوانه بالدهن واختلاف ألوانه.
قال ابن جريج: تذوب السماء كالدُّهن الذائب، وذلك حين يُصيبها حَرّ جهنم (5) .
وقال ابن عباس وابن السائب: الدهان: الأديم الأحمر (6) .
قوله تعالى: { فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قال ابن عباس: لا يسأل بعضهم بعضاً؛ لاشتغال كل واحد بنفسه (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/141). وذكره السيوطي في الدر (7/703) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/272).
(3) ... ذكره القرطبي (17/173) من قول الحسن.
(4) ... معاني الفراء (3/117).
(5) ... ذكره البغوي (4/272).
(6) ... ذكره السيوطي في الدر (7/702) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. وانظر: الماوردي (5/436) عن ابن عباس، والبغوي (2/272) عن ابن السائب الكلبي.
(7) ... أخرجه الطبري (27/142). وذكره الماوردي (5/436).(1/625)
وقال في رواية أخرى: لا يسألون ليعلم حالهم؛ لأن الله أعلم منهم بذلك (1) .
وقال الزجاج (2) : لا يسأل أحد عن ذنبه ليستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ.
وقد نقل نحوه عن ابن عباس أيضاً.
وبهذه الأقوال (3) يتبين لك أن لا مناقضة بين هذه الآية وبين قوله: { فوربك لنسألنهم أجمعين } [الحجر:92].
والجانّ: أبو الجن. وقد ذكرناه [فيما] (4) مضى.
والمعنى: لا يسأل بعض من الإنس ولا بعض من الجن، فوضع "الجان" موضع الجن، كما يقال: تميم، والمراد: أولاده.
قوله تعالى: { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } وهو سواد الوجوه، وزُرْقَةُ العيون، بدليل قوله: { وتَسودُّ وجوه } [آل عمران:106]، وقوله: { ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } [طه:102].
{ فيؤخذ بالنواصي والأقدام } وهي جمع ناصية، وهي مُقدَّم الرأس (5) .
قال الضحاك: يُجمع بين قدميه وناصيته في سلسلة من وراء ظهره (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/436)، والسيوطي في الدر (7/703) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(2) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قوله في: زاد المسير (8/118).
(3) ... في ب: الأحوال.
(4) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: نصا).
(6) ... أخرجه هناد في الزهد (1/180 ح268). وذكره السيوطي في الدر (7/704) وعزاه لهناد في الزهد.(1/626)
وقيل: تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي وتارة [بالأقدام] (1) .
قال مردويه الصائغ (2) : صلى بنا الإمام صلاة الصبح، فقرأ سورة الرحمن، ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلما قرأ الإمام: { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [خَرَّ] (3) مغشياً عليه حتى فرغنا من الصلاة. فلما كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعت الإمام يقرأ: { حور مقصورات في الخيام } ؟ قال: شغلني عنها: { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } (4) .
قوله تعالى: { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } هو على إضمار القول، تقديره: يقال لهم إذا سُحبوا إليها تحقيراً وتعنيفاً وانتقاماً منهم: هذه جهنم.
ثم أخبر عن حالهم فيها بقوله: { يطوفون بينها وبين حميم آن } قال الحسن والفراء (5) : قد بلغ منتهى حَرّه (6) .
__________
(1) ... في الأصل: بأقدام. والتصويب من ب.
(2) ... عبد الصمد بن يزيد، المعروف بمردويه الصائغ، خادم الفضيل بن عياض، كان ثقة من أهل السنة والورع، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين (لسان الميزان 4/23، وتاريخ بغداد 11/40).
(3) ... في الأصل: فخر. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/119).
(5) ... معاني الفراء (3/118).
(6) ... أخرجه الطبري (27/144) عن الحسن.(1/627)
قال قتادة: قد آنى طبخه منذ خلق الله السموت والأرض (1) .
قال الزجاج (2) : آنى يأنى فهو آنٍ؛ إذا انتهى حَرُّه.
وقال ابن قتيبة (3) : الحميم: الماء الحار، والآني: الذي انتهت شدة حَرّه.
قال المفسرون (4) : يطوفون بين الجحيم وبين الحميم، فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار [كالمهل] (5) .
قال كعب الأحبار: ["آن"] (6) : وادياً من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال، فيغمسون في ذلك الوادي، حتى [تنخلع] (7) أوصالهم، ثم يخرجون وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار (8) .
ô`yJد9ur خَافَ مَقَامَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/144). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/705) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... معاني الزجاج (5/102).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:439).
(4) ... ذكره الماوردي (5/437)، والواحدي في الوسيط (4/225)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/119).
(5) ... في الأصل: كامهل. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: إن. والتصويب من القرطبي والبغوي.
(7) ... في الأصل: تنخعل. والتصويب من ب.
(8) ... ذكره القرطبي (17/176)، والبغوي (4/273).(1/628)
رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ اخجب
قوله تعالى: { ولمن خاف مقام ربه جنتان } أي: ولمن خشي وقوفه بين يدي ربه للحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ بُستانان.
المعنى: ولمن خاف مقام ربه بالحفظ والمراقبة، كقوله: { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [الرعد:33].(1/629)
قال مجاهد: هو الذي يهمُّ بالمعصية فيذكر الله فَيَدَعُها (1) .
ثم وصف الجنتين فقال: { ذواتا أفنان } [يجوز] (2) أن يكون جمع فَنَن، وهو الغصن المستقيم طولاً، ويجوز أن يكون جمع فَنّ، وهو الضَّرْب.
فإن أريد الأول -وهو قول مجاهد، والضحاك، وعكرمة، وعطية العوفي، وابن السائب، والفراء، والزجاج- كان المعنى: ذواتا أغصان مُتشعِّبَة مُثمرة مُورقة، لتمتدّ ظلالها وتكثر ثمارها (3) .
وإن أريد الثاني -وهو قول سعيد بن جبير- كان المعنى: ذواتا ضُروب وأصناف من النعم [المُسْتَلَذَّة] (4) المُشْتَهاة (5) ، ومنه قول الشاعر:
ومِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا ... لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ نَاضِرُ (6)
قوله تعالى: { فيهما عينان تجريان } قال الحسن: تجريان بالماء الزلال،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/145)، وابن أبي شيبة (7/216 ح35461)، والبيهقي في الشعب (1/469 ح738)، وابن أبي الدنيا في التوبة (ص:99)، وهناد في الزهد (2/453 ح899). وذكره السيوطي في الدر (7/706) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا في التوبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... في الأصل: ويجوز. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الطبري (27/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/120)، والزجاج في معاني القرآن (5/102).
(4) ... في الأصل: المستذلة. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الطبري (27/147)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/120).
(6) ... البيت لم أعرف قائله. وهو في: البحر (8/185)، والدر المصون (6/246)، والكشاف (4/450)، وروح المعاني (27/117).(1/630)
إحداهما: التَّسْنيم، والأخرى: السلسبيل (1) .
وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين (2) .
قال أبو بكر الورّاق: فيهما عينان تجريان لمن كان له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء (3) .
قوله تعالى: { فيهما من كل فاكهة زوجان } أي: صِنْفَان، قيل: صِنْفٌ معروف، وصِنْفٌ غريب.
قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حُلْوة ولا مُرّة إلا وهي في الجنة، حتى الحَنْظَل (4) .
tûüد"إ3GمB عَلَى فُرُشٍ $pkك]ح !$sـt/ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/226).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/120).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/120).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (7/709)، والبغوي في تفسيره (4/274).(1/631)
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ادتب
قوله تعالى: { متكئين على فرش } حال من: "ولمن خاف"، أو نصب على المدح لهم (1) .
{ بطائنها من إستبرق } البِطَانة: ما تحت الظِّهارة (2) ، والإستبرق: ما
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/252)، والدر المصون (6/246).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: بطن).(1/632)
غَلُظَ [من] (1) الديباج (2) . وقد ذكرناه في الكهف (3) .
قال أبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر (4) .
قال ابن عباس: إنما ترك وصف الظهائر؛ لأنه ليس أحد يعلم ما هي (5) .
{ وجنى الجنتين دان } أي: ما يُجْتَنَى منهما من الثمار، قريبٌ من جَانِيهِ، لا يَرُدُّ يده عنها بُعْدٌ ولا شَوْكٌ.
قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليّ الله، إن شاء قائماً وإن شاء قاعداً (6) .
قوله تعالى: { فيهن } أي: في الفرش أو في الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفُرُش، أو في الجنتين؛ لاشتمالهما على قصور وأماكن، أو في الجنات (7) . وقد دلَّ عليها ما تقدم ذكره.
{ قاصرات الطرف } مذكورٌ في الصافات (8) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: برق).
(3) ... عند الآية رقم: 31.
(4) ... أخرجه الطبري (27/149) من حديث هبيرة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/121) عن أبي هريرة.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/226-227)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/121).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/227).
(7) ... في ب: الجنان.
(8) ... عند الآية رقم: 48.(1/633)
{ لم يطمثهن } وقرأ الكسائي: "يَطْمُثْهُنَّ" بضم الميم، وهما لغتان (1) .
قال الفراء (2) : الطَّمْث: الافْتِضَاض، وهو النكاح بالتَّدْمِيَة.
والمعنى: لم يفتضّ بكارتهنَّ.
قال مقاتل (3) : لأنهن خُلِقْنَ في الجنة.
فعلى قوله: هُنَّ من حور الجنة.
وقال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا، لم يمسسن مُذْ أنشئن (4) .
وهو قول ابن السائب: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان (5) .
قال الزجاج (6) : وفي هذه الآية دليل على أن الجني يَغْشَى ما يغشاه (7) الإنسي.
وسُئل طلق بن حبيب: هل يدخل الجِنَّةُ الجَنَّةَ؟ [فقال] (8) : نعم، ثم تلا هذه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/18)، والحجة لابن زنجلة (ص:694)، والكشف (2/303)، والنشر (2/381-382)، والإتحاف (ص:406-407)، والسبعة (ص:621).
(2) ... معاني الفراء (3/119).
(3) ... تفسير مقاتل (3/310).
(4) ... أخرجه هناد في الزهد (1/57 ح22). و ذكره الواحدي في الوسيط (4/227)، والسيوطي في الدر (7/711) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/227).
(6) ... معاني الزجاج (5/103).
(7) ... في ب: يغشى.
(8) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.(1/634)
الآية، فللجِنِّ جِنِّيات، وللإنس إنْسِيَّات (1) .
قوله تعالى: { كأنهن الياقوت والمرجان } قال قتادة: هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان (2) .
قال الزجاج وغيره من أهل اللغة (3) : المرجان: اللؤلؤ الصغار، وهو أشد بياضاً من كبار اللؤلؤ.
وقال أهل اللغة: الياقوت: فارسي مُعرَّب، والجمع: اليواقيت (4) . وقد تكلَّمتْ به العرب. قال مالك بن [نويرة] (5) :
لَنْ يُذهبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قد حُبيتَ به ... من الزبرْجَد والياقوتِ والذهب (6)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة تَلِجُ الجنة صورتهم صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوَّة،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/151)، وأبو الشيخ في العظمة (5/1696 ح115171) كلاهما من حديث أرطأة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب. وذكره السيوطي في الدر (7/711) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة عن أرطأة بن المنذر قال: تذاكرنا عند ضمرة بن حبيب... فذكره.
(2) ... أخرجه الطبري (27/153). وذكره السيوطي في الدر (7/712) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... معاني الزجاج (5/103).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: يقت)، والصحاح للجوهري (1/271).
(5) ... في الأصل: يويرة. والتصويب من ب.
(6) ... انظر البيت في: زاد المسير (8/123).(1/635)
ورشحهم المسك، لكل واحد منهم [زوجتان] (1) ، يُرى مُخّ سُوقهما من وراء اللحم من الحُسن)) (2) .
وفي حديث أبي سعيد نحوه وقال فيه: ((على كل زوجة سبعون حُلَّة، يُرى مُخّ ساقها من وراء لحمها ودمها وحُللها)) (3) .
قوله تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } أي: هل جزاء الإحسان في العمل في الدنيا إلا الإحسان في الجزاء في الآخرة.
قال ابن عباس: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الجنة (4) .
وروى أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة (5) .
أخبرنا الإمام أبو العباس أحمد بن عبدالواحد بن أحمد، المعروف
__________
(1) ... زيادة من ب، والصحيحين.
(2) ... أخرجه البخاري (3/1185 ح3073)، ومسلم (4/2180 ح2834).
(3) ... أخرجه الترمذي (4/670 ح2522، 4/677 ح2535)، وأحمد (3/16 ح11142).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/227)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/123)، والسيوطي في الدر (7/714) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5) ... أخرجه الحكيم الترمذي في نوادره (2/266)، والديلمي في الفردوس (4/337)، والبغوي في تفسيره (4/276). وذكره السيوطي في الدر (7/714) وعزاه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفردوس وابن النجار في تاريخه.(1/636)
بالبخاري الفقيه الحنبلي رحمه الله، قراءة عليه وأنا أسمع بجامع دمشق، سنة سبع وستمائة، أخبرنا أبوالمعالي عبدالمنعم بن عبدالله بن محمد الفراوي بمدينة شاذياخ (1) "نيسابور" سنة ست وثمانين وخمسمائة قال: أخبرنا عبدالغفار بن محمد الشيروي سنة اثنتين وخمسمائة، أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري.
وقرأتُ على الشيخ أبي طالب عبداللطيف بن محمد بن علي القبيطي ببغداد وولدي [أبو] (2) الفضائل محمد -جبره الله- [يسمع] (3) سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، أخبركم أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي سنة إحدى وستين وخمسمائة فأقرَّ به، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد الكامخي الساوي (4) سنة سبع وثمانين وأربعمائة، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم الأموي، حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سالم
__________
(1) ... شاذياخ: هي مدينة نيسابور، أم بلاد خراسان، وكانت قديماً بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين، ملاصق مدينة نيسابور (معجم البلدان 3/305).
(2) ... في الأصل: أبي. والمثبت من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... محمد بن أحمد بن محمد الساوي الكامخي، محدّث رحّال فاضل، سمع بنيسابور القاضي أبا بكر الحيري، والصيرفي، والبرقاني، وهبة الله اللالكائي، وطائفة. حدّث عنه إسماعيل بن محمد الحافظ، وسعيد الميهني، وأبو زرعة المقدسي، وآخرون (سير أعلام النبلاء 19/184-185).(1/637)
[بن] (1) أبي حفصة، عن منذر الثوري (2) قال: قال محمد بن علي ابن الحنفية: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } قال: هي مُسَجَّلة للبرّ والفاجر (3) .
`دBur دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا
__________
(1) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (3/374)، والتقريب (ص:226).
(2) ... المنذر بن يعلى الثوري، أبو يعلى الكوفي، كان ثقة قليل الحديث (تهذيب التهذيب 10/270، والتقريب ص:546).
(3) ... أخرجه الطبري (27/153)، والبيهقي في الشعب (6/525 ح9154)، والبخاري في الأدب المفرد (ص:59). وذكره السيوطي في الدر (7/714) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان.(1/638)
فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(1/639)
(77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ اذرب
قوله تعالى: { ومن دونهما جنتان } قال الزجاج (1) : المعنى: ولمن خاف مقام ربه جنتان ومن دونهما جنتان.
قال المفسرون: من دونهما في الفضل والدرجات، وهذا كما روى أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((جنتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما)) (2) .
وقال الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة، والأخريان (3) من ياقوت وزمرد، وهما أفضل من الأوليين (4) .
قوله تعالى: { مدهامتان } قال ابن عباس وابن الزبير: [خضراوان] (5) من الري (6) ، تَضربُ خضرتهما إلى سواد. يقال: ادْهَامَّ الزَّرْعُ، فهو
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/103).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1848 ح4597)، ومسلم (1/163 ح180).
(3) ... في ب: والآخرتان.
(4) ... ذكره البغوي (4/276)، والقرطبي (17/184).
(5) ... في الأصل: خضروان. والتصويب من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (27/155). وذكره السيوطي في الدر (7/715) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عبدالله بن الزبير وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير.(1/640)
مُدْهَامٌّ (1) .
{ فيهما عينان نضاختان } قال أبو عبيدة (2) : فَوّارتان.
قال ابن قتيبة (3) : النَّضْخُ -يعني بالخاء المعجمة- أكثر من النَّضْح.
قال ابن عباس: تَنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور (4) .
{ فيهما فاكهة } يعني: ألوان الفاكهة { ونخل ورمان } .
قال الأزهري (5) : العربُ تَذْكُرُ أشياء جملة، ثم تخصُّ شيئاً منها بالتسمية؛ تنبيهاً على فَضْلٍ فيه. قال الله تعالى: { من كان عدواً } إلى قوله: { وجبريل وميكال } [البقرة:98]، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في البقرة.
قال ابن عباس: نخل الجنة جذوعها زمردٌ أخضر، وكَرَبُها (6) ذهب أحمر، وسعَفُها كسوة أهل الجنة، منها مقطّعاتهم وحُللهم (7) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: دهم).
(2) ... مجاز القرآن (2/246).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:443).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/228).
(5) ... تهذيب اللغة (6/25).
(6) ... الكَرَب: أصول السعفِ الغِلاظ العِراض التي تيبَسُ فتصير مثل الكَتِف، واحدتها كَرَبة (اللسان، مادة: كرب).
(7) ... أخرجه الحاكم (2/517 ح3776)، وابن أبي حاتم (10/3328)، وأبو الشيخ في العظمة (3/1068-1069 ح574)، وهناد في الزهد (1/91 ح99)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (ص:52). وذكره السيوطي في الدر (7/716-717) وعزاه لابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم.(1/641)
قوله تعالى: { فيهن } أي: في الجنات الأربع { خيرات } وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري وأبو نهيك: "خَيِّرات" بتشديد الياء على الأصل (1) ؛ لأن التخفيف فرع عليه، كهَيِّن ولَيِّن.
وفي حديث أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيرات الأخلاق، حسان الوجوه)) (2) .
قوله تعالى: { حور مقصورات في الخيام } قال المفسرون: قُصرن على أزواجهن فلا يُردن غيرهم (3) .
وقال ابن عباس والحسن وأبو العالية ومقاتل وأبو عبيدة (4) : مقصورات: محبوسات في الحِجال (5) .
والعرب تقول: مَقْصُورَة وقَصِيرَة وقَصُورَة؛ إذا كانت ملازمة خدرها (6) . قال كثيّر:
لعمري لقدْ حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ، وما تدري بذاكَ القَصَائِرُ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/125)، والدر المصون (6/249).
(2) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (3/278 ح3141)، والكبير (23/368 ح870)، والطبري (27/158).
(3) ... أخرجه الطبري (27/159)، وابن أبي شيبة (7/215 ح35456)، وهناد في الزهد (1/56 ح16). وذكره السيوطي في الدر (7/719) وعزاه لابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عن مجاهد.
(4) ... تفسير مقاتل (3/310). وانظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/246).
(5) ... أخرجه الطبري (27/159)، وابن أبي شيبة (7/42).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: قصر).(1/642)
عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجَالِ ولم أُرِدْ ... قِصَارَ الخُطا، شَرُّ النِّسَاءِ البَحَاتِرُ (1)
ويروى: كُلَّ قَصُورَةٍ، وقَصُورات. والبَحَاتِر: القِصَار (2) .
قال عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس: الخيام: دُرٌّ مجوّف (3) .
وقال ابن عباس: الخيمة: لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ [في أربعة فراسخ] (4) ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (5) .
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن للمؤمن لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضاً)) (6) .
ويروى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مررتُ ليلة أسري
__________
(1) ... البيتان لكثير عزة. انظر: ديوانه (1/230)، والبحر (8/185)، والدر المصون (6/249)، والقرطبي (17/189)، وزاد المسير (8/126)، وروح المعاني (27/123).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: بحتر).
(3) ... أخرجه الطبري (27/161)، وابن أبي حاتم (10/3328)، وابن أبي شيبة (7/42). وذكره السيوطي في الدر (7/719) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب. ومن طريق آخر عن ابن مسعود، وعزاه لمسدد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (27/161)، وابن أبي شيبة (7/42 ح34062)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (ص:336). وذكره السيوطي في الدر (7/719) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(6) ... أخرجه البخاري (4/1849 ح4598)، ومسلم (4/2182 ح2838).(1/643)
بي بنهر حافَّتَاه قباب المرجان، فنوديت منه: السلام عليك يا رسول الله، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جواري من الحور العين استأذنَّ ربَّهنَّ أن يُسَلِّمْنَ عليك، فأذِنَ لهنَّ فقلن: نحن الخالدات فلا نموتُ، ونحن الناعمات فلا نبأس، أزواجُ رجالٍ كرام، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { حور مقصورات في الخيام } قال: محبوسات)) (1) .
قوله تعالى: { متكئين على رفرف خضر } وقرأ عثمان بن عفان [وعاصم] (2) الجحدري وابن محيصن: "على رَفَارِف"، و"عباقِريَّ" بالجمع وعدم الصرف مع كسر القاف (3) .
وقرأ الضحاك وأبو العالية وأبو عمران مثلهم، إلا أنهم صرفوا (4) .
وأنكر الزجاج القراءتين في "عَبْقَري" وقال (5) : لا مخرج لها في العربية؛ لأن الجمع الذي بَعْدَ أَلِفِهِ حرفان، نحو: "مساجد"، لا يجوز أن يكون فيه مثل: عباقري، لو جمعت عبقري لكان جمعه: عباقرة، مثل: مهالبة.
وسوَّغ الجمع في عباقري مع الصرف: أبو حاتم، وأبو الفتح عثمان ابن جني (6) ، والزمخشري، وقالوا: هي نسبة إلى عَبَاقِر، كالنسبة إلى مَدَائِن:
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/189).
(2) ... في الأصل: عاصم. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:407)، والدر المصون (6/250). قال السمين الحلبي: هي مشكلة، إذ لا مانع من تنوين ياء النسب.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/127، 128).
(5) ... معاني الزجاج (5/104-105).
(6) ... المحتسب (2/305-306).(1/644)
مدائني. وأما ترك الصَّرْف فسوّغه بعضهم مع شذوذه في القياس لاستمراره في الاستعمال.
وقال الزمخشري (1) : لا وجه لصحته.
قال ثعلب -على قراءة الأكثرين-: إنما لم يقل: "أخضر"؛ لأن الرفرف جمع، واحده: رفرفة (2) .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: الرَّفْرَف: رياض الجنة (3) .
وقال في رواية العوفي: فضول المجالس (4) والبُسُط (5) .
وقال الحسن: الوسائد (6) .
{ وعبقري حسان } قال مجاهد: هو الديباج الغليظ (7) .
قال ابن قتيبة (8) : العَبْقَري: الطَّنافس الثِّخان.
__________
(1) ... الكشاف (4/452).
(2) ... انظر قول ثعلب في: زاد المسير (8/127).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/127).
(4) ... في الطبري والدر: المحابس.
(5) ... أخرجه الطبري (27/163)، وابن أبي شيبة (7/42 ح34071). وذكره السيوطي في الدر (7/722) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(6) ... ذكره الماوردي (5/443)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/127).
(7) ... أخرجه الطبري (27/165)، وابن أبي شيبة (7/43 ح34072)، وهناد في الزهد (1/82 ح83). وذكره السيوطي في الدر (7/722) وعزاه لابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(8) ... تفسير غريب القرآن (ص:444).(1/645)
قال أبو عبيدة (1) : يقال لكل شيء من البُسُط: عَبْقَري.
قال [الزجاج] (2) : أصل العَبْقَري في اللغة: أنه وصفٌ لكل ما بولغ في وصفه، وأصله: أن "عَبْقَر" بلد كان توشّى فيه البُسُط وغيرها، فنُسب كل شيء جيد إليه. قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَةٌ ... ... جَديرونَ يوماً [أن] (3) يَنالُوا فَيَسْتَعْلُوا (4)
قال الخليل بن أحمد رحمه الله: كُلُّ جليلٍ نفيسٍ فاضلٍ فاخرٍ من الرجال وغيرهم عند العرب: عَبْقَري، ومنه الحديث في عمر بن الخطاب: "فلمْ أَرَ عَبْقَرياً يَفْرِي فَرِيَّة" (5) .
قوله تعالى: { تبارك اسم ربك } قيل: إن "اسم" صلة.
وقد سبق القول على تبارك (6) .
وكان ابن عامر يقرأ: "ذو" بالواو (7) ، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، جعله صفة لـ"اسم". واتفقوا على الموضع الأول أنه بالواو.
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/246).
(2) ... معاني الزجاج (5/105). وما بين المعكوفين زيادة من ب.
(3) ... زيادة من ب، ومصادر البيت.
(4) ... البيت لزهير. انظر: ديوانه (ص:84)، واللسان (مادة: عبقر)، والبحر (8/186)، والقرطبي (17/192)، وزاد المسير (8/128)، والعين (2/298).
(5) ... جزء من حديث أخرجه البخاري (3/1347 ح3479)، ومسلم (4/1862 ح2393).
(6) ... في الأعراف، الآية رقم: 54.
(7) ... الحجة للفارسي (4/19)، والحجة لابن زنجلة (ص:694)، والكشف (2/303)، والنشر (2/383)، والإتحاف (ص:407)، والسبعة (ص:621).(1/646)
[وفي] (1) قراءة ابن مسعود: "ذي الجلال والإكرام" بالياء في الموضعين (2) ، صفة للرب عز وجل.
وقد سبق في هذه السورة معنى: ذي الجلال والإكرام.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } في هذه السورة؟
قلتُ: قَرْعُ الأسماع بعظيم نعم الله وقدرته؛ تنبيهاً للخلق، وطرداً لغفلتهم، وحثاً لهم على الشكر، وتوكيداً لإقامة الحجة عليهم، على أنه أسلوب مسلوك للعرب. قال الشاعر:
[ولا تَمَلَنَّ يوماً] (3) من زيارتِه ... زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرْ
وقد قررنا هذا المعنى مستوفى في البقرة وغيرها.
وقد أخرج الترمذي والحاكم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: ((قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً، الجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت هذه الآية من مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)) (4) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: الحجة للفارسي (4/19).
(3) ... في الأصل: وتملن. والتصويب والزيادة من ب.
(4) ... أخرجه الترمذي (5/399 ح3291)، والحاكم (2/515 ح3766).(1/647)
وفي رواية الترمذي: ((لقد [قرأتها] (1) على الجن ليلة الجن)) (2) .
__________
(1) ... في الأصل: فرقها. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: الترمذي (5/399).(1/648)
سورة الواقعة
ijk
وهي سبع وتسعون آية في المدني، وست في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول ابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وقتادة ومقاتل (2) والأكثرين. واستثنى ابن عباس قوله: { وتجعلون رزقكم } (3) .
وروى عطية عن ابن عباس: أنها مدنية (4) .
قال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة (5) .
#sŒخ) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:239).
(2) ... تفسير مقاتل (3/311).
(3) ... انظر: الماوردي (5/445)، وزاد المسير (8/130).
(4) ... انظر: زاد المسير (8/130).
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/148 ح34873). وذكره السيوطي في الدر (8/40) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/649)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ اتثب(1/650)
قال الله تعالى: { إذا وقعت الواقعة } قال ابن عباس: إذا قامت القيامة (1) .
{ ليس لوقعتها كاذبة } قال الكسائي: هو بمعنى الكذب، كقوله تعالى: { لا تسمع فيها لاغية } [الغاشية:11] أي: لغوٌ (2) .
قال الزجاج وغيره (3) : "كاذبة": مصدر، كقولك: عافاه الله عافيةً. فهذه أسماء في موضع المصادر.
وقال الزمخشري (4) : المعنى: ليس لها نفس كاذبة، أي: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله.
قرأتُ على الشيخ أبي البقاء اللغوي رحمه الله [لليزيدي] (5) في اختياره: "خافضةً رافعةً" بالنصب، وهي قراءة أبي رزين، وأبي عبدالرحمن السلمي، وأبي العالية، والحسن، في آخرين. وقرأ الأكثرون بالرفع فيهما (6) .
فمن نصب؛ فعلى الحال، تقديره: إذا وقعت الواقعة في حال خفضها قوماً ورفعها آخرين.
ومن رفع فعلى معنى: فهي خافضة رافعة.
قال أبو علي (7) : أضمر المبتدأ مع الفاء وجعلها جواب "إذا".
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/231).
(2) ... انظر: القرطبي (17/195).
(3) ... معاني الزجاج (5/107).
(4) ... الكشاف (4/454).
(5) ... في الأصل: للزيدي. والتصويب من ب.
(6) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:407)، وزاد المسير (8/131).
(7) ... لم أقف عليه في: الحجة للفارسي.(1/651)
وقال عثمان: العامل في "إذا وقعت الواقعة": "إذا رجت الأرض".
وقال قوم: العامل فيه: "ليس لوقعتها".
وقيل: اذكر (1) .
__________
(1) ... وهو ما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف (4/454) قال: فإن قلت: بم انتصب "إذا"؟ قلت: بـ"ليس"؛ كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل. أو بمحذوف، يعني: إذا وقعت كان كيت وكيت، أو بإضمار: "اذكر". اهـ.
... وردّ هذا القول أبو حيان في البحر (8/203) فقال: أما نصبها بـ"ليس" فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا؛ لأن ليس في النفي كما، وما لا تعمل، فكذلك ليس، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان. والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها. والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث، فإذا قلت: يوم الجمعة أقوم، فالقيام واقع في يوم الجمعة، وليس لا حدث لها، فكيف يكون لها عمل في الظرف؟ والمثال الذي شبه به، وهو يوم القيامة، ليس لي شغل، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس، وهو الجار والمجرور، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها، وهو مختلف فيه، ولم يسمع من لسان العرب: قائماً ليس زيد. وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط، فهي كما، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع، جعلها ناس فعلاً، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية.
... ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله: يوم الجمعة، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها، ولو كانت شرطاً، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس، لزمت الفاء، إلا إن حذفت في شعر، إذ ورد ذلك، فنقول: إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته. ولا يجوز لست بغير فاء، إلا إن اضطر إلى ذلك. وأما تقديره: إذا وقعت كان كيت وكيت، فيدل على أن إذا عنده شرطية، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها. وأما قوله: بإضمار اذكر، فإنه سلبها الظرفية، وجعلها مفعولاً بها منصوبة بأذكر. اهـ.(1/652)
وقيل: جواب إذا: "فأصحاب الميمنة" (1) .
وقال أبو سليمان الدمشقي: لما قال المشركون: متى هذا الوعد، متى هذا [الفتح] (2) ، نزل قوله تعالى: { إذا وقعت الواقعة } . فالمعنى يكون: إذا وقعت الواقعة (3) .
قال ابن عباس في رواية العوفي عنه: خفضت فأسمعت القريب، [ورفعت] (4) فأسمعت البعيد (5) .
وقال في رواية عكرمة: خفضت أناساً ورفعت آخرين (6) .
وقال محمد بن كعب: تَخْفِضُ أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا، وترفع أقواماً كانوا منخفضين فيها (7) .
قال المفسرون: تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين في النار، وترفع أقواماً
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/251-252).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/130).
(4) ... في الأصل: ووقعت. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (27/167) ولفظه: أسمعت القريب والبعيد. وبلفظه ذكره السيوطي في الدر (8/4) وعزاه لابن جرير وابن مردويه. وانظر لفظ المصنف في: زاد المسير (8/131).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3329)، وابن أبي شيبة (7/136 ح34783). و ذكره الواحدي في الوسيط (4/232)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/131)، والسيوطي في الدر (8/4) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(7) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/528 ح15). وذكره الماوردي (5/446)، والسيوطي في الدر (8/4) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.(1/653)
إلى عِلِّيين في الجنة (1) .
قوله تعالى: { إذا رُجَّت الأرض رجّاً } جائز أن يكون بدلاً من "إذا وقعت الواقعة" (2) .
ويجوز أن ينتصب بـ"خافضة رافعة"، أي: تخفض وترفع وقت رَجِّ الأرض وبَسّ الجبال (3) .
قال ابن عباس: إذا رُجَّت الأرض وزُلْزِلَت (4) .
قال ابن جريج: تُرَجُّ بما فيها كما يُرَجُّ الغِرْبَال بما فيه (5) .
قيل ذلك؛ لإماتة من عليها (6) . وقيل: لإخراج من في بطنها من الأموات (7) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/131).
(2) ... انظر: التبيان (2/253)، والدر المصون (6/253).
(3) ... وهذا ما جوّزه الزمخشري في الكشاف(4/455). وردّه ولم يجوّزه أبو حيان في البحر (8/204) فقال: ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً، بل بأحدهما.
... ولأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (6/253): معنى كلامه أن كلاً منهما متسلط عليه من جهة المعنى، وتكون من التنازع، وحينئذ تكون العبارة صحيحة، إذ تصدق أن كلاً منهما عامل فيه وإن كان على التعاقب.
(4) ... أخرجه الطبري (27/167)، وابن أبي حاتم (10/3329). وذكره السيوطي في الدر (8/5) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره الماوردي (5/446) من قول الربيع بن أنس.
(6) ... وهذا تأويلها على قول ابن عباس. ذكره الماوردي (5/446).
(7) ... وهذا تأويلها على قول ابن جريج. ذكره الماوردي (5/446).(1/654)
{ وبُسَّتِ الجبال بساً } أي: فُتّتت حتى صارت كالدقيق، ولُتَّتْ كما يُلَتُّ السويق.
وقال مجاهد: سَالَتْ سَيْلاً (1) .
وقال عكرمة: هُدَّتْ هَدّاً (2) .
{ فكانت هباء منبثاً } غباراً متفرقاً. وقد استوفينا القول عليه في الفرقان (3) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى ذكر أحوال الناس يوم القيامة، وجِهَة انقسامهم فقال تعالى: { وكنتم أزواجاً } أي: أصنافاً { ثلاثة } .
{ فأصحاب الميمنة } وفيهم خمسة أقوال:
أحدها: أنهم الذين كانوا على يمين آدم [حين] (4) أخرجت ذريته من صلبه. قاله ابن عباس (5) .
الثاني: أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. قاله الضحاك (6) .
الثالث: أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم، أي: مباركين. قاله الحسن والربيع (7) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/446).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... عند الآية رقم: 23.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/132).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... ذكره الماوردي (5/448)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/132).(1/655)
الرابع: أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. حكاه الواحدي (1) .
الخامس: أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة. قاله الزجاج (2) .
وقوله: { ما أصحاب الميمنة } تعظيمٌ لهم وتفخيمٌ لما أفضوا إليه من الكرامة.
قوله تعالى: { وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } تفسيره على الضدّ من الذي قبله في تفسيره.
قوله تعالى: { والسابقون السابقون } قال الحسن وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة (3) .
قال ابن سيرين: هم الذين صَلُّوا إلى القبلتين (4) .
وقال محمد بن كعب: هم الأنبياء (5) .
وقال الضحاك: هم أهل القرآن (6) .
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن عثمان بن أبي سودة تلا هذه الآية: { والسابقون السابقون } قال: هم أوّلهم (7) رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً
__________
(1) ... الوسيط (4/232).
(2) ... معاني الزجاج (5/109).
(3) ... أخرجه الطبري (27/170). وذكره الماوردي (5/448)، والسيوطي في الدر (8/6) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(4) ... أخرجه الطبري (27/171). وذكره الماوردي (5/448).
(5) ... ذكره الماوردي (5/448)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/133).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/133) عن كعب.
(7) ... قوله: "أولهم" مكرر في الأصل.(1/656)
في سبيل الله (1) .
قال الزجاج (2) : "السابقون" الأول رفع بالابتداء، والثاني توكيد له، ويكون الخبر: { أولئك المقربون } ، ثم أخبر أين محلهم فقال: { في جنات النعيم } . ويجوز أن يكون "السابقون" الأول مبتدأ، خبره: "السابقون" الثاني، فيكون المعنى -والله أعلم-: السابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمة الله. ويكون { أولئك المقربون } من صفتهم.
وقال الزمخشري (3) : "والسابقون السابقون" يريد: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقولك: وعبد الله عبد الله، وكقول أبي النجم:
..... وشِعْرِي شِعْرِي ..... ... ....................... (4)
كأنه قال: وشِعْري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته.
وقد جعل "السابقون" تأكيداً، و"أولئك المقربون": خبراً. وليس بذاك.
ووقف بعضهم على: "[والسابقون] (5) "، وابتدأ: "السابقون أولئك
__________
(1) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:263).
(2) ... معاني الزجاج (5/109).
(3) ... الكشاف (4/456-457).
(4) ... جزء من بيت، وهو:
... ... ... ... أنا أبو النجم وشعري شعري ... ... لله دري ما يُجِنّ بصدري
... انظر: الأغاني (22/341)، والخصائص (3/337)، ومغني اللبيب (ص:863)، والدر المصون (6/254).
(5) ... في الأصل: السابقون. والتصويب من ب، والكشاف (4/457).(1/657)
المقربون".
والصواب: أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة: "ما أصحاب الميمنة"، و"ما أصحاب المشأمة".
قوله تعالى: { أولئك المقربون } قال أبو سليمان الدمشقي: يعني: عند الله في ظل عرشه وجواره (1) .
×'©#èO مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/134).(1/658)
مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا اثدب
قوله تعالى: { ثلة من الأولين } "ثُلَّة": خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثُلَّة (1) .
والثُّلَّة: الجماعة الكثيرة لا يحصرها عدد (2) .
قال مقاتل (3) : يعني: سابقي الأمم.
{ وقليل من الآخرين } من هذه الأمة، يريد مقاتل: أن سابقي هذه الأمة
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/253)، والدر المصون (6/254).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: ثلل).
(3) ... تفسير مقاتل (3/312).(1/659)
قليل بالنسبة إلى سابقي الأمم الماضية.
وقيل: ثُلّة من الأولين من متقدمي هذه الأمة، وقليل من متأخريها؛ لأن الذين اتبعوهم بإحسان قليل بالنسبة إليهم.
قوله تعالى: { على سرر موضونة } قال ابن عباس وغيره: مرمولة منسوجة بالذهب والجواهر (1) ، قد أدخل بعضُها في بعض، ومنه سمي النِّسْع (2) : الوَضِين. ومنه بيت الأعشى:
ومنْ نَسْجِ داودَ مَوْضُونةٌ ... ... ........................ (3)
وقول الآخر:
وبيضاءَ كالنهيِ موضونة ... ... ......................... (4)
وقال الضحاك: "مَوْضُونة": مصفوفة، وهي رواية ابن أبي طلحة عن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/172)، وابن أبي حاتم (10/3330)، وهناد في الزهد (1/80 ح77). وذكره السيوطي في الدر (8/8) وعزاه لسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس.
(2) ... في هامش ب: النِّسْع -بالكسر-: سَيْرٌ مضفورٌ يُجعل زماماً للبعير وغيره، وقد تنسج عريضةً تجعل على صدر البعير، وهو الوَضِين والبِطَان، والجمع: نِسْع وأنْسَاع (انظر: لسان العرب، مادة: نسع).
(3) ... صدر بيت للأعشى، وعجزه: تسير مع الحي عيراً فعيرا. انظر: ديوانه (ص:71)، واللسان (مادة: وضن)، والبحر (8/201)، والدر المصون (6/255)، والقرطبي (17/201)، والطبري (27/172)، وروح المعاني (26/41، 27/135).
(4) ... صدر بيت للأعشى، وعجزه: لها قونس فوق جبين البدن. وهو في: القرطبي (8/380، 17/201).(1/660)
ابن عباس (1) .
قال ابن السائب: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له، فإذا جلس عليها ارتفعت (2) .
قوله تعالى: { متكئين عليها } قال الزجاج والزمخشري (3) : "متكئين": حال من الضمير في "على"، وهو العامل في الحال، أي: استقروا عليها متكئين، { متقابلين } لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وُصفوا بحُسْن العشرة وتهذيب الأخلاق [والآداب] (4) .
قوله تعالى: { يطوف عليهم ولدان مخلدون } أي: مُبْقَوْنَ أبداً على شكل الولدان، لا يكبرون ولا ينقصون ولا يتغيرون ولا يموتون. هذا قول جمهور العلماء (5) .
وقال سعيد بن جبير: مُقَرَّطون (6) .
وقال الفراء وابن قتيبة وغيرهما (7) : مُحَلَّوْنَ بالأسورة والأقراط، وأنشدوا:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/173). وذكره السيوطي في الدر (8/8) وعزاه لابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث والنشور.
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/202).
(3) ... معاني الزجاج (5/110)، والكشاف للزمخشري (4/458).
(4) ... في الأصل: والأدب. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... ذكره الطبري (27/173)، والماوردي (5/450).
(6) ... ذكره الطبري (29/220) بلا نسبة، والقرطبي (17/202)، والبغوي (4/281).
(7) ... معاني الفراء (3/123)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (446-447).(1/661)
ومُخَلَّداتٌ باللُّجَيْن كأنما ... ... أعْجَازُهُنَّ أقَاوِزُ الكُثْبَان (1)
قال أهل اللغة (2) : "الأباريق": فارسي مُعرَّب، وقد تكلمت به العرب قديماً. قال عدي بن زيد:
ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءت ... قَينةٌ في يمينها إبريق (3)
قال الزجاج وغيره من المفسرين واللغويين (4) : [الأكواب] (5) : آنية لا عُرى لها ولا خراطيم.
{ لا يصدعون عنها } أي: بسببها؛ كخمر الدنيا.
وقيل: لا يُفَرَّقُون عنها.
وما لم أفسره هاهنا مُفسَّر في الصافات (6) ، أو ظاهر إلى قوله تعالى: { وحور عين } .
قرأ حمزة والكسائي: بالجر فيهما، وقرأ الباقون من السبعة: بالرفع (7) .
__________
(1) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: خلد، قوز)، والطبري (29/220)، والقرطبي (17/202)، والماوردي (5/450)، وزاد المسير (8/136).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: برق)، والصحاح (4/1449).
(3) ... البيت لعدي بن زيد، وهو في: اللسان (مادة: برق، طرق)، والبحر (8/202)، والدر المصون (6/256)، وزاد المسير (8/136)، وروح المعاني (27/136)، والأغاني (6/85، 86)، وتاج العروس (مادة: برق، طرق).
(4) ... انظر: معاني الزجاج (5/110)، واللسان (مادة: كوب).
(5) ... في الأصل: الأباريق. والمثبت من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... عند الآية رقم: 47.
(7) ... الحجة للفارسي (4/20)، والحجة لابن زنجلة (ص:695)، والكشف (2/304)، والنشر (2/383)، والإتحاف (ص:407-408)، والسبعة (ص:622).(1/662)
وقرأ أبي بن كعب وعائشة وأبو العالية والجحدري: بالنصب (1) .
فمن قرأ بالجر: عطفه على ما قبله؛ إما لأنه ليس من شرط المعطوف مشاركة المعطوف عليه في المعنى، وأنشدوا:
إذا ما الغانياتُ برزنَ يوماً ... ... وزجَّجْنَ الحواجبَ والعُيُونا (2)
والعيون لا تُزَجَّج وإنما تُكحل، وأنشدوا أيضاً:
وعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... ... .......................... (3)
وإما لكونه لا يمتنع أن يطوف الولدان عليهم بالحور، ويكون ذلك من جملة ما يتنعّمون به ويُكرَمون بسببه.
ومن رفع فعلى معنى: وهناك حُورٌ، أو ولهم حور.
ومن نصب فعلى معنى: ويعُطون حوراً، هُنَّ في صفاء الألوان { كأمثال اللؤلؤ المكنون } في أصدافه، لم يتغير بمسّ الأيدي، ولم يتأثر بطول الاستعمال.
قوله تعالى: { جزاءً } مفعول له (4) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/137)، والدر المصون (6/257).
(2) ... البيت للراعي النميري، وهو في: اللسان (مادة: زجج)، ومعاني الفراء (3/123)، والطبري (27/176)، والقرطبي (17/205)، وزاد المسير (8/138)، والخصائص (2/432)، وتاج العروس (مادة: زجج).
(3) ... صدر بيت لذي الرمة، وعجزه: (حتى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْناها). انظر ملحقات ديوانه (3/1862)، ومعاني الفراء (1/14ن 3/124)، وتأويل المشكل (ص:213)، والخصائص (2/431)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/8)، والإنصاف (2/613)، وأوضح المسالك (1/298)، والخزانة (1/499)، واللسان (مادة: قلد).
(4) ... انظر: التبيان (2/254)، والدر المصون (6/258).(1/663)
قوله تعالى: { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاماً } قد سبق معنى اللغو والسلام عند قوله: { لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً } في مريم، ومعنى "التأثيم" في الطور (1) .
وقوله: { سلاماً } بدل من ["قِيلاً"] (2) ، بدليل الآية المذكورة في مريم، أو مفعول به لـ"قيلاً"، على معنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً (3) .
ـ="ptُ¾r&ur الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
__________
(1) ... في سورة مريم عند الآية رقم: 62، وفي سورة الطور عند الآية رقم: 23.
(2) ... في الأصل: قليلاً. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: التبيان (2/254)، والدر المصون (6/258).(1/664)
إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ احةب
قوله تعالى: { وأصحاب اليمين } هم أصحاب الميمنة.
{ في سدر مخضود } قال عكرمة: لا شَوْك فيه (1) .
قال ابن قتيبة (2) : كأنه خُضِدَ شوكه، أي: قُطِع، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: ((لا يُخْضَدُ شوكها)) (3) .
وقال مجاهد والضحاك: "مخضود": [موقر] (4) ، وهو الذي تَنْثَنِي
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/179)، وهناد في الزهد (1/95 ح109). وذكره الماوردي (5/453).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:447).
(3) ... أخرجه الحاكم (2/518 ح3778).
(4) ... أخرجه الطبري (27/180)، وهناد في الزهد (1/95 ح108). وذكره السيوطي في الدر (8/13) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث. وما بين المعكوفين في الأصل: موفر. والمثبت من ب.(1/665)
أغصانه لكثرة حمله، من قولهم: خَضَدَ الغصن؛ إذا ثناه وهو رَطْب (1) . والقولان عن ابن عباس (2) .
قوله تعالى: { وطلح منضود } الطَّلْحُ: شجر الموز، في قول علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجمهور المفسرين (3) .
وقال أبو عبيدة وغيره من أهل اللغة (4) : الطَّلْحُ عند العرب: شجرٌ عِظَامٌ، كثير الشوك. [وهو شجر] (5) أم غَيْلان (6) . قال الحادي:
بَشَّرَها دَلِيلُهَا وقالا ... غداً تَرَيْنَ الطلحَ والحبالا (7)
فإن قيل: ما الفائدة فيه حتى جُعل من شجر الجنة؟
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: خضد).
(2) ... أخرج القول الأول: الطبري (27/179). وذكره السيوطي في الدر (8/12) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.
... وأخرج القول الثاني: الطبري (27/179). وذكره السيوطي (8/12) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:647)، وهناد في الزهد (1/96 ح111، 112)، والطبري (27/181)، وابن أبي حاتم (10/3330-3331). وذكره السيوطي في الدر (8/13) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب. ومن طرق أخرى عن أبي سعيد الخدري ومجاهد.
(4) ... مجاز القرآن (2/250).
(5) ... في الأصل: وشجر. والتصويب من ب.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: طلح).
(7) ... البيت للنابغة الجعدي، وهو في: مجاز القرآن (2/250)، والطبري (27/181)، والماوردي (5/454)، والقرطبي (17/208)، وزاد المسير (8/140).(1/666)
قلتُ: كثرة نوره، وطيب ريحه، وامتداد ظله (1) ، وما بين شجر الدنيا وشجر الجنة اشتراك إلا في الأسماء، وإلا [فلتلك] (2) ثمار ونُوَّار لا يعلمه أهل الدنيا.
وروى محمد بن جرير بإسناد له قال (3) : قرأ رجل عند علي عليه السلام: { وطلح منضود } قال علي: ما شأن الطلح، إنما هو: ["وطلعٍ] (4) منضود"، ثم قرأ: { طلعها هضيم } فقيل له: إنها في المصحف بالحاء، أفلا نحوّلها؟ فقال: إن القرآن لا يُهَاجُ اليوم.
ويروى: أن علياً عليه السلام كان يقرأ: "وطَلْعٍ منضود" (5) [بالعين] (6) . والله أعلم بصحة ذلك عنه.
والذي أطبقت عليه الأمة واختارته الأئمة ما نُقل على لسان التواتر، ونَطق به الإمام الذي [أجمعت] (7) عليه الصحابة فمن بعدهم: مصحف عثمان رضي الله عنه.
والمنضُود: المُتَراكم الذي ينضد بالحمل من أوله إلى آخره.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: ما بين. وانظر: ب.
(2) ... في الأصل: فتلك. والتصويب من ب.
(3) ... تفسير الطبري (27/181).
(4) ... في الأصل: طلع. والتصويب من ب، ومن الطبري، الموضع السابق.
(5) ... انظر هذه القراءة في: الماوردي (5/454)، والدر المصون (6/259).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... في الأصل: اجتمعت. والمثبت من ب.(1/667)
قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها ثمر كله (1) .
قوله تعالى: { وظل ممدود } أي: دائم لا تنسخه الشمس.
قال الربيع: يعني: ظل العرش (2) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم بن عبدالله بن عبدالصمد العطار، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبدالله الصوفي قالا: أخبرنا عبدالأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: { وظل ممدود } )) (3) . هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق، ورواه جماعة من الصحابة منهم: سهل بن سعد، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وغيرهم (4) .
قوله تعالى: { وماء مسكوب } أي: دائم الجرية لا ينقطع.
{ وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة } في [بعض] (5) الأحايين كثمار الدنيا،
__________
(1) ... ذكره القرطبي (17/209)، والبغوي (4/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/140) بمعناه.
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/209).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1851 ح4599)، ومسلم (4/2175 ح2826).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2176 ح2827-2828) من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري.
(5) ... زيادة من ب.(1/668)
{ ولا ممنوعة } من [متناولها] (1) بوجه من الوجوه.
قوله تعالى: { وفرش مرفوعة } قيل المراد بالفُرُش: النساء، على معنى: مرفوعة بالجمال على نساء الدنيا، أو مرفوعة على السرر. ويدل عليه قوله: { إنا أنشأناهن } .
والصحيح: ما عليه عامة المفسرين: من أنها الفُرُش المعروفة، أي: مرفوعة بزيادة الحشو، أو على السرر.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ارتفاعها كما بين السماء والأرض، مسيرة ما بينهما خمسمائة عام)) (2) .
قوله تعالى: { إنا أنشأناهن إنشاء } قال ابن عباس: يريد: النساء الآدميات (3) .
وفي الترمذي من حديث أنس: ((أن من المنشآت اللاتي كُنَّ في الدنيا عُمْشاً رُمْصاً)) (4) .
والمعنى: أنشأناهنَّ إنشاءً جديداً من غير أن تشتمل عليهن أصلاب الفحول وأرحام الطوامث.
فإن قيل: قد أسلفتَ أنه لا يكنى عن شيء إلا وقد تقدمه ما يدل عليه، فأين جرى هاهنا ذكر نساء أهل الدنيا لترجع الكناية في قوله: "أنشأناهن"
__________
(1) ... في الأصل: تناولها. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه الترمذي (4/679 ح2540).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/235).
(4) ... أخرجه الترمذي (5/402 ح3296).(1/669)
إليهن؟
قلتُ: إن أريد بالفُرُش: النساء، فلا إشكال، وإلا فقد دلَّت عليهن دلالة ملازمة.
{ فجعلناهن أبكاراً } عذارى.
قال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إلا وجدها بكْراً (1) .
{ عرباً أتراباً } وقرأ حمزة: "عُرْباً" بإسكان الراء (2) .
والعُرُب: جمع عَرُوب. قال الشاعر:
وفي الحُدُوج (3) عَرُوبٌ غيرُ فاحشةٍ ... رَيّا الرَّوادِفِ يَغْشَى دُونها البصر (4)
وهي المُتَحَبِّبَة إلى زوجها، الحسنة التَّبَعُّل. قاله ابن عباس وعامة المفسرين واللغويين (5) . وإليه يؤول قول عكرمة: أنهن الغَنِجَات (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/455)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/142).
(2) ... الحجة للفارسي (4/21)، والحجة لابن زنجلة (ص:696)، والكشف (2/304-305)، والإتحاف (ص:408)، والسبعة (ص:622).
(3) ... الحُدُوج: جمع، واحدها: حِدْج، وهي مراكب النساء، أو الهودج. (انظر: اللسان، مادة: حدج).
(4) ... البيت للبيد بن ربيعة، وهو في: مجاز القرآن (2/251)، والحجة للفارسي (4/22)، والماوردي (5/455)، والطبري (27/186)، والقرطبي (17/211).
(5) ... أخرجه الطبري (27/187). وذكره السيوطي في الدر (8/16) وعزاه لابن جرير. وانظر: مجاز القرآن (2/251).
(6) ... أخرجه الطبري (27/187). وذكره السيوطي في الدر (8/17) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/670)
وقول الحسن وقتادة: العواشق لأزواجهن (1) ؛ لأن عشقهن لهم يزيدهم ميلاً إليهن.
وقول ابن زيد: الحسِناتُ الكلام (2) .
ويروى في [الحديث] (3) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلامهن عربي)) (4) .
"أتراباً" مفسر في ص عند قوله: { وعندهم قاصرات الطرف أتراب } [ص:52].
واللام في قوله: { لأصحاب اليمين } متعلقة بقوله: { إنا أنشأناهن إنشاء } ، تقديره: إنا خلقناهن خلقاً جديداً بعد أن كُنَّ عجائز عُمْشاً، ثم صِرْنَ في القبور تراباً، فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين.
قوله تعالى: { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } أي: أصحاب اليمين، وهم أهل الجنة جماعة كثيرة من الأولين وجماعة كثيرة من
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/187-188). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/17-18) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... أخرجه الطبري (27/188)، وابن أبي حاتم (10/3332). وذكره الماوردي (5/455).
(3) ... في الأصل: حديث. والمثبت من ب.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3332). وذكره السيوطي في الدر (8/18) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/671)
الآخرين.
وفي "الأولين" و"الآخرين" القولان السابقان في التي قبلها.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((في قوله: { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } : جميع الثُّلَّتَيْن من أمتي)) (1) .
فإن قيل: هل بين قوله: { وقليل من الآخرين } وقوله: { وثلة من الآخرين } مناقضة؟
قلتُ: كلا؛ لأن الآية الأولى في السابقين من الأمم، على ما أشرنا إليه من قول مقاتل، وقد كشفنا عن وجه معناه. وهذه في مطلق أهل الجنة، إما من جميع الأمم أو من هذه الأمة. وكلا الفريقين الداخلين إلى الجنة من الأولين والآخرين ثلة غير محصورة، على أن قوله: { وقليل من الآخرين } لا ينافي كون القليل ثُلَّة، وإنما أفاد كثرة الثُّلَّة الأوّلة بالنسبة إلى الثُّلَّة الآخرة.
ـ="ptُ¾r&ur الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/191). وذكره السيوطي في الدر (8/19) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه.(1/672)
ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ #xح r& مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِن الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)(1/673)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ اخدب
قوله تعالى: { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } هذا تعجيب من سوء حالهم.
{ في سموم } قال ابن قتيبة (1) : هو حرّ النار.
{ وحميم } هو الماء الحار. وقد سبق تفسيرهما (2) .
{ وظلّ من يحموم } يَفْعُول، من الأحم، وهو الأسود الشديد السواد.
قال الفراء (3) : الدخان الأسود.
وقال ابن عباس: ظل من دخان (4) .
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:449).
(2) ... سبق تفسير السموم في سورة الطور، آية رقم: 27، وتفسير الحميم في سورة الحج، آية رقم: 19.
(3) ... معاني الفراء (3/126).
(4) ... أخرجه الطبري (27/192)، وابن أبي حاتم (10/3333)، والحاكم (2/518 ح3779). وذكره السيوطي في الدر (8/20) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.(1/674)
ثم نعته فقال: { لا بارد ولا كريم } قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر (1) .
{ إنهم كانوا قبل ذلك } في الدنيا { مترفين } أي: مُمَتَّعين مُنَعَّمين منهمكين في اللذات، راكبي رؤوسهم في اتباع الشهوات.
{ وكانوا } مع ذلك { يصرون على الحنث العظيم } . قال الحسن والضحاك وابن زيد: هو الشرك بالله (2) .
وقال مجاهد وقتادة: هو الذنب العظيم لا يتوبون منه (3) .
وقال الشعبي: هو اليمين الغموس (4) .
يشير -والله أعلم- إلى حلفهم أنهم لا يُبْعَثُون. ويدل عليه قوله: { وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون } .
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة: "أئذا" بهمزتين محقَّقتين، وفصل بينهما بألف؛ هشام، الباقون بتحقيق الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف: أبو عمرو وقالون، ولم يقرأه أحد على الخبر.
وقرأ نافع والكسائي: "إنا" على الخبر، الباقون: بهمزتين، وحققهما ابن عامر وعاصم وحمزة، وفصل بينهما بألف: هشام، وحقق الأولى وليّن
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/236)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/144).
(2) ... أخرجه الطبري (27/194). وذكره الماوردي (5/457).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:649)، والطبري (27/194). وذكره الماوردي (5/457).
(4) ... ذكره الماوردي (5/457)، والواحدي في الوسيط (4/236)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/144).(1/675)
الثانية: ابن كثير وأبو عمرو، وزاد أبو عمرو الفصل بألف (1) . وقد أشرنا إلى علة ذلك في أوائل الرعد (2) .
وقرأ نافع وابن عامر: "أوْ آباؤنا" بسكون الواو (3) . وقد ذكرته في الصافات (4) ، وبيّنت معناه.
قال الزمخشري (5) : إن قلت: كيف حَسُنَ العطف على المضمر في: { لمبعوثون } من غير تأكيد؟
قلتُ: حَسُنَ للفاصل الذي هو الهمزة، كما حَسُنَ في قوله: { ما أشركنا ولا آباؤنا } [الأنعام:148] لفصل "لا" المؤكدة للنفي. و"مِنْ" في قوله: { مِنْ شَجَرٍ } لابتداء الغاية، وفي قوله: { مِنْ زَقُّوم } لبيان الشجر وتفسيره. وأنَّث ضمير الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في قوله: "منها" و "عليه".
ويجوز عندي: أن يكون الضمير في قوله: { فشاربون عليه } راجعاً إلى "الزقوم"، يدل عليه قراءة من قرأ: "من [شَجَرَة] (6) ".
وما لم أذكره مُفسّر في مواضعه.
قوله تعالى: { فشاربون شُرْبَ الهيم } قرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/22)، والنشر (1/373)، والإتحاف (ص:408)، والسبعة (ص:623).
(2) ... عند الآية رقم: 5.
(3) ... الحجة لابن زنجلة (ص:696)، والنشر (2/357)، والإتحاف (ص:408).
(4) ... عند الآية رقم: 17.
(5) ... الكشاف (4/462).
(6) ... في الأصل: شجر. والتصويب من ب.(1/676)
جعفر: "شُرْبَ" بضم الشين. وقرأ الباقون من العشرة: بفتحها (1) .
قال الزجاج (2) : "الشَّرْبُ" -بالفتح-: المصدر، وبالضم: الاسم.
وقال الزمخشري (3) : هما مصدران.
وقال الكسائي: قوم من بني سعد يقولون: "شِرْبَ الهيم" بكسر الشين (4) .
قال غيره: "الشِّرْبُ" -بكسر الشين- بمعنى: المشروب.
والهِيمُ: الإبل التي بها الهُيام، وهو داءٌ لا تَرْوى معه من شُرْب الماء. يقال: بعيرٌ أهْيَمٌ وناقةٌ هَيْمَاءٌ (5) . قال ذو الرمة:
فأصبحتُ كالهَيْمَاءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ ... صَدَاها ولا يَقْضِي عليها هِيَامُها (6)
هذا قول مجاهد [وعكرمة] (7) والضحاك وقتادة وعطاء وجمهور المفسرين (8) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/23)، والحجة لابن زنجلة (ص:696)، والكشف (2/305)، والنشر (2/383)، والإتحاف (ص:408)، والسبعة (ص:623).
(2) ... معاني الزجاج (5/113).
(3) ... الكشاف (4/462).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/145).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: هيم).
(6) ... البيت لذي الرمة، انظر: ديوانه (ص:714)، والبحر (8/208)، والدر المصون (6/261)، والكشاف (4/462)، وروح المعاني (27/146).
(7) ... في الأصل: عكرمة. والتصويب من ب.
(8) ... أخرجه مجاهد (ص:649-650)، والطبري (27/195-196).
... وذكره السيوطي في الدر (8/21-22) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن أبي مجلز وعكرمة وقتادة والحسن والضحاك.(1/677)
وقيل: إن الهِيم: الرمال التي [لا] (1) تروى من الماء (2) . والقولان عن ابن عباس.
قال أبو عبيدة (3) : الهِيمُ: ما لا يَروى من رمْل أو بعير.
وقال الزمخشري (4) -على القول الثاني-: وجهه: أن يكون الهِيم جمع: الهَيام -بفتح الهاء-، وهو الرمل الذي [لا] (5) يتماسك، جُمِعَ على فُعُل؛ كسَحَاب وسُحُب، ثم خُفّف وفُعِلَ به ما فُعِلَ بجَمْع أبْيَض.
ومعنى الآية: أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم، فإذا ملؤوا منه بطونهم سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، [فيشربونه] (6) شُرْبَ الهِيم.
قوله تعالى: { هذا نزلهم } أي: هذا الطعام والشراب نُزُلُهُم الذي أعددنا لهم { يوم الدين } أي: يوم الجزاء والحساب. وقد سبق ذكره في الفاتحة.
وفي هذا تهكُّمٌ بهم؛ لأن النُّزُل: ما يُعَدّ للأضياف من الرزق تكرمةً لهم.
ك`ّtwU خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الماوردي (5/457)، والسيوطي في الدر (8/22) وعزاه لسفيان بن عيينة في جامعه.
(3) ... مجاز القرآن (2/251).
(4) ... الكشاف (4/462).
(5) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: فشربونه. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/678)
تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ادثب
قوله تعالى: { نحن خلقناكم } أي: نحن قدَّرنا هيئتكم وأوجدناكم، { فلولا } أي: فهلاّ { تصدقون } بالبعث وتعتبرون إحدى النشأتين بالأخرى، أو فهلاّ تصدقون بالحق تصديقاً لا مناقضة فيه، فإن الإقرار بالخلق الأول مع إنكار الخلق الثاني متناقضان.(1/679)
{ أفرأيتم ما تمنون } وقرأ أبو [السَّمَّال] (1) : "تَمْنُون" بفتح التاء (2) .
وقد ذكرنا أنهما لغتان، أمْنَى ومَنَى.
والمعنى: أخبروني ما تلقونه في أرحام النساء { أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } .
قرأتُ على أبي المجد القزويني، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد العطاري فأقر به قال: سمعت الإمام أبا محمد الحسين بن مسعود البغوي يقول: روي عن علي رضي الله عنه: أنه قرأ في الصلاة بالليل: { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } قال: بل أنت يا رب ثلاثاً (3) ، وكذلك في قوله: { أم نحن الزارعون } ، { أم نحن المنزلون } (4) .
{ نحن قدرنا بينكم الموت } وقرأ ابن كثير: "قَدَرْنا" بالتخفيف (5) ، وهما لغتان بمعنى واحد.
قال الضحاك: سوينا بينكم فيه (6) . فيكون التقدير بمعنى: القضاء.
__________
(1) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/210)، والدر المصون (6/263).
(3) ... ساقط من ب.
(4) ... أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/452-453 ح4053)، والحاكم (2/518 ح3780)، والبيهقي في الكبرى (2/311 ح3510). وذكره السيوطي في الدر (8/22) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه.
(5) ... الحجة للفارسي (4/23)، والحجة لابن زنجلة (ص:696)، والكشف (2/305)، والنشر (2/383)، والإتحاف (ص:408)، والسبعة (ص:623).
(6) ... ذكره الماوردي (5/458، 459).(1/680)
وقال مقاتل (1) : المعنى: منكم من يموت كبيراً، ومنكم من يموت صغيراً وشاباً وشيخاً.
{ وما نحن بمسبوقين } أي: بمغلوبين.
{ على أن نبدل أمثالكم } قال الزجاج (2) : المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك.
{ وننشئكم في ما لا تعلمون } من الصور.
قال مجاهد: نخلقكم في أيّ خلق شئنا (3) .
فمعنى الآية: وما نحن بمسبوقين على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم، وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونه.
وقيل: تقديره: على أن نبدلكم بأمثالكم، فحذف المفعول الأول، والجارّ من المفعول الثاني.
وقيل: الأمثال: جمع مثل، بمعنى الصفة، أي: نبدّل صفاتكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها.
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } أقرّيتم بها واعترفتم بصحّة كونها، { فلولا تذكرون } فتستدلوا بالنظير على النظير.
Lنê÷ƒuنtچsùr& مَا تَحْرُثُونَ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/316).
(2) ... معاني الزجاج (5/114).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:650)، والطبري (27/197). وذكره السيوطي في الدر (8/23) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/681)
(63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ادذب
{ أفرأيتم ما تحرثون } في الأرض وتلقون فيها من البذر.
{ أأنتم تزرعونه } تُنْبِتُونَه وتُخْرِجُونه نابتاً نامياً، { أم نحن الزارعون } .
{ لو نشاء لجعلناه حطاماً } قال الزجاج (1) : أبطلناه حتى يكون متحطماً لا حنطة فيه ولا شيء.
{ فَظَلْتُم } وقرأ الشعبي وأبو العالية: "فَظِلْتُم" بكسر الظاء (2) ؛ لأن الأصل [فيه: "ظَلِلْتُم"] (3) ، فنقل حركة اللام إلى الظاء، وهذا الحرف آخر الحروف التسعة التي جاءت بالظاء في القرآن. وقد ذكرتها في سورة النحل عند قوله: { ظل وجهه مسوداً } [58]، فاطلبها هنالك.
ومعنى: { تفكهون } تعجبون مما نزل بكم في زرعكم.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/114).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/148)، والدر المصون (6/264).
(3) ... في الأصل: فظللتم. والمثبت من ب.(1/682)
وقيل: تندمون على عملكم (1) فيه وإنفاقكم عليه. والقولان مشهوران في التفسير.
ويقال: إنه من الأضداد. تَفَكَّهَ بمعنى: تَنَعَّم، وتَفَكَّهَ بمعنى: تَحَزَّن.
وقرأ أبيّ بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد وعكرمة: "تَفَكَّنُون" [بنون] (2) بدل الهاء، بمعنى: تندَّمون (3) .
[ومنه] (4) الحديث: ((مثلُ العالم مَثَلُ الحَمَّة، يأتيها البُعَداء ويتركها القُرَبَاء، فبينما هم كذلك إذ غار ماؤُها، فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكَّنون)) (5) . أي: يتندّمون.
{ إنا لمغرمون } قال الزجاج (6) : أي يقولون: إنا لمغرمون قد غرمنا وذهب زرعنا.
وقيل: لمعذبون من الغرام، وهو الهلاك.
{ بل نحن محرومون } مُحَارَفُون محدودون.
قOçF÷ƒuنtچsùr& الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
__________
(1) ... في ب: تعبكم.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/148)، والدر المصون (6/264).
(4) ... في الأصل: منه. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه ابن قتيبة في المعارف (ص:439). وذكره الزمخشري في: الكشاف (4/464).
(6) ... معاني الزجاج (5/114).(1/683)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ اذةب
والمُزْن: السَّحَاب، واحدتها: مُزْنَة (1) .
وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء.
{ لو نشاء جعلناه أجاجاً } ملحاً زُعاقاً لا تقدرون على شُرْبه { فلولا تشكرون } أي: فهلاّ تشكرون الذي أنزله عذباً ثَجَّاجاً ولم يجعله ملحاً أجاجاً.
قOçF÷ƒuنtچsùr& النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: مزن).(1/684)
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ اذحب
{ أفرأيتم النار التي تورون } تقدحونها وتخرجونها (1) من الزناد.
قال الزجاج (2) : يقال: وَرَى الزند يَرِي فهو وَارٍ؛ إذا انقدحت منه النار، وأوْرَيْتُ النار؛ إذا قدحتها (3) . والعرب تَقْدَحُ بالزَّند والزَّندة، وهو خشب يُحَكُّ بعضه على بعض، فتخرج منه النار، وهذا قول ابن قتيبة أيضاً وعامة أهل اللغة والتفسير.
{ أأنتم أنشأتم شجرتها } وهي المَرْخ والعَفَار، وفي كل شجر نار.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المراد بشجرتها: الحديد (4) .
{ نحن جعلناها تذكرة } تذكيراً لنار جهنم وأنموذجاً لها.
أنبأنا أبو علي بن عبدالله المذكّر قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبدالواحد، أخبرنا الحسن بن علي [الواعظ] (5) ، أخبرنا أبو بكر (6) أحمد بن جعفر، أخبرنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا عبدالرزاق، حدثنا
__________
(1) ... في ب: وتستخرجونها.
(2) ... معاني الزجاج (5/115).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: وري).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/149).
(5) ... في الأصل: الحافظ. والمثبت من ب، وقد سبق عدة مرات كما أثبتناه.
(6) ... في الأصل زيادة قوله: "بن". وهو خطأ. وانظر: ب.(1/685)
معمر، عن همام، حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((نارُكم هذه ما يوقد بنو آدم جزءٌ واحد من سبعين جزءاً من حر جهنم. قالوا: والله إن كانت لكافيةً يا رسول الله. قال: فإنها فَضَلَتْ عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرّها)) (1) . أخرجاه في الصحيحين.
قوله تعالى: { ومتاعاً للمُقْوِين } أي: ومنفعة للذين ينزلون القَواء، وهي القفْر والأرض الخالية.
ومنه قول النابغة:
........................ ... ... أقوتْ وطَالَ عليها سالفُ الأبد (2)
وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك (3) .
قال بعض العلماء: المسافر أشدّ حاجةً إليها من المقيم؛ لأنه إذا أوقدها هربت منه السّباع، واهتدى بها الضّالّ، واصْطَلَى بها في شدة البرد (4) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1191 ح3092)، ومسلم (4/2184 ح2843)، وأحمد (2/313 ح8111).
(2) ... عجز بيت للنابغة، وصدره: يا دار ميّة بالعلياء فالسند. انظر: ديوانه (ص:30)، والخزانة (4/409)، وشرح شواهد المغني (4/315)، والتصريح على التوضيح (1/140)، والدرر اللوامع (1/61)، والأشموني (1/210)، والبحر المحيط (1/141).
(3) ... أخرجه الطبري (27/201-202)، وابن أبي حاتم (10/3334). وذكره السيوطي في الدر (8/24) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/149).(1/686)
وقال مجاهد: متاعاً للمسافرين [والحاضرين] (1) .
ولعمري إنها كذلك، ولكن الاشتقاق لا يساعده على هذا، اللهم إلا أن يكون مثل قوله: { سرابيل تقيكم الحر } [النحل:81].
وقال الربيع والسدي: متاعاً للمُرْمِلين المُقْوين الذين لا زاد معهم، يوقدون ناراً فيختبزون بها (2) .
وقال ابن زيد: "للمقوين": للجائعين (3) . تقول: أقْوَيْتُ من كذا وكذا؛ إذا لم تأكل شيئاً (4) .
وقال قطرب وغيره من أهل اللغة والواحدي (5) : المُقْوي من الأضداد، يكون بمعنى: الفقير، ويكون بمعنى: الغني. ويقال: أقوى الرجل؛ إذا قوي على ما يريد، وأقوى: إذا افتقر وخلا من المال (6) .
قال الواحدي (7) : فالمعنى: ومتاعاً للأغنياء والفقراء، وذلك أنه لا غنى لأحد عنها.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/202)، وهناد في الزهد (1/168 ح237). وذكره السيوطي في الدر (8/24) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. وما بين المعكوفين في الأصل: والضحاضرين. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الثعلبي (9/217).
(3) ... أخرجه الطبري (27/202). وذكره الماوردي (5/461).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: قوا).
(5) ... الوسيط (4/238).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: قوا).
(7) ... الوسيط (4/238).(1/687)
وهذا القول من الواحدي فيه إشعار أن اللفظة الواحدة تُستعمل في الشيء وضده في حالة واحدة، وهذا لا يجوز، فإنه لا يسوغ أن تُطلق القُرْء وأنت تريد به: الحيض والطهر.
قوله تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم } أي: نَزِّه ربك مما يقولون.
أمر الله تعالى نبيه بالتسبيح شكراً له على ما فضّله من ذكر نعمه ودلائل وحدانيته وقدرته على البعث.
* فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)(1/688)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ارثب
قوله تعالى: { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال الزجاج (1) وأكثر المفسرين واللغويين: معناه: فأقسم بمواقع النجوم، فـ"لا" مزيدة مؤكدة، كقوله: { لئلا يعلم أهل الكتاب } [الحديد:29].
وقيل: إن "لا" على أصلها، فهي ناهية، بمعنى: لا تكفروا ولا تجحدوا ما ذكرت من نعمي، ولا تنكروا قدرتي، أو نافية لما يقوله الكفار في القرآن.
وقرأ الحسن: "فَلأُقْسِمُ" (2) على معنى: فلأنا أقسم.
قال مجاهد: "مواقع النجوم": مطالعها ومساقطها (3) .
وقال الحسن: انتثارها وانكدارها يوم القيامة (4) .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنها نجوم القرآن (5) ؛ لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوماً شيئاً بعد شيء.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/115).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/151)، والدر المصون (6/266).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:652)، والطبري (27/204).
(4) ... أخرجه الطبري (27/204). وذكره السيوطي في الدر (8/25) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(5) ... أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/154)، والطبري (27/203). وذكره السيوطي في الدر (8/25) وعزاه لابن مردويه.(1/689)
قال الزجاج (1) : ودليل هذا القول: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم } .
وقرأ حمزة والكسائي: "بمَوْقِعِ" على التوحيد وإرادة الجنس (2) .
وقال المبرد: هو مصدر، يصلح للواحد والجمع.
ثم استعظم سبحانه وتعالى القَسَم بمواقع النجوم تفخيماً لشأنه، وتنبيهاً على عظيم قدرته فيه وحكمته فقال: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } . وهاهنا اعتراضان:
أحدهما: بين القَسَم والمُقْسَم عليه، وهو قوله: { وإنه لقسم... } إلى آخر الآية.
الثاني: بين الموصوف وصفته، وهو قوله: { لو تعلمون } .
{ إنه لقرآن كريم } على الله، عظيم النفع للناس؛ لما اشتمل عليه من الأحكام والحكم.
{ في كتاب مكنون } قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ (3) .
فالمعنى بكونه مكنوناً على هذا القول: صيانته عن غير الملائكة المقربين الذين أذن الله لهم في الأخذ منه والنظر فيه.
وقال مجاهد وقتادة: هو المصحف (4) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/115).
(2) ... الحجة للفارسي (4/24)، والحجة لابن زنجلة (ص:697)، والكشف (2/306)، والنشر (2/383)، والإتحاف (ص:409)، والسبعة (ص:624).
(3) ... ذكره الماوردي (5/463)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/151).
(4) ... أخرجه الطبري (27/205). وذكره السيوطي في الدر (8/26) وعزاه لآدم ابن أبي إياس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن مجاهد.(1/690)
فالمعنى على هذا القول بكونه مكنوناً: صيانته عن الباطل، وحفظه عنه.
وقال عكرمة: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل (1) .
وقال السدي: الزبور (2) . على معنى: أنّ ذِكْر القرآن ومن ينزل عليه القرآن في الكتب المتقدمة.
قوله تعالى: { لا يمسه إلا المطهرون } الضمير يعود إلى "الكتاب".
فإن قلنا: هو اللوح المحفوظ؛ فالمطهرون: الملائكة.
وإن قلنا: هو المصحف أو غيره من الكتب المنزلة: فيكون النفي في معنى النهي، على معنى: لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من الأحداث. وهذا قول قتادة (3) .
ويؤيده ما أخرج مالك في الموطأ: أن في الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: ((أن لا يمس القرآن إلا طاهر)) (4) .
وقال ابن السائب: المطهرون من الشرك (5) .
وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/206). وذكره الماوردي (5/463)، والسيوطي في الدر (8/26) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... ذكره الماوردي (5/463) بلا نسبة.
(3) ... ذكره الماوردي (5/464)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/152).
(4) ... أخرجه مالك (1/199 ح469).
(5) ... ذكره الماوردي (5/464)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/152).
(6) ... ذكره الماوردي، وابن الجوزي في زاد المسير، الموضعين السابقين، والسيوطي في الدر (8/26) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/691)
وقيل: إن هذا إخبارٌ من الله تعالى بأنه لا يجد طعم القرآن ونفعه إلا من آمن به. حكاه الفراء (1) .
قوله تعالى: { تنزيل } صفة رابعة "للقرآن"، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل { من رب العالمين } (2) .
ولما عظّم الله القرآن وفخّمه وأقسم على كرامته أنكر عليهم تكذيبهم به، فذلك قوله تعالى: { أفبهذا الحديث } يعني: القرآن { أنتم مدهنون } .
قال الزجاج (3) : المُدْهِن والمُدَاهِن: الكذّاب المنافق.
وقال ابن قتيبة (4) : يقال: أدْهَنَ في دِينه ودَاهَنَ.
{ وتجعلون رزقكم } أي: شكر رزقكم، على حذف المضاف.
وقرأ علي عليه السلام: وتجعلون شكركم { أنكم تكذبون } (5) .
فالمعنى: وتجعلون شكر رزقكم ونعمة الله عليكم بالقرآن؛ التكذيب.
والذي عليه ابن عباس وجمهور المفسرين: أن هذه الآيات نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. وأن المراد بالرزق: المطر، على معنى:
__________
(1) ... معاني الفراء (3/130).
(2) ... انظر: التبيان (2/254)، والدر المصون (6/268).
(3) ... معاني الزجاج (5/116).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:451).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/154)، والدر المصون (6/269).(1/692)
وتجعلون شكر ما [يرزقكم] (1) الله من المطر أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى، حيث تنسبونه إلى النجوم، يدل على ذلك؛ ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال: ((مُطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فنزلت هذه الآية: { فلا أقسم بمواقع النجوم } حتى بلغ: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } )) (2) .
وأخرج الترمذي بإسناده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } قال: شكركم أن تقولوا: مُطِرْنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا)) (3) .
وقرأتُ للمفضل عن عاصم: "تَكْذِبُون" بفتح التاء وسكون الكاف والتخفيف (4) .
Iwِqn=sù إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ
__________
(1) ... في الأصل: رزقكم. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه مسلم (1/84 ح73).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/401 ح3295).
(4) ... الحجة للفارسي (4/25)، والسبعة (ص:624).(1/693)
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ارذب
قوله تعالى: { فلولا إذا بلغت الحلقوم } أي: فهلاّ إذا بلغت الروح الحلقوم. وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها، كما قال:
أمَاويُّ ما يُغني الثَّرَاءُ عَنِ الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضَاقَ بها الصدرُ (1)
{ وأنتم } يا أهل الميت { حينئذ تنظرون } تشاهدون أحب الناس إليكم وأعزهم عليكم يُسْتَلَبُ منكم.
{ ونحن أقرب إليه } أي: إلى المحتَضر { منكم } يا أهله بقدرتنا وعلمنا، أو بملك الموت وأعوانه، { ولكن لا تبصرون } .
قال ابن عباس: لا تبصرون الملائكة (2) .
وقيل: لا تعلمون. [على] (3) أن الخطاب فيه للكفار (4) .
__________
(1) ... البيت لحاتم الطائي، انظر: اللسان (مادة: حشرج)، والماوردي (5/348)، والقرطبي (17/230)، والطبري (13/30)، وروح المعاني (29/146).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/155).
(3) ... زيادة على الأصل.
(4) ... انظر: الوسيط (4/241).(1/694)
قوله تعالى: { فلولا إن كنتم غير مَدِينين } هذا الكلام مُلتفٌ بالذي قبله، وترتيبه: فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إذا بلغت الحلقوم, وكرر [لولا] (1) لطول الكلام.
وقال الفراء (2) : { ترجعونها } جواب لقوله: { فلولا إذا بلغت الحلقوم } ، وقوله: { فلولا إن كنتم غير مدينين } فإنهما أجيبا بجواب واحد، كقوله: { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } [البقرة:38].
قال ابن عباس في قوله: "غير مدينين": غير محاسبين (3) .
وقال قتادة: غير مبعوثين (4) .
وقال أبو عبيدة: غير مَجْزِيِّين (5) .
وقال ميمون بن مهران: غير مقهورين (6) .
وقال الفراء (7) : غير مملوكين.
__________
(1) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الفراء (3/130).
(3) ... أخرجه الطبري (27/210). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/35) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (27/210) عن الحسن. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/156) عن قتادة.
(5) ... مجاز القرآن (2/252).
(6) ... ذكره الماوردي (5/465).
(7) ... معاني الفراء (3/131).(1/695)
[ووجه] (1) ارتباط الكلام وانتظامه: إن كنتم كما تزعمون غير محكوم عليكم وغير مقهورين وكنتم صادقين في أنه ليس لكم إله يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم على أعمالكم، فهلاّ تردون نفس المحبوب إليكم، العزيز عليكم.
المعنى: فإذا لم تقدروا على ذلك [فاعلموا] (2) أن لكم إلهاً قادراً ورباً عظيماً يفعل ذلك.
!$¨Br'sù إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
__________
(1) ... في الأصل: وو. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: فاعملوا. والتصويب من ب.(1/696)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ازدب
ثم إن الله سبحانه وتعالى ذكر طبقات المحتضرين فقال: { فأما إن كان من المقربين } أي: إن كان الذي بلغت روحه الحلقوم من المقربين عند الله.
وقال أبو العالية: من السابقين (1) .
قال بعضهم: من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة.
{ فرَوْحٌ } أي: فله رَوْح، أي: استراحة من كل هَمٍّ وغَمٍّ وتَعَبٍ ونَصَب، وذلك بما أفضى إليه من كرامة الله عز وجل، المُعَدَّة لأوليائه في الجنة.
وقرأت للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه، وليعقوب من رواية رويس عنه: "فَرُوحٌ" بضم الراء (2) . وهي قراءة أبي بكر الصديق، وعائشة، وأبي رزين، والحسن، وقتادة، في آخرين.
قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: { فَرُوحٌ وريحان } بضم الراء (3) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/466)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/156).
(2) ... النشر (2/383)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:409).
(3) ... أخرجه أبو داود (4/35 ح3991)، والترمذي (5/190 ح2938)(1/697)
قال الحسن: الرَّوْح: الرحمة؛ لأنها كالحياة للمرحوم (1) .
وقيل: المعنى: فله البقاء الدائم.
وقد ذكرنا في سورة الرحمن (2) أن الريحان: الرزق.
وقال الحسن وأبو العالية: يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم تقبض فيه روحه (3) .
قال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تُلُقِّيَ بضبائر الريحان من الجنة فتجعل روحه فيه (4) .
قوله تعالى: { فسلام لك من أصحاب اليمين } أي: أنك ترى فيهم ما تُحب من السلامة فلا تهتمّ لهم.
وقال مقاتل (5) : هو أن الله يتجاوز عن سيئاتهم ويتقبل حسناتهم.
وقال عطاء: تُسَلِّمُ عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين (6) .
وقيل: المعنى: فسلام عليك يا محمد من أصحاب اليمين، أي: أنهم
__________
(1) ... ذكره القرطبي (17/232). وذكره السيوطي في الدر (8/37) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... عند الآية رقم: 12.
(3) ... أخرجه الطبري (27/212)، وابن أبي حاتم (10/3335). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/37-38) وعزاه للمروزي في الجنائز وابن جرير عن الحسن. ومن طريق آخر عن أبي العالية وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (8/38) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد.
(5) ... تفسير مقاتل (3/319).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/158).(1/698)
يسلمون عليك (1) في الجنة؛ كقوله: { إلا قيلاً سلاماً سلاماً } [الواقعة:26].
قوله تعالى: { وأما إن كان من المكذبين الضالين } وهم أصحاب المشأمة.
{ فَنُزُلٌ } أي: فلهم نُزُل { من حميم } ، وهو مثل قوله: { هذا نزلهم يوم الدين } [الواقعة:56].
قوله تعالى: { إن هذا } إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه السورة، من تنوع أحوال المحتضرين وغيره { لهو حق اليقين } من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ كصلاة الأولى. وأنشدوا:
ولوْ أقْوَتْ عليكَ ديارُ عَبْسٍ ... عَرَفْتَ الذُلَّ عِرْفانَ اليقين (2)
وقد استوفينا القول في مثل هذا في مواضع، [وذكرنا] (3) فيه مذهب البصريين والكوفيين (4) .
{ فسبح باسم ربك العظيم } مفسر في هذه السورة (5) .
وفي حديث عقبة بن عامر الجهني قال: ((لما نزلت: { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت: { سبح اسم
__________
(1) ... في ب: عليه.
(2) ... البيت لم أعرف قائله. وهو في: معاني الفراء (2/56)، والطبري (13/81)، والقرطبي (9/275).
(3) ... في الأصل: ذكرنا. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: الآية رقم: 7 من سورة النمل.
(5) ... عند الآية رقم: 74.(1/699)
ربك الأعلى } [الأعلى:1] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوها في سجودكم)) (1) .
قُرئ على الشيخ أبي المجد محمد بن محمد بن أبي بكر الهمذاني (2) وأنا أسمع، أخبركم الشيخان أبو المحاسن عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد، وابن عمه المطهّر بن عبدالكريم قالا: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن حمد بن الحسن الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الكسار، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني، أخبرنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى (3) ، حدثنا إسحاق بن
[أبي] (4) إسرائيل (5) ، حدثنا محمد بن منيب العدني (6) ، حدثنا السري بن يحيى الشيباني (7) ، عن أبي شجاع (8) ، عن أبي ظبية (9) ، أن ابن مسعود قال: سمعت
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (1/230 ح869)، وابن ماجه (1/287 ح887).
(2) ... في ب: الهمداني.
(3) ... أحمد بن علي بن المثنى بن عيسى بن هلال بن أسد الموصلي، أبو يعلى، سمع منه الأئمة والحفاظ، ورحل إليه من خراسان والعراق وغيرهما من البلاد، توفي في سنة سبع وثلاثمائة (التقييد ص:150-152).
(4) ... زيادة من مصادر ترجمته.
(5) ... إسحاق بن أبي إسرائيل واسمه إبراهيم بن كامَجْرا، أبو يعقوب المروزي، نزيل بغداد، صدوق تكلم فيه لوقفه في القرآن، ولد سنة إحدى وخمسين ومائة، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/195-196، والتقريب ص:100).
(6) ... محمد بن منيب، أبو الحسن العدني، روى عن السري بن يحيى الشيباني البصري، وقريش بن حيان العجلي، وعدة، روى عنه علي بن المديني، وزيد بن المبارك الصنعاني، وغيرهم (تهذيب التهذيب 9/421، والتقريب ص:509).
(7) ... السري بن يحيى بن إياس بن حرملة بن إياس الشيباني، أبو الهيثم، ويقال: أبو يحيى البصري، ثقة صدوق، مات سنة سبع وستين ومائة (تهذيب التهذيب 3/400، والتقريب ص:230).
(8) ... أبو شجاع، وقيل: شجاع، نكرة لا يعرف. روى عن أبي ظبية عن ابن مسعود، قال أحمد بن حنبل: لا أعرفهما (ميزان الاعتدال 7/380، ولسان الميزان 3/139).
(9) ... انظر التعليق السابق.(1/700)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تُصبه فاقةٌ أبداً. قال: وقد أمرتُ بناتي أن يقرأنها كل ليلة)) (1) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/491 ح2499)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:320).(1/701)
سورة الحديد
ijk
وهي ثلاثون آية، [إلا آيتين] (1) في المدني، [وإلا آية] (2) في الكوفي (3) .
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وعكرمة وجابر بن زيد: هي مدنية (4) .
وقال الكلبي: هي مكية (5) .
وبهذا الإسناد السالف قال [ابن] (6) السني: أخبرنا أبو عبد الرحمن -يعني: النسائي-، أخبرنا علي بن حُجر (7) ، حدثنا بقية بن الوليد (8) ، عن
__________
(1) ... في الأصل: الآيتين. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: والآية. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:241).
(4) ... قال السيوطي في الإتقان (1/43-44): قال ابن الغرس: الجمهور على أنها مدنية. وقال قوم: إنها مكية. ولا خلاف أن فيها قرآناً مدنياً، لكن يشبه صدرها أن يكون مكياً.
(5) ... ذكره الماوردي (5/468)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/160).
(6) ... زيادة على الأصل. وقد سبق.
(7) ... علي بن حُجر بن إياس بن مقاتل بن مخادش بن مشمرج بن خالد السعدي، أبو الحسن المروزي، كان فاضلاً حافظاً، ثقةً مأموناً، صدوقاً متقناً، وقد اشتهر حديثه بمرو، مات في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 7/259، والتقريب ص:399).
(8) ... بقية بن الوليد بن صائد بن كعب بن حريز الكلاعي الميتمي، أبو يُحْمِد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، مات سنة سبع وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 1/416-419، والتقريب ص:126).(1/702)
[بَحِير] (1) بن سعيد (2) ، عن خالد بن معدان (3) ، عن عبدالله بن أبي بلال (4) ، عن العرباض بن سارية (5) : ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بالمسبّحات قبل أن يرقد، ويقول: إن فيهن آية أفضل من ألف آية)) (6) .
yx7y™ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ
__________
(1) ... في الأصل و ب: بجير. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في التعليق التالي.
(2) ... بحير بن سعيد السحولي، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت صالح الحديث (تهذيب التهذيب 1/368، والتقريب ص:120).
(3) ... خالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي، أبو عبد الله الشامي الحمصي، تابعي ثقة عابد، يرسل كثيراً، مات سنة ثلاث ومائة (تهذيب التهذيب 3/102، والتقريب ص:190).
(4) ... عبد الله بن أبي بلال الخزاعي الشامي، روى عن العرباض بن سارية، وعبد الله بن بسر، وعنه خالد بن معدان (تهذيب التهذيب 5/144، والتقريب ص:297).
(5) ... العرباض بن سارية السلمي، كنيته أبو نجيح، صحابي كان من أهل الصفة، ونزل حمص، مات بعد السبعين (تهذيب التهذيب 7/157، والتقريب ص:388).
(6) ... أخرجه أبو داود (4/313 ح5057)، والنسائي في الكبرى (5/16 ح8026)، وأحمد (4/128)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:321).(1/703)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اجب
قال الله عز وجل: { سبح لله ما في السماوات والأرض } أخْبَرَ الله سبحانه وتعالى أن أهل سماواته وما في أرضه من إنسي وجنِّي ناطق وصامت يعظمونه ويسبحونه.
وقد بيّنا في سورة "سبحان" (1) ما هو المختار من القول في تسبيح ما لا يعقل، وقررناه بما نرجو فيه عقبى الله عز وجل.
واللام في قوله: "لله" مثلها في قولهم: نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له، أو هي بمعنى: لأجل الله.
قوله تعالى: { هو الأول والآخر } أي: هو القديم قبل كل شيء، الباقي بعد هلاك كل شيء.
{ والظاهر } بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على وحدانيته وعظمته وقدرته، فهو الظاهر للبصائر، الباطن المحتجب عن الأبصار.
وقيل: هو الظاهر، أي: العالي على كل شيء، الغالب له، من قولهم: ظَهَرَ على كذا.
__________
(1) ... سورة الإسراء، عند الآية رقم: 44.(1/704)
{ والباطن } الذي بطن كل شيء، أي: علم باطنه.
قال صاحب الكشاف (1) : الواو الأولى [معناها] (2) : الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين [الأوليّة والآخريّة] (3) ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين وبين مجموع الصفتين الآخرتين.
uqèd الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ
__________
(1) ... الكشاف (4/471).
(2) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: الأولوية والأخروية. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/705)
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(1/706)
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ارب
والآية التي بعد هذه مُفسّرة في الأعراف (1) وسبأ (2) إلى قوله: { وهو معكم أينما كنتم } أي: هو معكم بالعلم والقدرة أينما كنتم، من أرض وسماء، وبَرٍّ وماء.
قال قتادة: ذُكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذا زوايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: هل [تدرون] (3) ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر السموات السبع والعرش والأرضين السبع، وأن بين كل جرمين مسيرة خمسمائة عام. ثم قال: والذي نفسي بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثم قرأ هذه الآية: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } (4) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 54.
(2) ... عند الآية رقم: 2.
(3) ... في الأصل: ترون. والمثبت من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (27/216، 28/154).(1/707)
ومعنى: "لهبط على الله": [أي] (1) : على علمه [وقدرته] (2) وخلقه وملكه.
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } أي: مما جعلكم خلفاء في التصرف فيه؛ لأن الأموال خلقٌ لله عز وجل، أباح لهم الانتفاع بها، وخوّلهم الاستمتاع بمنافعها، وليسوا بأربابها المالكين لها على الحقيقة.
وقال الحسن: جعلكم مستخلفين فيه ممن كان قبلكم؛ بتوريثه إياكم (3) .
قوله تعالى: { وما لكم لا تؤمنون بالله } المعنى: أيُّ عذر لكم في ترك الإيمان. والواو في قوله: { والرسول } واو الحال، على معنى: ما لكم لا تؤمنون والرسول يدعوكم [بالبراهين] (4) النيرة، ويبين لكم الحق من الباطل.
{ لتؤمنوا بربكم وقد أخَذَ ميثاقَكُم } حين أخرجكم من ظهر آدم.
وقيل: بما ركَّب فيكم من العقول، وأوضح لكم من الدلائل، فما عذركم بعد ذلك.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب في رواية أبي حاتم عنه: "أُخِذَ" بضم الهمزة وكسر الخاء، "مِيثَاقُكُم" بالرفع (5) .
{ إن كنتم مؤمنين } بالحجج والدلائل.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: قدرته. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (5/471).
(4) ... في الأصل: بابراهين. والتصويب من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (4/26)، والحجة لابن زنجلة (ص:697-698)، والكشف (2/307)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:409)، والسبعة (ص:625).(1/708)
uqèd "د%©!$# مAحi"t\مƒ 4'n?tم ے¾حnد‰ِ7tم OM"tƒ#uن ;M"uZةi t/ /ن3y_جچ÷‚مدj9 z`دiB دM"yJè=-à9$# 'n<خ) ح'q-Y9$# ¨bخ)ur ©!$# ِ/ن3خ/ ش$râنtچs9 ×Lىدm' ازب $tBur ِ/ن3s9 wr& (#qà)دےZè? 'خû ب@خ6y™ "!$# !ur غW؛uژچدB دN؛uq"uK،،9$# اعِ'F{$#ur ںw "بqtGَ،o" Oن3YدB ô`¨B t,xےRr& `دB ب@ِ6s% ثx÷Gxےّ9$# ں@tG"s%ur y7ح´¯"s9'ré& مNsàôمr& Zpy_u'yٹ z`دiB tûïد%©!$# (#qà)xےRr& .`دB ك‰÷èt/ (#qè=tG"s%ur yxن.ur y‰tمur ھ!$# 4سo_َ،çtّ:$# ھ!$#ur $yJخ/ tbqè=yJ÷ès? ×ژچخ7yz(1/709)
اتةب ئ¨B #sŒ "د%©!$# قعجچّ)مƒ ©!$# $·تِچs% $YZ|،ym ¼çmxےدè"ںزمsù ¼çms9 ے¼م&s!ur ضچô_r& زOƒجچx. اتتب tPِqtƒ "tچs? tûüدZدB÷sكJّ9$# دM"oYدB÷sكJّ9$#ur 4سtëَ،o" Nèdâ'qçR tû÷üt/ ِNحk‰ة‰÷ƒr& /دSدZ"yJ÷ƒr'خ/ur مNن31tچô±ç0 tPِquّ9$# ×M"¨Zy_ "جچّgrB `دB $pkةJّtrB مچ"pk÷XF{$# tûïد$خ#"yz $pkژدù ڑپد9؛sŒ uqèd م-ِqxےّ9$# مLىدàyèّ9$# اتثب
وما بعده مُفسّر إلى قوله: { ولله ميراث السموات والأرض } معناه: وأيُّ عذر لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله، والله مهلك من في السموت والأرض ووارثهم، فجدير بمن هذه حاله أن لا يبخل بإنفاق ما يتقرب به إلى الله تعالى مما سينتقل عنه ويُسلب منه.(1/710)
ثم بيَّن التفاوتَ بين المُنْفِقِينَ منهم فقال: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي: من قبل فتح مكة، وعزّ الإسلام، واستفحال سلطانه، وقوة أهله.
وقال الشعبي: من قبل الحديبية (1) .
المعنى: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لوضوح معناه.
قال ابن السائب وجمهور المفسرين: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه (2) . ويؤيد هذا: أن أبا بكر أول من أسلم وأنفق في سبيل الله، وأول من قاتل على الإسلام.
قال ابن مسعود: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، [وأبو بكر] (3) رضي الله عنه (4) .
وقال ابن [عمر] (5) : بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وعنده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عليه عباءة قد خَلَّهَا (6) على صدره بخِلال، إذ نزل جبريل عليه السلام عليه، وأقرأه من الله عز وجل السلام وقال: يا محمد! ما لي أرى أبا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/220). وذكره الماوردي (5/471)، والسيوطي في الدر المنثور (7/510) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/245)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/163).
(3) ... في الأصل: أبو بكر. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/245).
(5) ... في الأصل: مسعود. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(6) ... خلّها: أي: جمعها بين طرفيه (انظر: النهاية في غريب الحديث 2/73).(1/711)
بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال؟ قال: يا جبريل! أنفق (1) ماله عليّ قبل الفتح. قال: [فَأَقْرِهِ] (2) من الله تبارك وتعالى السلام وقل: يقول لك ربك: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر! هذا جبريل يقرئك من الله عز وجل السلام ويقول لك ربك: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ قال: فبكى أبو بكر وقال: على ربي أسخط؟ أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض (3) .
وفي قوله: { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } دليل على أن أبا بكر أفضل بني آدم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه، قال: أخبرنا العباس بن محمد بن العباس، المعروف بعبَّاسة، أخبرنا محمد بن سعيد بن فرخزادا، أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي (4) ، أخبرنا عبدالله بن حامد الفقيه، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا عقبة
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: عليَّ. وفي ب: أنفق ماله قبل الفتح عليّ.
(2) ... في الأصل: قاره. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/105)، والواحدي في الوسيط (4/246). قال ابن كثير في تفسيره (4/308): هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه. والله أعلم.
(4) ... هو أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو إسحاق الثعلبي، صاحب التفاسير، كان أوحد زمانه في علم القرآن. توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة. قال السمعاني: يقال له: الثعلبي والثعالبي، وهو لقب له لا نسب (طبقات المفسرين للداودي 1/66، وسير أعلام النبلاء 17/435-437).(1/712)
بن سنان أبو بشر، حدثنا [ابن] (1) شداخ (2) ، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبدالله بن سِلمة، عن علي عليه السلام قال: سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصلَّى (3) أبو بكر، وثلّث عمر، فلا أوتى برجل فَضَّلَني على أبي بكر إلا جلدته جلد المفتري (4) .
قرأ ابن عامر: "وَكُلٌّ" بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب (5) .
فمن رفع؛ فعلى: وكُلٌّ وعده الله الحسنى. ومن نصب: فبفعل مُضْمَر يُفسّره ما بعده.
والمعنى: وكل واحد من الفريقين { وعد الله الحسنى } وهي الجنة، أو المثوبة الحسنى، وهي الجنة أيضاً.
قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } مفسرٌ في البقرة (6) .
قرأ ابن عامر وعاصم: "فَيُضَاعِفَهُ" بنصب الفاء وحذف الألف. وشدَّدَ العين حيث كان: ابن كثير وابن عامر (7) ، وكذلك خلفهم في التي في
__________
(1) ... في الأصل: أبو. والصواب ما أثبتناه. وانظر ترجمته في التعليق التالي.
(2) ... هو الهيصم بن شداخ، روى عن الأعمش، روى عنه على بن أبى طالب البزاز، والوليد الطيالسي (الجرح والتعديل 9/123).
(3) ... السابق: الأول، والمُصَلِّي: الثاني (انظر: اللسان، مادة: صلا).
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/240).
(5) ... الحجة للفارسي (4/26)، والحجة لابن زنجلة (ص:698)، والكشف (2/307)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:409)، والسبعة (ص:625).
(6) ... عند الآية رقم: 245.
(7) ... الحجة للفارسي (4/27)، والحجة لابن زنجلة (ص:699)، والكشف (2/308)، والنشر (2/228)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:625).(1/713)
البقرة (1) . وقد أشرنا إلى علة الرفع والنصب هناك.
قوله تعالى: { يوم ترى } ظرف لقوله: { وله أجر كريم } ، أو منصوب بإضمار: "أذكروا".
المعنى: [ترى] (2) المؤمنين والمؤمنات يسعى نور إيمانهم وأعمالهم.
قال ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفئ مرة ويَقِدُ أخرى (3) .
وقال قتادة: إن المؤمن يُضيء له نوره كما بين عدن [إلى] (4) صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه (5) .
{ بين أيديهم } قال الحسن: على الصراط (6) .
قال مقاتل (7) : هو دالّهم إلى الجنة.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 245.
(2) ... في الأصل: يوم. والمثبت من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (27/223)، وابن أبي حاتم (10/3336)، والحاكم (2/520 ح3785)، وابن أبي شيبة (7/107 ح34558). وذكره السيوطي في الدر (8/52) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (27/222). وذكره السيوطي في الدر (8/52) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(6) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/199 ح35317). وذكره السيوطي في الدر (8/52) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(7) ... تفسير مقاتل (3/322).(1/714)
{ وبأيمانهم } قال الفراء (1) : عن أيمانهم، وذلك حين يسلك بهم إلى الجنة.
وقال الضحاك ومقاتل (2) : المعنى: يسعى نورُهم بين أيديهم وكتبهم بأيمانهم.
والقول هاهنا مُضمر، تقديره: وتقول لهم الملائكة: { بُشْرَاكم اليوم جنات... الآية } .
tPِqtƒ مAqà)tƒ tbqà)دے"uZكJّ9$# àM"s)دے"oYكJّ9$#ur ڑْïد%©#د9 (#qمZtB#uن $tRrمچفàR$# َخ6tGّ)tR `دB ِNن.ح'qœR ں@ٹد% (#qمèإ_ِ'$# ِNن.uن!#u'ur (#qف،دJtFّ9$$sù #Y'qçR z>خژغطsù NوhuZ÷ t/ 9'qف،خ0 ¼م&©! 7>$t/ ¼çmمZدغ$t/ دmٹدù èpuH÷qچ9$#
__________
(1) ... معاني الفراء (3/132).
(2) ... أخرجه الطبري (27/223). وانظر: تفسير مقاتل (3/322).(1/715)
¼çnمچخg"sكur `دB د&خ#t6د% ـ>#xyèّ9$# اتجب ِNهktXrكٹ$uZمƒ ِNs9r& `ن3tR ِNن3yè¨B (#qن9$s% 4'n?t/ ِ/ن3¨Zإ3"s9ur َOçG^tGsù ِNن3|،àےRr& ÷Lنêَء/tچs?ur َOçGِ;s?ِ'$#ur مNن3ّ?چxîur گ'خT$tBF{$# 4س®Lym uن!%y` âگِDr& "!$# Nن.چxîur "!$$خ/ â'rمچtَّ9$# اتحب tPِquّ9$$sù ںw نs{÷sمƒ ِNن3ZدB ×ptƒô‰دù ںwur z`دB tûïد%©!$# (#rمچxےx. مNن31urù'tB â'$¨Y9$# }'دd ِNن39s9ِqtB }ّ©خ/ur çژچإءyJّ9$# اتخب
قوله تعالى: { انظرونا } قرأ حمزة: بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء.(1/716)
وقرأ الباقون: بوصل الهمزة وضم الظاء (1) . والابتداء على هذه القراءة بضم الهمزة، وحمزة جعله من الإنظار، وهو التأخير والإمهال، كقوله: { أنظرني إلى يوم يبعثون } [الأعراف:14].
وقال الفراء (2) : تقول العرب: أنظِرْني بمعنى: انتظرني. قال عمرو بن كلثوم:
أبَا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ... ... وأنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليقِينا (3)
والباقون جعلوه من نظر العين، أو بمعنى: انظرونا؛ لأنهم يسرع بهم إلى الجنة، [كالبرق] (4) الخاطف، والمنافقون مشاة.
قال المفسرون: تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، [فيعطى] (5) المؤمنون النور، فيمشي المنافقون بنور المؤمنين، فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: { انظرونا نقتبس من نوركم } ، فيقول لهم المؤمنون، -وقيل: الملائكة- تهكُّماً بهم واستهزاء: { ارجعوا وراءكم } إلى الموضع الذي أعطينا فيه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/28)، والحجة لابن زنجلة (ص:699-700)، والكشف (2/309)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:625-626).
(2) ... معاني الفراء (3/133).
(3) ... البيت لعمرو بن كلثوم. انظر: ديوانه (ص:71)، ولسان العرب (مادة: نظر)، وتهذيب اللغة (14/369)، وشرح القصائد السبع (ص:387)، والحجة للفارسي (4/30)، والطبري (27/224)، والقرطبي (2/60، 17/245)، والدر المصون (1/332)، والماوردي (5/474).
(4) ... في الأصل: كابرق. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: فيطى. والتصويب من ب.(1/717)
النور، { فالتمسوا نوراً } فيرجعون فلا يجدون شيئاً، فيلحقون بهم، فيحال بينهم وبينهم، فذلك قوله تعالى: { فضرب بينهم بسور } .
قال قتادة: حائط بين الجنة والنار (1) .
قال ابن عباس ومجاهد: هو الأعراف (2) .
وكان جماعة من العلماء قد ذهبوا إلى أنه يكون بالموضع الذي يسمى: وادي جهنم، شرقي البيت المقدس، منهم: عبدالله بن عمرو بن العاص، وابن عباس في رواية ابنه علي، وكعب الأحبار (3) .
وفي الحديث: أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكا، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: مِنْ هاهنا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنم (4) .
قوله تعالى: { له باب } أي: لذلك السور بابٌ لأهل الجنة يدخلون منه، { باطنه } باطن السور أو الباب، وهو الشق الذي يلي الجنة { فيه الرحمة
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/225). وذكره السيوطي في الدر (8/56) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:657)، والطبري (27/225)، وابن أبي حاتم (10/3338).
(3) ... أخرجه الطبري (27/225)، والحاكم (4/643 ح8776). وذكره السيوطي في الدر (8/55-56) وعزاه لعبد بن حميد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبدالله بن عباس... فذكره، ومن طريق آخر عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر.
(4) ... أخرجه الحاكم (2/521 ح3786). وذكره السيوطي في الدر (8/55) وعزاه لعبد بن حميد.(1/718)
وظاهره } ما ظَهَرَ لأهل النار { من قبله } (1) من جهته { العذاب } الظلمة والنار.
{ ينادونهم ألم نكن معكم } أي: ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم على دينكم نصلي بصلاتكم ونغزو معكم، فيجيبهم المؤمنون: { بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } مَحَنْتُمُوها بالنفاق وأهلكتموها، { وتربصتم } بالمؤمنين الدوائر، { وارتبتم } شككتم في دين الإسلام مع وضوح دلائل صحته، { وغرّتكم الأماني } الكاذبة والآمال [الخائبة] (2) ، { حتى جاء أمر الله } نزل بكم سلطان الموت.
وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار (3) .
{ وغركم بالله الغرور } وهو الشيطان.
{ فاليوم لا يؤخذ منكم } وقرأ ابن عامر: "تُؤْخَذ" بالتاء؛ لتأنيث الفدية (4) .
وقد سبق القول على مثل ذلك في مواضع.
والمعنى: لا يؤخذ منكم عِوَضٌ ولا بَدَل، والخطاب للمنافقين؛ بدليل قوله: { ولا من الذين كفروا } .
{ مأواكم النار هي مولاكم } قال أبو عبيدة (5) : أولى بكم.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: العذاب. وستأتي بعد.
(2) ... في الأصل: الخائنة. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (5/476).
(4) ... الحجة للفارسي (4/32)، والحجة لابن زنجلة (ص:700)، والكشف (2/309)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:626).
(5) ... مجاز القرآن (2/254).(1/719)
قال الزمخشري (1) : حقيقتُه: [مَحْراكم ومقمنكم . أي] (2) : مكانكم الذي يقال فيه: هو أولى بكم، كما يقال: هو مئنَّةٌ للكرم، أي: مكان لقول الناس: إنه لكريم. ويجوز أن يراد: هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفي الناصر على البت. ومنه قوله: { يغاثوا بماء كالمهل } [الكهف:29].
وقيل: هي تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
* ِNs9r& بbù'tƒ tûïد%©#د9 (# qمZtB#uن br& yىt±ّƒrB ِNهkو5qè=è% جچٍ2د%خ! "!$# $tBur tAt"tR z`دB بd,ptّ:$# ںwur (#qçRqن3tƒ tûïد%©!$%x. (#qè?ré& |="tGإ3ّ9$# `دB م@ِ6s% tA$sـsù مNحkِژn=tم ك‰tBF{$# ôM|،s)sù ِNهkو5qè=è% ×ژچدWx.ur ِNهk÷]دiB ڑcqà)إ،"sù اتدب (# qكJn=ôم$# ¨br& ©!$# ؤسôvن† uعِ'F{$#
__________
(1) ... الكشاف (4/474).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/720)
y‰÷èt/ $pkجEِqtB ô‰s% $¨Y¨ t/ مNن3s9 دM"tƒFy$# ِNن3ھ=yès9 tbqè=ة)÷ès? اتذب
قوله تعالى: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } أخرج مسلم في صحيحه أن ابن مسعود قال: ((ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بقوله: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين)) (1) .
وفي رواية أخرى: فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً (2) .
وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } (3) .
وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين، آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم (4) .
والمعنى: ألم يَحِن، من أَنَى الأمر يَأْنِي؛ إذا جاء إِنَاهُ، وهو حينه ووقته (5) ، "أن تخشع": تلين وتخضع، "لذكر الله": وهو القرآن.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2319 ح3027).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/167).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3338). وذكره السيوطي في الدر (8/58) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) ... ذكره الماوردي (5/477). وهذا القول غير صحيح؛ لأن الآية صريحة في الذين آمنوا.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: أني).(1/721)
{ وما نزل من الحق } وهو القرآن أيضاً؛ [لأنه] (1) جامع بين الوصفين، كونه ذِكْراً وحقاً نازلاً.
قرأ نافع وحفص: "نَزَلَ" بالتخفيف، وشدَّدها الباقون من العشرة (2) .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية: "نُزِّلَ" بضم النون وكسر الزاي وتشديدها (3) .
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء: "أَنْزَلَ" بهمزة مفتوحة (4) .
وقرأ أبو مجلز وعمرو بن دينار: "أُنْزِلَ" بهمزة مضمومة وكسر الزاي (5) .
{ ولا يكونوا } وقرأ رويس عن يعقوب: "ولا تكونوا" بالتاء (6) ، على طريقة الالتفات، أو على مخاطبتهم بالنهي.
وقراءة الأكثرين عطفٌ على "أن تخشع".
{ كالذين أوتوا الكتاب من قبل } وهم اليهود والنصارى { فطال عليهم الأمد } قال ابن قتيبة (7) : الأمَدُ: الغاية.
__________
(1) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (4/30)، والحجة لابن زنجلة (ص:700)، والكشف (2/310)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:626).
(3) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:410)، وزاد المسير (8/168).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/168)، والدر المصون (6/277).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/168)، والدر المصون (6/277).
(6) ... النشر (2/384)، والإتحاف (ص:410).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:453).(1/722)
والمعنى: أنه بَعُدَ عهدهم بالأنبياء والصالحين.
{ فقست قلوبهم } قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله (1) .
{ وكثير منهم فاسقون } وهم الذين رفضوا ما في الكتابين ونبذوه وراء ظهورهم.
ويروى: أن أبا موسى رضي الله عنه طلب قرّاء أهل البصرة، فَدُخِلَ عليه بثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقُرّاؤها، فاتلوه، ولا يَطُولَنَّ عليكم الأمَدُ فتقسوا قلوبكم كما قَسَتْ قلوب من كان قبلكم (2) .
والمقصود من الآية التي بعدها: الاستدلال على صحة البعث وكونه.
وقال ابن عباس: المعنى: اعلموا أن الله يُليّن القلوب بعد قسوتها (3) ، فيجعلها مُجيبة مُنيبة، ويُحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة، وإلا فقد [عُلِمَ] (4) إحياء الأرض بالمطر مشاهدة.
¨bخ) tûüد%دd‰¢ءكJّ9$#
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/250).
(2) ... أخرجه مسلم (2/726 ح1050)، وابن أبي شيبة (7/142 ح34823). وذكره السيوطي في الدر (8/59) وعزاه لابن أبي شيبة.
(3) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (3/147) عن صالح المري. وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/57) وعزاه لابن المبارك.
(4) ... زيادة من ب.(1/723)
دM"s%دd‰¢ءكJّ9$#ur (#qàتtچّ%r&ur ©!$# $·تِچs% $YZ|،ym ك#yè"ںزمƒ َOكgs9 َOكgs9ur ضچô_r& زOƒجچx. اترب tûïد%©!$#ur (#qمZtB#uن "!$$خ/ ے¾د&خ#ك™â'ur y7ح´¯"s9'ré& مNèd tbqà)ƒدd‰إ_ء9$# âن!#y‰pk'9$#ur y‰Yدم ِNحkحh5u' َOكgs9 ِNèdمچô_r& ِNèdâ'qçRur ڑْïد%©!$#ur (#rمچxےx. (#qç/Oں2ur !$oYدF"tƒ$t"خ/ y7ح´¯"s9'ré& ـ="ptُ¾r& ةOٹإspgّ:$# اتزب
قوله تعالى: { إن المصدقين والمصدقات } أصلها: المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت التاء في الصاد.(1/724)
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم: بتخفيف الصاد فيهما (1) ، بمعنى: إن المؤمنين والمؤمنات.
قال أبو علي (2) : من حجة من شدّد أنهم زعموا: أن في قراءة أبيّ: "إنَّ المتصدقين والمتصدقات"، ومن حجتهم: أن قوله: { وأقرَضوا الله قرضاً حسناً } اعتراضٌ بين الخبر والمخبر عنه، والاعتراض بمنزلة الصفة، فهو للصدقة أشدّ [ملاءمةً] (3) منه للتصديق.
ومن حجة من خفَّفَ: أن "المُصَدِّقين" أعمّ من "المتصدِّقين"، فهو أذهب في باب المدح، والعطف بقوله: { وأقرضوا الله } على معنى الفعل في المصدقين؛ لأن اللام بمعنى: الذين، واسم الفاعل بمعنى: اصدقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدّقوا وأقرضوا.
{ يضاعف لهم } وقرأ ابن عامر وابن كثير: "يُضَعَّفُ" بتشديد العين من غير ألف (4) . وقد ذكرنا تفسير ذلك في البقرة.
قوله تعالى: { والذين آمنوا بالله ورسله } مبتدأ، خبره: { أولئك هم الصِّدِّيقون } (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/31)، والحجة لابن زنجلة (ص:701)، والكشف (2/310)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:626).
(2) ... الحجة للفارسي (4/31).
(3) ... في الأصل: ملازمة. والمثبت من ب، والحجة (4/31).
(4) ... الحجة للفارسي (4/27)، والحجة لابن زنجلة (ص:699)، والنشر (2/228)، والإتحاف (ص:410)، والسبعة (ص:625).
(5) ... انظر: الدر المصون (6/278).(1/725)
قال مجاهد: كُلُّ من آمن بالله ورسوله فهو صِدِّيق، ثم قرأ هذه الآية (1) .
ثم استأنف كلاماً آخر فقال: { والشهداء } وهو جمع شاهد، أو شهيد.
وهم الأنبياء، في قول ابن عباس، ومسروق، والكلبي، في آخرين (2) .
وقال مقاتل بن سليمان ومحمد بن جرير (3) : هم الذين قتلوا في سبيل الله.
ثم أخبر عن حال الشهداء فقال: { عند ربهم } يعني: أنهم في جنة مخصوصة بهم في جوار ربهم عز وجل.
ويجوز أن يكون الخبر: { لهم أجرهم } (4) ، على معنى: والشهداء في حكم ربهم لهم أجرهم الذي هو أجرهم المخصوص بهم، { ونورهم } .
وقال قوم: الواو في قوله: "والشهداء" واو النَّسق. والمعنى: أولئك هم الصديقون، وهم الشهداء عند ربهم.
قال ابن مسعود: كلُّ مؤمن صِدِّيقٌ شهيد (5) .
وقال غيره: يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/251)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/170)، والسيوطي في الدر (8/61) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(2) ... ذكره الماوردي (5/479)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/170).
(3) ... تفسير مقاتل (3/324)، وتفسير ابن جرير الطبري (27/232).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/278).
(5) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/244) من قول مجاهد، والسيوطي في الدر (8/61) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد، ومن طريق آخر، وعزاه لعبد بن حميد عن عمرو بن ميمون.
(6) ... ذكره الماوردي (5/479) من قول الكلبي.(1/726)
وقال الضحاك: نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وزيد، وحمزة بن عبد المطلب، وتاسعهم عمر بن الخطاب، ألحقه الله بهم؛ لما عَرَفَ من صِدْق نيته (1) .
(# qكJn=ôم$# $yJ¯Rr& نo4quysّ9$# $u÷R'‰9$# ز=دès9 ×qّlm;ur ×puZƒخ-ur 7چنz$xےs?ur ِNن3oY÷ t/ ضچèO%s3s?ur 'خû ةA؛uqّBF{$# د‰"s9÷rF{$#ur ب@sVyJx. B]ّxî |=yfôمr& u'$Oےن3ّ9$# ¼çmè?$t7tR NèO كkحku‰ çm1uژtIsù #vچxےَءمB NèO مbqن3tƒ $VJ"sـمm 'خûur حotچإzFy$# ز>#xtم س‰ƒد‰x© ×otچدےَّtBur z`دiB "!$# ×b؛uqôتح'ur $tBur
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/251)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/170).(1/727)
نo4quysّ9$# !$u÷R'$!$# wخ) كى"tFtB ح'rمچنَّ9$# اثةب (# qà)خ/$y™ 4'n<خ) ;otچدےَّtB `دiB َOن3خn/' >p¨Yy_ur $pkفخِچtم اعِچyèx. دن!$yJ،،9$# اعِ'F{$#ur ôN£‰دمé& ڑْïد%©#د9 (#qمZtB#uن "!$$خ/ ¾د&خ#ك™â'ur y7د9؛sŒ م@ôزsù "!$# دmد?÷sمƒ `tB âن!$t±o" ھ!$#ur rèŒ ب@ôزxےّ9$# ةOدàyèّ9$# اثتب
قوله تعالى: { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } باطلٌ وغرورٌ، ثم ينقضي ويزول عن قريب.
والمراد: إعلامُ العبد أن الدنيا التي حالت بين أكثرهم وبين النظر لآخرتهم الباقية هي هذه اللذات الحائلة الزائلة، التي هي في نضارتها وحُسن رونقها كالزرع.
قال علي عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر: لا تحزن على الدنيا فهي(1/728)
ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح، فأكبر طعامها العسل، وهو بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء، واستوى فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس من الديباج، وهو نسج دودة، وأكبر المشموم المسك، وهو دم فأرة ظبْية، وأكبر المركوب الفرس، وعليها تُقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء، وهو مَبَالٌ في مَبَال. والله! إن المرأة لتُزَيِّنُ أحسنَها، [فيرادُ منها] (1) أقبحُها (2) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى ضرب لها مثلاً فقال: { كمثل غيث أعجب الكفار } (3) يعني: الزرَّاع. وقيل: الكفّار بالله؛ لأنهم أفرحُ بالدنيا وجودة نباتها من المؤمنين.
قوله تعالى: { نباته } وهو ما ينبت به، { ثم يهيج } يَيْبَس { فتراه مصفراً } بعد خضرته ورَيِّه { ثم يكون حطاماً } يتحطم وينكسر.
وقد سبق بيان هذا المثل في سورة يونس (4) ، وفي سورة الكهف (5) .
والمقصود: تحقير شأن الدنيا وتعظيم أمر الآخرة، ألا تراه يقول: { وفي الآخرة عذاب شديد } يعني: لمن كفر وعصى، { ومغفرة من الله ورضوان } لمن آمن وأطاع.
__________
(1) ... في الأصل و ب: يراد به، والمثبت من تفسير السراج المنير (4/211).
(2) ... ذكره الثعلبي (9/244) في تفسيره، والخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير (4/211).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: { نباته } . وستأتي بعد قليل.
(4) ... عند الآية رقم: 24.
(5) ... عند الآية رقم: 45.(1/729)
وباقي الآية والتي تليها مُفسّر في آل عمران (1) إلى قوله تعالى: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فبيَّن بهذا أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضله سبحانه وتعالى.
!$tB z>$|¹r& `دB 7pt6ٹإءoB 'خû اعِ'F{$# ںwur 'خû ِNن3إ،àےRr& wخ) 'خû 5="tGإ2 `دiB ب@ِ6s% br& !$ydr&uژِ9¯R ¨bخ) ڑپد9؛sŒ 'n?tم "!$# ×ژچإ،o" اثثب ںxّٹs3دj9 (#ِqy™ù's? 4'n?tم $tB ِNن3s?$sù ںwur (#qمmtچّےs? !$yJخ/ ِNà69s?#uن ھ!$#ur ںw =دtن† ¨@ن. 5A$tFّƒèC A'qم‚sù اثجب tûïد%©!$# ڑcqè=y‚ِ7tƒ tbrâگكDù'tƒur }¨$¨Z9$# ب@÷‚ç7ّ9$$خ/ `tBur
__________
(1) ... عند الآية رقم: 185.(1/730)
OAuqtGtƒ ¨bخ*sù ©!$# uqèd گسح_tَّ9$# ك‰ٹدJptّ:$# اثحب
قوله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض } يعني: من انقطاع المطر ونقصان الثمر وغير ذلك، { ولا في أنفسكم } من الأمراض وموت الأولاد وغير ذلك، { إلا في كتاب } وهو اللوح المحفوظ، ومحله: الحال (1) ، تقديره: إلا مكتوباً أو مثبتاً في كتاب { من قبل أن نبرأها } أي: من قبل أن نخلق الأنفس أو المصيبة.
وقال سعيد بن جبير: من قبل أن نبرأ الأرض والنفس (2) .
{ إن ذلك } أي: إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب من قبل كونه { على الله يسير } .
ثم بَيَّنَ الحكمة في ذلك، فقال: { لكيلا تأسوا } أي: تحزنوا { على ما فاتكم } من الدنيا مما لا يُقَدَّرُ لكم { ولا تفرحوا بما آتاكم } قرأ أبو عمرو وحده من بين القرّاء العشرة: "بما أتَاكُم" بقصر الهمزة (3) ، جعله فعلاً ماضياً، بمعنى: جاءكم ليُعَادِل به ما فاتكم، فكما أن الفعل [للفائت] (4) في قوله:
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/256)، والدر المصون (6/679).
(2) ... ذكره القرطبي (17/257).
(3) ... الحجة للفارسي (4/31)، والحجة لابن زنجلة (ص:701-702)، والكشف (2/311)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:411)، والسبعة (ص:626).
(4) ... في الأصل: الفائت. والتصويب من ب.(1/731)
"فاتكم"، كذلك يكون الفعل [للآتي] (1) في [قوله] (2) : "بما أتاكم"، والعائد إلى الموصول بين الكلمتين، أعني: "فاتكم" و"أتاكم" هو الضمير المرفوع، بأنه فاعل.
ومن قرأ: "بما آتاكم" بالمد، فمعناه: بما أعطاكم، والفاعل هو الله تعالى.
والمراد: لكيلا تُفرطوا في الأسى والفرح.
قال ابن عباس: ليس أحدٌ إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن العاقل من جعل الفرح شكراً، والحزن صبراً (3) .
وقال جعفر الصادق عليه السلام: يا ابن آدم! ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت (4) .
وقيل لبرزجمهر: ما لك أيها الحكيم، لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت، فقال: إن الفائت لا يُتلافى بالعبرة، والآتي لا يُستدام [بالحَبْرَة] (5) .
__________
(1) ... في الأصل: الآتي. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (27/235)، والحاكم (2/521 ح3789)، وابن أبي شيبة (7/137 ح34789)، والبيهقي في الشعب (1/229 ح237). وذكره السيوطي في الدر (8/62) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) ... أخرجه البيهقي في الشعب (1/229 ح236) عن يحيى بن معاذ الرازي. وذكره القرطبي (17/258) عن جعفر الصادق.
(5) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/245). وما بين المعكوفين في الأصل: بالخبرة. والمثبت من ب.
... والحبرة: الفرح والسرور (اللسان، مادة: حبر).(1/732)
وكان سالم الخواص يقول: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين [ليضع] (1) الله [تعالى] (2) الدنيا والآخرة بين يديه، قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضاء ومخالفة الهوى (3) ، وأنشد:
لا تُطِلِ الحُزْنَ على فائتٍ ... فَقَلَّما يُجدي عليكَ الحزن
سِيَّانِ محزونٌ على ما مضى ... ومُظهِرٌ حُزناً لما لم يكن (4)
وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا أنا بفضاء من الأرض [مملوء] (5) من الإبل موتى، بحيث لا أحصي عددها، فسألت عجوزاً: لمن هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ [يغزل] (6) الصوف، فقلت له: [يا شيخ] (7) ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم:
لا والذي أنا عَبْدٌ من خَلائِقِهِ ... والمرءُ في الدَّهْرِ نصبُ الرُّزءِ والمحن
__________
(1) ... في الأصل: ليضيع. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره الثعلبي (9/246).
(4) ... البيتان لمحمود الوراق، انظرهما في: أدب الدنيا والدين (1/363).
(5) ... في الأصل: مملوءاً. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: يغز. والتصويب من ب.
(7) ... زيادة من ب.(1/733)
ما سَرَّني أنّ إبلي في مَبَارِكَها ... وما جَرَى في قضاء الله لم يكن (1)
وما بعد هذه الآية مُفسّر في النساء (2) إلى قوله: { ومن يتول } أي: من يُعْرِضْ عن أوامر الله ونواهيه { فإن الله هو الغني } لم يأمركم وينهاكم لنفع يعود عليه بل عليكم، { الحميد } فهو يستحق الحمد منكم بإحسانه إليكم.
وقرأ ابن عامر ونافع: "فإن الله الغني"، بإسقاط "هو"، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام (3) .
قال أبو علي (4) : من قرأ "فإن الله هو" بإثبات "هو"، فإن "هو" يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون فَصْلاً لا موضع له من [الإعراب] (5) ، ويكون الخبر: "الغني".
والآخر: أن يكون "هو" مبتدأ، و"الغني": خبره، والجملة خبر "إنّ".
والأول أولى؛ بدلالة قول من حذفه؛ لأن الفصل حذفه أسهل من حيث إنه لا موضع له من الإعراب.
ومن قرأ بحذف "هو" فحجَّته: أنه حذفه اختصاراً؛ إذ كان لا موضع له
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (9/246).
(2) ... عند الآية رقم: 37.
(3) ... الحجة للفارسي (4/32)، والحجة لابن زنجلة (ص:702)، والكشف (2/312)، والنشر (2/384)، والإتحاف (ص:411)، والسبعة (ص:627).
(4) ... الحجة للفارسي (4/32).
(5) ... في الأصل: إعراب. والتصويب من ب.(1/734)
من الإعراب، وحذفه لا يخلّ بالمعنى.
ô‰s)s9 $uZù=y™ِ'r& $oYn=ك™â' دM"uZةi t7ّ9$$خ/ $uZّ9t"Rr&ur قOكgyètB |="tGإ3ّ9$# ڑc#u"چدJّ9$#ur tPqà)uد9 â¨$¨Y9$# إفَ،ة)ّ9$$خ/ $uZّ9t"Rr&ur y‰ƒد‰ptّ:$# دmٹدù س¨ù't/ س‰ƒد‰x© كىدے"oYtBur ؤ¨$¨Z=د9 zNn=÷èuد9ur ھ!$# `tB ¼çnçژفاZtƒ ¼م&s#ك™â'ur ح=ّtَّ9$$خ/ ¨bخ) ©!$# ;"بqs% ض"ƒج"tم اثخب
قوله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي: بعثنا المرسلين من الأنبياء بالحجج البالغة، { وأنزلنا معهم الكتاب } [وهو] (1) اسم جنس، يريد: الكتب
__________
(1) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب.(1/735)
التي جاءت بها المرسلون، والمعيّة هاهنا مثلها في قوله في الأعراف: { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [الأعراف:157]، غير أن الوجه الذي [استنبطته] (1) هناك مختص بتلك الآية.
وقال بعض العلماء: "أرسلنا رسلنا" يريد: الملائكة إلى الأنبياء، وأظن الحامل له على ذلك [قوله] (2) : { وأنزلنا معهم } ، والأنبياء منزّل عليهم لا منزّل (3) معهم.
والأول هو الصحيح، وهو المتبادر إلى الأفهام. والذي يدل على صحته قوله: { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب } [البقرة:213].
{ والميزان } العدل، في قول ابن عباس وقتادة ومقاتل بن حيان (4) ، على معنى: أمرناهم به.
وقال ابن زيد ومقاتل بن سليمان (5) : هو ما يوزن به.
فيكون المعنى: وأنزلنا معهم الأمر بالميزان.
ويروى: أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح، وقال: مُرْ قومك
__________
(1) ... في الأصل: استنبطه. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... قوله: "منزل" ساقط من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (27/237). وذكره السيوطي في الدر (8/64) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة.
(5) ... تفسير مقاتل (3/326) وفيه: العدل -كالقول الأول-. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/174).(1/736)
يَزِنُوا به (1) .
{ وأنزلنا الحديد } قال ابن عباس: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد: السِّنْدَان والكَلْبَتَان والمِيقَعَة (2) والمِطْرَقَة والإبرة (3) .
ويروي في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح)) (4) .
وقال الحسن وجمهور أهل المعاني: { وأنزلنا الحديد } : خلقناه؛ كقوله في الزمر: { وأنزل لكم من الأنعام } (5) [الزمر:6].
{ فيه بأسٌ شديد } وهو المحاربة به، يشير إلى أنه يُتخذ منه السلاح { ومنافع للناس } في معايشهم ومصالحهم وصنائعهم، فقلّ أن ترى صنعة إلا والحديد قوامها، أو له فيها مدخل بوجه من الوجوه.
{ وليعلم الله } علم مشاهدة ورؤية { من ينصره ورسله } أي: وينصر رسله بالآلة التي تُتَّخَذُ من الحديد للمحاربة؛ كالسيوف والرماح، { بالغيب } أي: ينصرونه غائباً عنهم، فهو حال من المفعول (6) .
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/478).
(2) ... الكلبتان: هي الآلة التي تكون مع الحدَّادين (اللسان، مادة: كلب).
... والميقعة: المِسَنُّ الطويل. وقيل: هي المطرقة (اللسان، مادة: وقع).
(3) ... أخرجه الطبري (27/237) من غير ذكر الإبرة. وذكره الثعلبي (9/246).
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/260)، والبغوي (4/299).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/253)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/174) بلا نسبة.
(6) ... انظر: الدر المصون (6/280).(1/737)
قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه (1) .
{ إن الله قوي عزيز } لا يُغَالَب، فلو شاء أن ينتقم من أعدائه لفعل، لكنه أمر أولياءه بمجاهدة (2) أعدائه لينتقم منهم بأيديهم، ويُنيلهم إذا امتثلوا أمره درجاتٍ مخصوصاتٍ بالمجاهدين.
ô‰s)s9ur $uZù=y™ِ'r& %[nqçR tLىدd؛tچِ/خ)ur $oYù=yèy_ur 'خû $yJخgدGƒحh'èŒ noqç7-Y9$# |="tGإ6ّ9$#ur Nهk÷]دJsù 7‰tFôgoB ×ژچدWں2ur ِNهk÷]دiB tbqà)إ،"sù اثدب NèO $uZّٹOےs% #'n?tم Nدdجچ"rO#uن $oYخ=ك™مچخ/ $uZّٹOےs%ur †|Oٹدèخ/ بûَّ$# zOtƒِچtB çm"oY÷ s?#uنur ں@إgUM}$# $oYù=yèy_ur 'خû ة>qè=è%
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/478).
(2) ... في ب: بجهاد.(1/738)
ڑْïد%©!$# çnqمèt7¨?$# Zpùù&u' ZpuH÷qu'ur ؛pدR$t6÷du'ur $ydqممy‰tGِ/$# $tB $yg"uZِ;tGx. َOخgّٹn=tو wخ) uن!$tَدGِ/$# بb؛uqôتح' "!$# $yJsù $ydِqtمu' ¨,ym $ygدFtƒ$tمح' $oY÷ s?$t"sù tûïد%©!$# (#qمYtB#uن ِNهk÷]دB َOèdtچô_r& ×ژچدWx.ur ِNهk÷]دiB tbqà)إ،"sù اثذب
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } يعني: الحواريين وأتباعهم { رأفة } وقد ذكرنا فيما مضى أنها أبلغ الرحمة، { ورهبانيةً } منصوب بفعل مُضْمَر يُفسّره ما بعده (1) ، تقديره: ابتدعوها من
__________
(1) ... وهو ما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف (4/479)، وأبو البقاء في التبيان (2/257)، فهو من باب الاشتغال.
... وردّ أبو حيان في البحر (8/226) هذا الإعراب من حيث الصناعة، وقال: وهذا إعراب المعتزلة، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: "ورهبانية" لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.(1/739)
قِبَل أنفسهم؛ تقرباً إلينا، ابتدعوها ونذروها.
{ ما كتبناها عليهم } أي: ما فرضناها وأوجبناها عليهم، { إلا ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع، أي: [ولكنهم] (1) ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
قال ابن مسعود: كنتُ رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال: يا ابن أم عبد! هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل هذه الرهبانية؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهُزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن [ظهرنا لهؤلاء] (2) أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى -يعنون: محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فتفرقوا في غِيران الجبال وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية: { ورهبانية ابتدعوها... الآية } ، { فآتينا الذين آمنوا منهم } أي: الذين ثبتوا عليها { أجرهم وكثير منهم فاسقون } . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن أم عبد: تدري ما رهبانية أمَّتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التّلاع (3) .
__________
(1) ... في الأصل: ولكونهم. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: ظهروا هؤلاء ، والمثبت من ب ، ومصادر التخريج.
(3) ... أخرجه الثعلبي (9/247-248).(1/740)
قوله تعالى: { فما رعوها } يعني: جميعهم { حق رعايتها } بل فرطوا فيما وجب عليهم بالتزامهم وإن لم يكن واجباً بأصل الشرع، كما لو نذر الواحد منا في شريعتنا فعل عبادة لا تلزمه، فإنه يصير لازماً له بالتزامه ونذره، كذلك أولئك نذروا والتزموا فعل الرهبانية، فلما ضيّعوا وفرّطوا عاب الله عليهم ذلك (1) .
وقيل: إن منهم من بدّل وغَيَّر الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام.
وقيل: الإشارة بقوله: "فما رعوها" إلى الأتباع لا إلى المتبوعين الذين كانوا الأصل في الرهبانية. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس (2) .
{ فآتينا الذين آمنوا } ثبتوا على إيمانهم، وتمسكوا بقوانين دينهم وشريعة نبيهم، إلى أن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { أجرهم } ثواب إيمانهم وطاعتهم، { وكثير منهم فاسقون } خارجون عن الطاعة.
أخرج الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال: دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اختلف من كان قبلي على ثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث وهلك سائرهم، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين [الله ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا. وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا
__________
(1) ... قال ابن الجوزي في زاد المسير (8/176-177): قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول؛ وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين. فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولاً أو فعلاً فعليه رعايتها وإتمامها.
(2) ... أخرجه الطبري (27/239). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/177).(1/741)
بين ظهراني قومهم، فدعوهم إلى دين الله ودين] (1) عيسى، فأخذوهم فقتلوهم وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فساحوا في البلاد وترهّبوا، وهم الذين قال الله عز وجل { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم... الآية } ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من آمن بي وصدّقني واتّبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتّبعني فأولئك هم الهالكون (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (#qمZtB#uن (#qà)®?$# ©!$# (#qمZدB#uنur ¾د&خ!qك™tچخ/ ِNن3د?÷sمƒ بû÷,s#ّےد. `دB ¾دmدGyJôm' @yèّgs†ur ِNà6©9 #Y'qçR tbqà±ôJs? ¾دmخ/ ِچدےَّtƒur ِNن3s9 ھ!$#ur ض'qàےxî ×Lىدm' اثرب xy¥دj9 zOn=÷ètƒ م@÷dr& ة="tGإ6ّ9$# wr& tbrâ'د‰ّ)tƒ 4'n?tم &نَسx"
__________
(1) ... زيادة من الحاكم (2/522).
(2) ... أخرجه الحاكم (2/522 ح3790).(1/742)
`دiB ب@ôزsù "!$# ¨br&ur ں@ôزxےّ9$# د‰uخ/ "!$# دmد?÷sمƒ `tB âن!$t±o" ھ!$#ur rèŒ ب@ôزxےّ9$# ثLىدàyèّ9$# اثزب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } خطاب لأهل الكتابين { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما آمنتم بموسى وعيسى، { يؤتكم كفلين من رحمته } سبق معنى "الكِفْل" في النساء (1) .
والمعنى: يؤتكم كِفْلين بسبب إيمانكم الأول والثاني. ومنه الحديث الصحيح: ((أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد فله أجران)) (2) . أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن زيد: يؤتكم أجر الدنيا والآخرة (3) .
{ ويجعل لكم } على الصراط { نوراً تمشون به } .
وقيل: يجعل لكم نوراً وهو القرآن (4) . والقولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: { لئلا يعلم أهل الكتاب } قال الفراء (5) : العرب تجعل "لا"
__________
(1) ... عند الآية رقم: 85.
(2) ... أخرجه مسلم (1/134 ح154).
(3) ... أخرجه الطبري (27/243).
(4) ... أخرجه الطبري (27/245). وذكره السيوطي في الدر (8/67) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... معاني الفراء (3/137).(1/743)
صلة في كل كلام دخل في آخره أو في أوله جحد، فهذا مما جعل في آخره جحد.
واللام في لـ"يعلم" يتعلق بـ"يؤتكم كفلين"، وما في حيزها.
المعنى: يؤتكم لإيمانكم أجركم مرتين، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ أن لا يقدرون على شيء من فضل الله } "أنْ" مخففة من الثقيلة بإضمار الشأن، على معنى: أن الشأن لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم لا أجر لهم.
{ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } فآتى المؤمنين أجرهم مرتين.
قال الواحدي -وقد ذكر هذا المعنى- (1) : هذه آية مشكلة، ليس للمفسرين ولا [لأهل] (2) المعاني فيها بيان ينتهي إليه، ويلفّق بينه وبين الآية التي قبلها، وأقوالهم مختلفة متدافعة، وقد بان واتضح المعنى فيما ذكرناه.
ولقد صدق الواحدي رحمه الله، فإنني تتبعت كثيراً من كتب التفسير والمعاني، فلم [أظفر] (3) بقولٍ يكشف عن وجه المقصود ويوضح ارتباط إحدى الآيتين بالأخرى.
وفي الذي ذكره واعتقد اتضاح المعنى به وقفةٌ.
__________
(1) ... الوسيط (4/257).
(2) ... في الأصل و ب: أهل. والمثبت من الوسيط، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: أ. والمثبت من ب.(1/744)
والذي يظهر في نظري: أن المعنى: { يا أيها الذين آمنوا } من أهل الكتابين، واستثمروا من إيمانهم علماً جازماً بمعرفة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون دفاعه عنهم، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، { اتقوا الله } بترك العناد والحسد، { وآمنوا برسوله } الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، { يؤتكم... إلى آخر الآية } .
ثم قال: { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي: يؤتكم إذا اتقيتم وآمنتم كِفْلين، ويجعل لكم نوراً، ويغفر لكم ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - { أن لا يقدرون على شيء من فضل الله } ، إذ لو قدروا عليه لما رضوا لأنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وليعلموا أن الفضل بيد الله في ملكه وتصرفه وتحت قدرته، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وليس لهم إلى هداية أنفسهم والقدرة على شيء من فضل الله من الإسلام وغيره سبيل إلا بإذنه، { يؤتيه من يشاء } ممن خَلَقَه [للسعادة] (1) وعَلِمَ أنه أهل لها { والله ذو الفضل العظيم } .
__________
(1) ... في الأصل: للعبادة. والتصويب من ب.(1/745)
سورة المجادلة
ijk
وهي إحدى وعشرون آية في المدني، واثنتان في الكوفي (1) .
وهي مدنية في قول ابن عباس وعامة المفسرين.
واستثنى ابن السائب قوله تعالى: { ما يكون من نجوى ثلاثة } (2) .
وقال عطاء: من أولها إلى رأس عشر آيات مدني، وباقيها مكي (3) .
ô‰s% سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ اتب
قولُه تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: { قد سمع الله قول
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:242).
(2) ... انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/54).
(3) ... انظر: الماوردي (5/487)، وزاد المسير (8/180).(1/3)
التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله... إلى آخر الآية } (1) .
و"قَدْ" هاهنا على أصلها للتوقُّع؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمجادلة توقعا أن يسمع الله مجادلتهما وشكواهما، ويُنزل فيهما ما عساه يكون راحة لها.
واسم المجادِلَة: خولةُ في قول عامة المفسرين؛ لكن اختلفوا في أبيها (2) ؛
فقال عكرمة وقتادة: خولة بنت ثعلبة (3) .
وبعضهم يقول: خولة بنت مالك بن ثعلبة (4) .
وقيل: بنت خويلد (5) .
قال الماوردي (6) : وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدها.
وروى خُليد بن دعلج، عن قتادة: أنها خولة بنت حكيم (7) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري تعليقاً (6/2689).
(2) ... قال ابن الجوزي (زاد المسير: 8/181): وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال:
... أحدها: خولة بنت ثعلبة. رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي.
... والثاني: خولة بنت خويلد. رواه عكرمة عن ابن عباس .
... والثالث: خولة بنت الصامت . رواه العوفي عن ابن عباس .
... والرابع: خولة بنت الدليج . قاله أبو العالية.
(3) ... أخرجه الطبري (28/2)، عن قتادة. وفيه: خويلة . وذكره السيوطي في الدر (8/74) وعزاه لعبد بن حميد عن عكرمة.
(4) ... أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (2/399)، عن يوسف بن عبد الله ابن سلام.
(5) ... أخرجه الطبري (28/3). والطبراني في الكبير (11/265 ح 11689). كلاهما عن ابن عباس، وفيهما: خويلة بنت خويلد. وذكره السيوطي في الدر (8/77)، وعزاه للطبراني.
(6) ... تفسير الماوردي (5/487).
(7) ... أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (2/398)، عن عائشة رضي الله عنها.(1/4)
وقيل: بنت دليج (1) .
وقيل: هي جميلة، امرأة أوس بن الصامت (2) .
والصحيح: أنها خولة بنت ثعلبة.
قال ابن عباس وغيره: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي حرمت عليه، وكان أولَ من ظاهر في الإسلام أوسُ بن الصامت، ثم ندم وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسليه، فأتته - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، وقالت: يا رسول الله! أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمي وأحب الناس إليّ، وقد ظاهر مني، وقد نسخ الله سُنَنَ الجاهلية، فقال: ما أراكِ إلا قد حرمتِ عليه، فقالت: يا رسول الله! ما ذكر طلاقاً، فقال: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فهتفتْ وشَكَتْ إلى الله وبَكَتْ، وجعلت تُراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فبينا هي في ذلك إذ تَرَبَّدَ (3) وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي عليه، فلما قضي الوحي قال: ادعي لي
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/1). وفيه : خويلة. والبيهقي في السنن (7/384 ح 15033). كلاهما عن أبي العالية. وذكره السيوطي في الدر (8/78) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في السنن.
(2) ... أخرجه الطبري (28/6)، عن عائشة رضي الله عنهما.
(3) ... تَرَبَّدَ: أي: تغيّر إلى الغَبرة، وقيل: الربدة: لون بين السواد والغبرة (انظر: النهاية، مادة: ربد).(1/5)
زوجك، فجاءا فتلا عليه: { قد سمع الله ... } وبيّن له حكم الظهار (1) .
وقد ذكرنا فيما مضى اشتقاق الجدل.
وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة، في قول جمهور أهل النقل.
وروى خليد بن دعلج عن قتادة: أنها خولة بنت حكيم، امرأة عبادة بن الصامت (2) .
قال الحافظ ابن عبدالبر (3) : هذا وهم، وخُليد ضعيفٌ سيء الحفظ (4) ، وإنما هي امرأة أوس بن الصامت، على الاختلاف في اسم أبيها.
{ وتشتكي إلى الله } يقال: اشتكى يشتكي، بمعنى: شكا يشكو.
والمحاورة: مراجعة الكلام، وأنشدوا قول عنترة في فرسه:
لو كانَ يَدري ما المحاورةُ اشتكى ... ... ولكانَ لوْ عَلِمَ الكلامَ مُكلِّمي (5)
وفي الحديث: أن عمر بن الخطاب خرج ومعه الناس، فمرّ بعجوز فاستوقفته، [فوقف] (6) فجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! حبستَ الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك تدري من هذه،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/3)، والطبراني في الكبير (11/265 ح11689). وذكره السيوطي في الدر (8/76) وعزاه للطبراني.
(2) ... سبق تخريج حديث خليد ص:Error! Bookmark not defined..
(3) ... الاستيعاب (4/1831).
(4) ... انظر أقوال العلماء في خُليد هذا (الكامل لابن عدي 3/47، وميزان الاعتدال 1/663).
(5) ... البيت لعنترة، وهو في: الخصائص (1/24)، وزاد المسير (8/182).
(6) ... في الأصل: فوف. والتصويب من ب.(1/6)
[هذه] (1) امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، فعُمَر والله أحق أن يسمع لها، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله في حقها: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ، والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة ثم أرجع إليها (2) .
tûïد%©!$# يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ Oخgح !$|،خpS مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِن اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3342). وذكره السيوطي في الدر (8/70) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن زيد.(1/7)
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ احب
قوله تعالى: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرأ عاصم:(1/8)
"يُظَاهِرُونَ" بضم الياء وتخفيف الظاء، وبعدها ألف وكسر الهاء وتخفيفها، من ظَاهَرَ يُظَاهِرُ. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحها من غير ألف، من ظَهَّرَ، مثل: ضَعَّف. وقرأ الباقون كذلك، إلا أنهم أثبتوا ألفاً بعد الظاء، وخففوا الهاء، وكذلك الموضع الثاني (1) .
قال أبو علي (2) : هو مضارع تَظَهَّرَ يتظَهَّرُ، مثل: تكرَّمَ يتَكَرَّم، والجميع: يتظهّرون، مثل: يتكرّمون، ثم أدغمت التاء في الظاء فصار: يظهَّرون، وقراءة الباقين مضارع تَظَاهَرَ يتَظَاهَرُ، مثل: تَضَارَبَ يتَضَارَبُ، وللجميع: يتظاهرون، ثم أدغمت التاء في الظاء لمقاربتها لها.
وقرأ ابن مسعود: "يتظاهرون" (3) .
وقرأ أبي بن كعب: "يتظهّرون" بتاء بعد الياء على الأصل (4) .
ومعنى ذلك: أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي.
وسُمِّي ظِهاراً؛ لأنه قُصد به تحريم ظهرها عليه، وقد كان في الجاهلية طلاقاً بائناً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده، فرجع إلى ما أقرّه الله عليه وذكره هاهنا.
قوله تعالى: { ما هن أمهاتِهِم } وروى المفضل عن عاصم: برفع التاء
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/33)، والحجة لابن زنجلة (ص:703)، والكشف (2/313)، والنشر (2/385)، والإتحاف (ص:411)، والسبعة (ص:628).
(2) ... الحجة للفارسي (3/280).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/182)، والبحر (8/231).
(4) ... انظر: المصدرين السابقين.(1/9)
وضم الهاء (1) ، والقراءتان على اللغتين الحجازية والتميمية.
قال الفراء في قراءة المفضل (2) : هي لغة نجد، وأنشد:
ويزعُمُ حَسْلٌ أنه فَرْعُ قومِهِ ... ... وما أنتَ فرعٌ يا حُسَيلُ ولا أصلُ (3)
والمعنى: لَسْنَ [بأمهاتهم] (4) .
{ إنْ أمهاتهم } أي: ما أمهاتهم على الحقيقة { إلا اللائي ولدنهم وإنهم } يعني: المظاهرين { ليقولون منكراً من القول } (5) لا يُعرف في شريعة { وزوراً } كذباً وباطلاً { وإن الله لعفو غفور } فلذلك تجاوز عنهم، وشرع لهم الكفارة.
قوله تعالى: { والذين يظَّهَّرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } قال صاحب الكشاف (6) : يعني: والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يَمَاسَّ المظاهر منها.
ووجه آخر: "ثم يعودون لما قالوا": ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/33)، والحجة لابن زنجلة (ص:703)، والسبعة (ص:628).
(2) ... معاني الفراء (3/139).
(3) ... البيت لعمرو بن خويلد، وهو في: الإنصاف (2/694)، وزاد المسير (8/183).
... والحِسْل: ولد الضب (اللسان، مادة: حسل).
(4) ... في الأصل: بأمهاتهن. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل زيادة قوله: { وزوراً } وستأتي بعد قليل.
(6) ... الكشاف (4/485-486).(1/10)
للأمر عائد إليه. والمعنى: أنَّ تدارك هذا القول بأن (1) يكفّر حتى يرجع حالهما كما كانت قبل الظهار.
ووجهٌ ثالث: وهو أن يراد بما قالوا: ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه، ويكون المعنى: ثم يريدون العود للتَّماس. هذا تمام كلامه. وهذا الوجه الثالث هو قول سعيد بن جبير (2) .
المعنى: يريدون أن يعودوا للجماع.
قال الحسن وطاووس والزهري: العَوْدُ: الوَطْء (3) .
وقال الشافعي: العَوْد: هو أن يُمسكها بعد الظهار مدةً يمكنه [طلاقها] (4) فيها فلا يطلقها، فإذا وجد هذا استقرت عليه الكفارة (5) .
وقال شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد المقدسي (6) : العَوْدُ: هو الوطء، في ظاهر كلام أحمد والخرقي.
قلت (7) : وهذا مذهب الحسن وطاووس والزهري.
قال أحمد: العَوْدُ: الغشيانُ؛ لأن العَوْدَ في القول [فعلُ] (8) ضدّّّّّ ما قال،
__________
(1) ... قوله: "بأن" مكرر في الأصل.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/183).
(3) ... أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6/422 ح11478). وذكره السيوطي في الدر (8/75) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاووس. وانظر: المغني (8/13).
(4) ... في الأصل: طلاقه. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: الأم (5/400)، والمغني (8/14).
(6) ... في الكافي (3/260).
(7) ... أي المصنف.
(8) ... زيادة من الكافي (3/260).(1/11)
كما أن العَوْدَ في الهبة: استرجاعُ ما وَهَبَ، فالمظاهر مَنَعَ نفسَه غشيانَها، فعودُه في قوله غشيانُها.
وقال القاضي أبو يعلى وأصحابه: العَوْد: العزم على الوطء (1) .
وهو مذهب أهل العراق (2) .
قال البغوي: وهو مذهب أحمد ومالك رحمهما الله؛ لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود [وقبل] (3) التماس بقوله: { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ، وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير؛ لقوله سبحانه: { من قبل أن يتماسا } ، فإن وطئ أَثِمَ واستقرت الكفارة عليه.
وقال الزهري: عليه كفارتان.
وقال أبو حنيفة: تسقط الكفارة والظهار، ثم لا يحل له وطؤها ثانية حتى يُكفِّر.
فإن فات الوطء بموت أحدهما [أو فرقتهما] (4) فلا كفارة عليه. وإن عاد فتزوجها لم تحل له حتى يُكفّر (5) .
وقال أبو الخطاب: إن كانت الفرقةُ بعد العزم فعليه الكفارة. وهذا مقتضى قول من وافقه. وقد صرح أحمد بإنكاره، وكذلك قال القاضي: لا
__________
(1) ... إلى هنا انتهى النقل من الكافي.
(2) ... تحفة الفقهاء (2/214).
(3) ... في الأصل: وقيل. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: وفرقتهما. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: المغني (8/12).(1/12)
كفارة عليه.
فصل
وفي التلذّذ بالمُظاهَر منها قبل التكفير بما دون الجماع؛ كالقبلة واللمس، عن الإمام أحمد روايتان:
[إحداهما] (1) : يحرم؛ لأن ما حَرَّمَ الوطءَ من القول حَرّمَ دواعيه، كالطلاق.
والثانية: لا يحرم؛ لأن المسيس هاهنا كناية عن الوطء، فيقتصر عليه (2) .
فصل
وشذَّ داود بن علي الأصبهاني فقال: العَوْد: هو إعادة اللفظ ثانياً (3) .
قال الزجاج (4) : هذا قول من لا يدري اللغة.
وقال أبو علي (5) : قد يكون العَوْد إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل، وسُميت الآخرة مَعاداً، [ولم يكن] (6) فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي:
وعَادَ الفتى كالطفلِ (7) ليسَ بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئاً واستراحَ العواذِلُ (8)
__________
(1) ... في الأصل: أحدهما. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: المغني (8/10).
(3) ... انظر: المغني (8/14).
(4) ... معاني الزجاج (5/135).
(5) ... الحجة للفارسي (1/331-332).
(6) ... في الأصل: ويكن. والتصويب من ب، والحجة للفارسي (1/332).
(7) ... في جميع مصادر تخريج البيت: كالكهل.
(8) ... البيت لأبي خراش الهذلي، وهو في: الأغاني (10/218، 21/218)، والحجة للفارسي (1/332)، والطبري (1/327)، والقرطبي (7/301، 15/9)، وزاد المسير (8/184).(1/13)
وقال ابن قتيبة (1) : من توهَّمَ أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية فليس بشيء؛ لأن الناس قد أجمعوا أن الظهارَ يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار، فجعل اللهُ حُكم الظِّهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل: { والذين يظاهرون من نسائهم } يعني: في الجاهلية { ثم يعودون لما قالوا } يعني: في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام { فتحرير رقبة } أي: فعليهم أو فكفَّارتهم تحرير رقبة، أي: عتقها.
وفي اشتراط كونها مؤمنة؛ عن الإمام أحمد؛ روايتان (2) .
ولا تجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيّناً؛ لأن المقصود تمليكُ العبد منفعة نفسه وتمكّنه من التصرف، فلا يجزئ الأعمى ولا الزمن ولا مقطوع اليد أو الرجل، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى، ولا مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة، وقطع أنملتين من أصبع كقطعها، ولا يمنع قطعُ أنملة واحدة إلا الإبهام لأنها أنملتان، فذهاب إحداهما مضر بالعمل؛ كقطعها (3) .
ولا يجزئ الأخرس، إلا أن تُفهم إشارته، فيجزئ على قول القاضي
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:457).
(2) ... انظر: المغني (8/18).
(3) ... انظر: المغني (8/18).(1/14)
وأبي الخطاب، إلا أن يجتمع معه الصمم، فلا يجزئ بغير خلاف عندنا (1) .
ولا يجزئ المجنون، إلا أن تكون إفاقته أكثر.
فصل
ويجزئ الأعور، والأجدع، والخصي، والمجبوب؛ لأنه كالسليم فيما ذكرناه، ويجزئ المرهون، والجاني، والمُدَبَّر، وولد الزنى، والمريض المرجو برؤه، والهزيل القادر على الكسب، والغائب، إلا أن يُشَكَّ في حياته (2) .
فصل
ولا يجزئ عتق الجنين؛ لأنه لم تثبت له أحكام الرقاب (3) .
فإن أعتق صبياً فقال القاضي: يجزئ في جميع الكفارات إلا كفارة القتل، فإنها على روايتين.
وقال أبو بكر عبدالعزيز: يجزئ الطفل في جميع الكفارات؛ لأنه تُرجى منافعه وتصرّفه، فهو كالمريض المرجوّ زوال علته.
قوله تعالى: { ذلكم } قال الزجاج (4) : ذلكم التغليظ في الكفارة.
{ توعظون به } لتتركوا الظهّار.
قوله تعالى: { فمن لم يجد } أي: فمن لم يستطع عتق رقبة { فصيام } أي:
__________
(1) ... انظر: المغني (8/19).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر: المغني (8/20).
(4) ... معاني الزجاج (5/135).(1/15)
فعليه صيام { شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ، فإن شرع في أول شهر أجزأه صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا أو ناقصين. وإن دخل في أثناء شهر صام شهراً بالهلال وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد (1) .
فإن أفطر يوماً لغير عذر لزمه استئناف الشهرين؛ لأنه أمكنه التتابع وقد قطعه لغير عذر.
وإن أفطر لعذر من مرض مَخُوفٍ أو جنون أو إغماء لم ينقطع.
وإن أفطر في السفر؛ فظاهر كلام الإمام: أنه لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض (2) .
وخرّج بعض أصحابنا وجهاً: أنه ينقطع التتابع.
والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما فهما كالمريض، وإن خافتا على ولديهما فعلى وجهين.
والحيضُ عذر شرعي فلا ينقطع [به التتابع] (3) .
ومن أكل يظن أن الشمس قد غابت، أو أن الفجر لم يطلع فبان بخلافه أفطر، وفي انقطاع التتابع وجهان.
[وإن] (4) نسي التتابعَ أو تركه جهلاً بوجوبه انقطع.
والفطر لأجل العيد وأيام التشريق لا يقطع التتابع.
__________
(1) ... انظر: المغني (8/30).
(2) ... انظر: المغني (8/31).
(3) ... في الأصل: التتابع به. والمثبت من ب.
(4) ... في الأصل: أو. والتصويب من ب.(1/16)
وإن قطع الصوم بصوم رمضان لم ينقطع التتابع.
وإن كان عليه نذرُ صوم كلّ خميس قَدَّمَ صوم الكفارة وقضاه بعد ذلك وكَفَّرَ؛ لأنه لو صامه لم يمكنه التكفير بحال.
فصل
فإن وطئَ المظَاهَرَ منها في ليالي الصوم لزمه الاستئناف؛ لقوله تعالى: { من قبل أن يتماسا } .
وقيل: لا ينقطع التتابع؛ لأنه وطءٌ لا يُفطر به، فلم يقطع التتابع؛ كوطء غيرها.
قوله تعالى: { فمن لم يستطع } أي: لم يقدر على الصيام؛ لكبرٍ أو مرض غيرِ مرجو الزوال، أو شبق شديد أو نحوه { فإطعام } أي: فعليه أن يطعم { ستين مسكيناً } .
فصل
الواجبُ أن يدفع إلى كل مسكين مُدّ بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير (1) ؛ لما روى الإمام أحمد في مسنده: "أن امرأةً من بني بياضة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصف وسق شعير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - [للمظاهِر] (2) : أطعم هذا، فإن مُدَّيْ شعير مكان مُدِّ بُرّ" (3) .
__________
(1) ... انظر: المغني (8/24)، والكافي في فقه ابن حنبل (3/272).
(2) ... في الأصل: لمظاهر. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الحارث في مسنده عن أبي يزيد المدني (بغية الباحث 1/557)، وفيه: فإنه يُجزئ مكان كل نصف صاع من حنطة صَاعٌ من شعير.(1/17)
فصل
ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة، سواء كان قوت بلده أو لم يكن. فإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه؛ لقوله: { من أوسط ما تطعمون أهليكم } [المائدة:89].
فإن أخرج غير قوت بلده خيراً منه جاز.
وقال القاضي: لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة.
قال شيخنا (1) : والأول أجود؛ لموافقته ظاهر النص.
ويجزئ إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مُدّ من الحنطة.
وفي الخبز روايتان:
إحداهما: يجزئ؛ لقوله: { فإطعام ستين مسكيناً } [المجادلة:4].
والثانية: لا يجزئ؛ لأنه خرج عن صفة الكمال والادخار، أشبه الهريسة. فإذا قلنا يجزئه اعتبر أن يكون من مُدّ بر، أو من نصف صاع شعير (2) .
قال الخرقي: لكل مسكين رطلاَ خبزٍ؛ لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مُدّ فأكثر.
وفي السَّويق وجهان؛ بناء على الروايتين في الخبز.
ولا تجزئ الهريسة وأمثالها؛ لأن ذلك خرج عن الاقتيات المعتاد، ولا
__________
(1) ... في الكافي (3/170).
(2) ... انظر: الكافي في فقه ابن حنبل (3/273).(1/18)
القيمة؛ لأنه أحد ما يُكَفَّرُ به، فلم تجز القيمة فيه؛ كالعتق (1) .
ولا تجزئ كفارة إلا بالنية (2) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما لامرئ ما نوى" (3) .
فصل
ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها. فإن كَفَّرَ بعد السبب وقبْل الشرط؛ جاز. وإن كَفَّر عن الظهار بعده وقبْل العَوْد وعن اليمين بعدها وقبْل الحنث؛ جاز (4) .
فصل
ولا فرق في الظهار بين الظَّهْر وغيره من الأعضاء. فلو قال: أنت عَلَيَّ كبطن أمي أو فخذها أو يدها أو رجلها أو غير ذلك من الأعضاء التي يقع الطلاق بإضافته إليه، كان مُظاهراً، فيخرج من ذلك الشعر والسن والظفر. [هذا] (5) مذهب إمامنا، وبه قال الشافعي في أصح قوليه (6) .
وقال أبو حنيفة: إن شَبَّهَهَا ببطن أمه أو فرجها أو فخذها فهو [ظهار] (7) ؛ كالظَّهر، وإن شبهها بعضو آخر سواها فليس بظهار. فإن قال: أنت عَلَيَّ
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق.
(2) ... انظر: الكافي في فقه ابن حنبل (3/274).
(3) ... أخرجه البخاري (5/1951 ح4783).
(4) ... انظر: الكافي في فقه ابن حنبل (3/275).
(5) ... في الأصل: وهذا. والتصويب من ب.
(6) ... انظر: المغني (8/9).
(7) ... في الأصل: ظاهر. والتصويب من ب.(1/19)
كأمي أو مثل أمي فهو مظاهر، إلا أن يريد به الكرامة والمنزلة (1) .
وعن أحمد: لا يكون مظاهراً (2) حتى ينوي به الظِّهَار.
وإن قال: أنت كأمي أو مثلها فليس [بظهار] (3) حتى ينوي به؛ لأنه في غير التحريم أظهر.
وعند أبي الخطاب: هي كالتي قبلها.
قال شيخنا (4) : وقياس المذهب: أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار، فهو ظهار، وإلا فلا.
فصل
وغيرُ الأم من ذوات المحارم كالأم؛ فلو قال: أنت عَلَيَّ كظهر جدتي أو أختي أو عمتي أو خالتي؛ فهو ظهار. وإن شبهها بمن تحرم عليه بالرضاع أو المصاهرة فكذلك (5) .
وللشافعي في الصورتين قولان (6) .
غير أن الصحيح في المشبَّهَة بمن تحرم بسبب الرضاع: أنه ظهار. والصحيح في المشبَّهَة بسبب المصاهرة: أنه ليس بظهار.
__________
(1) ... انظر: بدائع الصنائع (3/231).
(2) ... في ب: ظهاراً.
(3) ... في الأصل: بظاهر. والتصويب من ب.
(4) ... في الكافي (3/165).
(5) ... انظر: المغني (8/5).
(6) ... انظر: الحاوي للماوردي (10/431-432).(1/20)
وإن قال: أنت عَلَيَّ كظهر البهيمة لم يكن مظاهراً (1) .
وإن قال: أنت عَلَيَّ كظهر أبي، ففيه عن الإمام أحمد روايتان:
إحداهما: أنه ظهار؛ لأنه شبهها بمحل محرّم على التأبيد.
والأخرى: ليس بظهار؛ لأنه ليس محلاً [للاستمتاع] (2) .
فصل
فإن قال: أنت طالق كظهر أمي؛ طلقت ولم يكن ظهاراً؛ إلا أن ينويهما، فيكون طلاقاً وظهاراً.
وإن نوى الظهار وحده بلفظ الطلاق لم يكن ظهاراً؛ لأنه صريح في موجبه، فلم ينصرف إلى غيره بالنية، كما لو نوى بقوله: أنت عليّ كظهر أمي؛ الطلاق (3) .
فصل
ويصح الظهار مؤقتاً؛ كقوله: أنت عليّ كظهر أمي شهراً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (4) ، والشافعي في أصح قوليه (5) .
وذهب مالك والليث وابن أبي ليلى إلى أنه لا يجب به شيء (6) .
__________
(1) ... انظر: المغني (8/5).
(2) ... انظر: المغني (8/5). وما بين المعكوفين في الأصل: لاستمتاع. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: المغني (8/8).
(4) ... انظر: بدائع الصنائع (3/235).
(5) ... انظر: الحاوي للماوردي (10/456).
(6) ... فيَبْطُلُ التَّأْقِيتُ وَيَتَأَبَّدُ الظِّهَارُ. انظر : المدونة (6/53).(1/21)
والصحيح: الأول؛ لما روى سلمة بن صخر قال: "[ظاهرت] (1) من امرأتى حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ [تكشّف] (2) لي منها شيء، فلم ألبث أن نزوت عليها، [فانطلقت] (3) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته الخبر، فقال: حرِّر رقبة" (4) . رواه أبو داود في سننه.
ولأنه يمين مكفرة، فصح توقيته؛ كاليمين بالله.
فإذا مضى الوقت مضى حكم الظهار.
ويجوز تعليقه بشرط؛ كدخول الدار.
وإن قال: أنت عليّ كظهر أمي إن شاء الله؛ لم يكن مظاهراً (5) .
فصل
إذا قالت المرأة لزوجها: أنتَ عَلَيَّ كظهر أبي؛ لم تكن مظاهرة؛ لظاهر الآية.
وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات:
إحداهن: عليها كفارة الظهار؛ لأن عائشة بنت طلحة قالت: إنْ تزوجتُ مصعب بن الزبير فهو عليّ كظهر أبي، فسألت أهل المدينة، فرأوا أن عليها
__________
(1) ... في الأصل: ظهات. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: تكشفت. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: فانطلق. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه أبو داود (2/265 ح2213).
(5) ... انظر: المغني (8/11).(1/22)
الكفارة (1) .
ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور، فأشبهت الرجل.
والثانية: لا شيء عليها؛ لكونه ليس بظهار، فتجب عليها كفارته.
والثالثة: ليس عليها [إلا] (2) كفارة يمين، كما لو حرّمت شيئاً على نفسها (3) .
قوله تعالى: { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } أي: ذلك البيان والتعليم لما شرع لكم من أحكام الظهار وغيره لتصدقوا بالله ورسوله، في امتثال ما أَمَر به واجتناب ما نَهَى عنه، واتباع ما شرعه من الظهار وغيره، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم.
{ وتلك حدود الله } التي لا يجوز تعدّيها وانتهاك حُرَمِهَا، { وللكافرين } قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به (4) { عذاب أليم } .
¨bخ) الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ
__________
(1) ... أخرجه الدارقطني (3/319 ح271).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر: المغني (8/34-35).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/262)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/187).(1/23)
أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا(1/24)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اذب
قوله تعالى: { إن الذين يحادون الله ورسوله } [يعادونهما] (1) ويخالفون أمرهما ونهيهما. وقد سبق معنى "المحادة" في براءة (2) .
{ كُبِتُوا } قال المقاتلان (3) : أُخْزُوا كما أخزي من قبلهم من أهل الشرك. وقد سبق معنى "الكبْت" في آل عمران (4) .
{ وقد أنزلنا آيات بينات } تَدُلُّ على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وصحة ما جاء به، { وللكافرين } الذين جحدوا هذه الآحكام تكبُّراً وعناداً { عذاب مهين } يَذهبُ بعزّهم وكبرهم.
ثم بيّن وقت ذلك العذاب فقال: { يوم يبعثهم الله جميعاً } أي: يبعثهم كلهم، لا يغادر منهم أحداً.
وقيل: "جميعاً" حال، أي: يبعثهم مجتمعين يوم القيامة { فينبئهم بما عملوا } على رؤوس الأشهاد توبيخاً لهم وتقريعاً، { أحصاه الله ونسوه } حفظه الله ونسوه هم تهاوناً به.
__________
(1) ... في الأصل: يعادنهما. والتصويب من ب.
(2) ... عند الآية رقم: 63.
(3) ... تفسير مقاتل بن سليمان (3/330).
(4) ... عند الآية رقم: 127.(1/25)
قوله تعالى: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } وقرأ أبو جعفر: "ما تكون" بالتاء (1) .
قال ابن قتيبة (2) : النجوى: السِّرَار.
وقال غيره: النجوى: التناجي.
وقال الزجاج (3) : ما يكون من خلوةِ ثلاثةٍ يُسرون شيئاً ويتناجون به إلا هو رابعهم، أي: عالم به.
قال ابن عباس: ما من شيء تُناجي به صاحبك إلا هو رابعكم بالعلم (4) .
قرأ يعقوب: "ولا أكثرُ" بالرفع، وقرأ الباقون: بالنصب (5) .
قال الزمخشري (6) : فمن رفع: عطف على محل "لا" مع "أدنى"؛ كقولك: لا حولَ ولا قوةٌ إلا بالله، بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك: لا حولٌ ولا قوةٌ إلا بالله، وأن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل "من نجوى"، كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم.
ومن نصب: فعلى أن "لا" لنفي الجنس، ويجوز أن يكونا مجرورين
__________
(1) ... النشر (2/385)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:412).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:457).
(3) ... معاني الزجاج (5/137).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/263).
(5) ... النشر (2/385)، والإتحاف (ص:412).
(6) ... الكشاف (4/489).(1/26)
عطفاً على "نجوى"، كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم.
ِNs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا(1/27)
تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ اتةب
قوله تعالى: { ألم ترى إلى الذين نُهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم، فيحزنون لذلك. فلما طال ذلك وكثر شَكَوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،(1/28)
فنهاهم أن يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا (1) .
والنَّجْوَى: مشتق من النَّجْوَة، وهو ما ارتفع وبَعُدَ؛ سميت بذلك؛ لبُعد الحاضرين عنها (2) .
وحكى ابن سراقة: أن السِّرار: ما كان بين اثنين، والنجوى: ما كان بين ثلاثة (3) .
{ ويتناجون } وقرأ حمزة ويعقوب بخلاف عنه: "ويَنْتَجُون" مثل: يَشْتَرُون (4) . والمعنى: ويتناجون { بالإثم والعدوان } على المؤمنين { ومعصية الرسول } لأنه نهاهم عن النجوى.
{ وإذا جاؤوك حَيَّوْكَ بما لم يُحَيِّكَ به الله } وهو قول اليهود ومن انتحل مذهبهم من المنافقين: السَّام عليك.
أخرج الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "[استأذن] (5) رهط من اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، فقالت عائشة: فقلت: بل السام عليكم واللعنة، قال: يا عائشة! إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/188).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: نجا).
(3) ... ذكره الماوردي (5/490).
(4) ... الحجة للفارسي (4/34)، والحجة لابن زنجلة (ص:704)، والكشف (2/314)، والنشر (2/385)، والإتحاف (ص:412)، والسبعة (ص:628).
(5) ... في الأصل: استأذ. والتصويب من ب، ومسند أحمد (6/37).(1/29)
قال: قد قلتُ: وعليكم" (1) .
وأخرجه البخاري عن أبي نعيم، ومسلم عن زهير كلاهما عن ابن عيينة (2) .
قال ابن زيد والزجاج (3) : السَّام: الموت (4) .
وكانوا إذا خرجوا يقولون فيما بينهم: لو كان نبياً لاستجيب له فينا، فذلك قولهم: { لولا يعذبنا الله بما نقول } .
فإن قيل: ما الذي حيّاه الله تعالى به؟
قلتُ: قوله تعالى: { وسلام على عباده الذين اصطفى } [النمل:59]، فالسلام هو التحية التي ارتضاها للأنبياء والأولياء في الجنة.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } قال عطاء ومقاتل (5) : يريد: المنافقين (6) . على معنى: آمَنُوا بألسنتهم أو على زعمهم.
ويجوز عندي: أن يكون على طريقة التهكم بهم، كقول الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم - : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [الحجر:6].
وذكر جماعة، منهم الزجاج (7) : أنه خطابٌ للمؤمنين، نُهوا أن يفعلوا
__________
(1) ... أخرجه أحمد (6/37 ح24136).
(2) ... أخرجه البخاري (6/2539 ح6528)، ومسلم (4/1706 ح2165).
(3) ... معاني الزجاج (5/137).
(4) ... ذكره الطبري (28/15)، والماوردي (5/490)، عن ابن زيد.
(5) ... تفسير مقاتل (3/332).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/190).
(7) ... معاني الزجاج (5/138).(1/30)
فعل اليهود والمنافقين، فقال: { إذا تناجيتم... الآية } .
ثم أخبر أن ذلك من فعل الشيطان فقال: { إنما النجوى من الشيطان } من تزيينه وتسويله، { ليحزن الذين آمنوا } ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوهم يتناجون ترامت بهم الظنون وقالوا: لعلهم قد سمعوا عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتلاً وهزيمة، وما أشبه ذلك مما يحزنهم.
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى التي هي في مظنة الأذى، ففي الصحيح (1) من حديث ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه" (2) .
قوله تعالى: { وليس بضارهم } أي: وليس الشيطان. وقيل: الحزن بضار المؤمنين { شيئاً إلا بإذن الله } قال مقاتل (3) : إلا بإذن الله في الضرّ.
ثم ندب الله تعالى المؤمنين إلى الالتجاء إليه والاعتماد عليه فقال: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
__________
(1) ... في ب: الصحيحين.
(2) ... أخرجه مسلم (4/1718 ح2184).
(3) ... تفسير مقاتل (3/332).(1/31)
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اتتب
قوله تعالى: { إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } قرأ عاصم: "في المجالس" على إرادة العموم، أو لأن مجلسَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجلسٌ لكل واحد منهم. وقرأ الباقون: "في المجلس" (1) .
قال مقاتل بن حيان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرم أهل بدر، فجاء ناس منهم يوماً وقد سُبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون أن يُوسع لهم فلم يوسع، فشقّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لمن حوله: قم يا فلان قم يا فلان، وشقّ ذلك على من أقيم، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/35)، والحجة لابن زنجلة (ص:704)، والكشف (2/314-315)، والنشر (2/385)، والإتحاف (ص:412)، والسبعة (ص:628-629).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3343-3344). وذكره السيوطي في الدر (8/82) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/32)
قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضَنُّوا بمجلسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرهم الله أن يَفْسَحَ بعضُهم لبعض (1) .
ومعنى: تفسحّوا توسعّوا.
{ فافسحوا } أي: ليفسح بعضكم لبعض، { يفسح الله لكم } في الجنة.
وقيل: في كل ما تحبون الفسحة فيه، من مكان ورزق وقبر وغيره.
وقيل: نزلت في مراكز القتال، وهو قول ابن عباس والحسن وأبي العالية في آخرين (2) .
وكانوا رضي الله عنهم يتراصّون فيها، فيأتي الرجل الصف فيقول: تفسحّوا لي، فيأبون؛ حرصاً على الشهادة.
{ وإذا قيل انشِزُوا فانشِزُوا } قرأ نافع وابن عامر وعاصم: بضم الشين (3) . والابتداء على هذه القراءة: "أُنشزوا" بضم الهمزة.
قال الحسن: إذا قيل لكم انهضوا إلى قتال عدوكم فانهضوا (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/17)، وابن أبي حاتم (10/3343). وذكره السيوطي في الدر (8/82) وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (28/17) ، عن ابن عباس، ولفظه: ذلك في مجلس القتال. وذكره الماوردي (5/492)، والسيوطي في الدر (8/81) وعزاه لعبد بن حميد، كلاهما عن الحسن.
(3) ... الحجة للفارسي (4/35)، والحجة لابن زنجلة (ص:705)، والكشف (2/315)، والنشر (2/385)، والإتحاف (ص:412)، والسبعة (ص:629).
(4) ... ذكره الماوردي (5/492)، والسيوطي في الدر (8/81) وعزاه لعبد بن حميد.(1/33)
وقال قتادة: إذا دُعيتم إلى خير فأجيبوا (1) .
وهو عامّ في كل ما يأمرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأصله من النَّشْز، وهو المكان المرتفع (2) .
{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم } من المؤمنين [ { درجات } .
قال ابن عباس: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين] (3) على الذين لم يؤتوا العلم درجات (4) .
وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس! افهموا هذه الآية ولْترغّبْكُم في العلم، فإن الله يرفعُ المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات (5) .
قال الماوردي (6) : يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أن يكون إخباراً عن حالهم عند الله تعالى في الآخرة.
والثاني: أن يكون [أمراً] (7) برفعهم في المجالس المقدم ذكرها، ليترتّب
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/18). وذكره السيوطي في الدر (8/82) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: نشز).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الحاكم (2/523 ح3793) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في الدر (8/82-83) وعزاه لابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/194).
(6) ... تفسير الماوردي (5/493).
(7) ... في الأصل: إخباراً. والتصويب من ب، والماوردي (5/493).(1/34)
الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم.
وهذه الآية من جملة دلائل فضل العلم وأهله، وفي ذلك من الآثار والأخبار والدلائل العقلية ما لو ذكرتُ شطره لطال الكتاب، فتطلّبْ ذلك في أماكنه ومظانّه تجده.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا(1/35)
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ اتجب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول } أي: إذا أردتم مناجاته، بدليل قوله: { فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } .
قال ابن عباس: سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل هذه الآية (1) .
وقال المقاتلان (2) : كان المكثرون يكثرون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبون الفقراء عليه، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فنزلت هذه الآية.
قال المفسرون: لم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/20)، وابن أبي حاتم (10/3344). وذكره السيوطي في الدر (8/83) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... تفسير مقاتل بن سليمان (3/334).(1/36)
تصدق بدينار (1) .
وكان علي عليه السلام يقول: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي؛ آية النجوى، كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فلما أردت أن أناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمت درهماً فنسختها الآية الأخرى: { أأشفقتم... الآية } (2) .
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى الصدقة { خير لكم } لما فيه من طاعة الله { وأطهر } لذنوبكم، { فإن لم تجدوا } يعني: ما تقدمونه بين يدي نجواكم صدقة { فإن الله غفور رحيم } .
ثم نسخت [بالآية] (3) التي بعدها.
قال المفسرون: لم تَطُل مدة النسخ.
ويروى أن علياً عليه السلام قال: ما كانت إلا ساعة (4) .
وقال مقاتل بن حيان: كانت عشر ليال، ثم أنزل الله: { أأشفقتم } (5) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:660). وذكره الماوردي (5/493)، والسيوطي في الدر (8/84) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، كلاهما عن مجاهد.
(2) ... أخرجه الطبري (28/20)، وابن أبي شيبة (6/373 ح32125)، والحاكم (2/524 ح3794). وذكره السيوطي في الدر (8/84) وعزاه لسعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.
(3) ... في الأصل: الآية. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الماوردي (5/493)، والسيوطي في الدر (8/83-84) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5) ... ذكره الماوردي (5/493)، والسيوطي في الدر (8/84) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/37)
قال ابن عباس: أَبَخِلْتُم (1) .
والمعنى: أَخِفْتُم [العَيْلة] (2) إن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات.
{ فإذ لم تفعلوا } ما أُمرتم به وشقَّ عليكم، { وتاب الله عليكم } وعَذَرَكُم فرخَّص لكم بالنسخ، فلا تُفَرِّطُوا فيما أمركم به أمراً جازماً، وشرعَه لكم شرعاً لازماً؛ من الصلاة والزكاة وسائر الطاعات.
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/266).
(2) ... في الأصل: العلية. والتصويب من ب.(1/38)
جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا(1/39)
إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ اتزب
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } وهم المنافقون كانوا يتولون اليهود وينقلون إليهم أسرار المؤمنين.
{ ما هم منكم ولا منهم } يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود.
{ ويحلفون على الكذب } قال السدي ومقاتل (1) : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وكان رجلاً أزرق، يجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرفع حديثه إلى اليهود (2) .
وفي صحيح الحاكم من حديث ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في ظل حُجْرة من حُجَره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له... الآية } " (3) .
والواو في قوله: { وهم يعلمون } واو الحال (4) ، وهو أبلغ في ذمهم
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/334).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/196).
(3) ... أخرجه أحمد (1/267 ح2407)، والحاكم (2/524 ح3795).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/290).(1/40)
واجترائهم على الله حيث حلفوا، عالمين بكذب أنفسهم.
قوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } أي: سُتْرة يستترون بها من القتل.
وقرئ شاذاً: "إِيمانهم" بكسر الهمزة (1) .
{ فصدوا عن سبيل الله } قال السدي: صدوا الناس عن دين الإسلام (2) .
يريد: أنهم في حال أمنهم كانوا يُثبّطون من لقوا عن الدخول في الإسلام، ويُوهِنُون شأنه في قلوبهم.
وقيل: المعنى: وصَدوا المؤمنين عن جهادهم وأخذ أموالهم بما أظهروه لهم من الإيمان.
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { فيحلفون له } قال قتادة ومقاتل (3) : يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا (4) .
{ ويحسبون أنهم على شيء } من النفع، { ألا إنهم هم الكاذبون } المتوغّلون في الكذب، المفرطون فيه، حيث كذبوا وحلفوا لله الذي يعلم السر وأخفى أنهم كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: { استحوذ عليهم الشيطان } استولى وغلب عليهم.
قال المبرد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به.
قال غيره: ومنه قول عائشة رضي الله عنها في وصف عمر بن
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/236)، والدر المصون (6/290).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/197).
(3) ... تفسير مقاتل (3/335).
(4) ... أخرجه الطبري (28/24). وذكره السيوطي في الدر (8/85) وعزاه لعبد بن حميد.(1/41)
الخطاب: كان أحوذياً، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها (1) .
تصفه بالقوة والإحاطة بأسباب السياسة وحسن الرعاية والحفظ.
وقد ذكرتُ اشتقاق الاستحواذ في سورة النساء (2) .
¨bخ) الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/434 ح37055).
(2) ... عند الآية رقم: 141.(1/42)
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ اثثب
قوله تعالى: { إن الذين يحادون الله ورسوله } من المنافقين وغيرهم، { أولئك في الأذلين } الأسفلين.
{ كَتَبَ الله } قضى { لأغلبن أنا ورسلي } قال المفسرون: مَنْ بُعث من الرسل بالحرب فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب فهو غالبٌ(1/43)
بالحجة (1) .
{ إن الله قوي عزيز } فهو ينصر حزبَه وأولياءه، ويخذل أعداءه.
قوله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر } يعني: إيماناً حقيقياً لا فرية فيه ولا مرية، { يوادون من حاد الله ورسوله } قال الزمخشري (2) : هذا من باب التخييل، خيل أن مِنَ الممتنع المحال: أن تجد قوماً [مؤمنين] (3) يوالون المشركين، والغرضُ به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في [مجانبة] (4) أعداء الله، وزاد ذلك تشديداً بقوله: { ولو كانوا آباءهم } وبقوله: { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } وبمقابلة قوله: { أولئك حزب الشيطان } ، وبقوله: { أولئك حزب الله } ، فلا تجد شيئاً أَدْخَلُ في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؛ فقال ابن جريج: حُدثتُ أن أبا قحافة سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - [فصكّه أبو بكر صكّة] (5) سقط منها. ثم ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أو فعلته] (6) ؟ قال: نعم. قال: فلا تَعُد. فقال أبو بكر: والله! لو كان السيف مني
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/198).
(2) ... الكشاف (4/496).
(3) ... في الأصل: يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: مجانبته. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: فصحكه أبو بكر صحكة. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: أفعلته. والتصويب من ب.(1/44)
قريباً لقتلته، فأنزل الله هذه الآية (1) .
وقال ابن مسعود: نزلتْ في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البِراز فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرعيل الأول؟ فقال: أمتعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أُحُد، وفي عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة ابني ربيعة (2) .
وقال السدي: نزلتْ في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك؟ قال: وما تصنع بها؟ قال: أسقيها أبي لعل الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه. فقال: ما هذا؟ قال: فضلة شراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جئتك بها لتشربها، لعل [الله] (3) يطهر قلبك، فقال: هلاّ جئتني ببول أمك، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ائذن لي في قتل أبي، [فقال] (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارفق به وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية (5) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/497)، والواحدي في أسباب النزول (ص:434). وذكره السيوطي في الدر (8/86) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:434)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/198).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: قال. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/199).(1/45)
وقيل: نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة (1) . وسنذكرها إن شاء الله في أول الممتحنة.
قوله تعالى: { كتب في قلوبهم الإيمان } أي: أثبت في قلوبهم التصديق.
ومعناه: جمع في قلوبهم الإيمان حى استكملوه.
{ وأيّدهم بروح منه } قال ابن عباس: هو النصر (2) ، سمي روحاً؛ لأن به حياةَ أمرهم.
وقال الربيع: الرُّوح: القرآن (3) .
وقال السدي: الإيمان (4) .
وقال مقاتل (5) : الرحمة.
وقيل: جبريل عليه السلام (6) .
__________
(1) ... وذلك حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم عام الفتح.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/268)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/200).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/200).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... تفسير مقاتل (3/336).
(6) ... قاله الماوردي (5/496).(1/46)
وما بعده ظاهر ومُفسّر إلى آخر السورة. والله أعلم.(1/47)
سورة الحشر
ijk
وهي أربع وعشرون آية، وهي مدنية بإجماعهم (1) .
قال المفسرون: نزلت جميعها في بني النضير (2) .
وكان ابن عباس يسميها سورة بني النضير (3) .
yx7y™ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:243).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1852 ح4600). وذكره السيوطي في الدر (8/88) وعزاه لسعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه.
(3) ... انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/154). قال ابن حجر في الفتح (7/332): كأن ابن عباس كره تسميتها سورة الحشر؛ لئلا يُظَنّ أن المراد بالحشر يوم القيامة، وإنما المراد به هنا إخراج بني النَّضِير.(1/48)
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ(1/49)
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا ؛pyJح !$s% عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ اخب
الإشارة إلى قصتهم:
قال العلماء بالتفسير والسير: لما قدمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منهم، فلما غزا رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً [وظهر] (1) على المشركين قالت بنو النضير: والله! إنه النبي الذي نجد نعته في التوراة لا تردّ له راية، ثم قالوا: استأنُوا به حتى ننظر ما يكون من أمره في وقعة أخرى، فلما كانت أُحُد وانهزم المسلمون ارتابت بنو النضير، وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - [والمؤمنين] (2) ، فركب
__________
(1) ... في الأصل: وظهراً. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: والمؤمنون. والتصويب من ب.(1/50)
كعب بن [الأشرف] (1) في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة فأتوا قريشاً فحالفوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد، وتَوَثّقوا على ذلك بين أستار الكعبة، فنزل جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فلما قَفَل كعبُ بن الأشرف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فانتدب له أخوه من الرضاعة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه، فقتله، وقصة قتْله معروفة عند أهل النقْل.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلع من بني النضير على خيانة ونقض عهد، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعلي في نفر من أصحابه يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمنهما، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، فقال عمرو بن جَحَّاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مِشْكَم: لا تفعلوا والله ليُخْبَرَنَّ بما هممتهم به، فأوحى الله تعالى إليه ما [كادوه] (2) به، فنهض سريعاً فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه، فقالوا: قُمتَ يا رسول الله ولم نشعر! فقال: همّت يهودُ بالغدر، فأخبرني الله بذلك فقمت، وبَعَثَ إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشراً، فمن رُؤي بعد ذلك منكم ضُربت عنقه، فأخذوا في التجهيز، فدسّ إليهم ابن أُبيّ يقول: لا تخرجوا فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدُّكُم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فاغترّوا بقوله، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنا لا نخرج فاصنع ما بدا لك،
__________
(1) ... في الأصل: الأشر. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: دوه. والتصويب من ب.(1/51)
فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربتْ [يهود] (1) ، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة فاعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أُبيّ وحلفاؤهم من غطفان، وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين ليلة، وقَطَعَ نخلهم، فضرعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما [يأمرهم] (2) به، فقالوا: ذلك لك، فصالحهم على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقَلَّتْ إبلُهم من أموالهم إلا الحَلْقَة، وهي السلاح (3) .
وقال ابن عباس: صالحهم على أن يحمل أهل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم، ولنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي، فخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر (4) .
فوجد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين
__________
(1) ... في الأصل: اليهود. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: مرهم. والتصويب من ب.
(3) ... أخرج بعضه أبو داود (4/234- 235 ح 3004). وأخرجه مطولاً عبد الرزاق (5/359 - 360 ح 9733)، وعزاه السيوطي في الدر (8/93) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.
... وانظر قصة إجلاء بني النضير في: الطبقات الكبرى (2/57-58)، والبداية والنهاية (4/74-75)، وتاريخ الطبري (2/83-85).
(4) ... أخرجه الطبري (28/31-32) . وعزاه السيوطي في الدر المنثور (8/91) لابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.(1/52)
سيفاً (1) ، فذلك قوله تعالى: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني: يهود بني النضير.
[ { من ديارهم } قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير] (2) مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أُحُد، وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان (3) .
{ لأول الحشر } قال ابن عباس: هم أول من حُشِرَ وأُخْرِجَ من دياره (4) .
قال ابن السائب: هم أول من نُفي من أهل الكتاب (5) .
وقال الحسن: هذا أول حشرهم، والحشر الثاني إلى أرض المحشر يوم القيامة (6) .
قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام، فليقرأ هذه الآية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم يومئذ: اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر (7) .
وقال مرة الهمداني: كان هذا أول الحشر لأنهم من المدينة، والحشر
__________
(1) ... أخرجه الواقدي (1/377) .
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/268).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/204).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/270)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/204).
(6) ... ذكره الماوردي (5/499)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/204).
(7) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3345). وذكره السيوطي في الدر (8/89) وعزاه للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس.(1/53)
الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى يديه (1) .
وقال قتادة: كان هذا أول الحشر، والثاني نارٌ تحشرهم من المشرق إلى المغرب، تبيتُ معهم إذا باتوا، وتقيلُ معهم إذا [قالوا] (2) ، وتأكلُ منهم من تخلّف (3) .
قوله تعالى: { ما ظننتم أن يخرجوا } أي: ما حسبتم ذلك لشدة بأسهم وكثرة عَدَدهم وعُدَدهم { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي: توهموا أن حصونهم مانعتهم، أي: عاصمتهم من بأس الله وسلطان رسوله، { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } من حيث لم يظنوا، ولم يخطر ببالهم، مِنْ قتل رئيسهم كعب بن الأشرف بيد أخيه من الرضاعة، فإنه كان سبب فشلهم وفَلِّ شوكتهم.
{ وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف الذي ملأ قلوبهم.
قرأ أبو عمرو: "يُخَرِّبُونَ" بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الراء. وقرأ الباقون: بضم الياء وسكون الخاء وتخفيف الراء (4) .
قال أبو عمرو: إنما اخترتُ التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً
__________
(1) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/268-269).
(2) ... في الأصل: أقبلوا. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (28/29). وذكره الماوردي (5/499).
(4) ... الحجة للفارسي (4/37)، والحجة لابن زنجلة (ص:705)، والكشف (2/316)، والنشر (2/386)، والإتحاف (ص:413)، والسبعة (ص:632).(1/54)
بغير ساكن، وأن بني النضير نقضوا منازلهم ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة (1) .
قال ابن جرير (2) : المشددة معناها: النقض والهدم، والمخففة معناها: ما [يخرجون] (3) منها ويتركونها خراباً معطلة.
وقال قوم: التخريب والإخراب واحد.
والذي دعاهم إلى التخريب: حاجتهم إلى الخشب والحجارة، ليسدوا أفواه الأزقّة.
قال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها؛ ليتسع لهم المَقَاتِل، وجعل أعداءُ الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها يتحصنون فيها (4) .
وقال الضحاك: جعل المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم نقضوا من أبنيتهم ما يبنون به ما خرّبه المسلمون (5) .
وقال ابن زيد: كانوا يقلعون العُمُد وينقضون السقوف، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد؛ لئلا يسكنها المسلمون، حسداً (6) منهم وبغضاً (7) .
__________
(1) ... الطبري (28/30).
(2) ... الطبري (28/30).
(3) ... في الأصل: يخربون. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير (8/205).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/205-206).
(5) ... أخرجه الطبري (28/30). وذكره الماوردي (5/500).
(6) ... في الأصل زيادة قوله: لهم. وانظر النص في: تفسير البغوي (4/315).
(7) ... أخرجه الطبري (28/30). وذكره الماوردي (5/500).(1/55)
ومعنى تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين: أنهم عرّضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه.
{ فاعتبروا } أي: تدبّروا ناظرين في عواقب الأمور { يا أولي الأبصار } يا أرباب العقول.
قوله تعالى: { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } أي: ولولا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا جميعهم من بيوتهم [بذراريهم] (1) ونسائهم، { لعذبهم في الدنيا } بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة { ولهم في الآخرة } مع ما أصابهم في الدنيا { عذاب النار } .
{ ذلك } الذي أصابهم { بأنهم شاقوا الله ورسوله } وقد سبق بيان المشاقة في البقرة.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: قد دلّت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم، من غير سبي، ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم؛ لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، وإنما يجوز ذلك الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم ولم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو [الذمة] (2) ، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على [الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على] (3) مجهول من
__________
(1) ... في الأصل: بذرارهم. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: ذمة. والتصويب من ب.
(3) ... زيادة من زاد المسير (8/207).(1/56)
المال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على أرضهم وعلى الحلقة (1) ، وترك لهم ما أقلّت الإبل، وذلك مجهول (2) .
قوله تعالى: { ما قطعتم من لينة } وهي النخل كله ما خلا البرني والعجوة، في قول ابن عباس، وعامة المفسرين واللغويين (3) .
قال الزجاج (4) : أهلُ المدينة يُسمُّون جميع النخل: الألوان، ما خلا البرني والعجوة. [وأصل] (5) لينة: لِوْنَة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
وقال مقاتل (6) : هي ضربٌ من النخل يقال لثمرها: اللّون (7) ، وهو شديد الصفرة، يُرى نواه من خارج، يغيب فيه الضرس، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم. وكانت النخلةُ الواحدة منها ثمنَ وَصِيف، وأحبّ إليهم من وصيف، فلما [رأوا] (8) ذلك الضرب يُقطع، شقّ عليهم مشقةً شديدة، وقالوا للمؤمنين: تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر، دَعُوا هذا النخل فإنما هو لمن غلب عليها.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: وما أقلت. وانظر النص في: زاد المسير، الموضع السابق.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/206-207).
(3) ... أخرجه الطبري (28/32-33). وانظر: الدر المنثور (8/98).
(4) ... معاني الزجاج (5/144).
(5) ... في الأصل: وأصله. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج (5/144).
(6) ... تفسير مقاتل (3/338).
(7) ... في مقاتل: اللين.
(8) ... في الأصل: أرادوا. والتصويب من ب، وتفسير مقاتل (3/338).(1/57)
وقال سفيان: اللِّينة: كرائم النخل (1) .
قال الضحاك: قطعوا وأحرقوا ست نخلات (2) .
وقال مقاتل (3) : أربعة.
وقال ابن إسحاق: قطعوا نخلة، وأحرقوا نخلة (4) .
وقال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخيل ونهاهم بعضهم وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هي غيظ للعدو، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع [النخيل] (5) ، وتحليل من قطعه من الإثم، فقال تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } أي: بأمره (6) .
{ وليخزي الفاسقين } أي: ليذل اليهود، أذن في ذلك.
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرّق نخل بني النضير وقطع، فأنزل الله: { ما قطعتم... الآية } " (7) .
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/33). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/208).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/208).
(3) ... تفسير مقاتل (3/338).
(4) ... ذكره الماوردي (5/501)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/208).
(5) ... في الأصل: النخل. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:663)، والطبري (28/33). وذكره السيوطي في الدر (8/91-92) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.
(7) ... أخرجه البخاري (4/1479 ح3807)، ومسلم (3/1365 ح1746).(1/58)
وهَانَ على سَراةِ بني لُؤي ... ... حَريقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِير (1)
والذي يظهر في نظري ويدل عليه ظاهر الآية والحديث والشعر ودلالة الحال: أن الذي قُطِعَ وحُرِّقَ أكثر مما نقله أهل السير.
!$tBur أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
__________
(1) ... البيت لحسان. وهو في: القرطبي (18/7، 8)، والطبري (28/34)، واللسان (مادة: طير)، والدر المنثور (8/91، 98)، والماوردي (5/501)، وتاج العروس (مادة: بور، طير).(1/59)
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ(1/60)
الصَّادِقُونَ ارب
قوله تعالى: { وما أفاء الله على رسوله } أي: ما جعله فَيْئاً له { منهم } أي: من بني النضير { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } قال أبو عبيدة (1) : الإيجاف: الإيضاع، والرِّكاب: الإبل.
قال ابن قتيبة وغيره (2) : يقال: وَجَفَ الفرسُ والبعيرُ يَجِفُ وَجِيفاً: إذا أسْرَعَ في السَّيْر، وأوْجَفَه صاحبه (3) ، ومثله: الإيضاع.
قال الزجاج (4) : معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال المفسرون: [طلب] (5) المسلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخمّس أموال بني النضير كما فَعَلَ بغنائم بدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يبين أنها فيء لم يوجفوا عليها خيلاً ولا ركاباً.
{ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } فهو الذي سلط محمداً - صلى الله عليه وسلم - على بني النضير.
فلما خصّ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بأموال بني النضير وجعل الأمر له قَسَمَهَا في المهاجرين لموضع حاجتهم، ولم يُعط أحداً من الأنصار شيئاً سوى ثلاثة
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/256).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:460).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: وجف).
(4) ... معاني الزجاج (5/145).
(5) ... في الأصل: خاطب. والتصويب من ب.(1/61)
كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمّة.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن (1) علي بن أبي بكر، قالا: أخبرنا عبدالأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان -غير مرة-، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان (2) ، عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، يُنفق على أهله منها نفقة [سنته] (3) ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع (4) .
قال المفسرون: ثم ذكر الله تعالى حكم الفيء، فذلك قوله تعالى: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله } يَحْكُمُ فيه بما يريد، ولرسوله بتمليك الله (5) [إياه، فأربعة أخماس الفيء للرسول، والخُمس الآخر للمذكورين في الآية.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: بن. وهو خطأ.
(2) ... مالك بن أوس بن الحدثان بن سعد بن يربوع البصري، أبو سعيد المدني، مختلف في صحبته، مات سنة اثنتين وتسعين (تهذيب التهذيب 10/9، والتقريب ص:516).
(3) ... في الأصل: سنة. والتصويب من ب، والبخاري (3/1063).
(4) ... أخرجه البخاري (3/1063 ح2748).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: له. وقد سقط قدر لوحة من الأصل. واستدركت من النسخة ب.(1/62)
واختلفوا فيما يصنع به بعد موته؛ وقد ذكرناه في الأنفال (1) . وهذا قول جماعة من الفقهاء والمفسرين.
قال الزمخشري (2) : لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيانٌ للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها. بيّن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصنع بما أفاء الله عليه، وأمره أن يَضَعَهُ حيث يَضَعُ الخمُس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة.
فصل
اعلم أن الفيء: ما أُخذ من أموال المشركين بغير قتال؛ كالجزية والخراج والعُشُور المأخوذة من تجارهم، وما بذلوه في الهدنة أو صالحوا عليه ونحو ذلك؛ فذكر الخرقي رحمه الله: أنه يُخَمَّس، فيُصرف خُمُسُه إلى من يُصرف إليه خُمُسُ الغنيمة لهذه الآية، وهذا مذهب الشافعي (3) ، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الأخرى عنه -وهي المشهورة من مذهبه، وبها يُفتي عامة أصحابه-: أنه لا يُخَمَّس (4) .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قرأ هؤلاء الآيات إلى قوله: { والذين تبوؤوا الدار } ، { والذين جاؤوا من بعدهم } : استوعبت جميعَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 41.
(2) ... الكشاف (4/502).
(3) ... انظر: الحاوي (8/388).
(4) ... انظر: المغني (6/313).(1/63)
المسلمين، ولئن عشتُ ليأتينّ الراعي بسَرْو حِمْيَر نصيبُه منها لم يعرق فيه جبينه (1) . وهذا قول أكثر أهل العلم.
وعلى المذهبين جميعاً: يُبدأ فيه بالأهم فالأهم من كفاية أجناد المسلمين وأرزاقهم، وسدِّ الثغور، وحفر الخنادق، وعمل القناطر، وعمارة المساجد، وأرزاق القضاة، والعلماء، والأئمة، والمؤذنين، إلى غير ذلك من المصالح العامة، وما فَضَلَ بعد ذلك قسَمه في المسلمين.
وذكر القاضي أبو يعلى رحمه الله: أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم؛ لأن ذلك كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحصول النصرة به، فلما مات أُعطي لمن يقوم مقامه في ذلك، وهم المقاتِلة دون غيرهم (2) .
وقال الثعلبي في تفسيره (3) : كان الفيءُ يُقْسَم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة وعشرين سهماً؛ أربعة أخماسها، وهي عشرون سهماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يفعل فيها ما يشاء، والخمس الباقي يُقسم على ما يُقْسَم عليه خمس
__________
(1) ... أخرجه عبد الرزاق (11/101 ح 20040) وأبو عبيد، بنحوه، في الأموال (ح41 ص:20)، والطبري (28/37)، والبيهقي في الكبرى (6/351 ح12782). وذكره السيوطي في الدر (8/102) وعزاه لعبد الرزاق وأبي عبيدة وابن زنجويه معاً في الأموال وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه.
... وسرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل.
(2) ... انظر: المغني (6/319).
(3) ... تفسير الثعلبي (9/275-276).(1/64)
الغنيمة.
وأما بعد وفاته فقد اختلف الفقهاء في الأنفقة التي كانت له - صلى الله عليه وسلم - من الفيء، فقال قوم: يُصرف إلى المجاهدين، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال آخرون: يُصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار ونحوها، وهو القول الآخر للشافعي (1) .
وأما السهمُ الذي كان له من خمس الفيء وخمس الغنيمة، فإنه يُصرف بعده إلى مصالح المسلمين بلا خلاف (2) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "والخُمُس مردودٌ فيكم" (3) .
قوله تعالى: { كيلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم } قرأ أبو جعفر والصيدلاني عن ابن ذكوان: "تكون" بالتاء، "دُولةٌ": بالرفع (4) ، على معنى: كَيْلا يقع ويحدث دُولَة.
وقرأ الباقون من العشرة: "يكون" بالياء، "دُولةً" بالنصب، على معنى: كيلا يكون الفيء دُولة.
قال الماوردي (5) : يقال: دُولة بضم الدال، ودَولة بفتحها. وقد قرئ بهما، وفيهما قولان:
__________
(1) ... انظر: الحاوي (8/429). ...
(2) ... انظر: الحاوي (8/441). ...
(3) ... أخرجه أبو داود (3/63 ح2694)، ومالك في الموطأ (2/457 ح977) من حديث عمرو بن شعيب.
(4) ... النشر (2/386)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:413).
(5) ... تفسير الماوردي (5/503).(1/65)
أحدهما: أنها سواء، وهو قول يونس والأصمعي.
والثاني: أن بينهما فرقاً. واختُلف في الفَرْق على [أربعة] (1) أوجه:
أحدها: أن الدَّولة -بالفتح-: الظَّفَر في الحرب، والدُّولة -بالضم-: الغنى عن فقر. هذا قول أبي عمرو ابن العلاء.
والثاني: أن الدَّولة -بالفتح-: في الأيام، والدُّولة -بالضم-: في الأموال. وهذا قول أبي عبيدة.
والثالث: أن الدَّولة -بالفتح-: ما كان كالمستقرّ، والدُّولة -بالضم-: [ما كان كالمستعار. حكاه ابن كامل.
والرابع: أنه بالفتح: الطعن في الحرب، وبالضم] (2) : أيام المُلْك وأيام السنين التي تتغير. وهذا قول الفراء (3) .
قال حسان بن ثابت:
ولقد نِلْتُم ونِلنا منكُمُ ... وكذاكَ الحربُ أحياناً دُوَلْ (4)
وقال الزجاج (5) : الدُّولَة: اسم الشيء الذي يُتداول، والدَّوْلَة: الفعل والانتقال من حال إلى حال.
فعلى هذا القول: يكون المعنى على قراءة من ضَمَّ الدال: كيلا يكون
__________
(1) ... في ب: ثلاثة. والتصويب من الماوردي، الموضع السابق.
(2) ... زيادة من تفسير الماوردي (5/503).
(3) ... معاني الفراء (3/145).
(4) ... البيت لحسان بن ثابت. انظر: ديوانه (ص:181)، وسيرة ابن هشام (4/93)، والماوردي (5/503).
(5) ... معاني الزجاج (5/146).(1/66)
الفيءُ شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه، فلا يُصيب الفقراء.
ويكون المعنى على قراءة من فَتَحَ الدال: كيلا يكون ذا تداول بينكم، أو كيلا يكون إمساكه تداولاً بينكم لا تُخرجونه إلى الفقراء.
قوله: { وما آتاكم الرسول فخذوه } أي: ما أعطاكم من قسمةِ غنيمةٍ أو فَيْء فَخُذُوه، { وما نهاكم عنه فانتهوا } وهذا وإن كان سبب نزوله ما ذكرناه، إلا أنه عامٌّ في كل ما أمر به ونهى عنه - صلى الله عليه وسلم - ، بدليل ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله [قال] (1) : "لعن الله الواشمات والمتوشّمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحُسن، المغيّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعنُ ما لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدتُ فيه ما تقول، قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه " (2) .
قال الزجاج (3) : ثم بيّن مَنِ المساكين فقال: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } .
__________
(1) ... زيادة من البخاري (4/1853).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1853 ح4604).
(3) ... معاني الزجاج (5/145).(1/67)
قال المفسرون: يريد: المهاجرين.
{ يبتغون فضلاً من الله } رزقاً يأتيهم { ورضواناً } رضاه عنهم.
قال قتادة: ذُكر لنا أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على] (1) بطنه ليقيم به صُلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفرة في الشتاء ما له دثار غيرها (2) .
tûïد%©!$#ur تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ
__________
(1) ... إلى هنا ينتهي السقط من الأصل، والمثبت من نسخة ب.
(2) ... أخرجه الطبري (28/40). وذكره السيوطي في الدر (8/105) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/68)
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ اتةب
قوله تعالى: { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم } وهم الأنصار. وهذه الجملة معطوفة على "المهاجرين".
قال أبو علي (1) : المعنى: تبوؤوا الدار ودار الإيمان من قبلهم.
وقال غيره: تبوؤوا الدار وآثروا الإيمان، أو وقبلوا الإيمان من قبلهم.
قال الزمخشري (2) : المعنى: تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان؛ كقوله:
وعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... ... .................... (3)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/383).
(2) ... الكشاف (4/504).
(3) ... تقدم.(1/69)
أو جعلوا الإيمان مستقَرّاً ومتوَطَّناً لهم؛ لتمكنهم منه، واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك. أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في "الدار" مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه. أو سمى المدينة داراً؛ لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان بالإيمان، "من قبلهم" أي: من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان.
وقيل: من قبل هجرتهم.
{ يحبون من هاجر إليهم } وهذا من أحسن ما وصفَهم به؛ لأنه أخبر أنهم يفعلون ذلك مع المهاجرين، مع محبتهم لهم وميلهم إليهم، وفيه تحقيقٌ لمعنى كرم طباعهم بأبلغ الطرق.
{ ولا يجدون } يعني: الأنصار { في صدورهم حاجة مما أوتوا } . قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم غيظاً وحَسَداً مما أوتي [المهاجرون] (1) من الفيء والغنيمة، وخُصّوا به دونهم.
وقال أبو علي: التقدير: لا يجدون في صدورهم مسّ (2) حاجة من فقد ما أوتوا، فحذف المضافين.
وقال غيره من أهل المعاني (3) : يعني: أنهم لم تتبع نفوسهم ما أعطوا،
__________
(1) ... في الأصل: المهاجرين. والتصويب من ب.
(2) ... في ب: من.
(3) ... قاله الزمخشري في: الكشاف (4/504).(1/70)
ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه.
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } أي: يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم [حاجة] (1) شديدة، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم، وآثروهم بما أفاء الله على رسوله.
وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم للمهاجرين ما أفاء الله عليه من النضير [وقيل] (2) من قريظة، على أن يَرُدَّ المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء، فأنزل الله هذه الآية (3) .
وبالإسناد السالف قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: "أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا رجل يُضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدخريه شيئاً. قالت: والله! ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العَشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل:
__________
(1) ... في الأصل: خصاصة. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل و ب: وحمل، وفي الماوردي: ونفل. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) ... ذكره الماوردي (5/506).(1/71)
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } " (1) . وأخرجه مسلم أيضاً.
والرجل هو: أبو طلحة الأنصاري.
وكان أنس بن مالك يحلف بالله ما في الأنصار بخيل، ويقرأ هذه الآية: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... إلى آخر الآية } (2) .
وقال أنس بن مالك: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاة مشوي، وكان مجهوداً، فوجّه به إلى جار له، فتداولته تسعة أنفس ثم عاد إلى الأول (3) ، فأنزل الله هذه الآية (4) .
ويحكى عن أبي الحسين الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الريّ، ولهم أرغفة معدودة لم تَسَعْ جميعَهم، [فكسَّر] (5) الرُّغْفَان وأطفأ السراج وجلسوا للطعام، فلما رُفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثاراً منه على نفسه (6) .
قوله تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } قرأ ابن
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1854 ح4607)، ومسلم (3/1624 ح2054).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/273).
(3) ... في هامش ب: خرجه الحاكم في مستدركه.
(4) ... أخرجه الحاكم (2/526 ح3799)، والبيهقي في الشعب (3/259 ح3479) كلاهما من حديث ابن عمر بنحو هذه القصة. وذكره السيوطي في الدر (8/107) وعزاه للحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.
(5) ... في الأصل: وكسر. والمثبت من ب.
(6) ... ذكره الثعلبي (13/200).(1/72)
السميفع: "يُوَقَّ" بفتح الواو وتشديد القاف (1) .
وفيه إشعار أن الأنصار وُقُوا شُحَّ أنفسهم، وأضيف الشح إلى النفس؛ لأنه غريزةٌ فيها.
قال المفسرون: وهو أن لا يأخذ شيئاً مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله به.
وإذا أردتَ أن تعلم فضيلة السخاء وأنه جِماعُ كل خير، ورذيلةَ الشُّح وأنه جِماع كل شر، فتلمح قوله عليه السلام: "أيُّ داء أدوى من البخل" (2) .
وتُلَمِّحُ هذه الآية كيف حكم بفلاح من وُقي شُحَّ نفسه وجزم به وأكَّدَه فقال: { فأولئك هم المفلحون } .
وقال في موضع آخر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200]، فجاء بصيغة الترجّي، ولم يأت بها هاهنا؛ نظراً إلى ما ذكرناه من المعنى.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يجتمعان في قلب [عبدٍ: الإيمان] (3) ، والشح" (4) .
فصل
ذهب قوم إلى أن الشح والبخل بمعنى واحد.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/215)، والدر المصون (6/296).
(2) ... أخرجه الحاكم (3/242 ح4965).
(3) ... في الأصل: مؤمن. والتصويب من ب، ومسند أحمد (2/340).
(4) ... أخرجه أحمد (2/340 ح8460).(1/73)
وقال أبو سليمان الخطابي: [الشح] (1) أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع.
قال بعضهم: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشحّ أن يبخل بماله ومعروفه (2) .
وقال طاووس: الشحّ: البخل بما في يد غيره، والبخل: منع ما في يده (3) .
وقال سعيد بن جبير: الشحّ: هو أخذ الحرام ومنع الزكاة (4) .
وقال أبو الشعثاء: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، قال: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل (5) .
وفي حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَرئ من الشح من
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/215).
(3) ... ذكره الماوردي (5/507)، والسيوطي في الدر (8/108) وعزاه لابن المنذر.
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (8/108) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... أخرجه الطبري (28/43)، وابن أبي حاتم (10/3346-3347)، والحاكم (2/532 ح3815)، وابن أبي شيبة (5/332 ح26611)، والطبراني في الكبير (9/218 ح9060)، والبيهقي في الشعب (7/426 ح10841). وذكره السيوطي في الدر (8/107) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.(1/74)
أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة" (1) .
قوله تعالى: { والذين جاؤوا من بعدهم } عطفٌ أيضاً على "المهاجرين" (2) .
قال السدي والكلبي: هم الذين هاجروا من بعد ذلك (3) .
وقال مقاتل (4) وغيره: هم الذين يجيؤون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي ليلى: الناسُ على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل (5) .
قال الزجاج (6) : المعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، والذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة، ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ودليل هذا قوله تعالى: { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون } أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ، فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن في قلبه
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/44)، والطبراني في الكبير (4/188 ح4096)، والبيهقي في الشعب (7/427 ح10842).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/297).
(3) ... ذكره الماوردي (5/507).
(4) ... تفسير مقاتل (3/341).
(5) ... أخرجه الطبري (28/45).
(6) ... معاني الزجاج (5/146-147).(1/75)
عليهم غِلّ، فله حَظٌّ في [فيء] (1) المسلمين، ومَنْ شَتَمَهُم ولم يترحّم عليهم، أو كان في قلبه غِلٌ [لهم] (2) فما جعل الله له حقاً في شيء من فيء المسلمين بنَصِّ الكتاب.
وكذلك عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: مَنْ تنقَّص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهم أجمعين، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات (3) .
فقبَّح الله الرافضة من طائفة ما أخسَّها وأهونها على الله وعلى عباده المؤمنين.
روى الشعبي عن بعض أشياخه قال: فَضَلَت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سُئلتِ اليهود: من خير أهل ملّتكم؟ فقالت: أصحاب موسى. وسُئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالت: [حواريّوا] (4) عيسى. وسُئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد. أُمروا بالاستغفار لهم فسبّوهم، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله (5) .
__________
(1) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج (5/147).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه أبو نعيم في: حلية الأولياء (6/327). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/216).
(4) ... في الأصل: حواري. والمثبت من ب.
(5) ... ذكره القرطبي (18/33)، والبغوي (4/321).(1/76)
وقد ذكرتُ في أثناء كتابي هذا من فضائحهم، وقبائحهم، ودلائل ضلالهم وكفرهم، ما أرجو به القربى إلى الله، والزلفى لديه يوم ألقاه.
وما لم أذكر تفسيره هاهنا من ألفاظ الآية فقد ذكرته قبل.
والغِلُّ: الحقدُ الكامِن في الصَّدر.
وقال الأعمش: الغِشّ (1) .
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ
__________
(1) ... ذكر الماوردي (5/507) عن الأعمش في معنى الغل، قال: العداوة.(1/77)
مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ(1/78)
قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ اتذب
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نافقوا } يعني: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، { يقولون لإخوانهم } في الكفر، وهم اليهود { لئن أخرجتم } يعنون: من المدينة { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم } أي: في قتالكم وفي خذلانكم { أحداً أبداً } .
ثم وعدوهم النصر بقوله: { وإن قوتلتم لننصرنكم } ، قال الله مكذباً لهم(1/79)
في مواعيدهم: { والله يشهد إنهم لكاذبون } .
ثم أخبر الله أنهم لا يفعلون ذلك فقال: { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم } أي: ولئن وجد منهم نصرة (1) على سبيل [الفَرَض] (2) والتقدير { ليولن الأدبار } منهزمين.
ثم استأنف الله الإخبار بخذلانهم فقال: { ثم لا ينصرون } يعني: بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم [ناصروهم] (3) بعد ذلك.
قوله تعالى: { لأنتم أشد رهبةً } أي: لأنتم أيها المؤمنون أشد رهبة { في صدورهم } قال مقاتل (4) : في صدور المنافقين.
وقال غيره: في صدور اليهود.
ويجوز عندي: أن يراد الجميع.
{ من الله } أي: من رهبة الله، على معنى: من رهبتهم الله.
قال ابن عباس: هم منكم أشد خوفاً من الله (5) .
{ ذلك } الخوف الذي بهم منكم { بأنهم قوم لا يفقهون } عظمة الله وشدة انتقامه من أعدائه.
ثم ذكر أثر ذلك فقال: { لا يقاتلونكم جميعاً } أي: لا يقدرون على
__________
(1) ... في ب: النصر.
(2) ... في الأصل: القرض. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: ناصرهم. والمثبت من ب.
(4) ... تفسير مقاتل (3/342).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/276).(1/80)
مقاتلتكم مجتمعين متساندين، يعني: اليهود والمنافقين، { إلا في قرى محصنة } بالخنادق والدروب، { أو من وراء جُدُر } دون أن يبرزوا ويُصْحِروا (1) لكم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "جدار" على لفظ الواحد، والمراد الجمع.
وقرأ الباقون: "جُدُر" بضم الجيم والدال على الجمع، كحِمَار وحُمُر (2) .
وقرأ أبو بكر الصديق وابن أبي عبلة: "جَدَرٍ" بفتح الجيم [والدال (3) .
وقرأ عمر بن الخطاب ومعاوية وعاصم الجحدري: "جَدْرٍ" بفتح الجيم] (4) وسكون الدال (5) ، وهي لغة في الجدار.
وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبدالرحمن السلمي وعكرمة والحسن وابن سيرين وابن يعمر: بضم الجيم وسكون الدال، مخففة من جُدُر (6) .
{ بأسهم بينهم شديد } أي: بأسهم الذي يُوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس؛ لأن الشجاع يجبُن، والعزيز يَذِلُّ عند محاربة الله ورسوله.
__________
(1) ... أصحر القوم: إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء (اللسان، مادة: صحر).
(2) ... الحجة للفارسي (4/37)، والحجة لابن زنجلة (ص:705)، والكشف (2/316)، والنشر (2/386)، والإتحاف (ص:413-414)، والسبعة (ص:632).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/218)، والدر المصون (6/298).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:413)، وزاد المسير (8/218).
(6) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:313-314)، وزاد المسير (8/218).(1/81)
قال الواحدي (1) : بعضهم فظّ على بعض، وبينهم مخالفة وعداوة.
{ تحسبهم جميعاً } مجتمعين مؤتلفين { وقلوبهم شتى } مفترقة غير متّفقة، ومختلفة غير مؤتلفة.
وهذا أحد الأسباب التي [فَلَّ] (2) اللهُ بها جَمْعَ اليهود وكسر شوكتهم.
وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود (3) .
وفي ذلك تشجيع للمؤمنين عليهم، وإغراء لهم بهم.
{ ذلك } إشارة إلى اختلافهم فيما بينهم، { بأنهم قوم لا يعقلون } أَنَّ تَشَتُّتَ قلوبهِم مما يُوهنُهُم ويخذُلُهم.
ثم ضرب الله تعالى لليهود مثلاً، فذلك قوله تعالى: { كمثل الذين من قبلهم قريباً } أي: مَثَلُ اليهود كمثل الذين من قبلهم في زمان قريب.
قال مجاهد: كفار قريش يوم بدر (4) ، وكان بينهما ستة أشهر.
وقال ابن عباس: كمثل بني قينقاع (5) .
وقال قتادة: مثلُ قريظة كمثل الذين من قبلهم بني النضير، أُجْلوا عن
__________
(1) ... الوسيط (4/276).
(2) ... في الأصل: قلّ. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:665)، والطبري (28/48). وذكره السيوطي في الدر (8/115) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... مثل السابق.
(5) ... أخرجه الطبري (28/48).(1/82)
الحجاز إلى الشام (1) . وكان بينهما سنتان.
والمراد: [التمثيل بينهم] (2) في الخذلان، واستيلاء أهل الإسلام عليهم.
{ ذاقوا وبال أمرهم } سوء عاقبته في الدنيا، { ولهم عذاب أليم } في الآخرة.
ثم ضرب مثلاً لليهود والمنافقين حين أخلفوهم ما وعدوهم وغروهم فقال تعالى: { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } قال مجاهد: هذا مثلٌ ضربه الله للكافر في طاعة الشيطان، وهو عامٌّ في الناس كلهم (3) .
وذهب جمهور المفسرين إلى أنه إنسانٌ مخصوص، ضربه الله مثلاً لهؤلاء المغرورين. وهذا شرح قصته:
ذكر ابن عباس وغيره من [أهل العلم بالتفسير والسير] (4) : أن عابداً من بني إسرائيل يقال له: بَرْصِيصا، كان تعبّد في صومعة له زماناً طويلاً، لم يعص الله فيه طرفة عين، وكان يُؤتى بالمجانين فيداويهم ويُعوذهم فيبرؤون على يده، وأن إبليس أعياه أمره، فجمع له المَرَدة فقال: ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض -وهو صاحب الأنبياء-: أنا أكفيك أمره، فانطلق على صورة الرهبان فأتى صومعته فناداه فلم يجبه برصيصا، وكان
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3347). وذكره الماوردي (5/509)، والسيوطي في الدر (8/116) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... في الأصل: التمثل بهم. والتصويب من ب.
(3) ... أخرج مجاهد في تفسيره (ص:665) قال: يعني الناس عامة، وعنه الطبري (23/ 297).
(4) ... في الأصل: أهل التفسير والعلم بالسير. والمثبت من ب.(1/83)
لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فلما رأى ذلك من حاله تذمّر في نفسه حين لم يجبه، فقال له: كنتُ مشغولاً عنك حين ناديتني، فحاجتك؟ فقال: حاجتي أحببت أن [أكون] (1) معك [فأتأدّب بك] (2) وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، فتدعو لي وأدعو لك، قال برصيصا: إني لفي شُغُل عنك، فإن كنتَ مؤمناً فإن الله سيجعلُ لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيباً إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يلتفت برصيصا إليه أربعين يوماً، فلما انفتل رآه قائماً يصلي، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده، وكثرة تضرّعه وابتهاله إلى الله تعالى [كلمه] (3) فقال له: حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له فصعد إليه فأقام معه حولاً لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً وربما زاد على ذلك فمدّ إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرُك، ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان بلغنا عنك غير الذي رأيت، قال: فدخل على برصيصا من ذلك أمرٌ شديد، وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودّعه قال الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: فتأدب. والتصويب والزيادة من ب.
(3) ... في الأصل: فكلمه. والتصويب من ب.(1/84)
للمبتلى والمجنون فيعافى بإذن الله، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة؛ لأن لي [في] (1) نفسي شُغلاً، وإني أخاف إن عَلِمَ الناس بهذا شغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علّمه، ثم انطلق حتى أتى على إبليس فقال له: والله قد (2) أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال: إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا: نعم. فقال لهم: إني لا أقوى على جنّيته، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى له فيعافيه، فقالوا له: دلّنا؟ فقال لهم: انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فدعا بتلك الدعوات فذهب عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس مثل ذلك ثم يبعثهم (3) إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. قال: فانطلق الأبيض فتعرّض لجارية من أبناء (4) ملوك بني إسرائيل، بين ثلاثة إخوة، فخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبّب فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إن الذي عرض لها ماردٌ لا يُطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تَدَعُونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، فقالوا: ومن هو؟ فقال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا وهو أعظم شأناً من ذلك؟ قال: إن قَبِلَها وإلا [فضعوها] (5) في صومعته وقولوا
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في ب: قد والله.
(3) ... في ب: يرسلهم.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: الملوك.
(5) ... في الأصل: ضعوها. والمثبت من ب.(1/85)
له: هي أمانة عندك، فانطلقوا إليه فأبى عليهم، فوضعوها في صومعته، وقيل: وضعوها في غار إلى جانب صومعته وقالوا: هي أمانة عندك، ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا من صلاته جاءه الشيطان فقال له: لو نزلت إليها فمسحتها بيدك، ودعوت الله لها فيعافيها وتذهب إلى أهلها، فنزل، فلما دنا من باب الغار دخل فيها الشيطان، فإذا هي تركض فسقطت عنها ثيابها، فنظر برصيصا إلى شيء لم ينظر إلى مثله حُسْناً وجمالاً، فأتاه الشيطان فقال له: ويحك واقِعْها فلن تجد مثلها، وتتوب بعد ذلك، فتُدْرِك الأمر الذي تريد، فلم يزل به حتى واقعها، وضَرَبَ على أذنه، فلم يزل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا لقد انفضحت (1) ، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب، فإن سألوك عنها قلت: جاء شيطانها فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها ودفنها، ثم رجع إلى صومعته فأقبل على عبادته (2) ، فجاءه إخوتها يسألونه عنها فقال: جاءها شيطانها فذهب بها ولم أُطِقْه، فصدَّقُوه وانصرفوا.
وفي بعض الروايات أنه قال: فدعوت الله لها فعافاها ورجعت إليكم، فتفرّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه فقال: ويحك، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، فبرصيصا خيرٌ من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال ولا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله،
__________
(1) ... في ب: قد افتضحت.
(2) ... في ب: صلاته.(1/86)
فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني؟ قالوا: لا والله، واستحيوا وانصرفوا. فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا فحفروا فرأوا أختهم، فقالوا: يا عدو [الله] (1) أقتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تُكابر، فلما أقرّ أمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الشيطان الأبيض وكان إبليس قال له: ما يُغني عنك ما فعلت؟ إن قُتل فهو كفارة له لما كان منه، فقال الأبيض: أنا أكفيكه، فأتاه فقال له: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، ويحك أما (2) اتقيت الله في أمانة! خنت أهلها، وأنت تزعم أنك أعبد بني إسرائيل، ثم إنك أقررت على نفسك فافتضحت وفضحت أشباهك من الناس، فإن مُتّ على هذه الحال لم تُفلح ولا أحدٌ من نظرائك، فقال: فكيف أصنع؟ قال: [تطيعني] (3) في خصلة حتى أنجيك وآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي؟ قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي [أردت] (4) منك، صارتْ عاقبة أمرك إلى أن كفرت، إني بريء منك، ثم
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في ب: ما.
(3) ... في الأصل: تطعني. والمثبت من ب.
(4) ... زيادة من ب.(1/87)
قُتل. فضرب الله هذا [المثل] (1) لليهود حين غرّهم المنافقون، ثم أسلموهم (2) .
وباقي الآية مُفسّر في الأنفال (3) .
قوله تعالى: { فكان عاقبتهما } أي (4) : الشيطان وذلك الإنسان.
وقال مقاتل (5) : يعني: عاقبة اليهود والمنافقين.
{ أنهما في النار خالدين فيها } وقرأ ابن مسعود: "خالدان فيها" على أنه خبر "أنّ" (6) . و"في النار": لغو، وعلى القراءة المشهورة: "خالدين" حال من الضمير في قوله: "في النار" (7) . [أي] (8) : أنهما ثابتان في النار خالدين فيها.
وكرر "في" كقولهم: زيد في الدار قائم فيها.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
__________
(1) ... في الأصل: مثلاً. والمثبت من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/219-222).
(3) ... عند الآية رقم: 48.
(4) ... في ب: يعني.
(5) ... تفسير مقاتل (3/343).
(6) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/248)، والدر المصون (6/299).
(7) ... انظر: التبيان (2/259)، والدر المصون (6/299).
(8) ... زيادة من ب.(1/88)
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# اثةب
قوله تعالى: { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي: لينظر أحدكم ما الذي قدّم ليوم القيامة من الأعمال، فهل قدّم صالحاً أو طالحاً؟
والمراد من ذلك: الحضّ على ما يُقرِّب من الجنة ويُبعد من النار.
فإن قيل: لم نكّر النفس والغد؟(1/89)
فقد أجاب عنه صاحب الكشاف فقال (1) : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.
وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يُعرف كُنهه لِعِظَمه.
فإن قيل: بين نزول هذه الآية وبين يوم القيامة زمن طويل، فما معنى قوله: "لغد"؟
قلتُ: عنه جوابان:
أحدهما: أنه أراد تقريبه، فجعله في القُرب بمنزلة الغد؛ تهييجاً لدواعي العباد على الاستعداد له والعمل لأجله، كما قرّب زمن إهلاك القرون الماضية فقال: { كأن لم تغن بالأمس } [يونس:24]؛ [ليكون] (2) ذلك في جهة الاعتبار والادّكار، كأنه بالنسبة إلى يومهم الحاضر أمسهم الذاهب، فإنه أبلغ في الموعظة والتخويف.
الثاني: أنه عبّر عن الآخرة بالغد؛ تنزيلاً للآخرة والدنيا على أنهما نهاران: يوم وغد.
فإن قيل: لم كرّر الأمر بالتقوى؟
قلتُ: عنه جوابان:
أحدهما: أنه كرّره توكيداً، وهذا [باب] (3) واسع في كلام العرب والكتاب
__________
(1) ... الكشاف (4/508).
(2) ... في الأصل: لكون. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: بيان. والتصويب من ب.(1/90)
العزيز. وقد سبق ذكره في مواضع.
والثاني: أن الأمر الأول بالتقوى يجوز أن يكون المراد به: اتقوا الله في [امتثال ما أُمرتم به من الطاعات. والثاني يجوز أنه يراد به: واتقوا الله في] (1) اجتناب ما نُهيتم عنه من المعاصي؛ لأنه عقَّب كل واحد من الأمرين بما يدُل على هذا التفسير، فحينئذ [يَسْلَم بهذا التقرير] (2) من التكرير.
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } من قبل { فأنساهم أنفسهم } قال الزجاج (3) : تركوا ذكْره وما أمرهم به، فترك ذكْرهم بالرحمة والتوفيق.
وقيل: فأنساهم أنفسهم؛ لشدة ما لاَبَسَهُم في الآخرة من أهوال القيامة.
قال ابن عباس: يريد: قريظة والنضير وبني قينقاع (4) ، وهو قوله: { أولئك هم الفاسقون } .
فإن قيل: لا يخفى على أدنى من له مُسْكَة من عقل أن أصحاب الجنة وأصحاب النار لا يستويان، فما معنى نفي المساواة بينهما؟
قلتُ: المقصود: تنبيه العباد من رقدة غفلتهم عن الآخرة، كما تقول لرجل مُنهمك على أفعال تجلب له بها ضرراً: إنّها نفسك، فتجعله بمنزلة من لا يعرف نفسه، فتنبّهه بذلك على خطر النفس وشرفها، ولزوم السعي لأسباب حفظها.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: مسلم بهذا التفسير. والمثبت من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/149).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/278)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/224).(1/91)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ(1/92)
اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اثحب
قوله تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } المعنى: لو ركّبنا في جبل عقلاً وتمييزاً وأنزلنا هذا القرآن العظيم عليه، { لرأيته } لمواعظ القرآن وزواجره مع ما رُكّب فيه من الصلابة { خاشعاً } ذليلاً خاضعاً { متصدّعاً } مشفقاً { من خشية الله } .
والغرض: توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلّة خشوعه عند تلاوة القرآن، وإعراضه عن تدبّر آياته، والتفكّر في عجائب ما صَرَّفَ فيه من الوعد والوعيد. وهذا تمثيل وتخييل، ألا ترى إلى قوله: { وتلك الأمثال... الآية } .
وما بعدها إلى آخر السورة سبق تفسيره.
وقد أشرت إلى شرح أسماء الله الحسنى على وجه الاختصار في قوله:(1/93)
{ ولله الأسماء الحسنى } في أواخر الأعراف (1) ، فتطلب تفسيرها من هناك وفي أماكنها في غضون هذا الكتاب.
والمُصَوِّر: الذي أنشأ خلقه على صور شتى؛ ليتعارفوا بها.
وقرأ الحسن وأبو الجوزاء وأبو عمران وابن السميفع: "المصوَّرَ" بفتح الواو والراء (2) ، على معنى: الذي برأ [المصوَّر] (3) .
أخبرنا الشيخ أبو المجد محمد بن محمد بن أبي بكر [الهمذاني] (4) قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه أبو سعيد المطهّر بن عبدالكريم بن محمد [القومسانيان] (5) قالا: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن حمد بن الحسن الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسّار الدينوري، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني، حدثنا محمد بن الحسين بن مكرم (6) ، حدثنا محمود بن غيلان (7) ، حدثنا أبو أحمد الزبيري (8) ، حدثنا خالد
__________
(1) ... عند الآية رقم: 180.
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:414)، وزاد المسير (8/229).
(3) ... في الأصل: الصور. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: الهمداني. والمثبت من ب.
(5) ... في الأصل: القوسانيان. والتصويب من ب.
... وقومسان: من نواحي همذان (معجم البلدان 4/414).
(6) ... محمد بن الحسين بن مكرم، أبو بكر البغدادي، كان قد انتقل إلى البصرة فسكنها حتى مات بها، وكان ثقة، توفي في ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة (تاريخ بغداد 2/233).
(7) ... محمود بن غيلان العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي الحافظ، نزيل بغداد، ثقة، توفي سنة تسع وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 10/58، والتقريب ص:522).
(8) ... هو محمد بن عبد الله بن الزبير. تقدمت ترجمته.(1/94)
بن طهمان أبو العلاء (1) ، حدثنا نافع بن أبي نافع (2) ، عن معقل بن يسار (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر الحشر، وُكّل به سبعون ألف مَلَكٌ يُصلُّون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، وإن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة" (4) .
وفي حديث أبي هريرة: سألت حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اسم الله الأعظم قال: عليك بآخر سورة الحشر فأكْثِر قراءتها، فأعدت عليه فأعاد عليّ، فأعدت عليه فأعاد عليّ (5) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... خالد بن طهمان السلولي، أبو العلاء الخفاف الكوفي، صدوق رمي بالتشيع، ثم اختلط (تهذيب التهذيب 3/85، والتقريب ص:188).
(2) ... نافع بن أبي نافع البزاز، مولى أبي أحمد، ثقة، روى عن معقل بن يسار، وأبي هريرة، وروى عنه خالد بن طهمان، وابن أبي ذئب (تهذيب التهذيب 10/366، والتقريب ص:558).
(3) ... معقل بن يسار بن عبد الله بن معير المزني، أبو علي، ويقال: أبو يسار، ويقال: أبو عبد الله البصري، صحابي ممن بايع تحت الشجرة، وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة. مات بعد الستين (تهذيب التهذيب 10/212، والتقريب ص:540).
(4) ... أخرجه الترمذي (5/182 ح2922)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:320).
(5) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/289).(1/95)
سورة الممتحنة
ijk
وهي ثلاث عشرة آية، وهي مدنية بإجماعهم (1) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:244).(1/96)
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ(1/97)
حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)(1/98)
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ذهب عامة المفسرين إلى أنها نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكان من حديثه: أن سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كبت الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهبت مواليّ واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، قال لها: فأين أنت من شباب أهل مكة، وكانت مغنية، فقالت: ما طُلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحثّ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب وبني المطلب، فكسوها وأعطوها نفقة، وحملوها.
فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وفيه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدكم فخذوا حذركم، فنزل جبريل وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك بعد خروج سارة، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد في طلب الكتاب (1) ، فكان من القصة: ما أخبرنا به الشيخان الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع بجامع دمشق، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري بقراءتي عليه ببغداد، قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي،
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:441)، والبغوي (4/328-329)، وزاد المسير (8/230-231).(1/99)
أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان [الكرجي] (1) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا محمد بن إدريس الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد [بن] (2) علي (3) ، عن عبيدالله بن أبي رافع (4) قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والمقداد والزبير فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخٍ (5) ، فإن بها ظعينة (6) معها كتاب، فخرجنا تتعادى بنا خيلنا، فإذا نحن بظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، [فقالت: ما معي كتاب، فقلنا لها: لتخرجنّ الكتاب] (7) ، أو لنلقينّ الثياب، فأخرجته من
__________
(1) ... في الأصل: الكرخي. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (19/71-72)، والتقييد (ص:451).
(2) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.
(3) ... الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد المدني، وأبوه يعرف بابن الحنفية، ثقة فقيه، كان من ظرفاء بني هاشم وأهل الفضل منهم، مات سنة مائة أو قبلها، وليس له عقب (تهذيب التهذيب 2/276، والتقريب ص:164).
(4) ... عبيد الله بن أبي رافع المدني، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكاتب علي رضي الله عنه، كان ثقة كثير الحديث (تهذيب التهذيب 7/10، والتقريب ص:370).
(5) ... خاخ -ويقال: روضة خاخ-: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة (معجم البلدان 2/335).
(6) ... الظعينة: المرأة، وأصله: المرأة في الهودج على ناقتها (تفسير الطبري 17/621).
(7) ... زيادة من مصادر تخريج الحديث.(1/100)
عِقَاصِها (1) ، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى
ناس (2) من المشركين بمكة، يُخبر ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ما هذا يا حاطب؟ [فقال] (3) : لا تعجل عليَّ، فإني كنت امرءاً مُلْصَقاً في قريش، ولم أكن من أنفُسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، والله ما فعلته شكاً في ديني، ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه قد صدق. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ونزلت: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء... الآية } " (4) . أخرجه البخاري عن الحميدي. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، كلهم عن سفيان.
وفي رواية أخرى: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر،
__________
(1) ... العِقَاص: جمع، واحده: عقيصة، وهي الخُصْلَة. والعَقْصُ: أن تأخذ المرأة كل خصلة من شعرها فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها، فكل خصلة عقيصة (اللسان، مادة: عقص).
(2) ... في ب: أناس.
(3) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1855 ح4608)، ومسلم (4/1941 ح2494)، والشافعي في مسنده (ص:316).(1/101)
وقال: الله ورسوله أعلم" (1) .
[وفي] (2) رواية أخرى: "أنهم همّوا بالرجوع، فقال علي عليه السلام: والله ما كُذبنا، وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأُجَرِّدَنَّكِ، ولأضربنَّ عنقك، فلما [رأت] (3) الجدّ أخرجته من عقاصها... ثم ساق الحديث كما تقدم، وقال: فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمتُ أن [الله] (4) مُنْزِل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعذره" (5) .
وفي حديث جابر بن عبدالله: "أن عبداً لحاطب جاء يشتكي حاطباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ليدخلنّ حاطب النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كذبتَ، لا يدخلها أبداً، إنه قد شهد بدراً والحديبية" (6) .
وقد ذكرنا فيما مضى أن "العَدُوّ" على زنة المصدر، فلذلك يقع على الواحد والاثنين والجمع، و"العَدُوّ" فعول من عَدَا، كعَفُوّ من عَفَا.
قوله تعالى: { تلقون إليهم بالمودة } يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون استئنافاً، على معنى: أتُلقون إليهم المودة، فحذف همزة الاستفهام، كما في قوله: { وتلك نعمة تمنّها عليّ } [الشعراء:22]، وكما في
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2309 ح5904).
(2) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: رأيت. والتصويب من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه ابن حبان (16/57 ح7119)، والطبراني في الأوسط (6/343).
(6) ... أخرجه أحمد (3/349 ح14813).(1/102)
نظائره السابقة في أماكنها.
الثاني: أن يكون "تلقون" متعلقاً بـ "لا تتخذوا"، فيكون حالاً من الضمير فيه، على معنى: لا تتخذوهم أولياء ملقين إليهم بالمودة.
الثالث: أن يتعلق بـ"أولياء"، فيكون صفة له، على معنى: لا تتخذوهم أولياء مُلقًى إليهم بالمودة (1) .
والباء في "بالمودة" زائدة مؤكدة؛ كقوله: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة:195]، وقوله: { يرد فيه بإلحاد } [الحج:25].
وقيل: ليست زائدة، على معنى: تُلقون إليهم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب المودة التي بينكم وبينهم (2) .
قوله تعالى: { وقد كفروا } حال من "لا تتخذوا". ويجوز أن يكون حالاً من "تلقون"، على معنى: لا توالوهم أو لا توادّوهم وهذه حالهم (3) .
قوله تعالى: { يخرجون الرسول وإياكم } حال من (4) "كفروا" (5) ، وهو استئناف خارج مخرج التعليل؛ لكفرهم، و { أن تؤمنوا } تعليل لإخراجهم، تقديره: يخرجونكم لإيمانكم.
قوله تعالى: { إن كنتم خرجتم } شرط [تقدم] (6) جوابه عليه، تقديره: إن
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/259)، والدر المصون (6/301).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر: الدر المصون (6/302).
(4) ... في الأصل زيادة قوله: الذين.
(5) ... انظر: التبيان (2/259)، والدر المصون (6/302).
(6) ... في الأصل: بعد. والتصويب من ب.(1/103)
كنتم خرجتم جهاداً فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. والبصريون يقولون في مثل هذا: هو شرط جوابه محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه (1) .
وقوله: { جهاداً } و { ابتغاء مرضاتي } مصدر في موضع الحال، تقديره: إن كنتم خرجتم مجاهدين مبتغين مرضاتي، ويجوز أن يكونا مفعولين لهما (2) ، وهو اختيار الزجاج (3) .
قوله تعالى: { تسرون إليهم بالمودة } كلام مستأنف، مضمونه: الإعلام بعدم انتفاعهم بالإسرار إليهم؛ لاستواء السر والعلانية بالنسبة إلى علم الله تعالى.
وجائز أن يكون استئنافاً بإضمار الهمزة، على معنى: الإنكار عليهم والتوبيخ لهم على موالاة الكفار ومصافاتهم، والإسرار إليهم بالمودة (4) .
والباء في "بالمودة" كالتي قبلها، والواو في: "وأنا أعلم" للحال (5) .
ثم هدَّدَهم فقال: { ومن يفعله منكم } يعني: بعد هذا النهي والزجر والبيان الواضح، { فقد ضل سواء السبيل } أخطأ طريق الهدى.
ثم أكّد ذلك وأخبرهم بما في أنفسهم لهم من العداوة فقال: { إن يثقفوكم } أي: يظفروا بكم { يكونوا لكم أعداء } ظاهري العداوة، { ويبسطوا إليكم
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/259)، والدر المصون (6/302).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/302).
(3) ... معاني الزجاج (5/156).
(4) ... في ب: بالمودة إليهم.
(5) ... انظر: الدر المصون (6/302).(1/104)
أيديهم وألسنتهم بالسوء } بالقتل والشتم، { وودوا } أحبوا وتمنّوا { لو تكفرون } فهم يريدون بكم هلاك الدنيا والآخرة.
المعنى: فكيف تُوالونهم وهذه حالهم معكم؟
ولما كان الحامل لحاطب والباعث له على مناصحة الكفار؛ الخوف على قراباته والمحاماة عليهم قال: { لن تنفعكم أرحامكم } أي: ذوو أرحامكم { ولا أولادكم } أي: لن ينفعكم عند الله إذا عصيتموه بسببها. والعامل في "يوم": "يفْصِل".
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: "يُفْصَلُ" بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد، ومثلهم ابن عامر إلا أنه شدد الصاد وفتح الفاء، ومثله حمزة والكسائي إلا أنهما كسرا الصاد (1) ، ومثلهما أُبيّ وابن عباس إلا أنهما قرءا: "نُفَصِّل" بالنون (2) .
وقرأ عاصم: بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد وتخفيفهما (3) . ومثله أبو رزين وعكرمة والضحاك، إلا أنهم قرؤوا: "نَفْصِلُ" بالنون (4) . والفاعل على جميع القراءات وتصاريف الفعل هو: الله.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/38)، والحجة لابن زنجلة (ص:706-707)، والكشف (2/318)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:414)، والسبعة (ص:633).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/233-234)، والدر المصون (6/304).
(3) ... الحجة للفارسي (4/38)، والحجة لابن زنجلة (ص:706-707)، والكشف (2/318)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:414)، والسبعة (ص:633).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/234)، والدر المصون (6/304).(1/105)
والمعنى: يوم القيامة يفصل بينكم، فيفرّ [المرء] (1) من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ويفصل بينهم بإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
ثم حضّهم على التأسّي بإبراهيم في التَّبَرُّؤ من الكفار فقال: { قد كانت لكم أسوة حسنة } وقد سبق تفسيره في الأحزاب (2) .
والمعنى: قد كان لكم يا حاطب ومن عساه كان على مثل مذهبه اقتداءٌ حسن { في إبراهيم والذين معه } وهم الأنبياء. وقيل: المؤمنون، { إذ قالوا لقومهم } حين باينوهم في الدين.
وما بعده ظاهر إلى قوله: { إلا قول إبراهيم لأبيه } قال ابن عباس: كانت لكم أسوةٌ حسنة في صنع إبراهيم، إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك (3) .
قال مجاهد: نُهوا أن يتأسوا بإبراهيم في استغفاره للمشركين (4) . وقد ذكرنا ذلك في أواخر براءة (5) ، وأواخر إبراهيم (6) .
{ وما أملك } من تمام قول إبراهيم لأبيه، أي: ما أملك { لك من الله من
__________
(1) ... في الأصل: المؤمن. والمثبت من ب.
(2) ... عند الآية رقم: 21.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3349)، والحاكم (2/527 ح3803). وذكره السيوطي في الدر (8/129) وعزاه ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:667)، والطبري (28/63). وذكره السيوطي في الدر (8/129) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... سورة التوبة، عند الآية رقم: 114.
(6) ... عند الآية رقم: 41.(1/106)
شيء } سوى أني أستغفر لك. فأما الهداية [والإضلال] (1) فإليه سبحانه، أو ما أقدر أن أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن كفرتَ به.
وقوله: { ربنا عليك توكلنا } وما في حيزه من تمام الأسوة الحسنة.
ويجوز أن يكون المعنى: قولوا: ربنا، فيكون من تمام ما وقعت الوصية به من قطع العلائق بين المؤمنين والكافرين.
$uZ/u' لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) * عَسَى اللَّهُ
__________
(1) ... في الأصل: والضلال. والمثبت من ب.(1/107)
أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى(1/108)
إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ازب
قوله تعالى: { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } قال الزجاج (1) : لا تُظهرْهم علينا فيظنوا أنهم على حق، فيفْتَتِنُوا بذلك.
وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا (2) . وقد سبق ذلك في يونس (3) .
قال الزمخشري (4) : ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم، ولذلك جاء به مُصَدَّراً بالقسم؛ لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل عن قوله: { لكم } قوله تعالى: { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } ، وعَقَّبَهُ بقوله: { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به.
قال مقاتل وغيره (5) : فلما نزلت هذه الآيات بالغ المسلمون في مقاطعة
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/157).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:667)، والطبري (28/64). وذكره السيوطي في الدر (8/129) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... عند الآية رقم: 85.
(4) ... الكشاف (4/513-514).
(5) ... تفسير مقاتل (3/350). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:443).(1/109)
أبنائهم وآبائهم وعشائرهم وأقربائهم.
فلما رأى اللهُ منهم صدقَهم في البراءة من المشركين وَعَدَهُم بما يتمنونه فقال: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } ، ففعل ذلك بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح: أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، وغيرهم من صناديد قريش.
وتزوج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت هاجرتْ مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصّر، وأَبَتْ أن تُتابعه، فمات، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي فخطبها عليه، وساق عنه إليها أربعمائة دينار، وبلغ ذاك أباها فاستبشر وقال: ذاك والله الفَحْل، لا يُقْرَعُ أنفه، وانكسر عن كثير مما كان عليه من الإيغال في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
{ والله قدير } على تقليب قلوب العباد وإصلاح أهل الفساد، { والله غفور رحيم } لا يتعاظم عليه مغفرةُ تلك السيئات الشنيعة، والصفح عن تلك الجنايات الفظيعة.
قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } ذهب جماعة من المفسرين: إلى أنها نزلت في النساء والصبيان.
قال ابن الزبير: نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أُمَّها قُتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تُدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية، فقال: مريها أن تُدخلها(1/110)
منزلها، وتَقْبَل هديتها، وتكرمها، وتُحسنَ إليها (1) .
وقال جماعة، منهم ابن عباس: نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يُقاتلوه ولا يُعينوا عليه أحداً (2) .
وقال عطية العوفي: نزلت في جماعة من بني هاشم، منهم: العباس بن عبدالمطلب (3) .
وقيل: هي عامة في كل من لم يقاتل من الكفار.
وكان قتادة وابن زيد يقولان: هي منسوخة بآية السيف (4) .
والصحيح: أنها محكمة (5) .
وقوله تعالى: { أن تبرّوهم } بدل من "الذين لم يقاتلوكم"، وكذلك "أن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/66)، وابن أبي حاتم (10/3349)، والحاكم (2/527 ح3804)، والنحاس في ناسخه (ص:715)، والبزار في مسنده (6/167 ح2208)، وأحمد (4/4)، والطيالسي (1/228 ح1639). وذكره السيوطي في الدر (8/130-131) وعزاه للطيالسي وأحمد والبزار وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في تاريخه والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:444).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/236).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/237).
(4) ... أخرجه الطبري (28/66). وذكره السيوطي في الدر (8/131) وعزاه لأبي داود في تاريخه وابن المنذر عن قتادة.
(5) ... انظر دعوى النسخ في هذه الآية: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:177)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:60)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:485-486).(1/111)
تولوهم" (1) ، إذ المعنى: لا ينهاكم الله عن مبرّة هؤلاء ومعاملتهم بالعدل، { إنما ينهاكم الله } عز وجل { عن } تولي { الذين قاتلوكم... الآية } .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/260)، والدر المصون (6/306).(1/112)
أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ اتتب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } وقال ابن عباس: صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي مكة يوم(1/113)
الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة ردّه عليهم، ومن أتى أهلَ مكة من أصحابه لم يردوه، وكتبوا بذلك كتاباً [وختموا] (1) عليه. فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم -وقال [المقاتلان] (2) : هو صيفي بن الراهب- في طلبها، وكان كافراً، فقال: يا محمد! اردد عليّ امرأتي، فإنك قد [شرطت] (3) لنا أن تردّ علينا من أتاكم منا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد، فأنزل الله هذه الآية (4) .
وذكر جماعة؛ منهم محمد بن سعد -كاتب الواقدي-: أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أولُ من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة فقالا: يا محمد! أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله! أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف [ما] (5) قد علمت، فإن رددتني إلى الكفار فتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، وأنزل فيهن المحنة (6) .
__________
(1) ... في الأصل: وختموه. والتصويب من ب.
(2) ... تفسير مقاتل بن سليمان (3/351). وما بين المعكوفين في الأصل: مقاتلان. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: شرط. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: أسباب نزول القرآن للواحدي (ص:444)، وزاد المسير (8/238).
(5) ... في الأصل: كما. والمثبت من ب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/238-239).(1/114)
فصل
قال الماوردي (1) : اختلف أهل العلم هل دخل ردّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة منهم: قد كان شرط رَدِّهِنَّ في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله رَدَّهُنَّ [من العقد] (2) ومنع منه، وبقّاه في الرجال على ما كان.
وقالت طائفة من أهل العلم: [لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً، وإنما] (3) أطلق العقد [في ردّ] (4) من أسلم، فكان ظاهرُ العموم اشتمالَه عليهن مع الرجال، فبيّن الله تعالى خروجهن عن عمومه، وفرّق بينهن وبين الرجال لأمرين:
أحدهما: أنهنَّ ذوات فروج يحرمن عليهم.
والثاني: أنهنَّ أرقّ قلوباً وأسرع تقلباً منهم.
فأما المقيمة على شركها فمردودةٌ عليهم.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: إنما لم يردّ النساء عليهم؛ لأن النسخ جائز بعد التمكّن من الفعل وإن لم يقع الفعل (5) .
قال ابن زيد: وإنما أُمر بامتحانهن؛ لأن المرأة كانت بمكة إذا غضبت
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/521).
(2) ... زيادة من الماوردي، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من الماوردي (5/521).
(4) ... في الأصل: ورد. والمثبت من ب، والماوردي، الموضع السابق.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/240).(1/115)
على زوجها تقول: لألحقنّ بمحمد (1) .
واختلفوا فيما كان يمتحنهنّ به، فأخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي، قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عروة، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله: { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله: { غفور رحيم } . قال عروة: قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد بايعتك [كلاماً] (2) ، ولا والله! ما مسّت يدُه يدَ امرأة قط في المبايعة، ما يُبايعهن إلا بقوله: قد بايعتُك على ذلك" (3) . وأخرجه مسلم أيضاً.
وقال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحن النساء بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله (4) .
وفي رواية عنه: كان يستحلف المرأة بالله ما خرجتُ من بُغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماسَ دنيا، وإنما خرجتُ حباً لله
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/68). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/240).
(2) ... زيادة من الصحيحين، و ب.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1856 ح4609)، ومسلم (3/1489 ح1866).
(4) ... أخرجه الطبري (28/68). وذكره السيوطي في الدر (8/134) وعزاه لابن مردويه.(1/116)
ولرسوله (1) .
وقيل: امتحنوهن بالنظر في الأمارات.
{ فإن علمتموهن } بما يظهر لكم عند البحث عن حالهن { مؤمنات } والمراد بالعلم: غلبة الظن، { فلا ترجعوهن إلى الكفار } أي: إلى أزواجهن الكفار.
وفي قوله: { لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن } تعليلٌ للمنع من ردهنّ إليهم.
قوله تعالى: { وآتوهم ما أنفقوا } أي: أعطوا أزواجهن ما بذلوا لهن من المهور.
قال مقاتل (2) : هذا إن تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء.
{ ولا جناح عليكم } أي: ولا إثم عليكم { أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } يعني: مهورهن.
فصل
الصحيح من مذهب الإمام أحمد: أن الحربية إذا هاجرت إلينا (3) بعد
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/67)، وابن أبي حاتم (10/3350)، والترمذي (5/412 ح3308)، والطبراني في الكبير (12/127 ح12668). وذكره السيوطي في الدر (8/137) وعزاه لابن أبي أسامة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... تفسير مقاتل (3/351).
(3) ... ساقط من ب.(1/117)
الدخول توقّفت الفرقة بينها وبين زوجها على انقضاء عدتها. فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي امرأته. وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين (1) .
قوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قرأ أبو عمرو ويعقوب: "تُمَسِّكُوا" بالتشديد، من مسّك يمسّك، وخففها الباقون من العشرة (2) .
وقرأ ابن عباس والحسن: بفتح التاء والميم والسين مشددة (3) . الأصل: تتمسّكوا، من قولك: تمسّكت بالشيء، فحذف إحدى التائين لاجتماعهما.
والكَوَافِر: جمع [كافرة] (4) .
قال الزجاج (5) : أي: إذا كفرت فقد زالت العصمة بين المشركة والمؤمن، أي: قد انْبَتَّ حبلُ عقد النكاح. وأصل العِصْمَة في اللغة: الحبل، وكل من أمسك شيئاً فقد عصمه.
وقال ابن قتيبة (6) : العِصْمَة: الجمال.
وقال الزمخشري (7) : العِصْمَة: ما يُعْتَصَمُ به من عقد وسبب، والمعنى:
__________
(1) ... انظر: المغني (7/120)، وبدائع الصنائع (2/338).
(2) ... الحجة للفارسي (4/38)، والحجة لابن زنجلة (ص:707)، والكشف (2/319)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:415)، والسبعة (ص:634).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:415).
(4) ... في الأصل: كافر. والمثبت من ب.
(5) ... معاني الزجاج (5/159).
(6) ... ذكر قول ابن قتيبة: الماوردي (5/522).
(7) ... الكشاف (4/517).(1/118)
لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية.
قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا [يَعْتَدَنَّ] (1) بها من نسائه (2) .
وقال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر (3) .
وقال مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن (4) .
وروى (5) موسى بن طلحة بن عبيدالله عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية [طَلَّقْتُ] (6) أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وطَلَّقَ عمرُ بن الخطاب قريبةَ بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان في الشرك، وطَلَّقَ أيضاً أمَّ كلثوم بنت جرول الخزاعية أم عبدالله بن عمر (7) .
فصل
ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن قوله تعالى: { والمحصنات من الذين أوتوا
__________
(1) ... في الأصل و ب: يعيذن. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/517).
(3) ... ذكره السيوطي في الدر (8/138) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:668)، والطبري (28/72). وذكره السيوطي في الدر (8/133) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... في الأصل زيادة قوله: أبو. وهو خطأ. وانظر: ب.
(6) ... في الأصل: طلق. والتصويب من ب.
(7) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3350). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/138) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/119)
الكتاب من قبلكم } [المائدة:5] ناسخ لقوله: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهذا تخصيص لا نسخ (1) . وقد قرّرتُ مثله في سورة البقرة، فافهم ذلك.
قوله تعالى: { واسألوا ما أنفقتم } أي: اطلبوا مهرَ أزواجكم اللاحقات بالكفار منهم.
{ وليسألوا ما أنفقوا } من مهور أزواجهم المهاجرات منكم، وهذا كان في هدنة الحديبية.
{ ذلكم } إشارة إلى ما تقدم ذكره { حكم الله } .
وقوله: { يحكم بينكم } كلام مستأنف، أو حال من "حكم الله"، على حذف الضمير، أي: يحكمه الله (2) .
قوله تعالى: { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم } وقرأ ابن مسعود والزهري والنخعي: "فعَقَبْتُم" بغير ألف (3) .
ومثلهم قرأ ابن عباس وعائشة والحسن والأعمش، إلا أنهم شددوا القاف (4) .
وقرأ أبي بن كعب وعكرمة ومجاهد: "فأعْقَبتم" بهمزة بعد الفاء وسكون العين وفتح القاف والتخفيف (5) .
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:739).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/306).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/243)، والدر المصون (6/307).
(4) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:415)، وزاد المسير (8/243).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/243)، والدر المصون (6/307).(1/120)
وقرأ معاذ القارئ وأبو عمران الجوني: "فعَقِبْتم" بفتح العين وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف (1) .
قال الزجاج (2) : المعنى في التشديد والتخفيف: فكانت العقبى لكم، إلا أنَّ "عَقَّبْتُم" -بالتشديد- أبلغ.
قال غيره: ومن قرأ "[فأعقبتم] (3) " فمعناه: دخلتم في العقبة، وهي النوبة.
قال ابن جني (4) : "فأعقبتم" صنعتم بهم مثل ما صنعوا بكم.
ومن قرأ: "فعَقِبْتُم" فهو مثل: غَنِمْتُم وَزْناً ومعنى.
وقال الزمخشري (5) : قُرئ: "فعقّبتم" بالتشديد، "فعقَبتم" بالتخفيف، بفتح القاف وكسرها. فمن شدَّد فهو من عقّبَه؛ إذا قَفَاه (6) ، وكذلك "عقَبتم" بالتخفيف.
قال ابن فارس بعد أن ذكر تصاريف هذه اللفظة (7) : الباب كله يرجع إلى أصل واحد، وهو أن يجيء الشيء بعقب الشيء.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/243).
(2) ... معاني الزجاج (5/160).
(3) ... في الأصل: عاقبتم. والتصويب من ب.
(4) ... المحتسب (2/320).
(5) ... الكشاف (4/518).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: عقب).
(7) ... في معجم مقاييس اللغة (4/77).(1/121)
والمعنى على قراءة الجمهور: فعاقبتم من [العُقْبَة] (1) وهي النوبة، شبّه ما حَكَمَ به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره.
وقال الزجاج (2) : المعنى: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
وقال الماوردي (3) : ومعنى هذا: أن [من] (4) فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم، ثم [غنمهم المسلمون] (5) ، ردوا عليه مهرها.
وفي المال الذي يُرد منه هذا المهر ثلاثة أقوال:
أحدها: من أموال غنائمهم. قاله ابن عباس (6) .
الثاني: من أموال الفيء. قاله الزهري (7) .
الثالث: من صداق من [أسلمن] (8) منهن عن زوج كافر. وهذا مروي
__________
(1) ... في الأصل: العقوبة. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/160).
(3) ... تفسير الماوردي (5/523).
(4) ... زيادة من تفسير الماوردي، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: غنمتم. والتصويب والزيادة من الماوردي (5/523).
(6) ... أخرجه الطبري (28/76). وذكره السيوطي في الدر (8/135) وعزاه لابن مردويه.
(7) ... أخرجه الطبري (28/76).
(8) ... في الأصل و ب: أسلمت. والمثبت من الماوردي (5/523).(1/122)
عن الزهري أيضاً (1) .
فصل
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: هذه الأحكام في أداء المهر وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب: منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نص أحمد على هذا. تم كلام القاضي (2) .
وقال مقاتل (3) : هذه الآيات نسختها آية السيف.
وقال عطاء: بل حكمها باق ثابت (4) .
فصل
قال الماوردي (5) : لا يجوز لمن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رَدَّ من أسلم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [كان] (6) على وعد من الله في فتح بلادهم ودخولهم في الإسلام، طوعاً وكرهاً، فجاز له ما لم يجز لغيره.
وقال شيخنا الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه فيما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/75). وذكره السيوطي في الدر (8/136-137) وعزاه لعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/244).
(3) ... تفسير مقاتل (3/353).
(4) ... ذكره الماوردي (5/523).
(5) ... تفسير الماوردي (5/523).
(6) ... زيادة من ب، والماوردي، الموضع السابق.(1/123)
قرأته عليه (1) : يجوز في الصلح رَدُّ من جاءه من أهل الحرب من الرجال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرَطَ ذلك في صلح الحديبية، ولا يجوز رَدُّ النساء المسلمات؛ لقول الله تعالى: { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } .
ولأنه لا يؤمن أن تُزوَّج بمشرك.
ولا يجوز رد الصبيان العقلاء؛ لأنهم بمنزلة النساء في ضعف قلوبهم، وقلّة معرفتهم، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم.
وإن شرط ردّ الرجال لزم الوفاء لهم، بمعنى: أنهم إن جاؤوا في طلب من جاء منهم لم يُمنعوا من أخذه، ولا يجبره الإمام على الرجوع معهم، وله أن يأمره سِرًّا بالفرار منهم وقتالهم؛ لقصة أبي بصير (2) .
وإن جاءت امرأةٌ مسلمة لم يجز ردّها، ولا يجب ردّ مهرها؛ لأن بُضْعَها لا يدخل في الأمان. وإنما رَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - المهر؛ لأنه شرط ردّ النساء، وكان شرطاً صحيحاً، فلما فُسخ ذلك وجب رد البدل؛ لصحة الشرط، بخلاف حكم من بعده.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا
__________
(1) ... في الكافي (4/166).
(2) ... انظر: صحيح البخاري (2/979).(1/124)
وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اتثب
قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } قال المفسرون: لما فَتَحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية (1) .
وفي هذا القول منافاة لحديث عائشة الذي رويناه آنفاً في الامتحان. ومعلوم أن امتحانهن كان قبل الفتح في هدنة الحديبية. وما أعلمُ أحداً من المفسرين لَحَظَ هذا الذي ذكرته مع [حكايتهم] (2) القولين المتنافيين، غير أن حديث عائشة أصح وأثبت.
__________
(1) ... انظر: تفسير الماوردي (5/524)، والوسيط (4/286)، وزاد المسير (8/244).
(2) ... في الأصل: حكاياتهم. والتصويب من ب.(1/125)
والظاهر: أن هذه الآية نزلت قبل الفتح، وأن الناقلين نزولها يوم الفتح لم يستثبتوا ذلك. والله أعلم.
قال العلماء بالتفسير والسير: لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه [يبايع] (1) النساء بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبلّغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقّبة متنكّرة مع النساء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء: أبايعكن على أن لا تشركن بالله [شيئاً] (2) ، فرفعت هندٌ رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ (3) على الإسلام والجهاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولا تسرقن، قالت امرأة أبي سفيان: إن أبا سفيان رجل شحيح، [وإني] (4) أصيبُ من ماله الهَنَات، فلا أدري أيحل لي أم [لا] (5) ؟ فقال أبو سفيان: ما أصبتِ من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال. قال: فضحك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعرَفها، وقال: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعفُ عما سلف يا رسول الله عفا الله عنك، فقال: ولا تزنين، فقالت هند: أوَ تزني الحُرَّة؟ فقال: ولا تقتلن أولادكن، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم، وكان ابنُها حنظلة قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى،
__________
(1) ... في الأصل: يباع. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: علي رضي الله عنه. وهو خطأ. وانظر: ب.
(4) ... في الأصل: وأن. والتصويب من ب.
(5) ... زيادة من ب.(1/126)
وتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولا تأتين ببهتان تفتريته بين أيديكنّ وأرجلكنّ، وهو [أن] (1) تقْرِف ولداً على زوجها وليس منه، فقالت هند: والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف، فقالت: ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (2) ، فأقرّ النسوة بما شرط عليهن (3) .
والمراد بقوله: { ولا يقتلن أولادهن } : وَأْدُ البنات، وبقوله: { ولا يأتين ببهتان } : ما ذكرناه: لا يُلحقن بأزواجهن أولاداً من غيرهم (4) ، بأن تلتقط ولداً فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. في قول ابن عباس وجمهور المفسرين.
وإنما قال: { بين أيديهن وأرجلهن } ؛ لأن الولد إذا وضعتْه الأم يسقط بين يديها ورجليها.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في هامش ب: وفي المسند ومسند البزار: لما جاءت أختُها فاطمةُ تبايع، فذكر الزنا، وضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى منها، فقالت عائشة: أقِرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، فقالت: فنعم إذاً (مسند أحمد 6/151 ح25216).
... وفيه: في حديث أُراه في الأنصار: "ولا يغششن أزواجهن" فقالت امرأة: وما غِشُّ أزواجنا؟ قال: بأخذ مالِه تُحابي به غيره (مسند أحمد 6/379 ح27177).
(3) ... أخرجه الطبري (28/78) من حديث ابن عباس. وذكره الواحدي في الوسيط (4/286-287)، والسيوطي في الدر (8/140) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. قال ابن كثير (4/355) بعد سياقه: وهذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم.
(4) ... أخرجه الطبري (28/77)، وابن أبي حاتم (10/3352) ، كلاهما عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (8/141) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.(1/127)
فإن قيل: ما منعك من تفسيره بولد الزنا، على ما قاله بعض المفسرين؟
قلتُ: لأن الزنا قد تقدم في قوله: { ولا يزنين } .
وحكى الماوردي فيه قولين آخرين (1) :
أحدهما: أنه السحر.
والثاني: المشيُ بالنميمة والسعي في الفساد.
قوله: { ولا يعصينك في معروف } قال ابن عباس: هو النَّوْح (2) . ويروى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين (4) ، عن أم عطية (5) قالت: "بايعْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ علينا: { أن لا يشركن بالله شيئاً } ، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها، فما
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/525).
(2) ... أخرجه الطبري (28/78).
(3) ... أخرجه ابن ماجه (1/503 ح1579)، وأحمد (6/320 ح26763).
(4) ... حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الأنصارية البصرية، تابعية ثقة، ماتت سنة إحدى ومائة (تهذيب التهذيب 12/438، والتقريب ص:745).
(5) ... نسيبة بنت كعب، ويقال: بنت الحارث، أم عطية الأنصارية، صحابية مشهورة، كانت تغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تمرض المرضى وتداوي الجرحى، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت (تهذيب التهذيب 12/482، والتقريب ص:754).(1/128)
قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها" (1) .
وقال مصعب بن نوح (2) : أدركتُ عجوزاً بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحدثتني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { ولا يعصينك في معروف } قال: النَّوْح (3) .
وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا [يتركونهن] (4) : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحةُ إذا لم تَتُب قبل موتها، تُقام يوم القيامة عليها سِرْبالٌ من قَطِران، ودِرْعٌ من جَرَب" (5) .
وقال زيد بن أسلم وأسيد بن أبي أسيد: من المعروف أن لا تخمّش وجهاً، ولا تنشُر شعراً، ولا تشق جيباً، ولا تدعو ويلاً (6) .
وقال ابن السائب وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما: هو عامٌّ في كل
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1856 ح4610). وأسعدتني فلانة: قامت معي في نياحة لي.
(2) ... مصعب بن نوح الأنصاري، مجهول، روى عن سقط، روى عنه عمرو بن فروخ (الجرح والتعديل 8/307).
(3) ... أخرجه أحمد (4/55)، وابن سعد في طبقاته (8/8)، والطبري (28/79). وذكره السيوطي في الدر (8/141) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن سعد وابن مردويه بسند جيد.
(4) ... في الأصل: يتركوهن. والمثبت من صحيح مسلم، و ب.
(5) ... أخرجه مسلم (2/644 ح934).
(6) ... أخرجه الطبري (28/78)، وابن أبي شيبة (3/61 ح12108) كلاهما عن زيد بن أسلم. وأخرجه ابن أبي حاتم (10/3352) عن أسيد بن أبي أسيد. وذكره السيوطي في الدر (8/143) وعزاه لابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم.(1/129)
معروف أمر الله ورسوله به (1) .
قوله تعالى: { فبايعهن } جواب قوله: { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } أي: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن.
وقد ذكرنا كيفية مبايعته - صلى الله عليه وسلم - النساء في حديث عائشة.
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة [قولي] (2) لمائة امرأة" (3) .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه، ثم غَمَسْنَ أيديهن فيه" (4) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/526) عن ابن السائب الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (8/247) عن أبي سليمان الدمشقي.
(2) ... في الأصل: قول. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه النسائي (7/149 ح4181)، وأحمد (6/357 ح27051).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (8/143) وعزاه لابن سعد وابن مردويه.(1/130)
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ اتجب
قوله تعالى: { لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } قال المقاتلان (1) : يريد: اليهود، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتوصّلون بذلك إليهم، ليصيبوا من ثمارهم، فنزلت هذه الآية (2) .
{ قد يئسوا } يعني: القوم الذين غضب الله عليهم { من الآخرة } أي: من ثواب الآخرة بسبب كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم. هذا قول جمهور العلماء.
{ كما يئس الكفار } يعني: عَبَدَةَ الأوثان، يئسوا { من } الموتى { أصحاب القبور } أن يرجعوا أحياء، فيكون على حذف المضاف، تقديره: من بعث أصحاب القبور.
قال ابن عباس: كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور (3) .
فيكون "مِنْ" على هذا القول؛ مفعول "يئس الكفار".
وقال مجاهد: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة؛ لأنهم أيقنوا بالعذاب (4) .
فيكون "مِنْ" على هذا القول؛ بياناً للكفار الذين قُبروا.
__________
(1) ... تفسير مقاتل بن سليمان (3/354).
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:445).
(3) ... ذكره الماوردي (5/526)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/248).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:670)، والطبري (28/82). وذكره الماوردي (5/526).(1/131)
فإن قيل: ما تقول في قول الثعلبي (1) : كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم؟
قلتُ: ليس بمستقيم؛ لأن المؤمنين والكفار مشتركون في اليأس من رجوع أصحاب القبور إليهم، فيكون الاقتصار على ذكر الكفار عديم التأثير. [والله أعلم] (2) .
__________
(1) ... تفسير الثعلبي (9/299).
(2) ... زيادة من ب.(1/132)
سورة الصف
ijk
وهي أربع عشرة آية (1) .
وهي مدنية في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين، ومكية في قول ابن يسار (2) .
yx7y™ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:245).
(2) ... انظر: زاد المسير (8/249).(1/133)
(3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ احب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة: كان ناسٌ من المؤمنين يقولون قبل أن يُفرض الجهاد: وددنا أن الله تعالى دلَّنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل فرضُ الجهاد كرهه بعض القائلين، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال مجاهد: نزلت في قوم كانوا يقولون: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليه، فلما نزلت فريضة الجهاد تثاقلوا عنه (2) .
وقال عكرمة: كان الرجل منهم يقول: قاتلتُ ولم يقاتل، وطعنتُ ولم يطعن، وضربتُ ولم يضرب، وصبرتُ ولم يَصبر (3) . وهذه الأقوال مروية عن ابن عباس.
وروى سعيد بن المسيب عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رجل يوم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/83-84). وذكره السيوطي في الدر (8/146) وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه.
(2) ... ذكره الماوردي (5/527).
(3) ... مثل السابق.(1/134)
[بدر] (1) قد آذى المسلمين ونكأهم، فقتله صهيب في القتال، فقال رجل: يا رسول الله! قتلتُ فلاناً، ففرح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب: أخبرْ رسول الله أنك قتلته، فإن فلاناً ينتحله، فقال [صهيب] (2) : إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر وعبد الرحمن لرسول الله: يا رسول الله، قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم يا رسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية والآية الأخرى (3) .
وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يَعِدُون المؤمنين النصر وهم كاذبون (4) .
فيكون نداؤهم بالإيمان؛ تهكماً بهم وبإيمانهم.
وقال ميمون بن مهران: نزلت في الرجل يُقرّظ نفسه بما لا يفعله نظيره، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا (5) .
قال الزمخشري (6) في قوله: { لم تقولون } : هذه لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من [حروف الجر] (7) في قولك:
__________
(1) ... زيادة من ب، وتفسير الثعلبي (9/302).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه الثعلبي في تفسيره (9/302).
(4) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/302).
(5) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/303)، والسيوطي في الدر (8/147) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(6) ... الكشاف (4/522).
(7) ... في الأصل: جر. والتصويب والزيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/135)
[بمَ] (1) ، وفيِمَهْ، ومِمَّ، وعَمَّ، وإِلامَ، وعَلامَ. وإنما حذفت الألف؛ لأن "ما" والحرف كشيء واحد، ووقع استعماله كثيراً في كلام المستفهم؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلاً، والوقف على زيادة هاء السكت أو [الإسكان] (2) . ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف، كما سُمع: ثلاثه، أربعه، بالهاء، وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة.
قوله تعالى: { كَبُرَ مَقْتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قال الزجاج (3) : "مَقْتاً" نصب على التمييز. والمعنى: كَبُرَ قولكم ما لا تفعلون مَقْتاً عند الله.
وقال غيره (4) : اختير لفظ المَقْتُ؛ لأنه أشد البُغض وأبلغه، ولم يقتصر على أن جعل المقتَ كبيراً حتى جعله أشدَّه وأفحشَه، وعند الله أبلغ من ذاك؛ لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدّته.
ثم ذكر الله ما يحبه فقال: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } أي: صافّين أنفسهم أو مصفوفين، { كأنهم } في [تراصّهم] (5) من غير خلل { بنيان مرصوص } قد [رُصِفَ ورُصَّ] (6) بعضه ببعض.
وقال الفراء (7) : المَرْصُوصُ: المبنيّ بالرَّصَاص.
__________
(1) ... في الأصل: ثم. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: الإنسكان. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... معاني الزجاج (5/163).
(4) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/523).
(5) ... في الأصل: تزاحمهم. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: رص وقد رص. والتصويب من ب.
(7) ... معاني الفراء (3/153).(1/136)
وقوله: { صَفاً كأنهم بنيان } حالان متداخلتان (1) .
ّŒخ)ur قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/260)، والدر المصون (6/310).(1/137)
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ادب
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني } وبّخهم عليه السلام على إفراطهم في أذاه، على ما ذكرناه في أواخر الأحزاب عند قوله: { لا تكونوا كالذين آذوا موسى } [الأحزاب:69].
{ وقد تعلمون } في محل الحال (1) ، أي: تُؤذونني عالمين علماً لا تَرَدُّدَ عندكم فيه { أني رسول الله } ، فهيّج دواعي شفقتهم بقوله: "يا قوم"؛ ليكفوا عن أذاه بسبب النَّسب، وعاب عليهم أذاهم (2) إياه مع كونهم عالمين برسالته، مصدّقين بنبوّته.
وفي ضمن ذلك: تخويفهم من إقدامهم واجترائهم على الله وعلى أذى [رسوله] (3) عمداً، بعدما شاهدوا معجزاته وعاينوا آياته.
{ فلما زاغوا } مالُوا عن الحق { أزاغ الله قلوبهم } عن الهدى الواضح؛ جزاء لهم على سوء ما اختاروه لأنفسهم من الزيغ.
ومعنى الآية: اذكر يا محمد لقومك وقت قول موسى لقومه هذا القول،
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/310).
(2) ... في ب: أذاه.
(3) ... في الأصل: رسله. والتصويب من ب.(1/138)
لعلهم يرتدعون عن أذاك، خوفاً مما جُوزي به قوم موسى من إزاغة قلوبهم ومنعهم الهداية.
فإن قيل: لم قال عيسى: { يا بني إسرائيل } ولم يقل (1) : "يا قوم"، كما قال موسى؟
قلتُ: عنه أجوبة:
أحدها: أن الله أوجده من غير أب، فلم يكونوا قومه؛ لأن قوم الإنسان عصبته الذين يقومون بأمره.
الثاني: أن إيجاده من غير أب كان أعظم آياته وأوضح معجزاته، فَكَرِهَ أن يأتي بلفظ يُوهم نفي معجزاته وآيته ولو على بُعد.
الثالث: أن موسى قصد استدفاعَ أذاهم، فأتى بلفظ يستعطف به قلوبهم، وذكَّرهم بالقرابة التي بينه وبينهم، بخلاف عيسى، فإنه قصد إخبارهم برسالته إليهم وبشارتهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً من بعده.
فإن قيل: بماذا انتصب قوله: "مُصَدِّقاً" و"مُبَشِّراً"؟
قلتُ: بما في "رسول" من معنى الإرسال.
فإن قيل: ما منعك أن تجعل الظرف هو العامل؟
قلتُ: لأن "إليكم" صلة لـ"رسول"، وحروف الجر لا تعمل إلا بما فيها من معنى الفعل. فإذا وقعت صِلات لم تتضمّن معنى الفعل، فلا تعمل.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر: "من بعديَ اسمه أحمد" بفتح
__________
(1) ... قوله: "ولم يقل" مكرر في الأصل.(1/139)
الياء، وأسكنها الباقون (1) . والعلة في ذلك: التقاء الساكنين.
والخليل وسيبويه يختاران الفتح.
فإن قيل: ما معنى "أحْمَد"؟
قلتُ: هو أفْعَل من الحمد، بمعنى: أنه أكثر حمداً لله من غيره، أو يُحمد أكثر من غيره، بما فيه من محاسن الشيم ومكارم الأخلاق. فتكون المبالغة على المعنى الأول من الفاعل، وعلى الثاني من المفعول.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم العطار وأبو الحسن بن العطار قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لي أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" (2) . أخرجه البخاري في تفسير هذه السورة.
ورواه في موضع آخر عن إبراهيم بن المنذر، عن معن، عن مالك، عن الزهري (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/40)، والكشف (2/321)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:415)، والسبعة (ص:635).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1858 ح4614).
(3) ... أخرجه البخاري (3/1299ح3339).(1/140)
وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه (1) .
وهذا الاسم من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعلام، وفيه يقول حسان بن ثابت:
صَلَّى الإلهُ ومن يَحُفُّ بعَرْشِهِ ... والطَّيِّبُونَ على المبارَكِ أحْمَدِ (2)
فإن قيل: ما الحكمة في بشارة عيسى بني إسرائيل بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - من بعده؟
قلتُ: التنبيه على فخامة أمره - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيم شأنه، وتحقيق رسالته، وتقرير نبوته في قلوب أهل الكتاب، وتوكيد حجته، مع ما في ذلك من المعجزة له ولعيسى صلى الله عليهما وسلم.
قوله تعالى: { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } لم أَرَ أحداً من المفسرين تعرّض للتصريح باسم الفاعل والمفعول في "جاءهم"؛ اعتماداً منهم على وضوح معناه، وتبادره إلى الأفهام، كأن التقدير والله أعلم: فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات.
ويجوز أن يكون التقدير: فلما جاءهم أحمد الذي بَشَّرَ به عيسى وأوضح أمره بالبينات، أي: بالدلالات الشاهدة برسالته، منضمّة إلى بشارة عيسى به، قالوا بهتاناً وعناداً: هذا سحر مبين.
وقُرئ: "ساحر" (3) . وقد ذكرته في آخر المائدة (4) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/1828 ح2354).
(2) ... البيت لحسان. انظر: ديوانه (ص:66)، والماوردي (5/529)، والبحر المحيط (8/259)، والدر المصون (6/310)، وروح المعاني (28/86).
(3) ... الحجة للفارسي (2/142)، والحجة لابن زنجلة (ص:239-240)، والكشف (1/421)، والنشر (2/256)، والإتحاف (ص:203، 415)، والسبعة (ص:249).
(4) ... عند الآية رقم: 110.(1/141)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ(1/142)
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ازب
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } قال مقاتل (1) : هم اليهود.
وقال أبو سليمان: النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله (2) .
وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري: "وهو يَدَّعِي" بفتح الياء والدال وتشديدها، وكسر العين (3) .
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف [وحفص] (4) : "مُتِمُّ" بغير تنوين "نُورِه" بالجر على الإضافة، وقرأ الباقون من العشرة: "مُتِمٌّ" بالتنوين، "نُورَه" بالنصب (5) ، وهو الأصل في اسم الفاعل إذا كان للحال أو للاستقبال.
وهذه الآية مفسرة في براءة (6) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/356).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/253).
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (8/253)، والدر المصون (6/311).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (4/40-41)، والحجة لابن زنجلة (ص:707-708)، والكشف (2/320)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:415-416)، والسبعة (ص:635).
(6) ... عند الآية رقم: 32.(1/143)
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(1/144)
(13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ ×pxےح !$©غ مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) وَكَفَرَتْ ×pxےح !$©غ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ اتحب
قوله تعالى: { هل أدلكم على تجارة } سمَّى الإيمان وما في [حيّزه] (1) تجارة؛ لما يتضمن من ربح [النَّجَاة] (2) .
__________
(1) ... في الأصل: خبره. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: التجارة. والتصويب من ب.(1/145)
{ تُنْجِيكُم } وقرأ ابن عامر: "تُنَجِّيكُم" بالتشديد (1) ، { من عذاب أليم } .
ثم بيّن تلك التجارة فقال: { تؤمنون بالله } وهو خبر في معنى الأمر، ولذلك أجيب بقوله: { يغفر لكم } ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود: "آمنوا بالله" (2) .
قوله تعالى: { وأخرى تحبونها } قال الفراء (3) : أي: وخصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة.
ثم فسّر الخصلة فقال: { نصر من الله وفتح قريب } عاجل، وهو فتح مكة.
وقال الحسن وعطاء: فتح فارس والروم (4) .
قوله تعالى: { وبشر المؤمنين } عطف على "تؤمنون"؛ لأنه في معنى آمنوا.
والمعنى: وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والتمكين في الدنيا، والجنة في الآخرة.
قوله تعالى: { كونوا أنصاراً لله } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/41)، والحجة لابن زنجلة (ص:708)، والكشف (2/320)، والنشر (2/259)، والإتحاف (ص:210)، والسبعة (ص:635).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/260)، والدر المصون (6/312).
(3) ... معاني الفراء (3/154).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/293)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/255) كلاهما عن عطاء.(1/146)
"أنصاراً" بالتنوين، "لله". وقرأ الباقون: "أنصارَ الله" على الإضافة (1) ، وهو اختيار أبي عبيد؛ [لقوله] (2) تعالى: { نحن أنصار الله } .
والتشبيهُ في قوله: { كما قال عيسى بن مريم للحواريين } محمولٌ على المعنى، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى، حين قال: من أنصاري إلى الله.
وقد سبق ذكر الحواريين.
{ فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } قال ابن عباس: يعني: في زمن عيسى عليه السلام (3) .
{ فأيدنا الذين آمنوا } بعيسى { على عدوهم } مخالفي عيسى.
وقال مقاتل (4) : تمّ الكلام عند قوله: { وكفرت طائفة } .
والمعنى: فأيدنا الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على عدوهم.
{ فأصبحوا ظاهرين } غالبين (5) عالين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على الأديان.
قال إبراهيم النخعي: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرةً بتصديق
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/41)، والحجة لابن زنجلة (ص:708-709)، والكشف (2/320)، والنشر (2/387)، والإتحاف (ص:416)، والسبعة (ص:635).
(2) ... في الأصل: قوله. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (28/92).
(4) ... تفسير مقاتل (3/357).
(5) ... قوله: "غالبين" سقط من ب.(1/147)
محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أن عيسى كلمة الله وروحه (1) . والله أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/93). وذكره السيوطي في الدر (8/150) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/148)
سورة الجمعة
ijk
وهي إحدى عشرة آية في العددين (1) . وهي مدنية بإجماعهم.
قرأ أبو الدرداء وأبو عبد الرحمن السلمي وعكرمة والنخعي والوليد عن يعقوب: "الملكُ القدوسُ العزيزُ الحكيمُ" بالرفع (2) ، على معنى: هو الملك.
كxخm7|،ç" لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:246).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/257)، والدر المصون (6/315).(1/149)
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ احب
قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين } يعني: العرب (1) { رسولاً منهم } أي: من الأُمِّيين لا يكتب ولا يقرأ.
وقيل: رسولاً من أنفسهم. وقد سبق هذا المعنى.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/94)، عن مجاهد وقتادة. وذكره السيوطي في الدر (8/152) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، ومن وجه آخر ، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.(1/150)
وما لم أذكره [ظاهر أو مفسر] (1) إلى قوله: { وآخرين } وهو مجرور عطفٌ على "الأمِّيين" (2) ، على معنى: بَعَثَه في الأميين، وفي آخرين منهم.
قال الزجاج (3) : ويجوز أن يكون "وآخرين" في موضع نصب، على معنى: يُعلّمهم الكتاب والحكمة ويُعلّم آخرين منهم.
قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم (4) .
فعلى هذا؛ معنى قوله: "منهم": أنهم مسلمون، فإن المسلمين يد واحدة على من سواهم، وإن اختلفت أنواعهم.
قال ابن زيد: "وآخرين منهم" هم الذين يدخلون في الإسلام إلى يوم القيامة (5) . والقولان عن مجاهد (6) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزلت عليه سورة الجمعة: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قال قائل: منْ
__________
(1) ... في الأصل: ظاهراً أو مفسراً، والتصويب من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/261)، والدر المصون (6/315).
(3) ... معاني الزجاج (5/170).
(4) ... أخرجه الطبري (28/95)، وابن أبي حاتم (10/3355) كلاهما عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/259)، والسيوطي في الدر (8/152) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(5) ... أخرجه الطبري عن مجاهد (28/96). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/259). والقول الثاني أخرجه مجاهد (ص:673) ولفظه: يعني من ردف الإسلام من الناس كلهم.
(6) ... أخرجه الطبر ي (28/96)، ومجاهد (ص:673). وذكره السيوطي في الدر (8/153) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. ولفظه: "من ردف الإسلام من الناس كلهم"، وهو لفظ الطبري ومجاهد أيضاً.(1/151)
هُمْ يا رسول الله؟ -وفينا سلمان الفارسي-، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان فقال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" (1) .
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رأيتُني يتبعني غنم سود، ثم تبعها غنم عُفْر، أوِّلْها يا أبا بكر. قال: أما السود فالعرب، وأما العُفْر فالعجم تتبعك بعد العرب، قال: كذلك عبّرها الملك سحر" (2) .
قوله تعالى: { لمَاَّ يلحقوا بهم } أي: لم يلحقوا بهم بعد، أو لم يلحقوا بهم في الفضيلة والسبق؛ لأن التابعين إلى يوم القيامة لم يدركوا فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: { ذلك فضل الله } إشارة إلى النبوة التي خص الله تعالى بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في قول مقاتل (3) .
وقال ابن السائب: "ذلك" إشارة إلى الإسلام (4) ، { فضل الله يؤتيه من يشاء } .
م@sVtB الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1858 ح4615)، ومسلم (4/1972 ح2546).
(2) ... أخرجه الحاكم (4/437 ح8193).
(3) ... انظر: تفسير مقاتل (3/259).
(4) ... ذكره الماوردي (6/7).(1/152)
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي(1/153)
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ارب
قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة } أي: كُلِّفُوا العمل بها، { ثم لم يحملوها } لم يعملوا بها، وهم: اليهود { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يُثقله ويُتعبه، وكلُّ مَنْ عَلِمَ ولم يَعمل فهو من أهل هذا المثل، أعاذنا الله من ذلك.
والأسْفَار: جمع سِفْر، مثل: شِبْر وأشْبَار.
{ بئس مثل القوم الذين } إن شئت كان المضاف محذوفاً، على تقدير: بئس مَثَلُ القوم مَثَلُ الذين كذبوا، فيكون "الذين" في موضع رفع؛ لقيامه مقام المضاف المحذوف. وإن شئت كان "الذين" في موضع الجر؛ وصفاً للقوم، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، المثل المضروب لهم (1) .
وقال الواحدي (2) : هو ذم لمثلهم. والمراد به: ذمهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/261)، والدر المصون (6/316).
(2) ... في الوسيط (4/295).(1/154)
والآيتان بعد هذه سبق تفسيرهما في البقرة (1) .
وكان اليهود يكرهون [الموت] (2) لسوء ما اختاروا لأنفسهم من حب الرئاسة والنفاسة على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أنكروا ما عرفوه ووجدوه مكتوباً عندهم في التوراة، فأنزل الله تعالى: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } ، وقرأ زيد بن علي: "إنّه ملاقيكم" (3) .
وقرأ ابن مسعود: "تفرون منه ملاقيكم" (4) .
قال الزجاج (5) : دخلت الفاء في خبر "إنَّ"، ولا يجوز: إنّ زيداً فمنطلقٌ؛ لأن "الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" فيه معنى الشرط والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام: "قل إن الموت الذي تفرون منه" كأنه قيل: إن فررتُم من أيّ موتٍ كان من قتلٍ أو غيره فإنه ملاقيكم، ويكون "فإنه" استئناف بعد الخبر الأول.
قال غيره (6) في قراءة زيد: قد جَعَلَ "إن الموت الذي تَفِرُّون منه" كلاماً برأسه، أي: إن الموت هو الشيء الذي تَفِرُّون منه، ثم استؤنف: "إنه ملاقيكم".
وقراءة ابن مسعود ظاهرة.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 94، 95.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/264)، والدر المصون (6/317).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/261)، والكشاف (4/532).
(5) ... معاني الزجاج (5/171).
(6) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/532).(1/155)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ازب
قوله تعالى: { إذا نودي للصلاة } يعني: النداء الثاني إذا جلس الإمام على المنبر { من يوم الجُمُعَة } وقرأتُ لعبد الوارث عن أبي عمرو: "الجُمْعَة" بسكون الميم (1) ، واسمه: "عروبة" في اللغة القديمة.
ويقال: أول من سَمّاه الجمعة: كعب [بن] (2) لؤي (3) .
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:416)، وزاد المسير (8/262).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/355): روى عبد الرزاق بإسناد صحيح (3/159 ح5144) عن محمد بن سيرين قال: جَمَعَ أهلُ المدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة. اهـ. فظهر من الأثر أن أول من سمى الجمعة: الأنصار.(1/156)
{ فاسعوا إلى } قال البخاري في صحيحه (1) : قرأ عمر: "فامضوا".
قلتُ: [وهي] (2) قراءة ابن مسعود، وكان يقول: لو قرأتها "فاسْعَوْا" لسعيت حتى يسقط ردائي (3) .
والمراد بالسَّعْي: المشي.
قال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة (4) .
وقال عكرمة والضحاك: "فاسعوا" أي: اعملوا (5) ، على معنى: اعملوا على المضي إلى ذكر الله، وذلك بتعاطي أسبابه المؤدية إليه.
وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، فقد نُهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن [بالقلوب] (6) والنية والخشوع (7) . ونحوه عن قتادة (8) .
والمعني بذكر الله: الخطبة والصلاة.
__________
(1) ... ذكره البخاري معلقاً (4/1858).
(2) ... في الأصل: وفي. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (28/101).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/299)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/264).
(5) ... أخرجه الطبري (28/101).
(6) ... في الأصل: بالقوب. والتصويب من ب.
(7) ... أخرجه مجاهد في تفسيره (ص:674)، وابن أبي حاتم (10/3356)، وابن أبي شيبة (1/482 ح5557). وذكره السيوطي في الدر (8/162) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(8) ... أخرجه الطبري (28/100)، والبيهقي في الشعب (3/88 ح2966). وذكره السيوطي في الدر (8/162) وعزاه لعبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان.(1/157)
{ وذروا البيع } أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت.
وشدّد في ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه فقال: لو باع لم يصح البيع. وهو قول مالك (1) .
فصل
تجبُ الجمعة على من سمع النداء من أهل المصر، إذا كان المؤذن صَيِّتاً والريح ساكنة. وحَدَّه مالك بفرسخ (2) ، ولم يَحُدّه الشافعي.
وعن الإمام أحمد كالمذهبين (3) .
وتجب الجمعة على أهل القرى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على [أهل] (4) الأمصار (5) .
ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، في أصح الروايات عن الإمام أحمد. والرواية الأخرى: خمسون، والرواية الثالثة: ثلاثة (6) .
وفي وجوب الجمعة على العبد روايتان:
[إحداهما] (7) : لا تجب. وهو قول الأكثرين.
والثانية: تجب، وهو قول الحسن وقتادة (8) .
__________
(1) ... انظر: المغني (2/71).
(2) ... انظر: الشرح الكبير لدردير (1/373).
(3) ... انظر: المغني (2/106).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... انظر: المغني (2/106)، والمبسوط للشيباني (1/345).
(6) ... انظر: المغني (2/88-89).
(7) ... في الأصل: أحدهما. والتصويب من ب.
(8) ... انظر: المغني (2/95).(1/158)
وتجب على الأعمى إذا وجد قائداً، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
وهل من شرطها إذن الإمام؟ على روايتين (2) .
وتجوز إقامة الجمعة في موضعين من البلد فصاعداً عند الحاجة، خلافاً لمالك والشافعي [وأبي يوسف (3) .
ويجوز إقامتها قبل الزوال، خلافاً لأكثرهم (4) .
وإذا وقع العيد في يوم الجمعة فاجتزأ بالعيد وصلى الجمعة ظهراً جاز، إلا الإمام، وبه قال الشعبي والنخعي، خلافاً لأكثرهم (5) .
والخطبةُ شرطٌ في الجمعة، خلافاً لداود (6) . والطهارة فيها مستحبة، خلافاً لأحد قولي الشافعي (7) ، والقيام ليس بشرط في الخطبة خلافاً للشافعي (8) ] (9) .
ولا يجب القعود بين الخطبتين، خلافاً له أيضاً (10) .
__________
(1) ... انظر: المغني (2/96)، والمبسوط للسرخسي (2/22).
(2) ... انظر: المغني (2/90).
(3) ... انظر: المغني (2/92)، وبدائع الصنائع (1/260)، ومواهب الجليل (2/196).
(4) ... انظر: المغني (2/104).
(5) ... انظر: المغني (2/105).
(6) ... انظر: المغني (2/74).
(7) ... انظر: المغني (2/77)، والحاوي للماوردي (2/443).
(8) ... انظر: المغني (2/74)، والحاوي للماوردي (2/433).
(9) ... ما بين المعكوفين زيادة من ب.
(10) ... انظر: المغني (2/76).(1/159)
والخطبتان واجبتان، ومن شرطهما: التحميد، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقراءة آية، والموعظة (1) .
وقال أبو حنيفة: إن اقتصر الخطيب على قول: الحمد لله، أو سبحان الله: جاز (2) .
ويُسنّ للإمام إذا صعد المنبر أن يُسلّم على الناس، خلافاً لأبي حنيفة ومالك (3) .
فصل: في فضيلة الجمعة
قرأتُ على أبي المجد محمد بن الحسين، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد فأقرَّ به قال: حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود، أخبرنا عبدالواحد بن أحمد، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خيرُ يوم طلعت فيه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها [مسلم] (4) يصلي، يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، وقال بيده يُقلِّلُها، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي، هي آخر ساعات الجمعة، هي الساعة التي خلق الله فيها آدم. قال الله تعالى: { خلق
__________
(1) ... انظر: المغني (2/75-76).
(2) ... انظر: المغني (2/76)، والمحيط البرهاني (2/171).
(3) ... انظر: المغني (2/71)، والتاج والإكليل (2/171).
(4) ... زيادة من ب، والترمذي (2/362).(1/160)
الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون } " (1) . هذا حديث صحيح.
قال الإمام أحمد في الساعة التي يستجاب فيها الدعوة: أكثر الأحاديث أنها بعد العصر، وتُرجى بعد زوال الشمس (2) .
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة" (3) .
وعن ابن عباس: أنها ما (4) بين الأذان إلى انصراف الإمام.
وقال أبو هريرة: التمسوا الساعة التي في الجمعة في ثلاث مواطن: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وما بين أن ينزل الإمام إلى أن يكبر، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس (5) .
فصل: في وعيد من ترك الجمعة بغير عذر
قُرئ على الشيخ أبي الحسن علي بن ثابت الطالباني البغدادي الفقيه
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (2/362 ح491).
(2) ... انظر: الترمذي (2/360).
(3) ... أخرجه مسلم (2/584 ح853) من حديث أبي موسى الأشعري.
... قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/421) بعد أن ذكر أكثر من أربعين قولاً في الساعة التي يستجاب فيها الدعوة: قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام. انتهى.
... ثم قال: وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه - صلى الله عليه وسلم - أنسيها بعد أن علمها؛ لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي.
(4) ... في ب: فيما.
(5) ... ذكره ابن حجر في الفتح (2/417).(1/161)
برأس عين وأنا أسمع، أخبركم أبو منصور بن مكارم فأقرّ به، أخبرنا نصر بن محمد بن صفوان، أخبرنا علي بن إبراهيم السّراج، أخبرنا هبة الله بن إبراهيم بن أنس، حدثنا ابن طوق، [حدثنا] (1) زيد بن عبدالعزيز بن حيان، حدثنا محمد بن عبدالله بن عمار، حدثنا المعافى بن عمران رحمة الله عليه، عن فضيل بن مرزوق، عن رجل من أهل الخير والصلاح، عن محمد بن علي، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على منبره يوم الجمعة يقول: "يا أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم إياه، وكثرة صدقتكم في السر والعلانية تُؤجروا، وتُنصروا، وتُرزقوا.
واعلموا أن الله افترض عليكم الجمعة فريضة مفروضة، من يومي هذا، في مقامي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي جحوداً بها واستخفافاً بها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، [ألا] (2) ولا صوم له، ولا برّ له (3) . فمن تاب تاب الله عليه" (4) .
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... زيادة من ب ، ومصادر التخريج.
(3) ... في ب: بركة.
(4) ... أخرجه عبد بن حميد (ص:344)، وأبو يعلى في مسنده (3/381-382 ح 1856)، والطبراني في الأوسط (2/64 ح 1261).(1/162)
وقرأتُ على القاضي أبي المجد القزويني، أخبركم أبو منصور الطوسي فأقرَّ به، قال: حدثنا أبو محمد البغوي، أخبرنا أبو عبدالله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبدالله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن [حُجْر] (1) ، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن عبيدة بن (2) سفيان، عن أبي الجعد -يعني: الضمري (3) - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها، طبع [الله] (4) على قلبه" (5) . هذا حديث حسن. ولا يعرف لأبي الجعد الضمري حديث سوى هذا، وله صحبة، ولا يعرف له اسم.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة قالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على أعواد منبره: "لينتهينّ أقوامٌ عن ودْعهم الجُمُعَات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين" (6) .
__________
(1) ... في الأصل: حجرة. والمثبت من ب. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (7/259)، والتقريب (ص:399).
(2) ... في الأصل و ب زيادة لفظة: "أبي". وهو وهم. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (7/77)، والتقريب (ص:379).
(3) ... في الأصل: الضمرتي. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (12/57)، والتقريب (ص:628).
(4) ... زيادة من ب، والترمذي (2/373).
(5) ... أخرجه الترمذي (2/373 ح500).
(6) ... أخرجه مسلم (2/591 ح865).(1/163)
فصل في فضيلة التبكير إلى الجمعة
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك.
وأخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه، أخبرنا الفراوي، أخبرنا عبدالغافر، أخبرنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي، أبنا [أبو إسحاق] (1) إبراهيم الفقيه، أخبرنا مسلم، أخبرنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا مالك.
وأخبرنا الشيخان الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق النيسابوري بقراءتي عليه قالا: أخبرنا أبو زرعة المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور [بن] (2) علان الكرجي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك.
وقرأتُ على أبي المجد القزويني، أخبركم محمد بن أسعد الطوسي فأقرّ به، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو
__________
(1) ... في الأصل: إسحاق بن، والتصويب مع الزيادة من: التقييد (ص:186).
(2) ... زيادة من ب.(1/164)
مصعب، عن مالك، عن سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبدالرحمن (1) ، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قَرَّبَ بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة [يستمعون] (2) الذكر" (3) . هذا حديث متفق على صحته.
وبالإسناد قال: أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طُويت الصحف واستمعوا الخطبة، والمهجِّر إلى الصلاة كالمُهْدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً، حتى ذكر الدجاجة والبيضة" (4)
__________
(1) ... سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، أبو عبد الله المدني، ثقة، قتلته الحرورية يوم قديد سنة ثلاثين ومائة (تهذيب التهذيب 4/209، والتقريب ص:256).
(2) ... في الأصل: يسمعون. والمثبت من ب، والصحيحين.
(3) ... أخرجه البخاري (1/301 ح841)، ومسلم (2/582 ح850)، والشافعي في مسنده (ص:62).
(4) ... أخرجه البخاري (1/314 ح887، 3/1175 ح3039)، ومسلم (2/587 ح850)، والشافعي في مسنده (ص:62).(1/165)
هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق، عن الزهري، عن أبي عبدالله الأغر وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
قال الخليل بن أحمد رحمه الله: التَّهْجِير إلى الجمعة: التَّبْكِير (1) .
واختلفوا في هذه الساعات؛ فذهب بعضُهم إلى أنها ساعات لطيفة بعد الزوال، لا يريد به حقيقة الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار؛ لأن الرّواح لا يكون إلا بعد الزوال، فهو كقول القائل: جلست عند فلان ساعة، لا يريد به التحديد بساعة النهار.
وقيل: المراد منه: ساعات النهار، فَبَيَّنَ فضلَ من جاء في الساعة الأولى من النهار مبكراً قبل الزوال. وجاء بلفظ الرواح؛ لأنه خَرَجَ لفعل يفعله وقت الرواح، كما يقال للقاصدين إلى الحج: حُجَّاج، وللخارجين إلى الغزو: غُزَاة، وَلَمَا يحجوا ويغزوا بعد.
وقيل: مَنْ راح إلى الجمعة، أي: مَنْ خَفَّ إليها، يقال: تَرَوَّحَ القوم ورَاحُوا؛ إذا ساروا أيّ وقت كان (2) .
#sŒخ*sù قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
__________
(1) ... انظر: المغرب (2/379).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: روح).(1/166)
كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قوله تعالى: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } هذا أمر إباحة. وقد تقدمت نظائره.
قال ابن عباس: إن شئتَ فاخْرُج، وإن شئتَ فَصَلِّ إلى العصر، وإن شئت فاقعد (1) .
{ وابتغوا من فضل الله } أي: اطلبوا الرزق بأنواع التجارة.
وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم! أجبتُ دعوتك، وصليتُ فريضتك، وانتشرتُ كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين (2) .
وقيل: "ابتغوا من فضل الله" من عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله. ويروى هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وقال الحسن وسعيد بن جبير في قوله: { وابتغوا من فضل الله } : اطلبوا العلم (4) .
#sŒخ)ur رَأَوْا تِجَارَةً
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/300).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3356). وذكره الماوردي (6/10).
(3) ... أخرجه الطبري (28/103) من حديث أنس.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/268).(1/167)
أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ $VJح !$s% قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ اتتب
قوله تعالى: { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } السبب في نزولها: [ما] (1) أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا خالد بن عبد الله، أخبرنا حصين، عن سالم [بن] (2) أبي الجعد، [وعن] (3) أبي سفيان (4) ، عن جابر بن عبد الله قال: "أقبلتْ عيرٌ يومَ الجمعة ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فثار الناسَ إلا
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: عن. والتصويب من البخاري و ب.
(3) ... في الأصل: عن. والتصويب من البخاري، و ب.
(4) ... هو طلحة بن نافع الواسطي، أبو سفيان الإسكاف، نزل مكة، صدوق (تهذيب الكمال 13/438-440، والتقريب ص:283).(1/168)
اثني عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى: { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" (1) . وأخرجه مسلم أيضاً.
وفي رواية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً، فجاءت عير من الشام، فخرج الناس إليها، فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر" (2) .
وفي رواية: "إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم" (3) .
قال الحسن وأبو مالك: أصاب أهلَ المدينة جوعٌ وغلا السعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من الشام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يُسبقوا إليه، فلم يبق من القوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رهط، منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لَسَالَ بكم الوادي ناراً" (4) .
وقال قتادة ومقاتل (5) : بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات لعير تقدم من الشام، وكان ذلك يوافق يوم الجمعة.
والمراد باللهو: الطَّبْل، وذلك أن العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطَّبْل والتصفيق.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1859 ح4616)، ومسلم (2/590 ح863).
(2) ... أخرجه مسلم (2/590 ح863).
(3) ... أخرجه مسلم، الموضع السابق.
(4) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:449). وذكره السيوطي في الدر (8/166-167) وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.
(5) ... تفسير مقاتل (3/361).(1/169)
وقال مقاتل (1) : كان دحية بن خليفة إذا قدم من الشام يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بُرٍّ أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت -وهو مكان في سوق المدينة-، ثم يُضرب الطَّبْل ليُؤذِنَ الناسَ بقدومه.
والضمير في "إليها" راجع إلى التجارة؛ لأنها أهمّ. هذا قول الفراء (2) والمبرد.
وقيل: التقدير: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وكذلك قراءة من قرأ: "انفضوا إليه" على ضمير المذكّر (3) .
وهي قراءة ابن مسعود، وهذا اختيار الزجاج (4) .
وقد قُرئ: "انفضوا إليهما" (5) .
{ وتركوك قائماً } يعني: على المنبر.
وقال الواحدي (6) : أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة.
وسُئل ابن مسعود: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً أو قاعداً؟ قال: أما تقرأ:
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/361).
(2) ... معاني الفراء (3/157).
(3) ... وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة، كما في زاد المسير (8/270).
(4) ... معاني الزجاج (5/172).
(5) ... وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة، كما في زاد المسير (8/270).
(6) ... الوسيط (4/301).(1/170)
{ وتركوك قائماً } (1) .
{ قل ما عند الله } من ثواب الصلاة والثبات مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } فإنه ينعم بالنوال قبل السؤال، ويرزق على كل [حال] (2) .
قال الزجاج (3) : أي: ليس يفوتهم من أرزاقهم لتخلّفهم عن النظر إلى الميرة شيء، ولا بتركهم البيع في وقت الصلاة. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... أخرجه ابن ماجه (1/352 ح1108)، والطبراني في الكبير (10/76 ح10003). وذكره السيوطي في الدر (8/167) وعزاه لابن أبي شيبة وابن ماجة والطبراني وابن مردويه.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/173).(1/171)
سورة المنافقون (1)
ijk
وهي كالجمعة إحدى عشرة آية (2) ، مدنية بإجماعهم.
وكان السبب في نزولها: ما صَحَّت به الأخبار، ونقله أئمة الحديث؛ كالبخاري ومسلم وغيرهما، وأنا أجمع متفرّق ما نقلوه على وجه الاختصار بسياقةٍ محصلةٍ للمقصود، فأقول:
اعلم أن عبدَ الله بن أبيّ خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة من المنافقين في غزوة المُرَيْسِيع -وهو ماء لبني المصطلق- طلباً للغنيمة لا رغبةً في الجهاد؛ لأنه كان سفراً قريباً، فلما قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غزوته أقبل رجل من جهينة يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ، ورجل من غفار يقال له: جَهْجَاه بن سعيد، وهو أجِيرٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاري يده فَلَطَم الجهني فأدْمَاه، فنادى الجهني: يا للأنصار، فأقبلوا، ونادى الغفاري: يا للمهاجرين، فأقبلوا، وأصلح الأمرَ قومٌ من المهاجرين، فبلغ الخبرَ عبدُ الله بن أبيّ، فقال لجماعة عنده من المنافقين: والله ما مَثَلُكُم ومثلُ هؤلاء إلا كما قال القائل: سَمِّن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلُكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقَوُوا وضَعُفْتُم، وايم الله! لو
__________
(1) ... في ب: المنافقين.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:247).(1/172)
أمسكتُم أيديكم لتفرّقتْ عن هذا جموعُه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلامٌ لا يُؤْبَهُ له، فقال لعبد الله: أنت والله الذليل القليل البغيض في قومك، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين، فقال عبدالله: اسكت، إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال: إذاً تُرْعَدُ له أُنُفٌ كثيرة. قال: فإن كرهتَ أن يقتله رجل من المهاجرين، فمرْ سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتله، فقال: إذاً يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أُبيّ فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام، فقال: والذي أنزل عليك ما قلتُ شيئاً من هذا، وإن زيداً لكذاب، فقال من حضر: يا رسول الله! لا [يُصَدَّقُ] (1) عليه غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَفَشَتِ الملامة في الأنصار لزيد بن أرقم، وكذّبوه، فقال له عمّه: ما أردّتَ إلا أن يكذّبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ومَقَتُوك، فاستحيا زيد، ووقع عليه من الهمّ ما [لم] (2) يقع على أحد، وجعل لا يسير قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - حياء منه، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من خبر أبيه، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه، فإن كنتَ فاعلاً فمُرْني به أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرجُ ما كان بها رجلٌ أبرَّ [بوالديه] (3)
__________
(1) ... في الأصل: تصدق. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: بولديه. والتصويب من ب.(1/173)
مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعنّي نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بل نرفُقُ به، ونُحسن صحبته ما بقي معنا، فلما قاربوا المدينة وقف له ابنه على فوهة الطريق وقال: وراءك؟ فقال له أبوه: ما لك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبداً إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لتعلم اليوم من الأعز ومن الأذلّ، فشكاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خلّ عنه. قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء، وأنزل الله سورة المنافقين، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زيد [فقال] (1) : إن الله قد صدَّقك، وكذَّبَ عبدَ الله بن أبيّ، فقرأ عليه سورة المنافقين (2) .
وفي رواية الترمذي: "وكان ذلك في غزوة تبوك" (3) .
قرأتُ على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبدالرزاق بن عبدالقادر الجيلي الحنبلي، أخبرتكم شهدة بنت أحمد فأقرّ به قالت: أخبرنا محمد بن عبدالسلام الأنصاري، أخبرنا أبو بكر البرقاني قال: سمعت عبدالله بن إبراهيم الجرجاني يقول: أخبرني محمد بن سعيد بن هلال الرسعني، حدثنا المعافى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ أصاب الناس فيه شدّة، فقال عبدالله بن أبيّ لأصحابه: لا تُنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله،
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:451-453).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/417 ح3314).(1/174)
وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبدالله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كَذَبَ زيدٌ رسول الله، قال: فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل الله تصديقي: { إذا جاءك المنافقون } ، قال: ودعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم فلوَّوا رؤوسهم" (1) . أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حسن بن موسى، عن زهير، فكأنني سمعته من طريقه من الفراوي.
#sŒخ) جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1860 ح4620)، ومسلم (4/2140 ح2772).(1/175)
كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ احب
قال الله تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد } أي: نشهد شهادة تتواطأ عليها قلوبنا وألسنتنا { إنك لرسول الله } وهاهنا تم الكلام.
ثم استأنف الله تعالى جملة أخرى وهي قوله: { والله يعلم إنك لرسوله } ،(1/176)
وكأنّ الفائدةَ فيها: دفعُ ما عساه أن يتوهمه بعضهم عند مرادفة قوله: { والله يشهد إنهم لكاذبون } لقوله: { قالوا نشهد إنك لرسول الله } من أنه تكذيب لهم في شهادتهم أنه رسول الله.
فلما فَصَلَ بين الجملتين بقوله: { والله يعلم إنك لرسوله } زاحت علل المبطلين، وطاحت [شُبَه] (1) المكذبين.
والمعنى: والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: "نشهد".
والآية التي بعدها مفسرة في المجادلة (2) .
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى قوله تعالى: { إنهم ساء ما كانوا يعملون } ، أي: ذلك القول الشاهد عليهم { بأنهم } أسوأ الناس أعمالاً، بسبب أنهم { آمنوا ثم كفروا } وذلك الكذب بأنهم آمنوا بألسنتهم، ثم كفروا بقلوبهم، [أو بما] (3) ظهر من كفرهم.
{ فطُبع على قلوبهم } خُتم عليها بالكفر، { فهم لا يفقهون } الحق من الباطل.
قوله تعالى: { وإذا رأيتهم } خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل سامع { تعجبك أجسامهم } قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبيّ جسيماً فصيحاً، ذَلِقَ اللسان، فإذا قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله (4) .
__________
(1) ... في الأصل: بشبه. والتصويب من ب.
(2) ... عند الآية رقم: 16.
(3) ... في الأصل: أبما. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/274-275).(1/177)
وقال زيد بن أرقم: كانوا رجالاً أجمل شيء (1) .
وقال غيره (2) : وكانوا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولهم جهارة المنظر، وفصاحة الألسن، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون يَعجبون منهم ويسمعون كلامهم.
{ كأنهم خُشُبٌ مسنَّدة } قرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل: "خُشْب" بسكون الشين، وقرأ الباقون بضمّها (3) ، وهو جمع خَشَبَة؛ كبَدَنة وبُدُن، وثَمَرة وثُمُر.
والمعنى: كأنهم في عِظَم أجسامهم، وخِفَّةِ أحلامهم، وعدم انتفاعهم والنفع بهم؛ خُشُب.
وفي قوله: { مُسنَّدة } تحقيق لمعنى عدم النفع بهم؛ لأن الخُشُب لا ينتفع به ما دام متروكاً [مسنّداً] (4) .
وقيل: شبّههم [بالخُشُب] (5) المسنّدة؛ لأنها لا تُثمر ولا تَنمي.
وقيل: شبّههم بالخُشُب النخرة؛ لسوء مَخْبَرِهم.
وجوّز بعضهم أن يراد: الأوثان المنحوتة من الخشب المسنّدة إلى الحيطان، فهي جميلة في المنظر، خالية عن المخبر.
وقال اليزيدي: الخُشُب: جمع خَشْبَاء، وهي الخَشَبَة التي دَعَرَ جوفها،
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1860 ح4620) ضمن حديث زيد بن أرقم السابق ذكره.
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/542).
(3) ... الحجة للفارسي (4/43)، والحجة لابن زنجلة (ص:709)، والكشف (2/322)، والنشر (2/216-217)، والإتحاف (ص:142، 416)، والسبعة (ص:636).
(4) ... في الأصل: مستنداً. والمثبت من ب.
(5) ... في الأصل: باخشب. والتصويب من ب.(1/178)
أي: فَسَد، شُبِّهُوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم (1) .
{ يحسبون كل صيحة عليهم } أي: يحسبون لما عندهم من الرُّعب كل صيحة عليهم. [وثاني] (2) مفعولي "يحسبون" محذوف، تقديره: يحسبون كل صيحة واقعة (3) عليهم.
وقد سَرَقَ الأخطل النصراني هذا المعنى، وأنَّى له ذلك لولا الكتاب العزيز فقال:
ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ ... ... خَيْلاً تَكُرُّ عليهمُ ورجالا (4)
قال المفسرون: لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتُوا، وإن نادى مُنادٍ في العسكر أو انفلتت دابة، أو نُشدت ضالة، ظنوا أنهم يرادون؛ لما في قلوبهم من الخوف، وكانوا كالمتوقعين أمراً من عند الله، يَستأصل به شأفتهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبأيدي المؤمنين.
{ هم العدو } أي: هم الكاملون في العداوة؛ لكفرهم ونفاقهم وما جَثَم على صدورهم من الغل والحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، [ولن] (5) تجد أجلب للعداوة من هذه الأسباب، لا سيما وقد حُرِبُوا وسُلبوا وبُدِّلُوا من بعد عِزِّهم ذُلاًّ، ومن بعد أمنهم خوفاً.
__________
(1) ... انظر: الكشاف (4/542).
(2) ... في الأصل: ويأتي. والتصويب من ب.
(3) ... قوله: "واقعة" سقط من ب. وانظر: الدر المصون (6/321).
(4) ... البيت لجرير ضمن قصيدة طويلة له، انظر: شرح ديوان جرير (ص:339).
(5) ... في الأصل: ولم. والتصويب من ب.(1/179)
وإلى هذا المعنى نظر سديف في قوله:
لا يغُرَّنْكَ ما تَرى من رجال ... إنّ تحتَ الضُّلُوع [دَاءً] (1) دَويّا
فَضَعِ السيفَ وارفَع السَّوْطَ حتى ... لا تَرى فوقَ ظَهْرِهَا أُمَوِيَّا (2)
وباقي الآية مفسر في براءة (3) .
#sŒخ)ur قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... البيتان لسُديف، وهما في: الأغاني (4/343) وفيه: "جرِّد السيف وارفع العفو" بدل: "فضع السيف وارفع السوط"، والكامل في التاريخ (5/26، 77)، والبدء والتاريخ (6/90)، والنجوم الزاهرة (1/331).
(3) ... عند الآية رقم: 30.(1/180)
لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ارب(1/181)
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } أخرجا في الصحيحين: "أن زيد بن أرقم قال: ثم دعاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم، قال: فلوَّوا رؤوسهم" (1) .
قال المفسرون: لما نزلت في ابن أبيّ هذه السورة وبَانَ كذبُه، قال له عبادة بن الصامت وغيرُه من أهله: يا أبا الحباب! قد نزلتْ فيك آيات شِدَاد، فاذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لك، فلوى رأسه (2) .
قرأ نافع: "لَوَوْا" بالتخفيف، وشدَّدَه الباقون (3) . والمعنى واحد، إلا أن التشديد للتكثير.
قال مقاتل (4) : عطفوا رؤوسهم رغبةً عن الاستغفار.
وقال الفراء (5) : حرّكوها استهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبدعائه.
ويروى أنه قال لهم: أمرتموني أن أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد (6) !. ولم يلبث بعدها إلا أياماً قلائل
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1860 ح4620)، ومسلم (4/2140 ح2772).
(2) ... أخرجه الطبري (28/110). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:453). وذكره السيوطي في الدر (8/175) من حديث بشير بن مسلم.
(3) ... الحجة للفارسي (4/43)، والحجة لابن زنجلة (ص:709-710)، والكشف (2/322)، والنشر (2/388)، والإتحاف (ص:416)، والسبعة (ص:636).
(4) ... تفسير مقاتل (3/364).
(5) ... معاني الفراء (3/159).
(6) ... أخرجه الطبري (28/110). وذكره السيوطي في الدر (8/175) من حديث بشير بن مسلم.(1/182)
حتى اشتكى ومات.
ثم أخبر أن الاستغفار لا ينفعهم فقال: { سواء عليهم أستغفرت لهم } وقرئ شاذاً: "استغفرْتَ" على حذف حرف الاستفهام؛ لدلالة "أم" المعادلة عليه (1) .
وقرأتُ لأبي جعفر: "آستغفرت" بالمد على الإشباع لهمزة الاستفهام (2) ؛ إظهاراً لها وبياناً.
والآية التي بعدها قول ابن أبيّ المنافق؛ على ما ذكرناه في سياقة قصته.
ومعنى: "يَنْفَضُّوا": يتفَرَّقُوا (3) .
[وقرئ] (4) شاذاً: "[يُنْفِضُوا] (5) "، من [أنْفَضَ] (6) القَوْم؛ إذا فَنِيَتْ أزوادهم (7) .
وفي قوله: { ولله خزائن السموات والأرض } إشعارٌ بأنه هو الذي بيده أرزاق العباد، فهو الذي رَزَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا أهل المدينة.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/545)، والدر المصون (6/321).
(2) ... انظر: النشر (2/388)، والإتحاف (ص:416-417).
(3) ... في ب: تنفضوا، تتفرقوا.
(4) ... في الأصل: قرئ. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل و ب: تنفضوا. والتصويب من : الكشاف (4/545)، والدر المصون (6/322).
(6) ... في الأصل: انتفض. والتصويب من ب.
(7) ... انظر: اللسان (مادة: نفض).(1/183)
قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات (1) .
{ ولكن المنافقين لا يفقهون } ذلك.
والآية التي بعدها قول المنافق، وقد ذكرناه في قصته.
وفي قراءة الحسن البصري وابن أبي عبلة: "لنُخْرِجَنَّ" ونصب "الأعزَّ" و"الأذلَّ" (2) .
قال الزمخشري (3) : معناه: خروج الأذل، أو إخراج الأذل، أو مثل الأذل.
ويحتمل عندي: أن يكون مرادُ المنافق -قاتله الله- على هذه القراءة: إجراءَ الصفتين على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على معنى: لنخرجن الأعز على أصحابه، الأذل عندنا، فسلب الله عن المنافق ما انتحله لنفسه المهِينَة من العِزَّة فقال: { ولله العزة } الغلبة والقوة، { ولرسوله وللمؤمنين } .
ومن استقرأ ذلك عَرَفَ صحته عياناً، فإنك ترى الواحد من المحقّين في الدّين المخلصين فيه، تخضع له أعناق الجبابرة والفراعنة، وتخشع لهيبته ذووا الأنَفَة والحميّة، ما ذاك إلا لما ألْبَسَهُ الله من عِزِّ سلطانه، وكَسَاهُ من هيبته.
قال رجل للحسن بن علي رضي الله عنهما: إن الناس يزعمون أن فيك
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/18)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/276).
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:417).
(3) ... الكشاف (4/545).(1/184)
[تيهاً] (1) ؟ قال: ليس بتيهٍ، ولكنه عزّة، وتلا هذه الآية (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ
__________
(1) ... في الأصل: نهياً. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/545).(1/185)
نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ اتتب
قوله تعالى: { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم } أي: لا يشغلكم طلبُ استثمار الأموال، والقيام على الأولاد { عن ذكر الله } قال ابن عباس: طاعته في الجهاد (1) .
وقال عطاء: الصلاةُ المكتوبة (2) .
وقيل: جميع الفرائض.
{ ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } في تجارتهم، لما فاتهم من ثواب الآخرة.
قوله تعالى: { وأنفقوا مما رزقناكم } قال ابن عباس: يريد: زكاة الأموال (3) .
وقال الضحاك: يريد: الحقوق الواجبة في المال (4) .
وقيل: صدقة التطوع (5) . فيكون الأمر للندب.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/277).
(2) ... أخرجه البيهقي في الشعب (3/76). وذكره السيوطي في الدر (8/180) وعزاه لابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) ... أخرجه الطبري (28/118). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/277).
(4) ... ذكره الماوردي (6/19)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/277).
(5) ... ذكره الماوردي (6/19)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/278).(1/186)
قال الضحاك: لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد زكاة المال إلا سأل الرجعة، وتلا هذه الآية (1) .
{ لولا أخرتني إلى أجل } أي: هَلاَّ أخرتَ موتي إلى أجل { قريب } زمان قليل، { فأصَّدَقَ وأكون } قرأ أبو عمرو: "وأكونَ" بالواو والنصب، عطفاً على لفظ "فأصَّدَّقَ"؛ لأنه منصوب بإضمار "أنْ"، على جواب التمني.
وقرأ الباقون: "وأكُنْ" بغير واو مع الجزم (2) ، عطفاً على موضع "فأصَّدَّقَ"؛ لأن موضعه قبل دخول الفاء: الجزم.
وقرأ عبيد بن عمير: "وأكُونُ" بالرفع (3) ، [على معنى] (4) : وأنا أكون.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/118).
(2) ... الحجة للفارسي (4/44)، والحجة لابن زنجلة (ص:710)، والكشف (2/322)، والنشر (2/388)، والإتحاف (ص:417)، والسبعة (ص:637).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/271)، والدر المصون (6/324).
(4) ... زيادة من ب.(1/187)
قرأ أبو بكر عن عاصم: "يعملون"، خاتمتها بالياء على المغايبة، حملاً على قوله: { ولن يؤخر الله نفساً } .
وقرأ الباقون: بالتاء، على المخاطبة لجميع الخلق (1) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/44)، والحجة لابن زنجلة (ص:711)، والكشف (2/323)، والنشر (2/388)، والإتحاف (ص:417)، والسبعة (ص:637).(1/188)
سورة التغابن
ijk
وهي ثماني عشرة آية (1) .
وهي مدنية، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين (2) .
وقال الضحاك: مكية (3) . ومثلُه عطاء بن يسار، واستثنى منها ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم } واللتان بعدها (4) .
كxخm7|،ç" لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:248).
(2) ... انظر: زاد المسير (8/279)، والدر المنثور (8/181).
(3) ... انظر: الماوردي (6/20)، وزاد المسير (8/279).
(4) ... أخرجه الطبري (28/125). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/279)، والسيوطي في الدر (8/181) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير.(1/189)
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ(1/190)
بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ارب
قوله تعالى: { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } قال ابن عباس: إن الله خلق بني(1/191)
آدم مؤمناً وكافراً، ثم يُعيدهم يوم القيامة كما خلقهم (1) .
قال الزجاج (2) : جاء في التفسير: أن يحيى بن زكريا خُلق في بطن أمه مؤمناً، وخُلق فرعونُ في بطن أمه كافراً.
قلتُ: وعلى هذا جاءت الأحاديث الصحيحة، وليس هذا موضع استقصائها:
منها: "السعيدُ من سعد في بطن أمه، والشقيُّ من شقي في بطن أمه" (3) .
ومنها: "ثم يبعث الله إليه المَلَكُ فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" (4) .
ومنها: "الغلام الذي قتله الخضر" (5) .
وقيل: تمّ الكلام عند قوله: { خلقكم } ، ثم ابتدأ فقال: { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر (6) .
[وقال] (7) الزجاج (8) : أحسن ما قيل فيه: هو الذي خلقكم فمنكم كافر بأن
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/306)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/279).
(2) ... معاني الزجاج (5/179).
(3) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (3/107 ح2631) من حديث ابن مسعود.
(4) ... أخرجه البخاري (3/1174 ح3036)، ومسلم (4/2036 ح2643).
(5) ... أخرجه مسلم (4/2050 ح2661).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/280).
(7) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.
(8) ... معاني الزجاج (5/179).(1/192)
الله خلقه، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه.
وما بعده ظاهر أو مُفسَّر إلى قوله مخاطباً لأهل مكة: { ألم يأتكم } والمراد: تهديدهم. { فذاقوا وبال أمرهم } وهو العذاب في الدنيا { ولهم عذاب أليم } في الآخرة.
{ ذلك } إشارة إلى الوبال الذي ذاقوه في الدنيا والعذاب في الآخرة { بأنه } أي: بأن الشأن والحديث.
وقولهم: { أبشر يهدوننا } [إنكار] (1) أن يكون الرسول [بشراً] (2) ، كما أخبر الله عن كفار قريش وغيرهم من كفار الأمم الماضية.
والبَشر: اسم جنس، معناه الجمع. { واستغنى الله } عن إيمانهم.
وقد ذكرنا فيما مضى أن "زَعَم" كناية عن الكذب.
tPِqtƒ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
__________
(1) ... في الأصل: إن كمان. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: بشر. والتصويب من ب.(1/193)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اتةب
قوله تعالى: { يوم يجمعكم } منصوب بقوله: { ثم لتنبؤن } .
وقيل: بـ"خبير"؛ لتضمنه معنى الوعيد، أو بإضمار: اذكر (1) .
والتَّغَابُن: تفاعلٌ من الغَبْن، وهو فوْتُ الحظ والمراد.
وأسباب الغبن في ذلك اليوم كثيرة: منها ما روي عن ابن عباس وغيره،
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/263)، والدر المصون (6/326).(1/194)
[وهو حديث] (1) مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه ليس من كافر إلا وله منزلٌ وأهل في الجنة لو أسلم، فَيَرِثُ المؤمن ذلك منه بعد أن يُوقَف عليه ويقال له: هذا لك لو كنت أحسنت، فيُغبنُ حينئذ غبناً شديداً" (2) .
وقال مجاهد: هو غبنُ أهلُ الجنة أهلَ النار (3) .
قوله تعالى: { يكفر عنه سيئاته } قرأ نافع وابن عامر: "نكفر" و"ندخله" بالنون فيهما. وقرأهما الباقون: بالياء (4) . ووجههما ظاهر.
!$tB أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
__________
(1) ... في الأصل: وحديث. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/282).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:679)، والطبري (28/122)، وابن أبي شيبة (7/191 ح35231). وذكره السيوطي في الدر (8/183) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... الحجة للفارسي (4/46)، والحجة لابن زنجلة (ص:711)، والكشف (1/380)، والنشر (2/248)، والإتحاف (ص:187، 417)، والسبعة (ص:638).(1/195)
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ اتجب
قوله تعالى: { يَهْدِ قلبه } قال ابن عباس: يَعْلَمُ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1) .
وقال ابن السائب: إذا ابتُلي صبر، وإذا أُنعم عليه شَكَر، وإذا ظُلم غَفَر (2) .
وقال أبو ظبيان (3) : كنا نَعْرض المصاحف عند علقمة (4) ، فَمَرَّ بهذه
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/123). وذكره السيوطي في الدر (8/184) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره الماوردي (6/23)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/283).
(3) ... حصين بن جندب بن الحارث بن وحشي بن مالك الجنبي، أبو ظبيان الكوفي، ثقة، مات سنة تسعين (تهذيب التهذيب 2/327، والتقريب ص:169).
(4) ... علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل، ويقال: بن كهيل بن بكر بن عوف، ويقال: بن المنتشر بن النخع، أبو شبيل النخعي الكوفي، ولد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ثقة من أهل الخير، مات سنة إحدى وستين (تهذيب التهذيب 7/244-245، والتقريب ص:397).(1/196)
الآية: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } فسألناه فقال: هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم (1) .
وفي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعاصم الجحدري: "يَهْدَ" بفتح الياء والدال، "قَلْبُه" بالرفع (2) .
قال الزجاج (3) : هو من هَدَأَ يَهْدَأُ، إذا سَكَن.
فالمعنى: إذا استسلم لأمر الله سكن قلبه.
وفي قراءة عثمان بن عفان رضي الله عنه والضحاك وطلحة بن مصرف: "نَهْدِ" بالنون وكسر الدال (4) .
وفي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبي عبد الرحمن: "يُهْدَ" بياء مضمومة [وفتح] (5) الدال، "قَلْبُه" بالرفع (6) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِن مِنْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/123)، والبيهقي في الكبرى (4/66 ح6925)، وفي الشعب (7/196 ح9976). وذكره السيوطي في الدر (8/183-184) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن علقمة.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/283-284).
(3) ... معاني الزجاج (5/181).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/284)، والدر المصون (6/326).
(5) ... في الأصل: فتح. والتصويب من ب.
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/284)، والدر المصون (6/326).(1/197)
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا(1/198)
حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اترب
قوله تعالى: { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } قال ابن عباس: هؤلاء رجال من أهل مكة، أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم (1) .
والمعنى: إن بعض أزواجكم عدواً لكم في دينكم، حيث راموا منعكم من الهجرة إلى نبيكم، فاحذروهم.
قال المفسرون: فلما هاجروا ورأوا أنهم قد سُبِقُوا سَبْقاً بعيداً، وفَاتَهُم ما أدركه المهاجرون قبلهم من العلم والحكمة، همّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم الذين منعوهم من الهجرة، فأنزل الله: { وإن تعفوا... الآية } (2) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/419 ح3371)، والطبري (28/124)، وابن أبي حاتم (10/3358)، والحاكم (2/532 ح3814)، والطبراني في الكبير (11/275 ح11720). وذكره السيوطي في الدر (8/184) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه.
(2) ... انظر: تخريج الأثر السابق.(1/199)
قوله تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي: بلاءٌ ومحنةٌ وشُغْلٌ عن الآخرة؛ لأنهم يورّطون في المهالك، ويُوقعون في العظائم، ويَحملون على تناول الحرام.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنكم لتُجَبِّنُون وتُبَخِّلُون، وإنكم لمن ريحان الله" (1) .
أخبرنا الشيخ أبو نجيح فضل الله بن أبي رشيد الأصبهاني إجازة قال: أخبرنا الحافظ أبو [القاسم] (2) إسماعيل بن محمد، إملاءً من لفظه سنة
[اثنتين] (3) وثلاثين وخمسمائة، أخبرنا محمد بن أحمد بن علي السمسار، أخبرنا أبو إسحاق بن خورشيد قُولَه قال: حدثنا المحاملي، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا علي بن الحسن (4) ، أخبرنا الحسين بن واقد (5) ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب فجاء الحسن والحسين وهما يعثران على قميصيهما، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى حملهما ثم قال: { إنما
__________
(1) ... أخرجه أحمد (6/409 ح27355).
(2) ... في الأصل: إسحاق. وهو وهم. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: اثنين. والتصويب من ب.
(4) ... علي بن الحسن بن شقيق بن دينار بن مشعب العبدي مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة حافظ، توفي سنة خمس عشرة ومائتين (تهذيب التهذيب 7/263، والتقريب ص:399).
(5) ... الحسين بن واقد المروزي، أبو عبد الله، قاضي مرو، مولى عبد الله بن عامر بن كريز، ثقة له أوهام، مات سنة تسع وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 2/321، والتقريب ص:169).(1/200)
أموالكم وأولادكم فتنة } " (1) .
وفي رواية أخرى: "نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" (2) .
وفي قوله تعالى: { والله عنده أجر عظيم } ترغيبٌ للمؤمنين في ثواب الله، وحضٌّ لهم على إيثاره على الأموال والأولاد.
قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } ذكرنا أنها نسخت قوله: { فاتقوا الله حق تقاته } في آل عمران (3) ، وحققنا القول على ذلك في موضعه.
قال ابن عباس: "[وأنفقوا]" (4) : تصدقوا (5) .
وقال الضحاك: أنفقوا في الجهاد (6) .
وقال غيره: في وجوه الطاعات.
{ خيراً لأنفسكم } منصوب بمحذوف، تقديره: ايتوا خيراً لأنفسكم من الأموال والأولاد (7) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/658 ح3774)، والنسائي (1/535 ح1731)، وأحمد (5/354 ح23045).
(2) ... انظر: تخريج الحديث السابق عند الترمذي وأحمد.
(3) ... عند الآية رقم: 102.
(4) ... في الأصل: واتقوا. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الماوردي (6/26)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/286) ولفظهما: الصدقة.
(6) ... ذكره الماوردي (6/26)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/286).
(7) ... انظر: الدر المصون (6/327).(1/201)
وتمام الآية مُفسّر في [الحشر (1) ، وباقي السورة مُفسّر في] (2) البقرة (3) وغيرها (4) . والله أعلم.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 23 و 24.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... عند الآية رقم: 254.
(4) ... في سورة الحديد، عند الآية رقم: 11 و 18.(1/202)
سورة الطلاق
ijk
وتسمى النساء القصرى.
وهي اثنتا عشرة آية (1) . وهي مدنية بإجماعهم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:249).(1/203)
نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا اتب
قال الله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } قال المفسرون: نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خاطب أمته؛ لأنه السيد المقدّم، وإمام الأمة، كما يقول السلطان لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت؛ إظهاراً لتقدمه، وتنويهاً بشرف منزلته، وإشعاراً لهم بأن الأمور المنوطة بهم مفوضة إليه.
والمعنى: إذا أردتم طلاق النساء.
{ فطلقوهن لعدتهن } أي: لاستقبال عدتهن.
قال ابن عباس: فطلقوهن قبل عِدَّتهن (1) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مُرْهُ فليراجعها ثم ليتركها حتى تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طَلَقَّ قبل أن يمسّ، فتلك العدَّة التي أمر الله أن تُطلَّق لها النساء" (2) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/129)، والنسائي في الكبرى (3/341 ح5586)، والبيهقي في الكبرى (7/331 ح14721). وذكره السيوطي في الدر (8/190-191) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه.
(2) ... أخرجه البخاري (5/2011 ح4953)، ومسلم (2/1093 ح1471).(1/204)
فحصل من الآية والحديث: أن الطلاق على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة.
فأما طلاق السنة: فهو أن يطلقها في طُهْر لم يجامعها فيه.
وأما طلاق البدعة: فهو أن يطلقها في زمن الحيض، أو في طُهْر جامعها فيه، ويقع الطلاق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر بمراجعة زوجته، ويأثم لارتكابه ما نهي عنه.
فصل
والأولى أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدّتها (1) ، فإن أرسل عليها ثلاث طلقات أثم. وهو قول أبي حنيفة ومالك (2) .
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه لا يأثم، وهو قول الشافعي، ويقع الطلاق من غير خلاف بينهم (3) .
وفي هذه الآية مستدل لمن يقول: الأقراء: هي الأطهار.
وفيه عن الإمام أحمد روايتان، أصحهما: أنها الحيض، وهي قول أبي حنيفة.
والثانية: أنها الأطهار، وهو قول الشافعي (4) ؛ لقوله تعالى: { فطلقوهن لعدتهن } ، وإنما تطلق في الطّهر.
__________
(1) ... انظر: المغني (7/278-279)
(2) ... انظر: المبسوط للسرخسي (6/3)، وبدائع الصنائع (3/89)، والمغني (7/281).
(3) ... انظر: المغني (7/280-281).
(4) ... انظر: المغني (7/405-406)، والإنصاف (9/279)، والأم (5/209).(1/205)
وطريق الانفصال من ذلك على الرواية الصحيحة: أن المرأة إذا طلقت في الطهر المتقدم للقرء (1) الأول من أقرائها، فقد طلقت لاستقبال عدتها.
قوله تعالى: { وأحصوا العدة } أي: احفظوها واضبطوها، لتعلموا ما يترتب عليها من أحكام النفقة والرجعة والسكنى، وتوزيع الطلاق على الأقراء لمن أراد أن يطلق ثلاثاً إلى غير ذلك.
{ واتقوا الله ربكم } خافوه واحذروا مخالفة ما شرع لكم من الدين.
{ لا تخرجوهن من بيوتهن } التي كنّ يسكُنّها، وهنّ في نكاحكم أيها الأزواج، وأُضيفت إليهنّ؛ لمكان اختصاصهنّ بهنّ.
{ ولا يخرجن } هُنَّ بأنفسهن { إلا } لضرورة؛ لأنهن محبوساتٍ لحقِّ الأزواج، { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد: هي الزنا (2) . فيكون المعنى: لا تخرجوهن إلا أن يزنين، فأخرجوهن لإقامة الحد عليهنّ.
وقيل: الفاحشة: البَذاء على المطلِّق وأهله (3) ، فيحل لهم إخراجها حينئذ. وهذا مروي عن ابن عباس (4) .
__________
(1) ... في ب: للقروء.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:681)، والطبري (28/133). وذكره السيوطي في الدر (8/193) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن والشعبي، وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(3) ... هو أن يطول لسانها على أقارب زوجها.
(4) ... أخرجه الطبري (28/134)، والشافعي في مسنده (ص:267)، وابن أبي شيبة (4/189)، وعبد الرزاق (6/323 ح11022). وذكره الماوردي (6/29)، والسيوطي في الدر (8/193) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه.(1/206)
وقال السدي: المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء العدة، فخروجهن فاحشة (1) .
وفي قوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } تحقيقٌ وتقرير؛ لما سبق من شرعية الطلاق السني وإحصائه. فربما قلب الله قلبه إلى محبتها، أو ندم على مفارقتها فيكون بسبيل من استرجاعها.
#sŒخ*sù بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/29)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/289).(1/207)
لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا اجب
قوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن } أي: شَارَفْنَ انقضاء عدتهن.
وما لم أُفسِّره في هذه الآية مذكور في البقرة (1) .
قوله تعالى: { وأشهدوا } يعني: على الرجعة { ذوي عدل منكم } وهل الإشهاد عليها واجب أو مستحب؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان، وللشافعي قولان (2) .
وقال جماعة من المفسرين: أُمروا أن يُشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة.
ثم خاطب الله الشهداء فقال: { وأقيموا الشهادة لله } أي: لوجه الله خالصاً، لا للمشهود له، ولا للمشهود عليه، ولا لغرض فاسد، بل لإقامة الحق، ودفع الظلم.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 231.
(2) ... انظر: المغني (7/403)، والماوردي (10/319).(1/208)
وما بعده مُفسَّر في البقرة (1) إلى قوله: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسَرَ العدو ابناً له، فذكر [ذلك] (2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشكا إليه الفاقة، فقال له: اتّق الله واصبر، وأكثرْ من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلاً. وقيل: ساق أربعة آلاف شاة، وجاء إلى أبيه، فذلك قوله: { ويرزقه من حيث لا يحتسب } " (3) .
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، فما زال يقولها ويعيدها" (4) .
وقال ابن عباس: ومن يتق الله يُنجه من كل كربٍ في الدنيا والآخرة (5) .
وقال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجاً من كل ما ضاق على الناس (6) .
وحدثني جماعة من أشياخي عن الوزير عون الدين أبي المظفر يحيى
__________
(1) ... آية رقم: 232.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (28/138)، وابن أبي حاتم (10/3359). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:457).
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:146).
(5) ... أخرجه الطبري (28/138). وذكره السيوطي في الدر (8/195-196) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (28/138)، وابن أبي شيبة (7/235 ح35629). وذكره السيوطي في الدر (8/198) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن بالمنذر.(1/209)
بن هبيرة رحمه الله قال: أنشدني المستنجد بالله أمير المؤمنين رحمه الله:
بتَقْوَى الإلهِ نَجَا مَنْ نَجَا ... وفَازَ وأدْرَكَ ما قَدْ رَجَا
ومنْ يتَّقِ اللهَ يجعلْ له ... كما قَالَ من أمره مَخْرجا
وقال بعض العلماء (1) : هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقه الأحسن، والأبعد من الندم.
ويكون المعنى: ومن يتق الله فيطلّق للسّنّة، ولم يضارّ المعتدّة ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط [فأشهد] (2) ، يجعل له مخرجاً من الغموم، والوقوع في المضايق، ويكون بسبيل من الارتجاع.
ويروى أن رجلاً سأل ابن عباس وقد طَلَّقَ أكثر من ثلاث فقال: لَمْ تتق الله فلم يجعل لك مخرجاً، بَانَتْ منك بثلاث، والزيادة إثمٌ في عنقك (3) .
{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي: كافيه في كل أمر يحذره، أو كرب يقع فيه.
أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم: توكّل عليّ أكْفِك، ولا تولّى غيري فأخذلك (4) .
قوله تعالى: { إن الله بالغ أمره } وقرأ حفص: "بالغُ أمره" على
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/558).
(2) ... في الأصل: وأشهد. والمثبت من ب، والكشاف (4/558).
(3) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/558).
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:116).(1/210)
الإضافة.
وقد سبق ذكر نظائره في مواضع آخرها في سورة الصف عند قوله: { والله مُتِمُّ نوره } [الصف:8].
فإن قيل: ما وجه قراءة من قرأ: "بالغاً" بالنصب؟
قلتُ: نصبه على الحال، وخبر "إنَّ": { قد جعل الله لكل شيء قدراً } ، ومعناه: تقديراً وتوقيتاً. فكل شيء من الرزق وغيره له قدرٌ وأجلٌ وحَدٌ ينتهي إليه.
وفي هذا تقرير لمعنى التوكل على الله والتفويض إليه.
'د"¯"©9$#ur يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ ِ/ن3ح !$|،خpS إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ(1/211)
أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا اخب
قوله تعالى: { واللائي يئسن من المحيض } السبب في نزولها: أن أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله! إن نساءً من أهل المدينة يقُلْنَ: قد بقي من النساء ما لم يُذكر فيه شيء، قال: وما هو؟ قال: الصِّغَارُ والكبارُ وذواتُ الحمل، فأنزل الله (1) هذه الآية (2) .
ومعنى: { إن ارتبتم } أشكل عليكم أمرهنّ، وجهلتم عدتهنّ.
{ واللائي لم يحضن } يعني: الصغار. وهذا وقف التمام. وفيه إضمار، تقديره: فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر.
ثم استأنف الإخبار عن عدة الحوامل فقال: { وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن
__________
(1) ... في ب: فنزلت.
(2) ... أخرجه الطبري (28/141)، وابن أبي حاتم (10/3360)، والحاكم (2/534 ح3821)، والبيهقي في الكبرى (7/414 ح15156). وذكره السيوطي في الدر (8/201) وعزاه لإسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه.(1/212)
يضعن حملهن } ، مطلقات كُنَّ أو متوفّى عنهنّ (1) . وهذا قول عمر وابنه وابن مسعود وعامة الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والأئمة الأعلام (2) .
ويحكى عن علي وابن عباس: أن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين (3) .
والصحيح: مذهب الجمهور؛ لما أخبرنا به الشيخان الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد المقدسي، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور [الكرجي] (4) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا
__________
(1) ... أخرج الطبري (28/143) عن ابن مسعود أنه قال: من شاء لاعنته ، ما نزلت { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } إلا بعد آية المتوفي عنها زوجها وإذا وضعت المتوفي عنها فقد حلت. وانظر: الدر المنثور (8/203-204).
(2) ... في ب: والأعلام.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1864 ح4626)، والنسائي في الكبرى (3/387 ح5705)، كلاهما عن ابن عباس.
... وذكره السيوطي في الدر (8/203) من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه عن علي رضي الله ، وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
... وذكره السيوطي أيضاً (8/204) عن ابن عباس ، وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه.
(4) ... في الأصل: الكرخي. والتصويب من ب.(1/213)
الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن أبيه: "أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمرّ بها أبو السنابل بن بعكك فقال: قد تصنّعت للأزواج، إنها أربعة أشهر وعشر، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كذب أبو السنابل، [أو ليس] (1) كما قال أبو السنابل، قد حللت فتزوجي" (2) . هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق عن الزهري. وأبو السنابل اسمه: حبة.
قوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } أي: يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
{ ذلك } إشارة إلى ما شرع من الأحكام { أمر الله أنزله إليكم } .
£`èdqمZإ3َ™r& مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
__________
(1) ... في الأصل: وليس. والمثبت من ب، ومسند الشافعي (ص:244).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1466 ح3770)، ومسلم (2/1122 ح1484)، والشافعي في مسنده (ص:244).(1/214)
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا اذب
قوله تعالى: { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } "مِنْ" الأولى زائدة، أو للتبعيض، [ومُبَعَّضُها] (1) محذوف، تقديره: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي: بعض مساكنكم.
والثانية عطف بيان لقوله: "من حيث سكنتم"، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً
__________
(1) ... في الأصل: وبعضها. والتصويب من ب.(1/215)
من مسكنكم مما تطيقونه.
قرأ يعقوب في رواية روح: "من وِجْدِكُم" بكسر الواو، وضَمَّها الباقون من العشرة (1) ، وهي قراءة أبي هريرة وأبي رزين وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة. وفتحها ابن يعمر وابن أبي عبلة وأبو حيوة (2) .
والوُجْد: الوُسع والطاقة.
قال الفراء (3) : على ما يجد إن [كان] (4) مُوسِعاً وَسَّعَ عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيراً فعلى قدْر ذلك.
{ ولا تُضَارُّوهُنَّ لتضيقوا عليهن } يعني: وأنتم تجدون السعة.
قال القاضي أبو يعلى: المراد بها الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [الطلاق:1]، [وقوله] (5) تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [الطلاق:2]، فدلّ ذلك على أنه أراد الرجعية (6) .
فصل
لا نعلم خلافاً بين أهل العلم أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة والسكنى
__________
(1) ... النشر (2/388)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:418).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/296)، والدر المصون (6/331).
(3) ... معاني الفراء (3/163).
(4) ... زيادة من ب، ومعاني الفراء، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: قوله. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/296).(1/216)
ما دامت في العدة. واختلفوا في المبتوتة، فقالت طائفة: لا نفقة لها ولا سكنى، إلا أن تكون حاملاً. روي ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن وعطاء والشعبي، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد، أخذاً بحديث فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة، فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة (1) .
وقالت طائفة: لها السكنى والنفقة. يروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. وبه قال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة (2) .
وقالت طائفة: لها السكنى بكل حال، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً. يحكى ذلك عن ابن المسيب، وبه قال الزهري ومالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي، والرواية [الثانية] (3) عن أحمد رضي الله عنه (4) ، واعتذروا عن حديث فاطمة بقول سعيد بن المسيب: فَتَنَتْ فاطمةُ الناس، كانت للسانها [ذرابة] (5) ، فاستطالت على أحمائها، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم (6) .
قوله تعالى: { فإن أرضعن لكم } يعني: المطلقات ولداً منهن أو من غيرهن بعد انقطاع عصمة النكاح { فآتوهن أجورهن } يعني: أجرة
__________
(1) ... انظر: المغني (8/185)، والإنصاف (9/360)، والمبسوط للسرخسي (5/201).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... انظر: المغني (8/185).
(5) ... في الأصل: ذراية. والمثبت من ب.
... ولسان ذَرِبٌ: أي: فيه حِدَّة. وامرأةٌ ذَرِبَة: سليطة اللسان (اللسان، مادة: ذرب).
(6) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (7/474)، والشافعي (ص:302).(1/217)
رضاعهن، { وائتمروا بينكم بمعروف } أي: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، ولا يشتطّ أحد على صاحبه، { وإن تعاسرتم } في الأجرة ولم تتّفقوا على شيء { فسترضع له أخرى } خبر في معنى الأمر.
وقال بعض أهل المعاني (1) : فيه طرَف من معاتبة الأم على المعاسرة.
وقوله: "له" أي: للأب، أي: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.
{ لينفق } وفتح القاف: ابن السميفع (2) ، على معنى: شرعنا ذلك لينفق، { ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه } أي: ضيّق. وقد سبقت نظائره.
وقرأ أبيّ بن كعب: "قُدِّر" بالتشديد (3) .
أخبرنا أبو القاسم بن أبي الفرج بن أبي منصور بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو القاسم ابن بَوْش، حدثنا أبو العز بن كادش، أخبرنا أبو علي الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا علي بن محمد بن عبيدالله البزاز، حدثنا جعفر بن محمد البزاز، حدثنا إبراهيم بن بشير أبو إسحاق المكي، حدثنا معاوية بن عبدالكريم الضالّ (4) -وإنما سمي الضالّ؛ لأنه خرج يريد مكة فضلّ الطريق، لقيناه بمكة في الطواف- قال: سمعت أبا جمرة
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/563).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/297)، والكشاف (4/563).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/297)، والدر المصون (6/331).
(4) ... معاوية بن عبد الكريم الثقفي مولاهم، أبو عبد الرحمن البصري المعروف بالضالّ، صدوق، مات سنة ثمانين (تهذيب التهذيب 10/192، والتقريب ص:538).(1/218)
الضبعي (1) قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المؤمن أخذ عن ربه أدباً حسناً، فإذا وسّع عليه وسّع على نفسه، وإذا أمسك عليه أمسك" (2) .
قال المفسرون: كان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر، فوعدهم الله أن يفتح عليهم أبواب الرزق، فذلك قوله: { سيجعل الله بعد عسر يسراً } ففتح الله عليهم البلاد، وأعطاهم جباية الأموال.
ûةiïr'x.ur مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا
__________
(1) ... نصر بن عمران بن عصام، وقيل: بن عاصم بن واسع، أبو جمرة الضبعي البصري، كان ثقة مأموناً، مقيماً بنيسابور، ثم خرج إلى مرو، ثم إلى سرخس فمات بها سنة ثمان وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 10/385، والتقريب ص:561).
(2) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/259 ح6591) وقال: هذا حديث منكر، وأبو نعيم في الحلية (6/315).(1/219)
خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ(1/220)
رِزْقًا اتتب
قوله تعالى: { وكأين من قرية } أي: وكم من قرية { عَتَتْ } [أعرضت] (1) على وجه العتو والعناد { عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديداً } أي: جازيناها في الدنيا بموجب الحساب الشديد.
وقال ابن عباس والفراء (2) : [فيه] (3) تقديم وتأخير، تقديره: عذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والسيف والبلايا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة (4) .
قوله تعالى: { قد أنزل الله إليكم ذكراً * رسولاً } قال مقاتل (5) والسدي: الرسول: محمد - صلى الله عليه وسلم - (6) . فيكون المعنى: أنزل الله إليكم ذكراً وهو القرآن، وأرسل رسولاً.
وقال ابن السائب: الرسول: جبريل عليه السلام (7) .
فعلى هذا: يكون "رسولاً" بدلاً من "ذكراً" (8) ؛ لأن جبريل موصوف
__________
(1) ... في ب: عصت. والمثبت من ب.
(2) ... معاني الفراء (3/164).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/298).
(5) ... تفسير مقاتل (3/374).
(6) ... أخرجه الطبري (28/152).
(7) ... ذكره الماوردي (6/36).
(8) ... انظر: التبيان (2/263)، والدر المصون (6/332).(1/221)
بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فصحّ إبداله منه، أو جعله لكثرة ذكره كأنه ذكر. أو يراد بالذِّكْر: الشَّرف، أو على معنى: ذا ذكر، أي: مَلَكاً ذا ذكر.
وما بعده ظاهر أو مُفسّر إلى قوله: { قد أحسن الله له رزقاً } يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
ھ!$# الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا اتثب
قوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } جاء في الحديث: أن كَثَافَةَ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وكذلك كَثَافَةَ الأرض والمسافة ما بين كل أرضين (1) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/410 ح3428).(1/222)
وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: في [كل] (1) أرضٍ آدمُ مثل آدمكم، ونوحٌ مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى (2) .
قال أبو سليمان الدمشقي: [سمعنا في معناه: أن (3) معناه] (4) : أن في كل أرض خلقاً من خلق الله، لهم سادة يقوم كبيرهم ومقدّمهم (5) في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذريته في السنّ والقِدم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم (6) .
قال كعب: في الأرض السابعة إبليس (7) .
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس: هل تحت الأرض خلق؟ قال: نعم. قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة وإما جِنّ.
قوله تعالى: { يتنزل الأمر بينهن } أي: يتنزل قضاء الله [وحكمه] (8) في خلقه بينهن.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3361)، والحاكم (2/535 ح3822). وذكره السيوطي في الدر (8/211) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب وفي الأسماء والصفات وقال: قال البيهقي: إسناده صحيح ولكنه شاذ، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً.
(3) ... في ب زيادة قوله: في.
(4) ... في الأصل: معناه في معناه. والمثبت من ب، وزاد المسير (8/300).
(5) ... في ب، وزاد المسير: ومتقدمهم.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/300).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... في الأصل: وحكمته. والمثبت من ب.(1/223)
قال قتادة: في كل سماء أو في كل أرض خلق من خلقه، وأمرٌ من أمره، وقضاء من قضائه (1) .
وقال مقاتل (2) : يتنزل الوحي بينهن.
{ لتعلموا } أي: أعلمكم بهذا لتعلموا { أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء } من مخلوقاته مما كان ويكون { علماً } . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/154). وذكره السيوطي في الدر (8/210) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... تفسير مقاتل (3/374).(1/224)
سورة المتحرم
ijk
وهي [اثنتا] (1) عشرة آية (2) ، وهي مدنية بإجماعهم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قال الله تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } أخرجا في
__________
(1) ... في الأصل: اثنا. والمثبت من ب.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:250).(1/225)
الصحيحين من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر مما كان يحتبس، فغِرْتُ، فسألت عن ذلك، قيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةَ (1) عسل، فَسَقَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه شربةً، فقلت: أما والله لنحتالنّ له" (2) .
وفي رواية أخرى: قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواصينا أنا وحفصة [أنّ] (3) أيّتنا دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (4) ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحداً، فنزل: { لم تحرم ما أحل الله لك } " (5) .
وهذا هو الأشبه؛ لأن عائشة وحفصة كانتا متظاهرتين.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي وعامة المفسرين في سبب نزولها: أن حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدث عنده، فأرسل
__________
(1) ... العُكَّة: هي وعاء من جلد مستدير يختص بالسمن أو العسل، وهو بالسمن أخصّ (اللسان، مادة: عكك).
(2) ... أخرجه البخاري (5/2017 ح4967)، ومسلم (2/1101 ح1474).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... المغافير: صمغ شبيه بالناطِف ينضحه العفرط فيوضع في ثوب ثم ينضح بالماء فيُشرب، واحدها: مِغْفَر (اللسان، مادة: غفر).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1865 ح4628)، ومسلم (2/1100 ح1474).(1/226)
النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مارية فظلّت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة [فوجدتها] (1) في بيتها، فغارت غيرةً شديدة، فلما خرجت دخلت حفصة فقالت: قد رأيتُ من كان عندكَ وقد سُؤتني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله لأرضينّك، وإني مُسِرٌ إليكِ سِرّاً فاحفظيه، قالت: وما هو؟ قال: إني أُشهدك أن سريتي هذه عليّ حرام رضًى لك.
فانطلقت حفصة إلى عائشة فقالت لها: أبشري، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حرّم عليه فتاته، فنزلت هذه الآية (2) .
وقال الضحاك: قال لحفصة: لا تذكري لعائشة ما رأيت، فذكرته فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها، فنزلت هذه الآية (3) .
قال المفسرون: وآلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن لا يدخل على نسائه شهراً، وطلّق حفصة بنت عمر، فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: راجعها، فإنها صوّامة قوّامة، وإنها لمن نسائك في الجنة (4) .
__________
(1) ... في الأصل: وجدتها. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (28/157)، والبيهقي في الكبرى (7/352 ح14852) كلاهما عن ابن عباس، وابن سعد في طبقاته (8/187) عن عروة بن الزبير. وذكره السيوطي في الدر (8/214-215) وعزاه لابن سعد وابن مردويه عن ابن عباس. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:459).
(3) ... أخرجه الطبري (28/156).
(4) ... أخرجه الطبري (28/132)، والحاكم (4/16 ح6753).(1/227)
والمعنى: لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين، أو من العسل.
{ تبتغي } إما تفسير لـ"تُحرِّم"، أو حال، أو استئناف (1) .
{ قد فرض الله لكم } أي: شرع لكم { تحلَّة أيمانكم } تحليلها بالكفارة.
قال الحسن وقتادة والشعبي: حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يميناً حرّمها بها، فعوتب بالتحريم، وأُمر بكفارة اليمين (2) .
وقال ابن عباس: حرّمها على نفسه بغير يمين، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين (3) .
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: في الحرام يُكفّر، ثم قال: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } (4) [الأحزاب:21].
واختلفوا: هل كفّر يمينه؟
فقال الحسن: لم يكفّر؛ لأنه كان مغفوراً له (5) .
وقال المقاتلان (6) : أعتق رقبة.
فصل
إذا قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرام؛ ففيه عن الإمام أحمد ثلاث روايات:
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/264)، والدر المصون (6/334).
(2) ... أخرجه الطبري (28/156 و 158). وذكره السيوطي في الدر (8/216) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن الشعبي وقتادة.
(3) ... ذكره الماوردي (6/39)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/307).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1865 ح4627)، ومسلم (2/1100 ح1473).
(5) ... ذكره القرطبي (18/185).
(6) ... انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (3/376).(1/228)
إحداهن: أنه ظِهَار، نوى الطلاق أو لم يَنْوِه. ذكره الخرقي، وهو مروي عن عثمان وابن عباس؛ لأنه صريح في تحريمها، فكان كقوله: أنتِ عليّ كظهر أمي.
الثانية: هو كناية ظاهرة في الطلاق، وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن مسعود.
الثالثة: هو يمين، وهو قول أبي بكر الصديق وعمر وعائشة (1) .
وقال مسروق: هو لغو (2) .
فصل
فإن قال: أَمَتُه عليه حرام، أو هذا الطعام عليّ حرام: كان يميناً عندنا. وهو قول أبي بكر [وعائشة] (3) وابن عباس؛ لهذه الآية (4) .
وقال الشافعي: ليس بيمين (5) .
ّŒخ)ur أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ
__________
(1) ... انظر: المغني (7/316، 317)، والكافي في فقه ابن حنبل (3/173).
(2) ... انظر: المغني (7/317).
(3) ... في الأصل: عائشة. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: التحقيق في أحاديث الخلاف (2/379).
(5) ... انظر: منهاج الطالبين (ص:106).(1/229)
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله تعالى: { وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } يعني: حفصة، والذي أسرّه إليها: تحريم مارية (1) ، في قول عطاء والشعبي والضحاك
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/158). وذكره السيوطي في الدر (8/215) وعزاه لابن مردويه
... عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن الشعبي وقتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.(1/230)
وقتادة.
وقيل: الذي أسرّه إليها: أنه قال لها: أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي (1) . والقولان عن ابن عباس.
قال ميمون بن مهران: قال لها: أبو بكر خليفةٌ من بعدي (2) .
قال جماعة من المفسرين: قال لها لما رأى عندها من الغيرة والكراهية: إني مُسِرٌّ إليكِ شيئين: إني قد حرّمت مارية على نفسي، وإن الخلافة من بعدي في أبي بكر وعمر.
{ فلما نبأت به } أخبرت حفصة عائشة بالحديث، { وأظهره الله عليه } أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، { عرف بعضه } أعلم حفصة ببعض ما أفْشَتْ عليه من السِّرّ { وأعرض عن بعض } تكرماً.
قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام (3) .
وقرأ الكسائي: "عَرَفَ" بتخفيف الراء (4) ، أي: جازى عليه. [تقول] (5) : أنا أعرف لأهل الإحسان، وأعرف لأهل الإساءة، أي: لا أقصّر في
__________
(1) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/219) وعزاه لابن مردويه.
(2) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/219) وعزاه لابن عساكر.
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/569-570).
(4) ... الحجة للفارسي (4/50)، والحجة لابن زنجلة (ص:713)، والكشف (2/325)، والنشر (2/388)، والإتحاف (ص:419)، والسبعة (ص:640).
(5) ... في الأصل: بقوله. والتصويب من ب.(1/231)
[مجازاتهم] (1) . وعليه حملوا قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } [البقرة:197] أي: يجازيكم به الله.
ولا يجوز أن تُحمل هذه القراءة على العلم؛ لأن الله قد أعلمه بالحديث كله، وأحاط النبي - صلى الله عليه وسلم - به علماً.
قال المفسرون: جازاها عليه بطلاقها.
فإن قيل: ما معنى مجازاتها على بعض إفشائها السر؟
قلتُ: تخفيف ما جازاها به بالنسبة إلى ما كانت تستحقه في مقابلة إظهار سره، ومخالفة أمره.
فإن قيل: ما البعض الذي عرّفها به، على قراءة الجمهور؟
قلتُ: عرّفها أنها أفشت عليه تحريمه مارية، وتغافل عن الباقي.
وقال ابن عباس بالعكس من ذلك.
فإن قيل: ما الحكمة في الإعراض عن السر الآخر، وهو إمامة الشيخين عليهما السلام؟
قلتُ: لم يكن [مأذوناً] (2) له في إشاعته وإذاعته، فأعرض عنه قَطْعاً لِقَالَة الناس، وحسماً لمادّة انتشاره.
فإن قيل: فلم كره - صلى الله عليه وسلم - إظهار حفصة تحريمه مارية؟
قلتُ: إجلالاً لمنصب النبوة عن إظهار ما الأحسن والأجمل كتمانه.
{ فلما نبأها به } أي: بذلك البعض الذي عرّفها إياه { قالت } مُستفهمة له:
__________
(1) ... في الأصل: مجازتهم. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: مأذون. والتصويب من ب.(1/232)
{ من أنبأك هذا } كأنها خافت أن تكون عائشة أشاعت سرّها إليه { قال نبأني العليم الخبير } .
ثم خاطب عائشة وحفصة فقال: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } مَالَتْ عما يجب عليكما من مناصحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واتباع مرضاته.
وقال ابن عباس: زاغت وأثمت (1) .
قال مجاهد: كنا نحسب "صَغَتْ" شيئاً هيناً، حتى وجدنا في قراءة ابن مسعود: "فقد زاغت قلوبكما" (2) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: "لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عَدَلَ عمر وعدلْتُ معه بالإدَاوَة (3) فتبرّز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله عز وجل: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } ؟ فقال عمر: وا عجباً لك يا ابن العباس!!. -قال الزهري: كَرِهَ والله ما سأله عنه ولم يكتمه-. قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث..." (4) . وفيه طول.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (28/161). وذكره السيوطي في الدر (8/219) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:683)، والطبري (28/161). وذكره السيوطي في الدر (8/219) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... الإداوة: إناء صغير من جلد يُتَّخَذُ للماء كالسطيحة ونحوها (اللسان، مادة: أدا).
(4) ... أخرجه البخاري (5/1991 ح4895)، ومسلم (2/1111 ح1479).(1/233)
فإن قيل: ما وجه الجمع وهما قلبان؟
قلتُ: لأن الاثنين فما فوقهما جماعة، ولهم ضابط وهو: أن كل ما في الإنسان منه واحد يثنّى على لفظ الجمع؛ لزوال اللبس، [تقول] (1) : ضربت ظهورهما وقطعت رؤوسهما. ويجوز أن يثنّى على واحد قال:
.......................... ... ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلَ ظُهُورِ [التّرْسَيْن] (2)
فجاء باللغتين.
قوله تعالى: { وإن تظاهرا عليه } أي: تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء السر، { فإن الله هو مولاه } وليه وناصره، وزيادة "هو" للإيذان بتحقيق مناصرة الله له ومظاهرته، { وجبريل } عطف على "هو مولاه".
[ { وصالح المؤمنين } ] (3) قال ابن مسعود وعكرمة والضحاك: أبو بكر وعمر (4) .
__________
(1) ... في الأصل: بقوله: والتصويب من ب.
(2) ... عجز بيت لخطام المجاشعي، وصدره: (ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن). وهو في: اللسان (مادة: مرت)، والقرطبي (5/73، 6/174)، وروح المعاني (16/282).
... وما بين المعكوفين في الأصل: الفرسين. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (28/163) عن الضحاك، والطبراني في الكبير (10/205 ح10477). وذكره الماوردي (6/41)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/310). والسيوطي في الدر (8/223) وعزاه للطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود مرفوعاً.(1/234)
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: عمر (1) .
وروي عن مجاهد: أنه علي عليه السلام (2) .
وقال السدي: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وقال ابن زيد: الملائكة (4) .
وقال قتادة: الأنبياء عليهم السلام (5) .
وقيل: الخلفاء من الصحابة.
وقيل: هو عام في كل من آمن وعمل صالحاً.
قال صاحب الكشاف (6) : إن قلت: صالح المؤمنين واحد أو جمع؟
قلتُ: [هو] (7) واحد أريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، يريد: الجنس. ويجوز أن يكون أصله: "صالحوا المؤمنين" بالواو،
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/356 ح31996)، وابن أبي حاتم (10/3362) كلاهما عن سعيد بن جبير. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/310)، والسيوطي في الدر (8/223) وعزاه لسعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سعيد بن جبير.
(2) ... ذكره الماوردي (6/41).
(3) ... ذكره الماوردي (6/41).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... أخرجه الطبري (28/163). وذكره السيوطي في الدر (8/224) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(6) ... الكشاف (4/571).
(7) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/235)
فكتب بغير واو على اللفظ؛ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه، كما جاءت أشياء في المصحف متبوعٌ فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
قوله تعالى: { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي: والملائكة على كثرتهم، وامتلاء السموات من جموعهم، بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين.
ويجوز أن يكون "وجبريل": مبتدأ، فيكون "صالح المؤمنين": عطفاً عليه، "والملائكة": عطف أيضاً، و "ظهير": خبر المبتدأ (1) .
فإن [قيل] (2) : المخبَر عنهم جمع، فكيف [جاء] (3) الخبر على لفظ الواحد؟
قلتُ: المعنى: والملائكة فوج ظهير، أي: مظاهر، أو كل واحد منهم ظهير.
والجواب المتداول بين أكثر أهل العلم: أن "ظهير" في تأويل ظَهْراء، كقول الشاعر:
........................... ... إنّ العَواذِلَ لَسْنَ لي بأَمِين (4)
4س|Otم رَبُّهُ إِنْ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/264-265)، والدر المصون (6/336).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل: جاز. والتصويب من ب.
(4) ... عجز بيت، وصدره: (يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي). وهو في: اللسان (مادة: ظهر)، والطبري (19/54)، والقرطبي (13/83)، والخصائص (3/174)، ومغني اللبيب (ص:279) وفيهم: "بأمير" بدل: "بأمين".(1/236)
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا اخب
قوله تعالى: { عسى ربه إن طلقكن } أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمر قال: "اجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه، فقلت لهن: { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } ، فنزلت هذه الآية" (1) .
وهذا تخويفٌ لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولعمري إنهن خيرُ نساء الأمة، لكن لو طلقهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعصيانهن، وإيذائهن له، كان غيرهن من المؤمنات السليمات من ذلك لو تزوجهن رسول الله خيراً منهن، فهو على سبيل الفرض والتقدير، لا أن غيرهنّ خيراً منهن.
ثم وصف الأزواج فقال: { مسلمات مؤمنات } أي: مُقرّات مُخلصات { قانتات } أي: طائعات { سائحات } أي: صائمات، وقيل: مهاجرات. وقد ذكرنا ذلك في براءة عند قوله: { التائبون العابدون } [التوبة:112].
قال الزمخشري (2) : فإن قلت: لم أُخْلِيَتِ الصفاتُ كلُّها عن العاطف،
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1869 ح4632).
(2) ... الكشاف (4/571-572).(1/237)
ووسط بين الثيبات والأبكار؟
قلتُ: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات، فلم يكن (1) بُدّ من الواو.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: بعد.(1/238)
تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1/239)
(8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ازب
قوله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } وقاية الأنفس: أن تعمل بطاعة الله وطاعة رسوله، [ووقاية] (1) الأهلين: أن تأمرهم بذلك.
قال علي عليه السلام: علِّمُوهم وأدِّبُوهم (2) .
ومعنى: "وقودها الناس والحجارة" مذكور في البقرة (3) .
{ عليها ملائكة غِلاظٌ شدادٌ } أي: في أَجْرَامِهم غلظة وشدة، أي: جفاء وقوة.
وقيل: غلاظ القلوب، شداد الأبدان، لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة، وهم
__________
(1) ... في الأصل: وقاية. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (28/165)، والبيهقي في الشعب (6/397 ح8648)، والحاكم (2/536 ح3826). وذكره السيوطي في الدر (8/225) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل.
(3) ... عند الآية رقم: 24.(1/240)
الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خَزَنَةِ النار.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن داود كان يُعاتَب في كثرة البكاء، [فقال] (1) : ذروني أبكي قبل أن تؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (2) .
فصل
ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتدبر ما اشتملت عليه هذه الآية، من الأمر بوقاية النفس والأهل نار جهنم، فيأخذ به ويتدبر ما تضمنته من التهديد، وينظر بنور إيمانه قيام الخَزَنة الغلاظ الشداد على عذاب أهل النار، بأيديهم مقامع الحديد، يمضون فيهم أمر الله جلّ وعز (3) .
كان مالك بن دينار يقول: لو وجدتُ أعواناً لفرقتهم في منار الأرض ينادون: أيها الناس النار النار (4) .
وفي الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية وعنده بعض أصحابه [وفيهم] (5) شيخ فغُشي عليه، فناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [فقال] (6) : قل: لا إله إلا الله، فقالها فبشره بالجنة، فقال أصحابه: أمن بيننا يا رسول الله؟ قال: نعم،
__________
(1) ... في الأصل: قال. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:88).
(3) ... في ب: عز وجل.
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:387). وذكره أبو نعيم في: حلية الأولياء (2/369)، وابن الجوزي في: صفة الصفوة (3/286).
(5) ... في الأصل: فيهم. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من الحاكم (2/382).(1/241)
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" (1) .
وقد كنا يوماً نتدارس القرآن في بيت من بيوت الله برأس عين، سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان عامَ قحط وغلاء وموت ذريع بسبب الجوع، فأتينا على هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وعندنا رجل من ذوي اليسار يستمع القرآن سماع تفكر واعتبار، فصاح صيحة شديدة، وألقى نفسه في وسط الحلقة كهيئة الولهان، ثم تراجعت إليه نفسه، فقال لنا: أشهدكم أن لله في مالي مائة مَكُّوك (2) من الحنطة، وستمائة درهم أُصْلِحُها بها وأطعمها لفقراء المسلمين، أقي بها نفسي وأهلي من نار جهنم، ثم نهض وأمضى ذلك باطلاع منا في أيام، فكان مجموع ما أنفق نحواً من مائتين وخمسين ديناراً تقريباً.
قوله تعالى: { لا يعصون الله ما أمرهم } أي: فيما أمرهم.
وقيل: "ما أمرهم" في محل النصب على البدل (3) ، أي: لا يعصون ما أمر الله، أي: أمره، كقوله: { أفعصيت أمري } [طه:93].
{ ويفعلون ما يؤمرون } قال بعضهم: ليست الجملتان في معنى واحد؛ لأن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامر الله ولا يأبونها.
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/382 ح3338)، والبيهقي في الشعب (1/468 ح734).
(2) ... المَكُّوك: مكيال معروف لأهل العرب، والجمع: مكاكيك، وهو صاع ونصف (اللسان، مادة: مكك).
(3) ... انظر: الدر المصون (6/337).(1/242)
ومعنى الثانية: يؤدون ما أُمروا به، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.
قوله تعالى: { توبوا إلى الله توبة نصوحاً } قال أبو زيد: توبة صادقة، يقال: نصحته، أي: صَدَقْتُه (1) .
وفي الحديث: التوبة النصوح: أن يتوب التائب ثم لا يرجع إلى الذنب (2) .
وقال بعض أهل المعاني (3) : وُصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح صفة للتائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "نُصُوحاً" بضم النون (4) .
قال الأخفش: لا أعرفه.
وقال غيره: هو فُعول، [مصدر كالذُّهُوب] (5) والجُلُوس، أي: توبة ذات نصوح.
وقيل: اشتقاقها من نصاحة الثوب، وهي خياطته.
والنَّاصح: الخياط، والنِّصَاح: السِّلْكُ [الذي يخاط] (6) به (7) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/321).
(2) ... أخرج نحوه ابن أبي شيبة (7/107 ح34560)، والبيهقي في الشعب (5/387 ح7035) من حديث ابن مسعود. وذكره الواحدي في الوسيط (4/322).
(3) ... هذا قول الزمخشري في: الكشاف (4/573).
(4) ... الحجة للفارسي (4/51)، والحجة لابن زنجلة (ص:714)، والكشف (2/326)، والنشر (2/388-389)، والإتحاف (ص:419)، والسبعة (ص:641).
(5) ... في الأصل: كاللاهوت. والتصويب والزيادة من ب.
(6) ... في الأصل: يخيط. والتصويب والزيادة من ب.
(7) ... انظر: اللسان (مادة: نصح).(1/243)
كأن المعنى: توبوا توبة تَرُمُّ خَلَلَكُم وتَرْفَؤُ خُرُوقَ دينكم.
وقيل: من قولهم: عسل ناصح؛ إذا خَلَصَ من شمعه (1) .
أي: توبوا توبة خالصة.
فإن قيل: ما وجه قراءة ابن أبي عبلة: "ويُدْخِلْكُم" بالجزم؟
قلتُ: العطف على محل: { عسى ربكم أن يكفر } (2) .
فإن قيل: ما العامل في { يوم لا يخزي } ؟
قلتُ: "ويدخلكم".
فإن قيل: لم عدل عن لفظ الإكرام إلى نفي الخزي عن النبي؟
قلتُ: تعريضاً بخزي الذين كذبوه وكفروا به.
فإن قيل: { والذين آمنوا معه } ما موضعه من الإعراب؟
قلتُ: يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على "النبي". ويجوز أن يكون مرفوعاً على الابتداء.
وقوله تعالى: { نورهم يسعى بين أيديهم } مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول (3) .
وقد فسرنا: { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } في الحديد (4) .
{ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } قال ابن عباس: ليس أحدٌ من المسلمين إلا
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... انظر: الدر المصون (6/338)، والكشاف (4/574).
(3) ... انظر: الدر المصون (6/338).
(4) ... عند الآية رقم: 12.(1/244)
يُعطى يوم القيامة نوراً. فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مُشفق مما رأى من إطفاء نور المنافقين فهو يقول: { ربنا أتمم لنا نورنا } (1) .
والآية التي بعدها مُفسّرة في براءة (2) .
ڑUuژںر اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ اتةب
ثم مثّل الله تعالى حال الكفار في أنهم يُعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، غير نافع لهم ما بينهم وبينهم من لُحمة نسبٍ أو مصاهرة فقال:
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/538 ح3832). وذكره السيوطي في الدر (8/228) وعزاه للحاكم والبيهقي في البعث.
(2) ... عند الآية رقم: 73.(1/245)
{ ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح } واسمها: واعلة. وقال [مقاتل] (1) : والعة (2) .
{ وامرأة لوط } واسمها: واهلة. وقال مقاتل (3) : والهة.
{ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما في الدين، كانت امرأة نوح تُخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوطٍ ضيفٌ بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخّنت ليعلم قومه أنه قد نزل بلوط ضيف (4) .
وقال السدي: كانت خيانتهما: كفرهما (5) .
وقال الضحاك: نميمتهما (6) .
وقال الكلبي: نفاقهما (7) .
__________
(1) ... زيادة من ب. انظر: تفسير مقاتل (3/380).
(2) ... في تفسير مقاتل: والغة.
(3) ... تفسير مقاتل (3/380).
(4) ... أخرج نحوه الطبري (28/170)، وابن أبي حاتم (10/3362)، والحاكم (2/538 ح3833). وذكره الواحدي في الوسيط (4/322)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/315). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/228) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس.
(5) ... ذكره الماوردي (6/46)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/315).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/322).(1/246)
{ فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً } أي: من عذاب الله شيئاً.
{ وقيل } لهما عند موتهما أو يوم القيامة، فأخبر عنه بلفظ الماضي؛ لتحقق [كونه] (1) ، { ادخلا النار مع الداخلين } .
ڑUuژںرur اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ
__________
(1) ... في الأصل: كونهما. والتصويب من ب.(1/247)
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ اتثب
ثم مثّل حال المؤمنين في أن وُصْلَةَ الكفار لا تضرُّهم فقال: { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون } أي: مثل امرأة فرعون، فحذف المضاف، وهو بدل من قوله: "مثلاً"، [واسمها] (1) : آسية بنت مزاحم عليها السلام، وهي من النساء الكوامل.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا أبو محمد السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كَمُلَ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضْل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (2) . وأخرجه مسلم أيضاً.
قال المفسرون: كانت قد آمنت بموسى عليه السلام.
قال أبو هريرة: ضَرَبَ فرعونُ لامرأته أوتاداً في يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرّقوا عنها أظلّتها الملائكة فقالت: { رب ابن لي عندك بيتاً في
__________
(1) ... في الأصل: أو اسمها. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه البخاري (3/1374 ح3558)، ومسلم (4/1886 ح2431).(1/248)
الجنة } ، فكشف الله عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها (1) .
{ ونجني من فرعون وعمله } قيل عمله: جِمَاعُه (2) . وقيل: دينه (3) . رويا عن ابن عباس.
{ ونجني من القوم الظالمين } أهل دينه.
قوله تعالى: { ومريم ابنة عمران } عطف على "امرأة فرعون" (4) ، بتقدير حذف المضاف، أي: ومثل مريم ابنة عمران { التي أحصنت فرجها } .
{ فنفخنا فيه } أي: في الفرج.
وقيل: في جيب درعها. وقد ذكرناه في سورة الأنبياء (5) .
{ وصدّقت بكلمات ربها } التي أنزلها في الصحف.
وقيل (6) : هي قول جبريل: { أنا رسولُ ربكِ } [مريم:19].
وقرأ جماعة، منهم: أبيّ بن كعب، وعاصم الجحدري: "بكلمة" على
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/323)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/315)، والسيوطي في الدر (8/229) وعزاه لأبي يعلى والبيهقي بسند صحيح.
(2) ... ذكره الماوردي (6/48)، والواحدي في الوسيط (4/323)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/316)، والسيوطي في الدر (8/229) وعزاه لوكيع في الغرر.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/316).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/339).
(5) ... عند الآية رقم: 92.
(6) ... في الأصل زيادة قوله: هو.(1/249)
التوحيد (1) ، إشارة إلى عيسى عليه السلام.
وقرأت لأبان عن عاصم: "وصَدَقَت" بالتخفيف، وهي في معنى التشديد (2) .
وقرأ أبو عمرو وحفص: "وكُتُبِه" على الجمع. وقرأ الباقون: "وكتابه" على إرادة الجمع (3) ، أو الإنجيل.
{ وكانت من القانتين } أي: من القوم القانتين.
قال قتادة (4) : من القوم المطيعين [لربهم] (5) .
وقال عطاء: من المُصَلِّين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء (6) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/316)، والدر المصون (6/339).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/290)، والدر المصون (6/339).
(3) ... الحجة للفارسي (4/52)، والحجة لابن زنجلة (ص:715)، والكشف (2/326)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:419)، والسبعة (ص:641).
(4) ... أخرجه الطبري (28/172). وذكره الواحدي في الوسيط (4/324)، والسيوطي في الدر (8/229) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... في الأصل و ب: لربها. وهو خطأ؛ لأن فيها إعادة الضمير المفرد إلى لفظ دال على الجماعة، والصواب -والله أعلم- كما ذكرناه؛ لأنه من المتعارف لغوياً أن يتفق الضمير العائد مع ما عاد عليه لفظاً ومعنى وتذكيراً وتأنيثاً وإفراداً وتثنية وجمعاً. (هامش الوسيط 4/324).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/324).(1/250)
سورة الملك
ijk
وهي إحدى وثلاثون آية في المدني، وثلاثون في الكوفي (1) . وهي مكية بإجماعهم.
قال ابن مسعود: هي المانعة من عذاب القبر (2) .
x8tچ"t6s? الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:251).
(2) ... أخرجه البيهقي في الصغرى (ص:553). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/318)، والسيوطي في الدر (8/231) وعزاه لابن مردويه.(1/251)
سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ احب
أخبرنا أبو [المجد] (1) محمد بن محمد بن أبي بكر، أخبرنا عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه مطهر بن عبدالكريم بن محمد قالا: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن [حمد] (2) الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر ابن الكسار، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني، أخبرنا أبو عبدالرحمن النسائي، أخبرنا إسحاق بن منصور ومحمد بن المثنى، حدثنا يحيى [بن] (3) سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي (4) ، عن أبي
__________
(1) ... زيادة على الأصل. وفي ب: أخبرنا محمد. انظر ترجمته في: التقييد (ص:108).
(2) ... في الأصل: أحمد. والمثبت من ب.
(3) ... في الأصل و ب: عن. والتصويب من عمل اليوم والليلة. وفي هامش ب: صوابه: بن سعيد. وهو: يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي، أبو سعيد البصري الأحول، ثقة متقن، حافظ إمام قدوة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله ثمان وسبعون سنة (تهذيب التهذيب 11/190-192، والتقريب ص:591).
(4) ... عباس الجشمي، يقال: اسم أبيه عبد الله، روى عن عثمان وأبي هريرة، وعنه قتادة وسعيد الجريري (تهذيب التهذيب 5/118، والتقريب ص:294).(1/252)
هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في القرآن سورة، ثلاثون آية، شفعت لصاحبها حتى غُفر له { تبارك الذي بيده الملك } (1) " (2) .
وفي حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وددتُ أن { تبارك الذي بيده الملك } في قلب كل عبد مؤمن (3) " (4) .
وفي حديث ابن شهاب عن حميد بن عبدالرحمن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " { تبارك الذي بيده الملك } تُجادل عن صاحبها يوم القيامة" (5) .
وقد شرحنا "تبارك" في الأعراف (6) .
قال ابن عباس: والمراد بالمُلْك: السُّلْطان، فهو يُعزّ ويُذلّ (7) .
__________
(1) ... في هامش ب: ذكره ابن طقوش، وهو في سننه، وفي د ت ق. ورواه أحمد أيضاً في مسنده.
(2) ... أخرجه النسائي في الكبرى (6/496 ح11612)، وابن ماجه (2/1244 ح3786)، وأحمد (2/299 ح7962)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:321).
(3) ... في هامش ب: رواه عبد بن حميد في مسنده، والطبراني في معجمه، وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان، وهو ضعيف.
(4) ... أخرجه عبد بن حميد في مسنده (1/206 ح603)، والحاكم في المستدرك (1/753 ح2076).
(5) ... أخرجه مالك في الموطأ (1/209 ح487).
(6) ... عند الآية رقم: 54.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/319).(1/253)
قوله تعالى: { الذي خلق الموت والحياة } قال ابن عباس: يريد: الموت في الدنيا والحياة في الآخرة (1) .
وقال قتادة: موت الإنسان وحياته في الدنيا (2) .
قال أهل المعاني (3) : الحياة: ما يَصح بوجوده الإحساس، أو ما يُوجب كون الشيء حياً، وهو الذي يصح منه أن يَعْلَمَ ويَقْدِرَ، والموت عدم ذلك فيه.
ومعنى خلْق ذلك: إيجاده وإعدامه.
فإن قيل: لم قَدَّمَ الموت على الحياة؟
قلتُ: لأنها مسبوقة به، يدلك قوله: { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [البقرة:28]، فقدّمه في الذّكر، وإن كان المراد الموت الثاني، نظراً إلى أنه أسبق.
ولأنه أقرب إلى القهر والملك.
ولأن المقصود التنبيه والحضّ على عمل الآخرة، فقُدم لذلك.
{ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } مُفسّر في هود (4) .
فإن قيل: من أين تعلق قوله: { أيكم أحسن عملاً } بفعل البلوى؟
قلتُ: قال الزجاج (5) : المتعلق بـ"أيكم" مضمر، تقديره: ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملاً. وقد ذكرنا فيما مضى أن "أي" لا تعمل فيها ما قبلها.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/50) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/326).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/326).
(3) ... هو قول الزمخشري في: الكشاف (4/579).
(4) ... عند الآية رقم: 7.
(5) ... معاني الزجاج (5/197).(1/254)
قوله: { طِبَاقاً } أي: مطابقة بعضها فوق بعض، من طَابَقَ النعل؛ إذا خصفها طَبَقاً على طَبَق. وهذا وصفٌ بالمصدر، أو يكون المعنى: ذات طِبَاق أو طُوبقت طِباقاً.
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } قال مقاتل (1) : ما ترى يا ابن آدم في خلق السموات من عيب.
وقال قتادة: ما ترى خَلَلاً ولا اختلافاً (2) .
وقال غيره (3) : حقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأنّ بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه.
وقرأ حمزة والكسائي: "تَفُوُّتٍ" (4) .
ومعنى البنائين واحد، كالتظاهر والتظهّر، والتعاهد والتعهّد.
وموضع (5) هذه الجملة: النصب صفةً لـ"طباقاً" (6) .
{ فارجع البصر } أي: كرّر النظر، { هل ترى من فطور } أي: صُدوع [وشُقوق] (7) ، جمع فَطْر، وهو الشّق. وأنشدوا قول عبيد الله بن عبدالله بن
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/381).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/326).
(3) ... هذا كلام الزمخشري في: الكشاف (4/580).
(4) ... الحجة للفارسي (4/53)، والحجة لابن زنجلة (ص:715)، والكشف (2/328)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:420)، والسبعة (ص:644).
(5) ... في ب: وموقع.
(6) ... انظر: الدر المصون (6/341).
(7) ... في الأصل: وتشقق. والمثبت من ب.(1/255)
عتبة بن مسعود:
شَقَقْتِ القلبَ ثم ذرَرْتِ فيه ... هَواكِ فَلِيمَ فَالْتَأمَ الفُطُور (1)
وقال الضحاك: اختلاف وشطور.
{ ثم ارجع البصر كرتين } أي: مرّة بعد أخرى.
أمر الله تبارك وتعالى بالتوقّف وتكرير النظر إلى أن يحسر بصره من كثرة المعاودة، ليتحقق الناظر أنه لا يعثر على شيء من الفُطُور.
{ ينقلب إليك البصر خاسئاً } مبعداً لم يظفر بما رام من رؤية الفُطور، { وهو حسير } كليل منقطع. قال الشاعر:
نظرتُ إليها بالمحَصَّبِ من مِنى ... فَعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهو حَسير (2)
قال الزجاج (3) : قد أعيا من قبل أن يَرى في السماء خَلَلاً.
قال الزمخشري (4) : فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرَّتين اثنتين؟
قلتُ: معنى التثنية: التكرير بكثرة، كقولهم: لبَّيْكَ وسعديك، يريد إجابات
__________
(1) ... البيت لعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود. وهو في: اللسان (مادة: ذرأ، ذرر، فطر)، والبحر (8/293)، والدر المصون (6/341)، والقرطبي (18/209)، وروح المعاني (29/7)، وديوان الحماسة (2/133)، وتاج العروس (مادة: فطر، بلغ)، ونسبه في الموضع الثاني لقيس بن ذريح.
(2) ... انظر البيت في: القرطبي (8/210).
(3) ... معاني الزجاج (5/198).
(4) ... الكشاف (4/581).(1/256)
كثيرة بعضها في إثر بعض، وقولهم في المثل: "دُهْدُرَّيْنِ سَعْدُ القَيْن" (1) من ذلك، أي: باطل بعد باطل.
ô‰s)s9ur زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا
__________
(1) ... في الأصل: القلين. والمثبت من ب، والكشاف (4/581).
... وهو مثل يُضرب لمن يأتي بالباطل. قال الأصمعي: ولا نعرف أصله. انظر: المستقصى في أمثال العرب (2/83)، وجمهرة الأمثال (1/448).(1/257)
وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)(1/258)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ اتثب
قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } وهي السُّرج، سُمّيت بها الكواكب؛ لإنارتها.
{ وجعلناها } يعني: المصابيح { رجوماً للشياطين } مسترقي السمع.
ومن تصفَّح كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، رأى انحصار خلق النجوم لثلاث حكم.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها. فمن تأوّل فيها غير ذلك [فقد تكلّف] (1) ما لا علم له به (2) .
وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتّبعون الكهانة ويتخذون النجوم علّة (3) .
{ وأعتدنا لهم } بعد الإحراق بالشهب { عذاب السعير } ، و"الشهيق"
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (29/3-4).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2831)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1230 ح70627). وذكره السيوطي في الدر (3/329) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة.(1/259)
مذكور في أواخر هود (1) .
قال الزمخشري (2) : الشهيق: إما لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، [أو من] (3) أنفسهم، كقوله: { لهم فيها زفير وشهيق } [هود:106]، وإما للنار؛ تشبيهاً بحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق.
{ تفور } تغلي بهم غليان المِرْجَل (4) بما فيه. وجعلت كالمغتاظة عليهم؛ لشدة غليانها بهم، ويقولون: فلان يتميَّز غيظاً ويتقصف غضباً، وغَضِبَ فطارت منه شقّة في الأرض وشقّة في السماء: إذا وصفوه بالإفراط فيه.
ويجوز أن يراد: غيظ الزبانية.
{ ألم يأتكم نذير } سؤال توبيخ وتقريع.
والنذير: بمعنى الإنذار، أي: أهل نذير، أو وصف [منذروهم] (5) لغلوّهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا الإنذار، وكذلك { قد جاءنا نذير } .
قوله تعالى: { إن أنتم إلا في ضلال كبير } من تمام ما أخبر به للكفار عن أنفسهم بما قالوه للنُّذُر، على معنى: إن أنتم إلا في ضلال عن الصواب.
ويجوز أن يكون من كلام الخَزَنة للكفار على إرادة القول، أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 106.
(2) ... الكشاف (4/582-583).
(3) ... في الأصل و ب: ومن. والتصويب من الكشاف (4/582).
(4) ... المِرْجَل: القِدْر من الحجارة والنحاس (اللسان، مادة: رجل).
(5) ... في الأصل: منذوهم.(1/260)
قال الزجاج (1) : ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل } .
قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به { ما كنا في أصحاب السعير } (2) .
وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
{ فاعترفوا بذنبهم فسحقاً } قال ابن عباس: فبُعْداً (3) .
وقرأ الكسائي: "فسُحُقاً" بضم الحاء (4) .
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/199).
(2) ... ذكره القرطبي (18/212)، والبغوي (4/371).
(3) ... أخرجه الطبري (29/6)، وابن أبي حاتم (10/3363). وذكره السيوطي في الدر (8/236) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... الحجة للفارسي (4/54)، والحجة لابن زنجلة (ص:716)، والكشف (2/329)، والنشر (2/217)، والإتحاف (ص:420)، والسبعة (ص:644).(1/261)
(14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ اتخب
وقوله تعالى: { وأسروا قولكم أو اجهروا به } قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية (1) .
{ ألا يعلم من خلق } [أي] (2) : ألا يعلم ما في الصدور مَنْ خَلَقَها، و"من خلق" في محل الرفع بإسناد الفعل إليه.
ويجوز أن يكون منصوباً، على معنى: ألا يعلم مخلوقه.
والأول أظهر.
{ وهو اللطيف الخبير } فهو يعلم ما ظهر وبطن من خلقه.
قوله تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } مذلّلة سهلة، ولم يجعلها وعرةً تمنعُكُم بحُزُونَتِها عن كثير من مصالحكم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/329)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/321).
(2) ... زيادة من ب.(1/262)
{ فامشوا في مناكبها } قال ابن عباس وقتادة: أي: جبالها (1) . واختاره الزجاج، قال (2) : لأن المعنى: سَهَّلَ لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ.
وقال مقاتل (3) : في جوانبها. وإليه ذهب الفراء وأبو عبيدة (4) ، وهو اختيار ابن قتيبة قال (5) : ومنكبا الرجل: [جانباه] (6) .
قوله تعالى: { وإليه النشور } المعنى: وإليه تبعثون من قبوركم فيسألكم عن شكر نعمه ورزقه إياكم.
LنêYدBr&uن مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/6-7). وذكره السيوطي في الدر (8/237) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس.
(2) ... معاني الزجاج (5/199).
(3) ... تفسير مقاتل (3/383).
(4) ... معاني الفراء (3/171)، ومجاز القرآن لأبي عبيدة (2/262).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:475).
(6) ... في الأصل: جنباه. والتصويب من ب، وتفسير غريب القرآن، الموضع السابق.(1/263)
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ اتزب
قوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } قرأ ابن عامر وأهل الكوفة: "أأمنتم" بتحقيق الهمزتين، والباقون بتحقيق الأولى وتليين الثانية، إلا [ما] (1) روي عن قنبل عن ابن شنبوذ من قلب همزة الاستفهام واواً لانضمام ما قبلها، وهو الراء، وتليين الثانية بين بين، وابن شنبوذ كذلك إلا أنه [يحقق] (2) الهمزة الثانية. وفَصَلَ بين الهمزتين بألفٍ: قالون وأبو عمرو، وترك الفصل: ابن كثير غير من ذكرته عن قنبل
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: يخفف. والمثبت من ب.(1/264)
ووَرْش (1) .
قال ابن عباس: أمنتم عذاب مَنْ في السماء، وهو الله عز وجل (2) .
قال الثعلبي (3) : واعلم أن الآيات والأخبار الصحاح في هذا الباب كثيرة، وكلُّها إلى العلو مشيرة، ولا يدفعها إلا مُلحدٌ جاحد، أو جاهلٌ معاند.
ومن المواضع التي سُلب فيها الزمخشري التوفيق، وقاده إليها شؤم بدعته، قوله هاهنا (4) : كانوا يعتقدون التشبيه، وأن الله في السماء، وأن العذاب والرحمة ينزلان منه، وكانوا [يدعونه] (5) من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء.
وهذا الهذيان الذي رام به جحد النص الجليّ أقلُّ من [أن] (6) يُتعرّض له برَدٍّ وإبطال.
وقد قررنا وأثبتنا صفة العلو لله تعالى في مواضع من هذا الكتاب.
قوله تعالى: { فإذا هي تمور } قال مقاتل (7) : تدور بكم إلى الأرض السفلى.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/53-54)، والحجة لابن زنجلة (ص:716)، والكشف (2/328)، والنشر (1/364)، والإتحاف (ص:420)، والسبعة (ص:644).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/322).
(3) ... تفسير الثعلبي (9/360).
(4) ... الكشاف (4/585).
(5) ... في الأصل و ب: يدعونها. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... تفسير مقاتل (3/383).(1/265)
وقد سبق ذكر "الحاصب" (1) .
{ فستعلمون كيف نذير } أي: إذا رأيتم المنذَر به تعلمون كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم.
قوله تعالى: { صَافّاتٍ } أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، { ويقبضن } بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضُه بعد البسط، { ما يمسكهن } أن يقعن { إلا الرحمن } بقدرته، [وبما] (2) رَكَّبَ لهنّ من القَوَادِم [والخَوَافِي] (3) ، ودبّر فيهن من الخصائص والأشكال التي ينفعل عنها الطيران.
ô`¨Br& هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ
__________
(1) ... في سورة الإسراء، عند الآية رقم: 68.
(2) ... في الأصل: بما. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: الخوافي. والتصويب من ب.
... والقَوَادِم: أربع ريشات في مقدّم الجناح، الواحدة: قادمة (اللسان، مادة: قدم).
... والخوافي: ريشات إذا ضَمَّ الطائر جناحيه خفيت، واحدتها: خافية (اللسان، مادة: خفا).(1/266)
رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا(1/267)
نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ اثذب
ولفظ "الجُنْد": موحّد، ولهذا قال: { أم من هذا الذي هو جندٌ لكم } .
{ أم من هذا الذي يرزقكم } أي: يرزقكم المطر وغيره.
قوله تعالى: { أفمن يمشي مُكِبّاً على وجهه } هذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر.
والمعنى: ليس من يمشي مُكِبّاً على وجهه لا ينظر أمامه ولا يمينه وشماله، بل يعسف في مكان وعْر، يخِرُّ تارة ويعثُرُ أخرى، كمن يمشي سوياً معتدلاً سالماً من العُثُور والخُرور.
وقال [قتادة] (1) : هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبّاً على وجهه، والمؤمن يمشي سَوِيّاً (2) .
قال الكلبي: يعني بالمُكِبِّ: أبو جهل. وبالسويّ: النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل: حمزة
__________
(1) ... في الأصل: مقاتل. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/330)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/323).(1/268)
بن عبد المطلب (1) .
وجميعُ ما لم أذكره ظاهر أو مُفسّر إلى قوله تعالى: { فلما رأوه } أي: شاهدوا الوعد { زلفة } أي: قريباً، ونصبه على الحال أو الظرف (2) ، أي: رأوه ذا زلفة، أو مكاناً ذا زلفة، { سيئت وجوه الذين كفروا } أي: ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن عَلَتْها الكآبة، وغشيها الكسوف والقَتَرة.
{ وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } قال الفراء وابن قتيبة (3) : تَفْتَعِلُون، من الدعاء، أي: تَطلبون وتَستعجلون تكذيباً واستهزاء.
وقرأتُ ليعقوب الحضرمي: "تَدْعُون" بالتخفيف (4) ، وهي في [معنى] (5) : "تدَّعُون" مشددة.
وقال جماعة، منهم: الزجاج، في معنى المشددة (6) : تدّعون الأباطيل والأكاذيب، فتدّعون أنكم إذا مُتُّم لا تبعثون.
ِ@è% أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ
__________
(1) ... ذكره القرطبي (18/219).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/347).
(3) ... تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:475).
(4) ... النشر (2/389)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:420).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... معاني الزجاج (5/201).(1/269)
الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ اجةب
قال المفسرون: كان الكفار يتربّصون بالرسول [والمؤمنين] (1) الهلاك، فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - : { قل أرأيتم إن أهلكني الله } (2) أي: أخبروني إن أهلكني الله { ومن معي } كما تتمنّون أو أبقانا وأخّر في آجالنا، { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } فإنه واقع بهم لا محالة، وأنتم إنما تتربصون بنا إحدى الحُسْنَيَيْن؛ النصر أو الشهادة.
وقيل: معنى الآية: نحن في إيماننا بين خوف ورجاء؛ فمن يجيركم أنتم
__________
(1) ... في الأصل: المؤمنين. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل زيادة قوله: { ومن معي } وستأتي بعد.(1/270)
من عذاب الله مع كفركم.
قوله تعالى: { فستعلمون } وقرأ الكسائي: "فسيعلمون" بالياء (1) ؛ حملاً على قوله: { فمن يجير الكافرين } .
{ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } ذاهباً في الأرض.
وقد فسّرناه في الكهف (2) .
{ فمن يأتيكم بماء معين } ظاهر العيون.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/54)، والحجة لابن زنجلة (ص:716)، والكشف (2/329)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:421)، والسبعة (ص:644).
(2) ... عند الآية رقم: 41.(1/271)
سورة نون
ijk
وهي ثنتان وخمسون آية (1) .
وهي مكية بإجماعهم، إلا ما يحكى عن ابن عباس وقتادة: أن فيها من المدني { إنا بلوناهم } إلى قوله: { لو كانوا يعلمون } (2) .
ْc وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:252).
(2) ... ذكره الماوردي (6/59)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/326).(1/272)
(6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ اذب
اختلف القراء السبعة في إدغام النون في الواو من قوله: { نون } (1) . والإدغام اختيار الزجاج (2) ، والإظهار اختيار الفراء (3) .
قرأ ابن عباس: "نونِ" بكسر النون (4) . وقرأ عيسى بن عمر: بفتحها (5) ، كما في صاد. وقد تقدّمت عِلَلُ ذلك في مواضعه.
وقرأ الحسن وأبو عمران وأبو نهيك: "نونُ" بالرفع (6) .
قال الحسن وقتادة: هي الدواة (7) .
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول ما خلق الله القلم، ثم
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (4/56)، والحجة لابن زنجلة (ص:717)، والكشف (2/331)، والنشر (2/18-19)، والإتحاف (ص:421)، والسبعة (ص:646).
(2) ... معاني الزجاج (5/203).
(3) ... معاني الفراء (3/172).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/326)، والدر المصون (6/349).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/302)، والدر المصون (6/349).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/326).
(7) ... أخرجه الطبري (29/15). وذكره السيوطي في الدر (8/241) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة والحسن. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير وابن المنذر.(1/273)
خلق النون وهي الدواة" (1) .
وقال مجاهد والسدي وابن السائب ومقاتل (2) : الحوت الذي على ظهره الأرض (3) .
وقيل: النون آخر حروف الرحمن (4) . وهذه الأقوال عن ابن عباس.
وقال معاوية بن قرة: "نون": لوح من نور. رواه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) .
وقال عطاء: افتتاح اسم نصير وناصر (6) .
وقال جعفر الصادق: نهر في الجنة (7) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/354) مطولاً، كما في الدر (8/241).
(2) ... تفسير مقاتل (3/386).
(3) ... أخرجه مجاهد في تفسيره (ص:687)، والطبري (29/14). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/327)، والسيوطي في الدر (8/241) وعزاه لابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/332)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/327).
... قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (30/77) بعد ذكره لهذا القول: وهذا ضعيف؛ لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية. والصواب أنّ "ن" من الحروف الهجائية التي ذكرت في أوائل السور بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته.
(5) ... أخرجه الطبري (29/16) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً. وذكره السيوطي في الدر (8/241) وعزاه لابن جرير.
... قال ابن كثير (4/402): وهذا مرسل غريب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/327).
(7) ... مثل السابق.(1/274)
وقال صاحب الكشاف (1) : المراد هذا الحرف من حروف المعجم. وأما قولهم: هو الدواة، فما أدري أهو وضع لغوي أو شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو عَلَماً، [فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين. وإن كان علماً] (2) فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام.
فإن قلت: هو مُقسمٌ [به] (3) وجب أن يكون جنساً، ووجب أن [تجرّه وتنوّنه] (4) ، ويكون القسَم بدواة مُنَكَّرَةٍ مجهولة، كأنه قيل: ودواةٍ. وإن كان عَلَماً أن تصرفه وتجرّه، أو لا تصرفه وتفتحه للعَلَمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت واللوح والنهر في الجنة.
والمراد بالقلم: الذي يكتب به الذِّكر في اللوح المحفوظ.
قال ابن جريج: هو من نور، طوله ما بين السماء والأرض (5) .
وقيل: القلم الذي يَكتُبُ به الناس (6) ، أقسم به؛ لأنه نعمة عظيمة، ومنّة جسيمة، ومنفعة شاملة.
قال ابن [هيثم] (7) : من جلالة القلم أنه لم يُكتب لله كتاب إلا به، فلذلك
__________
(1) ... الكشاف (4/589).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: تنونه وتجره. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... ذكره الماوردي (6/60).
(6) ... واستظهر هذا القول ابن كثير (4/402).
(7) ... في الأصل: هثيم. والمثبت من ب.(1/275)
أقسم الله به (1) .
وقيل: الأقلام مطايا الفِطَن ورُسُل الكرام (2) .
وقيل: البيان اثنان؛ بيان لسان وبيان بنان، ومن فضل بيان البنان أن ما تُثبته الأقلام باقٍ على الأيام، [وبيان اللسان تدرسه الأعوام] (3) . (4) .
وقال بعض الحكماء: قِوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم (5) ، [وفيه] (6) يقول ابن الرومي:
إنْ يَخْدُمِ القلمَ السيفُ الذي خضعتْ ... له الرقابُ ودانتْ دُونه الأُمَم
فالموتُ، والموتُ لا شيءٌ يُغالِبُه ... ما زالَ يتبعُ ما يجري به القَلَم
كذا قَضَى الله للأقْلامِ مُذْ بُرِيَتْ ... أنَّ السيوفَ لها مُذْ أُرْهِفَتْ خَدَم (7)
وقوله أيضاً:
في كَفِّهِ قلمٌ ناهيكَ من قَلَمٍ ... نُبْلاً وناهيكَ منْ كَفٍّ به اتّشَحا
__________
(1) ... ذكره ابن عجيبة في تفسيره (6/381).
(2) ... انظر: المصدر السابق.
(3) ... زيادة من تفسير ابن عجيبة، الموضع السابق.
(4) ... انظر: تفسير ابن عجيبة، الموضع السابق.
(5) ... مثل السابق.
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... الأبيات لابن الرومي، انظر: خزانة الأدب (1/229، 236)، وصبح الأعشى (1/75، 477، 478).(1/276)
يَمْحُو ويُثبتُ أرزاقَ العبادِ به ... فما المقاديرُ إلا ما وَحَا ومَحَا (1)
ولأبي تمام في محمد بن عبدالملك الزيات:
له القلمُ الأعلى الذي [بشَبَاتِه] (2) ... يُصابُ من الأمرِ الكُلَى والمفَاصِلُ
فَصيحٌ إذا استنطَقْتَه وهو راكبٌ ... وأعجمُ إن خاطبْتَهُ وهو رَاجِلُ
إذا ما امتطى الخمسَ اللِّطافَ وأفْرَغَتْ ... عليه شِعابُ الفِكْرِ وهي حَوافِلُ
أطاعتهُ أطرافُ الرماحِ [وقَوَّضَتْ ... لنَجْواهُ تَقويضَ] (3) الخيامِ الجَحَافِلُ (4)
وما أحسن قول المتنبي في وصفه:
نَحيفُ الشَّوى يَعْدُو على أمّ رأسه ... ويحْفَى فيقوى عَدْوُه حينَ يُقْطَعُ
يَمُجُّ ظلاماً في نَهارٍ لسانُه، ويَفْهَمُ ... عَمَّنْ قال ما ليسَ يَسْمَعُ (5)
وآثر الوزير ضياء الدين أبو الفتح ابن الأثير نثر هذا النظم، فقرطس في البلاغة بالإصابة، وحلاّه إذ حلّه فاتّسعت به الأسماع مع الغرابة فقال: أخرس وهو فصيح الإيراد، أصمّ وهو يسمع مناجاة الفؤاد. ومن عجيب شأنه: أنه لا يَنطق إلا إذا قطع لسانه، ولا يضحك إلا إذا بَكَتْ أجفانه.
__________
(1) ... البيتان لابن الرومي. انظر: محاضرات الأدباء (1/40).
(2) ... في الأصل: بشتاته. والتصويب من ب، ومصادر الأبيات.
(3) ... في الأصل: وفوضت لنجواه تفويض. والمثبت من ب.
(4) ... الأبيات لأبي تمام الطائي. انظر: صبح الأعشى (2/478)، والحيوان للجاحظ (1/22)، والعقد الفريد (2/49).
(5) ... البيتان للمتنبي، انظر: ثمار القلوب (ص:257).(1/277)
قوله تعالى: { وما يسطرون } "ما" موصولة، أو مصدرية.
قال مجاهد: ما تكتب الملائكة من الذكر (1) .
وقال مقاتل وغيره (2) : ما تكتبه الحَفَظَة من أعمال بني آدم.
وقيل: ما يسطره جميع الكَتَبَة.
{ ما أنت } يا محمد { بنعمة ربك بمجنون } نفى ذلك عنه لقولهم: { إنك لمجنون } [الحجر:6]، والباء في "بنعمة" تتعلق "بمجنون"، وهي في محل الحال (3) ، تقديره: ما أنت بمجنون منعّماً بذلك، والباء في "بمجنون" لتوكيد النفي.
{ وإن لك } بصبرك على أذاهم مُنضماً إلى ما أنعمتُ عليك به من النبوة والإيمان، وظهور دينك على سائر الأديان، وارتفاع شأنك، واستفحال سلطانك { لأجراً } ثواباً { غير ممنون } منقوص ولا مقطوع.
وقال الحسن: غير ممنون عليك من أذى (4) .
{ وإنك لعلى خلق عظيم } قال بعض أهل المعاني (5) : استعظم خُلُقَهُ لفرط احتماله - صلى الله عليه وسلم - المُمِضّات من قومه، وحُسْنِ مخالفته ومداراته لهم.
وأقوال المفسرين فيه ترجع إلى معنى واحد، وهو: الأخذ بما أُمر به.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/17). وذكره الماوردي (6/60).
(2) ... تفسير مقاتل (3/386).
(3) ... انظر: الدر المصون (6/350).
(4) ... ذكره الماوردي (6/61).
(5) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/590).(1/278)
قال ابن عباس: هو دين الإسلام (1) .
وقال عطية: آداب القرآن (2) .
وقال قتادة: ما يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه، مما نَهى الله عنه (3) .
قالت عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقُه القرآن، يسخط لسخطه (4) ، ويرضى لرضاه (5) .
وقال الماوردي (6) : حقيقة الخُلُق في اللغة: هو ما يأخذ به
[الإنسان] (7) نفسه من الآداب، سُمي خُلُقاً؛ لأنه يصير كالخِلْقَة فيه.
فأما ما طُبع عليه من الآداب فهو الخِيم (8) ، فيكون الخلق: الطبع المتكلّف، والخِيم: الطَّبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شِعره حيث يقول:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/18). وذكره السيوطي في الدر (8/243) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الطبري (29/19). وذكره السيوطي في الدر (8/243) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/334).
(4) ... في ب: بسخطه.
(5) ... أخرجه البيهقي في الشعب (2/154 ح1428). وذكره السيوطي في الدر (8/243) وعزاه لابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(6) ... تفسير الماوردي (6/61-62).
(7) ... زيادة من ب، والماوردي (6/61).
(8) ... وهي الطباع.(1/279)
وإذا ذو الفُضُولِ ضَنَّ على المَوْلَى ... وعادتْ بخِيمِهَا الأخْلاقُ (1)
أي: رجعت الأخلاق إلى طباعها.
قوله تعالى: { فستبصر ويبصرون } وعيد لأهل مكة، ظَهَرَ أثَرُه يوم بدر.
{ بأيكم المفتون } قال الحسن: المفتون: الضَّال (2) .
وقال مجاهد: الشيطان (3) .
وقال الضحاك: المجنون (4) .
والباء زائدة، في قول أبي [عبيدة] (5) وابن قتيبة (6) ؛ كقول الشاعر:
.......................... ... ... نضربُ بالسيفِ ونرجو بالفَرَج (7)
وأصلية، في قول الفراء والزجاج (8) .
وقول الضحاك أشبه لقوله: { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } .
__________
(1) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:125) وفيه: "وصارت" بدل: "وعادت"، والقرطبي (18/227)، والماوردي (6/62).
(2) ... ذكره الماوردي (6/62).
(3) ... أخرجه الطبري (29/20). وذكره الماوردي (6/62).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... في الأصل: عبيد. والتصويب من ب. وانظر: مجاز القرآن (2/264).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:477).
(7) ... عجز بيت للنابغة الجعدي، وصدره: (نحن بنو جَعْدَةَ أربابُ الفَلَجْ).
... انظر: الطبري (29/20)، وزاد المسير (5/421، 8/329)، والخزانة (4/59)، وغريب القرآن لابن قتيبة (ص:292)، والماوردي (4/16).
(8) ... انظر: معاني الفراء (3/173)، والزجاج (5/205).(1/280)
فإن قلنا: الباء زائدة، فيكون التقدير: أيكم المجنون، سُمي بذلك؛ لأنه مُجِنَ بالجنون، أو لكونه من تخييل الجن، وهم الفُتَّان.
وإن قلنا: الباء أصلية، كان "المفتون" مصدراً، [كمَعْقُود] (1) ومَعْقُول. قال الراعي:
حتى إذا لم يَتْرُكُوا لعِظَامِهِ ... ... لَحْماً ولا لفُؤادِه معْقُولا (2)
أي: عقلاً، فيكون التقدير: بأيكم الفُتُون، أي: الجنون.
وقيل: الباء بمعنى "في"، تقديره: في أيكم، أي: في [أي] (3) الفريقين المجنون، في [فريقك] (4) أو في فريقهم. ومن يستحق هذا الاسم أنتم أم هم؟.
وتعضده قراءة أُبيّ بن كعب وأبي عمران الجوني وابن أبي عبلة: "في أيكم المفتون" (5) .
ںxsù تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
__________
(1) ... في الأصل: كالمعقود. والتصويب من ب.
(2) البيت: للراعي. وهو في: الطبري (12/165)، والقرطبي (18/229)، وزاد المسير (4/192)، ومعاني الفراء (2/38).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: فريقكم. والمثبت من ب.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/330)، والدر المصون (6/351).(1/281)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ اتدب
قوله تعالى: { ودوا } أي: أحبّ رؤساء قريش { لو تدهن } تَلين وتُصانع.
قال أبو الحسن الأصبهاني: أي: أن لو تُدهن، فأضمر أنْ، و"لو" زائدة (1) .
وقال الزمخشري (2) : فإن قلت: لم رفع { فيدهنون } ولم ينصب بإضمار "أن" وهو جواب التمني؟
قلتُ: قد عدل به إلى طريق آخر: وهو أن جُعل خبرَ مبتدأ محذوف، أي:
__________
(1) ... في ب: زيادة.
(2) ... الكشاف (4/591).(1/282)
فهم يُدهنون، كقوله: { فمن يؤمن بربه فلا يخاف } [الجن:13]، على معنى: ودُّوا لو [تُدهن] (1) فهم [يدهنون حينئذ. أو ودّوا إدهانك فهم الآن] (2) يُدهنون؛ [لطمَعهم في إدهانك] (3) .
قال سيبويه (4) : وزعم هارون (5) أنها في بعض المصاحف: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا".
قوله تعالى: { ولا تطع كل حلاف } أي: كثير الحلف بالباطل { مَهِين } من المهانة، وهي القلّة والحقارة في الرأي [والتمييز] (6) .
قال ابن عباس ومقاتل (7) : يريد: الوليد بن المغيرة، عَرَضَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - المال ليرجع عن دينه.
وقال عطاء: الأخنس بن شريق (8) .
وقال مجاهد: الأسود بن عبد يغوث (9) .
__________
(1) ... في الأصل: دهن. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: لطعهم في الدهانك. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... الكتاب (3/36).
(5) ... هارون بن موسى الأزدي العتكي النحوي البصري، صاحب القراءات. روى عن أبي
... عمرو بن العلاء، وابن إسحاق، وعبد الله بن أبي إسحاق، والخليل بن أحمد، وعدة. وعنه: شعبة، ووكيع، وبهز بن أسد، وغيرهم (تهذيب التهذيب 11/14).
(6) ... في الأصل: والتميز. والتصويب من الكشاف (4/591).
(7) ... تفسير مقاتل (3/387). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/331).
(8) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/335)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/331).
(9) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3364). وذكره السيوطي في الدر (8/248) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/283)
{ همَّاز } عَيَّاب طَعَّان (1) .
قال الحسن: يَلوي شدقيه في أقفية الناس (2) .
{ مَشَّاءٍ بنميم } يقال للكلام السيء المفسد بين الناس، وهو النمَّام والقتّات (3) .
وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يدخل الجنة قتّاتٌ" (4) .
{ مناع للخير } قال ابن عباس: مَنَعَ ولدَه وعشيرته الإسلامَ (5) .
وقيل: "مناع للخير": بخيل بالمال.
{ معتد أثيم } ظلوم فاجر، كثير الآثام.
{ عُتُلٍّ } غليظٍ جافٍ، من قولهم: عَتَلَهُ؛ إذا قاده بعُنفٍ وغلْظةٍ (6) .
قال أبو عبيدة: هو الأَكُول الشَّرُوب القوي الشديد (7) .
وقال الفراء (8) : الشديد الخصومة بالباطل.
__________
(1) ... قوله: "طعان" سقط من ب.
(2) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/591).
(3) ... القتّات: هو الذي يتسمّع أحاديث الناس من حيث لا يعلمون فينمّ عليهم (اللسان، مادة: قتت).
(4) ... أخرجه البخاري (5/2250 ح5709)، ومسلم (1/101 ح105).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/332).
(6) ... انظر: اللسان (مادة، عتل).
(7) ... أخرجه الطبري (29/24) عن عبيد بن عمير. وانظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/264) ولفظه: العُتُلّ: الفظّ الكافر في هذا الموضع، وهو الشديد في كل شيء.
(8) ... معاني الفراء (3/173).(1/284)
قال ابن عباس: العاتل: الشديد المنافق (1) .
وقال عكرمة: الشديد في كفره (2) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن معبد بن خالد (3) قال: سمعت حارثة بن وهب
الخزاعي (4) قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف [متضعّف] (5) لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتلٍ جَوّاظٍ مستكبر" (6) .
{ بعد ذلك } أي: بعدما [عدَّ] (7) له من المثالِب والنقائص، { زنيم } .
قال ابن عباس في رواية عطاء: أي: دَعِيٍّ في قريش ليس منهم (8) . وهذا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/23).
(2) ... ذكره الماوردي (6/64)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/332).
(3) ... معبد بن خالد بن مرير بن حارثة بن ناضرة بن عمرو بن سعيد بن علي بن رهم بن رباح بن يشكر بن عدوان الجدلي القيسي العابد الكوفي، ثقة صدوق، كان عابداً صابراً على التهجد، يصلي الغداة والعشاء بوضوء واحد، مات سنة ثمان عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 10/199، والتقريب ص:539).
(4) ... حارثة بن وهب الخزاعي، أخو عبيد الله بن عمر لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه (تهذيب التهذيب 2/146، والتقريب ص:149).
(5) ... في الأصل: مستضعف. والمثبت من ب، والصحيحين.
(6) ... أخرجه البخاري (4/1870 ح4634)، ومسلم (4/2190 ح2853).
... والجَوَّاظ: المتكبر الجافي (اللسان، مادة: جوظ).
(7) ... في الأصل: أعد. والمثبت من ب.
(8) ... أخرجه الطبري (29/25). وذكره الواحدي في الوسيط (4/335)، والسيوطي في الدر (8/246) وعزاه لعبد بن حميد وابن عساكر.(1/285)
قول أكثر المفسرين واللغويين، وأنشدوا:
زَنيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَال زيادةً ... ... كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارع (1)
وقال آخر:
زَنيمٌ ليسَ يُعرفُ مَنْ أبوهُ ... ... بَغِيُّ الأمِّ ذا حَسَبٍ لَئيم (2)
وقال حسان:
وأنتَ زنيمٌ نِيطَ في آل هاشم ... كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ (3)
قال ابن قتيبة (4) : لا نعلم أن الله وصف أحداً ولا بلغ من ذكر عُيوبه ما بلغه من ذكر الوليد بن المغيرة؛ [لأنه] (5) وُصِفَ بالحلف والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة. فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
__________
(1) ... البيت لحسان بن ثابت. انظر: ديوانه (ص:216)، واللسان (مادة: زنم)، والقرطبي (1/25، 18/234)، والماوردي (6/65)، والبحر (8/300)، والدر المصون (6/352)، وروح المعاني (29/27).
(2) ... انظر البيت في: المستطرف (1/75، 191)، والقرطبي (1/25، 18/234)، والطبري (29/25)، والدر المنثور (8/247)، وروح المعاني (29/27).
(3) ... البيت لحسان بن ثابت. انظر: ديوانه (ص:100)، واللسان (مادة: زنم)، والقرطبي (18/234)، والطبري (29/25)، والبحر (8/300)، والدر المصون (6/352)، وزاد المسير (8/333)، والكشاف (4/592).
(4) ... تأويل مشكل القرآن (ص:159).
(5) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب، وتأويل مشكل القرآن، الموضع السابق.(1/286)
قال مرة الهمداني: إنما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة (1) .
وقال ابن عباس في رواية عكرمة: بَغَتْ أمه فلم يُعرف، حتى قيل: زنيم، فعُرف، فكانت له زَنَمة في عنقه يُعرف بها (2) .
وقال في رواية سعيد بن جبير: يُعرف بالشر، كما تُعرفُ الشاةُ بزَنَمَتِها (3) .
يريد ابن عباس -والله أعلم-: أن هذا الذي رماه به قد صار طوقاً في عنقه كزَنَمة الشاة، وهي الهَنَةُ من جلد الماعزة، تُقطع فتخلّى معلّقة في حلقها.
وقال عكرمة: الزنيم: الذي يُعرف بِلُؤْمه، كما تُعرف الشاة بزَنَمَتِها (4) . وهو غير مناقض لما قبله.
وقال الضحاك: كانت للوليد زَنَمَة أسفل من أذنه، كزَنَمة الشاة، وفيه نزلت هذه الآية (5) .
وفي هذا التفسير نظر؛ لأن الله إنما عابه بأوصاف معنوية.
__________
(1) ... ذكره القرطبي (18/235)، والبغوي (4/378).
(2) ... أخرجه الطبري (29/26). وذكره السيوطي في الدر (8/249) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الطبري (29/25)، والحاكم (2/541 ح3843). وذكره السيوطي في الدر (8/249) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والخرائطي في مساوئ الأخلاق والحاكم وصححه.
(4) ... ذكره القرطبي (18/234).
(5) ... ذكره الماوردي (6/65).(1/287)
ويروى عن ابن عباس أن الزنيم: الظلوم (1) .
قوله تعالى: { أن كان } قرأ حمزة وأبو بكر: "أَأَن" بهمزتين محقَّقتين مفتوحتين. وفَصَلَ بينهما بألف: هبة الله عن الداجوني. وقرأ ابن عامر إلا هبة الله عن الداجوني، وأبو جعفر وزيد ورويس عن يعقوب: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. وفَصَلَ بينهما بألف: أبو جعفر، والحلواني عن هشام، وزيد عن يعقوب، الباقون: بهمزة واحدة، على الخبر (2) . ومن استفهم فعلى معنى التوبيخ.
فإن قيل: بما يتعلق قوله: { أن كان } ؟
قلتُ: بمحذوف، تقديره: لأن أو ألأن، على قراءة من استفهم. { كان ذا مال وبنين } يكفر ويجحد.
ويجوز أن يتعلق بقوله: "ولا تطع" على معنى: لا تُطعه مع هذه المثالب لأن كان، والتقدير في الاستفهام: أتطيعُه (3) لأن كان.
فإن قيل: ما منعك أن تجعل "أن كان" متعلقاً بـ"عُتُلّ"، على معنى: عُتُلّ لأن كان ذا مال وبنين؟
قلتُ: وصْفه بـ"زنيم" لا يجوز عندهم: هذا ضارب ظريف زيداً.
فإن قيل: فهلا عُلّق بقوله: { قال أساطير الأولين } ؟
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/26). وذكره السيوطي في الدر (8/249) وعزاه لابن جرير.
(2) ... الحجة للفارسي (4/56)، والحجة لابن زنجلة (ص:717-718)، والكشف (2/331)، والنشر (1/367)، والإتحاف (ص:421)، والسبعة (ص:646-647).
(3) ... في ب: أنطيعه.(1/288)
قلتُ: لأنه جواب الشرط، وجواب الشرط لا يعمل فيما قبل الشرط؛ لأن حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم جواب الشرط: أن يكون بعده، والشيء إذا كان في رتبته وموضعه لم ينوبه غير موضعه.
ثم إن الله توعد هذا المخذول الموصوف بهذه الأوصاف التسعة من الذم فقال: { سنسمه على الخرطوم } قال المبرد: "الخُرْطُوم" من الناس: الأنف، ومن البهائم: الشَّفَة (1) . وكذلك قال الفراء وأبو عبيدة (2) وأبو زيد وغيرهم: الخرطوم: الأنف، والسِّمَةُ: العلامةُ.
والمعنى: سنجعل له يوم القيامة في وجهه علامة مشوّهة يتبين بها عن سائر الكَفَرَة.
قال الكلبي: يُضرب في النار على أنفه يوم القيامة (3) .
وقال الفراء (4) : الخرطوم وإن كان قد خُصَّ بالسِّمَة، فإنه في مذهبٍ الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدّي عن البعض.
قال الزجاج (5) : سنجعل له في الآخرة العَلَم الذي يُعرف [به] (6) أهل النار، من اسوداد وجوههم.
__________
(1) ... انظر قول المبرد في: الماوردي (6/66).
(2) ... معاني الفراء (3/174). ولم أقف عليه في مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(3) ... ذكره الماوردي (6/66).
(4) ... معاني الفراء (3/174).
(5) ... معاني الزجاج (5/207).
(6) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/289)
وما أحسن قول قتادة: سنُلحق به شيئاً لا يُفارقه (1) .
قال ابن قتيبة في تفسير هذا المعنى (2) : العرب تقول: قد وَسَمَهُ ميْسَم سوء، يريدون: ألْصَقَ به عاراً لا يُفارقه؛ لأن السِّمَة لا تَنمحي ولا يذهب أثَرُها.
وقد ألحقه الله تعالى بما ذكَرَ من عيوبه عاراً لا يفارقه، كالوَسْم على الخرطوم، وأبين ما يكون الوَسْم: على الوجه. وأنشد قول جرير:
لما وضعتُ على الفرزدق مَيْسَمِي ... وعلى البعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخطل (3)
أراد: بالهجاء.
وقال بعض أهل المعاني (4) : الوجهُ أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه، ولذلك جعلوه مكان العزّ والحميّة، وقالوا: أحمى من أنف الأسد، واشتقوا منه الأَنَفَة، وقالوا: شامخ العِرْنِين. وقالوا في الذليل: جُدع أنفه، ورَغَم أنفه، فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة.
ويُروى عن ابن عباس: سنخطمه بالسيف، فيكون علامة باقية على أنفه
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/336)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/334).
(2) ... تأويل مشكل القرآن (ص:156).
(3) ... البيت لجرير. انظر: ديوانه (ص:335)، والأغاني (14/338)، والمثل السائر (2/379)، والقرطبي (18/237)، والبحر (8/300)، والدر المصون (6/354)، وروح المعاني (29/29).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/593).(1/290)
ما عاش، فقاتل يوم بدر فخُطِم بالسيف (1) .
ومن الأقوال التي تحكى للقدْح فيها لا للأخذ بها، قول النضر بن شميل: المعنى: سنحُدّه على شُرب الخمر. والخُرْطوم: الخَمْر، والجمع: خراطيم (2) . قال الشاعر:
تَظَلُّ يومكَ في لَهْوٍ وفي لَعبٍ ... وأنتَ [بالليل] (3) شَرَّابُ الخراطيم (4)
وهذا تعسّف في التأويل؛ لأن الله ذمّه بأوصاف أيسرها مُوبق. ثم ختم ذلك بقوله: { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أفَتُراه [يعدل] (5) عن التهديد والوعيد على هذه العظائم الموبقة إلى الوعيد على شربه الخمر، وهو كافر مكذّب؟ وكيف يكون ذلك وشُرب الخمر لم يكن حين نزول هذه الآية محرّماً بإجماع أهل العلم؛ لأن تحريمه كان بالمدينة، وهذه السورة مكية؟
$¯Rخ) بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/28). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/334)، والسيوطي في الدر (8/249-250) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... ذكره القرطبي (18/238).
(3) ... في الأصل: في الليل. والمثبت من ب، ومصادر البيت.
(4) ... البيت للأعرج. وهو في: القرطبي (18/238)، والبحر (8/300)، والدر المصون (6/354)، وروح المعاني (29/29).
(5) ... في الأصل: يقول. والتصويب من ب.(1/291)
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا ×#ح !$sغ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ tbqمKح !$tR (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ tbqçGxےy‚tGtƒ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ(1/292)
مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اججب
قوله تعالى: { إنا بلوناهم } يعني: أهل مكة بالقحط والجوع حين دعا(1/293)
عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم سلّط عليهم سنين كسنيّ يوسف" (1) .
{ كما بلونا أصحاب الجنة } حين هلكت جنتهم.
وكان من حديثهم على ما نقله أهل العلم بالتفسير والسير (2) : أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمناً، وذلك بعد عيسى بن مريم عليه السلام.
واختلفوا فيما كان يصنع؛ فقال قتادة: كان يُمسك منه قدر كفايته وكفاية أهله، ويتصدق بالباقي (3) .
وقال غيره: كان يترك للمساكين ما تعدّاه المِنْجَل (4) وما يَسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدِّياس، وكان يجتمع من هذا شيء كثير (5) .
قال قتادة: وكان له بنون، فكانوا يلومونه ويقولون: [لئن] (6) ولينا لنفعلنّ ولنفعلن، فلما مات ورثوه وقالوا: نحن أحق من الفقراء والمساكين؛ لكثرة عيالنا، فحلفوا { ليصرمنها مصبحين } أي: ليَقْطَعَنّ ثمر نخيلهم في أول الصباح قبل انتشار المساكين (7) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/341 ح961) مطولاً.
(2) ... انظر: الماوردي (6/67)، وزاد المسير (8/335).
(3) ... أخرجه الطبري (29/29). وذكره الماوردي (6/67)، والسيوطي في الدر (8/250).
(4) ... المِنْجَل: ما يُحصَدُ به. أو: هو الذي يقضَبُ به العود من الشجر فيُنْجَل به، أي: يُرمَى (اللسان، مادة: نجل).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/335).
(6) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(7) ... ذكره الماوردي (6/67)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/335).(1/294)
{ ولا يستثنون } قال عكرمة: لا يستثنون حق المساكين (1) .
وقال جمهور المفسرين واللغويين: لا يقولون: إن شاء الله (2) .
وسُمي استثناء؛ لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء، من حيث إن قولك: لأخرجن إن شاء الله، في معنى: لا أخرج إلا أن يشاء الله.
{ فطاف عليها طائف } قال الفراء (3) : الطائف لا يكون إلا بالليل.
قال قتادة: طرقها طارق من أمر الله (4) .
قال ابن عباس: أحاطت بها النار فاحترقت (5) .
قال مقاتل (6) : بعث الله عليها ناراً بالليل فأحرقتها حتى صارت سوداء، فذلك قوله: { فأصبحت كالصريم } أي: كالليل المظلم. وأنشد الفراء وغيره:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ الجَوْنُ البَهِيمُ ... ... فما يَنْجَابُ عن صُبْحٍ صَرِيم (7)
وقال ابن عباس: أصبحت كالرّماد الأسود (8) .
وقال الحسن: صُرِمَ عنها الخير فليس فيها شيء (9) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/67)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/336).
(2) ... ذكره الطبري (29/29)، والماوردي (6/67)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/335).
(3) ... معاني الفراء (3/175).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/337).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/336).
(6) ... تفسير مقاتل (3/388).
(7) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: صرم)، والطبري (29/31)، والقرطبي (18/241)، والماوردي (6/68)، ومجاز القرآن (2/266).
(8) ... ذكره الماوردي (6/67)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/336).
(9) ... ذكره القرطبي (18/242)، والبغوي (4/379).(1/295)
وقال غيره: أصبحت كالمصروم لهلاك ثمرها.
وقال ابن كيسان: كالحرة السوداء.
وقال المؤرج: كالرَّملة انصرمت من مُعظم الرمل (1) .
وأصل الصَّريم: المَصْرُوم، وكُلُّ شيء قُطِعَ من شيء: فهو صريم، فالليل صريم، والصبح صريم؛ لأن كلَّ واحد منهما يَنْصَرِمُ عن صاحبه.
قوله تعالى: { فتنادوا مصبحين } أي: دعا بعضُهم بعضاً عند الصباح.
{ أن اغدوا على حرثكم } أي: [إلى] (2) حرثكم.
وقيل: لما كان [الغدوُّ] (3) إليه ليَصرموه ويَقطعوه كان [غُدُوّاً] (4) عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يُضَمَّن [الغدو] (5) معنى الإقبال.
ومعنى: { يتخافتون } يتسارَرُون فيما بينهم.
ثم فسّر ما تسارَرُوا به فقال: { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } .
{ وغدوا على حرد قادرين } الحَرْدُ في اللغة يكون بمعنى: القصد. وهو
__________
(1) ... ذكره القرطبي (18/242).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل: العدو. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: توعد. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: العدو. والتصويب من ب.(1/296)
قول قتادة والحسن ومجاهد وابن السائب ومقاتل (1) .
أي: [غدوا] (2) على جِدٍّ من أمرهم؛ لأن القاصد إلى الشيء جادّ، يقال: حَرَدْتُ حَرْدَك، أي: قصدتُ قصدكَ، وأنشدوا:
أقْبَلَ سَيلٌ جاءَ من أمرِ الله ... ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجنةِ المُغِلَّه (3)
وهذا قول جمهور المفسرين.
فالمعنى: وغدوا على قصدٍ إلى جنتهم، أو على قصد منع المساكين.
ويكون الحرد بمعنى: الغضب. قاله الشعبي وسفيان (4) .
وأنشد أبو عبيدة (5) :
أُسوُد شَرىً لاقتْ [أسُودَ] (6) خَفِيَّةٍ ... ... تَسَاقَوْا على حَرْدِ دِماءَ الأسَاوِد (7)
__________
(1) ... ذكره مقاتل في تفسيره (3/388)، والماوردي (6/68)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/336).
(2) ... في الأصل: عدوا. والتصويب من ب.
(3) ... انظر البيت في: زيادات ديوان حسان (ص:522)، واللسان (مادة: حرد، غلل، أله)، والطبري (29/33)، والقرطبي (5/16، 18/242)، والماوردي (6/68)، وزاد المسير (8/337)، وروح المعاني (29/31)، والبحر (8/301).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/337).
(5) ... مجاز القرآن (2/266).
(6) ... في الأصل و ب: أسوداً. والتصويب من مصادر البيت.
(7) ... البيت للأشهب بن رميلة. وهو في: اللسان (مادة: حرد)، وتاج العروس (مادة: حرد)، وأمالي القالي (1/8)، والمخصص (11/18)، والبحر (8/301)، والدر المصون (6/356)، والطبري (29/33)، وزاد المسير (8/337).(1/297)
ويؤيد هذا قراءة من قرأ: "حَرَد" بفتح الراء.
المعنى: وغدوا على حَنَق وحِقْد على المساكين؛ لما كان أبوهم يمنحهم من الجنة.
ويكون الحَرْد بمعنى: المنع، تقول العرب: حارَدَت السنة، إذا منعت مطرها، والسَّنة حاردة، وحارَدَت الناقة؛ إذا لم يكن لها لبن (1) .
فالمعنى: وغدوا مجمعين على منع المساكين.
وقال السدي: الحَرْد: اسم الجنة (2) .
قال قتادة وجمهور المفسرين: قادرين على جنتهم عند أنفسهم (3) .
وقال الشعبي: قادرين على المساكين (4) .
وقال ابن قتيبة (5) : المعنى: مَنَعوا وهم قادرون واجدون.
وقيل: مقدّرين أن يتم لهم مُرادهم من الصِّرام والحرمان.
والنصب في "قادرين" على الحال، وقوله: "على حرد" في موضع
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: حرد).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/336).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:689)، والطبري (29/32). وذكره الماوردي (6/69)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/338)، والسيوطي في الدر (8/252) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(4) ... ذكره الماوردي (6/69)، والواحدي في الوسيط (4/338)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/338).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:480).(1/298)
الحال أيضاً (1) ، على معنى: وغدوا حاردين.
{ فلما رأوها } شاهدوها فوجدوها على غير ما عهدوها { قالوا } لفرط ما بين المُنْظَرَيْن من التنافر { إنا لضالون } أي: ضللنا عن طريق جنّتنا، وما هي بها.
فلما تفكّروا وعرفوا ما أنكروا أضربوا عن ذلك بقولهم: { بل نحن محرومون } ، حُرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا بمنع المساكين.
{ قال أوسطهم } أعدلهم وخيرهم { ألم أقل لكم لولا تسبحون } .
قال عامة المفسرين (2) : أي: هلاّ تستثنون عند قولكم: "ليصرمنها مصبحين". أي: هلاّ استثنيتم فقلتم: إن شاء الله.
قال الزجاج (3) : وإنما قيل للاستثناء تسبيح؛ لأن التسبيح في اللغة: تنزيه لله عز وجل من السوء، والاستثناء تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقْدر أحدٌ أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله.
وقال أبو صالح: كان استثناؤهم ذلك الزمان قول: سبحان الله (4) .
وقيل: المعنى: لولا تسبحون الله بالذكر والتوبة والاستغفار من خُبث نيتكم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/267)، والدر المصون (6/356).
(2) ... ذكره الطبري (29/35)، والماوردي (6/69)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/338)، والسيوطي في الدر المنثور (8/253).
(3) ... معاني الزجاج (5/209).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3366) عن السدي. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/338)، والسيوطي في الدر (8/253) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.(1/299)
كأنه والله أعلم كان نهاهم وخوّفهم عاقبة أمرهم حين أصرُّوا على منع المساكين، يدل عليه قوله: { قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين } فاعترفوا بذنبهم وظلمهم في منع الفقراء، وترك الاستثناء.
{ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً؛ لأن منهم من زَيَّنَ، ومنهم من قَبِلَ، ومنهم من رَضِيَ، ومنهم من عَذَر.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل فقالوا: { يا ويلنا إنا كنا طاغين } حيث لم نصنع في جَنَّتِنا ما كان أبونا يصنع فيها.
ثم رجعوا إلى الله راجين فضله وإحسانه فقالوا: { عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون } طالبون منه الخير.
قال ابن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وَعَرَفَ الله منهم الصدق، فأبدلهم الله بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنبٌ يحمل البغل منها عنقوداً واحداً (1) .
قال بكر بن سهيل: حدثني أبو خالد اليمامي: أنه رأى تلك الجنة فقال: رأيتُ كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم (2) .
قوله تعالى: { كذلك العذاب } أي: مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا، { ولعذاب الآخرة أكبر } [أشد] (3) وأعظم { لو كانوا } يعني: المشركين { يعلمون } .
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (18/245)، والبغوي (4/381).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: وأشد. والتصويب من ب.(1/300)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ احتب(1/301)
قال المفسرون: لما أنزل الله: { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } قال المشركون: إنا نُعطى في الآخرة أفضل مما يعطون، فأكذبهم الله تعالى بقوله: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } هذا الحكم الجائر، كأنّ أمر الجزاء في الآخرة مفوّض إليكم.
{ أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون } ولولا اللام في خبر "إنَّ" لكانت همزة "إنَّ" مفتوحةً بـ"تدرسون". ويجوز أن يكون حكاية للمدروس.
{ أم لكم أيمان } تقول العرب: لفلان عليّ يمين بكذا؛ إذا ضمنتَه منه، وحلفتَ له على الوفاء به.
والمعنى: أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيْمَان { بالغة } أي: مغلّظة.
وقوله تعالى: { إلى يوم القيامة } متعلق بالمقدّر في الظرف، تقديره: هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة. ويجوز أن يتعلق بـ"بالغة" (1) .
وقيل: "إلى" صلة.
وقرأ الحسن: "بالغةً" بالنصب على الحال من الضمير في الظرف (2) .
{ إن لكم لما تحكمون } : مثل التي قبلها.
ولا تتوهّمَنَّ بسبب كسرها أن الوقف على ما قبلها في الموضعين، بل هو مفعولٌ لا يجوز الوقف دونه، ومثاله قولك: علمت أن في الدار لزيداً.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/357).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:421).(1/302)
والأظهر في الموضع الثاني [أنه] (1) جواب القسم؛ لأن معنى: "أم لكم أيمان علينا": أم أقسمنا لكم.
قوله تعالى: { سَلْهُم } (2) أي: سَلْ يا محمد هؤلاء القائلين الحاكمين لأنفسهم بأنهم يُعْطَوْن في الآخرة أفضل منكم، { أيهم بذلك } الحكم { زعيم } كفيل به، أو قائم بصحة الاحتجاج على صحته.
{ أم لهم شركاء } ناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه، ويذهبون إلى مذهبهم فيه.
وقيل: المراد: الأصنام التي جعلوها شركاء لله.
{ فليأتوا بشركائهم } يشهدون بصحة قولهم { إن كانوا صادقين } في دعواهم.
tPِqtƒ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى
__________
(1) ... في الأصل: أن. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل زيادة قوله: "أيهم". وستأتي بعد.(1/303)
السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ احذب
قوله تعالى: { يوم يكشف عن ساق } العامل في الظرف قوله: { فليأتوا } .
قال عكرمة: سُئل ابن عباس عن قوله: { يوم يكشف عن ساق } فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:(1/304)
........................... ... وَقَامَتِ الحربُ بنا على سَاق (1)
هو يوم [كرب] (2) وشدة (3) .
وهذا قول كثير من المفسرين واللغويين (4) .
[وقال] (5) مجاهد عن ابن عباس: هي أشد ساعة في القيامة (6) .
وقال عكرمة: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحربُ عن ساق. أخبرهم الله تعالى بشدة ذلك اليوم (7) .
قال ابن قتيبة (8) : أصل هذا: أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه، قيل: شَمَّر عن ساقه، فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة.
__________
(1) ... عجز بيت، وصدره: (صبراً أمام إنّ شَرَّ باق)، وهو في: البحر (8/310)، والدر المصون (6/358).
(2) ... في الأصل: حرب. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الحاكم (2/542 ح3845)، وابن أبي حاتم (10/3366). وذكره السيوطي في الدر (8/254) وعزاه لابن عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ... وسيذكر المؤلف فيما يأتي أن المراد بالساق ساقه جل ذكره.
(5) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (29/39). وذكره السيوطي في الدر (8/255) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن منده.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/339)، والسيوطي في الدر (8/255) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات.
(8) ... تأويل مشكل القرآن (ص:137).(1/305)
فتأويل الآية: يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يُكشف عن ساق.
فصل
اعلم أنني سلكت في تفسير هذا الحرف سبيلَ كثير من [علماء السنة] (1) ، وسوّغ ذلك: أن ابن عباس والحسن في جماعة من التابعين فَسَّرُوه بهذا التفسير، ونقله الإمام أحمد ورواه.
قال الزجاج في معانيه (2) : أخبرنا عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا أبي، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال ابن عباس في قوله: { يوم يكشف عن ساق } : الأمر الشديد (3) .
وقاعدة مذهب إمامنا في هذا الباب: اتباع السلف الصالح، فما تأولوه تأولناه، وما سكتوا عنه سكتنا عنه، مفوّضين علمه إلى قائله، منزّهين الله عما [لا] (4) يليق بجلاله.
وذهب جماعة من علماء السنة إلى إلحاق هذا بنظائره من آيات الصفات وأخبار الصفات.
__________
(1) ... في الأصل: العلماء بالسنة. والمثبت من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/210).
(3) ... أخرجه الطبري (29/38)، وابن أبي حاتم (10/3366). وذكره السيوطي في الدر (8/254) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن كثير في تفسيره:4/408.
(4) ... زيادة من ب.(1/306)
ورووا عن عبدالله بن مسعود في قوله: { يوم يكشف عن ساق } قال: عن ساقه جَلَّ ذكره (1) .
[ويؤيد] (2) هذا ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا [أبو الوقت] (3) ، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا [الليث] (4) ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله (5) - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسُمْعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً" (6) . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري هكذا. وهو حديث طويل أخرجه مسلم بطوله.
وقال مقاتل بن سليمان (7) : قال عبدالله بن مسعود في هذه الآية: { يوم يكشف عن ساق } وقال: عن ساقه اليمين فتضيء من نور ساقه الأرض، فذلك قوله: { وأشرقت الأرض بنور ربها } [الزمر:69].
وهذا إن ثبت عن ابن مسعود من طريق يُوثق به غير طريق مقاتل
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/39) مطولاً. وذكره السيوطي في الدر (8/254).
(2) ... في الأصل: ويد. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: أبو قت. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة لفظة: "أبو"، وهو خطأ.
(5) ... في ب: النبي.
(6) ... أخرجه البخاري (4/1871 ح4635)، ومسلم (1/167-168 ح183).
(7) ... تفسير مقاتل (3/390).(1/307)
فمقبول، وإلا فمقاتل لا يثبت [حديثه عند] (1) أهل العلم بالحديث.
[وقد] (2) أشرنا إلى مذهب أهل السنة في هذه الآية تأويلاً وسكوتاً.
ومذهب الوَرِعين عن الخوض في تأويلها أسلمُ المذهبَيْن، وأشبه بأصول صاحب المذهب، الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنه، ورزقنا الاهتداء بأنواره، والاقتداء بآثاره.
قوله تعالى: { ويدعون إلى السجود } قال أهل التفسير: يسجد الخلق كلهم سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا { فلا يستطيعون } كأن في ظهورهم [سَفَافِيدُ] (3) الحديد.
قال النقاش: ليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم [بتركهم] (4) السجود (5) ، -يعني: في الدنيا-.
{ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } أي: ذليلة أبصارهم، تعلوهم كآبة إذا عاينوا العذاب، { وقد كانوا يدعون إلى السجود } يعني: بالأذان في دار الدنيا { وهم سالمون } [أصحاء] (6) في أصلابهم، التي هي اليوم كأنّ فيها السفافيد.
__________
(1) ... في الأصل: حدثه. والتصويب والزيادة من ب.
(2) ... في الأصل: وهذا قد. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: سافيد. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: تركهم. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/341-342).
(6) ... زيادة من ب.(1/308)
قال سعيد بن جبير: يسمعون "حي على الفلاح" فلا يجيبون (1) . وهذا تهديدٌ شديدٌ للمتخلّفين عن الصلوات في الجماعات.
قوله تعالى: { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } أي: خَلِّ بيني وبين من يكذب بهذا القرآن.
وما بعده إلى قوله: { أم تسألهم أجراً } مُفسّر في أواخر الأعراف (2) .
وقوله: { أم تسألهم } إلى آخر الآيتين مُفسّر في الطور (3) .
÷ژة9ô¹$$sù لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
__________
(1) ... أخرج نحوه الطبري (29/43) ولفظه: يسمع المنادي إلى الصلاة المكتوبة فلا يجيبه. وذكره الواحدي في الوسيط (4/341).
(2) ... عند الآية رقم: 39-40.
(3) ... عند الآية رقم: 182-183.(1/309)
الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ اخثب
قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك } هذ أمرٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - [بالصبر] (1) على ما حكم به سبحانه وتعالى من تأخير العذاب عنهم.
{ ولا تكن كصاحب الحوت } وهو [يونس] (2) عليه السلام { إذ نادى } في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، { وهو مكظوم } مملوءٌ غَمًّا وكرباً.
والمعنى: لا يُوجد منك ما وُجد منه من الغضب والضجر والعجلة، فتُبتلى ببلائه.
__________
(1) ... في الأصل: باصبر. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: نس. والتصويب من ب.(1/310)
وقيل: المعنى: اذكر إذ نادى.
{ لولا أن تداركه نعمة من ربه } وقرأ ابن مسعود: "تَدَارَكَتْهُ" (1) ؛ لتأنيث النعمة، وحَسُنَ التذكير على قراءة الجمهور [للفصل] (2) .
والمعنى: لولا أن تداركته رحمة من ربه وتوبة.
{ لنبذ بالعراء } أي: لألْقِيَ (3) بالصحراء. وقد سبق تفسيره في
الصافات (4) .
قال الزجاج (5) : المعنى: أنه قد نُبذ بالعراء وهو غير مذموم، ويدل على ذلك: أن النعمة قد شَمِلَتْه.
وقال ابن جريج: "لنبذ بالعراء": وهو أرض المحشر. المعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة (6) .
{ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } قال ابن عباس: ردّ إليه الوحي، وشفَّعه في قومه وفي نفسه (7) .
قوله تعالى: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } "إنْ" هي المخففة من الثقيلة بإضمار الشأن، واللام هي الفارقة بينها
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/343)، والدر المصون (6/359).
(2) ... في الأصل: للفضل. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: في.
(4) ... عند الآية رقم: 145.
(5) ... معاني الزجاج (5/211).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/343).
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/342)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/343).(1/311)
وبين النافية.
وقرأ نافع: "ليَزلقونك" بفتح الياء (1) ، وهما لغتان، يقال: زَلَقَه وأَزْلَقَه عن المكان؛ إذا نحّاه عنه. واللازم منه: زَلِقَ، مثل: سَمِعَ.
قال [ابن] (2) السائب وجماعة من المفسرين: قصد الكفار أن يصيبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النعم فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهبُ إلا قليلاً حتى يسقط منها عِدَّة، فسأله الكفار أن يُصيبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين، فعصمه الله تعالى منه (3) ، وأنزل هذه الآية (4) .
وأبى الزجاج (5) هذا القول [وقال] (6) : التأويل: أنهم من شدة إبغاضهم لك وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء يصرعونك. وهذا مستعملٌ في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/58)، والحجة لابن زنجلة (ص:718)، والكشف (2/332)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:422)، والسبعة (ص:647).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... قال الحافظ ابن كثير (4/410): وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
... وقد روى مسلم في صحيحه (4/1719 ح2188) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العين حق، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَته العين، وإذا اسْتُغْسِلتُم فاغْسِلُوا".
... قلت: وقد أورد الحافظ رحمه الله طائفة كثيرة من الأحاديث التي تثبت تأثير العين والحسد، فراجعها في التفسير (4/410-413).
(4) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:464)، وزاد المسير (8/343).
(5) ... معاني الزجاج (5/212).
(6) ... زيادة من ب.(1/312)
الكلام، يقول القائل: نظر إليّ فلان نظراً يكاد يصرعني به، ونظراً يكاد (1) يأكلني فيه، وتأويله كله: أنه [نظر] (2) نظراً لو أمكنه معه أكلي، أو أن يصرعني؛ لفَعَل.
قال (3) : وهذا بينٌ واضح.
وقال ابن قتيبة (4) : ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يُصيب العاين بعينه ما يُعجبه، وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك -إذا قرأت القرآن- نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء، يكاد يُسقط، كما قال الشاعر:
........................... ... نظراً يُزيل مواطئ الأقدام (5)
ويدل على صحة هذا المعنى: أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: { لما سمعوا الذكر } وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة، فيحُدُّون النظر إليه بالبغضاء، والإصابة بالعين تكون مع الإعجاب والاستحسان (6) ، ولا تكون مع البُغض.
__________
(1) ... في ب: كاد.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أي: الزجاج في معانيه (5/212).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:482).
(5) ... عجز بيت وصدره: (يتقارضون إذا التقوا في موطن). ويروى: "مجلس" بدل: "موطن". وهو في: اللسان (مادة: قرض، زلق)، والقرطبي (18/256)، وزاد المسير (8/344)، والبحر (8/311)، وتاج العروس (مادة: قرض، زلق)، وروح المعاني (29/38)، والحجة للفارسي (4/58)، وتهذيب اللغة (8/342، 432)، ومقاييس اللغة (3/21).
(6) ... في ب: والاستحباب.(1/313)
وعبارات العلماء متقاربة.
المعنى: ليزلقونك، أي: لينفذونك بأبصارهم (1) ، قال: ويقال: زَهَقَ السهم وزَلَق: إذا نفذ.
وقال الكلبي: يَصْرَعُونك (2) .
وروي عنه: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة (3) .
وقال المؤرج: يرمونك (4) .
وقال ابن كيسان: يقتلونك. وروي عن الحسن أيضاً مثله (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/46) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (8/262) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الطبري (29/46). وذكره الماوردي (6/74).
(3) ... ذكره القرطبي (18/256)، والبغوي (4/384).
(4) ... ذكره القرطبي (18/256) ولفظه: يزيلونك.
(5) ... ذكره القرطبي (18/256).(1/314)
وقال قتادة: يُزهقونك (1) .
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس: "ليُزهقونك" (2) ، من زَهَقَت نفسه وأزهقها.
وباقي السورة ظاهر ومُفسّر. والله أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/46).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (29/46)، والبحر (8/311).(1/315)
سورة الحاقة
ijk
وهي كالسورة التي قبلها في العدد (1) وموضع [النزول] (2) .
èp©%!$ptّ:$# (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَاد بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:253).
(2) ... في الأصل: النزويل. والتصويب من ب.(1/316)
سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ اتثب(1/317)
قال الله تعالى: { الحاقة ما الحاقة } قال المفسرون: الحاقة: الساعة (1) .
قال الفراء (2) : سميت بذلك؛ لأن فيها حوّاق الأمور.
وقال الزجاج (3) : لأنها تُحِقُّ كل إنسان بعمله من خير وشر.
وقال غيره (4) : "الحاقة": هي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء.
والرفع على الابتداء، والخبر: "ما الحاقة" (5) .
والمعنى: أي شيء هي الحاقة، على مذهب التفخيم لشأنها، والتعظيم لأمرها، وكذلك قوله: { وما أدراك ما الحاقة } . وهذا لا يختص بالمدح، بل هو [جارٍ] (6) في المدح والذم.
وموضع: "ما الحاقة" في الموضعين: الرفع على الابتداء (7) .
قوله تعالى: { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة (8) .
قال مقاتل (9) : وإنما سميت القارعة؛ لأن [الله] (10) يقرع أعداءه بالعذاب.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/47-48).
(2) ... معاني الفراء (3/179).
(3) ... معاني الزجاج (5/213).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/602).
(5) ... انظر: التبيان (2/267)، والدر المصون (6/361).
(6) ... في الأصل: جائز. والمثبت من ب.
(7) ... انظر: التبيان (2/267)، والدر المصون (6/361).
(8) ... أخرجه الطبري (29/48). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/345).
(9) ... تفسير مقاتل (3/392).
(10) ... زيادة من (ب)، وتفسير مقاتل، الموضع السابق.(1/318)
وقال غيره (1) : لأنها تَقْرَعُ الناسَ بالأفزاع والأهوال، والسماءَ بالانشقاق والانفطار، والأرضَ والجبال بالدكّ والنسف، والنجومَ بالطمس والانكدار. ووُضعت موضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة؛ زيادة في وصف شدتها.
{ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } قال ابن عباس ومجاهد: بطغيانهم وكفرهم (2) . وفاعلة تأتي بمعنى المصادر؛ كالخائنة [والعافية] (3) والعاقبة.
وقال قتادة: بالصيحة الطاغية. وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح (4) .
وقال ابن زيد: الطاغية: عاقر الناقة (5) .
والريح الصرصر مفسرة في سورة حم السجدة (6) ، والعاتية: التي جاوزت المقدار.
وجاء في التفسير: أنها عتت على الخزّان، فخرجت بلا كيل ولا وزن (7) .
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/602).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/343)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/346).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (29/49). وذكره الواحدي في الوسيط (4/344).
(5) ... ذكره الماوردي (6/76)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/346).
(6) ... عند الآية رقم: 16.
(7) ... أخرجه الطبري (29/50) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/346)، والسيوطي في الدر (8/264).(1/319)
{ سخرها عليهم } التسخيرُ: استعمالُ الشيء على وجه الاستعلاء والاقتدار.
والمعنى: سلّطها عليهم.
{ سبع ليال وثمانية أيام حُسُوماً } قال ابن عباس: تباعاً (1) .
قال الفراء (2) : الحُسُوم: التتابع.
وقال الزجاج (3) : الذي تُوجبه اللغة في معنى قوله: "حسوماً"، تحسمهم حسوماً (4) أي: تُفنيهم وتُذهبهم.
فعلى معنى (5) قول الزجاج: هو مصدر؛ كالشكور والكفور، أو هو صفة، أي: ذات حسوم، أو هو مفعول له، تقديره: سخرها عليهم للاستئصال (6) .
وقُرئ شاذاً: "حَسُوماً" بفتح الحاء (7) ، فيكون حالاً من الريح، أي: سخّرها عليهم مستأصلة.
وقال غيره (8) : هو جمع حاسم؛ كشاهد وشهود، وقاعد وقعود.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/50). وذكره السيوطي في الدر (8/265) وعزاه لابن جرير.
(2) ... معاني الفراء (3/180).
(3) ... معاني الزجاج (5/214).
(4) ... قوله: تحسمهم حسوماً، سقط من ب.
(5) ... قوله: معنى، سقط من ب.
(6) ... انظر: الدر المصون (6/362).
(7) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/316)، والكشاف (4/603).
(8) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/603).(1/320)
فالمعنى: أنها نحسات حَسَمَت كلَّ خير، واستأصَلَتْ كلَّ بركة، وهي الأيام التي تُسميها العرب أيام الأعجاز، وأيام العُجُز، وهي آخر الشتاء.
وقيل: أيام العجوز، وذلك أن عجوزاً من عادٍ توارت في سَرَبٍ، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها، وأنشدوا فيها:
كُسِعَ الشِّتَاءُ بسبعةٍ غُبْرِ ... أيامِ شَهْلَتِنَا مِنَ الشَّهْر
فإذا انقضتْ أيامُ شَهْلَتِنَا ... بالصِّنِّ والصِّنَّبْرِ والوَبْر
وبِآمِرٍ وأخِيهِ مُؤْتَمِر ... ومُعَلَّلٍ وبِمُطْفِئٍ الجَمْر
ذهَبَ الشتاءُ مُوَلِّياً هَرَباً ... وأتَتْكَ وَاقِدَةٌ منَ الحرِّ (1)
قال الزمخشري (2) : ويقال: ومكفيء الظعن.
قلتُ: فعلى هذا؛ تكون ثمانية أيام، كما في كتاب الله عز وجل، والأكثرون لم يذكروا هذا الاسم الثامن، فتكون الريح أرسلت عليهم في يوم آخر منضماً إلى [الأيام] (3) السبعة. والله تعالى أعلم.
{ فترى القوم فيها صرعى } أي: هلكى { كأنهم أعجاز نخل خاوية } أي: كأنهم أصول نخل ساقطة.
والنخل يذكّر ويؤنّث، فلهذا قال هاهنا: "خاوية"، وقال في سورة القمر:
__________
(1) ... الأبيات لابن أحمر. انظر: المزهر في علوم اللغة (1/243)، وثمار القلوب (ص:314)، واللسان (مادة: كسأ، أمر، عجز، علل)، والقرطبي (18/260).
(2) ... الكشاف (4/603).
(3) ... في الأصل: أيام. والتصويب من ب.(1/321)
{ نخل منقعر } [20].
{ فهل ترى لهم من باقية } أي: من بقاء؛ كالطاغية بمعنى الطغيان، أو بقية، أو من نفس باقية.
قوله تعالى: { وجاء فرعون ومن قَبْلَهُ } قرأ أبو عمرو والكسائي: "قِبَلَهُ" بكسر القاف وفتح الباء، على معنى: ومن عنده من تبّاعه.
ويؤيده قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب: "ومن معه" (1) . [وقرأ] (2) الباقون: "قَبْلَهُ" بفتح القاف وسكون الباء (3) ، على معنى: ومن تقدمه من كفار الأمم.
{ والمؤتفكات } قرى قوم لوط، { بالخاطئة } : أي: الخطأ العظيم، أو بالفعلة الخاطئة، أي: ذات الخطأ.
{ فعصوا } يعني: أهل المؤتفكات { رسولَ ربهم } لوطاً، { فأخذهم } الله { أخذة رابية } زائدة في الشدة على الأخذات؛ لشدة قبائحهم، وأصله: من الربا، وهو الزيادة -كما سبق-.
{ إنا لما طغى الماء } أي: تَجَاوَزَ الحدُّ في الكثرة { حملناكم } وأنتم في أصلاب آبائكم { في الجارية } في السفينة الجارية.
{ لنجعلها لكم } أي: لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/362)، والكشاف (4/604).
(2) ... في الأصل: قرأ. والمثبت من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (4/59)، والحجة لابن زنجلة (ص:718)، والكشف (2/333)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:422)، والسبعة (ص:648).(1/322)
ونجاة من نجينا مع نوح في السفينة لكم { تذكرة } عظة وعبرة { وتَعِيَهَا } أي: تحفظها { أذنٌ واعية } من شأنها أن تحفظ وتعي ما سمعتْ، ولا تضيعه بترك العمل به.
قال قتادة: أُذُنٌ سمعت وعقلت عن الله (1) .
قال الزجاج والزمخشري (2) : فكلُّ ما حفظته في نفسك فقد وعيته، وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته، كقولك: أوعيتُ الشيء في الظرف.
فإن قلت: لم قال: "أذن واعية"، على التوحيد والتنكير؟
قلتُ: للإيذان بأن الوعاة فيهم قِلَّة، ولتوبيخ الناس بقِلَّة من يَعِي منهم.
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء العكبري اللغوي لابن كثير من رواية نظيف، عن قنبل عنه، [ومن] (3) طريق النهرواني، عن ابن بلال الكوفي، عن ابن فرح، عن البزي عنه: ["وتعْيَها"] (4) بسكون العين للتخفيف (5) ، كما في "أَرِنَا"، وفي قولهم: كبد وعضد.
#sŒخ*sù نُفِخَ فِي الصُّورِ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/55). وذكره السيوطي في الدر (8/268) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(2) ... معاني الزجاج (5/215-216)، والكشاف (4/604).
(3) ... في الأصل: من. والمثبت من ب.
(4) ... في الأصل: تعيها. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: الحجة للفارسي (4/60)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:422)، والسبعة (ص:648).(1/323)
نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى $ygح !%y`ِ'r& وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ اترب
قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } عامة القرّاء قرؤوا: "نفخةٌ واحدةٌ" بالرفع، على ما لم يُسَمَّ فاعله.(1/324)
وقرأ أبو [السَّمَّال] (1) : "نفخةً" بالنصب (2) ، أقام الجار والمجرور مقام ما لم يُسَمَّ فاعله.
وحَسُنَ التذكير في "نفخ"؛ لوقوع الفصل، أو لأن التأنيث في "نفخة" ليس بحقيقي.
قال عطاء: هي النفخة الأولى (3) ؛ لأن عندها خراب هذا العالم.
وقال ابن السائب ومقاتل (4) : هي النفخة الثانية؛ لقوله تعالى: { يومئذ تعرضون } [الحاقة:18] عقيب ذكر النفخة.
ويجاب عن هذا بأن يقال: المراد بقوله: "يومئذ" الحين الواسع الذي يقع فيه [النفختان] (5) والنشور والحساب، كما تقول: رأيته في عام كذا، أو في يوم كذا، وإنما كانت رؤيتك إياه في جزء منه.
{ وحُمِلَتِ } وقرأتُ لابن عامر من رواية الوليد بن عتبة عنه: "وحُمِّلَتِ" بتشديد الميم (6) .
والمعنى: وقُلعت جملة الأرض وجملة الجبال من أماكنها.
{ فدُكَّتا دكةً واحدة } أي: كُسِرَتا كَسْرةً واحدة حتى تندقّ. وقد أشرنا إلى
__________
(1) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/317)، والدر المصون (6/363).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/345)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/348).
(4) ... ذكره مقاتل (3/393)، والواحدي في الوسيط (4/345)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/348).
(5) ... في الأصل: النفخات. والمثبت من ب.
(6) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:422)، والدر المصون (6/363).(1/325)
ذلك في قوله تعالى: { جعله دكاً } [الأعراف:143].
والمراد: أنها تصير أرضاً واحدة مستوية، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
{ فيومئذ وقعت الواقعة } قامت القيامة، { وانشقت السماء } لنزول من فيها من الملائكة { فهي يومئذ واهية } ضعيفة.
قال الفراء (1) : وَهْيُها: تَشَقُّقُها.
وقال مقاتل (2) : واهية من الخوف.
{ والمَلَكُ } اسم جنس، يريد: الملائكة { على أرجائها } على جوانبها ونواحيها.
قال الزجاج (3) : رجا كل شيء: ناحِيَتُهُ، مَقْصُورٌ، والتَّثْنِيَة: رَجَوان، والجمع: أرْجاء.
قال الضحاك: إذ انشقت السماء [كانت] (4) الملائكة على حافاتها، حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون، فيحيطون بالأرض وبمن عليها (5) .
{ ويحمل عرش ربك فوقهم } أي: فوق رؤوس الحَمَلَة، أو فوق الذين على أرجائها، أو فوق أهل القيامة.
{ يومئذ ثمانية } جاء في الحديث: "أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة
__________
(1) ... معاني الفراء (3/181).
(2) ... انظر: تفسير مقاتل (3/393).
(3) ... معاني الزجاج (5/216).
(4) ... في الأصل: فكانت. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/345)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/350).(1/326)
أمدّهم الله [بأربعة] (1) أملاك آخرين" (2) . وهذا قول جمهور المفسرين (3) .
قال العباس بن عبد المطلب: ثمانية أملاك على صورة الأوعال (4) .
وفي الحديث: "ما بين أظلافهم إلى رُكَبِهم ما بين سماء إلى سماء" (5) .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة: ثمانية [صفوف] (6) من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى (7) .
وفي سنن أبي داود من حديث جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أذن الله لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل، من حملة العرش:
__________
(1) ... في الأصل: أربعة. والتصويب من ب.
(2) ... وهو حديث مشهور بحديث الصور، الطويل. أخرجه أبو الشيخ في العظمة (3/821-837 ح386).
(3) ... ذكره الطبري (29/59)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/350)، والسيوطي في الدر (8/270).
(4) ... أخرجه الحاكم (2/410 ح3429، 2/543 ح3848)، وأبو يعلى في مسنده (12/74 ح6712)، والخطيب في تالي التلخيص (2/489-490 ح295). وذكره السيوطي في الدر (8/268) وعزاه لعبد بن حميد وعثمان بن سعيد والدارمي في الرد على الجهمية وأبي يعلى وابن المنذر وابن خزيمة وابن مردويه والحاكم وصححه والخطيب في تالي التلخيص.
(5) ... أخرجه أبو داود (4/231 ح4723).
(6) ... في الأصل: صوف. والتصويب من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (29/58)، وابن أبي حاتم (10/3370) كلاهما عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/350).(1/327)
أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" (1) .
{ يومئذ تعرضون } على الله للحساب { لا تخفى منكم خافية } .
وقرأ حمزة والكسائي: "لا يخفى" بالياء (2) .
والمعنى: لا يخفى منكم نفس خافية، أو فعلة خافية.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرَضَات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمينه وآخذٌ بشماله" (3) .
$¨Br'sù مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (4/232 ح4727).
(2) ... الحجة للفارسي (4/59)، والحجة لابن زنجلة (ص:718)، والكشف (2/333)، والنشر (2/389)، والإتحاف (ص:422)، والسبعة (ص:648).
(3) ... أخرجه أحمد (4/414).(1/328)
(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ اثحب
قوله تعالى: { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } هاء: صوت يُصوَّتُ به، يُفْهَمُ منه: خُذْ.
قال الكسائي: العرب تقول للواحد: هاءَ، وللاثنين: هَاؤُما، وللثلاثة: هَاؤُم (1) .
وقال الزجاج (2) : "هَاؤُم" أمرٌ للجماعة، بمنزلة: هاكُمُ، تقول [للواحد] (3) : هاءَ، وللاثنين: هَاؤُما يا رجلان، وللثلاثة: هَاؤُم يا رجال، وللمرأة: هاءِ يا امرأة -بكسر الهمزة-، وللاثنتين: هاؤُما، وللجماعة: هاؤُنّ.
وقال ابن قتيبة (4) : "هاؤُم": بمعنى: هَاكُم، فأبدلت الواو (5) من الكاف.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/83).
(2) ... معاني الزجاج (5/217).
(3) ... في الأصل: للوحد. والتصويب من ب.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:484).
(5) ... في تفسير غريب القرآن: الهمزة.(1/329)
قال المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته (1) .
{ إني ظننت } أيقنت وعلمت في الدنيا { أني مُلاق حسابيه } يريد: الإخبار بأن سبب نجاته وإعطائه كتابه بيمينه؛ إيمانه في الدنيا بالبعث والحساب.
قرأ يعقوب: "كتابيه" و"حسابيه" في الموضعين، وكذلك: "ماليه وسلطانيه" بحذف الهاء في الوصل في المواضع الستة، وافقه حمزة في: "ماليه" و"سلطانيه"، والهاء فيهن للسَّكْت، فلذلك أسقطها يعقوب في الوصل، وهو الوجه. والباقون اتبعوا المصحف (2) .
قال الزجاج (3) : الواجب أن يُوقف على هذه الهاءات ولا توصل؛ لأنها أدخلت للوقف، وقد حذفها قوم في الوصل، ولا أُحب مخالفة المصحف، ولا أن أقرأ وأثبت الهاءات في الوصل. وهذه رؤوس آيات، فالصواب أن يوقف عندها.
قال (4) : وكذلك قوله: { وما أدراك ما هيه } [القارعة:10].
قوله تعالى: { فهو في عيشة راضية } أي: في حالة من العيش يرضاها،
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/352).
(2) ... انظر: الحجة لابن زنجلة (ص:719)، والكشف (1/307)، والنشر (2/142)، والإتحاف (ص:422-423).
(3) ... معاني الزجاج (5/217).
(4) ... أي الزجاج.(1/330)
أو ذات رضاً، مثل: لاَبِنٍ، وتَامِرٍ.
قال الزمخشري (1) : "راضية" منسوبة إلى الرضا؛ كالدارع والنابل، والنسبة نسبتان: نسبة بالحرف، ونسبة [بالصيغة] (2) . أو جعل الفعل لها مجازاً وهو لصاحبها.
قال أبو هريرة وأبو سعيد يرفعانه: إنهم يعيشون فلا يموتون [أبداً] (3) ، ويصحّون فلا يمرضون أبداً، وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً، ويشبون فلا يهرمون أبداً (4) .
{ في جنة عالية } مرتفعة المكان والمنازل والدرجات والأشجار.
{ قطوفها دانية } ثمارها قريبة، ينالها القاعد.
وقد سبق هذا المعنى في سورة الرحمن (5) .
{ كلوا واشربوا } على إضمار القول، تقديره: يقال لهم: كلوا واشربوا، { هنيئاً } صفة مصدر محذوف، تقديره: أكلاً وشرباً هنيئاً.
{ بما أسلفتم في الأيام الخالية } أي: بما قدمتم في الأيام الماضية من الأعمال الصالحة.
وعن مجاهد: أيام الصيام (6) .
__________
(1) ... الكشاف (4/607).
(2) ... في الأصل و ب: بالصفة. والتصويب من الكشاف (4/607).
(3) ... زيادة من المصادر التالية.
(4) ... ذكره الماوردي في تفسيره (6/84)، والقرطبي (18/270).
(5) ... عند الآية رقم: 54.
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/607).(1/331)
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد من زيادات ابنه عبدالله بإسناده، عن يوسف بن يعقوب الحنفي قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا أوليائي طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت [شِفَاهُكُم] (1) عن الأشربة، وقد غارت [عيونكم] (2) ، وخمَصَت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية (3) .
$¨Br&ur مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي
__________
(1) ... في الأصل: شفاكم. والتصويب من ب.
(2) ... في ب: أعينكم.
(3) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد للإمام أحمد. وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/272) وعزاه لابن المنذر.(1/332)
سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ اجذب
قوله تعالى: { وأما من أوتي كتابه بشماله } قال ابن السائب: تُلوى يدُه اليسرى خلفَ ظهره، ثم يُعطى كتابه، { فيقول } حين يقف على تلك الفضائح(1/333)
والقبائح: { يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه } (1) .
كان بعض السلف [يقول] (2) : لو خُيرت بين أن أكون تراباً وبين أن أُحاسب ثم أدخلَ الجنة، لاخترت أن أكون تراباً (3) .
{ يا ليتها } يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا { كانت القاضية } القاطعة لأثره. تمنى أنه لم يُبعث. وقيل: يتمنى الموت في ذلك اليوم.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت (4) .
{ ما أغنى عني } نفي [أو] (5) استفهام بمعنى الإنكار، تقديره: أيُّ شيء أغنى عني اليوم ما كان لي في الدنيا من المال.
{ هلك عني سلطانيه } ذهب عني تسلطي واقتداري.
وقال جمهور المفسرين وأهل المعاني: السلطان: الحجة (6) .
قال الزجاج (7) : قيل للأمراء سلاطين؛ لأنهم الذين تُقام بهم الحججُ والحُقُوق.
والمعنى: ضَلَّتْ عني حجتي.
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/389).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء (ص:46).
(4) ... أخرجه الطبري (29/62). وذكره السيوطي في الدر (8/273) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (29/63). وذكره الماوردي (6/85)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/353)، والسيوطي في الدر المنثور (8/273).
(7) ... معاني الزجاج (5/217).(1/334)
قال مقاتل (1) : حين [شهدت] (2) عليه الجوارح بالشرك.
فيقول الله حينئذ: { خذوه فغلُّوه * ثم الجحيم صلُّوه } أي: اجعلوه يَصْلَى النار.
{ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } قال ابن عباس: بذراع المَلَك (3) .
وقال نوف البِكَالي: كُلُّ ذراع سبعون باعاً، الباعُ أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة (4) .
وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً (5) .
وقال الحسن: الله أعلم أيّ ذراع هو (6) .
وقال مقاتل (7) : سبعون ذراعاً بالذراع الأول.
قال كعب: لو جُمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها (8) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/394).
(2) ... في الأصل: شدت. والتصويب من ب، وتفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (29/63-64). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/353).
(4) ... أخرجه الطبري (29/63)، وابن المبارك في الزهد (ص:83)، وهناد في الزهد أيضاً (1/181). وذكره السيوطي في الدر (8/273-274) وعزاه لابن المبارك وهناد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/353).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/347).
(7) ... تفسير مقاتل (3/394).
(8) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:83). وذكره السيوطي في الدر (8/274) وعزاه لابن المبارك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/335)
وفي حديث عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو أن رصاصة مثل هذه -وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة عام لبلغت إلى الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً، الليل والنهار، قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها" (1) .
وقال سويد بن نجيح (2) : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة (3) .
ومعنى: "اسلكوه": اجعلوه فيها.
قال ابن السائب: كما يُسلك الخيط في اللؤلؤ (4) .
وجاء في التفسير: أنها تُدْخَلُ من فيه وتُخْرَجُ من دبره (5) .
قال الزمخشري (6) : ومعنى "ثم": الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
ثم ذكر السبب الموجب لذلك فقال: { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض } أي: لا يحث { على طعام } أي: على بذل طعام { المسكين } بمعنى:
__________
(1) ... أخرجه أحمد (2/197 ح6856).
(2) ... سويد بن نجيح، أبو قطبة، سمع عكرمة، والشعبي، ويزيد الفقير. روى عنه عبد الواحد بن زياد، ومحمد بن عبيد الطنافسي، توفي في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين (الثقات 6/412، والإكمال لابن ماكولا 7/94).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/348).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... ذكره الطبري (29/63)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/353).
(6) ... الكشاف (4/608).(1/336)
لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: "أنه كان يحضُّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا [نخلع] (1) نصفها الآخر؟" (2) .
{ فليس له اليوم هاهنا حميم } قريب أو صديق يدفع عنه.
ويقال: إن اشتقاقه من الحميم، وهو الماء الحار، كأنه القريب أو الصديق الذي يحترق قلبه لأجله.
{ ولا طعامٌ إلا من غِسْلِين } وهو صديد أهل النار، وما ينغسل من أبدانهم من القيح والدم.
قال ابن عباس: لو أن قطرة من غسلين وقعت في الأرض أفسدت على الناس معايشهم (3) .
وقال الضحاك: هو شجر يأكله أهل النار (4) .
{ لا يأكله إلا الخاطئون } الآثمون أصحابُ الخطايا، وهم الكافرون.
__________
(1) ... في الأصل: نجعل. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/609). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/274) وعزاه لأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر ولفظه: عن أبي الدرداء قال: إن لله سلسلة لم تزل تغلي فيها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم القيامة تلقى في أعناق الناس وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فَحُضِّي على طعام المسكين يا أم الدرداء.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/348).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/354).(1/337)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ احجب
قوله تعالى: { فلا أقسم } "لا" ردٌ لقول المشركين.
أي: ليس الأمر كما قالوا من نسبتهم الرسول إلى الشعر والكهانة، أو هي زائدة مؤكدة، وهو مذكور في الواقعة.
{ بما تبصرون وما لا تبصرون } أي: بما ترون وما لا ترون، فهو قسم بجميع الكائنات من السماوات، والملائكة، والعرش، والجنة والنار، والأرض، والإنس والجن، والدنيا والآخرة.
وقيل: هو قسم بالخالق والمخلوق.
وقيل: ما أظهر عليه الملائكة وما استأثر بعلمه.
وقيل: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون.(1/338)
وقيل: أراد الأرواح والأجسام.
{ إنه } يعني: القرآن { لقول رسول كريم } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، في قول جمهور المفسرين.
وقال ابن السائب: جبريل عليه السلام (1) .
والأول أصح؛ لقوله: { وما هو بقول شاعر } والمعنى: إنه لقول رسول كريم جاء به من عند الله.
ودلّ على هذا المحذوف ذكر الرسول، فإنه يستدعي مُرْسِلاً، وهو الله تعالى.
{ وما هو بقول شاعر } كما زعم أبو جهل، { قليلاً ما تؤمنون } .
{ ولا بقول كاهن } كما زعم عقبة بن أبي معيط.
{ قليلاً ما تذكرون } وقرأ ابن كثير وابن عامر: "يذكرون" و"يؤمنون" بالياء فيهما (2) ، حملاً على قوله: { لا يأكله إلا الخاطئون } .
قال الزجاج (3) : "ما" مؤكدة، وهي لغوٌ في باب الإعراب. والمعنى: قليلاً يذَّكَّرون وقليلاً يؤمنون.
وقال غيره: القلَّة في معنى العدم، أي: لا يؤمنون ولا يذَّكَّرون البتة، على معنى: ما أكفركم وما أغفلكم.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/86)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/354).
(2) ... الحجة للفارسي (4/59)، والحجة لابن زنجلة (ص:720)، والكشف (2/333)، والنشر (2/390)، والإتحاف (ص:423)، والسبعة (ص:648-649).
(3) ... معاني الزجاج (5/218).(1/339)
{ تنزيل } أي: هو تنزيل { من رب العالمين } .
وقرأ أبو [السَّمَّال] (1) : "تنزيلاً" بالنصب على المصدر (2) .
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "خرجتُ أتعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم، فوجدتُه قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجبُ من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ: { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون } قال: قلت: كاهن، قال: { ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين... إلى آخر السورة } قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع" (3) .
ِqs9ur تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
__________
(1) ... في الأصل: السماك. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/322)، والدر المصون (6/370).
(3) ... أخرجه أحمد (1/17 ح107).(1/340)
(47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ اخثب
قوله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } أي: لو تكلّف قولاً من تلقاء نفسه ونسبه إليه.
{ لأخذنا منه باليمين } ، قال الزجاج (1) : بالقُدرة والقوّة. قال الشماخ:
إذا ما رايةٌ رُفعت لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاها عَرَابَةُ باليمين (2)
وهذا قول الفراء (3) والمبرد وعامة أهل البيان.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/218).
(2) ... البيت للشماخ بن ضرار المري. وهو في: اللسان (مادة: عرب، يمن)، والطبري (23/49)، والقرطبي (5/20، 8/251، 14/147، 15/75، 278، 18/275)، والماوردي (5/45).
(3) ... معاني الفراء (3/183).(1/341)
قال ابن قتيبة (1) : إنما أقامَ اليمين مُقامَ القوة؛ لأن قوة كل شيء في مَيامنه.
{ ثم لقطعنا منه الوتين } وهو عرْق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب (2) .
والمفسرون يقولون: هو نِياط القلب، فإذا انقطع مات صاحبه.
وقيل: هو القلب.
وقال ابن السائب: هو عرق بين العلباء والحلقوم (3) ، وأنشدوا للشمَّاخ:
إذا بَلَّغْتِنِي وحملْتِ رَحْلِي ... ... عَرَابةَ فاشْرَقِي بدَمِ الوَتِين (4)
{ فما منكم من أحد } "مِنْ" زائدة لتوكيد النفي، { عنه حاجزين } (5) حائلين بينه وبين ما يُفعل به.
والضمير في "عنه": للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: للقتل.
والخطاب بقوله: "منكم": للناس.
__________
(1) ... تأويل مشكل القرآن (ص:154).
(2) ... الوتين: الشريان الرئيس الذي يغذي جسم الإنسان بالدم النقي الخارج من القلب (المعجم الوسيط 2/943).
(3) ... ذكره الماوردي (6/87).
(4) ... البيت للشماخ. انظر: ديوانه (ص:92)، وشرح المفصل (2/31)، والطبري (29/67)، والقرطبي (18/276)، والماوردي (6/87)، والدر المصون (6/370)، وزاد المسير (8/355)، وروح المعاني (29/54).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: عنه.(1/342)
قال الزمخشري (1) : قيل "حاجزين" في وصف أحد؛ لأنه في معنى الجماعة، وهو اسم يقع في النفي العام، مستوياً فيه الواحد والجميع، والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى: { لا نفرق بين أحد من رسله } [البقرة:285]، { لستن كأحد من النساء } [الأحزاب:32].
{ وإنه } يعني: القرآن { لتذكرة للمتقين } مثل قوله: { هدى للمتقين } [البقرة:2]. وقد بيناه في أول البقرة.
{ وإنا لنعلم أن منكم } خطاب للناس كلهم.
وقيل: خطاب للمؤمنين، على معنى: لنعلم أن [فيكم] (2) .
{ مكذبين } بالقرآن والوحدانية والرسالة.
{ وإنه } يعني: القرآن { لحسرة على الكافرين } إذا رأوا ثواب المصدّقين به.
{ وإنه لحق اليقين } قال الزجاج (3) : "لليقين" حق اليقين.
__________
(1) ... الكشاف (4/610).
(2) ... في الأصل: منكم. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/218).(1/343)
قال الزمخشري (1) : كقولك: هو العالم حق العالم. والمعنى: لعين اليقين، ومحض اليقين.
وباقي الآية مفسرٌ في آخر الواقعة (2) .
__________
(1) ... الكشاف (4/610).
(2) ... عند الآية رقم: 95-96.(1/344)
سورة المعارج
ijk
وهي أربع وأربعون آية (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
tAr'y™ 7@ح !$y™ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا اذب
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:254).(1/345)
قال الله تعالى: { سأل سائل بعذاب واقع } قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر: "سال" بغير همز (1) .
وروى وَرْش من طريق النهرواني: "سايل" بتخفيف الهمزة بين بين هنا فحسب، كالخزاعي عن ابن فليح من طريق ابن كثير (2) . وقرأ الباقون من العشرة: بتخفيف الهمزة فيهما، إلا حمزة إذا وقف، فإنه يبدل من الهمزة ألفاً، سماعاً في هذا على غير قياس.
وكان القياس: أن يجعل الهمزة بين بين، أي: بين الهمزة والألف، كما يفعل في الوقف على: رأى ونأى.
وقد حكى سيبويه (3) البدل في "سال" سماعاً، وأنشد على ذلك أبياتاً، منها قول الشاعر:
سَالَت هذيل رسولَ الله فاحشةً ... ...................... (4)
فمن حقق الهمزة في "سأل" جعله من السؤال وأتى به على أصله، وهو اختيار أكثر القُرّاء.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/61)، والحجة لابن زنجلة (ص:720-721)، والكشف (2/334)، والنشر (2/390)، والإتحاف (ص:423)، والسبعة (ص:650).
(2) ... انظر: النشر (2/390).
(3) ... انظر: الكتاب (3/554).
(4) ... صدر بيت لحسان بن ثابت، وعجزه: (ضَلَّت هذيل بما قالت ولم تصب). انظر: ملحق ديوانه (ص:373)، وشرح المفصل (9/114)، والكتاب (3/468، 554)، والمقتضب (1/167)، والمحتسب (1/90)، والحجة للفارسي (1/378، 4/61)، والدر المصون (6/373)، والقرطبي (18/280)، وروح المعاني (29/56).(1/346)
قال ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين: السائل: النضر بن الحارث، والذي سأل قوله: { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } (1) [الأنفال:32].
وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل (2) .
وكان ذلك على وجه الاستهزاء، كما ذكرناه في موضعه.
ولما كان السؤال متضمناً معنى الدعاء، عدَّاه تعديته فقال: { بعذاب } كأنه قيل: دعا داع بعذاب، من قولك: دعا بكذا؛ إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله: { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } [الدخان:55].
وبعضهم يقول: الباء في "بعذاب" زائدة.
وقوله: { للكافرين } متصل بـ"عذاب" صفة له، أي: بعذاب واقع كائن للكافرين. أو بـ"واقع"، على معنى: بعذاب نازل لأجلهم. أو بالفعل، على معنى: دعا للكافرين بعذاب واقع (3) .
وقيل: الباء بمعنى عن، كقوله: { فاسأل به خبيرا } [الفرقان:59] أي: عنه، وأنشدوا:
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3373) عن ابن عباس، والحاكم (2/545 ح3854) عن سعيد بن جبير. وانظر: أسباب نزول القرآن للواحدي (ص:466). وذكره السيوطي في الدر (8/277) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/357).
(3) ... انظر: التبيان (2/268)، والدر المصون (6/373).(1/347)
فإن تسأليني بالنساء ...... ... ... ........................ (1)
أي: عن النساء.
وقد سبق إنشاد البيت في الفرقان.
والمعنى: سأل سائل عن عذاب واقع لمن هو؟ فقال الله تعالى: للكافرين.
وهذا قول الحسن وقتادة قالا: كان هذا بمكة لما بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، وخوّفهم بالعذاب، فقال بعضهم لبعض: منْ أهلُ هذا العذاب؟ سلوا محمداً لمن هو؟ فقال الله تعالى: للكافرين.
وقيل: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، استعجل بعذاب [للكافرين] (2) .
ومن قرأ: "سال" بغير همز، احتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون من السؤال، لكن أبدل من الهمزة ألفاً، على ما ذكرناه آنفاً من اللغة المسموعة فيه، وتكون الهمزة في "سائل" أصلية.
الثاني: أن تجعله من سِلْتَ تَسَالُ، لغة في السؤال، كخِفْتَ تَخَافُ، فتكون الألف في "سَالَ" بدلاً من واو، كخَافَ، وتكون الهمزة في "سَايِل" بدلاً من واو؛ كخَايِف.
الثالث: أن تكون من السيل لا من السؤال، فتكون الألف في "سأل" بدلاً من ياء، ككَالَ، وتكون الهمزة في "سايل" بدلاً من ياء.
قال زيد بن ثابت: هو واد في جهنم يقال [له] (3) : سايل (4) .
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... في الأصل: الكافرين. والمثبت من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (29/70) عن ابن زيد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/358). وقد استضعف هذا القول ابن كثير (4/419) وقال: وهذا القول ضعيف بعيد عن المراد، والصحيح الأول، لدلالة السياق عليه.(1/348)
ويؤيد هذا قراءة ابن عباس: "سال سيل" (1) .
قوله تعالى: { من الله } يتصل بـ"واقع"، على معنى: بعذاب واقع من الله، أو بـ"دافع"، على معنى: ليس له دافع من جهة الله إذا جاء وقته.
قوله تعالى: { ذي المعارج } أي: المصاعد. وقد ذكرنا فيما مضى أنه جمع: مِعْرَج.
قال مجاهد: هي معارج الملائكة (2) .
وقال ابن عباس وابن السائب: ذي السماء (3) ، وسماها معارج؛ لأن الملائكة تعرج إليها (4) .
وقال قتادة: ذي الفضائل العالية (5) .
وقيل: ذي الدرجات العالية، يُعطيهن من يشاء من خلقه.
والأول أصح، ألا تراه وصف المصاعد وبُعْدَ مداها فقال: { تعرج
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/358)، والدر المصون (6/372).
(2) ... أخرجه الطبري (29/70) ولفظه: "معارج السماء". وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/359).
(3) ... في ب: السموات.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/351).
(5) ... أخرجه الطبري (29/70). وذكره السيوطي في الدر (8/278) وعزاه لعبد بن حميد.(1/349)
الملائكة } . وقرأ الكسائي: "يَعْرُجُ" بالياء (1) ؛ لأن تأنيث الجمع غير حقيقي.
{ والروح } وهو جبريل، في قول جمهور المفسرين (2) .
وقال قبيصة: هو روح الميت حين يُقبض (3) .
{ إليه } أي: إلى الله تعالى، { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } .
قال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه (4) .
وقال ابن عباس وعكرمة والحسن وقتادة والقرظي وجمهور المفسرين: يعني: يوم القيامة (5) .
ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري قال: "قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده! إنه ليخفف عن المؤمن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/62)، والحجة لابن زنجلة (ص:721)، والكشف (2/335)، والنشر (2/390)، والإتحاف (ص:423)، والسبعة (ص:650).
(2) ... ذكره الطبري (29/70)، والماوردي في تفسيره (6/90)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/359).
(3) ... ذكره الماوردي (6/90)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/359).
(4) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/392).
(5) ... أخرجه الطبري (29/71)، وابن أبي حاتم (10/3374). وذكره الماوردي (6/90)، والواحدي في الوسيط (4/351)، والسيوطي في الدر (8/279-280) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لابن مردويه. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد.(1/350)
حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يُصلِّيها في الدنيا" (1) .
وهذا مقدار ما بين البعث إلى الفصل بين الخلاق، وإلا فهو يومٌ لا آخِرَ له.
فعلى هذا القول: يتعلق قوله: { في يوم } بقوله: "ليس له دافع" أي: ليس له دافع من الله في ذلك اليوم، أو [بقوله] (2) : "بعذاب واقع"، على معنى: سأل سائل بعذاب واقع في ذلك اليوم.
قوله تعالى: { فاصبر } متعلق بقوله: "سأل سائل"؛ لأن ذلك كان [منه] (3) على سبيل الاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك مما يوجب تألّمه وتضجّره، فأمر بالصبر عليه.
فإن قيل: كيف يتعلق به على قراءة من قرأ "سَالَ" بغير [همز] (4) ، على [معنى] (5) أنه وادٍ في جهنم؟
قلتُ: معناه قَرُبَ العذاب منهم فاصبر { صبراً جميلاً } لا جزع فيه. وقد فسرناه في يوسف (6) .
{ إنهم يرونه } يعني: يرون العذاب الواقع، أو يوم القيامة { بعيداً } غير
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/75 ح11735).
(2) ... في الأصل: فقوله. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: فيه. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: ألف. والمثبت من ب.
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... عند الآية رقم: 18.(1/351)
كائن، { ونراه قريباً } كائناً. وكل ما [هو] (1) آت فهو قريب.
tPِqtƒ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/352)
لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى اترب
ثم أخبر عن زمان وقوعه فقال: { يوم تكون السماء كالمهل } قال ابن عباس: كدُرْدِيّ (1) الزيت (2) .
وقال عطاء: كَعَكَر القطران (3) .
وقال ابن مسعود والحسن: كالفضة [المذابة] (4) . وقد ذكرناه في الكهف (5) .
{ وتكون الجبال كالعِهْن } قال الزجاج (6) : العِهْن: الصوف.
وقال ابن قتيبة (7) : الصُّوف المصبوغ.
قال الحسن: الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف (8) .
__________
(1) ... دُرْدِيُّ الزيت: ما يبقى في أسفله (اللسان، مادة: درد).
(2) ... أخرجه الطبري (15/240)، وأحمد (1/223 ح1946). وذكره الماوردي (6/92)، والواحدي في الوسيط (4/352)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/135)، والسيوطي في الدر (5/385) وعزاه لابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/352).
(4) ... مثل السابق. وما بين المعكوفين في الأصل: الذائبة. والمثبت من ب.
(5) ... عند الآية رقم: 29.
(6) ... معاني الزجاج (5/220).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:537).
(8) ... ذكره القرطبي في تفسيره (18/284).(1/353)
وقال مقاتل (1) : المنْفُوش، وهو [جمع] (2) : عِهْنَة، كصُوفَة وصُوف.
وقال الزمخشري (3) : "كالعهن" كالصوف المصبوغ ألواناً؛ لأن الجبال جُدد بيضٌ وحمرٌ وغرابيب سود، فإذا بسّت وطيّرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
وقال غيره: شبَّهها بالصوف في ضعفها ولينها.
وقيل: شبَّهها به في الخفة إذا سارت.
{ ولا يسأل حميم حميماً } قال مقاتل (4) : لا يسأل الرجل قرابته، ولا يكلمه من شدة الأهوال.
وقرأتُ لجماعة، منهم: أبو جعفر: "ولا يُسْأَلُ" بضم الياء (5) .
قال الزجاج (6) : المعنى: لا يُسْأَل قريب عن قرابته.
قوله تعالى: { يبصرونهم } كلام مستأنف، كأنه قيل: لعله لا يبصره، فقال: يبصرونهم، لكنه منعهم التساؤل ما خَامَرَهُم من أهوال القيامة.
وجُمع الضميران في "يبصرونهم" وهما للحميمين؛ نظراً إلى المعنى؛ لأنه لم يُرد حميمين مخصوصين، بل كل حميمين.
وقرأ جماعة، منهم: قتادة وأبو المتوكل: "يُبْصِرُونهم" بالتخفيف (7) . من
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/398).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... الكشاف (4/612).
(4) ... تفسير مقاتل (3/398).
(5) ... النشر (2/390)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:423).
(6) ... معاني الزجاج (5/220).
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/361)، والدر المصون (6/376).(1/354)
[أبْصَر] (1) يُبْصِر.
{ يود المجرم } يتمنى أبو جهل وغيره من أضرابه { لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } الذين هم أحبُّ الخلق إليه.
{ وصاحبته } يعني: زوجته، { وأخيه } الذي هو أعزّ أهله عليه (2) .
{ وفصيلته } عشيرته القريبة إليه التي فصل منها { التي تؤويه } تضمُّه انتماءً إليها، أو حَدَباً عليه.
{ ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه } يعني: ذلك الفداء.
قال الزجاج (3) : "كلا" ردعٌ [وتنبيه، أي: لا يرجع أحدٌ من هؤلاء فارتدعوا.
وقال غيره (4) : "كلا" ردعٌ] (5) للمجرم عن الودادة، وتنبيهٌ على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب.
ولما كان المراد بـ"عذاب يومئذ" النار كنى عنها بقوله: { إنها لظى } قال الفراء (6) : هو اسم من أسماء جهنم، فلذلك لم يُجرِه.
وقال غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص.
__________
(1) ... في الأصل: البصر. والتصويب من ب.
(2) ... قوله: "عليه" ساقط من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/221).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/613).
(5) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج (5/221).
(6) ... معاني الفراء (3/184).(1/355)
وقال ابن الأنباري: سميت بذلك؛ لشدّة توقُّدِها وتلَهُّبها، يقال: هو يتلظى، أي: يتلهَّب ويتوقَّد (1) .
{ نَزَّاعةٌ للشَّوَى } أي: هي نزاعةٌ، أو هو خبر بعد خبر لـ"إن"، أو خبرٌ لـ"لظى" إن كان الهاء في "إنها" ضمير القصة والشأن، والجملة خبر "إن"، أو صفة لـ"لظى" إن كان المراد بلظى: اللهب (2) .
وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وحفص عن عاصم: "نزاعةً" بالنصب (3) .
قال الزجاج (4) : هي حال مؤكدة، كما قال: { هو الحق مصدقاً } [فاطر:31].
وقال غيره: على الاختصاص للتهويل (5) .
قال الفراء والزجاج (6) : الشَّوَى: الأطراف؛ اليدان والرجلان والرأس.
وأُنشد على ذلك:
سَليمِ الشَّظى عَبْلِ الشَّوى شَنِجِ النَّسَاء ... ....................... (7)
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/361).
(2) ... انظر: التبيان (2/269)، والدر المصون (6/376-377).
(3) ... الحجة للفارسي (4/62)، والحجة لابن زنجلة (ص:723)، والكشف (2/335)، والنشر (2/390)، والإتحاف (ص:424)، والسبعة (ص:650-651).
(4) ... معاني الزجاج (5/221).
(5) ... في ب: للتنويل.
(6) ... معاني الفراء (3/185)، ومعاني الزجاج (5/221).
(7) ... صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه: (له حَجَبَاتٌ مُشرفاتٌ على الفال). انظر: ديوانه (ص:36)، واللسان (مادة: شنج، فيل، شظي)، وتاج العروس (مادة: شنج، عبل، فيل، شظي، نسا)، والقرطبي (18/288).(1/356)
وقال مجاهد وغيره: الشَّوَى: جمع شِوَاة، وهي جلدة الرأس (1) .
وأنشدوا قول الأعشى:
قَالتْ قُتَيْلَةُ مَا له ... ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَوَاتُه (2)
وقال الحسن وأبو العالية: الشَّوَى: محاسن الوجه (3) .
قال الضحاك: تنزع الجلد واللحم عن العظم (4) .
{ تدعو من أدبر } عن الحق، { وتولى } أعرض عنه، فتقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا منافق، إليّ يا فاسق، إليّ يا ظالم.
وقيل: دعاؤها مَجاز عن إحضارهم، كأنها تدعوهم فتُحْضِرُهم، كقول ذي الرمة:
لَيَالِي اللهوِ يَطْبِينِي فَأَتْبَعُهُ ... ... ......................... (5)
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/93)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/362)، والسيوطي في الدر (8/282) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... البيت للأعشى، وليس في ديوانه. وهو في: اللسان (مادة: شوا)، والطبري (29/76)، والقرطبي (18/288)، والبحر (8/325)، والدر المصون (6/377)، وروح المعاني (29/60)، والمزهر للسيوطي (2/309، 311).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/362).
(4) ... ذكره الماوردي (6/93)، والواحدي في الوسيط (4/352).
(5) ... صدر بيت لذي الرمة، وعجزه: (كأنني ضاربٌ في غَمْرةٍ لَعِبُ)، وهو في: اللسان (مادة: ضرب، طبي)، وروح المعاني (29/61).(1/357)
أي: يدعوني، يقال: [أطْبَاه وطَبَاه] (1) ؛ إذا دعاه (2) .
وقول أبي النجم:
...................... ... ... تقولُ للرَّائدِ أعشبتَ انْزِل (3)
وقيل: هو دعاء الزبانية.
{ وجمع فأوعى } أي: جمع المال [فجعله] (4) في وعاء وكَنَزَهُ ولم يؤدّ حقوقه.
* إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ tbqكJح !#yٹ (23)
__________
(1) ... في الأصل: أبطاه وبطاه. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: طبي).
(3) ... عجز بيت لأبي النجم، وصدره: (مستأسد أذنابه في عيطل). انظر: اللسان (مادة: عشب، أسد)، والكشاف (4/613)، والمستقصى في أمثال العرب (1/364).
(4) ... في الأصل: جعله. والتصويب من ب.(1/358)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) ب@ح !$،،=دj9 وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ(1/359)
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ ِNحkجE؛y‰"pky¶خ/ tbqكJح !$s% (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ اجخب
قوله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعاً } المراد بالإنسان: الناس، فلذلك استثنى منه [إلا] (1) المصلين.
وقيل: المراد بالإنسان: الكافر. فيكون استثناء منقطعاً.
والهَلَعُ: سرعة الجزع عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير. من قولهم: ناقة هَلُوعٌ: سريعة السير.
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/360)
قال [المفسرون] (1) : ما بعد الهلوع تفسير له.
{ إذا مسه الشر } وهو الفقر والمرض ونحو ذلك، { جَزوعاً } لا يصبر.
{ وإذا مسه الخير } وهو المال والشّرف ونحوهما { مَنُوعاً } لا يشكر بفعل ما أوجب الله عليه بسبب إحسانه إليه.
ثم استثنى الموحدين فقال: { إلا المصلّين * الذين هم على صلاتهم دائمون } أي: محافظون على الصلاة المكتوبة، على الوجه المأمور به.
وقال الزجاج (2) : هم الذين لا يُزيلون وجوههم عن سَمت القبلة.
وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه: هو الذي إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله (3) .
{ والذين في أموالهم حق معلوم } وهو الزكاة المفروضة.
{ للسائل والمحروم } مُفسّر في الذاريات (4) .
وما بعده مُفسّر في المؤمنين (5) إلى قوله: { والذين هم بِشَهَادَتِهِم قائمون } .
__________
(1) ... في الأصل: بعض المفسيرين. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/222).
(3) ... أخرجه الطبري (29/80)، وابن أبي حاتم (10/3374)، وابن المبارك في الزهد (ص:419).
(4) ... عند الآية رقم: 19.
(5) ... عند الآية رقم: 7-8.(1/361)
وقرأ حفص: "بشهاداتهم قائمون" على الجمع (1) .
والإفراد أولى؛ لأنه مصدر.
والمعنى: يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها.
وقال سهل: قائمون بحفظ ما يشهدون به، من شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يُشركون به في شيء من الأقوال والأفعال والأحوال (2) .
ةA$yJsù الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/63-64)، والحجة لابن زنجلة (ص:724)، والكشف (2/336)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:424)، والسبعة (ص:651).
(2) ... تفسير سهل التستري (ص:178).(1/362)
وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ اححب
قوله تعالى: { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يستهزؤون بالقرآن والمؤمنين ويقولون: إن(1/363)
دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد [لندخلنها] (1) قبلهم (2) .
والمعنى: ما لهم مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك.
وقد ذكرنا معنى الإهطاع في إبراهيم (3) .
{ عن اليمين وعن الشمال عزين } [جمع: عزة، يريد: جماعات] (4) في تفرقة. كأنّ كل فرقة [تعتزي] (5) إلى غير من تعتزي إليه الأخرى.
وفي الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه يوماً وهم حلق حلق متفرقون، فقال: ما لي أراكم عزين؟" (6) .
فإن قيل: ما إعراب هاتين الآيتين؟
قلتُ: [ما] (7) رُفِعَ بالابتداء، واللام خبره، وفيه ضميره، "قِبَلك": حال من الواو في "كفروا"، "مهطعين" حال بعد حال، وكذلك "عزين"، والتقدير: عزين عن اليمين وعن الشمال. ومن رأى وصف الحال كان "عزين" صفة لـ"مهطعين". ويجوز أن يكون "عزين" حالاً من الضمير
__________
(1) ... في الأصل: لندخلها. والمثبت من ب.
(2) ... انظر: أسباب نزول القرآن للواحدي (ص:466).
(3) ... عند الآية رقم: 43.
(4) ... في الأصل: يريد جمع عزة جماعات. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: تعظزى. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه مسلم (1/322 ح430)، وأحمد (5/107 ح21065).
(7) ... زيادة من ب.(1/364)
في "مهطعين". ويجوز أن يكون "مهطعين" حالاً من الضمير في "قبلك". ويجوز في "قبلك" أن يكون ظرفاً [للام] (1) ، أو لـ"مهطعين". ويجوز أن يتعلق "عن اليمين" بمضمر أيضاً في موضع الحال، أو صفة لـ"مهطعين". ويجوز أن يكون صلة لـ"عزين" (2) .
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ لهم عن طمعهم في دخولهم الجنة، وإعلامٌ لهم أنهم لا يدخلونها.
ثم ابتدأ فقال: { إنا خلقناهم مما يعلمون } أي: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. يشير بذلك إلى أنهم من أصل واحد، ومادة واحدة، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والتقوى، فكيف يتعظّمون على المؤمنين ويعتقدون أنهم أولى بالجنة منهم لشرفهم.
قال قتادة في هذه الآية: إنما خُلقت يا ابن آدم من قذر، فاتَّق الله تعالى (3) .
وفي الحديث: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية ثم بزق على كفه ثم قال: يا ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدّلتك مشيت بين بُرْدَين (4) ، وللأرض منك وئيد (5) ، فجمعت ومنعت، حتى إذا
__________
(1) ... في الأصل: واللام. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/269)، والدر المصون (6/379).
(3) ... أخرجه الطبري (29/87). وذكره السيوطي في الدر (8/286) وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... البَردان والأبردان: الغداة والعشي، وقيل: ظلاّهما (اللسان، مادة: برد).
(5) ... الوئيد: شدة الوطء على الأرض كالدَّوي من بُعد (اللسان، مادة: وأد).(1/365)
بلغت التراقي (1) قلت: أتصَدَّقُ، وأنّى أوان الصدقة؟!" (2) .
وقيل: المعنى: إنا خلقناهم مما يعلمون، أي: من أجل ما يعلمون، وهو الطاعة، على حذف المضاف. المعنى: فما عملوا بها فلا يدخلون الجنة.
فإن قيل: هؤلاء كفارٌ فمن أين عَلِمُوا أنهم خُلقوا للطاعة؟
قلتُ: عَلِمُوا ذلك من براهين العقل، وأدلة السمع الواردة على ألْسِنَة الرسل صلى الله عليهم.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء؛ فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟
فإن قلت: من أي وجه دلّ هذا الكلام على إنكار البعث؟
قلتُ: من حيث إنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله: { خلقناهم مما يعلمون } أي: من النطفة، وبالقدرة على أن [نهلكهم] (4) ، ونبدل ناساً خيراً منهم، وأنه [ليس] (5) بمسبوق على ما يريد تكوينه، لا يعجزه شيء، والغرض: أن من قَدَرَ على ذلك لا تعجزه الإعادة.
__________
(1) ... التراقي: جمع ترقوة، وهي: العظم الذي بين ثُغرة النحر والعاتق من الجانبين (اللسان، مادة: ترق).
(2) ... أخرجه أحمد (4/210)، والحاكم (2/545 ح3855) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي فقال: صحيح.
(3) ... الكشاف (4/616).
(4) ... في الأصل: نهلكم. والتصويب من ب.
(5) ... زيادة من ب، والكشاف (4/616).(1/366)
قوله تعالى: { فلا أقسم } سبق تفسيره.
{ برب المشارق والمغارب } مشرق كل يوم ومغربه.
{ وما نحن بمسبوقين } مُفسّر في الواقعة (1) .
والآية التي بعدها مُفسّرة في الطور (2) .
قوله تعالى: { كأنهم إلى نصب يوفضون } قرأ ابن عامر وحفص: "نُصُبٍ" بضم النون والصاد. وقرأ الباقون بفتح النون وسكون الصاد (3) ، واحد نُصْبٍ، كسَقْفٍ وسُقُف، ورَهْن ورُهُن، فالقراءتان بمعنى واحد.
قال قتادة وغيره: كأنهم إلى شيء منصوب أو غاية جعلت لهم يسرعون (4) .
قال ابن جرير (5) : [تأويله] (6) : كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون.
قال الفراء (7) : الإيفاض: الإسراع، وأنشدوا (8) :
ألا أبْغِهَا نعامةً مِيفَاضَا ... ... خَرْجَاءَ ظَلَّتْ تَطْلُبُ الإضَاضَا (9)
__________
(1) ... عند الآية رقم: 60.
(2) ... عند الآية رقم: 45.
(3) ... الحجة للفارسي (4/64)، والحجة لابن زنجلة (ص:724-725)، والكشف (2/336)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:424)، والسبعة (ص:651).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/366).
(5) ... تفسير الطبري (29/88).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... معاني الفراء (3/186).
(8) ... في ب: وأنشد الزجاج.
(9) ... البيت لم أعرف قائله. وهو في: اللسان وتاج العروس (مادة: أضض، وفض)، والطبري (29/89)، والبحر المحيط (8/330)، والدر المصون (6/381). وفي جميع المصادر: "لأنعتن" بدل: "ألا أبغها".(1/367)
الميفاض: السريعة، وخرجاء: ذات لونين سوداء وبيضاء، ومعنى الإضَاض: الموضع الذي يُلجأ إليه. يقال: آضتني الحاجة إليك إضاضاً.
{ خاشعةً أبصارهم } حال من الضمير في "يوفضون" (1) .
{ ترهقهم ذلة } يغشاهم هوان. وقد سبق تفسيره مع ما لم أذكره.
{ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } أي: يُوعدونه، فحذف العائد من [الصلة] (2) إلى الموصول.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/269)، والدر المصون (6/381).
(2) ... في الأصل: أصله. والتصويب من ب.(1/368)
سورة نوح عليه السلام
ijk
وهي ثلاثون آية في المدني، وثمان وعشرون في الكوفي (1) . وهي مكية بإجماعهم.
!$¯Rخ) أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:255).(1/369)
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ(1/370)
لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا اتحب
قوله تعالى: { أنْ أنذر قومك } "أنْ" مُفسِّرة؛ لأن الإرسال فيه معنى القول، فهي بمعنى: أي.
ويؤيده قراءة ابن مسعود: "أنذر قومك" بغير "أنْ" (1) .
وإن شئت قلت: هي "أنْ" الناصبة للفعل، أصله: بأن أنذر قومك، فلما حذف الجار وصل الفعل، فنصب "أنْ"، والتقدير: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (29/90-91)، والكشاف (4/618).(1/371)
وقوله تعالى: { أن اعبدوا الله } مثل قوله: { أن أنذر } .
{ من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } قال ابن عباس: هو عذاب النار (1) .
وقال الكلبي: هو الطوفان (2) .
قوله تعالى: { يغفر لكم من ذنوبكم } قال مقاتل (3) والسدي: "مِنْ" هاهنا صلة.
وقال الزجاج (4) : دخلت "مِنْ"؛ لتخصيص الذنوب من سائر الأشياء، ولم تدخل لتبعيض الذنوب. ومثله: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [الحج:30].
وقال غيره من أهل المعاني: هي للتبعيض، على معنى: يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت إيمانكم، وذلك بعض ذنوبهم (5) .
{ ويؤخركم إلى أجل مسمى } وهو أجَلُ موتهم، يريد: أنهم يُؤخَّرون إلى انقضاء آجالهم فيموتون بغير عقوبة.
{ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } قال الحسن: هو أجل القيامة (6) .
وقال مجاهد: أجل الموت (7) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/98).
(2) ... ذكره الطبري (29/91) بلا نسبة، والماوردي (6/98).
(3) ... تفسير مقاتل (3/400). وذكره الماوردي (6/99).
(4) ... معاني الزجاج (5/228).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/356)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/369).
(6) ... ذكره الماوردي (6/99)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/369).
(7) ... مثل السابق.(1/372)
وقال السدي: أجل العذاب (1) .
وما بعده ظاهر إلى قوله: { جعلوا أصابعهم في آذانهم } فعلوا ذلك؛ لئلا [يسمعوا] (2) صوته، { واستغشوا ثيابهم } لئلا يروه { وأصروا } على كفرهم { واستكبروا } عن اتباعه { استكباراً } .
{ ثم إني دعوتهم جهاراً } وهو مصدر في موضع الحال، أي: دعوتهم مجاهراً لهم بالدعاء إلى التوحيد، أو صفة مصدر، تقديره: دعوتهم دعاء جهاراً (3) .
قال ابن عباس: بأعلى صوتي (4) .
{ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } أي: خلطتُ دعاءَ العلانية بدعاء السر.
قال بعض أهل المعاني (5) : افتتح بالمناصحة في السر، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلمّا لم يؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
ومعنى: "ثم": الدلالة على تباعد الأحوال.
{ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } أي: توبوا إليه من الكفر والمعاصي.
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... في الأصل: يسمعون. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الدر المصون (6/383).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/357)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/370).
(5) ... هو قول الزمخشري في: الكشاف (4/619).(1/373)
{ يرسل السماء عليكم مدراراً } كثيرة الدَّرِّ. وقد ذكرناه في أول الأنعام (1) .
قال الشعبي: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح (2) السماء التي بها يُستنزل القطر، ثم قرأ: { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً } (3) .
وشكا رجل إلى الحسن الفقر، وآخر قلة ريع أرضه، وآخر الجدب، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقيل له في ذلك، فتلى هذه الآية (4) .
قوله تعالى: { ويمددكم بأموال وبنين } قال المفسرون: حَبَسَ اللهُ القطرَ عنهم، وقَطَعَ نسلَهم ونسلَ دوابهم أربعين سنة.
{ ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } بدل بساتينكم وأنهاركم، فإنها
__________
(1) ... آية رقم: 6.
(2) المجَادِيح: واحدها مِجْدَح, والياء زائدة للإشباع, والقياس أن يكون واحدها: مِجْدَاح, فأما مِجْدَح فجمعه: مَجادِح. والمجدح: نجم من النجوم قيل: هو الدَّبَران. وقيل هو ثلاثة كواكب كالأثافِي; تشبيهاً بالمِجْدَح الذي له ثلاث شُعَب, وهو عند العرب من الأنْواء الدّالة على المطر, فجعل الاستغفار مُشَبَّهاً بالأنواء, مُخاطَبَة لهم بما يعرفونه, لا قوْلاً بالأنْواء.
... وجاء بلفظ الجمْع؛ لأنه أراد الأنْواء جَميعها التي يَزعمون أن من شأنِها المطر (النهاية في غريب الحديث 1/243).
(3) ... أخرجه الطبري (29/93)، وسعيد بن منصور في سننه (5/353 ح1095)، وعبدالرزاق في مصنفه (3/87 ح4902).
(4) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/620).(1/374)
كانت قد هلكت [ويبست] (1) .
قوله تعالى: { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } قال الزجاج (2) : قيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة.
وقيل: لا ترجون عاقبة الإيمان وتوحّدون الله.
وقال الزمخشري (3) : لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً. المعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب، و "لله" بيان للموقَّر.
{ وقد خلقكم أطواراً } في موضع الحال (4) ، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به، لأنه خلقكم أطواراً: أي تارات، خلقكم أولاً تراباً، ثم خلقكم نطفاً، ثم خلقكم علقاً، ثم خلقكم مضغاً، ثم خلقكم عظاماً ولحماً، ثم أنشأكم خلقاً آخر.
َOs9r& تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ
__________
(1) ... في الأصل: يبست. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/229).
(3) ... الكشاف (4/620).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/384).(1/375)
نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا اثةب
قوله تعالى: { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً } مُفسّر في تبارك الملك (1) .
{ وجعل القمر فيهن نوراً } قال الحسن: يعني: في سماء الدنيا (2) .
وقوله: "فيهن" كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الشمس والقمر وجوهُهُما قِبَل السموات، وظُهورهما قِبَل الأرض، يضيئان لأهل السموات كما
__________
(1) ... عند الآية رقم: 3.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/371).(1/376)
[يضيئان] (1) لأهل الأرض (2) .
وقد فَسَّرنا هذه الآية في أواخر الفرقان (3) .
قوله تعالى: { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } أي: ابتداء خلقكم من الأرض.
قال الخليل (4) وغيره: "نباتاً": مصدر مخالف للصدر، مجازه: فَنَبَتُّم نباتاً.
قال ابن قتيبة (5) : ومثله: { وتبتل إليه تبتيلاً } [المزمل:8] فجاء على بَتَلَ. قال الشاعر:
وخيرُ الأمر ما استقبلتَ منه ... وليسَ بأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا (6)
قال (7) : وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال؛ لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها واحدةٌ في المعنى.
__________
(1) ... في الأصل: يضآ. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (29/97)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1141 ح6153). وذكره الواحدي في الوسيط (4/358)، والسيوطي في الدر (8/291) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.
(3) ... عند الآية رقم: 61.
(4) ... انظر: العين (8/130).
(5) ... انظر قول ابن قتيبة في: زاد المسير (8/372).
(6) ... البيت للقطامي. انظر: ديوانه (ص:35)، والكتاب (4/82)، والدر المصون (2/76)، واللسان، مادة: (تبع)، والقرطبي (4/69)، وزاد المسير (8/372).
(7) ... أي: ابن قتيبة.(1/377)
وقال الزجاج (1) : "نباتاً" محمول في المصدر على المعنى؛ لأن معنى "أنبتكم": جعلكم تنبتون نباتاً.
قوله تعالى: { سبلاً فجاجاً } أي: طرقاً واسعة. وقد سبق ذكره.
tA$s% نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا اثحب
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/230).(1/378)
قرأ نافع وابن عامر وعاصم: "وَوَلَدُهُ" بفتح الواو واللام. وقرأ الباقون: بضم الواو وسكون اللام (1) .
قال الزجاج (2) : هما بمعنى واحد، كالعُرْب والعَرَب، والعُجْم والعَجَم.
وقرأ الحسن وأبو العالية والجحدري: بكسر الواو وسكون اللام (3) .
والمعنى: أن الأتباع والفقراء اتبعوا الأغنياء والكبراء الذين زادتهم أموالهم وأولادهم خساراً في الآخرة.
قوله تعالى: { ومكروا مكراً كباراً } يعني: الرؤساء احتالوا في إبطال الدين وكيد نوح مكراً عظيماً.
وقرئ: "كُبَاراً" بالتخفيف مع ضم الكاف وكسرها (4) ، وكلها لغات. وقد أشرنا إليها في أول ص (5) .
{ وقالوا } أي: وقال بعضهم لبعض { لا تذرن آلهتكم } أي: لا تَدَعُنَّ عبادتها { ولا تذرن وَدّاً } . وضم الواو من "وَدّاً": نافع (6) ، وهذه أسماء
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/65-66)، والحجة لابن زنجلة (ص:725)، والكشف (2/92)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:424)، والسبعة (ص:652-653).
(2) ... معاني الزجاج (5/230).
(3) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:424)، وزاد المسير (8/373).
(4) ... وهي قراءة أبي رجاء وأبي عمران وغيرهما. انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/373)، والدر المصون (6/385).
(5) ... عند الآية رقم: 5.
(6) ... الحجة للفارسي (4/67)، والحجة لابن زنجلة (ص:726)، والكشف (2/337)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:425)، والسبعة (ص:653).(1/379)
أصنامهم.
قال المفسرون: انتقلت عنهم إلى العرب، ولذلك سَمّت العرب بعبد وُدّ، وعبد يغوث.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن، قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا إبراهيم [بن] (1) موسى، حدثنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء: عن ابن عباس: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد؛ أما وُدّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت [لهمدان] (2) ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع (3) ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم عُبدت" (4) . انفرد بإخراجه البخاري.
قال الزجاج (5) : "يغوث ويعوق" لا ينصرفان؛ لأنهما في وزن الفعل، وهما معْرفتان.
__________
(1) ... زيادة من ب، والصحيح.
(2) ... في الأصل: لهمذان. والمثبت من ب، والصحيح.
(3) ... في الأصل و ب زيادة قوله: ونسراً، وهي غير موجودة في الصحيح.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1873 ح4636).
(5) ... معاني الزجاج (5/231).(1/380)
وقرأ الأعمش: "يغوثاً ويعوقاً" بالصرف (1) .
قال الزمخشري (2) : هذه قراءة مشكلة؛ لأنهما [إنْ] (3) كانا عربيين أو عجميين ففيهما سَبَبَا عدم (4) الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات؛ وُدّاً وسُواعاً ونسراً، كما قرئ: { وضحاها } [الشمس:1] بالإمالة، لوقوعه مع الممالات؛ للازدواج.
قوله تعالى: { وقد أضلوا } (5) يعني: الأصنام، وقيل: الرؤساء، { كثيراً } يريد: خلقاً كثيراً من الناس.
وهذا من شكاية نوح عليه السلام إلى ربه عز وجل.
ثم دعا على [قومه] (6) حين أَيِسَ من إيمانهم فقال: { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } .
$£JدiB خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:425)، والكشاف (4/622).
(2) ... الكشاف (4/622).
(3) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في ب والكشاف: منع.
(5) ... في الأصل زيادة قوله: { كثيراً } ، وستأتي بعد.
(6) ... زيادة من ب.(1/381)
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا اثرب
قوله تعالى: { مما خطيئاتهم أغرقوا } "ما" صلة. والمعنى: من خطاياهم، أي: من أجلها وبسببها أغرقوا.
قرأ أبو عمرو: "خَطَايَاهُم" مثل: عطاياهم. وقرأ الباقون:(1/382)
"خطيئاتهم" (1) ، وهما جمْعا: خطيئة.
وفي قراءة ابن مسعود: "من خطيئاتهم" (2) .
قوله تعالى: { دَيّاراً } من الأسماء المستعملة في النفي العام.
قال ابن قتيبة (3) : يقال: ما بالمنازل ديّار؛ أي: ما بها أحد.
قال الزجاج (4) : أصلها: ديوار، فقلبت الواو ياء [وأدغمت] (5) إحداهما في الأخرى.
قال المفسرون: إنما دعا عليهم؛ لأن [الله] (6) تعالى أوحى إليه: { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } (7) [هود:36].
قوله تعالى: { رب اغفر لي ولوالدي } قد ذكرنا فيما مضى أن اسم أبيه: [لمك] (8) بن متوشلخ، واسم أمه: شمخا بنت أنوش.
قال المفسرون: كانا مؤمنين (9) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/67)، والحجة لابن زنجلة (ص:726)، والكشف (2/337)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:425)، والسبعة (ص:653).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/337)، والدر المصون (6/386).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:488).
(4) ... معاني الزجاج (5/231).
(5) ... في الأصل: وأغدمت. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) ... أخرجه الطبري عن قتادة. وذكره الماوردي (6/105)، والسيوطي في الدر (8/295) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(8) ... في الأصل: ملك. والتصويب من ب.
(9) ... ذكره الماوردي (6/106)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/375).(1/383)
وقرأ سعيد بن بن جبير وسعيد بن المسيب والجحدري: "ولوالدي" على التوحيد، وهي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (1) .
وقرأ ابن مسعود وأبو العالية والزهري والنخعي: "ولِوَلَدَيَّ" من غير ألف، على التثنية (2) ، يريد: ابنيه.
وفي استغفار نوح لوالديه وإبراهيم أيضاً في قوله: { ربنا اغفر لي ولوالدي } [إبراهيم:41] شريعة (3) وتنبيه لكل مؤمن على الاستغفار لوالديه، إلا أن يموتا على الكفر، فلا وجه لاستغفاره لهما.
أخبرنا حنبل بن الفرج إذناً قال: أخبرنا ابن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا أبو بكر ابن حمدان، أخبرنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم [بن] (4) أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" (5) .
قوله تعالى: { ولمن دخل بيتي مؤمناً } أي: منزلي. وقيل: مسجدي.
و"مؤمناً" نصب على الحال (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/375)، والدر المصون (6/387).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في ب: شرعية.
(4) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه أحمد (2/509 ح10618).
(6) ... انظر: الدر المصون (6/387).(1/384)
{ وللمؤمنين والمؤمنات } عام في كل من آمن، من الرجال والنساء.
{ ولا تزد الظالمين إلا تباراً } أي: هلاكاً.
فإن قيل: ما فعل بصبيانهم حين أغرقوا؟
قلتُ: عنه أجوبة:
أحدها: أنه قد روي أن الله أعقم نساءهم أربعين سنة، فلم يكن لهم عند الغرق صبيان.
الثاني: أنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى؛ لأن نوحاً لم يُقدم على قوله: { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } إلا بطريق الوحي.
الثالث: أنهم أُغرقوا بآجالهم لا على وجه العقوبة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/385)
سورة الجن
ijk
وهي ثماني وعشرون آية (1) . وهي مكية بإجماعهم.
ِ@è% أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:256).(1/386)
اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا اذب
قوله تعالى: { قل أوحي إلي } قال الزجاج (1) : وقُرئت: "أُحِيَ إليّ" بغير واو، [وهو من] (2) وَحَيْتُ إليه، [والأكثر] (3) أوحيتُ. والأصل: يعني في "أُحِيَ": وُحِيَ ، ولكن الواو إذا انضمت فقد تُبدل منها الهمزة ، نحو : { وإذا الرسل أقتت } [المرسلات:11]، أصله: وُقّتت؛ لأنه من الوقت.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/233).
(2) ... زيادة من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: وأكثر. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/387)
قال الزمخشري (1) : هو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً؛ كإشاح، وإسادة، وإعاء أخيه.
وقرأ ابن أبي عبلة: "وُحِيَ" على الأصل (2) .
{ أنه استمع نفر من الجن } [اتفق] (3) القراء العشرة وأكثر القراء على فتح هذه الهمزة، وذلك أنه مفعولٌ [قام] (4) مقام الفاعل لـ"أوحي". وقد ذكرنا في الأحقاف سبب نزول هذه الآية، وسبب استماعهم، وعددهم، ومعنى النَّفَر (5) .
قال المفسرون: كانوا من الشيصبان -قبيلة من الجن (6) -، وهم أكثر الجن عدداً، وعامة جنود إبليس منهم (7) .
{ فقالوا } لقومهم حين رجعوا إليهم: { إنا سمعنا قرآناً عجباً } بديعاً يُعجب منه؛ لبلاغته، وهو مصدر وُضع موضع العجب.
{ يهدي إلى الرشد } يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان والطاعة.
{ فآمنا به } أي: بالقرآن.
قوله تعالى: { وأنه تعالى جد ربنا } قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي
__________
(1) ... الكشاف (4/625).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/339)، والدر المصون (6/388).
(3) ... في الأصل: اتفقوا. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: أقام. والتصويب من ب.
(5) ... عند الآية رقم: 29.
(6) ... قوله: "قبيلة من الجن" ساقط من ب.
(7) ... الكشاف (4/625).(1/388)
وحفص: "وأنه" بفتح الهمزة وما بعدها إلى قوله: { وأنا منا المسلمون } ، وهي اثنتا عشرة همزة. وكسرها الباقون (1) .
فمن فتح ذلك حمله على "أوحي"، ومن كسر فعلى الاستئناف.
وقرأ أبو جعفر المدني: { وأنه تعالى } ، { وأنه كان [يقول] (2) } ، { وأنه كان رجال } بالفتح فيهن؛ لما ذكرناه، وكَسَرَ ما عدا هذه المواضع الثلاثة على الاستئناف (3) .
قال الزجاج (4) : والذي يختاره النحويون: قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم في هذا؛ لأنه عندهم ما كان محمولاً على الوحي، فهو "أنه" بالفتح، وما كان من قول الجن [فهو] (5) مكسور معطوف على قوله: { قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً } . وعلى هذه القراءة يكون المعنى: وقالوا إنه تعالى جدّ ربنا، [وقالوا إنه كان يقول سفيهنا] (6) .
فأما من فتح؛ [فذكر] (7) بعض النحويين: أنه معطوف على الهاء، المعنى عنده: فآمنا به وبأنه تعالى جَدُّ ربنا، وكذلك بعد هذا عنده.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/68-69)، والحجة لابن زنجلة (ص:727-728)، والكشف (2/339)، والنشر (2/391)، والإتحاف (ص:425)، والسبعة (ص:656).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... النشر (2/391)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:425).
(4) ... معاني الزجاج (5/233-234).
(5) ... في الأصل: فهور. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من معاني الزجاج (5/234).
(7) ... في الأصل: فقال. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/389)
وهذا رديء في القياس لا يُعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض، ولكن وجهه: أن يكون محمولاً على معنى: آمنا به صدّقنا، فيكون المعنى: وصدّقنا أنه تعالى جَدّ ربنا.
ومعنى: جَدّ ربنا: عظمته. تقول العرب: جَدَّ فلان في عيني، بمعنى: عَظُمَ، ومنه الحديث: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا، أي: عَظُمَ" (1) .
وقال أبو عبيدة (2) : جَدُّه: ملكه وسلطانه.
وقيل: غناه. ومنه: "لا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد" (3) .
وقوله تعالى: { ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } بيانٌ لـ"جدّ ربنا" جل وعلا.
قوله تعالى: { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً } قال مجاهد وقتادة: هو إبليس (4) .
وقال مقاتل (5) : كفارهم، "على الله شططاً": جوراً وكذباً، وهو [وصفه] (6) بالشريك والولد.
قوله تعالى: { وأنا ظننا } كان في ظن هؤلاء النفر من الجن أن أحداً من
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/120 ح12236).
(2) ... مجاز القرآن (2/272).
(3) ... أخرجه البخاري (1/289 ح808)، ومسلم (1/347 ح477).
(4) ... أخرجه الطبري (29/107)، وابن أبي حاتم (10/3377). وذكره السيوطي في الدر (8/298) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(5) ... تفسير مقاتل (3/405).
(6) ... في الأصل: وصف. والتصويب من ب.(1/390)
الثقلين لن يكذب على الله، وهذا القول خارج مخرج الاعتذار من سوء ما سلف منهم والاستعتاب.
و"كذباً" صفة مصدر محذوف، تقديره: قولاً كذباً، أو هو بمعنى: مكذوب فيه.
وقرأتُ ليعقوب: "أن لن تَقَوَّلَ" بفتح القاف والواو وتشديدها (1) ، فيكون "كذباً": تقوّلاً؛ لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً.
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } قال ابن زيد وغيره: كان الرجل في الجاهلية إذا [سافر] (2) فنزل بِوَادٍ أو قَفْرٍ (3) مساءً قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سُفهاء قومه، فيبيتُ في جوار منهم (4) .
قال مقاتل (5) : كان أولَ من تعوّذ بالجن قومٌ من أهل اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب.
قال كردم بن أبي السائب (6) : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما
__________
(1) ... انظر: النشر (2/392)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:425).
(2) ... في الأصل: سنافر. والتصويب من ب.
(3) ... القفر والقفرة: الخلاء من الأرض وجمعه قفور. وقيل: القفر مفازة لا نبات فيها ولا ماء، وقالوا: أرض مقفر أيضاً (لسان العرب، مادة: قفر).
(4) ... أخرجه الطبري (29/108). وذكره الماوردي (6/111)، والواحدي في الوسيط (4/363-364).
(5) ... تفسير مقاتل (3/405).
(6) ... كردم بن أبي السائب الأنصاري، له صحبة، سكن المدينة (الإصابة 5/577).(1/391)
انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي، فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى مُنادٍ لا نراه: يا سرحان (1) أرْسِلْهُ، فإذا الحَمَلُ يشتدُّ (2) حتى دخل الغنم فلم تُصبه كَدْمَة (3) ، فأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } (4) .
قال مقاتل (5) وجمهور المفسرين: زاد الإنس الجن بسبب تعوذهم بهم رهقاً، وذلك أن رؤساؤهم قالوا: قد سُدْنا الجن والإنس.
وقيل: زاد الجن والإنس رهقاً.
قال الحسن: شراً (6) .
__________
(1) ... السرحان: الذئب، وقيل: الأسد، وجمعه: سراح وسراحين (النهاية 2/358).
(2) ... أي: يسرع.
(3) ... الكَدْمُ: تَمشْمُش العظم وتعرّقه، وقيل: هو العض بأدنى الفم كما يَكْدُمُ الحمار، وقيل: هو العض عامة، كدَمَه يكدُمُه ويكْدِمُه كَدْماً؛ إذا أثّرت فيه بحديدة (لسان العرب، مادة: كدم).
(4) ... أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/191 ح430) وأبو الشيخ في العظمة (5/1665 ح110525)، والعقيلي في الضعفاء (1/101 ح118)، وابن أبي حاتم (10/3377). وذكره السيوطي في الدر (8/298) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن عساكر.
... قال ابن كثير في تفسيره (4/430): وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه، ثم قال: وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة، كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه، ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه. والله تعالى أعلم.
(5) ... تفسير مقاتل (3/406).
(6) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/402).(1/392)
وقال مقاتل (1) : غياً.
وأصل الرَّهَق: الغشيان. المعنى: [زادوهم] (2) اجتراء على غشيان الإثم والمحارم.
ثم أخبر الله تعالى أن الجن كانوا على نحو ما كان عليه كفار قريش من إنكار البعث بعد الموت فقال تعالى: { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } .
$¯Rr&ur لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/406).
(2) ... في الأصل: زادهم. والتصويب من ب.(1/393)
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا t,ح !#tچsغ قِدَدًا اتتب
قوله تعالى: { وأنا لمسنا السماء } قال الكلبي: أتيناها (1) .
وقال غيره: اللَّمْسُ: المَسُّ، فاستعير للطلب؛ لأن الماسّ طالب متعرف.
والمعنى: طلبنا بلوغ السماء، واستماع كلام أهلها.
{ فوجدناها ملئت حرساً شديداً } الحرس: اسم مفرد في معنى الحُرَّاس، [كالخدم] (2) في معنى الخُدّام، والحَرَس: الملائكة الذين يحرسون السماء من استراق السمع، { وشُهُباً } جمع شِهاب، وهو النجم المضيء. وقد ذكرناه في قوله: { فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات:10].
والرَّصَدُ: مثل الحرس، اسم مفرد في معنى الجمع، على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب.
ويجوز أن يكون صفة للشهاب، بمعنى: الراصد.
قوله تعالى: { وأنا لا ندري أشَرٌّ أريد بمن في الأرض } يعني: أشرّ أريد
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/365).
(2) ... في الأصل: كاخدم. والتصويب من ب.(1/394)
بهم بحراسة السماء بالشهب، أي: عذاب وبلاء، { أم أراد بهم ربهم رشداً } خيراً ورحمة.
قال مقاتل (1) : هذا قول مؤمني الجن، قالوا: لا ندري أَشَرٌّ أُرِيد بمن في الأرض، بإرسال محمد إليهم فيكذبونه فيهلكون، أم أراد بهم ربهم رشداً، وهو أن يؤمنوا به فيهتدوا.
ثم أخبروا عن حال أنفسهم فقالوا: { وأنا منا الصالحون } أي: الأبرار المتقون، { ومنا دون ذلك } أي: قوم دون الصالحين.
وقولهم: { كنا طرائق قِدَداً } بيان للقسمة المذكورة، أي: كنا ذوي مذاهب مختلفة.
قال الحسن: الجن أمثالكم، منهم قَدَرية ومرْجئة (2) ورافضة وشيعة (3) .
وقال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين (4) .
والطَّرائق: جمع طريقة، والقِدَد: جمع قِدَّة، وهي القطعة، وأنشد ابن عباس رضي الله عنهما:
ولقدْ قُلْتُ وزيدٌ حَاسِرٌ ... ... يومَ ولَّتْ خيلُ زيدٍ قِدَدا (5)
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/406).
(2) ... الإرجاء على معنيين: أحدهما: بمعنى التأخير. والثاني: إعطاء الرجاء، أما إطلاق اسم المرجئة بالمعنى الأول فهو صحيح لأنهم كانوا يأخرون العمل على النية. والمرجئة أصناف أربعة مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة. (انظر: الملل والنحل 1/125).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/366)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/380).
(4) ... أخرجه الطبري (29/112). وذكره السيوطي في الدر (8/304) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... انظر البيت في: الدر المنثور (8/304).(1/395)
وفيه إضمار، تقديره: ذوي طرائق أو في [طرائق] (1) .
$¯Rr&ur ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ
__________
(1) ... في الأصل: طريق. والتصويب من ب.(1/396)
حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا اتذب
قوله تعالى: { وأنا ظننا } أي: أيقنا { أن لن نعجز الله في الأرض } أي: لن نفوته طلباً إذا طلبنا، { ولن نعجزه هرباً } .
قال الزمخشري (1) : قوله: "في الأرض"، "هرباً": حالان، أي: لن نعجزه كائنين في الأرض، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وهذه صفات أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم.
قوله تعالى: { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } أي: لما سمعنا القرآن صدّقنا أنه من عند الله، { فمن يؤمن بربه فلا يخاف } أي: فهو لا يخاف، ولولا تقدير هذا المبتدأ لكان وجه الكلام: لا [تخف] (2) .
__________
(1) ... الكشاف (4/629).
(2) ... في الأصل: تخاف. والمثبت من ب.(1/397)
{ بخساً } نقصاناً من ثواب عمله، { ولا رهقاً } ظلماً ومكروهاً يغشاه.
قوله تعالى: { ومنا القاسطون } أي: الجائرون الظالمون بالكفر. يقال: قَسَطَ: إذا جار، فهو قاسط. وأقسط: إذا عدل، فهو مُقسط (1) .
{ فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشداً } قال الفراء (2) : أَمُّوا الهدى.
وقال غيرُه: تحرّوا: توخّوا وقصدوا الحق.
{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } أي: وقوداً للنار.
ويروى: أن الحجاج [قال] (3) لسعيد بن جبير حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه وصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالماً مشركاً، وتلا لهم قوله تعالى: { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } ، وقوله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } (4) [الأنعام:1].
{ وأن لو استقاموا على الطريقة } قال صاحب الكشاف (5) : "أنْ" مخففة من الثقيلة، فهو من جملة [الموحى. والمعنى] (6) : وأوحي إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى، أي: [لو] (7) ثبت أبوهم الجانّ
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: قسط).
(2) ... معاني الفراء (3/193).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/630)، والمناوي في: فيض القدير (2/472).
(5) ... الكشاف (4/630-631).
(6) ... في الأصل و ب: الوحي المعنى، والمثبت من الكشاف (4/630).
(7) ... زيادة من ب، والكشاف (4/630).(1/398)
على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر، وتبعه ولده على الإسلام، { لأسقيناهم ماء غدقاً } . ويجوز أن يكون معناه: وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع، ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام، لوسّعنا عليهم الرزق مستدرجِين لهم.
وقال مقاتل (1) وجمهور المفسرين: هذا إخبار عن أهل مكة. المعنى: وأن لو استقاموا على طريقة الهدى.
وذهب قوم: إلى أن المراد بها: طريقة الكفر. وهو قول محمد بن كعب والربيع والفراء وابن قتيبة (2) .
فعلى الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسّعنا عليهم { لنفتنهم } لنختبرهم فننظر كيف شكرهم.
وعلى الثاني يكون المعنى: وأن لو استقاموا على طريقتهم في الكفر لوسّعنا عليهم لنوقعهم في الفتنة.
والماء الغَدَق: الكثير، وإنما ذُكر لأن عامة الخير والرزق [به] (3) .
وقيل: المعنى: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم كقوم نوح.
وليس هذا القول بشيء.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/407).
(2) ... معاني الفراء (3/193)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:490). وذكره الماوردي (6/116)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/381).
(3) ... في الأصل: منه، والمثبت من ب.(1/399)
قوله تعالى: { نَسْلُكْهُ } وقرأ أهل الكوفة: "يَسْلُكْهُ" بالياء (1) { عذاباً } أي: في عذاب، إما بتقدير حذف الجار، وإما لكون "نسلكه" في معنى: ندخله { صَعَداً } شاقاً.
والمعنى: ذا صعود.
وجاء في التفسير: أنه جبل في النار يكلّف صعوده. وسنذكره إن شاء الله عند قوله: { سأرهقه صَعُوداً } [المدثر:17].
¨br&ur الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/69)، والحجة لابن زنجلة (ص:729)، والكشف (2/342)، والنشر (2/392)، والإتحاف (ص:425)، والسبعة (ص:656).(1/400)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
قوله تعالى: { وأن المساجد لله } اتفق القُرَّاء على فتح الهمزة هاهنا، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون من جملة الموحى.
والثاني: أن يكون المعنى: ولأن المساجد لله { فلا تدعوا } . فتكون اللام متعلقة: بـ"لا تدعوا". على معنى: فلا تدعوا { مع الله أحداً } في المساجد؛ لأنها لله خالصة. ومثله: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } [المؤمنون:52]، أي: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، أي: لهذا فاتقون. وهذا مذهب الخليل.(1/401)
قال أبو علي (1) : ويجوز أيضاً في غير هذا الحرف مما قُرئ بالفتح أن يحمل على هذا التأويل إذا كان مما يليق به.
وفي معنى المساجد أربعة أقوال:
أحدها: أنها المساجد المعهودة. قاله ابن عباس (2) .
قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسَهم وبِيَعَهُم أشركوا بالله، [فأمر الله] (3) عز وجل المسلمين أن يخلصوا له الدعاء إذا دخلوا مساجدهم (4) .
الثاني: أنها الأعضاء السبعة التي يَسجد عليها العبد. قاله سعيد بن جبير (5) . على معنى: أنها لله خلقاً وملكاً، فلا يُذللها لغيره جل وعلا.
وهي على التفسير الأول: جمع مَسْجِد، بكسر الجيم. وعلى الثاني: جمع مَسْجَد، بفتح الجيم.
الثالث: أن المراد بالمساجد: البقاع كلها. قاله الحسن (6) . على معنى: أن الأرضَ كلَّها مواضعُ للسجود، وهي كلها لله فلا تعبدوا عليها غيره.
الرابع: أن المساجد: السجود. يقال: سَجدتُ سُجُوداً ومَسْجَداً -بفتح الجيم-
__________
(1) ... انظر: الحجة (4/69).
(2) ... ذكره الماوردي (6/119)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/382).
(3) ... زيادة من ب، ومصادر التخريج.
(4) ... أخرجه الطبري (29/117). وذكره السيوطي في الدر (8/306) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/382).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/383).(1/402)
، كما يقال: ضربت في الأرض ضَرْباً ومَضْرَباً، ثم يُجمع [فيقال] (1) : المساجد والمضارب. قاله ابن قتيبة (2) .
فيكون المعنى: وأن السجود لله مختصٌ به لا يُشارَكُ فيه، فلا تعبدوا (3) غيره.
قوله تعالى: { وأنه } من جملة المُوحَى أيضاً { لما قام عبد الله } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - { يدعوه } يصلي ببطن نخلة، على ما ذكرناه في الأحقاف (4) ، { كادوا } يعني: الجن { يكونون عليه لِبَداً } يَركبُ بعضهم بعضاً، حرصاً على سماع القرآن (5) .
وقيل: هو من قول الجن حين رجعوا إلى قومهم، [فوصفوا] (6) لهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما رأوا من ائتمامهم به في الركوع والسجود والقيام. والقولان عن ابن عباس (7) .
وقال الحسن وقتادة: المعنى: لما قام عبدُالله يدعو الله [أي] (8) : يعبده ويوحده ويدعو إليه، كاد الإنس والجن يكونون عليه لبداً، ليبطلوا الحق الذي
__________
(1) ... في الأصل: ويقال. والمثبت من ب، وتفسير غريب القرآن (ص:491).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:491).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: به.
(4) ... عند الآية رقم: 29.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/383) من رواية عطية عن ابن عباس.
(6) ... في الأصل و ب: وصفوا. والمثبت من زاد المسير (8/383).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/383-384).
(8) ... زيادة يقتضيها السياق.(1/403)
جاء به (1) .
وقرأ هشام عن ابن عامر: "لُبَداً" بضم اللام (2) .
قال الفراء (3) : ومعنى القراءتين واحد، يقال: لُبَدَة ولِبَدة.
وقال غيره: لُبَداً: جمع لُبْدَة، وهي ما يلبد بعضه على بعض، ومنها: لِبْدَة الأسد.
قال الزجاج (4) : معنى "لُبَداً": يَركبُ بعضهم بعضاً، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبّدته، ومن هذا اشتقاق هذه اللُّبود التي [تُفْرَش] (5) .
وقرأ جماعة، منهم: عاصم الجحدري: "لُبَّداً" بضم اللام وتشديد الباء (6) .
قال الزجاج (7) : هو جمع لاَبِدٌ [ولُبَّد] (8) ، مثل: راكِعٌ ورُكَّع.
{ قال إنما أدعو ربي } وقرأ عاصم وحمزة: "قُلْ" على الأمر (9) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/384).
(2) ... الحجة للفارسي (4/70)، والحجة لابن زنجلة (ص:729)، والكشف (2/342)، والنشر (2/392)، والإتحاف (ص:425)، والسبعة (ص:656).
(3) ... معاني الفراء (3/194).
(4) ... معاني الزجاج (5/237).
(5) ... في الأصل: تفترش. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/383)، والدر المصون (6/396).
(7) ... معاني الزجاج (5/237).
(8) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(9) ... الحجة للفارسي (4/70)، والحجة لابن زنجلة (ص:729)، والكشف (2/342)، والنشر (2/392)، والإتحاف (ص:426)، والسبعة (ص:657).(1/404)
قال مقاتل (1) : إن كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك جئت بأمر عظيم لم يُسمع بمثله فارجع عنه، فأنزل الله: { قل إنما أدعو ربي } .
ومن قرأ "قال" حَمل هذا على [أن] (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم بهذا.
{ قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } أي: لا أقدر لكم على ضر ولا نفع.
وقيل: المراد بالضر: الغي.
وفي قراءة أبيّ بن كعب: "لا أملك لكم غياً ولا رشداً" (3) .
وقيل: المعنى: لا أقدر على دفع ضر عنكم، ولا على جلب رشد لكم.
{ قل إني لن يجيرني من الله أحد } قال المفسرون: كان المشركون قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اُترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك (4) ، فأنزل الله تعالى: { قل إني لن يجيرني من الله أحد } أي: لن يمنعني منه أحد إن عصيته، { ولن أجد من دونه ملتحداً } ملتجأً. وقد ذكرناه في الكهف (5) .
قوله تعالى: { إلا بلاغاً من الله ورسالاته } استثناء من قوله: { لا أملك لكم ضراً } .
المعنى: لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وما بينهما جملة اعتراضية.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/407).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/633).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/368)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/384).
(5) ... عند الآية رقم: 27.(1/405)
وقال الزجاج (1) : "إلا بلاغاً" بدلٌ من قوله: "ملتحداً". المعنى: ولن أجد من دونه منجىً إلا بلاغاً، أي: لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلتُ به.
وقال غيره: "إلا" هي "إن لا"، ومعناه: إن لا أبلغ بلاغاً، كقولك: إن لا قياماً فقعوداً.
"ورسالاته" عطف على "بلاغاً"، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، و"من" ليست بصلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة "مِنْ" في قوله: { براءة من الله } [التوبة:1].
المعنى: بلاغاً كائناً من الله.
#س¨Lym إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/237).(1/406)
أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا اثرب
قوله تعالى: { حتى إذا رأوا } يعني: كفار قريش { ما يوعدون } من العذاب في الدنيا والآخرة { فسيعلمون } حينئذ { من أضعف ناصراً وأقل عدداً } جنداً أهم أم المؤمنون.
فلما سمع ذلك النضر بن الحارث قال: متى هذا الذي تُوعدنا؟ فأنزل الله: { قل إن أدري } أي: ما أدري { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } غاية بعيدة. هذا قول جمهور المفسرين.
وقال بعض المحققين (1) : الأمد يكون قريباً وبعيداً، ألا ترى إلى قوله:
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/634).(1/407)
{ تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً } [آل عمران:30].
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حال [متوقع] (1) في كل ساعة، أو هو مؤجل ضربت له غاية (2) .
قوله تعالى: { عالم الغيب } أي: هو عالم الغيب، [أو هو] (3) نعت لـ"ربي". والمعنى: عالم ما غاب عن العباد، { فلا يظهر على غيبه أحداً } من خلقه.
{ إلا من ارتضى من رسول } أي: إلا المرتضى المخصوص بالرسالة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه.
وفي هذا إبطال لأمر النجوم، وما يدّعي أصحابها من علم ما غاب عن العباد بالنظر فيها.
قال العلماء بالتفسير: من ادّعى أن النجوم تدلُّه على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن.
{ فإنه يسلك من بين يديه } أي: من بين يدي من ارتضاه لرسالته، { ومن خلفه رصداً } حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويحرسونه من الوساوس؛ لئلا يُلبِّسوا عليه، حتى يُبلّغ ما أوحي إليه على الوجه الصحيح.
قال الضحاك: ما بُعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن
__________
(1) ... في الأصل: مستوقع. والتصويب من ب، والكشاف (4/634).
(2) ... في ب: أو مؤجل له غاية.
(3) ... في الأصل: وهو. والتصويب من ب.(1/408)
يتشبّهوا بصورة المَلَك (1) .
وقال السدي: يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا إنه من عند الله، وما كان ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان (2) .
قوله تعالى: { ليعلم } قال الزجاج (3) : أي: ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالاته. وما بعده يدل على هذا، وهو قوله: { وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } .
وقال ابن قتيبة (4) : ليعلم الله ذلك موجوداً.
وقال قتادة: ليعلم [محمد] (5) - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا (6) .
وقال سعيد بن جبير: ليعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل بلغ إليه رسالة ربه (7) .
وقرأ يعقوب من رواية رويس: "لِيُعْلَمَ" بضم الياء (8) ، وهي قراءة ابن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/122). وذكره السيوطي في الدر (8/309-310) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... ذكره الماوردي (6/122).
(3) ... معاني الزجاج (5/238).
(4) ... تأويل مشكل القرآن (ص:434).
(5) ... في الأصل: محمداً. والتصويب من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (29/123). وذكره السيوطي في الدر (8/310) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(7) ... أخرجه الطبري (29/123)، وابن أبي حاتم (10/3378).
(8) ... النشر (2/392)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:426).(1/409)
عباس، على معنى: ليعلم الناس.
قال ابن قتيبة (1) : تُقرأ: "لتَعلم" بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل [قد] (2) بلَّغت لا هُم بما رجوا من استراق السمع.
{ وأحاط بما لديهم } أي: بما عند الرسل من الحِكَم والشرائع { وأحصى كل شيء } من الرمل والقطر وورق الأشجار وغيرها { عدداً } المعنى: فكيف لا يُحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه.
و"عدداً" حال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً.
وقال الزجاج (3) : يجوز أن يكون عدداً في موضع المصدر المحمول (4) ، على معنى: وأحصى، أي: وَعَدَّ كل شيء [عدداً] (5) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:492).
(2) ... زيادة من ب، وتفسير غريب القرآن (ص:492).
(3) ... معاني الزجاج (5/238).
(4) ... انظر: التبيان (2/271)، والدر المصون (6/400).
(5) ... في الأصل: عداً. والمثبت من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/410)
سورة المزمل - صلى الله عليه وسلم -
ijk
وهي ثماني عشرة آية في المدني، وعشرون بالكوفي (1) .
وهي مكية إلا قوله: { إن ربك يعلم أنك تقوم... } إلى آخر السورة (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:257).
(2) ... انظر الإتقان (1/54)، وزاد المسير (8/387).
... قال السيوطي في الإتقان: ويرده: ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنه نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس.(1/411)
أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ازب
قال الله تعالى: { يا أيها المزمل } قرأ الأكثرون: "المزّمل" بإدغام التاء في الزاي؛ لقربها منها.
وقرأ جماعة، منهم: أبي بن كعب، والأعمش: "المتزمّل" بإظهار التاء على الأصل (1) .
وقرأ عكرمة: "المُزَمِّل" بحذف التاء وتخفيف الزاي (2) ، على معنى: يا أيها المزَمّل نفسه.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/388)، والدر المصون (6/401).
(2) ... مثل السابق.(1/412)
والمزّمّل: هو الذي تَزَّمَّلَ في ثيابه، أي: تَلَفَّفَ فيها.
قال أبو [عبدالله] (1) الجدلي (2) : سألت عائشة رضي الله عنها عن قوله عز وجل: { يا أيها المزمل } ما كان تزميله ذلك؟ قالت: كان مِرْطاً، طولُه أربع عشرة ذراعاً، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. قال أبو عبدالله: فسألتها: ما كان؟ [فقالت: والله ما كان] (3) خَزّاً ولا قَزّاً ولا مِرْعِزَّى (4) ولا إبريسم [ولا صوفاً] (5) ، كان سَداهُ شَعْراً ولحُمته وَبَراً (6) .
[وقال] (7) السدي: كان قد تزمّل للنوم (8) .
وقال مقاتل (9) : خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: "يا أيها المزمل".
__________
(1) ... في الأصل: أبو عبيد الله. والمثبت من ب. وكذا وردت في الموضع التالي.
(2) ... أبو عبد الله الجدلي الكوفي، اسمه: عبد بن عبد، وقيل: عبد الرحمن بن عبد. ثقة رُمي بالتشيع (تهذيب التهذيب 12/165، والتقريب ص:654).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... المِرْعِزَّى: الليّن من الصوف (اللسان، مادة: رعز).
(5) ... في الأصل: وصوفا. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره الثعلبي (10/58).
(7) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.
(8) ذكره الواحدي في الوسيط (4/371)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/388).
(9) تفسير مقاتل (3/409).(1/413)
وقال ابن عباس: يا أيها المزمل بالقرآن (1) .
وقال عكرمة: يا أيها المزمل بالنبوة (2) .
فإن قيل: ما الحكمة في ندائه هاهنا بالمزمل دون النبي والرسول؟
قلتُ: لأن هذه الآية من أول ما خُوطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رسخ قدمه في النبوة والرسالة، فُخِّمَ وعُظِّمَ بالخطاب المنوّه بهما.
{ قم الليل إلا قليلاً } يعني: قُمْهُ مصلِّياً.
قال المفسرون: كان قيام الليل فرضاً عليه.
وتقديره: قم الليل نصفه إلا قليلاً. فـ"نصفه" بدل من "الليل" (3) ، كما تقول: ضربت زيداً رأسه.
و"قليلاً": استثناء منه، قدّم المستثنى على المستثنى منه، والضمير في "منه" و"عليه" للنصف (4) .
والمعنى: التخيير بين أمرين، وهما القيام أقلّ من نصف الليل على البَتِّ والقطع، [أو اختيار] (5) أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. ويجوز أن يكون "نصفه" بدلاً من "قليلاً" (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/125).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر: التبيان (2/271)، والدر المصون (6/401).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... في الأصل: واختيار. والتصويب من ب.
(6) ... انظر: التبيان (2/271)، والدر المصون (6/402).(1/414)
{ ورتل القرآن ترتيلاً } قال ابن عباس: بيّنه تبييناً (1) .
قال الزجاج (2) : البيانُ لا يتم بأن تَعْجَلَ في القراءة، وإنما يتم التبيين بأن تُبَيِّنَ جميعَ الحروف وتُوفّي حقها من الإشباع.
قال أبو [جمرة] (3) : قلت لابن عباس: إني رجل في قراءتي وفي كلامي عَجَلَة، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة البقرة أُرتِّلها أحبّ إليّ من أقرأ القرآن كله (4) .
وسُئلت عائشة عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت: لا كَسَرْدِكُم هذا، لو أراد السامعُ أن يَعُدَّ حروفه لعدّها (5) .
وقال عمر رضي الله عنه: شَرُّ السَّيْر: الحَقْحَقَة، وشَرُّ القراءة: الهَذْرَمَة (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/127)، وابن أبي حاتم (10/3380)، وابن أبي شيبة (2/255 ح8725، 6/141 ح30158). وذكره السيوطي في الدر (8/313) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن منيع في مسنده ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... معاني الزجاج (5/240).
(3) ... في الأصل: حمزة. وهو خطأ. والتصويب من ب. وأبو جمرة هو: نصر بن عمران. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (5/243)، وتهذيب التهذيب (10/385).
(4) ... أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (2/489 ح4187)، وابن المبارك في الزهد (ص:420).
(5) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/638).
(6) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/638).
... والحقحقة: شدّة السَّيْر (اللسان، مادة: حقق).
... والهذرمة: السُّرْعَة في القراءة (اللسان، مادة: هذرم).(1/415)
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن [عمرو] (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتِّل كما كنت تُرَتِّلُ في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها" (2) .
فصل
قال أهل التفسير: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وطائفة من المؤمنين يقومون من الليل على نحو هذه المقادير، وشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لموضع احتياطهم وخوفهم من فوات القدر الواجب، فكانوا يقومون الليل كله، حتى خفّف الله عنهم، فأنزل آخر السورة: { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } .
قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت: ألست تقرأ: { يا أيها المزمل } ؟ قلت: بلى، قالت: فإن [الله] (3) افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثنا عشر شهراً في السماء، حتى أتى أمرُ الله في آخر هذه السورة بالتخفيف، فصار قيامُ الليل تطوعاً بعد [فريضة] (4) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أن الله تعالى نسخ فرضيّة قيام الليل في
__________
(1) ... في الأصل: عمر. والتصويب من ب، والمسند (2/192).
(2) ... أخرجه أحمد (2/192 ح6799).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: فرضه. والتصويب من ب، والصحيح. والحديث أخرجه مسلم (1/513 ح746).(1/416)
حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [الإسراء:79]، وفي حق المؤمنين بالصلوات الخمس.
وقال [قوم] (1) : نُسخ في حق الأمة وبقي فرضاً عليه - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى: { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } يريد: القرآن.
وفي معنى ثقله خمسة أقوال:
أحدها: ما كان يجده النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي عليه.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها "أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو [أشدّه] (2) عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي المَلَكُ رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقاً" (3) . هذا حديث متفق على صحته، وأخرجه مسلم عن أبي بكر عن أبي أسامة عن هشام.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول لعمر
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: أشد. والتصويب من الصحيح ومن ب.
(3) ... أخرجه البخاري (1/4 ح2)، ومسلم (4/1816 ح2333).(1/417)
رضي الله عنه: "ليتني أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي، فلما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة جاءه رجل فسأله عن شيء، فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو [مُحْمَرٌّ] (1) يَغِطُّ كذلك ساعة، ثم سُرِّيَ عنه" (2) .
وفي حديث زيد بن ثابت [قال] (3) : "إني لقاعد إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أوحي إليه وغشيَتْه السكينةُ، ووقع فخذه على فخذي، فلا والله ما وجدتُ شيئاً قط أثقل من فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (4) . وقد ذكرنا الحديث في سورة النساء عند قوله: { لا يستوي القاعدون } [النساء:95].
وقال أبو أروى الدوسي: "رأيت الوحي ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه على راحلته، حتى أظن أن ذراعها ينقصم، فربما بركت وربما قامت مُوتِدة يديها، حتى يُسَرَّى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدر عنه مثل [الجمان] (5) " (6) .
وقالت عائشة رضي الله عنها: إن كان ليوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحلته فتضرب بِجِرَانِها (7) .
وقال عبادة بن الصامت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي كَرِبَ له، وتربّد وجهه (8) .
القول الثاني: أن المراد بثقله: مشاقُّ تكاليفه.
قال قتادة: [ثقيلٌ] (9) والله! فرائضُه وحدودُه (10) .
وقال الحسن: إن الرجل ليَهُذُّ (11) السورة، ولكن العمل به ثقيل (12) .
الثالث: أنه يثقل (13) في الميزان يوم القيامة. قاله ابن زيد (14) .
الرابع: أن معنى ثقله: رصانة ألفاظه ومبانيه، وصحة معانيه، كما تقول: هذا قولٌ له وزن؛ إذا استجدّته.
قال الزجاج (15) : معناه: أنه له وزنٌ في صحته وبيانه ونفعه.
قال الفراء (16) : ليس بالخفيف ولا بالسفساف؛ لأنه كلام الرب عز وجل.
الخامس: أنه مهيب، [كما] (17) يقال للرجل العاقل: رزين راجح. قاله
__________
(1) ... في الأصل: محمد - صلى الله عليه وسلم - . والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1573 ح4074)، ومسلم (2/837 ح1180).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه أبو داود (3/11 ح2507).
(5) ... في الأصل: الجمانة. والتصويب من ب، والطبقات الكبرى (1/197). ...
(6) ... ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/197).
(7) ... أخرجه أحمد (6/118 ح24912).
(8) ... أخرجه مسلم (4/1817 ح2334).
(9) ... في الأصل: تثقل. والمثبت من ب.
(10) ... أخرجه الطبري (29/127). وذكره السيوطي في الدر (8/315) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر.
(11) ... الهذّ: سرعة القطع، تقول: تهذ القرآن هذّاً فتسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر (النهاية في غريب الحديث 5/254).
(12) ... أخرجه الطبري (29/127).
(13) ... في ب: ثقيل.
(14) ... أخرجه الطبري (29/127).
(15) ... معاني الزجاج (5/240).
(16) ... معاني الفراء (3/197).
(17) ... زيادة من ب.(1/418)
عبد العزيز بن يحيى (1) .
قوله تعالى: { إن ناشئة الليل } يعني: ساعاته.
قال المفسرون واللغويون: الليل كله ناشئة.
قال الزجاج (2) : كل ما نشأ منه، أي: كل ما حدث منه فهو ناشئة.
قال أبو علي الفارسي (3) : كأنّ المعنى: إن صلاة ناشئة الليل أو عمل ناشئة الليل.
قالت عائشة رضي الله عنها: الناشئة: القيام بعد النوم (4) . وإلى هذا المعنى ذهب الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية المروذي عنه.
وقال أنس بن مالك: هي ما بين المغرب والعشاء (5) .
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: هي بعد العشاء (6) .
وقال عكرمة: ما قمتَ من أول الليل فهو ناشئة (7) .
وقال يمان وابن كيسان: هي القيام من آخر الليل (8) .
قال صاحب الكشاف (9) : "ناشئة الليل": هي النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع، من نشأتِ السحابةُ؛ إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه؛ إذا نهض، قال:
نَشَأنا إلى [خُوصٍ بَرَى] (10) نَيَّهَا السُّرَى ... وألصقَ منها مُشْرِفَاتِ المقَاحِد (11)
قلت: [الخَوْصُ] (12) : ضِيقُ العين وغُؤُورُها (13) ، والنيّ: الشحم، والمقَاحِد: جمع مِقْحَاد، وهي الناقة الضخمة السنام، والقَحَدَة: أصل السنام (14) .
قال (15) : أو قيام الليل، على [أن] (16) الناشئة مصدر من نشأ؛ إذا قام
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/390).
(2) ... معاني الزجاج (5/240).
(3) ... الحجة للفارسي (4/71).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/373)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/391).
(5) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (3/20 ح4529)، وابن أبي شيبة (2/15 ح5926). وذكره السيوطي في الدر (8/317) وعزاه لابن أبي شيبة في المصنف وابن نصر والبيهقي في سننه.
(6) ... أخرجه الطبري (29/128، 129)، والبيهقي في الكبرى (3/20 ح4531). وذكره السيوطي في الدر (8/316-317) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد وابن نصر والبيهقي في سننه. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن نصر.
(7) ... ذكره الماوردي (6/127)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/391).
(8) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/391).
(9) ... الكشاف (4/639).
(10) ... في الأصل: حوض يرى. والمثبت من ب.
(11) ... انظر البيت في: الكشاف (4/639)، والبحر (8/354)، والدر المصون (6/404)، وروح المعاني (29/105).
(12) ... في الأصل: الحوص. والتصويب من ب.
(13) ... في ب: وعوورها.
(14) ... انظر: الصحاح للجوهري (2/521-522).
(15) أي: الزمخشري في الكشاف.
(16) زيادة من ب، والكشاف (4/639).(1/419)
ونهض، على فاعلة؛ كالعافية. ويدل عليه قول عائشة رضي الله عنها، وقد ذكرته.
{ هي أشد وَطْأً } قرأ ابن عامر وأبو عمرو: "وِطَاءً" بكسر الواو وفتح الطاء والمد. وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطاء من غير مد (1) .
فالقراءة الأولى مصدر [وَاطَأ] (2) يُواطِئُ وِطَاءً، مثل: قَاتَلَ يُقاتِلُ قِتَالاً.
والمعنى: إن ناشئةَ الليل هي خاصةً دون ناشئة النهار أشدُّ مواطأة يواطئ [قلبها] (3) لسانها؛ إن أردت النفس، أو يواطئ فيها [قلب] (4) القائم لسانه؛ إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات.
وقال الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية، لانقطاع رؤية الخلائق (5) .
قال ابن قتيبة وأبو علي وغيرهما (6) : من قرأ: "وَطْأً" على فَعْل، فالمعنى: أنه أشقّ على الإنسان من القيام بالنهار؛ لأن الليل للدَّعَة والسكون، ومنه الحديث: "اللهم اشْدُد وطأتك على مضر" (7) .
{ وأَقْوَمُ قيلاً } أسدُّ مقالاً وأصحُّ قراءة؛ لهُدُوّ الأصوات، وسكون
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/71)، والحجة لابن زنجلة (ص:730)، والكشف (2/344)، والنشر (2/392-393)، والإتحاف (ص:426)، والسبعة (ص:658).
(2) ... في الأصل: وطأ. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: قبلها. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: قبل. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/639).
(6) ... الحجة للفارسي (4/71)، وتأويل مشكل القرآن (ص:365).
(7) ... أخرجه البخاري (1/341 ح961)، ومسلم (1/466 ح675).(1/421)
القلوب، وعدم الشواغل.
وفي قراءة أنس: "وأصوب قيلاً" (1) .
قوله تعالى: { إن لك في النهار سبحاً طويلاً } قال ابن عباس: فراغاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك (2) .
وقال غيره: السَّبْح: سرعة الذهاب، ومنه: السباحة في الماء، وفرس سابح، أي: شديد الجَرْي (3) .
فالمعنى: إن لك في النهار تصرفاً وتقلُّباً في مُهمّاتك وحوائجك.
قال الواحدي (4) : السَّبْحُ: التَّقَلُّبُ، ومنه: السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه (5) .
وقرأ جماعة، منهم: ابن مسعود، وابن يعمر، وأبو عمران: "سَبْخاً" بالخاء المعجمة (6) .
قال الزجاج (7) : معناه قريب من معنى السَّبْح.
قال غيره: أراد خفّةً [وَسَعَةً] (8) واستراحة، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/405)، والكشاف (4/640).
(2) ... ذكره الماوردي (6/127)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/392).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: سبح).
(4) ... الوسيط (4/374).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: سبح).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/392)، والدر المصون (6/405).
(7) ... معاني الزجاج (5/241).
(8) ... في الأصل: وسرعة. والمثبت من ب.(1/422)
وقد دَعَتْ على سارق سرقها: "لا تُسبّخي بدعائك عليه، أي: لا تخفّفي" (1) .
والتَّسْبِيخ: توسيع القطن والصوف ونفشهما، يقال للمرأة: سَبِّخي قطنك، ويقال لقطع القطن إذا نُدف: سبائخ (2) .
قال الأخطل يصف القناصَ والكلاب:
فَأرْسَلوهُنَّ يُذْرينَ الترابَ كَمَا ... يُذْرِي سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ (3)
قال ثعلب: ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الحمّى من فيح جهنم فسبّخوها بالماء" (4) .
قوله تعالى: { وتبتل إليه تبتيلاً } أي: انقطع إلى الله في العبادة، ومنه قيل لمريم: البَتُول.
والمعنى: بتّل نفسك. وعليه جاء المصدر مراعاة للفواصل.
قوله تعالى: { رب المشرق والمغرب } قرأ ابن عامر ويعقوب وأهل الكوفة إلا حفصاً: "ربِّ" بالجر على البدل من "ربك".
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (2/80 ح1497).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: سبخ).
(3) ... البيت للأخطل. انظر: ديوانه (ص:140)، واللسان (مادة: سبخ)، والطبري (29/132)، والقرطبي (19/43)، والبحر (8/355)، والدر المصون (6/405)، وروح المعاني (29/106)، وتاج العروس (مادة: سبخ، ندف)، والعين (4/204).
(4) ... ذكره بهذا اللفظ: القرطبي (19/43). وأصل الحديث أخرجه البخاري (3/1191 ح3091)، ومسلم (4/1731 ح2209) من حديث ابن عمر ولفظهما: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء".(1/424)
وقرأ الباقون من العشرة: "ربُّ" بالرفع على المدح (1) . أو هو مبتدأ، خبره: { لا إله إلا هو } (2) . وقد سبق تفسيره.
÷ژة9ô¹$#ur عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/72)، والحجة لابن زنجلة (ص:731)، والكشف (2/345)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:426)، والسبعة (ص:658).
(2) ... انظر: التبيان (2/271)، والدر المصون (6/406).(1/425)
مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا اتزب
قوله تعالى: { واصبر على ما يقولون } أي: على ما يقولون من التكذيب والأذى، { واهجرهم هجراً جميلاً } لا جزع فيه، وهذا قبل الأمر بالقتال.(1/426)
{ وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة } أي: أولي التنعّم.
المعنى: لا تهتم بهم فإني أكفيك أمرهم.
قالت عائشة رضي الله [عنها] (1) : لما نزلت: { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } لم يكن إلا يسيراً حتى كانت وقعة بدر (2) .
قوله تعالى: { إن لدينا أنكالاً } وهي القيود، واحدها: نَكْل.
قال الكلبي: أغلالاً من حديد (3) .
وقال أبو عمران الجوني: قيودٌ لا تُحلّ (4) .
{ وجحيماً * وطعاماً ذا غصة } لا يسوغ في الحلق.
قال ابن عباس: هو شوك يأخذ [بالحلق] (5) فلا يدخل فيه ولا يخرج (6) .
وقال [مقاتل] (7) : هو الزقوم.
__________
(1) ... في الأصل: عنهما. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه الحاكم (4/636 ح8757) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والطبري (29/134)، وأبو يعلى في مسنده (8/56 ح4578). وذكره السيوطي في الدر (8/318) وعزاه لأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.
(3) ... ذكره الماوردي (6/130)، والواحدي في الوسيط (4/375).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/375)، والسيوطي في الدر (8/319) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... في الأصل و ب: الحلق. والمثبت من مصادر التخريج.
(6) ... أخرجه الحاكم (2/549 ح3867)، والطبري (29/135)، وابن أبي الدنيا في صفة النار (ص:91). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/319) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة النار وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث.
(7) ... زيادة من ب. وانظر: تفسير مقاتل (3/410).(1/427)
وقال الزجاج (1) : هو الضريع.
أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره، عن وكيع، عن حمزة الزيات، عن حمران بن أعين، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع قارئاً قرأ: { إن لدينا أنكالاً وجحيماً } فصعق (2) .
قرأتُ على الشيخ أبي عبدالله أحمد بن محمد بن طلحة البغدادي بالموصل، أخبركم أبو القاسم يحيى بن أسعد فأقر به، أخبرنا أبو طالب ابن يوسف، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب، حدثنا أبو بكر (3) أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، حدثنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يونس، وحدثنا صالح، عن خليد بن حسان (4) ، قال: أمسى الحسن صائماً، فجئناه بطعامه عند إفطاره، فلما قُرّب إليه عرضت له هذه الآية: { إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً } فتقلَّصت يده عنه، فقال: ارفعوه، فرفعناه. قال: فأصبح صائماً، فلما أراد أن يفطر ذكر الآية
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/242).
(2) ... أخرجه الطبري (29/135)، وابن أبي حاتم (10/3380)، وأحمد في الزهد (ص:36)، وهناد في الزهد (1/180 ح267)، والبيهقي في الشعب (1/522 ح917). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/319) وعزاه لأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد ومحمد بن نصر.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: بن. وهو وهم.
(4) ... خليد بن حسان، أبو حسان البحري العصري، سكن بخارى. يروي عن الحسن، روى عنه خازم بن خزيمة، يخطىء ويهم (الثقات 6/271).(1/428)
ففعل ذلك أيضاً، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكّاء وأناسٍ من أصحاب الحسن فقال: أدركوا أبي فإنه لم يذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه الطعام ذكر هذه الآية: { إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصة } فتركه، قال: فأتوه، فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق (1) .
قوله تعالى: { يوم ترجف } قال الزجاج (2) : "يومَ" منصوب بقوله: "إن لدينا أنكالاً" أي: نُنَكِّل بالكافرين ونعذّبهم يوم ترجف { الأرض والجبال } ، أي: تُزلزل وتُحرّك.
{ وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } قال الفراء (3) : الكثيب: الرمل، والمهيل: الذي تُحرّك أسفله فينهال عليك من أعلاه.
وما بعده ظاهر أو مُفسّر إلى قوله تعالى: { أخذاً وبيلاً } أي: ثقيلاً، ومنه: الوَابِلُ والوَبِيلُ: العصا الضخمة (4) .
قوله تعالى: { يوماً } مفعول به (5) ، أي: فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وعذابه إن بقيتم على كفركم؟.
ويجوز أن يكون ظرفاً، على معنى: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة
__________
(1) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:346).
(2) ... معاني الزجاج (5/242).
(3) ... معاني الفراء (3/198).
(4) ... انظر: (اللسان، مادة: وبل).
(5) ... انظر: التبيان (2/272)، والدر المصون (6/408).(1/429)
إن كفرتم في الدنيا.
وقرأت من بعض طرق حفص: "تتقونِ" بكسر النون (1) ، فيكون "يوماً" نصباً على الظرف، على ما ذكرنا، أو مفعولاً لـ"كفرتم" (2) ، على معنى: جحدتم يوماً، أي: كيف تتقون وتخشون إن جحدتم يوم القيامة، والمجازاة على الأعمال؛ لأن تقوى الله خوف عقابه.
ثم نبّه على أهوال ذلك اليوم وشدائده بقوله: { يجعل الولدان } أي: الأطفال الذين لم يتلبّسوا بالإجرام ولم يتدنّسوا بالآثام { شيباً } .
وقرأ أبي بن كعب وأبو عمران: "نجعل" بالنون (3) .
ثم بالغ في وصف أهواله فقال: { السماء مُنفطرٌ به } يعني: لنزول الملائكة، كقوله تعالى: { إذا السماء انفطرت } [الانفطار:1].
قال ابن قتيبة (4) : المعنى: السماء مُنشقٌّ به، أي فيه، يعني: في ذلك اليوم.
وقال غيره (5) : الباء في "به" مثلها في قولك: فطرتُ العود بالقدوم فانفطر به، يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما يُفطر به.
قال الفراء (6) : السماء تذكّر وتؤنّث، وأنشد:
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: القرطبي (19/50).
(2) ... في الأصل: كفرتم. والتصويب من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/394)، والدر المصون (6/408).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:494).
(5) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/643).
(6) ... معاني الفراء (3/199).(1/430)
فلو رَفَعَ السماءُ إليهِ قَوْماً ... ... لَحِقْنا بالسماءِ معَ السحاب (1)
وقال الزجاج وغيره (2) : ذكّر على تأويل السماء بالسقف. وقيل: التقدير: السماء شيء مُنفطر به.
{ كان وعده مفعولاً } أي: وعد الله بالبعث مفعولاً، كائناً لا محالة.
وقيل: الضمير في "وعده" لليوم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
{ إن هذه } الآيات الناطقة بهذا الوعيد الشديد { تذكرة } موعظة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } بالإيمان والطاعة.
* إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ×pxےح !$sغur مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ
__________
(1) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: سما)، والطبري (29/139)، والقرطبي (19/51)،
... والبحر (1/219، 8/357)، والدر المصون (1/136، 6/409)، وزاد المسير (8/394)، وروح المعاني (1/171، 29/110).
(2) ... معاني الزجاج (5/243).(1/431)
وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ(1/432)
أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اثةب
قوله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } أي: أقل { من ثُلُثَي الليل } وقرأ هشام: "ثُلْثَي" بسكون اللام (1) ، وهما لغتان.
قرأ ابن كثير وأهل الكوفة: "ونِصْفَهُ وثُلُثَه" بالنصب فيهما، على معنى: وتقوم النصف والثلث.
وقرأ الباقون من العشرة: بالجر فيهما، عطفاً على "ثُلُثَي الليل" (2) ، أي: وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه.
قال مكي (3) : النصب أقوى؛ لأن الفرض كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام ثُلُث الليل، فإذا نصبت ["ثلثه"] (4) أخبرت أنه كان يقوم ما فرض الله عليه وأكثر، وإذا [خفضت] (5) "ثلثه" أخبرت أنه كان يقوم أقلّ من الفرض.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/73)، والكشف (2/346)، والنشر (2/217)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:658).
(2) ... الحجة للفارسي (4/72)، والحجة لابن زنجلة (ص:731-732)، والكشف (2/345)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:658).
(3) ... الكشف (2/345).
(4) ... زيادة من الكشف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: نصبت. والتصويب من ب، والكشف، الموضع السابق.(1/433)
{ وطائفة من الذين معك } وهم المؤمنون المخلصون، { والله يقدر الليل والنهار } يعلم مقادير ساعاتهما، لا يعلمها على الحقيقة سواه، { علم أن لن تحصوه } قال مقاتل (1) : علم أن لن تطيقوا قيام ثلثي الليل ولا ثلث الليل ولا نصف [الليل] (2) .
وقال الفراء (3) : علم أن لن تحفظوا مواقيت الليل.
وقال غيره (4) : الضمير في "تحصوه" لمصدر "يقدر".
{ فتاب عليكم } عاد عليكم بالرحمة والتخفيف { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } أي: فَصَلُّوا ما تيسّر عليكم.
وعبّر عن الصلاة بالقراءة؛ لاشتمالها عليها، كما عبّر عنها بالركوع والسجود.
قال الماوردي (5) : يحتمل وجهين:
أحدهما: ما يتطوع به من نوافله.
الثاني: أنه محمول على [فروض] (6) الصلوات الخمس؛ لانتقال الناس من قيام الليل إليها. ويكون قوله: "ما تيسر" محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف، والصحة والمرض.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/411).
(2) ... في الأصل: الثلث. والتصويب من ب، وتفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... معاني الفراء (3/200).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/644).
(5) ... تفسير الماوردي (6/132).
(6) ... في الأصل: فرض. والتصويب من ب، وتفسير الماوردي، الموضع السابق.(1/434)
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المعنى: فاقرؤوا في الصلاة ما تيسير من القرآن.
ويروى أن ابن عباس أمّ الناس بالبصرة، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة، فلما قضى صلاته قال: إن الله عز وجل يقول: { فاقرؤوا ما تيسر منه } . قال علي بن عمر الحافظ: هذا حجة لمن يقول: فاقرؤوا ما تيسر منه [فيما] (1) بعد الفاتحة (2) .
قال بعضهم: هو أمرٌ بقراءة القرآن.
ثم اختلفوا: هل هذا الأمر على وجه الإيجاب أم الاستحباب؟
والحق أن يقال: يجب على المسلم أن يتعلم من القرآن ما يتوقّف (3) صحة الصلاة عليه.
قال الماوردي (4) : وفي قدر ما تضمّنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال:
أحدها: جميع القرآن؛ لأن الله تعالى قد يسّره على عباده. وهو قول الضحاك.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه الدارقطني (1/338 ح2)، والبيهقي في الكبرى (2/40 ح2201) من حديث قيس بن أبي حازم. وذكره السيوطي في الدر (8/323) وعزاه للدارقطني والبيهقي في السنن.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: على. وانظر: ب.
(4) ... تفسير الماوردي (6/133).(1/435)
والثاني: ثلث القرآن. حكاه جويبر.
والثالث: مائتا آية. قاله السدي.
والرابع: مائة [آية] (1) . قاله ابن عباس.
والخامس: ثلاث آيات كأقصر سورة. قاله أبو خالد الكناني (2) .
ثم نبّه على حكمة التخفيف بما ذكر من أعذار الناس فقال: { علم أن سيكون منكم مرضى } المعنى: فلا تُطيقوا قيام الليل { وآخرون يضربون في الأرض } أي: يسافرون { يبتغون من فضل الله } أي: يطلبون الرزق بالتجارة فلا يستطيعون قيام الليل؛ إما لمشقة السفر، وإما لكثرة السهر، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } .
قال بعض العلماء: سوّى الله تعالى بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال (3) .
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في
__________
(1) ... زيادة من ب، وتفسير الماوردي، الموضع السابق.
(2) ... في هامش ب: أسند البزار عن جابر: كتب علينا قيام الليل { يا أيها المزمل * قم الليل إلا
... قليلاً } فقمنا حتى انتفخت أقدامنا. فأنزل الله تبارك وتعالى الرخصة: { علم أن سيكون منكم مرضى... إلى آخر السورة } .
... قلت أنا: وفي هذا نظر، فإن هذا كان كله بمكة، وجابر أنصاري...
(3) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/644).(1/436)
الأرض أبتغي من فضل الله (1) .
قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } يريد: الصلوات الخمس، { وآتوا الزكاة } قال ابن عباس: صلة الرحم، وقرى الضيف (2) . يشير إلى أن الزكاة لم تكن بعدُ فُرضت.
قال عكرمة وقتادة: زكاة الأموال (3) .
وقيل: صدقة الفطر (4) .
{ وأقرضوا الله قرضاً حسناً } مُفسّر في البقرة (5) .
والمراد بها هاهنا: النفقة في سبيل الله، في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (6) .
والنوافل بعد الفرض، في قول ابن زيد (7) .
وقال زيد بن أسلم: النفقة على الأهل (8) .
قوله تعالى: { هو خيراً } قال الزجاج (9) : "خيراً" منصوب بمفعول ثاني
__________
(1) ... ذكره القرطبي (8/323). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/323) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/396).
(3) ... ذكره الماوردي (6/134).
(4) ذكره الماوردي (6/134).
(5) ... عند الآية رقم: 245.
(6) ... ذكره الماوردي (6/134).
(7) ... أخرجه الطبري (29/142). وذكره الماوردي (6/134).
(8) ... ذكره الماوردي (6/134).
(9) ... معاني الزجاج (5/244).(1/437)
لـ"تجدوه"، ودخلت "هو" فَصْلاً.
قال المفسرون: ومعنى: "هو خيراً" هو أفضل مما أعطيتم، { وأعظم أجراً } من الذي تؤخرون إلى وقت الوصية عند الموت.
{ واستغفروا الله } من ذنوبكم { إن الله غفور } للمستغفرين { رحيم } بالمؤمنين.(1/438)
سورة المدثر - صلى الله عليه وسلم -
ijk
وهي خمس وخمسون آية في المدني، [وست] (1) في الكوفي (2) . وهي مكية بإجماعهم.
واستثنى مقاتل آية وهي قوله: { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } (3) .
والسبب في نزولها: ما أخرج في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "[جاورتُ] (4) بحِراء شهراً، فلما قضيتُ جواري نزلتُ فاستبطنتُ بطن الوادي، فنُوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت: دَثِّروني، وصبوا عليّ ماء بارداً، وأنزل عليّ { يا أيها المدثر } " (5) .
قوله: "فإذا هو جالس" يعني: جبريل عليه السلام.
[أخبرنا] (6) الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول،
__________
(1) ... في الأصل: ست. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:258).
(3) ... انظر: زاد المسير (8/398).
(4) ... في الأصل: جاوت. والتصويب من ب، والصحيحين.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1875 ح4640)، ومسلم (1/144 ح161).
(6) ... في الأصل: وأخبرنا. والمثبت من ب.(1/439)
أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ (1) منه رعباً، [فرجعت] (2) فقلت: زَمِّلوني زَمِّلوني، فدثّروني، فأنزل الله: { يا أيها المدثر } إلى قوله: { والرجز فاهجر } . قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان. ثم حمي الوحي وتتابع" (3) .
قال الخطابي: "فجُئِثْتُ": أي: فَرَقْتُ، يقال: رجل مَجْؤُوثٌ. وقد صحّفه بعضهم فقال: "فجبنت"، من الجُبن. وهذا يدل على أن هذا من أول ما نزل من القرآن. وقد ذكرنا الصحيح من ذلك في مقدمة الكتاب.
فصل
اختلف العلماء في الشهر الذي ابتُدئ فيه الوحي؛ فقال أبو هريرة: نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة يوم سبعة وعشرين من رجب، وهو أول يوم هبط فيه (4) .
__________
(1) ... فجئثت: أي: ذُعِرْتُ وخِفْتُ (اللسان، مادة: جأث).
(2) ... في الأصل: فرعت. والتصويب من ب، والبخاري (4/1875).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1875-1876 ح4641، 4642).
(4) ... ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه (8/289) مطولاً.(1/440)
وقال ابن إسحاق: ابتُدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتنزيل في شهر رمضان، فأما اليوم الذي ابتُدئ فيه بالوحي، فقد روى مسلم في صحيحه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: فيه وُلدت، وفيه أُنزل عليّ" (1) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ مچدoO£‰كJّ9$# اتب َOè% ِ'ةRr'sù اثب y7/u'ur ÷ژةi9s3sù اجب y7t/$uدOur ِچخdgsـsù احب t"ô_"چ9$#ur ِچàf÷d$$sù اخب ںwur `مYôJs? çژدYُ3tGَ،n@ ادب ڑپخh/tچد9ur ÷ژة9ô¹$$sù اذب #sŒخ*sù tچة)çR 'خû ح'qè%$¨Z9$# ارب y7د9؛xsù 7ح´tBِqtƒ îPِqtƒ îژچإ،tم ازب 'n?tم tûïحچدے"s3ّ9$# çژِچxî 9ژچإ،o" اتةب
__________
(1) ... أخرجه مسلم (2/820 ح1162).(1/441)
فصل
قرأ الأكثرون: "المدَّثِّر". وقرأ أبي بن كعب وأبو عمران الجوني والأعمش: "المتَدَثِّر" (1) .
وقرأ أبو رجاء وعكرمة: "[المدَثَّر] (2) " بتخفيف الدال (3) . وقد نبهنا على علّة ذلك في أول المزمل.
والأكثرون على أنه من التَّدثير بالثياب.
وقيل: المدثر بالنبوة، كما في المزمّل.
{ قم فأنذر } أي: قم من مضجعك.
وقيل: هو أمرٌ له [بالتشمير] (4) في الإنذار والجِدّ فيه، فأنْذِرْ كفار مكة وغيرهم، وحَذِّرْهُمُ عقوبة الله إن لم يؤمنوا.
{ وربك فكبر } أي: عَظِّم.
وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما نزلت [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] (5) : "الله أكبر"، فكبّرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي" (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/399)، والدر المصون (6/411).
(2) ... في الأصل: المتدثر. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/399)، والدر المصون (6/411).
(4) ... في الأصل: بالتشهير. والتصويب من ب.
(5) ... زيادة من الكشاف (4/647).
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/647)، والقرطبي (19/62).(1/442)
{ وثيابك فطهِّر } قال مجاهد وقتادة: نفسك فطهِّر من الذنوب (1) .
قال ابن قتيبة (2) : كنَّى عن الجسم بالثياب؛ لأنها تشتمل عليه. ويشهد له قول عنترة:
فَشَكَكْتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابَهُ ... ليسَ الكريمُ على القَنَا بمُحَرَّم (3)
وهو قريبٌ من قول من قال: وعملك فأصلح (4) .
قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحاً: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجراً: إنه لخبيث الثياب (5) .
وقال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة (6) .
قال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني [بحمدِ] (7) اللهِ لا ثوبَ فَاجرٍ ... ... لبستُ ولا مِنْ غَدْرَةٍ أتقنَّعُ (8)
__________
(1) ... ذكره الطبري (29/145)، والواحدي في الوسيط (4/380)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/400).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:495).
(3) ... البيت لعنترة. وهو في: اللسان (مادة: طهر)، والأغاني (9/254)، ومجمع الأمثال (1/344)، والقرطبي (19/63)، وزاد المسير (8/400)، وروح المعاني (29/117).
(4) ... هو قول مجاهد. أخرجه الطبري (29/146). وذكره السيوطي في الدر (8/326) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... ذكره البغوي (4/413).
(6) ... أخرجه الطبري (29/145)، وابن أبي حاتم (10/3382). وذكره السيوطي في الدر (8/326) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم.
(7) ... في الأصل: وبحمد. والمثبت من ب، ومصادر البيت.
(8) ... البيت لغيلان بن سلمة. وهو في: اللسان (مادة: قوا)، والطبري (15/101، 29/145)، والقرطبي (10/276، 19/63)، والماوردي (6/136)، وزاد المسير (8/400)، والبحر المحيط (8/363)، وروح المعاني (29/117).(1/443)
وروي عن ابن عباس أيضاً: أن المعنى: لا تكن ثيابك من كسب (1) غير طاهر (2) .
وقال ابن سيرين وابن زيد: أمره بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة (3) .
وقال سعيد بن جبير: وقلبك فطهر (4) . ويشهد له قول امرئ القيس:
فإنْ تكُ قد ساءتكَ مني خليقةٌ ... فَسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تنسُلي (5)
أي: قلبي من قلبك.
وقال طاووس والزجاج (6) : وثيابك فقصّر؛ لأن تقصير الثوب أبعدُ من النجاسة.
__________
(1) ... في ب: مكسب.
(2) ... أخرجه الطبري (29/146). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/400).
(3) ... أخرجه الطبري (29/146-147). وذكره الماوردي (6/137)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/401).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/401).
(5) ... البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:13)، والأغاني (9/85)، والماوردي (6/136)، وزاد المسير (8/401)، وروح المعاني (29/117).
(6) ... معاني الزجاج (5/245). وذكره الماوردي (6/137)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/401).(1/444)
{ والرجز فاهجر } وقرأ حفص: "والرُّجْزَ" بضم الراء (1) .
قال عامة المفسرين: يريد: الأوثان.
وقيل: الإثم.
قال الزجاج (2) : الرجز في اللغة: العذاب. ومعنى الآية: اهجر ما يؤدي إلى عذاب الله.
{ ولا تمنن تستكثر } قال الزجاج (3) : "تستكثر" حالٌ متوقعة (4) .
وهذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وليس على الإنسان إثم في أن يُهدي هدية يرجو بها ما هو أكثر منها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أدبه الله تعالى بأشرف الآداب، وأجلّ الخلائق.
قال جمهور المفسرين: المعنى: لا تُعطِ شيئاً لتُعطى أكثر منه (5) .
وقال الحسن: لا تمنن بعملك فَتُكَثِّرَهُ على ربك (6) .
وقال مجاهد: لا تَضْعُفْ عن الخير أن تستكثر منه (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/74)، والحجة لابن زنجلة (ص:733)، والكشف (2/347)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:659).
(2) ... معاني الزجاج (5/245).
(3) ... معاني الزجاج (5/245-246).
(4) ... انظر: التبيان (2/272)، والدر المصون (6/412).
(5) ... أخرجه الطبري (29/148-149)، وابن أبي حاتم (10/3382). وانظر: الدر (8/327).
(6) ... أخرجه الطبري (29/149). وذكره الماوردي (6/138).
(7) ... أخرجه الطبري (29/149). وذكره الماوردي (6/138)، والسيوطي في الدر (8/327) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/445)
وقرأ الحسن: "تستكثرْ" بالسكون.
قال الزمخشري (1) : وفيه ثلاثة أوجه: الإبدال من "تَمْنُن". كأنه قيل: [ولا] (2) تمنن لا تستكثر؛ على أنه من المنّ في قوله عز وجل: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى } ؛ لأن من شأن المنّان بما يعطي أن يستكثره، أي: يراه كثيراً ويعتدّ به، وأن يشبّه [ثِرْوَ] (3) بعَضُد، فيسكّن تخفيفاً، وأن يُعتبر حال الوقف.
وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار "أنْ" كقوله:
ألا [أيّهذا] (4) الزاجري أحضر الوغى ... .......................... (5)
ويؤيده قراءة ابن مسعود: "ولا تمنن أن تستكثر" (6) .
ويجوز في الرفع أن تحذف "أنْ" ويبطل عملها، كما روي: أحضُرُ الوغى.
قوله تعالى: { ولربك فاصبر } أي: لأجل ربك، أو لثواب ربك، فاصبر على أذى المشركين، والقيام بأعباء الرسالة، وكل ما شُرع لك الصبر عليه.
قوله تعالى: { فإذا نقر في الناقور } أي: نُفخ في الصور. [وهل] (7)
__________
(1) ... الكشاف (4/648).
(2) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(3) ... زيادة من الكشاف (4/648).
(4) ... في الأصل: أيها. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... تقدم.
(6) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/364)، والدر المصون (6/412).
(7) ... في الأصل: وقيل. والتصويب من ب.(1/446)
المراد بذلك النفخة الأولى أو [الثانية] (1) ؟
فيه قولان: أظهرهما: أنها [الثانية] (2) ؛ لقوله: { فذلك يومئذ يوم عسير } . وقد سبق ذكر "الصور" في الأنعام (3) .
قرأتُ على أبي عبدالله أحمد بن محمد بن طلحة بن الحسن بن طلحة، أخبركم يحيى بن أسعد بن بَوْش، أخبرنا أبو طالب ابن يوسف، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب، [أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي] (4) ، أخبرنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا أبو خباب القصاب قال: صلى بنا زرارة بن أوفى صلاة الصبح فقرأ: { يا أيها المدثر } حتى إذا بلغ: { فإذا نقر في الناقور } خرّ ميتاً (5) .
قال الزجاج (6) : و { يوم عسير } يرتفع بقوله: { فذلك } . المعنى: فذلك يوم عسير يوم النفخ في الصور.
و"يوم" يجوز أن يكون رفعاً، ويجوز أن يكون نصباً. فإذا كان نصباً فإنما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى "إذ"؛ لأن "إذ" غير متمكنة. وإذا كان رفعاً فهو على معنى: فذلك يوم عسير يوم ينفخ في الصور.
__________
(1) ... في الأصل: الثالثة. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: الثالثة. والتصويب من ب.
(3) ... عند الآية رقم: 73.
(4) ... زيادة على الأصل. وفي هامش ب: سقط اسم القطيعي.
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:302). وأصله عند الترمذي، انظر: (2/306 ح445).
(6) ... معاني الزجاج (5/246).(1/447)
وقال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: كيف صح أن يقع "يومئذ" ظرفاً لـ"يوم عسير"؟
قلتُ: المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير؛ لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين يُنقر في الناقور.
فإن قلت: فما فائدة قوله: { غير يسير } و { عسير } مُغْنٍ عنه؟
قلتُ: لما قال: { على الكافرين } فَقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال: { غير يسير } ليُؤذن لهم بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم، وبشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يُراد به أنه عسير لا يُرجى أن يرجع يسيراً، كما [يُرجى] (2) تيسير العسير من أمور الدنيا.
'خTِ'sŒ ô`tBur àMّ)n=yz #Y‰دmur اتتب àMù=yèy_ur ¼çms9 Zw$tB #Yٹrك‰ôJ¨B اتثب tûüدZt/ur #Yٹqهkà اتجب 'N‰£gtBur ¼çms9 #Y‰خgôJs? اتحب NèO كىyJôـtƒ ÷br& y‰ƒخ-r& اتخب Hxx. ¼çm¯Rخ)
__________
(1) ... الكشاف (4/648-649).
(2) ... زيادة من ب، والكشاف (4/649).(1/448)
tb%x. $uZدF"tƒKy #Y‰ٹدZtم اتدب ¼çmà)دdِ'é'y™ #·ٹqمè|¹ اتذب ¼çm¯Rخ) tچ©3sù u'£‰s%ur اترب ں@دGà)sù y#ّx. u'£‰s% اتزب NèO ں@دGè% y#ّx. u'£‰s% اثةب NèO tچsàtR اثتب NèO }t6tم uژy£o0ur اثثب NèO tچt/÷ٹr& uژy9ُ3tFَ™$#ur اثجب tA$s)sù ÷bخ) !#x"yd wخ) ضچّt¾ مچrO÷sمƒ اثحب ÷bخ) !#x"yd wخ) مAِqs% خژ|³u;ّ9$# اثخب دmخ=ô¹é'y™ tچs)y™ اثدب !$tBur y71u'÷ٹr& $tB مچs)y™ اثذب ںw 'إ+ِ7è? ںwur â'xs? اثرب ×pym#qs9 خژ|³t6ù=دj9 اثزب $pkِژn=tو spyèَ،خ@ uژ|³tم اجةب(1/449)
قوله تعالى: { ذرني ومن خلقت وحيداً } قد سبق تفسير "ذرني" (1) . والعائد على الاسم الموصول محذوف، تقديره: ومن خلقته.
[و"وحيداً"] (2) حال من المخلوق، على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد. وهذا قول مجاهد (3) .
وقيل: إن "وحيداً" حالٌ من الله تعالى، ثم فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من الضمير المنصوب في "ذرني"، على معنى: ذرني وحدي، فأنا أكفيك أمره وأنتقم لك منه، وأجزيك عن كل منتقم منه.
[قال] (4) مقاتل (5) : خلّ بيني وبينه فأنا أكفيك هلاكه.
الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع في "خَلَقْتُ"، أي: ذرني ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد (6) .
قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فإنك أتيت محمداً تتعرّض لما قبله، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكرٌ
__________
(1) ... في سورة القلم، عند الآية رقم: 44.
(2) ... في الأصل: وحيداً. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (29/152)، وابن أبي حاتم (10/3382). وذكره السيوطي في الدر (8/329) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... في الأصل: وقال. والمثبت من ب.
(5) ... تفسير مقاتل (3/416).
(6) ... انظر: التبيان (2/273)، والدر المصون (6/415).(1/450)
له، قال: وماذا أقول، فوالله ما [فيكم] (1) رجل أعلم بالأشعار مني، والله ما يُشبهها الذي يقول، والله إن لِقَوْلِه حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مُغدقٌ أسفله، وإنه ليَعْلُوا وما يُعلى. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: [فدعني] (2) حتى أفكر فيه، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يأثُرُه عن غيره، فنزلت هذه الآيات (3) .
قال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إليكم حاجة، فاجتمعوا في دار الندوة، فقال: إنكم ذَوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إنه شاعر، فعَبَسَ عندها وقال: قد سمعنا الشعر وما يشبه قوله الشعر، فقالوا: نقول: إنه كاهن، فقال: إذاً يأتونه فلا يجدونه يُحدّث ما تحدث [به] (4) الكهنة، قالوا: نقول: إنه مجنون، قال: إذاً يأتونه فلا يجدونه مجنوناً، قالوا: نقول: إنه ساحر، قال: وما الساحر؟ قالوا: بشرٌ يُحبّبون بين المتباغضين، ويبغّضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى
__________
(1) ... في الأصل: منكم. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: دعني. والمثبت من ب.
(3) ... أخرجه الحاكم (2/550 ح3872) وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه، والبيهقي في الشعب (1/156-158 ح134). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:468). وذكره السيوطي في الدر (8/330) وعزاه للحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.
(4) ... زيادة من ب.(1/451)
أحد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: يا ساحر، فاشتدّ ذلك [عليه] (1) ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات (2) .
قوله تعالى: { وجعلت له مالاً ممدوداً } كثيراً مبسوطاً.
وقال الزجاج (3) : غير منقطع.
قال عمر بن الخطاب رضي الله [عنه] (4) : غَلَّةُ شهر بشهر (5) .
قال مقاتل (6) : كان له بستان بالطائف لا ينقطع خيره شتاءً ولا صيفاً.
وقال ابن عباس ومجاهد: ألف دينار (7) .
وقال قتادة: أربعة آلاف دينار (8) .
{ وبنين شهوداً } أي: حضوراً عنده قد أغنيتهم عن الضرب في الأرض لابتغاء الرزق.
وفي عددهم أربعة أقوال:
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) الوسيط (4/383)، وأسباب النزول للواحدي (ص:468)، وزاد المسير (8/403-404).
(3) ... معاني الزجاج (5/246).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (29/153)، وابن أبي حاتم (10/3383). وذكره السيوطي في الدر (8/330) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدينوري في المجالسة.
(6) ... تفسير مقاتل (3/416).
(7) ... أخرجه الطبري (29/153)، وابن أبي حاتم (10/3382) كلاهما عن مجاهد. وذكره الماوردي (6/139)، والسيوطي في الدر (8/329) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(8) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/405).(1/452)
أحدها: أنهم كانوا عشرة. قاله مجاهد وقتادة (1) .
الثاني: ثلاثة عشر. قاله سعيد بن جبير (2) .
الثالث: اثنا عشر. قاله السدي (3) .
الرابع: سبعة. قاله مقاتل (4) . قال: وهم: خالد، وعمارة، وهشام، وهؤلاء أسلموا، والعاص، وقيس، وعبد شمس، والوليد.
قوله تعالى: { ومهدتُ له تمهيداً } أي: بسطتُ له في العيش بسطاً.
وقال ابن عباس: يعني: المال بعضه على بعض، كما يمهد الناس (5) الفرش (6) .
وقال غيره (7) : بسطتُ له الجاه العريض والرئاسة في قومه، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، ومنه قول الناس: أدام الله تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة. وكان الوليد
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/154)، وابن أبي حاتم (10/3382) كلاهما عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/405)، والسيوطي في الدر (8/329) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3383). وذكره السيوطي في الدر (8/329) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/405).
(4) ... تفسير مقاتل (3/416).
(5) ... قوله: "الناس" ساقط من ب.
(6) ... ذكره القرطبي (19/72) من قول مجاهد، والبغوي (4/414) من قول الكلبي.
(7) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/650).(1/453)
من وُجهاء قريش وصناديدهم، ولذلك لُقِّبَ الوحيد، وريحانة قريش.
{ ثم يطمع أن أزيد } قال مقاتل (1) : يطمع أن أزيده في المال والولد.
وقال الحسن: يطمع أن أدخله الجنة (2) .
قال المفسرون: كان الوليد يقول: إن كان [محمد] (3) صادقاً، فما خُلقت الجنة إلا لي.
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ له، وقطعٌ لرجائه وطمعه.
قال المفسرون: منعه الله المال والولد، ولم يزل بعد نزول هذه الآية في نقصان حتى مات فقيراً.
{ إنه كان لآياتنا عنيداً } أي: معانداً. وهو كلام مستأنف خارج مخرج التعليل للردع، كأنّ قائلاً [قال] (4) : لم لا يُزاد؟ فقال: إنه عاند آيات [النعم] (5) عليه.
{ سأرهقه صعوداً } أي: سأحمله على مشقة من العذاب، أو سأغشيه عقبة شاقة المصعد.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الصعود عقبة في النار، يتصعَّد فيها الكافر سبعين خريفاً، فهو كذلك أبداً" (6) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/416).
(2) ... ذكره الماوردي (6/140)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/405).
(3) ... في الأصل: محمداً. والتصويب من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: المنعم. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الترمذي (4/703 ح2576).(1/454)
وفي لفظ آخر: "جبل من نار، يُكلّف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، يصعد سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً" (1) .
قوله تعالى: { إنه فكر } يعني: ماذا يقول في القرآن { وقدّر } [هيأ] (2) القول في نفسه. { فقتل كيف قدر } أي: لُعن وعُذّب على أيّ حال قدر من الكلام.
قال صاحب النظم (3) : وهذا كما يقال: لأضربنه كيف صنع، أي: على أيّ حال كانت منه.
وقيل: هو تعجيب من إصابته [المحز] (4) في تقديره.
{ ثم قتل كيف قدر } تكريراً لمعنى التوكيد.
{ ثم نظر } عطف على "فكّر وقدّر"، والدعاء: اعتراض بينهما، فيما يدفع به القرآن ويرده.
وقال مقاتل (5) : نظر في الوحي.
وقيل: نظر في وجوه الناس.
{ ثم عبس وبسر } أي: كرَّه وجهه وقطَّب، وأنشدوا:
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (5/366 ح5573)، والطبري (29/155)، وابن أبي حاتم (10/3383).
(2) ... في الأصل: منا. والتصويب من ب.
(3) ... هو: الحسين بن يحيى الجرجاني.
(4) ... في الأصل: المخز. والتصويب من ب.
(5) ... تفسير مقاتل (3/417).(1/455)
وقدْ [رَابَنِي] (1) منها صُدُودٌ رأيتُهُ وإعراضُهَا عن حَاجَتِي وبُسُورُها (2)
وقيل: قدّر ما تقوله، ثم نظر فيه، ثم عَبَسَ لما ضاقت عليه الحيل ولم يَدْرِ ما يقوله.
{ ثم أدبر } عن الحق { واستكبر } عنه، فقال ما قال.
[ولما] (3) كان قوله [لكلمته] (4) الشنعاء عقيب استنباطها من غير توقّف وتثبّت، جاء بحرف التعقيب وهو الفاء دون حرف المهلة، وذلك قوله: { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } . أي: يأثره محمد عن غيره.
وقيل: معناه: تؤثره النفوس لحلاوته.
{ إن هذا إلا قول البشر } يريد: أنه ليس من كلام الله.
قال الله تعالى [مبيناً] (5) جزاءه على ذلك: { سأصليه سقر } ، وهو اسمٌ من أسماء جهنم. وقد ذكرناه في القمر (6) .
ثم عظّم شأن سقر فقال: { وما أدراك ما سقر } .
ثم أخبر عنها فقال: { لا تبقي ولا تذر } أي: لا تُبقي لهم لحماً إلا أكلته، ولا تذرهم من العذاب.
__________
(1) ... في الأصل: رأيتني. والتصويب من ب.
(2) ... البيت لتوبة الخفاجي. وهو في: الطبري (29/156)، والقرطبي (19/76)، والماوردي (6/142)، وزاد المسير (8/407)، وروح المعاني (29/124).
(3) ... في الأصل: ما. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: وكلمته. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: فبينا. والتصويب من ب.
(6) ... عند الآية رقم: 48.(1/456)
وقال مجاهد: لا تُبقي من فيها حياً، ولا تذره ميتاً (1) .
{ لوّاحة للبشر } أي: مغيّرة للجلود الظاهرة.
قال أبو رزين: تلفَحُ الجلد حتى تدعه أشد سواداً من الليل (2) .
وقال عطية: تحرق البشر حتى يلوح العظم (3) .
قوله تعالى: { عليها تسعة عشر } يريد: خزنتها، وهم مالك وأعوانه، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، تَسَعُ كفُّ أحدهم مثل ربيعة ومضر.
ويروى في الحديث: "إن لأحدهم قوةَ الثقلين، يسوق أحدهم الأمّة، على رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم" (4) .
قال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أيعْجِزُ كلُّ عشرة منكم أن يَبطشوا بواحد منهم، ثم نخرج من النار، فقال أبو الأشدين الجمحي -واسمه: كلدة بن خلف. وقال مقاتل (5) : أسيد بن كلدة-: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/158). وذكره الماوردي (6/143).
(2) ... أخرجه الطبري (29/159)، وابن أبي شيبة (7/49 ح34124). وذكره السيوطي في الدر (8/332) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد.
(3) ... ذكره الماوردي (6/143).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/334).
(5) ... تفسير مقاتل (3/417).(1/457)
[أيديكم] (1) إلى الصراط، فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار وندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } (2) .
$tBur !$uZù=yèy_ |="ptُ¾r& ح'$¨Z9$# wخ) Zps3ح´¯"n=tB $tBur $uZù=yèy_ ِNهksE£‰دم wخ) ZpuZ÷Fدù tûïد%©#دj9 (#rمچxےx. z`ة)ّٹtFَ،uٹد9 tûïد%©!$# (#qè?ré& |="tGإ3ّ9$# yٹ#yٹ÷"tƒur tûïد%©!$# (# qمZtB#uن $YZ"uKƒخ) ںwur z>$s?ِچtƒ tûïد%©!$# (#qè?ré& |="tGإ3ّ9$#
__________
(1) ... في الأصل: أيدكم. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (29/159-160) بأقصر منه. وذكره الواحدي في الوسيط (6/384)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/408)، والسيوطي في الدر (8/333) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/458)
tbqمZدB÷sكJّ9$#ur tAqà)uد9ur tûïد%©!$# 'خû Nحkح5qè=è% ضعzگ£D tbrمچدے"s3ّ9$#ur !#sŒ$tB yٹ#u'r& ھ!$# #x"pkح5 WxsWtB y7د9؛xx. '@إزمƒ ھ!$# `tB âن!$t±o" "د‰ِku‰ur `tB âن!$t±o" $tBur قOn=÷ètƒ yٹqمZم_ y7خn/u' wخ) uqèd $tBur }'دd wخ) 3"tچّ.دŒ خژ|³t6ù=د9 اجتب xx. جچuKs)ّ9$#ur اجثب ب@ّ©9$#ur ّŒخ) tچt/÷ٹr& اججب ثxِ6گء9$#ur !#sŒخ) tچxےَ™r& اجحب $pk¨Xخ) "y‰÷nZ} خژy9ن3ّ9$# اجخب #\چƒةtR خژ|³t6ù=دj9 اجدب `yJد9 uن!$x© َOن3ZدB br&(1/459)
tP£‰s)tGtƒ ÷rr& tچ¨zr'tGtƒ اجذب
أي: ما جعلناهم رجالاً من جنسكم تُطِيقُونهم، وإنما جعلناهم ملائكة أشداء يَعجز طوقُ البشر عن مغالبتهم.
{ وما جعلنا عدتهم } قليلة { إلا فتنة } ضلالة { للذين كفروا } حتى قالوا ما قالوا، { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } ما عندهم من ذكر عدَّتِهم؛ لأن عِدَّتَهم في كتابهم تسعة عشر.
وقيل: ليستيقنوا صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بكونه أخبر بعدد خَزَنة جهنم، على الوجه المذكور عندهم.
{ ويزداد الذين آمنوا } منهم ومن غيرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - { إيماناً } .
قوله تعالى: { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أي: لا يتخالجهم شك ولا ريب في عدد الخَزَنة، فينضم إلى يقينهم وتصديقهم عدم الريب بسبب تواطئهم وتوافقهم على ذلك، نظراً إلى تصديق كل واحد من الكتابَيْن والنبيَّيْن لصاحبه.
قوله تعالى: { وليقول الذين في قلوبهم مرض } أي: شك ونفاق.
{ والكافرون } مشركوا العرب { ماذا أراد الله بهذا } الحديث والخبر { مثلاً } . و"مَثَلاً" تمييز لـ"هذا"، أو حال منه (1) .
قال الزمخشري (2) : إن قلت: لم سموه مَثَلاً؟
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/418).
(2) ... الكشاف (4/654).(1/460)
قلتُ: هو استعارة من المثل المضروب؛ لأنه مما غَرُبَ من الكلام وبَدُع، استغراباً منهم لهذا [العدد] (1) واستبداعاً. والمعنى: أيّ شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأيّ [غرض] (2) قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص.
قوله تعالى: { كذلك } الكاف الأولى في موضع نصب، و"ذلك": إشارة إلى ما تقدم ذكره من معنى الإضلال والهدى.
والمعنى: كما أضل الله من أنكر عدد الخَزَنة، وهدى من صدّق ذلك { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } .
{ وما يعلم جنود ربك } يعني: من الملائكة { إلا هو } فلا يتوهموا أن قلّة عدد الخَزَنة لقلّة جنوده الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، يشير إلى أن مع كل واحد من الخزنة من الجنود والأعوان مما لا يعلم عددهم إلا الله. هذا معنى قول عطاء (3) .
ويحتمل عندي: أن يراد بذلك عموم الملائكة.
قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنائم حنين وجبريل إلى جنبه، فأتاه مَلَكٌ فقال: إن ربك يأمرك بكذا وكذا، فخشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون شيطاناً، فقال: يا جبريل تعرفه؟ فقال: هو مَلَك، وما كَلُّ ملائكة ربك
__________
(1) ... في الأصل: العد. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: شيء. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... انظر: البغوي (4/417).(1/461)
أعرفه (1) .
وقال الأوزاعي: قال موسى - صلى الله عليه وسلم - : يا رب! من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عدّتهم يا رب؟ قال: اثنا عشر سبطاً، قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب (2) .
قوله تعالى: { وما هي } يريد: سقر { إلا ذكرى للبشر } موعظة للناس.
قوله تعالى: { كلا } أي: حقاً.
وقيل: ردعٌ لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً.
ثم أقسم سبحانه وتعالى بعجائب مخلوقاته فقال: { والقمر * والليل إذ أدبر } قرأ نافع وحمزة وحفص: "إذ" بغير ألف، "أدبر" بهمزة قبل الدال.
ومَرَّ وَرْش على أصله في إلقاء حركة الهمزة على الساكنين قبلها، جعلوه أمراً قد تقضّى ومضى؛ لأن "إذ" ظرف لما مضى من الزمان.
وقرأ الباقون: "إذا دَبَر" بغير همز (3) ، جعلوه أمراً لم يمض؛ لأن "إذا" لما يُستقبل من الزمان.
وأَدْبَرَ ودَبَرَ لغتان. قاله الفراء (4) والأخفش وثعلب.
وقال أبو عبيدة وابن قتيبة (5) : دَبَر بمعنى: خَلَفَ، وأدبر بمعنى: ولّى،
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (7/225 ح7339).
(2) ... ذكره القرطبي (19/83).
(3) ... الحجة للفارسي (4/74)، والحجة لابن زنجلة (ص:733)، والكشف (2/347)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:659).
(4) ... معاني الفراء (3/204).
(5) ... مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/275-276)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:497).(1/462)
يقال: دبرني، بمعنى: جاء خلفي.
{ والصبح إذا أسفر } أضاء وتبيّن.
{ إنها } يعني: سقر { لإحدى الكُبَر } .
قال ابن قتيبة (1) : "الكُبَر" جمع: كُبْرى، مثل: الأُوَل والأُولى، والصُّغَر والصُّغْرى، وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم.
قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها (2) .
وقال الكلبي ومقاتل (3) : أراد بالكُبَر: دركات جهنم السبعة.
قوله تعالى: { نذيراً للبشر } قال الزجاج (4) : نصب "نذيراً" على الحال (5) . والمعنى: إنها للكبيرة في حال الإنذار.
وقال الزمخشري (6) : "نذيراً" تمييز من "إحدى"، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، كما تقول: هي إحدى النساء [عفافاً] (7) .
وقيل: "نذيراً" متعلق بقوله في أول السورة "قُمْ"، على معنى: قُمْ
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:497).
(2) ... أخرجه الطبري (29/163). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/410).
(3) ... ذكره مقاتل (3/419)، والواحدي في الوسيط (4/385)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/410).
(4) ... معاني الزجاج (5/249).
(5) ... انظر: التبيان (2/273)، والدر المصون (6/420).
(6) ... الكشاف (4/655).
(7) ... في الأصل: عقافاً. والتصويب من ب، والكشاف (4/655).(1/463)
نذيراً (1) .
وفيه بُعْد.
قوله تعالى: { لمن شاء منكم } بدل من قوله: "للبشر" (2) .
{ أن يتقدم } في الخير والإيمان { أو يتأخر } عنه.
يريد: أن الإنذار شامل للمؤمنين والكفار.
'@ن. OّےtR $yJخ/ ôMt6|،x. îpoYدdu' اجرب Hwخ) |="ptُ¾r& بûüدJuٹّ9$# اجزب 'خû ;M"¨Zy_ tbqن9uن!$|،tFtƒ احةب ا`tم tûüدBجچôfكJّ9$# احتب $tB َOن3x6n=y™ 'خû tچs)y™ احثب (#qن9$s% َOs9 à7tR ڑئدB tû,حj#|ءكJّ9$# احجب َOs9ur à7tR مNدèôـçR tûüإ3َ،دJّ9$# اححب $¨Zà2ur قعqèƒwU yىtB tûüإزح !$sƒّ:$# احخب
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/273)، والدر المصون (6/420).
(2) ... مثل السابق.(1/464)
$¨Zن.ur ـ>ةjs3çR دQِquخ/ بûïدd‰9$# احدب #س¨Lym $oY9s?r& كûüة)uّ9$# احذب $yJsù َOكgمèxےZs? èpyè"xےx© tûüدèدے"O±9$# احرب $yJsù ِNçlm; ا`tم حotچد.ُG9$# tûüإتجچ÷èمB احزب ِNكg¯Rr(x. ضچكJمm ×otچدےZtFَ،oB اخةب ôNچsù `دB ¥ou'uqَ،s% اختب ِ@t/ ك‰ƒجچمƒ '@ن. <جچّB$# ِNهk÷]دiB br& 4'tA÷sمƒ $Zےكsك¹ ZouژO³oYoB اخثب xx. @t/ w ڑcqèù$sƒs† notچإzFy$# اخجب Hxں2 ¼çm¯Rخ) ×otچد.ُs? اخحب `yJsù uن!$x© ¼çntچں2sŒ اخخب $tBur tbrمچن.ُtƒ Hwخ) br& uن!$t±o" ھ!$# uqèd م@÷dr& 3"uqّ)G9$# م@÷dr&ur(1/465)
حotچدےَّpRùQ$# اخدب
قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة } قال صاحب الكشاف (1) : "رهينة" ليست بتأنيث رهين في قوله: { كل امرئ بما كسب رهين } [الطور:21]، لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛ لأن فعيلاً بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي بمعنى: الرهن، [كالشتيمة] (2) بمعنى: الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: كل نفس بالغة رهينةٌ بعملها لتُحاسب عليه، { إلا أصحاب اليمين } ، وهم أطفال المسلمين؛ لأنه لا حساب عليهم، لأنهم لا ذنوب لهم. قاله علي عليه السلام (3) ، واختاره الفراء (4) .
الثاني: كل نفس من أصحاب النار رهينة في النار، إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنون فإنهم في الجنة. قاله الضحاك (5) .
الثالث: كل نفس مرتهنة بعملها لتحاسب عليه، إلا أصحاب اليمين فإنهم
__________
(1) ... الكشاف (4/655).
(2) ... في الأصل: كالشتمة. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الطبري (29/165)، والماوردي (6/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/411).
(4) ... معاني الفراء (3/205).
(5) ... أخرجه الطبري (29/165) بمعناه. وذكره الماوردي (6/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/411).(1/466)
لا يحاسبون. قاله ابن جريج (1) .
وقال ابن السائب: هم الذين قال لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهم الذين كانوا على يمين آدم (2) .
وقال مقاتل (3) : هم الذين أُعْطوا كتبهم بأيمانهم.
{ في جنات } أي: هم في جنات { يتساءلون * عن المجرمين } يسأل بعضهم بعضاً، أو يتساءلون غيرهم.
وقال مقاتل (4) : إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: { ما سلككم في سقر } .
قال الفراء (5) : وهذه الآية تٌقوّي أنهم الولدان؛ لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فسألوا: "ما سلككم في سقر".
وقال غيره: سألوهم مع علمهم بحالهم؛ توبيخاً وتقريعاً لهم.
والمعنى: ما أدخلكم النار؟.
{ قالوا لم نَكُ من المصلين } أي: من أهل الصلاة.
{ ولم نَكُ نُطعم المسكين } لله عز وجل.
{ وكنا نخوض } [تكذيباً] (6) واستهزاءً { مع الخائضين } بالباطل.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/411).
(2) ... ذكره القرطبي (19/87)، والبغوي (4/418) كلاهما عن مقاتل.
(3) ... تفسير مقاتل (3/419).
(4) ... تفسير مقاتل (3/419).
(5) ... معاني الفراء (3/205).
(6) ... في الأصل: مع تكذيبنا. والتصويب من ب.(1/467)
{ وكنا نكذب بيوم الدين } أي: بيوم الجزاء والحساب.
{ حتى أتانا اليقين } وهو الموت.
{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قال المفسرون: هذا بعد الشفاعة.
قال ابن عباس: يريد: شفاعة الملائكة والنبيين، كما نفعت الموحدين (1) .
وقال الحسن: لم تنفعهم شفاعة مَلَك ولا شهيد ولا مؤمن (2) .
قال ابن مسعود: يشفع نبيكم - صلى الله عليه وسلم - رابع أربعة؛ جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى وعيسى، ثم نبيكم [صلى الله عليهم] (3) أجمعين، لا يُشفّع أحدٌ في أكثر مما يُشفّع فيه نبيكم، ثم النبيون، ثم الصدّيقون، ثم الشهداء. ويبقى قوم في جهنم فيقال لهم: { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين } قرأ إلى قوله: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } . قال ابن مسعود: فهؤلاء الذين يبقون في جهنم (4) .
{ فما لهم عن التذكرة } (5) أي: عن التذكير، يريد: الموعظة بالقرآن وغيره من المواعظ، { معرضين } نصب على الحال (6) ، كما تقول: ما لك قائماً.
{ كأنهم } لشدة نفرتهم عن التذكرة { حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة } .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/387).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في الأصل: - صلى الله عليه وسلم - . والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/387).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: { معرضين } ، وستأتي بعد.
(6) ... انظر: التبيان (2/273)، والدر المصون (6/422).(1/468)
قرأ نافع وابن عامر: "مستنفَرة" بفتح الفاء، على معنى: أنها استدعيت للنفار من القَسْوَرة، فهي مفعول بها في المعنى.
وقرأ الباقون: بكسر الفاء (1) ، جعلوها فاعلة. ويدل عليه قولهم: { فرّت } . يقال: نَفَرَ واسْتَنْفَرَ بمعنىً، مثل: عجب واستعجب.
قال أبو عبيدة (2) : المعنى: كأنهم حُمُرٌ مذعورة، وأنشد الفراء والزجاج (3) :
أمْسِكْ حماركَ إنه مُستنفرُ ... ... ......................... (4)
والقَسْوَرَة: فَعُولَة من القَسْر، وهو القهر والشدة، وكل شديدٍ عند العرب فهو [قَسْوَرَة] (5) . قال لبيد:
إذا ما هَتَفْنَا هَتْفَةً في نَديِّنَا ... ... أتَانَا الرجالُ العائذونَ القَسَاوِرُ (6)
ثم اختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس في رواية عنه: هو الأسد بلغة الحبشة (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/76)، والحجة لابن زنجلة (ص:734)، والكشف (2/347-348)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:660).
(2) ... مجاز القرآن (2/276).
(3) ... معاني الفراء (3/206)، ومعاني الزجاج (5/250).
(4) ... صدر بيت، وعجزه: (في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّب)، وهو في: اللسان وتاج العروس (مادة: نفر)، والطبري (29/168)، والماوردي (6/148)، والبحر (8/372)، والدر المصون (6/422)، وزاد المسير (8/412). ويروى البيت: "اربط" بدل: "أمسك".
(5) ... في الأصل: قسور. والتصويب من ب.
(6) ... البيت للبيد بن ربيعة. وهو في: القرطبي (19/89)، والبحر (8/362)، والدر المصون (6/423).
(7) ... أخرجه الطبري (29/171)، وابن أبي حاتم (10/3385). وذكره السيوطي في الدر (8/339) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/469)
وهو قول أبي هريرة (1) .
قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هربوا منه (2) .
وسُئل أمير المؤمنين علي عليه السلام عنه فقال: هو الأسد، ومنه قوله في أراجيزه عليه السلام:
أنا الذي سَمَّتْنِي أمِّي حيدره ... ضِرْغَامُ آجامٍ شَديدٌ قسورة (3)
وقال ابن عباس في رواية أخرى: القسورة: الرماة (4) .
وقال أيضاً: هم عصب من الرجال (5) .
وقال أيضاً: أصوات الناس (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/170). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/339) وعزاه لعبد بن حميد
... وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/388)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/412).
(3) ... انظر نحو هذا البيت في: البداية والنهاية (4/187)، وتاريخ الطبري (2/137)، واللسان (مادة: حدر).
(4) ... أخرجه الطبري (29/168)، وابن أبي حاتم (10/3385). وذكره السيوطي في الدر (8/339) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (29/169)، وابن أبي حاتم (10/3385). وذكره السيوطي في الدر (8/339) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (29/170). وذكره السيوطي في الدر (8/339) وعزاه لسفيان بن عيينة في تفسيره وعبد الرزاق وابن المنذر.(1/470)
وقال سعيد بن جبير: هو القَنَّاص (1) ، يريد: الصَّيَّاد.
وقال جماعة، منهم عكرمة: ظلمة الليل (2) .
قوله تعالى: { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } أي: كتباً منشورة.
وكان كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن سرّك أن نتبعك، فليصبح عند رأس كل واحد (3) منا كتاب منشورٌ: إلى فلان بن فلان من الله تبارك وتعالى، يؤمر فيه باتباعك (4) .
وقال أبو صالح: طلبوا أن يأتي كل واحد منهم كتاب من الله تبارك وتعالى فيه براءة له من النار (5) .
وقيل: إنهم قالوا: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب في رقعة، فما لنا لا نرى ذلك، فنزلت هذه الآية (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/169). وذكره السيوطي في الدر (8/339) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/413).
(3) ... في ب: رجل.
(4) ... أخرجه الطبري (29/171). وذكره السيوطي في الدر (8/340) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر أيضاً.
(5) ... ذكره السيوطي في الدر (8/340) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(6) ... ذكره الماوردي (6/149)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/413).(1/471)
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ لهم عن تلك الإرادة، وزجر عن اقتراح الآيات { بل لا يخافون الآخرة } أي: لا يحذرون عذابها. فلذلك اقترحوا عليك الآيات، وتعنّتوك هذا [التعنّت] (1) .
{ كلا إنه } يعني: القرآن { تذكرة } أي: عظة بليغة.
{ فمن شاء ذكره } أي: اتّعظ به، فإن الله تعالى جعل له آلة تُوصله إلى ذلك.
ثم رد المشيئة إلى نفسه تعالى فقال: { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } وقرأ نافع: "تذكرون" بالتاء، على الخطاب (2) .
{ هو أهل التقوى وأهل المغفرة } أخبرنا الشيخ أبو العباس الخضر بن كامل بن سالم المعبر الخاتوني بدمشق، في شوال سنة ست وستمائة قال: أخبرنا أبو عبدالله الحسين بن علي بن أحمد الخياط المقرئ سبط الشيخ أبي منصور، في المحرم سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور البزاز، أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبدالله بن الحسين الدقاق، المعروف بابن أخي ميمي، حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية: { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول ربكم:
__________
(1) ... في الأصل: التعنيت. والتصويب من ب.
(2) ... الحجة لابن زنجلة (ص:735)، والكشف (2/348)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:427)، والسبعة (ص:660).(1/472)
أنا أهل أن أتّقى فلا يُشرك بي غيري، وأنا أهلٌ لمن اتقى أن يُشرك بي أن أغفر له" (1) .
وأخرج الإمام أحمد قال: حدثني عبدالقدوس بن بكر قال: سمعت محمد بن [نضر] (2) الحارثي يقول في قوله تعالى: { أهل التقوى وأهل المغفرة } قال: "أنا أهلٌ أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنتُ أهلاً أن أغفر له" (3) .
__________
(1) ... أخرجه ابن ماجه (2/1437 ح4299).
(2) ... في الأصل و ب: نصر. والتصويب من الزهد (ص:441). وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (8/175).
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:441).(1/473)
سورة القيامة
ijk
وهي أربعون آية في الكوفي، وإلا آية في المدني (1) . وهي مكية بإجماعهم.
Iw أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (:259).(1/376)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ اتخب
قوله تعالى: { لا أقسم بيوم القيامة } اتفقوا على أن المعنى: أقسم بيوم القيامة.
واختلفوا في "لا" فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو عبيدة (1) : هي صلة، وأنشدوا:
__________
(1) ... انظر: مجاز القرآن (2/277)، والطبري (29/172-173)، والماوردي (6/150).(1/377)
تذكَّرْتُ ليلى [فاعْتَرتْنِي] (1) صَبَابةٌ ... ... وكادَ ضميرُ القلب لا يتقطَّع (2)
أراد: وكاد ضمير القلب يتقطّع، ومثله: { لئلا يعلم أهل
الكتاب } [الحديد:29].
وقال أبو بكر بن عياش وغيره: دخلت "لا" توكيداً للقسم، كقولك: لا والله (3) ، ومنه قول امرئ القيس:
لا وأبيكِ ابنةَ العامريِّ ... ... لا يَدَّعِي القومُ [أني] (4) أفرّ (5)
وقال الفراء (6) : "لا" ردٌّ على الذين أنكروا البعث والجنة والنار.
ويدل على هذا قراءة من قرأ "لأُقْسِمُ" يجعلها لاماً دخلت على "أُقْسِم". وهي قراءة ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة وابن محيصن، وبها قرأتُ لابن كثير بخلاف عنه، ولأبي عمرو من رواية
__________
(1) ... في الأصل: فاعترتي. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(2) ... انظر البيت في: تفسير الماوردي (6/150)، وتفسير النسفي (4/299)، وتفسير القرطبي (19/91، 20/59) وفيه: "صميم" بدل: "ضمير".
(3) ... ذكره الطبري (29/173)، والماوردي (6/150).
(4) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(5) ... البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:154)، والمحتسب (2/273)، والخزانة (4/489)، والقرطبي (19/92)، والماوردي (6/150)، والبحر (8/375)، والدر المصون (6/424)، وتاج العروس (مادة: سند)، وروح المعاني (5/71، 27/152، 29/135).
(6) ... معاني الفراء (3/207).(1/378)
عبدالوارث (1) .
قال الزجاج (2) : وهذه القراءة بعيدة في العربية؛ لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأضربنَّ زيداً، ولا يجوز: لأضربُ زيداً.
وقال غيره في هذه القراءة (3) : اللام للابتداء، و"أُقْسِم": خبر مبتدأ محذوف، معناه: لأَنا أقسم، ويعضده أنه في الإمام بغير ألف.
قوله تعالى: { ولا أقسم بالنفس اللوامة } قال قتادة: حكمُها حكمُ الأولى (4) .
قال الحسن: أقسَمَ بالأولى، ولم يُقسم بالثانية (5) .
قال الماوردي (6) : يكون تقدير الكلام: أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة.
والصحيح: انتظامهما في سلك واحد، وأنهما قَسَمان (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/77)، والحجة لابن زنجلة (ص:735)، والكشف (2/349)، والنشر (2/282)، والإتحاف (ص:428)، والسبعة (ص:661).
(2) ... معاني الزجاج (5/327).
(3) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/660).
(4) ... أخرجه الطبري (29/173). وذكره الماوردي (6/151)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/416).
(5) ... أخرجه الطبري (29/173). وذكره الماوردي (6/151).
(6) ... تفسير الماوردي (6/151).
(7) ... وهو اختيار الطبري (29/173)، قال: لأنه جعل "لا" رداً لكلام قد كان تقدمه من قوم وجواباً لهم.(1/379)
فإن قيل: المقسَم عليه ما دل عليه قوله: { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } ، كأنه قيل: أقسَمَ لتُبعثن. فعلى هذا؛ القسم بيوم القيامة [معقول] (1) ؛ لما يشتمل عليه من الأهوال، والأمور العِظام الدالَّة على قدرة خالقها، وعظمة مُوجِدِها، والتذكير بذلك اليوم العظيم ليُهَيّجُهُم على الإيمان به، والاستعداد له، فما معنى القَسَم بالنفس اللوامة؟
قلتُ: النفس اللوامة هي التي [تتلوَّم] (2) حين لا ينفعها التَّلوُّم، وذلك يوم القيامة. فهو منتظم في معنى القَسَم الأول.
قال الفراء (3) : ليس من نفس برّةٍ ولا فاجرةٍ إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت: هلاّ [ازددتُ] (4) ، وإن كانت عملت شراً قالت: ليتني لم أفعل. وهذا معنى ما رواه عطاء عن ابن عباس.
وقيل: هي التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان.
قال الحسن: لا ترى المؤمن إلا لائماً لنفسه (5) ، وإن الكافر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه (6) .
__________
(1) ... في الأصل: مفعول. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: تلوم. والمثبت من ب.
(3) ... معاني الفراء (3/208).
(4) ... في الأصل: ازدت. والتصويب من ب.
(5) ... في ب: نفسه.
(6) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفس (ص:24). وذكره الواحدي في الوسيط (4/391)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/416)، والسيوطي في الدر (8/343) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.(1/380)
فعلى هذا؛ يكون القسم بالنفس المؤمنة الشديدة الخوف من ربها، أقسم بها مُؤذناً بشرفها، معرّضاً بتوبيخ الكفار لإعراضهم عن مراقبة ربهم، ومحاسبة أنفسهم، ظناً منهم أنها مُهملة، لا تُجمع لفصل القضاء والعَرْض على الله للجزاء.
وقيل: هي نفس آدم لم تزل [تتلوَّم] (1) على فعلها الذي خرجت به من الجنة (2) .
قوله تعالى: { أيحسب الإنسان } يريد: الكافر، فهو اسم جنس.
وقال ابن عباس: يريد: أبا جهل (3) .
وقال مقاتل (4) وغيره: نزلت في عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو عاينت يوم القيامة لم أصدقك ولم أؤمن بك، أو يجمع الله العظام؟ فنزلت هذه الآية.
والاستفهام في معنى الإنكار.
والمعنى: { أن لن نجمع عظامه } بعد تفرُّقها وتمزُّقها.
{ بلى } أوجبت ما بعد النفي، وهو جمع العظام، أي: بلى نجمع عظامه { قادرين } حال من الضمير في "نجمع" (5) .
__________
(1) ... في الأصل: تلوم. والمثبت من ب.
(2) ... انظر: القرطبي (19/93).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/391)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/416).
(4) ... تفسير مقاتل (3/421).
(5) ... انظر: التبيان (2/274)، والدر المصون (6/426).(1/381)
والمعنى: نجمع العظام قادرين على تأليفها وجمعها بعد أن صارت رميماً، ونسفتها الرياح.
{ على أن نسوي بنانه } يريد: أصابعه.
وخُصّ البنان بالذِّكْر؛ لموضع صغر عظامه؛ إشارة إلى أنَّ من قَدَرَ على جمع العظام الصغار كان على جمع العظام الكبار أقْدَر. وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج (1) .
وقال جمهور المفسرين: المعنى: بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه، أي: نجعلها مستوية شيئاً واحداً؛ كخف البعير، وحافر الحمار، فلا يتمكن من القبض والبسط، وعمل الأشياء اللطيفة التي تعمل بالأصابع؛ كالكتابة والخياطة وغيرهما (2) .
وفي قراءة ابن أبي عبلة: "قادرون"، على معنى: نحن قادرون (3) .
قوله تعالى: { بل يريد الإنسان } قال الزمخشري (4) : "بل يريد" عطف على "أيحسب"، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يُضرب عن مُستَفهم عنه إلى آخر. أو يُضرب عن مستَفهم عنه إلى موجب.
{ ليفجر أمامه } أي: ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الزمان، لا
__________
(1) ... تأويل مشكل القرآن (ص:346)، ومعاني الزجاج (5/251).
(2) ... ذكره الطبري (29/175-176)، والماوردي (6/152)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/417).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/376)، والدر المصون (6/426).
(4) ... الكشاف (4/661).(1/382)
ينزع ولا يرجع عن كفره ومعصيته. هذا معنى قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي (1) .
وقال ابن عباس: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب (2) .
وقال سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على شر أحواله، وأسوأ أعماله (3) .
قوله تعالى: { يسأل أيان يوم القيامة } أي: يسأل الإنسان تكذيباً واستهزاءً متى يوم القيامة، ونحوه: { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [يونس:48].
قال الله عز وجل: { فإذا بَرِقَ البصر } قرأ نافع وأبو جعفر وأبان عن عاصم: "بَرَقَ" بفتح الراء، وكسرها الباقون من العشرة (4) .
فمن فتح فعلى معنى: لَمَعَ وشَخَصَ عند الموت، ومن كسر فعلى معنى: حَارَ وفَزِعَ عند البعث أو عند الموت، أو عند رؤية جهنم، وأصله من بَرِقَ الرجل؛ إذا نظر إلى البرق، فَدَهَشَ بصره (5) .
وقيل: إن اللغتين بمعنى واحد.
__________
(1) ... انظر: الطبري (29/177).
(2) ... أخرجه الطبري (29/178). وذكره السيوطي في الدر (8/344) وعزاه لابن أبي حاتم وابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (29/177). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/418).
(4) ... الحجة للفارسي (4/78)، والحجة لابن زنجلة (ص:736)، والكشف (2/350)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:428)، والسبعة (ص:661).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: برق).(1/383)
قال الفراء (1) : العرب تقول: بَرِقَ البصر يَبْرَقُ، وبَرَقَ يَبْرُقُ؛ إذا رأى هولاً يفزع منه، وبَرِقَ أكثر وأجود. قال الشاعر:
فنفسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ... ... ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرَقِ (2)
بالفتح، أي: لا تفزع من هول الجراح التي بك.
قوله تعالى: { وخَسَفَ القمر } أي: ذهب ضوؤه.
وقرأ أبو حيوة : "وخُسِفَ" بضم الخاء وكسر السين (3) ؛ لقوله: { وجُمع الشمس والقمر } .
وفي قراءة ابن مسعود: "وجمع بين الشمس والقمر" (4) .
قال الفراء (5) : إنما لم يقل: وجمعت؛ لأن المعنى: وجمع بينهما.
وقال الكسائي: لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غُلّب المذكر؛ لقوّته وخفّته.
وقال أبو عبيدة (6) : إنما قال: وجُمع؛ لتذكير القمر.
قال الفراء والزجاج (7) : المعنى: جمع بينهما في ذهاب نُورهما.
__________
(1) ... معاني الفراء (3/209).
(2) ... البيت لطرفة بن العبد. انظر: ديوانه (ص:70)، واللسان (مادة: برق، حنن)، والطبري (29/179)، والقرطبي (19/96)، والماوردي (6/153)، وزاد المسير (8/418)، والدر المصون (6/427)، وتاج العروس (مادة: برق).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/376)، والدر المصون (6/427).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (29/180)، والقرطبي (19/97).
(5) ... معاني الفراء (3/209).
(6) ... مجاز القرآن (2/277).
(7) ... معاني الفراء (3/209)، ومعاني الزجاج (5/252).(1/384)
وقال جمهور المفسرين: جمع بين ذاتيهما.
قال ابن مسعود: جُمعا كالبعيرين القرينين (1) .
قال مجاهد: يرمى بهما في النار كالثورين العقيرين (2) .
قرأتُ على الشيخ أبي عبدالله محمد بن داود بن عثمان الدربندي بمسجد الخليل - صلى الله عليه وسلم - ، أخبركم الحافظ أبو طاهر السلفي بثغر الإسكندرية فأقرَّ به، قال: أخبرنا أبو عبدالله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي الأصفهاني، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد المزكِّي بنيسابور سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي، حدثنا محمد بن المنادي، حدثنا يونس -يعني: بن محمد المنادي-، حدثنا عبدالعزيز بن المختار، عن عبدالله الداناج قال: شهدت أبا سلمة (3) بن عبدالرحمن بن عوف زمن خالد بن عبدالله بن أسيد في هذا الجامع بالبصرة قال: وجاء الحسن فجلس إليه قال: فحدّث قال: حدثنا أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تُحوَّلُ الشمس والقمر ثورين مكوّرين في النار يوم القيامة. قال: وقال الحسن: وما ذنبهما؟ قال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: فسكت الحسن" (4) . رواه البخاري عن مسدد عن عبد العزيز.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/391)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/419).
(2) ... انظر: القرطبي (19/97)، والبغوي (4/422).
(3) ... في ب: أبان.
(4) ... أخرجه البخاري (3/1171 ح3028).(1/385)
وقال عطاء بن يسار: يُجمعان يوم القيامة ثم يُقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى (1) .
وقيل: المعنى: جُمع بينهما في الطلوع من المغرب.
ويروى عن علي وابن عباس: أنهما يُجعلان في نور الحجب (2) .
قوله تعالى: { يقول الإنسان } أي: المكذّب بالبعث { يومئذ أين المفر } .
قرأ العشرة وعامة القرّاء: "المفَرُّ" بفتح الفاء.
وقرأ جماعة، منهم: ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، والزهري: "المَفِرُّ" بكسر الفاء (3) .
قال الكسائي: هما لغتان.
وقال غيره (4) : "المَفَر": بالفتح، المصدر، وبالكسر: المكان.
قال الزجاج وغيره (5) : من فتح فهو بمعنى الفرار، ومن كسر فعلى معنى: أين مكان الفرار، [تقول] (6) : جلستُ مَجْلَساً -بفتح اللام- بمعنى: جُلُوساً، وإذا قلت: مَجْلِساً، [فأنت] (7) تريد المكان.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/180). وذكره السيوطي في الدر (8/345) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره القرطبي (19/97).
(3) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:428)، وزاد المسير (8/419-420).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/661).
(5) ... معاني الزجاج (5/252).
(6) ... في الأصل: يقال. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: فلت. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/386)
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن طلب المفر { لا وزر } أي: لا ملجأ، وكلُّ ما التجأت إليه من جبل وغيره، أو تخلصت به فهو وَزَرُك.
{ إلى ربك يومئذ المستقر } أي: إلى ربك خاصة يوم القيامة مُستقر العباد كلهم، مؤمنهم وكافرهم، وطائعهم وعاصيهم. أو إلى حكم ربك مرجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره. [أو إلى] (1) ربك مستقرهم، أي: موضع قرارهم، من جنة أو نار، أي: مفوّض ذلك إلى مشيئته، من شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
قوله تعالى: { ينبأ الإنسان } أي: يخبر (2) { يومئذ بما قدم } من عمله { وأخَّر } منه.
وقال ابن مسعود: بما قدم قبل موته من صالح وطالح، وما سَنَّ من شيء يُعمل به بعد موته (3) .
وقال زيد بن أسلم: بما قدّم: من أمواله لنفسه، وما أخّر: خلّف للورثة (4) .
وقال قتادة: بما قدم من معصية وما أخّر من طاعة (5) .
قوله تعالى: { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال الفراء (6) : المعنى: بل
__________
(1) ... في الأصل: وإلى. والتصويب من ب.
(2) ... في ب: يخير.
(3) ... أخرجه الطبري (29/183). وذكره السيوطي في الدر (8/346) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/420).
(5) ... أخرجه الطبري (29/184). وذكره الماوردي (6/154).
(6) ... معاني الفراء (3/211).(1/387)
على الإنسان من نفسه بصيرة، أي: رُقباء يشهدون عليه بعمله، وهي الجوارح.
قال ابن قتيبة (1) : فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه.
وقال أبو عبيدة (2) : جاءت الهاء في "بصيرة" في صفة المذكّر، كما جاءت في: رجل راوية، وطاغية، وعلاَّمة.
وقيل: المعنى: بل الإنسان على نفسه عينٌ بصيرة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
قوله تعالى: { ولو ألقى معاذيره } قال الزجاج (3) : المعنى: ولو أدلى بكل حجة.
قال (4) : وجاء في التفسير: أن المعاذير: سُتور، واحدها: مِعْذار.
قلتُ: وهو قول الضحاك والسدي (5) .
قال الماوردي (6) : هو بلغة اليمن. وأنشد قول الشاعر:
ولكِنَّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا ولطَّت دُوننا بالمعَاذِر (7)
__________
(1) ... تأويل مشكل القرآن (ص:193).
(2) ... مجاز القرآن (2/277).
(3) ... معاني الزجاج (5/253).
(4) ... أي: الزجاج.
(5) ... أخرجه الطبري (29/186) عن السدي. وذكره الماوردي (6/155)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/421)، والسيوطي في الدر (8/347) وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.
(6) ... تفسير الماوردي (6/155).
(7) ... انظر البيت في: الماوردي (4/155)، و القرطبي (19/100)، والبحر (8/378)، والدر المصون (6/429) وفيهم: "وأطّت" بدل: "ولطّت".(1/388)
قلتُ: ومعنى: لطَّت -بالطاء المهملة-: سَتَرَت.
قال ابن دريد (1) : كُلُّ شيء سترته فقد لَطَطْتَهُ، ولَطَّتْ الناقة بذنبها؛ إذا جعلته بين فخذيها في عَدْوها (2) .
قال صاحب الكشاف (3) : فإن صح؛ فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تَمنع المعذرة عقوبة المذنب.
ںw تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)
__________
(1) ... جمهرة اللغة (1/108).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: لطط).
(3) ... الكشاف (4/662).(1/389)
وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ اثخب
قوله تعالى: { لا تحرك به لسانك } أي: بالقرآن.
أخرج [الشيخان] (1) في الصحيحين والنسائي والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس في هذه الآية قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعالج من التنزيل شدة" (2) .
وفي رواية الترمذي: "يحرك به لسانه يريد أن يحفظه" (3) .
وفي رواية: "يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ، فأنزل الله تبارك وتعالى: { لا تحرك به لسانك لتعجل به } " (4) .
__________
(1) ... في الأصل: البخاري. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه البخاري (1/6 ح5)، ومسلم (1/330 ح448)، والنسائي (1/324 ح1007)، وأحمد (1/343 ح3191).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/430 ح3329).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (8/348) وعزاه لابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس.(1/390)
ونظير هذه الآية قوله: { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [طه:114].
{ إن علينا جمعه وقرآنه } جمعه في صدرك، "وقرآنه" أي: وإثبات قرآنه في لسانك. أو إن علينا قراءته عليك، أي: إن جبريل يقرأه عليك حتى تحفظه.
{ فإذا قرأناه } أي: إذا فرغ جبريل من قراءته.
قال الزمخشري (1) : جعل قراءة جبريل قراءته، والقرآن القراءة.
{ فاتبع قرآنه } فكن مُقَفِّياً له فيه ولا تراسله.
وقال ابن عباس: اعمل به (2) . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ هذا إذا نزل عليه جبريل بالوحي أطرق، فإذا فرغ وذهب قرأه كما وعده الله.
{ ثم إن علينا بيانه } تبيينه بلسانك، فتقرأه كما أقرأك جبريل. هذا قول ابن عباس (3) .
وقال قتادة: علينا بيان ما فيه من الأحكام، والحلال والحرام (4) .
وقال الحسن: علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد (5) .
__________
(1) ... الكشاف (4/662).
(2) ... أخرجه الطبري (29/190)، وابن أبي حاتم (10/3387). وذكره السيوطي في الدر (8/348) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (29/191). وذكره الماوردي (6/156).
(4) ... أخرجه الطبري (29/190). وذكره الماوردي (6/156)، والسيوطي في الدر (8/348) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... ذكره الماوردي (6/156)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/422).(1/391)
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن العجلة، وحثٌ على التؤدة.
وقال عطاء: المعنى: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وببيانه (1) .
{ بل تحبون العاجلة } قرأ نافع وأبو جعفر وأهل الكوفة: "تحبون"، "وتذرون" بالتاء فيهما على المخاطبة، على معنى: قل لهم يا محمد: بل تحبون العاجلة. وعلى معنى: أنتم يا بني آدم تحبون العاجلة، وهي الدنيا فتعملون لها، { وتذرون الآخرة } لا تعملون لها.
وقرأ الباقون من العشرة: "يحبون"، "ويذرون" بالياء فيهما على المغايبة، حملاً على ما قبله من لفظ الغيبة (2) .
قوله تعالى: { وجوه يومئذ } يعني: يوم القيامة { ناضرة } ناعمة غَضَّة حسنة. يقال: شجرة ناضر، وروض ناضر.
قال المفسرون: مُشْرِقةٌ بالنعيم.
قال الزمخشري (3) : الوجه: عبارة عن الجملة.
{ إلى ربها ناظرة } قال ابن عباس: يريد: إلى الله ناظرة (4) .
وقال في رواية أخرى: تنظر إلى الله لا تُحجب عنه (5) .
قال مقاتل (6) : تنظر إلى ربها معاينة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/393)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/422).
(2) ... الحجة للفارسي (4/78)، والحجة لابن زنجلة (ص:736)، والكشف (2/350)، والنشر (2/393)، والإتحاف (ص:428)، والسبعة (ص:661).
(3) ... الكشاف (4/663).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/393)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/422).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/393-394).
(6) ... تفسير مقاتل (3/423).(1/392)
وقد ذكرتُ طرفاً من ذلك في سورة يونس (1) ، وأقمت حجة الله على منكري نظر المؤمنين إلى ربهم في الجنة. وهذا قول عامة المفسرين.
ويروى عن ابن عمر ومجاهد: أن المعنى: إلى ثواب ربها ناظرة (2) ، على حذف المضاف.
قال الزمخشري (3) : سمعتُ سَرَوِيَّةً مُستجديةً (4) بمكة وقت الظهر حين يُغلق الناسُ أبوابَهم، ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عُيَيْنَتي نُويْظِرة إلى الله وإليكم.
وهذا لا ينفي إثبات الرؤية لله؛ لأنها ثابتة بأدلة أُخَر لا يتطرّق إليها تأويل.
والأول هو الصحيح، وإليه ذهب علماء السنة وجمهور الأمة.
قوله تعالى: { ووجوه يومئذ باسرة } قال قتادة: كالحة (5) .
قال ابن قتيبة (6) : مُقطِّبة عابسة.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 26.
(2) ... ذكره الماوردي (6/156). قال القرطبي (19/108): حكاه -أي: القول- الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضاً، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده.
... قلت: كذا القول الثاني ليس بصحيح. وقد ثبت عن عكرمة خلافه.
(3) ... الكشاف (4/663).
(4) ... أي: امرأة سائلة من جبال السَّرَاة.
(5) ... أخرجه الطبري (29/193). وذكره السيوطي في الدر (8/360) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:500).(1/393)
{ تظن أن يفعل بها فاقرة } قال مجاهد: داهية (1) .
قال غيره (2) : داهية تقصِم فَقَار الظهر.
قال ابن زيد: الفاقرة: دخول النار (3) .
وقال ابن السائب: هي أن تُحجب عن ربها فلا تَنظُر إليه (4) .
Hxx. إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/194). وذكره السيوطي في الدر (8/360) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/664).
(3) ... أخرجه الطبري (29/194). وذكره الماوردي (6/157)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/423).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/395)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/423).(1/394)
وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى احةب
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن إيثار الدنيا على الآخرة { إذا بلغت } قال(1/395)
جماعة من المحققين (1) : يعني: النفس، وإن لم يَجْرِ لها ذكر؛ لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها، كما قال حاتم:
أمَا وِيَّ ما يُغني الثراءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضَاقَ بها الصَّدْرُ (2)
والتَّراقي: العظام المكتَنِفَة لثُغْرَة النحر، عن يمين وشمال، واحدها: تَرْقُوَة (3) .
قال بعض العلماء (4) : ذكّرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة.
قوله تعالى: { وقيل مَنْ راق } كان حفص يُظهر النون مِنْ "مَنْ" ويقف عليها وقفة يسيرة (5) .
[قال أبو العالية ومقاتل] (6) : تقول الملائكة: من يرقى بروحه ملائكة
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/664).
(2) ... البيت لحاتم، انظر: اللسان (مادة: قرن)، والقرطبي (17/230)، والطبري (13/30)، وروح المعاني (29/146).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: ترق).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/664).
(5) ... انظر: الحجة للفارسي (4/79)، والحجة لابن زنجلة (ص:737)، والكشف (2/55-56)، والإتحاف (ص:428)، والسبعة (ص:661).
(6) ... لم أقف عليه في تفسير مقاتل. وما بين المعكوفين في الأصل: وقال أبو العالية مقاتل. والتصويب من (ب).(1/396)
الرحمة، أو ملائكة العذاب (1) .
وقال عكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد: المعنى: يقول أهله: من يرقيه برقية تشفيه (2) .
قال قتادة: التَمَسُوا له الأطباء فلم يُغنُوا عنه من قضاء الله شيئاً (3) . والقولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: { وظن أنه الفراق } أي: تيقّن الذي بلغت روحه التراقي أنه مُفارق للدنيا.
قوله تعالى: { والتفّت الساق بالساق } قال عطاء: شدة الموت بشدة الآخرة (4) .
وقال سعيد بن جبير: اجتمع فيه الحياة والموت (5) .
وقال الشعبي: التفّت ساقاه عند الموت (6) .
قال الحسن: ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليهما جوّالاً (7) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/424) ، والسيوطي في الدر (8/361) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي العالية.
(2) ... أخرجه الطبري (29/194). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/424).
(3) ... أخرجه الطبري (29/195).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/395).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/424) عن الحسن ومجاهد، والسيوطي في الدر (8/362) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.
(6) ... أخرجه الطبري (29/197). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/424).
(7) ... ذكره الماوردي (6/158).(1/397)
وقال سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين يُلفّان في أكفانه (1) .
وقيل: التفّت آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة (2) .
قوله تعالى: { إلى ربك يومئذ المساق } أي: إلى الله الذي لا يخفى عليه خافية، يُساق العباد يوم القيامة، وهو الذي يتولى جزاءهم.
قوله تعالى: { فلا صدق ولا صلى } قال المفسرون: نزلت في أبي جهل بن هشام لعنه الله.
ويجوز أن يراد: الإنسان، بدليل قوله أولاً: { أيحسب الإنسان } [القيامة:3]، وثانياً: { أيحسب الإنسان أن يترك سُدى } [القيامة:36].
قال قتادة: فلا صدّق بكتاب الله، ولا صلى لله (3) .
وقيل: فلا صدّق بماله.
وقد قيل: "لا" بمعنى "لم"، أي: [لم] (4) يُصدِّق ولم يُصلّ.
{ ولكن كذب } بكتاب الله { وتولى } عن الإيمان به.
{ ثم ذهب إلى أهله يتمطَّى } أي: يتبخْتَر، وأصله: يتمطَّط، أي: يتمدَّد؛ لأن المتبختر يَمُدُّ خُطاه.
وقال الفراء والزجاج (5) : هو مأخوذٌ من المَطَا، وهو الظهر.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/424).
(2) ... قاله الزجاج. انظر: معاني الزجاج (5/254).
(3) ... أخرجه الطبري (29/199). وذكره السيوطي في الدر (8/363) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... معاني الفراء (3/212)، ومعاني الزجاج (5/254).(1/398)
قال الزمخشري (1) : لأنه يلويه. ومنه الحديث: "إذا مَشَتْ أمتي المُطَيْطَاء وخدمتهم فارس والروم فقد جُعل بأسهم بينهم" (2) .
يعني: كذّبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وتولى عنه، ثم ذهب إلى أهله يتبختر افتخاراً بذلك.
{ أولى لك فأولى } يعني: ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.
قال الزجاج (3) : العرب تقول: أولى لفلان؛ إذا دَعَتْ عليه بالمكروه.
قوله تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سُدى } أي: [يُهمل] (4) فلا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُحاسب ولا يُعاقب، وأنشدوا:
فَأُقْسِمُ باللهِ جهدَ اليمينِ ... ... ما تَرَكَ اللهُ أمْراً سُدَى (5)
ثم دلَّهم على البعث بقوله: { ألم يك نطفة من مني تمنى } وقرأ حفص: بالياء (6) ، جعل الفعل للمنيّ، وهو مذكر.
والباقون جعلوا الفعل للنُّطفة.
{ ثم كان علقة } بعد أن كان نطفة { فخلق فسوى } أي: فقدّر فعدّل نسمة
__________
(1) ... الكشاف (4/665).
(2) ... أخرجه ابن حبان (15/112 ح6716).
(3) ... معاني الزجاج (5/254).
(4) ... في الأصل: يمهل. والمثبت من ب.
(5) ... انظر البيت في: الماوردي (6/160)، والبحر (8/374)، والدر المصون (6/434)، وروح المعاني (29/149)، والقرطبي (19/116).
(6) ... الحجة للفارسي (4/79)، والحجة لابن زنجلة (ص:737)، والكشف (2/351)، والنشر (2/394)، والإتحاف (ص:428)، والسبعة (ص:662).(1/399)
تسعى.
{ فجعل منه } أي: من الإنسان { الزوجين } الصنفين { الذكر والأنثى } .
{ أليس ذلك } الذي أنشأ هذا [الإنشاء] (1) { بقادر على أن يحيي الموتى } .
وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو رجاء وعاصم الجحدري: "يَقْدِرُ" (2) على صيغة الفعل المضارع، من قَدَرَ يَقْدِر.
أخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: { أليس الله بأحكم الحاكمين } فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
ومن قرأ: { لا أقسم بيوم القيامة } فانتهى إلى: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } فليقل: بلى.
ومن قرأ: { والمرسلات } فبلغ: { فبأي حديث بعده يؤمنون } فليقل: آمنا بالله" (3) .
__________
(1) ... في الأصل: الإنسان. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/426)، والدر المصون (6/434).
(3) ... أخرجه أبو داود (1/234 ح887).(1/400)
سورة الإنسان
ijk
وهي إحدى وثلاثون آية (1) .
قال مجاهد وقتادة وجمهور المفسرين: هي مدنية (2) .
واستثنى الحسن: { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } (3) .
وقال مقاتل (4) : هي مكية.
وقال قوم: من أولها إلى قوله: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } مدني، وباقيها مكي (5) .
ِ@yd أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:260).
(2) ... انظر: زاد المسير (8/427).
(3) ... انظر: الإتقان (1/44)، وزاد المسير (8/427).
(4) ... تفسير مقاتل (3/425).
(5) ... انظر: الماوردي (6/161)، وزاد المسير (8/427).(1/401)
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا اجب
قال الله تعالى: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } قال الفراء (1) : [معناه] (2) : قد أتى، و"هَلْ" تكون خبراً وتكون جحداً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرّره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا. وهذا قول المفسرين وأهل اللغة (3) .
وقيل: إنه استفهام في معنى التقرير، تقديره: أليس قد أتى على الإنسان.
والمراد بالإنسان: آدم عليه السلام، والحين الذي أتى عليه: أربعون سنة، وذلك حين كان جسداً مصوراً من طين قبل أن يُنفخ فيه الروح. وهذا قول أكثر أهل العلم (4) .
__________
(1) ... معاني الفراء (3/213).
(2) ... زيادة من ب، ومعاني الفراء، الموضع السابق.
(3) ... انظر: الطبري (29/202)، والماوردي (6/161)، والدر المصون (6/436)، وزاد المسير (8/427-428).
(4) ... ذكره الطبري في تفسيره (29/202)، والماوردي في تفسيره (6/162)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/428).(1/402)
ويروى عن ابن عباس وابن جريج: أنه اسم جنس (1) .
فعلى هذا؛ المراد بالحين: زمن كونه نطفة وعلقة ومضغة.
وقوله: { لم يكن شيئاً مذكوراً } في محل النصب على الحال من "الإنسان" (2) ، تقديره: هل أتى عليه حين غير مذكور. أو في محل الرفع على الوصف لـ"حين" (3) .
والمعنى: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً.
وقال قطرب والفراء (4) وثعلب: قد كان شيئاً ولم يكن شيئاً مذكوراً.
أخبرنا الشيخ أبو عبدالله أحمد بن طلحة البغدادي، أخبرنا أبو القاسم يحيى بن أسعد، أخبرنا أبو طالب ابن يوسف، أخبرنا أبو علي ابن المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبدالله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، ثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبدالله، أخبرنا أبو عمر زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، أو زياد بن مخراق، سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقرأ: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } فقال عمر: ليتها تمّت (5) .
وقال عون بن عبدالله: قرأ رجلٌ عند ابن مسعود هذه الآية، فقال: ألا
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/162)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/428)، والسيوطي في الدر (8/367) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.
(2) ... انظر: التبيان (2/275).
(3) ... انظر: الدر المصون (6/437).
(4) ... معاني الفراء (3/213).
(5) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:79).(1/403)
ليت ذلك لم يكن (1) .
قوله تعالى: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } قال الزمخشري (2) : هو كبُرْمَةٍ أعْشَارٍ، وبُرْدٍ أكْيَاشٍ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج. قال الشمَّاخ:
طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتْ ... على مَشَجٍ سُلالَتُهُ مَهِين (3)
ولا يصح "أمشاج" أن يكون تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما.
وقال غيره: واحد الأمْشَاج: مَشْجٌ ومَشِيجٌ، ويقال: مشجت هذا بهذا، أي: خلطته، فهو مَمْشُوجٌ ومَشِيجٌ، مثل: مَخْلُوطٌ وخَلِيطٌ.
والمعنى: من نطفة قد امتزج واختلط فيها الماءان.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والربيع وجمهور المفسرين: يريد: ماء الرجل وماء المرأة، يختلطان في الرحم، فيكون منهما جميعاً الولد (4) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/107 ح34556). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/366) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... الكشاف (4/666-667).
(3) ... البيت للشماخ. انظر: ديوانه (ص:328)، واللسان (مادة: مشج، سلل)، والقرطبي (19/120)، والبحر (8/384)، والدر المصون (6/437)، وتاج العروس (مادة: سلل).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:711)، و(ص:712) عن الحسن، والطبري (29/203-204)، وابن أبي حاتم (10/3390). وذكره السيوطي في الدر (8/367) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الربيع، وعزاه لعبد بن حميد.(1/404)
وماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا [ماء] (1) صاحبه كان الشبه له.
وقال قتادة: هي أطوار الخلق، تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، ثم يُكسى العظم لحماً، ثم ينشئه الله خلقاً آخر (2) .
وقال الضحاك وابن عباس في رواية الوالبي: أراد: اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء ، فهي مختلفة الألوان (3) .
وقال ابن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة (4) .
وقال الحسن: نعم والله خُلقت من نطفةٍ مُشجت بدم، وهو دم الحيض، فإذا [حبلت] (5) ارتفع الحيض (6) .
__________
(1) ... في الأصل: على. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (29/204). وذكره السيوطي في الدر (8/368) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الطبري (29/204-205) عن ابن عباس ومجاهد، وابن أبي حاتم (10/3390). وانظر: تفسير البغوي (4/427). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/368) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.
(4) ... أخرجه الطبري (29/205) عن ابن مسعود وعن أسامة بن زيد عن أبيه، وابن أبي حاتم (10/3390) عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/367-368) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. ومن نفس الطريق عزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن زيد بن أسلم وعزاه لابن المنذر.
(5) ... في الأصل و ب: جبلت. والصحيح ما أثبتناه. وفي الدر المنثور: حملت.
(6) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/368) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/405)
قوله تعالى: { نبتليه } حال مقدرة (1) . أي: خلقناه مُبْتَلِينَ له. بمعنى: مريدين ابتلاءه؛ كقولك: مررت برجل [معه] (2) صقر صائداً به غداً.
قال المفسرون: المعنى: نبتليه بالأمر والنهي.
وقال الفراء (3) وغيره: فيه تقديم وتأخير، تقديره: { فجعلناه سميعاً بصيراً } لنبتليه؛ لأن الابتلاء يقع بعد تمام الخلق.
قوله تعالى: { إنا هديناه السبيل } قال عطاء: سبيل الهدى، أي: بيناه له، بنصب الأدلة وإرسال الرسل (4) .
{ إما شاكراً وإما كفوراً } حالان من الهاء في "هديناه" (5) .
والمعنى: أوضحنا له السبيل، إما موحّداً في علمنا، وإما كفوراً.
قال الفراء (6) : بَيَّنَّا له الطريق إن شكر أو كفر.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد فقال عزّ من قائل (7) :
!$¯Rخ) أَعْتَدْنَا
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/275)، والدر المصون (6/438).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... معاني الفراء (3/214).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/428) بلا نسبة.
(5) ... انظر: التبيان (2/275)، والدر المصون (6/438).
(6) ... معاني الفراء (3/214).
(7) ... في ب: عز وجل.(1/406)
لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ(1/407)
رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا اتثب
{ إنا أعتدنا للكافرين سلاسل } قرأ نافع والكسائي وأبو بكر وهشام: "سَلاسِلاً" بالتنوين. وقرأ الباقون: بغير تنوين (1) .
وهو الوجه؛ لأنه مثلُ مساجد ومنابر، لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومن صرفه فلمجاورته "أغلالاً"، كما قالوا: الغدايا والعشايا، وهذا أولى بالجوار.
قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف (2) .
قال غيره: أكثر ما يُصرف هذا، وشِبْهُه في الشعر. فأما في الكلام فهو قليل.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/80)، والحجة لابن زنجلة (ص:737)، والكشف (2/352)، والنشر (2/394)، والإتحاف (ص:428-429)، والسبعة (ص:663).
(2) ... انظر: الحجة للفارسي (4/80).(1/408)
وقال أبو علي (1) : هذه الجموع أشبهت الآحاد؛ لأنهم قالوا: صواحبات يوسف، فلما جمعوا هذه الجموع [جَمْعَ الآحاد المنصرفة] (2) جعلوها في حكمها، فصرفوها.
واختلف القراء [أيضاً] (3) في الوقف، فأثبت بعضهم الألف، وهم الذين قرؤوا بالتنوين، ووافقهم جماعة ممن لم يُنوّن اتباعاً لخط المصحف، وتشبيهاً له بالقوافي التي تُشبع فيها الفتحة، حتى تصير ألفاً؛ كـ"الظنونا"، و"الرسولا"، و"السبيلا" (4) .
وقد ذكرنا "الأغلال" فيما مضى، و"السعير" في سورة النساء (5) .
قوله تعالى: { إن الأبرار } واحدهم: بَرٌّ وبَارٌّ، وهم الصادقون. وقيل: المطيعون.
قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ (6) .
{ يشربون من كأس } سبق تفسيره أيضاً.
{ كان مزاجها كافوراً } قال مجاهد ومقاتل (7) : هو الكافور المعروف،
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/81).
(2) ... في الأصل: جمعوا الآحاد المتصرفة. والتصويب من ب، والحجة، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... انظر: الحجة للفارسي (4/81-82)، والنشر (2/394-395)، والكشف (2/353)، والإتحاف (ص:429)، والسبعة (ص:663).
(5) الأغلال في سورة الرعد، عند الآية رقم: 5، والسعير في سورة النساء عند الآية رقم: 10.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/430).
(7) ... تفسير مقاتل (3/427). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/430).(1/409)
وليس ككافور الدنيا.
والمقصود بمزجه به: طيب الرائحة والطعم.
قال قتادة: تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك (1) .
وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور [والمسك والزنجبيل] (2) .
وقال عطاء وابن السائب وغيرهما: الكافور: اسم عين ماء في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده (3) .
قوله تعالى: { عيناً } بدل إما من "كافوراً"، على قول عطاء ومن وافقه. [وإما] (4) من محل "من كأس" بتقدير حذف المضاف، تقديره: يشربون خمراً خمر عين (5) .
وقال الأخفش (6) : هي منصوبة على وجه المدح، بمعنى: أعْنِي عَيْناً.
وقال الزجاج (7) : الأجود أن يكون المعنى: من عين.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/207). وذكره السيوطي في الدر (8/369) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... في الأصل: والمشرجيل. والتصويب من ب. وانظر قول ابن كيسان في: القرطبي (19/125)، والبغوي (4/427).
(3) ... ذكره الماوردي (6/165)، والواحدي في الوسيط (4/400)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/430).
(4) ... في الأصل: إما. والمثبت من ب.
(5) ... انظر: التبيان (2/276)، والدر المصون (6/440).
(6) ... معاني الأخفش (ص:301).
(7) ... معاني الزجاج (5/258).(1/410)
{ يشرب بها } قيل: الباء زائدة.
وقيل: المعنى: يشرب منها.
وقيل: المعنى: يشرب بها عباد الله الخمر.
والمراد بعباد الله: أولياؤه.
{ يفجرونها تفجيراً } يُجْرُونها حيث يريدون.
قوله تعالى: { يوفون بالنذر } هذا من صفاتهم في الدنيا. المعنى: كانوا يوفون بالنذر.
وقال الزمخشري (1) : "يوفون" جواب من عسى، يقول: ما لهم يرزقون ذلك، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر (2) على أداء الواجبات؛ لأن من وفى بما [أوجبه] (3) هو على نفسه لوجه الله، كان بما أوجب الله عليه أوفى.
قال مجاهد وعكرمة: إذا نذروا في طاعة الله وفوا به (4) .
وقال قتادة: يوفون بما فرض الله عليهم، من الصلاة والزكاة والحج والعمرة [وغيرها] (5) من الواجبات (6) .
__________
(1) ... الكشاف (4/668).
(2) ... في ب: بالتوفير.
(3) ... في الأصل: أوجب. والمثبت من ب، والكشاف (4/668).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/400)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/431).
(5) ... في الأصل: وغيرهما. والتصويب من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (29/208)، وابن أبي حاتم (10/3390). وذكره السيوطي في الدر (8/369) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/411)
قال الواحدي (1) : ومعنى النذر في اللغة: الإيجاب. والمعنى: ما أوجبه الله عليهم من الطاعات.
{ ويخافون يوماً } قال الكلبي: يخافون عذاب يوم (2) .
{ كان شرُّه مُستطيراً } فاشياً منتشراً، ومنه: الفجر المستطير (3) .
قال مقاتل (4) : كان شره فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكوّرت الشمس والقمر، وفي الأرض [فنسفت] (5) الجبال، وغارت المياه، وتَكَسَّرَ كلُّ شيء على وجه الأرض من جبل وبناء.
قوله تعالى: { ويطعمون الطعام على حبه } قال ابن عباس ومقاتل (6) وجمهور المفسرين: الضمير للطعام (7) ، أي: على حُبّ الطعام، وشهوتهم إياه، وحاجتهم إليه، كما قال: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [آل عمران:92].
وقال الداراني: [على] (8) حب الله (9) .
__________
(1) ... الوسيط (4/400).
(2) ... ذكره الماوردي (6/166).
(3) ... وهو الذي انتشر ضوءه واعترض في الأفق (اللسان، مادة: طير).
(4) ... تفسير مقاتل (3/427).
(5) ... في الأصل: فبسّت. والمثبت من ب، وتفسير مقاتل (3/427).
(6) ... تفسير مقاتل (3/428).
(7) ... انظر: الطبري (29/209)، والماوردي (6/166)، وزاد المسير (8/433).
(8) ... زيادة من ب.
(9) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/433).(1/412)
[ويجوز عندي: أن يعود الضمير إلى] (1) الإطعام المدلول عليه بقوله: "ويطعمون"، على معنى: أنهم يطعمون الطعام، وهم يحبون الإطعام، ولا يتكرّهون به، ولا يحملون أنفسهم عليه، بل يفرحون به ويستبشرون عند بذله. [وباعتبار] (2) هذا جعلوا بيت زهير أمدح بيت قالته العرب:
تراهُ إذا ما جِئْتُهُ مُتهللاً ... ... كأنكَ تُعطيه الذي أنتَ سائلُه (3)
ومثله قول أبي نوفل الثقفي:
ولئنْ فَرحتَ بما يُنيلكَ إنه ... ... لَبمَا يُنيلكَ منْ نَدَاهُ أفْرحُ (4)
ومثله قول أبي تمام:
[أسائلُ نصرٍ لا تسله] (5) فإنه ... أحنُّ إلى الإرفَادِ منكَ إلى الرِّفْد (6)
وممن أبدع في ذلك: البحتري في قوله:
سلامٌ وإن كانَ السلامُ تحيةً ... فوجهُكَ دُونَ الردِّ يكفي المُسَلِّمَا (7)
وممن أجاد في هذا المعنى: أبو الأسود الدينوري في قوله:
__________
(1) ... في الأصل: ويجوز الضمير عندي أن يعود إلى. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: وبالاعتبار. والتصويب من ب.
(3) ... البيت لزهير، وهو في: الأغاني (14/222)، والمستطرف (2/368)، وخزانة الأدب (1/423)، واللسان وتاج العروس (مادة: هلل)، والعين (3/352).
(4) ... انظر البيت في: نهاية الأرب للنويري (1/309)، وديوان المعاني لأبي هلال العسكري (1/6).
(5) ... في الأصل: أسأل نصر لا تسأله. والتصويب من ب.
(6) ... انظر البيت في: ديوان المعاني للعسكري (1/6)، ونهاية الأرب للنويري (1/309).
(7) ... انظر البيت في: تاريخ النقد الأدبي (1/153)، وديوان المعاني للعسكري (1/6).(1/413)
ولائمةٌ لامتكَ يا فَيْضُ في النَّدَى ... فقلتُ لها لن يَقدحَ اللَّوْمُ في البَحْر
أرادتْ لِتَثْنِي الفيضَ عن عادةِ النَّدَى ... ومن ذا الذي يَثْنِي السَّحابَ عن القَطْر
إذا ما أتاهُ السائلونَ توقَّدَتْ عليه ... مصابيحُ الطَّلاقةِ والبِشْر
له في بَني الحاجاتِ أيدٍ كأنَّها ... مواقعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر (1)
وقد سبق معنى المسكين واليتيم في البقرة (2) .
وفي الأسير أربعة أقوال:
أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة. قاله مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير (3) .
الثاني: المرأة. قاله أبو حمزة الثمالي (4) . دليله قوله عليه السلام: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم" (5) .
الثالث: العبد. حكاه الماوردي (6) .
الرابع: أنه الأسير المشرك. قاله الحسن وقتادة (7) . وهو الأظهر.
__________
(1) ... انظر الأبيات في: الأغاني (14/133)، وجمهرة الأمثال (1/102).
(2) ... عند الآية رقم: 83.
(3) ... أخرجه الطبري (29/210). وذكره السيوطي في الدر (8/370) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/433).
(5) ... أخرجه الترمذي (3/467 ح1163)، وابن ماجه (1/594 ح1851).
(6) ... تفسير الماوردي (6/166).
(7) ... أخرجه الطبري (29/210)، وابن أبي شيبة (2/401 ح10408). وذكره السيوطي في الدر (8/371) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد.(1/414)
قال الحسن: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه (1) .
قال القاضي أبو يعلى: وهذا محمول على صدقة التطوع، فإن الفرض لا يجوز صرفه إلى الكافر (2) .
وزعم بعض المفسرين: أن إطعام الأسير منسوخ بآية السيف (3) .
وليس قوله بشيء.
فصل
ذهب ابن عباس [في رواية] (4) عطاء وعامة المفسرين: إلى أن هذه الآية وما في حيّزها نزل في علي بن أبي طالب عليه السلام، آجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعير ليلةً حتى أصبح، فلما قَبَضَ الشعيرَ طحن ثلثه وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه، فلما استوى أتى مسكينٌ فأخرجوه إليه، ثم عَمِلَ
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/669).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/434).
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:191)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:502).
(4) ... في الأصل: ورواية. والتصويب من ب.(1/415)
الثلث الثاني، فلما تمّ أتاه يتيم فأطعموه، ثم عمل [الثلث] (1) الثالث، فلما تمّ جاء أسير من المشركين فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. فنزلت هذه الآيات (2) .
وقيل: نزل فيهم من قوله: { يوفون بالنذر } .
قوله تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله } أي: لطلب رضاه وثوابه.
قال المفسرون: لم يتكلّموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، وعلم من نيّاتهم أنهم فعلوا ذلك خوفاً من الله [ورجاء ثوابه] (3) .
{ لا نريد منكم جزاء } بالفعل { ولا شكوراً } بالقول.
قال الزمخشري (4) : الشكور والكفور: مصدران؛ كالشكْر والكفْر.
{ إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } قال مقاتل والكلبي (5) : تعبس فيه الوجوه من هول ذلك اليوم فلا تنبسط.
قال بعض أهل المعاني (6) : وصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين:
أحدهما: أنه يُوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولك: نهارك صائم.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:470)، وزاد المسير (8/432).
(3) ... أخرجه الطبري (29/211)، والبيهقي في الشعب (5/351 ح6897). وذكره الماوردي (6/167)، والسيوطي في الدر (8/371) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد. وما بين المعكوفين زيادة من ب.
(4) ... الكشاف (4/669).
(5) ... انظر: تفسير مقاتل (3/428). وذكره الواحدي في الوسيط (4/402).
(6) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/669).(1/416)
الثاني: أنه يُشبَّه في شدته بالأسد العبوس، أو [بالشجاع] (1) الباسل.
والقَمْطَرِير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه (2) . وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة (3) .
وقال الزجاج (4) : يقال: يومٌ قمطريرٌ [وقُمَاطِرٌ] (5) : إذا كان شديداً غليظاً.
ويروى عن ابن عباس: أن القمطرير: الطويل (6) .
قوله تعالى: { فوقاهم الله } وقرئ: "فوقّاهم" بالتشديد (7) ، { شر ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسروراً } أي: وأعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في وجوههم، وسروراً في قلوبهم.
وهذا يدل على المجاز الأول في وصف اليوم بالعبوس.
{ وجزاهم بما صبروا } على طاعة الله وعن معصيته.
وقيل: [وجزاهم] (8) بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع
__________
(1) ... في الأصل: بالشاع. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (قمطر).
(3) ... أخرجه الطبري (29/212). وذكره السيوطي في الدر (8/372) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس.
(4) ... معاني الزجاج (5/259).
(5) ... في الأصل: وقمطار. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه الطبري (29/212)، وابن أبي حاتم (10/3391). وذكره السيوطي في الدر (8/372) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/388).
(8) ... في الأصل: جزاهم. والمثبت من ب.(1/417)
والعري { جنة } فيها مأكل هني { وحريراً } فيه ملبس بهي.
tûüد"إ3GoB فِيهَا عَلَى إ7ح !#u'F{$# لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا(1/418)
(18) * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا اثثب
قوله تعالى: { متكئين فيها على الأرائك } مذكور في الكهف (1) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 31.(1/419)
قال الزجاج (1) : والنصب في "متكئين" على الحال، أي: جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها. قال (2) : وكذلك: { ودانيةً } (3) .
{ لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } أي: لا يجدون فيها حَرّاً ولا برداً.
والزَّمْهَرير: البرد الشديد (4) . وفي الحديث: "هواءُ الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ" (5) .
وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيء (6) . [وأنشد] (7) :
وليلةٍ ظَلامُها قد اعْتَكَر ... ... قَطَعْتُهَا والزَّمْهَريرُ ما ظَهَرْ (8)
فيكون المعنى: الجنة ذات ضوء لا تحتاج إلى شمس ولا قمر.
قوله تعالى: { ودانيةً عليهم ظلالها } قد ذكرنا قول الزجاج في النصب.
وقال الفراء والمبرد والزجاج أيضاً (9) : [جائز] (10) أن يكون [نعتاً
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/259).
(2) ... أي: الزجاج.
(3) ... انظر: التبيان (2/276)، والدر المصون (6/443).
(4) ... انظر: اللسان، مادة: (زمهر).
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/30 ح33970)، وابن المبارك في الزهد (ص:213).
(6) ... ذكره الماوردي (6/169)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/435).
(7) ... في الأصل: فأنشد. والتصويب من ب.
(8) ... ويروى: ما زهر، كما في ب وبعض المصادر. انظر البيت في: القرطبي (19/138)، والماوردي (6/169)، وزاد المسير (8/435)، والبحر (8/385)، والدر المصون (6/443)، وروح المعاني (29/158).
(9) ... معاني الفراء (3/216)، ومعاني الزجاج (5/259).
(10) ... في الأصل: جائزاً. والتصويب من ب.(1/420)
للجنة] (1) . المعنى: وجزاهم جنة دانية، فحذف الموصوف.
وقال الزمخشري (2) : "ودانية" عطف على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين، تقديره: غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها.
وقرئ: "ودانيةٌ" بالرفع (3) ، على أن "ظلالها": مبتدأ، "ودانية": خبر، والجملة في موضع الحال.
والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية عليهم.
فإن قلت: علام عطف { وذُلِّلَت } ؟
قلتُ: هي -إذا رُفعت "ودانيةٌ"- جملة فعلية معطوفة على جملةٍ ابتدائيةٍ، وإذا نصبتها على الحال، فهي حالٌ من دانية، أي: تدنو ظلالها عليهم في [حال] (4) تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها [على] (5) : ودانية عليهم ظلالها، [ومذللة] (6) قطوفها؛ وإذا نصبتَ ["ودانية"] (7) على الوصف، فهي
__________
(1) في الأصل: نعتاً لجنة. وفي ب: نعت الجنة. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... الكشاف (4/671).
(3) ... وهي قراءة أبي حيوة. انظر هذه القراءة في: البحر (8/388)، والدر المصون (6/443).
(4) ... زيادة من الكشاف (4/671).
(5) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: مذللة. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: دانية. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/421)
[صفة] (1) مثلها؛ ألا ترى أنك لو قلت: جنةً ذُللت قطوفها: كان صحيحاً.
قال مقاتل (2) في قوله: "ودانية عليهم ظلالها": يعني: شجرها قريب منهم.
وقال ابن عباس في قوله: { وذللت قطوفها تذليلاً } : إذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد (3) .
وقد سبق هذا المعنى.
وقد ذكرنا الأكواب في الزخرف (4) .
قوله تعالى: { كانت قواريراً } أي: تكوّنت [بتكوين] (5) الله قوارير.
ثم بيّن جوهرها فقال: { قوارير من فضة } قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من الفضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير (6) .
قال ابن عباس: لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلْتَها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة (7) .
__________
(1) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... تفسير مقاتل (3/429).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/403)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/436).
(4) ... عند الآية رقم: 71.
(5) ... في الأصل: بتكون. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (29/215). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/436).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/436)، والسيوطي في الدر (8/375) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي في البعث.(1/422)
واختلف [القُرّاء] (1) في هذا الحرف؛ فقرأ نافع والكسائي وأبو بكر: "قواريراً قواريراً" بالتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير: بالتنوين في الأول. وقرأ الباقون: بغير تنوين فيهما (2) .
قال الزجاج (3) : وهو اختيار النحويين؛ لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. ومن صرف الأول؛ فلأنه آخر آية، ومن ترك صرف الثاني؛ فلأنه ليس بآخر آية. ومن صرف الثاني أتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب، وإنما الخرب من نعت الجُحْر.
واختلفوا في الوقف عليهما، فمنهم من يقف بالألف، ومنهم من يقف بغير ألف، والحجة فيه: ما أشرنا إليه في "سلاسل".
قرأ العشرة وجمهور القرّاء: "قَدَّروها" بفتح القاف وتشديد الدال (4) .
وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن وأبو عمران والجحدري: بضم القاف وكسر الدال [وتشديدها] (5) .
وقرأ حميد وعمرو بن دينار: "قَدَرُوها" بفتح القاف وتخفيف الدال (6) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (4/80)، والحجة لابن زنجلة (ص:738)، والكشف (2/354)، والنشر (2/395)، والإتحاف (ص:429)، والسبعة (ص:664).
(3) ... معاني الزجاج (5/260).
(4) ... في ب: والتشديد.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/437)، والدر المصون (6/445). وما بين المعكوفين في الأصل: وتشيدها. والتصويب من ب.
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/437).(1/423)
وبها قرأتُ على شيخنا أبي البقاء لعاصم من رواية أبان عنه، وضمير الفاعل على قراءة الأكثرين: للشاربين، على معنى: قَدَّروها في أنفسهم، فجاءت على ما قدّروا. وهذا معنى قول الحسن (1) .
وقيل: للطائفين بها، على معنى: قدروها على مقدار ريّهم، لا يزيد عن ريّهم ولا ينقص منه فتطلب الزيادة، وهذا ألذّ الشراب. وهو معنى قول مجاهد وغيره (2) .
قال مجاهد: لا تفيض ولا تغيض (3) .
والضمير على قراءة ابن عباس: للشاربين.
قال الزجاج (4) : المعنى: جُعلت لهم على قدر إرادتهم.
وقال غيره (5) : جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، من قولهم: قدّرني فلان على كذا؛ إذا جعلك قادراً له.
قوله تعالى: { ويسقون فيها } أي: في الجنة { كأساً كان مزاجها زنجبيلاً } .
قال مجاهد: الزنجبيل: اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/170)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/437).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/437).
(3) ... أخرجه الطبري (29/217). وذكره الماوردي (6/170)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/437).
(4) ... معاني الزجاج (5/260).
(5) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/672).
(6) ... ذكره الطبري (29/218)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/438).(1/424)
قال غيره (1) : سُميت بذلك؛ لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذُّه وتستطيبُه. قال الأعشى:
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبيلَ ... ... بَاتَا بفِيها وأَرْياً مُشَارَا (2)
وقال آخر:
وكأنَّ طعمَ الزنجبيلِ به ... ... إذ ذُقْتُهُ وسُلافَةَ الكَرْم (3)
ويروى: وسُلافَةَ الخَمْر.
وقال السدي: تُمزج الكأس بالزنجبيل، وهو مما تستطيبُه العرب، فإنه [يحذو] (4) اللسان ويهضم المأكول (5) .
قال ابن عباس: كلُّ ما ذكَرَ الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثلٌ في الدنيا، لكن الله سماه بالاسم الذي يُعرف (6) .
وقد سبق آنفاً في قوله: { كان مزاجها كافوراً } ما له ارتباط بهذا
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/672).
(2) البيت للأعشى، انظر: ديوانه (ص:85) واللسان، مادة: (زنجبيل، شور)، وزاد المسير (1/487، 8/438)، والدر المصون (6/446)، وروح المعاني (29/160). ولفظ الديوان:
... ... ... ... كأنه جَنِيّاً من الزنجبيـ ... ـل ... خالط فاها وأرياً مشورا
(3) ... البيت للمسيب بن علي، انظر: الماوردي (6/171)، وزاد المسير (8/437)، والبحر (8/385)، والدر المصون (6/446).
(4) ... في الأصل: يحد. وفي ب: يحذا. والتصويب من الماوردي (6/170).
... وحَذَا اللبنُ اللسانَ والخَلُّ فاه يَحْذيه حَذْياً: قَرَصه (اللسان، مادة: حذا).
(5) ... ذكره الماوردي (6/170).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/403).(1/425)
الموضع.
قوله تعالى: { عيناً فيها تسمى سلسبيلاً } "عيناً" بدل من "زنجبيلاً" (1) ، إذا قلنا هو اسم لعين.
وقال الزجاج (2) : يُسقون عيناً، و"سَلْسَبيل": اسم للعين، إلا أنه صرف؛ لأنه رأس آية. وسَلْسَبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة، فكأن العين -والله تعالى أعلم- سُميت بصفتها.
وقال غيره (3) : يقال: شراب سَلْسَل وسِلْسَال وسَلْسَبيل، أي: سائغ سهل الدخول في الحلق.
وقرئ: "سَلْسَبيلَ" على منع الصرف؛ لاجتماع العلمية والتأنيث.
وقد حكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: أن المعنى: سَلْ سبيلاً إليها (4) .
قال الزمخشري (5) : وهذا غير مستقيم على ظاهره. إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً، جُعلت علماً للعين، كما قيل: تأبط شراً؛ وذرّى حَباً. وسميت بذلك؛ لأنه لا يَشربُ منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلُّفٌ وابتداع، وعزوه إلى مِثْل علي عليه
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/276)، والدر المصون (6/440).
(2) ... معاني الزجاج (5/261).
(3) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/672).
(4) ... ذكره الماوردي (6/171)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/438).
(5) ... الكشاف (4/672-673).(1/426)
السلام أبدع.
قوله تعالى: { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } مُفسّر في الواقعة (1) .
{ إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً } قال عطاء: يريد: في بياض اللؤلؤ وحسنه. واللؤلؤ إذا نُثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً (2) .
وقيل: شُبّهوا باللؤلؤ المنثور؛ [لانتشارهم] (3) في أنواع الخدمة (4) .
وقيل: شُبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه؛ لأنه أحسن وأكثر ماء (5) .
قوله تعالى: { وإذا رأيت ثَمَّ } قال الزمخشري (6) : "رأيت" ليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر ليشيع ويعمّ، كأنه قيل: وإذا وجدت الرؤية ثَمّ، ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير ومُلْك كبير.
و"ثَمَّ" في معنى موضع النصب على الظرف، يعني: في الجنة. ومن قال: معناه: "ما ثم" فقد أخطأ؛ لأن "ثَمَّ" صلة لـ"ما"، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة.
وقوله تعالى: { عَالِيَهُمْ } قرأ نافع وحمزة: "عَالِيْهُم" بسكون الياء، على أنه مبتدأ، { ثياب سندس } : خبره، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 17.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/404)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/439) بلا نسبة.
(3) ... في الأصل: لانتثاره. والمثبت من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/439).
(5) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/673).
(6) ... الكشاف (4/673).(1/427)
وقرأ الباقون: "عَالِيَهُمْ" بنصب الياء (1) ، على أنه حال من الهاء والميم في "يطوف عليهم".
المعنى: يطوف على الأبرار ولدانٌ، عالياً الأبرار ثياب سندس، أو في حسبتهم، على معنى: حسبتهم لؤلؤاً في حال عُلوّ الثياب إياهم.
أو حال من الضمير المنصوب في "ولقّاهم"، أو في "وجزاهم" (2) .
قال أبو علي (3) : ويجوز أن يكون ظرفاً؛ لأنه لما كان عالٍ بمعنى فوق أُجري مجراه في هذا. وردّ هذا الوجه الزجاج وقال (4) : لو كان ظرفاً لما جاز إسكان الياء.
قال مكي (5) : ويكون "ثياب سندس": مبتدأ، والظرف الخبر. [ويجوز] (6) رفع "ثياب" بـ"عال"، إذا جعلته حالاً، أو بالاستقرار إذا جعلت "عالياً" ظرفاً.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر: "خُضْرٍ" بالجر، ورفعه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/84)، والحجة لابن زنجلة (ص:739-740)، والكشف (2/354)، والنشر (2/396)، والإتحاف (ص:429)، والسبعة (ص:664).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/448).
(3) ... الحجة للفارسي (4/84).
(4) ... معاني الزجاج (5/262).
(5) ... الكشف (2/355).
(6) ... في الأصل: وجوز. والتصويب من ب، والكشف، الموضع السابق.(1/428)
الباقون (1) .
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم: "وإستبرقٌ" بالرفع، وجرّه الباقون (2) .
فمن رفع "خضراً" جعله نعتاً للثياب، وحَسُنَ ذلك؛ لأن الثياب والخُضْر جمعان، ويؤيده قوله: { ويلبسون ثياباً خُضْراً } [الكهف:31].
ومن جرّ "خُضْراً" جعله وصفاً لـ"سندس"، وضعّفه بعض النحويين؛ لأن الخُضْر جمع أخضر، والسندس واحد. وقد قيل: إن السُّنْدُس جمع سُنْدُسة.
وقيل: إنه اسم جنس، فهو في معنى الجمع.
وقد أجاز الأخفش وصفَ الواحد الذي يدل على الجنس بالجمع، فأجاز: أهلك الناس الدينار الصفر، والدرهم البيض (3) . وهو قبيح من جهة اللفظ، حَسَنٌ من جهة المعنى.
ومن رفع "استبرق" عطفه على الثياب، على معنى: وعاليهم ثياب استبرق، بحذف المضاف، فهو مثل قولهم: على زيدٍ ثوبُ خزٍّ وكتّان، أي: وثوب كتان.
[ومن جَرَّه] (4) عطفه على "سُنْدس"؛ لأنه جنس من الثياب [مثله] (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/85)، والحجة لابن زنجلة (ص:740)، والكشف (2/355)، والنشر (2/396)، والإتحاف (ص:429-430)، والسبعة (ص:664-665).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.
(3) ... انظر: القرطبي (19/146).
(4) ... في الأصل: وجره. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: ومثله. والتصويب من ب.(1/429)
وقد سبق في الكهف (1) تفسير السُّندس، والإستبرق، والأساور.
[فإن] (2) قيل: قد ذكر هاهنا أن أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب؟
قلتُ: يُحَلَّوْنَ بالجميع؛ لأن في اجتماع الحِلْيتين معنىً ليس في الانفراد؛ لأن كلَّ واحد من النوعين يُظهر حُسْن الآخر.
قوله تعالى: { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } قال الفراء (3) وغيره: ليس من خمر الدنيا فيكون نجساً.
وقال غيره (4) : لم يُعصر فتمسّه الأيدي الوَضِرة [وتدوسه] (5) الأقدام الدنسة.
قال مقاتل (6) : هو عين ماء على باب الجنة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غِشٍّ وغِلٍّ وحَسَد.
وقال أبو قلابة وإبراهيم: يُؤتَون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أُتُوا بالشراب الطهور فيشربون، فتضمُرُ بذلك بطونهم، ويفيض عرق من
__________
(1) ... عند الآية رقم: 31.
(2) ... في الأصل: فا. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الفراء (3/219).
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/674).
(5) ... في الأصل: وتدنسه. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... تفسير مقاتل (3/431-432).(1/430)
جلودهم مثل المسك (1) .
قوله تعالى: { إن هذا } إشارة إلى ما وصف من نعيم الجنة { كان لكم جزاء } بأعمالكم الصالحة { وكان سعيكم مشكوراً } .
قال عطاء: شكرتُكُم عليه [وأثبتكم] (2) أفضل الثواب.
$¯Rخ) نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/222-223). وذكره الواحدي في الوسيط (4/405)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/440)، والسيوطي في الدر (8/377) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة. ومن طريق آخر عن إبراهيم التيمي.
(2) ... في الأصل: وآتيكم. والمثبت من ب.(1/431)
(26) c) هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا اجتب(1/432)
قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } أي: فصلناه في الإنزال، ولم نُنزله جملة واحدة.
وقد أشرنا إلى حكمة ذلك فيما مضى.
قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك } مُفسّر في مواضع (1) .
وبعض المفسرين يقولون: هو منسوخ بآية السيف (2) . وقد ذكرنا صواب القول في هذا وأمثاله.
{ ولا تطع منهم } أي: من مشركي مكة { آثماً } وهو عتبة بن ربيعة، { أو كفوراً } يريد: الوليد بن المغيرة. وكانا قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بكل ما تريد، من مال ورئاسة وغيرهما.
وقيل: الصفتان لأبي جهل.
فإن قيل: ما الفائدة في "أو"، وهلاّ قال: آثماً وكفوراً؛ ليكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟
قلتُ: هذه أو التي للتخيير، إذا قلت: اضرب زيداً أو عَمْراً، فمعناه: اضرب أحدهما. فإذا قلت: لا تضرب زيداً أو عمراً، فمعناه: لا تضرب أحدهما. فالمعنى هاهنا: لا تُطع أحدهما، فيكون منهياً عن طاعتهما معاً بطريق الفحوى، كقوله: { فلا تقل لهما أف } [الإسراء:23]، بخلاف قوله: لا
__________
(1) ... في سورة الطور، عند الآية رقم: 48، وسورة القلم عند الآية رقم: 48.
(2) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:192)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:63)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:503).(1/433)
تطعهما، فإنه يجوز من حيث اقتضاء الوضع أن يطيع أحدهما، وليس في فحوى الخطاب ما يقتضي المدلول الذي ذكرناه في قوله: لا تطع أحدهما.
قوله تعالى: { واذكر اسم ربك } أي: اذكره بالتعظيم والتنزيه { بكرة وأصيلاً } .
قال المفسرون: يعني: اذكره في صلاة الفجر، وصلاة العصر.
وبعضهم يقول: الظهر والعصر.
{ ومن الليل فاسجد له } يريد: صلاة المغرب والعشاء، { وسبحه ليلاً طويلاً } يريد: صلاة الليل، وكانت فرضاً عليه، وهي نافلة لأمته.
قوله تعالى: { إن هؤلاء يحبون العاجلة } يعني: كفار مكة، أي: يؤثرون الدار العاجلة وهي الدنيا، { ويذرون وراءهم } أي: قدّامهم. وقيل: يدعون خلف ظهورهم لا يعبؤون به { يوماً ثقيلاً } عسيراً شديداً.
قوله تعالى: { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } أصلُ الأسْر: الرَّبْطُ والتَّوثيق، ومنه: أُسِرَ الرجل؛ إذا أوثق بالقِدّ، وفرسٌ مأسور به الحق، وترس مأسور بالعقب (1) .
والمعنى: شددنا خلقهم وأحكمنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب.
{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } يعني: إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأمثالهم، فجعلناهم بدلاً منهم.
__________
(1) ... انظر: اللسان، مادة: (أسر).(1/434)
قوله تعالى: { إن هذه } يعني: السورة أو الآيات القريبة.
والآية مُفسّرة في المزمل (1) .
قوله تعالى: { وما تشاؤون } قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: "يشاؤون" بالياء (2) ؛ حملاً على قوله: { فمن شاء } ، وقوله: { نحن خلقناهم } ، وما في حيزها.
وقرأ الباقون بالتاء، على الخطاب العام لجميع الخلق.
والمعنى: وما يشاؤون اتخاذ السبيل وغيره، { إلا أن يشاء الله } أنهم لا يشاؤون شيئاً إلا بمشيئة الله تعالى. { إن الله كان عليماً حكيماً } .
{ يدخل من يشاء في رحمته } قال عطاء: من صدّق نبيه أدخله جنته (3) .
{ والظالمين } يريد: المشركين (4) ، ونصبه بفعل مُضْمر يُفسِّره ما بعده.
وقرأ جماعة، منهم: ابن الزبير، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: "والظالمون" بالرفع على الابتداء (5) ، { أعد لهم عذاباً أليماً } .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 19.
(2) ... الحجة للفارسي (4/88)، والحجة لابن زنجلة (ص:741)، والكشف (2/356)، والنشر (2/396)، والإتحاف (ص:430)، والسبعة (ص:665).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/406).
(4) ... في ب: الكافرين.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/442)، والدر المصون (6/452).(1/435)
سورة المرسلات
ijk
وهي خمسون آية (1) ، وهي مكية.
واستثنى ابن عباس آية واحدة وهي قوله: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } فقال: هي مدنية (2) .
دM"n=y™ِچكJّ9$#ur عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:261).
(2) ... انظر: الإتقان (1/54)، والماوردي (6/175)، وزاد المسير (8/443).(1/436)
(8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ اتخب
قال الله تعالى: { والمرسلات عُرفاً } أقسم الله سبحانه وتعالى بالرياح يتبع بعضها بعضاً، كعُرْف الفرس. وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة (1) .
{ فالعاصفات عَصْفاً } وهي الرياح الشديدة الهبوب.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/228-229) من طرق عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة ، وابن
... أبي حاتم (10/3392) عن ابن مسعود. وانظر: الماوردي (6/175، 176). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/381-382).(1/437)
{ والناشرات نَشْراً } قال ابن مسعود: هي الرياح التي تنشر السحاب (1) .
وقال الحسن: هي الرياح التي ينشرها الله بين يدي رحمته. هذا قول جمهور المفسرين.
{ فالفارقات فَرْقاً } قال مجاهد: هي الرياح تُفَرِّقُ بين السحاب فتُبَدِّده (2) .
وقيل: المرسلات: الملائكة.
فيكون سبحانه قد أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهن بالمعروف من أمره سبحانه، فعصفن في مشيهنّ، كما تعصف الرياح مسارعة في امتثال أمره [بطوائف] (3) منهم، نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهنّ بالوحي، أو (4) نشرن الكتب [ففرقن] (5) بين الحق والباطل، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام.
وقال أبو هريرة وابن مسعود في رواية مقاتل (6) : المرسلات:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/231)، وابن أبي حاتم (10/3392). وذكره الماوردي في تفسيره (6/176)، والسيوطي في الدر المنثور (8/381) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/407).
(3) ... في الأصل: وبطوائف. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: عند.
(5) ... في الأصل: ففرن. والتصويب من ب.
(6) ... تفسير مقاتل (3/435).(1/438)
الملائكة (1) .
قال الزجاج (2) : العاصفات: الملائكة تعصف بروح الكافر.
وقال الضحاك: الناشرات: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد (3) .
وقال الحسن وقتادة: "الفارقات": آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام (4) .
وقال قطرب: المُلْقيات: الرسل يلقون ما أنزل الله إليهم إلى الأمم (5) .
فإن قيل: ما وجه النصب في "غرقاً"؟
قلتُ: نصبه على الحال، على التفسير الذي ذكرناه أولاً، على معنى: متتابعة. ويجوز أن يكون مفعولاً له إذا أريد بالمرسلات: الملائكة، أي: أُرسلن للمعروف الذي هو نقيض المنكر.
قوله تعالى: { عذراً أو نذراً } قرأ الحرميان وابن عامر وأبو بكر: بضم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/229)، وابن أبي حاتم (10/3392)، والحاكم (2/555 ح3886). وذكره السيوطي في الدر (8/381) وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة. ومن طريق آخر عن ابن مسعود، وعزاه لابن جرير.
(2) ... معاني الزجاج (5/265).
(3) ... ذكره الماوردي (6/176)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/445).
(4) ... أخرجه الطبري (29/232). وذكره الواحدي في الوسيط (4/407)، والسيوطي في الدر (8/382) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(5) ... ذكره الماوردي (6/177)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/446).(1/439)
الذال فيهما. وقرأهما الباقون: بالإسكان (1) . وهما لغتان، والضم الأصل، والإسكان للتخفيف، وهما مصدران في موضع المفعول لهما، أي: للإعذار والإنذار. ويجوز أن يكونا منصوبين على البدل من "ذكراً" (2) ، وجواب القسم قوله تعالى: { إنما توعدون لواقع } والمعنى: إنما توعدون من البعث والجزاء لكائن.
قوله تعالى: { فإذا النجوم } مبتدأ، خبره: { طُمِسَت } .
وقيل: "النجوم" رفع بفعل مضمر دل عليه "طمست"، والجملة في موضع الجر بـ"إذا"، والعامل في إذا مضمر، تقديره: فاذكر إذا النجوم طمست، وإن شئت كان التقدير: فإذا النجوم طمست بِعُثْتُم (3) . وإعراب ما بعده من المواضع الثلاثة كإعرابه.
[ومعنى] (4) قوله: "طُمِسَت": مُحِيَ نورُها.
{ وإذا السماء فُرِجَت } فُتحت فكانت أبواباً.
{ وإذا الجبال نُسِفَت } قُلعت من أماكنها. وقد ذكرناه في طه (5) .
{ وإذا الرسل أُقِّتَت } قرأ أبو عمرو: "وُقِّتَت" بالواو، ومثله أبو جعفر غير أنه خفف القاف.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/89)، والحجة لابن زنجلة (ص:742)، والكشف (2/357)، والنشر (2/217)، والإتحاف (ص:430)، والسبعة (ص:666).
(2) ... انظر: التبيان (2/277)، والدر المصون (6/454).
(3) ... انظر: التبيان (2/278)، والدر المصون (6/454).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... عند الآية رقم: 105.(1/440)
وقرأ الباقون "أُقِّتَت" بالهمزة وتشديد القاف (1) .
والمعنى: جُمعت لوقتها الذي تَشْهَدُ فيه على الأمم.
وأصلها: وُقِّتَت بالواو، فأبدلوا من الواو المضمومة همزة.
قال الزجاج وغيره (2) : كل واو [انضمت] (3) وكانت ضمتها لازمةً جاز أن تبدل منها همزة.
قال الفراء (4) : تقول: صلى القوم أُحداناً. وهذه [أجوهٌ] (5) حسان.
ومن خفف فهو كقوله: { كتاباً موقوتاً } [النساء:103].
قوله تعالى: { لأي يوم أُجِّلَت } تعظيمٌ لذلك اليوم، وتعجيب للعباد من هوله.
{ ليوم الفصل } بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يُفصل فيه بين الخلائق.
ثم عظّمه فقال: { وما أدراك ما يوم الفصل } .
ثم أخبر عن حال الذين كذبوا به فقال: { ويل يومئذ للمكذبين } . وقد ذكرنا معنى "ويل" في البقرة.
قال الزجاج (6) : "ويلٌ" مرفوع بالابتداء، و"للمكذبين": الخبر (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/90)، والحجة لابن زنجلة (ص:742-743)، والكشف (2/357)، والنشر (2/396-397)، والإتحاف (ص:430)، والسبعة (ص:666).
(2) ... معاني الزجاج (5/266).
(3) ... في الأصل: اضمت. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... معاني الفراء (3/222-223).
(5) ... في الأصل: أجرة. والتصويب من ب، ومعاني الفراء (3/223).
(6) ... معاني الزجاج (5/267).
(7) ... انظر: التبيان (2/278)، والدر المصون (6/455).(1/441)
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله: { ويل يومئذ للمكذبين } ؟
قلتُ: هو في أصله مصدر منصوب، سَادٌّ مَسَدَّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع؛ للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه. ونحوه { سلام عليكم } [الأنعام:54]. ويجوز: "ويْلاً"، بالنصب؛ ولكنه لم يُقرأ به.
َOs9r& نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ
__________
(1) ... الكشاف (4/679).(1/442)
مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ اثرب
قوله تعالى: { ألم نُهْلِكِ الأولين } وقرأ قتادة: "نَهْلِكِ" بفتح النون (1) ، من هلكه بمعنى: أهلكه.
قرأ الأكثرون: { ثم نُتْبِعُهُمُ الآخرين } برفع العين على الاستئناف،
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/397)، والدر المصون (6/455).(1/443)
[ويؤيده] (1) قراءة ابن مسعود: "ثم سنتبعهم" (2) .
وقرأ الأعرج: "نُتْبِعْهُم" بجزم العين (3) ، عطفاً على "نهْلك".
وهذا تهديد لكفار مكة.
قال ابن جرير (4) : الأولون: قومُ نوح وعاد وثمود، والآخرون: قومُ إبراهيم ولوط ومدين.
{ كذلك نفعل بالمجرمين } أي: مثلُ ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أجرم.
قوله تعالى: { ألم نخلقكم } وقرأتُ لقالون من رواية أحمد بن صالح عنه: "نخلُقْكُم" بإظهار القاف.
{ من ماء مهين } ضعيف. والمراد من ذلك: تذكيرهم بقدرته على ما يريد من البعث وغيره.
{ فجعلناه في قرار مكين } وهو الرحم. { إلى قدر معلوم } وهو مدة الحمل.
{ فقدَرْنا } وقرأ نافع والكسائي: "فقدَّرنا" بتشديد الدال (5) .
قال أبو علي (6) : قَدَّرَ وقَدَرَ لغتان. فمن قرأ: "فقَدَرنا" بالتخفيف؛ فلقوله:
__________
(1) ... في الأصل: ويده. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/397)، والدر المصون (6/455).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/397)، والدر المصون (6/456).
(4) ... تفسير الطبري (29/235).
(5) ... الحجة للفارسي (4/91)، والحجة لابن زنجلة (ص:743)، والكشف (2/358)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:430)، والسبعة (ص:666).
(6) ... الحجة للفارسي (4/91).(1/444)
{ فنعم القادرون } ، فـ"القادرون" أشكل بـ"قَدَرْنا"، ويجوز "القادرون" مع قدّر، فيجيء باللغتين، كما قال: { فمهل الكافرين أمهلهم } [الطارق:17].
وقال غيره: المخففة من القدرة والمُلْك، [والمشددة من التقدير] (1) والقضاء.
ويؤيد القراءة بالتشديد قوله: { من نطفة خلقه فقدره } [عبس:19].
قوله تعالى: { ألم نجعل الأرض كفاتاً } معنى الكَفت في اللغة: الضم والجمع، والكفات هاهنا: اسم لما يكفِت، مثل: الضمام والجماع: اسم لما يُضمّ ويجمع.
قال الزمخشري (2) : [وبه] (3) انتصب { أحياءً وأمواتاً } كأنه قيل: كافتة أحياءً وأمواتاً. أو بفعل مضمر يدل عليه وهو: يكفت.
وقال الأخفش: انتصب على الحال.
والمعنى: تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. هذا قول قتادة وجمهور المفسرين (4) .
وقال مجاهد وأبو عبيدة: المعنى: ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات
__________
(1) ... في الأصل: والمشدة من القدر. والتصويب من ب، وزاد المسير (8/449).
(2) ... الكشاف (4/680).
(3) ... في الأصل: به. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (29/237). وانظر: معاني الفراء (3/224)، والوسيط (4/408).(1/445)
والعمارة، وأمواتاً بالخراب والجفاف (1) .
{ وجعلنا فيها رواسي شامخات } جبالاً ثوابتَ عالياتٍ، وكلُّ عالٍ فهو شامخ.
{ وأسقيناكم } مفسرٌ في الحِجْر (2) .
{ ماءً فُراتاً } عذباً. وقد سبق أيضاً تفسيره.
قال مقاتل (3) : وهذا كله أعجب من البعث.
ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة، فقال:
(# qà)خ=sـR$# إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/179)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/449). ولم أقف عليه في مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(2) ... عند الآية رقم: 22.
(3) ... انظر: تفسير مقاتل (3/437).(1/446)
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ احةب
{ انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } أي: انطلقوا إلى العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا.
ثم كرر فقال: { انطلِقُوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } وقرأتُ ليعقوب من(1/447)
رواية رويس عنه: "انطلَقوا إلى ظل" بفتح اللام (1) ؛ إخباراً عن امتثالهم ما أُمروا به من الانطلاق، وهي قراءة أبيّ بن كعب وأبي عمران.
قال ابن قتيبة وغيره (2) : الظِّلُّ هاهنا: ظل من دخان نار جهنم، سَطَعَ ثم افترق ثلاث فِرَق، وهكذا شأن الدخان العظيم تراه [يتفرّق] (3) ذوائب إذا ارتفع، فيقال لهم: كونوا فيه إلى أن يُفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه.
قال مجاهد: تكون شُعبة فوق الإنسان، وشُعبة عن يمينه، وشُعبة عن شماله، فيحيط به دخان جهنم (4) .
ثم وصف ذلك الظل فقال: { لا ظليل } يعني: لا يظل من الحر، { ولا يغني من اللهب } .
قال الكلبي: لا يردّ عنهم لهب جهنم (5) .
وقد ذكرنا فيما مضى: أن اللهب ما يعلو على النار إذا أضرمت من أصفر وأحمر وأخضر.
ثم وصف النار فقال: { إنها ترمي بشَرَرٍ كالقصر } الشَّرَرُ: جمع شَرَرَة، وهو ما تطاير من النار متفرقاً.
__________
(1) ... النشر (2/397)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:430).
(2) ... تأويل مشكل القرآن (ص:319).
(3) ... في الأصل: يفترق. والمثبت من ب.
(4) ... ذكره الماوردي (6/179)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/450).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/409).(1/448)
والقَصْر: واحد القُصُور المبنية، في قول ابن مسعود وابن عباس وجمهور المفسرين (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب للشتاء ثلاثة أذرع أو أقل، ونسميه القصر. { كأنه جمالات صُفْر } أي: حبال السفن، تُجمع حتى تكون كأوساط الرجال (2) .
وقال مجاهد: القَصْرُ: الجبل (3) .
وقال الضحاك وسعيد بن جبير: القَصْرُ: أصولُ النخل والشجر
العظام (4) ، واحدتها: قَصْرَة، مثل تمرة وتمر، وجمرة وجمر.
وقرأ علي عليه السلام وابن عباس وأبو رزين ومجاهد وأبو الجوزاء: "كالقَصَر" بفتح الصاد (5) ، مثل: شَجَرة وشَجَر.
قال الزجاج (6) : أراد: أعناق الإبل.
وقال ابن قتيبة (7) : أراد: أصول النخل المقطوعة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/239)، وابن أبي حاتم (10/3392). وذكره السيوطي في الدر (8/385) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1879 ح4648).
(3) ... انظر: القرطبي (19/164).
(4) ... أخرجه الطبري (29/240) عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (8/386) وعزاه لابن جرير عن الضحاك.
(5) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (29/240)، وزاد المسير (8/450).
(6) ... معاني الزجاج (5/268).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:507).(1/449)
وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة والنخعي: بضم القاف والصاد (1) ، بمعنى: القصور، كَرَهْن ورُهُن.
وقرأ سعيد بن جبير بخلاف عنه : بكسر القاف وفتح الصاد (2) ، جمع قَصَرَة.
قال أبو حاتم: ولعله لغة. ونظيرها من الكلام: حَوَجَة وحِوَج.
قال ابن جني (3) : وقالوا أيضاً في حَلْقَة الحديد: حَلَقَة وحَلَقٌ -بفتح اللام-، وقالوا: حِلَق؛ بكسر الحاء.
وقرأ أبو الدرداء وغيره: "كالقُصْر" بضم القاف وسكون [الصاد، بتخفيف] (4) قُصُر (5) .
ثم أردف التشبيه بمثله فقال: { كأنه جمالات صفر } .
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "جِمَالَةٌ" على التوحيد، جمع جَمَل، [مثل] (6) : حَجَر وحجارة.
قال مكي (7) : لحقته هاء التأنيث؛ لتأنيث الجمع، كما قالوا: فَحْل وفِحَال
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/450)، والدر المصون (6/458).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/450-451)، والدر المصون (6/458).
(3) ... المحتسب (2/346).
(4) ... في الأصل: الدال وتخفيف. والتصويب من ب.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/451). وعزاها لأبي العالية وأبي عمران وأبي نهيك ومعاذ القارئ، دون أبي الدرداء ، وجعل قراءة أبي الدرداء كقراءة سعيد بن جبير المتقدمة.
(6) ... في الأصل: من. والتصويب من ب.
(7) ... الكشف (2/358).(1/450)
وفِحَالَة.
ومثلهم قرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة، غير أنهم ضموا الجيم (1) ، [وهو حبل] (2) السفينة.
وقرأ الباقون من السبعة: بكسر الجيم وزيادة ألف على الجمع (3) .
وضَمَّ الجيم رويس عن يعقوب (4) .
قال الزجاج (5) : من قرأ "جِمالات" بالكسر، فهي جمع جِمَال، كما تقول: بُيوت وبيُوتات، وهو جمع الجمع. ومن قرأ "جُمالات" بالضم، فهو جمع جُمالة، وهو القَلْس (6) ، من قُلُوس سفن البحر، ويقال: كالقَلْس، من قلوس الجسر.
قال الفراء (7) : الصُّفر: سود الإبل، لا ترى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرة، فلذلك سَمّت العرب سودَ الإبل: صُفْراً. وهذا قول الحسن
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/451)، والدر المصون (6/459).
(2) ... في الأصل: وحبل. والتصويب من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (4/91)، والحجة لابن زنجلة (ص:744)، والكشف (2/358)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:431)، والسبعة (ص:666).
(4) ... النشر (2/397)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:431).
(5) ... معاني الزجاج (5/268).
(6) ... القَلْسُ: هو حبل السفينة (اللسان، مادة: قلس).
(7) ... معاني الفراء (3/225).(1/451)
ومجاهد وقتادة وعامة المفسرين (1) .
قوله تعالى: { هذا يوم لا ينطقون } قال الزجاج (2) : يومُ القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها.
قال عكرمة: تكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون، { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } (3) .
وقال ابن الأنباري: لا ينطقون بحجة تنفعهم.
وقرأ أبو رجاء، والقاسم بن محمد، والأعمش: "يومَ" بنصب الميم (4) ، على معنى: هذا الذي قصصنا عليكم واقع يوم لا ينطقون، وهو يوم القيامة، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
قال الزمخشري (5) : "فيعتذرون" عطف على "يؤذن" منخرط في سلك النفي. والمعنى: ولا يكون لهم إذن [واعتذار] (6) متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن، ولو نَصَبَ [لكان] (7) مُسبباً عنه لا محالة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (29/241). وذكره الماوردي (6/180)، والسيوطي في الدر (8/386) وعزاه لابن جرير عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... معاني الزجاج (5/268).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/410)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/451).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/451)، والدر المصون (6/459).
(5) ... الكشاف (4/682).
(6) ... في الأصل: وإعذار. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: لمكان. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/452)
قوله تعالى: { هذا يوم الفصل } إشارة إلى يوم القيامة، يُفصل فيه بين أهل الجنة وأهل النار، { جمعناكم } أيها [المكذبون] (1) من هذه الأمة { و } المكذبين { الأولين } .
وقوله: { فإن كان لكم كيد فكيدون } تقريعٌ لهم على كيدهم لدين الإسلام، وتسجيلٌ [عليهم] (2) بالعجز والاستكانة.
قال مقاتل (3) : المعنى: فإن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما أعدّ للمؤمنين فقال:
¨bخ) الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
__________
(1) ... في الأصل: المكذبين. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: لهم. والمثبت من ب.
(3) ... تفسير مقاتل (3/437).(1/453)
لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ اخةب
{ إن المتقين في ظلال } [يعني: ظلال] (1) الشجر وأكنان القصور، { وعيون * وفواكه مما يشتهون } .
{ كلوا } على إضمار القول، تقديره: يقال لهم: كلوا، { واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون } في الدنيا بطاعة الله.
{ إنا كذلك نجزي المحسنين } مُفسّر فيما مضى (2) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في سورة الصافات، عند الآية رقم: 80.(1/454)
ثم قال لكفار مكة مهدّداً لهم: { كلوا وتمتعوا قليلاً } زمناً قليلاً، أو تمتعاً قليلاً مدة بقائكم في الدنيا { إنكم مجرمون } .
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } قال مقاتل (1) : نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة وقالوا: لا ننحني، [فإنها] (2) مَسَبَّةٌ علينا، فنزل ذلك فيهم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا خير [في دين] (3) ليس [فيه] (4) ركوع ولا سجود" (5) . وإلى نحو هذا ذهب مجاهد.
وقال ابن عباس في رواية العوفي: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون (6) . فيكون أمْرُهُم بالركوع؛ تقريعاً لهم.
قوله تعالى: { فبأي حديث بعده } أي: بعد القرآن المفصل بالمواعظ والحكم { يؤمنون } .
قال أهل المعاني: ليس [ترديد قوله] (7) في هذه السورة: { ويل يومئذ للمكذبين } بتكرار؛ لأن كل واحد جاء عقيب جملة مخالفة لصاحبتها، فأثبت
__________
(1) ... لم أقف عليه في تفسير مقاتل. وانظر قول مقاتل في: الماوردي (6/181)، وزاد المسير (8/452).
(2) ... في الأصل: فإنه. والمثبت من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه أبو داود (3/163 ح3026).
(6) ... أخرجه الطبري (29/245). وذكره السيوطي في الدر (8/388) وعزاه لابن جرير.
(7) ... في الأصل: يريد بقوله. والتصويب من ب.(1/455)
الويل لمن كذّب بها.
وقد أشرنا إلى معنى ذلك في مواضع، منها سورة الرحمن.(1/456)
سورة النبأ
ijk
وهي أربعون آية، مكية (1) .
Ntم يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:262).(1/457)
اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا اتدب
قوله تعالى: { عَمَّ يتساءلون } أصله: عَنْ مَا، على أنه حرف جر دخل على "ما" الاستفهامية. والمراد: تفخيم القصة بهذا الاستفهام، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون. وأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف "ما"، كقولهم: فِيمَ وبِمَ.
قرأ عكرمة وعيسى بن عمر: "عَمَّا يتساءلون" بإثبات الألف (1) ، وأنشدوا لحسان:
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/402)، والدر المصون (6/461).(1/458)
على ما قَامَ يَشْتمني لَئِيمٌ ... ... كخنزيرٍ تمرَّغ في رَمَادِ (1)
وقد سبق ذلك فيما مضى.
قال المفسرون: لما بُعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جعل كفار قريش بمكة يتساءلون بينهم: ما الذي أتى به محمد؟ ويختصمون فيه، فنزلت هذه الآية (2) .
ثم ذكر تساءلهم عَمَّ هو فقال: { عن النبإ العظيم } أي: الخبر العظيم الشأن.
وهو القرآن، في قول مجاهد ومقاتل (3) .
والبعث، في قول قتادة (4) .
وقيل: هو أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - (5) .
{ الذي هم فيه مختلفون } إن قلنا: هو القرآن، فاختلافهم فيه ظاهر، فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: كهانة، ومنهم من قال: أساطير الأولين.
وإن قلنا: هو البعث، فاختلافهم فيه تصديق بعضهم به، وتكذيب بعض
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... أخرجه الطبري (30/1)، وابن أبي حاتم (10/3394) كلاهما عن الحسن. وذكره الماوردي (6/182)، والواحدي في الوسيط (4/411)، والسيوطي في الدر (8/390) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:719)، والطبري (30/2). وانظر: تفسير مقاتل (3/439). وذكره السيوطي في الدر (8/390) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (30/2). وذكره السيوطي في الدر (8/390) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره الماوردي (6/182).(1/459)
حين أُخبروا به.
وقيل: تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين.
وإن قلنا: هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاختلافهم فيه ظاهر.
قوله تعالى: { كلاّ } ردعٌ للمتسائلين على وجه الاستهزاء والتكذيب.
ثم توعدهم بقوله: { سيعلمون } والمعنى: سوف يعلمون عاقبة استهزائهم وتكذيبهم، أو سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه [ويضحكون] (1) منه حق لا محالة.
ثم كرّر ذلك توكيداً فقال: { ثم كلا سيعلمون } .
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري: "ستعلمون" بالتاء فيهما (2) ، [من طريق التغلبي] (3) عن ابن ذكوان.
ثم دلهم على كمال قدرته على إيجاد ما أراد من البعث وغيره بقوله: { ألم نجعل الأرض مهاداً } أي: فراشاً، { والجبال أوتاداً } للأرض؛ لئلا تميد بهم، { وخلقناكم أزواجاً } ذكراناً وإناثاً.
{ وجعلنا نومكم سباتاً } قال ابن قتيبة (4) : راحة لأبدانكم. وقد فسرناه في الفرقان (5) .
__________
(1) ... في الأصل: فيضحكون. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: الحجة للفارسي (4/92)، والسبعة (ص:668).
(3) ... في الأصل: عن طريق الثعلبي. والتصويب من ب.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:508).
(5) ... عند الآية رقم: 47.(1/460)
{ وجعلنا الليل لباساً } ساتراً بظلمته، كما يستر الثوب لابسه.
{ وجعلنا النهار معاشاً } أي: وقت معاشٍ تتقلبون فيه لحوائجكم ومكاسبكم.
{ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } يريد: السموات السبع. ويعني بشدتها: إتقانها وإحكامها، وأن مرور الدهور لا يؤثر فيها كما يؤثر في الأبنية المتعارفة.
{ وجعلنا سراجاً وهّاجاً } أي: وقّاداً، يجمع النور والحرارة. يعني: الشمس.
{ وأنزلنا من المُعْصِرات } وهي السموات، في قول أبي بن كعب، والحسن، وسعيد بن جبير (1) .
والرياح، في قول ابن عباس وعكرمة (2) .
قال زيد بن أسلم: هي الجنوب (3) .
قال الأزهري (4) : هي الرياح ذوات الأعاصير.
و"مِنْ" بمعنى الباء، تقديره: بالمعصرات، سُمّيت بذلك؛ لأن الرياح تستدرّ المطر.
والسحاب، في قول أبي العالية، والضحاك، والربيع، وابن عباس في
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/5) عن الحسن. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/6).
(2) ... أخرجه الطبري (30/5)، وابن أبي حاتم (10/3394). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/392) وعزاه لعبد بن حميد وأبي يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والخرائطي من طرق عن ابن عباس.
(3) ... ذكره الماوردي (6/184)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/6).
(4) ... تهذيب اللغة (2/15).(1/461)
رواية الوالبي، قالوا: هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر، كالمرأة المعصر، وهي التي دنا حيضها (1) .
قال أبو النجم:
.......................... ... قدْ أعْصَرَتْ أوْ قَدْ دَنَا إعْصَارَهَا (2)
وقد ذكرنا في سورة الحجر عند قوله: { وأرسلنا الرياح لواقح } (3) ما له ارتباط بهذه الآية، فاعلم ذلك.
وقوله: { ماءً ثجاجاً } قال مقاتل (4) : يريد: مطراً كثيراً منصبّاً يتبع بعضه بعضاً. يقال: ثَجَّه وثَجّ بنفسه.
{ لنخرج به حباً } مما يأكله الناس، { ونباتاً } يأكله الناس والأنعام.
وقال الزجاج (5) : كل ما حُصد فهو حَب، وكل ما أكلته الماشية من الكلأ فهو نبات.
وقيل: الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب.
قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطراً إلا أنبت به في البحر لؤلؤاً،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/5). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/6)، والسيوطي في الدر (8/391) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(2) ... عجز بيت لأبي النجم العجلي، وصدره: (تمشي الهُوَيْنا مائلاً خمارها). وهو في: اللسان (مادة: عصر، سفا)، والقرطبي (19/172)، والبحر (8/402)، والدر المصون (6/462).
(3) ... عند الآية رقم: 22.
(4) ... تفسير مقاتل (3/440).
(5) ... معاني الزجاج (5/272).(1/462)
وفي البرّ عُشباً (1) .
{ وجنات ألفافاً } مُلتفّة.
قال صاحب الكشاف (2) : لا واحد له، [كالأوزاع] (3) والأخياف. وقيل: الواحد: لف. وقال صاحب الإقليد: أنشدني الحسن [بن] (4) علي الطوسي:
جَنَّةٌ لِفٌّ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ... ... ونَدامَى كُلُّهُمْ بيضٌ زُهُرُ
وزعم ابن قتيبة (5) أنه لَفَّاء ولُفٌّ، ثم ألْفَافٌ، وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو: خُضْر وأخْضَار، وحُمْر وأحْمَار، ولو قيل: هو جمع مُلتفَّة، بتقدير حذف الزوائد، لكان قولاً وجيهاً. هذا آخر قول صاحب الكشاف.
والذي حكاه عن ابن قتيبة قد ذكره جماعة، منهم: أبو عبيدة (6) ، وأبو العباس.
¨bخ) يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/184)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/7). وفي ب: الأرض عشبا.ً
(2) ... الكشاف (4/687).
(3) ... في الأصل: كأوزاع. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:509).
(6) ... مجاز القرآن (2/282).(1/463)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ(1/464)
أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا اجةب
قوله تعالى: { إن يوم الفصل } يريد: يوم القيامة { كان ميقاتاً } لما وعد الله من الثواب وأوعد من العقاب.
{ يوم ينفخ في الصور } بدل من "يوم الفصل"، أو عطف بيان (1) ، { فتأتون أفواجاً } زمراً زمراً للحساب.
{ وفُتِّحَتِ السماء } وقرأ أهل الكوفة: "وفُتِحَتِ" بالتخفيف (2) ، { فكانت أبواباً } ذوات أبواب لنزول الملائكة.
{ وسُيِّرَتِ الجبال } عن أماكنها { فكانت } بعد اشتدادها وتصلب أجزائها { سراباً } هباءً مُنبثاً، أي: تصير شيئاً كلا شيء؛ لتفرّق أجزائها.
قوله تعالى: { إنَّ جهنم كانت } وقرأ ابن يعمر: "أَنَّ جهنم" بفتح الهمزة (3) ؛ على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت { مرصاداً * للطاغين } .
قال الأزهري (4) : المِرْصَاد: هو المكان الذي يَرْصُدُ فيه الراصد العدوّ.
ثم بيّن لمن هي مرصاد فقال: { للطاغين } .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/279)، والدر المصون (6/463).
(2) ... الحجة للفارسي (4/92)، والحجة لابن زنجلة (ص:745)، والكشف (1/432 وَ 462)، والنشر (2/364)، والإتحاف (ص:377، 431)، والسبعة (ص:668).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/405)، والدر المصون (6/464).
(4) ... تهذيب اللغة (12/137).(1/465)
قال ابن عباس: للمشركين (1) .
{ مآباً } مرجعاً يرجعون إليه.
قوله تعالى: { لابثين فيها أحقاباً } قرأ حمزة: "لَبِثينَ" بغير ألف (2) .
قال أبو علي (3) : من قرأ: "لابثين" جاء باسم الفاعل من لبث على فاعل، نحو: شَرِبَ فهو شارب، ومن قرأ بغير ألف جاء به على فَعِلَ، نحو: حَذِرَ فهو حَذِرٌ. وقد جاء غير حرف من هذا النحو على فَاعِل وفَعِل.
وقال الزمخشري (4) : اللبث أقوى؛ لأن اللابث مَنْ وُجِدَ منه اللبث، ولا يقال "لبث" إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثِم بالمكان لا يكاد ينفك عنه.
{ فيها أحقاباً } قال الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدةً، بل قال: أحقاباً، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى [حُقْبٌ] (5) دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى الأبد (6) .
قال ابن قتيبة (7) : هذا لا يدل على غاية؛ لأنه كلما مضى حُقْبٌ تبعه
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/413).
(2) ... الحجة للفارسي (4/93)، والحجة لابن زنجلة (ص:745)، والكشف (2/359)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:431)، والسبعة (ص:668).
(3) ... الحجة للفارسي (4/93).
(4) ... الكشاف (4/688).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/414).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:509).(1/466)
حُقْبٌ. ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة دل على غاية.
وقال الزجاج (1) : والأحقاب واحدها: حُقْب، والحقب: ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم منها مقدار ألف سنة من سنيّ الدنيا.
قال (2) : والمعنى: أنهم يلبثون أحقاباً، لا يذوقون في الأحقاب برداً ولا شراباً، وهم خالدون في النار أبداً، كما قال الله عز وجل: [ { خالدين فيها أبداً } ] (3) [الجن:23].
قال صاحب الكشاف (4) : يجوز أن يراد: لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغَسَّاق من جنس آخر من العذاب.
قوله تعالى: { لا يذوقون فيها بَرْدَاً ولا شراباً } قال ابن عباس: لا يذوقون فيها برد الشراب ولا الشراب (5) .
وقال الحسن وعطاء: لا يذوقون فيها برداً، [أي] (6) : روحاً وراحة (7) .
وقال مقاتل (8) : لا يذوقون فيها برداً ينفعهم من حرها، ولا شراباً ينفعهم
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/273).
(2) ... أي: الزجاج.
(3) ... زيادة من معاني الزجاج (5/273).
(4) ... الكشاف (4/688-689).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/8).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/8).
(8) ... تفسير مقاتل (3/442).(1/467)
من عطش.
وقال مجاهد والسدي والكسائي والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة (1) : البَرْدُ: النوم. والعرب تقول: منع البَرْد البَرْد.
قال الفراء (2) : إن النوم ليبرد صاحبه، وإن العطشان لينام فيبرد غليله، فلذلك سمي النوم برداً. قال الشاعر:
فإنْ شِئتُ حَرّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ ... وإنْ شئتُ لم أُطْعَمْ [نُقاخاً] (3) ولا برداً (4)
قال ابن قتيبة (5) : [والنُّقَاخ] (6) : الماء، والبرد: النوم.
وأنشد أبو عبيدة (7) قول الكندي:
بَرَدَتْ مراشِفُها عليَّ فصدَّني ... عنْها وعنْ قُبلاتِها البَرْد (8)
قوله تعالى: { إلا حميماً وغساقاً } سبق تفسيره.
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:509)، ومجاز القرآن لأبي عبيدة (2/282)، وزاد المسير (9/8).
(2) ... معاني الفراء (3/228).
(3) ... في الأصل: نفاخاً. والتصويب من ب.
(4) ... تقدم.
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:509).
(6) ... في الأصل: والنفاخ. والتصويب من ب.
(7) ... مجاز القرآن (2/282).
(8) ... البيت للكندي، وهو في: القرطبي (19/180)، والطبري (30/12)، والماوردي (6/187).(1/468)
وقد ذكرنا في أواخر صاد (1) اختلاف القراء في "غساق"، وتوجيه القراءتين.
قوله تعالى: { جزاءً وفاقاً } قال الزجاج (2) : جوزوا [جزاء] (3) وفق أعمالهم.
قال مقاتل (4) : وافَقَ عذابُ النار الشرك؛ لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
قال الزمخشري (5) : "وفاقاً" وصفٌ بالمصدر، أو ذا وفاق.
قوله تعالى: { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } أي: لا يخافون أن يُحاسبوا. يريد: كانوا لا يؤمنون بالبعث.
وقال الزجاج (6) : لا يرجون ثواب حسابهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
{ وكذبوا بآياتنا كذّاباً } أي: تكذيباً.
قال الفراء (7) : هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كَذَّبْتُ كِذَّاباً، وخَرَّقْتُ القميص خِرَّاقاً، وكلُّ "فَعَلْتُ" مصدرها: فِعَّالٌ في لغتهم -مُشدَّد-.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 57.
(2) ... معاني الزجاج (5/274).
(3) زيادة من ب.
(4) تفسير مقاتل (3/442).
(5) ... الكشاف (4/689).
(6) ... معاني الزجاج (5/274).
(7) ... معاني الفراء (3/229).(1/469)
قال (1) : وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلقُ أحبُّ إليك أم القِصَّار؟.
وقال صاحب الكشاف (2) : وسمعني بعضهم أفسّر آية فقال: لقد فسّرتها فسّاراً ما سُمع بمثله.
وقرأ علي عليه السلام: "كِذَاباً" بالتخفيف (3) ، في الموضعين من هذه السورة.
قال الزمخشري (4) : وهو مصدر كَذَبَ، بدليل قوله:
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمرءُ [ينفعُه] (5) كِذَابُه (6)
قلتُ: والبيت للأعشى.
قوله تعالى: { وكُلَّ شيء أحصيناه كتاباً } قال الزجاج (7) : "كلَّ" منصوب بفعل مضمر يفسره: "أحصيناه". والمعنى: وأحصينا كل شيء، و"كتاباً" توكيد لـ"أحصيناه"؛ لأن معنى أحصيناه وكتبناه فيما يحصل ويثبت
__________
(1) ... أي: الفراء.
(2) ... الكشاف (4/689).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/406)، والدر المصون (6/467).
(4) ... الكشاف (4/689).
(5) ... في الأصل: وينفعه. والتصويب من ب.
(6) ... البيت للأعشى. وهو ليس في ديوانه. وهو في: الدر المصون (6/466)، وابن يعيش (6/44)، والطبري (30/20)، والقرطبي (19/181)، وزاد المسير (9/10)، وروح المعاني (30/16).
(7) ... معاني الزجاج (5/274).(1/470)
واحد، فالمعنى: كتبناه كِتَاباً.
وقال غيره (1) : يجوز أن يكون "كتاباً" حالاً في معنى: مكتوباً في اللوح، وفي [صُحُف] (2) الحفظة.
قال المفسرون: وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: { فذوقوا } على إضمار القول، أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء أعمالكم، { فلن نزيدكم إلا عذاباً } .
¨bخ) لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) t,ح !#y‰tn وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/689-690).
(2) ... في الأصل: مصحف. والتصويب من ب، والكشاف (4/690).(1/471)
الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا اجذب
قوله تعالى: { إن للمتقين مفازاً } أي: موضع فوز، أو فوزاً وظفراً بإدراك البغية.
قال ابن عباس: مفازاً: متنزهاً (1) .
وقال قتادة: فازوا بأن نجوا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة (2) .
ثم فسّر ذلك الفوز فقال: { حدائق وأعناباً } قال ابن قتيبة (3) : الحدائق: بساتين النخل، واحدها: حديقة.
وقال غيره: البساتين فيها أنواع الشجر المثمر.
{ وكواعب أتراباً } قال ابن عباس: الكواعب: النّواهد (4) .
وقال الضحاك: العذارى (5) .
قال ابن فارس (6) : يقال: كَعَبَتِ المرأة كَعَابَةً، وهي كَاعِبٌ؛ إذا نَتَأ ثَدْيُها.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/17)، وابن أبي حاتم (10/3395). وذكره السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(2) ... أخرجه الطبري (30/17). وذكره السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:510).
(4) ... أخرجه الطبري (30/18)، وابن أبي حاتم (10/3395). وذكره السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(5) ... الماوردي (6/188). وذكره السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لابن المنذر.
(6) ... معجم مقاييس اللغة (5/186).(1/472)
والأتراب: اللِّدَات (1) . وقد سبق ذلك.
{ وكأساً دهاقاً } قال الحسن وقتادة وابن زيد: "دهاقاً": مملوءة (2) .
وقال سعيد بن جبير: متتابعة (3) ، ومنه قول الشاعر:
دُونَكَها مُتْرَعَةً دِهَاقَا ... ... ..................... (4)
وعن ابن عباس ومجاهد كالقولين (5) .
قال ابن عباس: سمعتُ أبي في الجاهلية يقول: أسقنا كأساً دهاقاً (6) .
وقال عكرمة: صافية (7) . وعليه أنشدوا:
لأنْتَ إلى الفؤادِ أحبُّ قُوتاً ... من الصَّادي إلى كأسٍ [دِهَاقِ] (8)
__________
(1) ... انظر: تاج العروس (مادة: ترب).
(2) ... أخرجه الطبري (30/19). وذكره السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك والحسن.
(3) ... أخرجه الطبري (30/19). وذكره السيوطي في الدر (8/399) وعزاه لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير والضحاك.
(4) ... صدر بيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعجزه: (كأساً زُعافاً مُزِجَت زُعُاقَا). وهو في: اللسان (مادة: زعق)، وتاج العروس (مادة: زعق، ودق)، والعين (1/133).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:722)، والطبري (30/19-20)، وابن أبي حاتم (10/3395).
(6) ... أخرجه الحاكم (2/556 ح3891)، وابن أبي حاتم (10/3396). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/398) وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث.
(7) ... أخرجه الطبري (30/19). وذكره السيوطي في الدر (8/399) وعزاه لابن جرير.
(8) ... انظر البيت في: القرطبي (19/163)، والبحر (8/402)، والدر المصون (6/467)، والماوردي (6/189)، وفيهم: "قرباً" بدل: "قوتاً". وما بين المعكوفين في الأصل: دهاقا. والتصويب من ب، ومصادر البيت.(1/473)
قوله تعالى: { لا يسمعون فيها } أي: في الجنة { لغواً } باطلاً من الكلام { ولا كِذَّاباً } تكذيباً، أي: لا يكذّب بعضهم بعضاً، على ما هو المتعارف من شاربي خمر الدنيا.
وقرأ الكسائي: "كِذَاباً" بالتخفيف (1) ، مصدر: كَذَبَ، كما أن الكتاب مصدر: كَتَبَ، وإنما شُدِّدَ الموضع الأول؛ لقوله: { وكذّبوا } .
قوله تعالى: { جزاء من ربك عطاءً حساباً } قال الزجاج (2) : "جَزَاءً" منصوب بمعنى: { إن للمتقين مفازاً } [النبأ:31]؛ لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد.
قال الزمخشري (3) : و "عَطَاءً" نصب بـ"جزاء" نصب المفعول به. أي: جزاهم عطاءً. و "حساباً" صفة بمعنى: كافياً، من أحْسَبَه الشيء؛ إذا كفاه حتى قال: حسبي. وقيل: على حسب أعمالهم.
قال الكلبي: حاسَبَهُم فأعطاهم بالحسنة عشراً (4) .
قرأ الحرميان وأبو عمرو: { ربُّ السماوات } برفع الباء. وقرأ الباقون
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/93)، والحجة لابن زنجلة (ص:746)، والكشف (2/359)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:431)، والسبعة (ص:669).
(2) ... معاني الزجاج (5/275).
(3) ... الكشاف (4/690).
(4) ... ذكره القرطبي (19/185).(1/474)
بالخفض. وقرأ عاصم وابن عامر: بالخفض (1) ، ورفعه الباقون (2) .
فمن رفع الاسمين قطع الكلام مما قبله، فـ"ربُّ" مبتدأ و"الرحمن" خبره، ثم استأنف { لا يملكون منه خطاباً } .
ومن خفض الاسمين أتبعهما المخفوض قبلهما، وهو قوله: "من ربك" على البدل.
ومن رفع "الرحمن" جعله مبتدأ، والخبر ما بعده، أو على معنى: هو الرحمن.
والضمير في قوله: "لا يملكون": لأهل السموات والأرض.
قال مقاتل (3) : لا يَقْدِرُ الخلقُ أن يُكلموا الربّ إلا بإذنه.
tPِqtƒ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ك`"oH÷qچ9$ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ
__________
(1) ... أي: بخفض كلمة: "الرحمن".
(2) ... الحجة للفارسي (4/93)، والحجة لابن زنجلة (ص:747)، والكشف (2/359)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:431-432)، والسبعة (ص:669).
(3) ... تفسير مقاتل (3/444) بمعناه.(1/475)
شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا احةب
قوله تعالى: { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } الظرف متعلق بقوله: "لا يملكون" أو بقوله: "لا يتكلمون"، أو بمضمر تقديره: اذكر.
وفي الروح خمسة أقوال:
أحدها: أنهم خَلْقٌ من خلق الله، على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليسوا بملائكة. قاله مجاهد (1) . وروي معناه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
الثاني: أنه مَلَكٌ ما خلق الله مَلَكاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:722-723)، والطبري (30/22-23). وذكره السيوطي في الدر (8/399) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3396)، وأبو الشيخ في العظمة (3/870 ح410). وذكره السيوطي في الدر (8/399) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس، رفعه.(1/476)
وحده صفاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عِظَم خلقه مثل صفوفهم (1) .
قال ابن مسعود: هو أعظمُ من خَلْقِ السموات والجبال والملائكة (2) .
الثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين، قبل أن تُردََّ إلى الأجساد (3) . وهذه الأقول الثلاثة مروية عن ابن عباس.
الرابع: أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك (4) .
الخامس: أنهم بنو آدم. قاله الحسن وقتادة (5) . على معنى: يقوم ذووا الروح.
قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة (6) . فيكون المعنى على هذا: يقوم الروح صفاً والملائكة صفاً.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/22)، وابن أبي حاتم (10/3396) كلاهما عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه الطبري (30/22). وذكره السيوطي في الدر (8/400) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (30/23). وذكره السيوطي في الدر (8/400-401) وعزاه للبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس.
(4) ... أخرجه الطبري (30/22) عن الضحاك والشعبي، وأبو الشيخ في العظمة (2/778 ح15، 3/873 ح413) عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (8/400) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن الضحاك.
(5) ... أخرجه الطبري (30/23).
(6) ... أخرجه الطبري (30/24)، وابن أبي حاتم (10/3396)، وأبو الشيخ في العظمة (3/874 ح415). وذكره السيوطي في الدر (8/399) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.(1/477)
وقال ابن قتيبة (1) : معنى قوله: "صفاً": صفوفاً.
وقوله: { لا يتكلمون } جائز أن يكون في محل الحال، وجائز أن يكون جملة مستأنفة. { إلا من أذن له الرحمن } في الكلام، { وقال صواباً } حقاً في الدنيا وعمل به.
وقال أبو صالح: قال: لا إله إلا الله (2) .
وقال صاحب الكشاف (3) : هما شريطتان: أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى.
قوله تعالى: { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } أي: مرجعاً بالطاعة.
ثم خوّف كفار مكة فقال: { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } وهو عذاب الآخرة.
{ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } قال الزمخشري (4) : "المرء": هو الكافر؛ [لقوله] (5) : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } ، والكافر: ظاهر وُضع موضع الضمير لزيادة الذم.
وقال أكثر المفسرين: المرء: اسم جنس يشمل الصالح والطالح، أخبر الله أنهم يرون يوم القيامة ما قَدَّموا في الدنيا من الأعمال السيئة والحسنة مُثْبَتاً في صحائف أعمالهم.
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:511).
(2) ... أخرجه الطبري (30/24). وذكره الماوردي (6/190).
(3) ... الكشاف (4/691).
(4) ... الكشاف (4/691).
(5) ... في الأصل: كقوله. والمثبت من ب، والكشاف (4/691).(1/478)
وقال قتادة: هو المؤمن (1) .
و"ما" موصولة، والراجع إلى الصلة محذوف.
ويجوز أن تكون استفهامية، على معنى: أيّ شيء قدمت يداه.
{ ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } قال عبدالله بن عمرو: إذا كان يوم القيامة، مدّت الأرض مد الأديم، وحُشرت الدواب والبهائم والوحش (2) ، ثم يُجعل القصاص بين الدواب، حتى يقتصّ للشاة الجمّاء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فُرغ من القصاص قال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً (3) .
وقال الحسن: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة فقضى بين الثقلين الجن والإنس وأنزلهم منازلهم، قال لسائر الخلق: كونوا تراباً، فحيئنذ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً (4) .
وقيل: المراد بالكافر: إبليس، يرى آدمَ وولدَه وثوابَهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: { خلقتني من نار وخلقته من طين } [الأعراف:12].
وقال الزجاج (5) : وقيل المعنى: يا ليتني كنتُ تراباً، أي: يا ليتني لم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/25) عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر (8/401) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن.
(2) ... في ب: والوحوش.
(3) ... أخرجه الحاكم (4/619 ح8716)، والطبري (30/26).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/417).
(5) ... معاني الزجاج (5/276).(1/479)
أُبعث، كما قال: { يا ليتني لم أوت كتابيه } [الحاقة:25].(1/480)
سورة النازعات
ijk
وتسمى الطامة. وهي أربع وخمسون آية في المدني، وست في الكوفي، وهي مكية بإجماعهم (1) .
دM"tمج""¨Y9$#ur غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:263).(1/481)
خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ اتحب
قال الله تعالى: { والنازعات غرقاً } قال علي عليه السلام: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار (1) .
قال مقاتل (2) : مَلَكُ الموت وأعوانُه، ينزعون روح الكافر، كما يُنزع السَّفُّود (3) الكثير الشُّعب من الصوف المبتل، فتخرج نفسه كالغريق في الماء. وهذا قول جمهور المفسرين.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/14)، والسيوطي في الدر (8/403) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(2) ... تفسير مقاتل (3/445).
(3) ... السَّفُّود: حديدة ذات شُعَب معقّفة، معروف، يشوى بها اللحم (اللسان، مادة: سفد).(1/482)
وقال مجاهد: هو الموت ينزع النفوس (1) .
قال السدي: النازعات: النفوس حين تنزع (2) .
وقال الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، ومن مشرق إلى مغرب (3) . وهي اختيار أبي عبيدة (4) والأخفش.
وقال عطاء وعكرمة: هي القسي تنزع بالسهم (5) .
وقيل: هي الوحوش تنزع وتنفر (6) .
وقيل: هي الرماة (7) .
"غرقاً": إغراقاً وإبعاداً في النزع، فهو اسم أُقيم مقام الإغراق.
قوله تعالى: { والناشطات نشطاً } قال علي عليه السلام: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تُخرجها من أجوافهم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/27).
(2) ... أخرجه الطبري (30/28)، وابن أبي حاتم (10/3397). وذكره السيوطي في الدر (8/404) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (30/28).
(4) ... مجاز القرآن (2/284).
(5) ... أخرجه الطبري (30/28) عن عطاء. وذكره الماوردي (6/192) عن عطاء، وابن الجوزي في زاد المسير (9/15) عن عطاء وعكرمة، والسيوطي في الدر (8/405) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء.
(6) ... ذكره الماوردي (6/192) حكاية عن يحيى بن سلام.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/15) حكاية عن الثعلبي.(1/483)
بالكَرْب والغم (1) .
قال مقاتل (2) : ينزعُ ملكُ الموت روحَ الكافر، فإذا بلغت ترقوته عَوَّقَها في حلقه، فيعذبه في حياته [قبل أن يميته] (3) ، ثم يُنشِطها من حلقه، -أي: يجذبها- كما يُنْشَطُ السَّفُّودُ من الصوف المبتلّ.
وقال مجاهد: هو الموت ينشط النفوس (4) .
وقال ابن عباس: هي الملائكةُ تَنْشُطُ أرواحَ المؤمنين بسرعة (5) .
وقال أيضاً: هي أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج. وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلا عُرضت [عليه] (6) الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما يدعوه إليها، فتنشط نفسه لذلك (7) .
وقال قتادة وأبو عبيدة والأخفش: هي النجوم التي تَنْشَطُ من مطالعها إلى
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/15)، والسيوطي في الدر (8/403) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(2) ... تفسير مقاتل (3/445).
(3) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (30/28). وذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16).
(5) ... أخرجه الطبري (30/28). وذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/15).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... ذكره الطبري (30/29)، وزاد المسير (9/15).(1/484)
مغاربها (1) .
وقال عطاء وعكرمة: هي الأوهاق (2) .
وقيل: هي الوحش حين ينشط من بلد إلى بلد، كما أن الهُموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد. قاله أبو عبيدة (3) . وأنشد قول [هميان] (4) بن قحافة:
أمْسَتْ هُمومي تَنْشَطُ المَنَاشِطَا ... الشَّام [بي] (5) طوْراً ثم طَوْرَاً وَاسِطَا (6)
قوله تعالى: { والسابحات سبحاً } قال علي عليه السلام: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين (7) .
قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع، يَسُلُّونها سَلاً رفيقاً، ثم يدعونها حتى تستريح،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/29) عن قتادة. وذكره الماوردي (6/193) عن قتادة، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16).
(2) ... أخرجه الطبري (30/29) عن عطاء. وذكره السيوطي في الدر (8/405) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء.
(3) ... مجاز القرآن (2/284).
(4) ... في الأصل و ب: هيمان. والتصويب من مجاز القرآن، الموضع السابق. وانظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (8/95).
(5) ... زيادة من مجاز القرآن، الموضع السابق، ومصادر البيت.
(6) ... البيت لهميان بن قحافة السعدي. وهو في: الطبري (30/29)، والقرطبي (19/192)، ومجاز القرآن (2/284)، واللسان (مادة: نشط)، والماوردي (6/193)، والبحر (8/409)، وزاد المسير (9/16)، والدر المصون (6/470)، وروح المعاني (30/24).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/16)، والسيوطي في الدر (8/403) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.(1/485)
كالسابح بالشيء في الماء يرفق به (1) .
وقال أبو صالح ومجاهد: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد [سابح] (2) ؛ إذا أسرع في جريه (3) .
وقال مجاهد أيضاً: هو الموت يسبَح في نفوس بني آدم (4) .
وقال قتادة: هي النجوم والشمس والقمر، كُلٌّ في فلك يسبحون (5) .
وقيل: هي خيل الغزاة (6) .
وقال عطاء: هي السفن (7) .
قوله: { فالسابقات سبقاً } قال علي عليه السلام: هي الملائكةُ تَسْبِقُ الشياطينُ بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام (8) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/418) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16).
(2) ... زيادة من زاد المسير (9/16).
(3) ... أخرجه الطبري (30/30) عن مجاهد. وذكره الواحدي في الوسيط (4/418)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16)، والسيوطي في الدر (8/404) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح.
(4) ... أخرجه الطبري (30/30). وذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... ذكره الماوردي (6/193) حكاية عن ابن شجرة.
(7) ... أخرجه الطبري (30/30). وذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/16).
(8) ... ذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/17).(1/486)
وقال الحسن: سبقت إلى الإيمان (1) .
وقال مجاهد: [تَسْبِقُ] (2) بأرواح المؤمنين إلى الجنة (3) .
وقال ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله ورحمته وكرامته (4) .
وروي عن مجاهد: أنه الموت يسبق إلى النفوس (5) .
وقال قتادة: هي النجوم يسبق بعضُها بعضاً في السير (6) .
وقال عطاء: هي الخيل (7) .
قوله تعالى: { فالمدبرات أمراً } قال ابن عباس وجمهور المفسرين: هي الملائكة (8) ، على معنى: تُدَبِّرُ أمراً من علم الحساب وغيره.
وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبّر أمر الدنيا أربعة أملاك: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل عليهم السلام. فأما جبريل فهو موكل
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... في الأصل: تسجق. وكذا وردت في المواضع الثلاث التالية. والتصويب من ب.
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/17).
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/17).
(5) ... أخرجه الطبري (30/30). وذكره الماوردي (6/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/17).
(6) ... أخرجه الطبري (30/31). وذكره الماوردي وابن الجوزي، الموضعان السابقان.
(7) ... أخرجه الطبري (30/30). وذكره السيوطي في الدر (8/405) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(8) ... أخرجه الطبري (30/31)، وابن أبي حاتم (10/3397). وذكره الواحدي في الوسيط (4/418)، والسيوطي في الدر المنثور (8/404-405).(1/487)
بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل (1) فهو ينزل بالأمر عليهم (2) .
وقيل: جبريل للوحي، وإسرافيل [للصور] (3) .
فإن قيل: من أول السورة إلى هاهنا قَسَم، فأين جوابه؟
قلتُ: إما محذوف، تقديره: لتبعثن، بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة. وإما قوله: { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [النازعات:26].
قوله تعالى: { يوم ترجف الراجفة } العامل في الظرف: جواب القسم المحذوف.
والراجفة: الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، أي: تضطرب، وهي النفخة الأولى، وُصفت بما يحدث بحدوثها.
{ تتبعها الرادفة } وهي النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، وكل [شيء] (4) تبع شيئاً فقد ردفه.
وقيل: "الراجفة": الأرض والجبال، و"الرادفة": السماء والكواكب؛ لأنها تنشق وتنثر [كواكبها] (5) على إثر ذلك.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: فموكل، ولعلها زيادة من الناسخ، وهي غير موجودة في ب.
(2) ... أخرجه البيهقي في الشعب (1/177 ح158)، وابن أبي شيبة (7/159 ح34969)، وابن أبي حاتم (10/3397). وذكره السيوطي في الدر (8/405) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) ... في الأصل: الصور. والمثبت من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: كوابها. والتصويب من ب.(1/488)
ومحل "تَتْبَعُهَا" من الإعراب: النصب على الحال (1) ، أي: ترجف تابعتها [الرادفة] (2) .
{ قلوبٌ يومئذ واجفة } الوجيف والوجيب بمعنىً، أي: شديدة الاضطراب من أهوال القيامة.
و"قلوبٌ": رفع بالابتداء (3) .
{ أبصارها خاشعة } [هو] (4) الخبر، "واجفة": صفة القلوب (5) ، ولذلك جاز الابتداء بها، وهي نكرة لتخصُّصها بالوصف، كقوله: { ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشرك } [البقرة:221].
ومعنى: "خاشعة": ذليلة خاضعة.
والمراد: [أبصار أصحابها] (6) ، والإشارة إلى منكري البعث، بدليل قوله: { يقولون أئنا لمردودون في الحافرة } .
وقرأ أبو جعفر: "إنا لمردودون" بهمزة واحدة على الخبر (7) .
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة ويعقوب إلا زيداً ورويساً: بهمزتين محقَّقَتين. وفَصَلَ بينهما بألف: هشام، الباقون: بتحقيق الأولى وتليين الثانية.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/280)، والدر المصون (6/471).
(2) ... في الأصل: المرادفة. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الدر المصون (6/471).
(4) ... في الأصل: هي. والمثبت من ب.
(5) ... انظر: الدر المصون (6/471).
(6) ... في الأصل: أيضاً ذا صاحبها. والتصويب من ب.
(7) ... النشر (2/373)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:432).(1/489)
وفصل بينهما بألف: نافع إلا وَرْشاً وأبو عمرو وزيد عن يعقوب، وتركه ابن كثير (1) ووَرْش [ورويس] (2) .
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب: "إذا كنا" على الخبر. وقرأ عاصم وحمزة وخلف: بتحقيق الهمزتين على الاستفهام، الباقون: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. وفَصَلَ بينهما بألف: أبو عمرو وأبو جعفر، وتركه ابن كثير (3) .
قال أهل اللسان: يقال: رجع فلان [في] (4) حافرته، أي: في طريقه [التي] (5) جاء فيها فحَفَرَها، أي: أثّر فيها بمشيه فيها، جعل أثر قدمه حَفْراً، ومنه: حَفِرَتْ أسنانه؛ إذا أثَّر الأُكالُ في أسناخها، ومنه: الخط المحفور في الصخر (6) .
المعنى: أنُرَدُّ إلى أول [حالنا] (7) وابتداء أمرنا.
قال ابن عباس: المعنى: أئنا لمردودون في الحياة بعد الموت (8) .
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (4/97)، والنشر (1/373)، والإتحاف (ص:432)، والسبعة (ص:670).
(2) ... في الأصل: وريوس. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الحجة للفارسي (4/97)، والنشر (1/373)، والإتحاف (ص:432)، والسبعة (ص:670).
(4) ... في الأصل: على. والمثبت من ب.
(5) ... في الأصل: الذي. والمثبت من ب.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: حفر).
(7) ... في الأصل: حالتنا. والمثبت من ب.
(8) ... أخرجه الطبري (30/34). وذكره السيوطي في الدر (8/405-406) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/490)
وقيل: الحافرة: الأرضُ [التي] (1) تُحفر فيها قبورهم.
المعنى: أئنا لمردودون في الأرض خلقاً جديداً. وهذا معنى قول مجاهد والحسن (2) .
والاستفهام في الموضعين للإنكار، وقد نبهنا على معنى الخبر والاستفهام في سورة الرعد (3) .
قال الخليل وغيره: حافرة بمعنى: محفورة، كما [قالوا] (4) : { ماء دافق } [الطارق:6] بمعنى: مدفوق (5) ، و { عيشة راضية } [الحاقة:21].
قال الزمخشري (6) : وقرأ أبو حيوة: "الحَفِرَة"، والحَفِرَة بمعنى: المحفورة. يقال: حَفِرَتْ أسنانه، وهي حَفِرَة. قال: وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى: المحفورة.
قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "نَاخِرَة". وقرأ الباقون: "نَخِرَة" بغير
__________
(1) ... في الأصل: الذي. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:726)، والطبري (30/34). وذكره السيوطي في الدر (8/407) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.
(3) ... عند الآية رقم: 5.
(4) ... في الأصل. قال. والمثبت من ب.
(5) ... قوله: "بمعنى مدفوق" سقطت من ب.
(6) ... الكشاف (4/694).(1/491)
ألف (1) .
وروي عن الكسائي التخيير بين حذف الألف وإسقاطها (2) ، وهما لغتان بمعنى واحد.
يقال: نخِرَ العَظْمُ فهو نخِرٌ وناخِرٌ، مثل: طَمِعَ فهو طَمِعٌ وطَامِعٌ، إلا أن فَعِلَ أبلغ من فاعل.
والنَّخِرُ: البالي [الأجوف] (3) ، الذي تمر فيه الريح فيُسمع له نخير.
والعامل في "إذا" محذوف، تقديره: إذا كنا عظاماً نرد ونبعث.
{ قالوا تلك إذاً كرةٌ خاسرة } منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها. وهذا على وجه الفرض والتقدير منهم، أي: إن صح هذا فتلك إذاً كَرَّةٌ خاسرة. وهو كلام يُنبئ [عن] (4) استحكام تكذيبهم واستهزائهم، وأن ذلك غير كائن ولا واقع.
قوله تعالى: { فإنما هي زجرة واحدة } أي: لا تستبعدوا تلك الكَرَّة، [فإنما] (5) هي زجرة واحدة، أي: صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/95)، والحجة لابن زنجلة (ص:748)، والكشف (2/361)، والنشر (2/397)، والإتحاف (ص:432)، والسبعة (ص:670).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.
(3) ... في الأصل: الأخوف. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: على. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: إنما. والمثبت من ب.(1/492)
{ فإذا هم بالساهرة } وهي وجه الأرض (1) ، في قول جمهور المفسرين واللغويين، قالوا: سُمِّيَتْ بذلك؛ لأن به نوم الحيوان وسهرهم.
والمعنى: فإذا هم على ظهر الأرض أحياء، بعد أن كانوا في بطنها أمواتاً.
قال وهب بن منبه: "فإذا هم بالساهرة": جبل عند بيت المقدس (2) .
وقال قتادة: "فإذا هم بالساهرة": جهنم (3) .
ِ@yd أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ
__________
(1) ... ذكره الطبري (30/36)، والماوردي (6/196)، والواحدي في الوسيط (4/419)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/20).
(2) ... أخرجه الطبري (30/38). وذكره الماوردي (6/197)، والسيوطي في الدر (8/409) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) ... مثل السابق.(1/493)
فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى اثدب
قوله تعالى: { هل أتاك حديث موسى } أي: قد جاءك خبره.
{ إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } قرأ ابن عامر وأهل الكوفة: "طُوىً" بالتنوين. وقرأ الباقون بغير تنوين (1) .
وقد ذكرتُ وجه القراءتين مع ما لم أذكره هاهنا في طه (2) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/95)، والحجة لابن زنجلة (ص:451)، والكشف (2/98)، والنشر (2/319)، والإتحاف (ص:432)، والسبعة (ص:671).
(2) ... عند الآية رقم: 9.(1/494)
قرأ الحرميان: "تَزَّكَّى" بتشديد الزاي. وخففها الباقون (1) ، أصلها: تتزكى.
فمن شدّد أدغم التاء في الزاي، ومن خفف حذف التاء الثانية طلباً للخفة، [وهو] (2) مثل: "تظاهرون" و"تساءلون".
والمعنى: هل لك أن تتطهر من الشرك. والعرب تقول: هل لك إلى كذا.
{ وأهديك إلى ربك } أرشدك إلى معرفته، { فتخشى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال الله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر:28].
قوله تعالى: { فأراه الآية الكبرى } وهي قلب العصا حية، وهي أصل آياته، وأكبر معجزاته.
وقال جمهور المفسرين: هي العصا واليد، وجعلهما "آية"؛ لانتظامهما في سلك واحد، وتساوُقهما معاً.
{ فكذب } بموسى وآياته، { وعصى } الله بعد صحة علمه أن الطاعة قد وجبت عليه.
وقيل: عصى رسوله.
{ ثم أدبر } عن الإيمان { يسعى } يعمل بالفساد (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/96)، والحجة لابن زنجلة (ص:749)، والكشف (2/361)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:432)، والسبعة (ص:671).
(2) ... في الأصل: وهم. والتصويب من ب.
(3) ... في ب: بعمل الفساد.(1/495)
وقيل: أدبر حين رأى انقلاب العصا حية.
"يسعى": يُسرع في مشيه خوفاً منها.
{ فحشر } أي: فجمع قومه وجنوده.
وقيل: جمع السحرة، بدليل قوله: { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } [الشعراء:53].
{ فنادى } في المقام الذي اجتمعوا فيه. يُروى أنه قام فيهم خطيباً.
ويجوز أن يكون المعنى: أمر منادياً فنادى بهذه الكلمة الشنيعة.
{ فقال أنا ربكم الأعلى } أي: لا رَبَّ فوقي.
وقيل: أراد: أن الأصنام أربابٌ وأنه فوقها.
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي المقرئ الطوسي في كتابه قال: أخبرنا عبدالجبار بن أحمد بن محمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا المؤمل بن محمد، أخبرنا محمد بن عبدالله الحافظ، حدثنا موسى بن إسماعيل القاضي، حدثنا محمد بن أحمد [بن البراء] (1) ، حدثنا عبدالمنعم بن إدريس، حدثنا عبدالصمد بن معقل (2) ، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا رب أمهلت
__________
(1) ... في الأصل و ب: البزار. والتصويب والزيادة من البيهقي (6/53). وانظر: ترجمته في: تاريخ بغداد (1/281).
(2) ... عبد الصمد بن معقل بن منبه بن كامل اليماني، ثقة صدوق، مات سنة ثلاث وثمانين (تهذيب التهذيب 6/293، والتقريب ص:356).(1/496)
فرعون أربعمائة سنة وهو يقول: أنا ربكم الأعلى، [ويكذب] (1) آياتك، ويجحد رسلك، فأوحي إليه: أنه كان حَسَنَ الخُلْق، سَهْلَ الحِجَاب، فأحببتُ أن أُكافئه" (2) .
قوله تعالى: { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } قال الزجاج (3) : النَّكَال: منصوب مصدر مؤكد؛ لأن معنى: "أخذه الله": نَكَّلَ به، "نكال الآخرة والأولى" أي: أغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة.
قال (4) : وجاء في التفسير: أن نكال الآخرة والأولى؛ لقوله: { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص:38]، وقوله: { أنا ربكم الأعلى } ، فنكّل الله به نكال هاتين الكلمتين.
قلتُ: وهذا المعنى الثاني الذي حكاه الزجاج هو قول جمهور المفسرين.
قال ابن عباس: كان بين الكلمتين أربعون سنة (5) .
قال السدي: بقي بعد الآخرة ثلاثين سنة (6) .
والمعنى الأول؛ قول الحسن وقتادة (7) .
__________
(1) ... في الأصل: وكذب. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه الواحدي في الوسيط (4/420)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/53 ح7476، 6/250 ح8042).
(3) ... معاني الزجاج (5/280).
(4) ... أي: الزجاج.
(5) ... ذكره الماوردي (6/198)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/21).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... أخرجه الطبري (30/42). وذكره السيوطي في الدر (8/409) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/497)
{ إن في ذلك } الذي فَعَلَ بفرعون حين كذّب وعصى { لعبرة لمن يخشى } .
ثم خاطب منكري البعث فقال:
÷LنêRr&uن أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ اججب(1/498)
{ أأنتم أشد خلقاً أم السماء } أي: أأنتم فيما عندكم [أصعب] (1) خلقاً وأعجب إيجاداً وإنشاء بعد الموت أم السماء؟، وهذا كقوله: { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } [غافر:57].
قال الزجاج (2) : قال بعض النحويين: "بناها" من صلة "السماء". المعنى: التي بناها.
وقال بعضهم: السماء ليس مما يوصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقاً أم السماء أشد خلقاً.
ثم بيّن كيف خَلَقَها فقال: { بناها } .
ثم بيّن البناء فقال: { رفع سَمْكَهَا } .
قال الزمخشري (3) : جعل مقدار ذهابها في سَمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام، { فَسَوَّاها } فعدّلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوُتٌ ولا فطورٌ، أو فتمّمها بما علم أنها تَتِمُّ به وأصلحها، من قولك: سوّى فلانٌ أمر فلان.
قوله تعالى: { وأغْطَشَ ليلها } أي: أظْلَمَه، والغَطَشُ والغَبَشُ: الظُّلْمَة، ورجل أغْطَش: أعمى.
{ وأخرج ضحاها } أبرز ضوءَ شمسِها، بدليل قوله: { والشمس وضحاها } [الشمس:1] أي: وضوؤها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء؛
__________
(1) ... في الأصل: أضعف. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/280).
(3) ... الكشاف (4/697).(1/499)
لأنهما ينزلان منها وينشآن عنها.
{ والأرض بعد ذلك } أي: بعد خلق السماء { دحاها } .
قال ابن عباس وغيره من المفسرين واللغويين: "دحاها" بمعنى: بَسَطَها (1) . والدَّحْوُ: البَسْط.
قال عبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء وجمهور المفسرين: خلق الأرض قبل السماء، ثم خلق السماء، ثم دحى الأرض بعد خلق السماء (2) .
وحمل القائلون بتكامل خلق الأرض قبل السماء "بعد" على معنى: قبل، كقوله: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } [الأنبياء:105]، ومنهم من قال: "بعد" بمعنى: مع، قالوا: ومنه قوله: { عتل بعد ذلك } [القلم:13]، أي: مع ذلك. ويؤيده قراءة مجاهد: "عند ذلك دحاها".
وقد ذكرنا في البقرة اختلاف العلماء في السابقة (3) بالخلق، وبيّنّا الصواب من ذلك.
قوله تعالى: { أخرج منها ماءها } (4) قال ابن عباس: فجَّر الأنهارَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/46-47). وذكره الماوردي (6/199)، والسيوطي في الدر (8/411) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(2) ... أخرجه الطبري (30/45). وذكره السيوطي في الدر (8/412) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: في.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: { ومرعاها } . وستأتي بعد.(1/500)
والبحارَ والعيون (1) .
{ ومرعاها } ما يأكله الناس والأنعام، وهو قوله: { متاعاً لكم ولأنعامكم } .
واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: { يرتع ويلعب } [يوسف:12].
قال الزمخشري (2) : "مرعاها": رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي. ونصَبَ الأرض والجبال بإضمار "دحا" و"أرسى"، وهو الإضمار على شريطة التفسير. وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء (3) .
فإن قلت: هلاَّ أدخل حرف العطف على "أخرج"؟
قلتُ: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون [معنى] (4) "دحاها" بسطها ومهّدها للسكنى، ثم فسّر التمهيد بما لا بد منه في تَأَتِّي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب؛ وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها.
والثاني: أن يكون "أخرج" حالاً بإضمار "قد" كقوله: { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } [النساء:90].
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/421).
(2) ... الكشاف (4/697).
(3) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:432-433).
(4) ... في الأصل: بمعنى. والتصويب من ب، والكشاف (4/697).(1/501)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى(1/502)
رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا احدب
قوله تعالى: { فإذا جاءت الطامة الكبرى } يريد: القيامة.
وقيل: الساعة التي يتصدَّعون فيها، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير.
وقيل: النفخة الثانية.
وسميت طامّة؛ لأنها تطم وتغمُر الدواهي.
{ يوم يتذكر الإنسان ما سعى } ما عمل من خير وشر.
وقيل: إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكَّرها، وكان قد نسيها، كقوله: { أحصاه الله ونسوه } [المجادلة:6].
{ وبرزت الجحيم لمن يرى } قال مقاتل (1) : يُكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق.
وقرأ أبو مجلز وابن السميفع: "لمن ترى" بالتاء، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/449) بمعناه.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/24)، والدر المصون (6/476).(1/503)
وقيل: لمن ترى الجحيم، كما قال: { إذا رأتهم من مكان بعيد } .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس: "لمن رأى" بهمزة بين الراء والألف (1) .
وجواب قوله: { فإذا جاءت الطامة الكبرى } ؛ قوله: { فأما من طغى } .
أي: فإذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك.
قال الزجاج (2) : ومعنى: { هي المأوى } : هي المأوى له.
قال (3) : وقال قوم: الألف واللام بدلٌ من الهاء، المعنى: هي مأواه؛ لأن الألف واللام بدلٌ من الهاء، وهذا كما تقول للرجل: غُضَّ الطرف، تُريد: طَرْفَك.
قال الزمخشري (4) : ليس [الألف] (5) واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغضُّ الرجل طرف غيره: تُركت الإضافة.
قال (6) : ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف للتعريف؛ لأنهما معروفان، و"هي" فصل أو مبتدأ.
قال مقاتل (7) : { ونهى النفس عن الهوى } هو الرجل يهمُّ بالمعصية،
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... معاني الزجاج (5/281).
(3) ... أي: الزجاج في معاني القرآن، الموضع السابق.
(4) ... الكشاف (4/698).
(5) ... في الأصل: للألف. والتصويب من ب.
(6) ... أي: الزمخشري.
(7) ... تفسير مقاتل (3/449) بمعناه.(1/504)
فيذكر [مقامه للحساب] (1) فيتركها.
قوله تعالى: { فيم أنت من ذكراها } أي: في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتُعلمهم به. يعني: ما أنت وذلك؟ أي: لست تعلمه.
وقال ابن عباس: فيمَ يسألك المشركون عنها ولستَ ممن يعلمها (2) .
وقال عروة بن الزبير: فيمَ تسأل أنت يا محمد عنها، وليس لك السؤال عنها (3) .
ثم [أخبر] (4) أنه سبحانه هو المستأثر بعلمها فقال: { إلى ربك منتهاها } أي: منتهى علمها.
{ إنما أنت منذر من يخشاها } أي: إنما بُعثت لتنذر من أهوالها.
وإنما خَصَّ الخَاشِينَ بالذكر مع كونه منذراً للثقلين من لدنه إلى أن تقوم الساعة؛ لموضع انتفاعهم بالإنذار.
وقرأتُ على الشيخ أبي البقاء لأبي جعفر ولأبي عمرو من رواية الحلبي عن عبد الوارث: "منذرٌ" بالتنوين (5) .
قال الفراء (6) : التنوين وتركه صواب؛ كقوله: { بالغٌ أمره } [الطلاق:3]
__________
(1) ... في الأصل: مقام الحساب. والمثبت من ب.
(2) ... ذكره الماوردي (6/200).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (4/97)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:433)، والسبعة (ص:671).
(6) ... معاني الفراء (3/234).(1/505)
و { موهنٌ كيد الكافرين } [الأنفال:18].
وقال الزمخشري (1) : التنوين هو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة؛ كقولك: هو منذر زيدٍ أمس.
{ كأنهم يوم يرونها } يعاينون أهوالها ويعانون شدائدها { لم يلبثوا } في الدنيا. وقيل: في القبور { إلا عشية } وهي ما بعد العصر، { أو ضحاها } وهو ما كان إلى ارتفاع الشمس.
والمعنى: كأنهم لم يلبثوا إلا هذا القدر من الزمان.
وصحّ إضافة الضحى إلى العشية في قوله: { أو ضحاها } ؛ لاجتماعهما في يوم واحد.
قال بعضهم (2) : وفائدة الإضافة: الدلالة على أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة من يوم عشية أو ضحاها، فلما ترك اليوم أضافه إلى عشية، فهو كقوله: { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } [يونس:45].
__________
(1) ... الكشاف (4/700).
(2) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/700).(1/506)
سورة عبس
ijk
وهي اثنتان وأربعون آية. وهي مكية بإجماعهم (1) .
}t6tم وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:264).(1/507)
تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ اتدب
قال الله تعالى: { عبس وتولى * أن جاءه الأعمى } أخرج مالك في الموطأ من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أنزلت: "عبس وتولى" في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله من عظماء المشركين، فجعل رسول الله يُعرض عنه ويُقبل على الآخر ويقول: أترى بما أقول بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزل" (1) .
ولا خلاف بين أهل [العلم] (2) أنها نزلت فيه، وكان من بني عامر بن لؤي بغير خلاف، واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبدالله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم، واسمه: عبدالله، وقيل: عمرو، وهو الأشهر والأكثر.
واختلفوا في اسم أبيه؛ فقيل: زائدة بن الأصم. وقيل: قيس بن مالك بن الأصم بن رواحة بن صخر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي
__________
(1) ... أخرجه مالك (1/203 ح476).
(2) ... زيادة من ب.(1/508)
[العامري] (1) . وقيل: غير ذلك.
كان قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى المدينة مع مصعب بن عمير قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الواقدي: قدمها بعد بدر بيسير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه في أكثر غزواته، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد، وشهد فتح القادسية، وكان معه اللواء يومئذ، واستُشهد رضي الله عنه (2) .
قال المفسرون: أتى ابنُ أم مكتوم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملأ من قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية وأبيّ ابنا خلف، والوليد بن المغيرة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، فجعل ابن أم مكتوم يقول: علمني يا رسول الله مما علمك الله، وجعل يكرر ذلك النداء ولا يدري أنه مشغول عنه بغيره، فكلح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرض عنه، وأقبل على صناديد قريش يدعوهم إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآه بعد ذلك يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويكرمه ويقول: هل لك من حاجة؟ (3) .
ومعنى: "عَبَسَ": قَطَّبَ وكلّح.
__________
(1) ... في الأصل: العامر. والمثبت من ب.
(2) ... انظر: الإصابة (4/601)، والاستيعاب (3/997).
(3) ... أخرجه الطبري (30/51). وذكره السيوطي في الدر (8/416) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:471).(1/509)
وقرئ: "عبَّس" بالتشديد؛ للتكثير (1) .
"وتولّى": أعرض بوجهه.
"أنْ جَاءَهُ" منصوب بـ"تولى" (2) ، أو بـ"عبس" (3) . ومعناه: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك.
وقرأ أُبيّ بن كعب والحسن: "آن جاءه" بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة (4) .
وقرأ ابن مسعود وابن السميفع: بهمزتين مقصورتين مفتوحتين (5) .
فيكون الوقف على قوله: "وتولى"، ثم يبتدئ: "[أأن جاءه] (6) "، أي: ألأن جاءه الأعمى، فَعَلَ ذلك إنكاراً عليه، ثم الرجوع من المغايبة إلى المخاطبة بقوله: { وما يدريك } مُشعر بزيادة الإنكار.
قال الزمخشري (7) : وفي ذكر الأعمى نحوٌ من ذلك، كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعَمَاهُ تعطُّفاً وترؤُّفاً وتقريباً وترحيباً.
__________
(1) ... وهي قراءة زيد بن علي. انظر هذه القراءة في: البحر (8/418)، والدر المصون (6/478).
(2) ... هو قول البصريين. وهذا هو المذهب المختار؛ لعدم الإضمار في الثاني.
(3) ... هو قول الكوفيين.
(4) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:433).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/27)، والدر المصون (6/478).
(6) ... في الأصل: أأجاءه. والتصويب من ب.
(7) ... الكشاف (4/702).(1/510)
قوله تعالى: { وما يدريك لعله يَزَّكَّى } أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وبما يتعلمه منك.
{ أو يَذَّكَّرُ } يتّعظ { فَتَنْفَعُهُ الذكرى } . قرأ عاصم: "فَتَنْفَعَهُ" بالنصب، على جواب "لعل". وقرأ الباقون: بالرفع (1) ؛ عطفاً على "يزكّى" و"يذكّر"، تقديره: ولعله تنفعه الذكرى.
قوله تعالى: { أما من استغنى } قال ابن عباس: استغنى عن الله عز وجل وعن الإيمان بما له من المال (2) .
{ فأنت له تَصَدَّى } قرأ ابن كثير ونافع: "تصَّدَّى" بتشديد الصاد، وخففها الباقون (3) .
فمن شدّد أدغم التاء في الصاد، أصلها: تتصدى، بتاءين. ومن خفف أسقط التاء الثانية. وقد أشرنا إلى هذا في مواضع.
والمعنى: فأنت تتعرض بالإقبال عليه.
والمُصَادَاةُ: المُعَارَضَة (4) .
{ وما عليك ألا يزَّكَّى } أي: وليس عليك بأس في أن لا يزكى بالإسلام، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على إيمان قومه، متهالكاً على إيمان الأشراف منهم.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/98)، والحجة لابن زنجلة (ص:749)، والكشف (2/362)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:433)، والسبعة (ص:672).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/423)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/27).
(3) ... الحجة للفارسي (4/98)، والحجة لابن زنجلة (ص:749)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:433).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: صدي).(1/511)
وقال الزجاج (1) : المعنى: أيّ شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام.
قوله تعالى: { وأما من جاءك يسعى } (2) [يسرع] (3) في طلب الخير، { وهو يخشى } الله تعالى.
وقيل: يخشى الكفار وأذاهم بسبب مجيئه إليك.
{ فأنت عنه تَلَهَّى } تتشاغل وتُعرض عنه، تقول: لَهِيتُ عن الشيء ألْهَى؛ إذا تشاغلت عنه (4) .
قوله تعالى: { كلا } ردع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن العود إلى مثل ما عاتبه عليه.
{ إنها } يريد: آيات القرآن، أو هذه السورة { تذكرة } عِظة وتذكير.
{ فمن شاء ذكره } قال ابن عباس: فمن شاء الله ألهمه وفهّمه القرآن حتى يَذْكُرَهُ ويتّعظ به (5) .
قال الزجاج (6) : "إنها تذكرة" يعني به: الموعظة التي وعظ الله بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، "فمن شاء ذكره"؛ لأن معنى الموعظة والوعظ واحد. والمعنى راجع إلى [جملة] (7) القرآن. المعنى: إن شاء أن يُذكّره ذَكَّرَه.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/284).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: { وهو يخشى } . وستأتي بعد.
(3) ... في الأصل: فيسرع. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: لها).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/423).
(6) ... معاني الزجاج (5/284).
(7) ... في الأصل: حملة. والتصويب من ب.(1/512)
ثم أخبر سبحانه وتعالى بجلالة القرآن عنده فقال: { في صُحُفٍ مكرمة } أي: هو في صُحُف، كتبت من اللوح المحفوظ.
وقال مقاتل (1) : يريد: اللوح المحفوظ.
وقيل: كُتُب الأنبياء عليهم السلام.
{ مرفوعة } في السماء.
وإن قلنا هي: كُتُب الأنبياء، فمعنى "مرفوعة": عالية القدر، مفخّمة الشأن.
{ مطهّرة } منزهة عن أيدي الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة.
وقال الحسن: مطهرة لا تُنزل على المشركين (2) .
وقال مقاتل (3) : مطهرة من الشرك والكفر.
{ بأيدي سفرة } وهم الملائكة، في قول جمهور المفسرين (4) .
وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، في قول وهب بن منبه (5) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/452).
(2) ... ذكره الماوردي (6/204)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/29).
(3) ... تفسير مقاتل (3/452).
(4) ... أخرجه الطبري (30/53) عن ابن عباس. وذكره الماوردي (6/204)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/29)، والسيوطي في الدر (8/418) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/29)، والسيوطي في الدر (8/418) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/513)
وقيل: السَّفَرَة: القُرّاء. قاله جماعة، منهم: قتادة (1) .
قال الزجاج وغيره (2) : والسَّفَرَة: جمع، الواحد: سَافِر، مثل: كاتِبٍ وكَتَبَة، وكافِر وكَفَرَة. وإنما قيل للكُتَّاب: [سَفَرَة] (3) ، وللكاتِب: سافِر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه، يقال: أسْفَرَ الصبح؛ إذا أضاء، وسَفَرَتِ المرأة؛ إذا كَشفت النقاب عن وجهها، ومنه: سَفَرْتُ بين القوم، أي: كشفت ما في قلب هذا [وقلب] (4) هذا لأصلح بينهم (5) . وأنشد الفراء (6) :
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بينَ قومِي ... وَمَا أمْشِي بغِشٍّ إنْ مشيتُ (7)
{ كِرامٍ } على ربهم { بَرَرَة } مطيعين.
قال الزجاج (8) : [هو] (9) جمع بَارّ.
ں@دGè% الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/53). وذكره الماوردي (6/204).
(2) ... معاني الزجاج (5/284).
(3) ... في الأصل و ب: سفر. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: وقبل. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: سفر).
(6) ... معاني الفراء (3/236).
(7) ... البيت لم أعرف قائله. وهو في: الطبري (30/54)، والقرطبي (19/216)، والماوردي (6/204)، وزاد المسير (9/30)، والبحر (8/417)، والدر المصون (6/480).
(8) ... معاني الزجاج (5/284).
(9) في الأصل: هم. والتصويب من ب.(1/514)
شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) t,ح !#y‰tnur غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا(1/515)
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ اجثب
قوله تعالى: { قتل الإنسان } أي: لعن الكافر.
قال الضحاك: وهو أمية بن خلف (1) .
وقال مقاتل (2) : عتبة بن أبي لهب.
وقال مجاهد: كل كافر (3) .
{ ما أكْفَرَه } أي: ما أشدّ كفره بالله.
قال الزجاج (4) : معناه: اعجبوا أنتم من كُفْرِه.
ثم أخذ الله سبحانه وتعالى في وصف حاله من ابتداء كونه إلى انتهائه، مُذَكِّراً له بأَنْعُمِهِ وقدرته فقال: { من أي شيء خلقه } استفهام في معنى التقرير.
ثم بَيَّنَ الشيءَ الذي خلقه منه بقوله: { من نطفة خلقه فقدَّرَه } قال ابن السائب: قدّر أعضاءه، رأسه وعينيه ويديه ورجليه (5) .
وقال مقاتل (6) : قدّره أطواراً، نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/205)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/30).
(2) ... تفسير مقاتل (3/452).
(3) ... أخرجه الطبري (30/54). وذكره الماوردي (6/205)، والسيوطي في الدر (8/419) وعزاه لابن المنذر.
(4) ... معاني الزجاج (5/285).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/423-424)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/31).
(6) ... تفسير مقاتل (3/453).(1/516)
وقال الزجاج (1) : قدّره على الاستواء.
{ ثم السبيل يسَّرَه } انتصب "السبيل" بإضمار: "يسّر"، وفَسَّره بيسّره.
والمعنى: ثم سهّل سبيله، وهو مخرجه من بطن أمه.
وقال الحسن ومجاهد: سهّل له العلم بطريق الحق والباطل (2) .
{ ثم أماته فأقْبَرَه } جعله ذا قبر يُوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله على وجه الأرض جَزَراً للسباع والطير، كسائر الحيوان.
يقال: أقْبَرَ الميت؛ إذا جعل له قبراً، وقَبَرَه: إذا دفنه بيده (3) فهو [قابره] (4) .
قال الأعشى:
ولوْ أسندتَ ميتاً إلى نحْرِهَا ... عَاشَ ولم يُسْلَمْ إلى قَابِر (5)
أي: إلى دافن يدفنه بيده.
{ ثم إذا شاء أنشره } بعثه بعد الموت. يقال: أنشر الله الميت؛ إذا [أحياه] (6) ، ونُشِرَ هو: [حيا] (7) بنفسه (8) . قال الأعشى:
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/285).
(2) ... أخرجه الطبري (30/55). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/31).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: قبر).
(4) ... في الأصل: قابر. والمثبت من ب.
(5) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:92)، والأغاني (16/303)، وصبح الأعشى (1/444)، والطبري (30/56)، والقرطبي (19/219)، والماوردي (6/206)، والبحر المحيط (8/420)، والدر المصون (6/480)، وروح المعاني (30/44).
(6) ... في الأصل: أحيا. والتصويب من ب.
(7) ... في الأصل: يحيى. والتصويب من ب.
(8) ... انظر: اللسان (مادة: نشر).(1/517)
حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... ... يا عجباً للميتِ النَّاشر (1)
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ للإنسان عما هو عليه.
وقال الحسن: حقاً (2) .
{ لما يقض } (3) (أي: لم يقض { ما أمره } به ونهاه عنه، يريد: الكافر.
وقيل: معناه: لم يقض) (4) ما عاهد الله (5) في الميثاق الأول.
وقال مجاهد: لا يقضي أحدٌ أبداً كُلَّ ما افترض الله عز وجل عليه (6) .
فيكون عاماً في المؤمن والكافر.
قوله تعالى: { فلينظر الإنسان إلى طعامه } أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بالنظر إلى طعامه، الذي هو سبب حياته، ومادّة بقائه، ليستدل بعجيب [تدبير] (7) الله في إيجاده وإنباته على صحة البعث وكونه.
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/424).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: { ما } . وستأتي بعد.
(4) ... ما بين القوسين سقط من ب.
(5) ... في ب: عهد إليه.
(6) أخرجه مجاهد (ص:731)، والطبري (30/56)، وابن أبي حاتم (10/3399). وذكره السيوطي في الدر (8/420) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(7) في الأصل: تدبر. والمثبت من ب.(1/518)
قرأ أهل الكوفة: "أنَّا صَبَبْنا" بفتح الهمزة، وكسرها الباقون (1) .
فمن فتحها فعلى البدل من الطعام. ومن كسرها فعلى الاستئناف.
والمعنى: أنا صَبَبْنا الغيث صَبّاً.
{ ثم شققنا الأرض } بالنبات { شقاً } .
{ فأنبتنا فيها حباً } قال الزجاج (2) : هو كل ما حُصِد؛ كالحنطة والشعير، وكل ما يتغذى به من ذي حَبّ.
{ وعنباً وقضباً } يريد: الرَّطْبة التي تُعلف بها البهائم، وهو القَتُّ أيضاً.
قال ابن قتيبة (3) : سُمي بذلك؛ لأنه يُقْضَبُ مرة بعد مرة، أي: يُقطع. وكذلك القصيل؛ لأنه يُقْصَل، أي: يُقطع.
{ وحدائق غُلْباً } قال الفراء (4) : كل بستان يُحاط عليه حائط فهو حديقة، والغُلْبُ: ما غَلُظَ من النخل.
قال أبو عبيدة (5) : يقال: شجرةٌ غَلْبَاء؛ إذا كانت غليظة.
وقال ابن قتيبة (6) : الغُلْبُ: الغلاظُ الأعناق.
وقال الزجاج (7) : هي المُتَكاثِفَة العظام.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/99)، والحجة لابن زنجلة (ص:750)، والكشف (2/362)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:433)، والسبعة (ص:672).
(2) ... معاني الزجاج (5/286).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:514).
(4) ... معاني الفراء (3/238).
(5) ... مجاز القرآن (2/286).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:515).
(7) ... معاني الزجاج (5/286).(1/519)
{ وفاكهة } ألوان الفاكهة مما يأكله الناس، { وأَبّاً } [ما] (1) تأكله الأنعام. وهذا قول عامة المفسرين واللغويين.
قال الزجاج (2) : الأَبُّ: جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية.
ويروى عن ابن عباس: أن الأَبُّ: الثمار الرَّطبة (3) . والأول أصح.
وسُمّي المرْعَى أبّاً؛ لأنه يُؤَبُّ، أي: يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ، والأَبُّ والأَمُّ بمعنىً، وأنشدوا:
جِذْمُنَا [قَيْسٌ ونجدٌ] (4) دَارُنا ... ولنا الأبُّ به والمَكْرَعُ (5)
فإن قيل: كيف خفي على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب (6) رضي الله عنهما [مع كونهما] (7) من الفصحاء وأهل اللسان معنى الأَبّ، حتى قالا ما ذكرته في مقدمة الكتاب، وجَهِلا معرفته، وعَرَفَه غيرهما من بعدهما؟
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... معاني الزجاج (5/286).
(3) ... أخرجه الطبري (30/61)، وابن أبي حاتم (10/3401). وذكره السيوطي في الدر (8/421) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... في الأصل: وقيس نجد. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(5) ... انظر البيت في: اللسان، وتاج العروس (مادة: أبب)، والقرطبي (19/222)، والبحر (8/418)، والدر المصون (6/482)، والكشاف (4/705)، وروح المعاني (30/47).
(6) ... حديث عمر، أخرجه الحاكم (2/559 ح3897)، وسعيد بن منصور (1/181 ح43)، وابن أبي شيبة (6/136 ح30105)، والطبري (30/60-61)، والبيهقي في الشعب (2/424 ح2281).
(7) ... زيادة من ب.(1/520)
قلتُ: لا يلزم من ذلك إحاطتهما [بجميع] (1) لغة العرب. فإن العربي الفصيح قد يجهل بعض لغة قومه فضلاً عن لغة غيرهم. وقد فهما في الجملة أن الأَبّ: نبت، وأنه من جملة ما امتنّ الله به على عباده، وطَلَب منهم شكره، فصَدَفَا عن القول فيه بغير يقينٍ وعلمٍ إلى العمل بشُكر الله وغيرُهما عَلِمَ معناه فقَالَه، فتناقَلَه الخلف عن السلف، واشتَهَر بينهم علمُه، وهكذا يجب على كل عالم أن يتورَّع عن القول في كتاب الله بغير علم وبصيرة، وأن لا يُقدم على تفسير شيء منه إلا بنقل فيما طريقُه النقل، أو استنباطٍ يشهد العلم بصحته، على ما أوضحته في مقدمة الكتاب.
قوله تعالى: { متاعاً لكم } أي: منفعة لكم { ولأنعامكم } .
#sŒخ*sù جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
__________
(1) ... في الأصل: بالجميع. والتصويب من ب.(1/521)
يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ احثب
قوله: { فإذا جاءت الصاخة } قال الزجاج (1) : هي الصيحة التي تكون عندها القيامة، تَصُخُّ الأسماع، أي: تُصِمُّها فلا تسمع إلا ما تُدعى به؛ لإحيائها.
قال ابن قتيبة (2) : يقال: رجل أصَخُّ وأصْلَخ؛ إذا كان لا يسمع، [والداهية] (3) : صاخَّةٌ أيضاً (4) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/287).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:515).
(3) ... في الأصل: الداهية. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: صخخ، صلخ).(1/522)
وقال ابن فارس (1) : الصَّاخَّة: الصَّيْحَة تَصُمّ [الآذان] (2) .
وقال صاحب الكشاف (3) : يقال: صَخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوُصفت النفخة بالصاخّة مجازاً؛ لأن الناس يصخُّون لها.
ثم أخبر الله متى تكون الصاخّة فقال: { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته } زوجته وقرينته في الدنيا، { وبنيه } .
فصل
سألني يوماً رجلٌ من الأكابر في محفل محشودٍ بالعلماء والفقهاء بالموصل فقال: لم بدأ بالأخ من بين الأقارب؟
قلتُ: غير خافٍ ما طُبعت عليه النفوس العربية الأبيّة من العصبيّة والمدافعة والممانعة، وحفظ [الذمار] (4) . ومعلوم أن المكافئ للإنسان عند حاجته إلى المعاضدة والمناصرة إنما هم الإخوة؛ لأن الآباء في مظنة الكِبَر، والأبناء في مظنة الصِّغَر، وهم حالتا ضعف وعجز. والمقصود من سياق هذه الآية: بيان شدائد القيامة وأهوالها، فأعلم الله عز وجل أن الناس في القيامة تُخامرهم مخاوف وزلازل تُذهل القريب المرجوّ لدفع الكرب والشدائد، وتُوجب فراره عن أعزّ الناس عليه، وأقربهم إليه، فبدأ بالأخ؛ لما بينه وبين أخيه من القرابة القريبة، وكونه أشدّ معاضدة لأخيه ومناصرة له،
__________
(1) ... معجم مقاييس اللغة (3/281).
(2) ... زيادة من معجم مقاييس اللغة، الموضع السابق.
(3) ... الكشاف (4/706).
(4) ... في الأصل: الذمام. والمثبت من ب. والذمار: كل ما يلزمك حفظه (اللسان، مادة: ذمر).(1/523)
على المعنى الذي ذكرناه.
ثم رأيت بعد ذلك صاحب الكشاف قد ذكر معنى آخر غير هذا فقال (1) : بدأ بالأخ، ثم بالأبوين؛ لأنهما [أقرب] (2) منه، ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أقرب وأحبّ، كأنه قيل: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه.
قوله تعالى: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } قال الفراء (3) : يشغله عن قرابته.
وقال ابن قتيبة (4) : يَصرفُه.
وقال غيرهما (5) : "يُغْنِيه" بمعنى: يكفيه في الاهتمام به.
وقرأ جماعة، منهم: أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع: "يَعْنِيهِ" بفتح الياء وعين مهملة (6) ، بمعنى: شأن لا يُهمُّه غيره.
أخبرنا المؤيد بن محمد في كتابه قال: أخبرنا عبد الجبار بن أحمد بن محمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا الحسن بن علي
__________
(1) ... الكشاف (4/706).
(2) ... في الأصل: قريب. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... معاني الفراء (3/238).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:515).
(5) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/706).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/35)، والدر المصون (6/482).(1/524)
الواعظ، أخبرنا محمد بن عبدالله بن الحاكم، أخبرنا أحمد بن سليمان (1) ، [حدثنا إسماعيل بن إسحاق] (2) ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا أبي، عن محمد بن أبي عياش (3) ، عن عطاء بن يسار، عن سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُبعث الناس حُفاةً عُراةً غُرْلاً (4) ، يَلجمهم العرق ويبلغ شحمة الآذان. قالت: قلت: يا رسول الله، واسوءتاه! ينظر بعضنا إلى بعض!! قال: شُغِلَ الناس عن ذلك، وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } " (5) .
وبالإسناد قال النيسابوري: أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون، أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن عبد ربه (6) ، حدثنا [بقية] (7) ، عن الزبيدي، عن
__________
(1) ... أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل، أبو بكر النجاد، كان صدوقاً عارفاً، صنف ديواناً كبيراً في السنن، توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/502، وصفة الصفوة 2/468).
(2) ... زيادة من الوسيط (4/425). وإسماعيل بن إسحاق روى عن إسماعيل بن أبي أويس (انظر: الجرح والتعديل 2/158).
(3) ... في ب: محمد بن عباس.
(4) ... غرلاً: الغرل: جمع الأغْرَل، وهو الأقلف. والغُرْلَة: القلفة (اللسان، مادة: غرل).
(5) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (2/559 ح3898)، والطبراني في الكبير (24/34 ح91)، والواحدي في الوسيط (4/425).
(6) ... يزيد بن عبد ربه الزبيدي، أبو الفضل الحمصي المؤذن الجرجسي، ثقة، كان ينزل بحمص عند كنيسة جرجس فنسب إليها، توفي سنة أربع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 11/301، والتقريب ص:603).
(7) ... في الأصل و ب: شعبة. والتصويب من مصادر التخريج.(1/525)
الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبعث الناس يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا نبي الله، فكيف بالعورات؟ فقال: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } " (1) .
قوله تعالى: { وجوه يومئذ مسفرة } مضيئة. من أسفر الصبح؛ إذا أضاء (2) .
قال عطاء: مسفرة من طول ما اغبرّت في سبيل الله (3) .
وقال الضحاك: من آثار الوضوء (4) .
{ ووجوه يومئذ عليها غَبَرة } أي: غبار.
وقال مقاتل (5) : سوادٌ وكآبة.
{ ترهقها قَتَرَة } أي: تعلوها وتغشاها ظُلْمَة.
وقال الزجاج (6) : يَعْلُوها سوادٌ كالدُّخَان.
{ أولئك هم الكَفَرَة الفَجَرَة } جمع كافر وفاجر.
قال بعض العلماء (7) : كأنّ الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم
__________
(1) ... أخرجه النسائي (4/114 ح2083)، وأحمد (6/89 ح24632)، والحاكم (4/608 ح8684)، والواحدي في الوسيط (4/452-426).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: سفر).
(3) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/200). وذكره القرطبي (19/226).
(4) ... ذكره القرطبي (19/226).
(5) ... تفسير مقاتل (3/454).
(6) ... معاني الزجاج (5/287).
(7) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/706).(1/526)
الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر. والله تعالى أعلم.(1/527)
سورة التكوير
ijk
وهي تسع وعشرون آية. وهي مكية بإجماعهم (1) .
#sŒخ) الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:265).(1/528)
قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ اتحب
أخرج الحاكم في صحيحه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ: { إذا الشمس كُوِّرت } " (1) .
واختلفوا في معنى: "كُوِّرت"؛ فقال جمهور المفسرين واللغويين: هو من كَوَّرْتُ العِمَامَة؛ إذا [لفَفْتَها] (2) .
فالمعنى: يُلَفُّ ضوؤها لَفّاً، [فيذهب] (3) انبساطه في الآفاق.
وهذا معنى قول ابن عباس: أظْلَمَتْ (4) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/560 ح3900).
(2) ... في الأصل: لفيتها. والتصويب من ب. وقد ذكر هذا المعنى: الطبري (30/64)، والواحدي في الوسيط (4/428)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/38).
(3) ... في الأصل: فذهب. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (30/64)، وابن أبي حاتم (10/3402). وذكره السيوطي في الدر (8/426) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.(1/529)
وقول مجاهد: اضمحلَّت (1) .
وقول سعيد بن جبير: غُوِّرَت (2) .
وقال الربيع بن خثيم: يرمى بها في البحر فتصير ناراً (3) .
وقيل: ترمى في النار.
وقيل: تُعاد إلى ما خُلقت منه.
وقيل: هو من قولهم: طَعَنَهُ فَكَوَّرَه؛ إذا ألْقَاهُ (4) . فالمعنى: تُلقى وتُطرح من فَلَكِها.
قوله تعالى: { وإذا النجوم انكدرت } أي: تناثرت وتساقطت. يقال: انكدر الطائر من الهواء؛ إذا انقضّ (5) .
وأنشدوا قول العَجّاج (6) :
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/64). وذكره السيوطي في الدر (8/427) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... أخرجه الطبري (30/64)، وابن أبي حاتم (10/3402). وذكره السيوطي في الدر (8/426) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (30/64). وذكره السيوطي في الدر (8/428) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: كور).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: كدر).
(6) ... البيت للعجاج يصف بازياً. انظر: ديوانه (ص:28)، واللسان (مادة: ظفر)، وتاج العروس (مادة: خرب، ظفر)، والقرطبي (19/227)، والماوردي (6/212)، والبحر (8/422)، والدر المصون (6/484).
... ورواية الديوان:
... ... ... دَانَى جناحَيْه من الطور فمرّ ... ... تقضي البازي إذا البازي كسر
... ... ... أبصر خِرْبَانَ فَضَاءٍ فانْكَدَر ... ... شاكي الكلاليب إذا أهوى اطَّفَر
... وانظر أيضاً: الخصائص (2/90)، وأمالي القالي (2/171)، والمحتسب (1/157)، ومجاز القرآن (2/300)، وابن يعيش (10/250)، والهمع (2/157)، والأشموني (4/336)، والطبري (1/324)، وروح المعاني (30/50).(1/530)
أبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءٍ فانكَدَرْ ... تَقَضِّيَ البَازي إذا البازي [كَسَرْ] (1)
قال عطاء وابن السائب: تُمطر السماء يومئذ نجوماً، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض؛ وذلك أنها في قناديل معلّقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها (2) .
قوله تعالى: { وإذا الجبال سُيِّرَت } أُزيلت عن أماكنها.
قال مقاتل (3) : سُويّت بالأرض كما خُلقت أول مرة، ليس عليها جبل ولا فيها وَاد.
وقيل: سيرت في الجو، كقوله: { وهي تمرُّ مَرَّ السحاب } [النمل:88].
قوله تعالى: { وإذا العشار عطّلت } العشار: جمع عُشَرَاء، وهي الناقة الحامل إذا أتت عليها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة،
__________
(1) ... في الأصل: كرر. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/428).
(3) ... تفسير مقاتل (3/455).(1/531)
وهي أنفس ما تكون عند أهلها (1) .
ومعنى: "عُطِّلَت": تُركت مهملة مُسيّبة؛ لما دهمهم من أهوال يوم القيامة.
قوله تعالى: { وإذا الوحوش حُشِرَت } قال ابن عباس: ماتت (2) .
وقال جماعة من الصحابة والتابعين: جُمعت فاختلطت بالناس من هول القيامة.
وقال السدي وغيره: حُشرت لفصل القضاء، حتى يقتص للجَمَّاء من القَرْنَاء (3) .
قوله تعالى: { وإذا البحار سُجِّرَت } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "سُجِرَتْ" بتخفيف الجيم. وشددها الباقون على التكثير (4) .
قال ابن عباس: أُوقدت فصارت ناراً تضطرم (5) .
فعلى هذا؛ هو من سَجَرْتُ التَّنُّورَ؛ إذا أحميته، ورجلٌ أسْجَرُ العين؛ إذا
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عشر).
(2) ... أخرجه الطبري (30/67)، والحاكم (2/560 ح3901). وذكره السيوطي في الدر (8/428-429) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه.
(3) ... ذكره الماوردي (6/213).
(4) ... الحجة للفارسي (4/100)، والحجة لابن زنجلة (ص:750)، والكشف (2/363)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:434)، والسبعة (ص:673).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/428).(1/532)
كانت فيه حُمْرَة (1) .
وقيل: هو مثل قوله تعالى: { والبحر المسجور } [الطور:6] أي: المملوء.
قالوا: ومعنى: سَجَرْتُ التنور: مَلأتُهُ حَطَباً.
قال مجاهد والضحاك ومقاتل وابن السائب وغيرهم: فُجِّرَ بعضها إلى بعض، فصارت بحراً واحداً (2) .
وهو معنى قول الربيع بن خثيم: فَاضَتْ (3) .
وقول الفراء (4) : مُلِئَتْ وكَثُرَ ماؤها.
قال المفسرون: صارت مياهها بحراً واحداً من الحميم لأهل النار.
وقال الحسن البصري رحمه الله وقتادة: "سُجّرت": يبست وذهب ماؤها (5) .
قوله تعالى: { وإذا النفوس زُوِّجَت } أي: قُرنت بأشكالها.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: سجر).
(2) ... ذكره مقاتل (3/455)، والطبري (30/68)، والماوردي (6/213)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/39).
(3) ... أخرجه الطبري (30/68). وذكره السيوطي في الدر (8/428) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... معاني الفراء (3/239).
(5) ... أخرجه الطبري (30/68) عن الحسن وقتادة، وابن أبي حاتم (10/3403) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (8/427-429) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن والضحاك وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/533)
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد سئل عن هذه الآية: يُقْرَنُ الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويُقْرَنُ الرجل السوء مع الرجل السوء في النار (1) . وهذا قول الحسن وقتادة.
وقال [الشعبي] (2) : رُدت الأرواح إلى الأجساد (3) .
وعن عكرمة كالقولين (4) .
وقال عطاء: زُوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين (5) .
قوله تعالى: { وإذا الموؤودة سُئلت * بأي ذنب قُتلت } قال المفسرون واللغويون: الموؤودة: البنت تُدفن وهي حَيَّة. وكان هذا من فعل الجاهلية، على ما أشرنا إليه في مواضع.
قال الزجاج (6) : ومعنى سؤالها: تبكيتُ قاتليها في القيامة؛ لأن جوابها: قُتِلْتُ بغير ذنب.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/69)، وابن أبي حاتم (10/3404)، والحاكم (2/560 ح3902)، وابن أبي شيبة (7/99 ح34492). وذكره السيوطي في الدر (8/429) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في البعث وأبي نعيم في الحلية.
(2) ... في الأصل: الحسن. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير (9/39).
(3) ... أخرجه الطبري (30/70). وذكره السيوطي في الدر (8/430) وعزاه لابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (30/70). وذكره الماوردي (6/214)، والواحدي في الوسيط (4/429).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/429)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/39).
(6) ... معاني الزجاج (5/290).(1/534)
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن: "سَأَلَتْ" بفتح السين والهمزة، "قُتِلْتُ" بسكون اللام وضم التاء (1) ، على معنى: سألَتْ ربها أو قاتلها على وجه الخصام والطلب بحقها.
أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوائدة والموؤودة في النار" (2) .
قوله تعالى: { وإذا الصحف نُشِّرَت } قرأ نافع وعاصم وابن عامر: "نُشِرَت" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير (3) .
والمراد: نشر صُحف الأعمال يوم الحساب.
قوله تعالى: { وإذا السماء كُشطت } قال الزجاج (4) : قُلِعَت كما يُقلع السقف.
وقرأ ابن مسعود: "قُشِطَتْ" بالقاف (5) . والمعنى واحد.
قال الفراء وغيره (6) : القاف والكاف يتعاقبان لتقاربهما، قالوا: قُشط وكُشط، وقافور وكافور، ولَبَكْتُ الثَّريد ولبَقْتُه.
قوله تعالى: { وإذا الجحيم سُعِّرَت } قرأ نافع وابن عامر بخلاف عنه
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/40)، والدر المصون (6/486).
(2) ... أخرجه أبو داود (4/230 ح4717).
(3) ... الحجة للفارسي (4/100)، والحجة لابن زنجلة (ص:751)، والكشف (2/363)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:434)، والسبعة (ص:673).
(4) ... معاني الزجاج (5/291).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/40)، والدر المصون (6/486).
(6) ... معاني الفراء (3/241).(1/535)
وحفص: "سُعِّرَت" بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف (1) .
والمعنى: أوقدت إيقاداً شديداً.
قوله تعالى: { وإذا الجنة أُزْلِفَت } أي: أُدنيت وقُرّبت من المتقين، كما قال: { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } [ق:31].
فصل
اعلم أن هذه اثنتا عشرة خصلة، ستة منها بين يدي الساعة، وستة في الآخرة.
فإن قيل: أين جواب: { إذا الشمس كورت } [التكوير:1] وما في [حيزه] (2) ؟
قلتُ: قوله: { علمت نفس ما أحضرت } أي: من خير وشر.
فإن قيل: كل نفس تعلم ما أحضرت، فما معنى قوله عز وجل: { علمت نفس } ؟
قلتُ: قد أجاب عنه الزمخشري فقال (3) : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يُعكس عنه. ومنه قوله عز وجل: { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } [الحجر:2] ومعناه: معنى كم، وأبلغ منه قول القائل:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/100)، والحجة لابن زنجلة (ص:751)، والكشف (2/363)، والنشر (2/398)، والإتحاف (ص:434)، والسبعة (ص:673).
(2) ... في الأصل: خبره. والمثبت من ب.
(3) ... الكشاف (4/710).(1/536)
قد أترك القرن مصفرّاً أنامله ... ........................ (1)
وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندي، أو لا تعدم عندي فارساً، وعنده المقانب (2) . وقصده بذلك: التمادي في تكثير فرسانه. ولكنه أراد إظهار براءته من التَّزيُّد، وأنه ممن يُقلِّل كثير ما عنده، فضلاً أن يتزيَّد، فجاء بلفظ التقليل، ففُهم منه معنى [الكثرة] (3) عن الصحة واليقين.
ويروى أن ابن مسعود رضي الله عنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة، فلما انتهى إلى قوله: { علمت نفس ما أحضرت } قال: وانقطاع ظهراه (4) .
Ixsù أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
__________
(1) ... صدر بيت للهذلي، وعجزه: (كأن أثوابه مجّت بفرصاد). وهو في: اللسان (مادة: قدد، أسن)، وتاج العروس (مادة: قدد)، والكتاب (4/224)، والدر المصون (1/47)، وروح المعاني (7/134).
(2) ... المقانب: جماعة الخيل (الصحاح، مادة: قنب).
(3) ... في الأصل: التكثير. والمثبت من ب، والكشاف (4/710).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/710)، والبحر (8/425).(1/537)
كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اثزب
قوله تعالى: { فلا أقسم بالخنس * الجواري الكنس } قال الزجاج(1/538)
وغيره (1) : "لا" مزيدة مؤكدة. والمعنى: فأقسم بالخنس.
والخُنَّس: جمع خَانِس وخَانِسَة، والكُنَّس: جمع كَانِس وكَانِسَة، والجواري: جمع جارية، وعامة المفسرين يقولون: هي النجوم.
قال ابن قتيبة (2) : وإنما سَمَّاها خُنَّساً؛ لأنها تسير في البروج والمنازل كسير الشمس والقمر، ثم تخنُس، أي: ترجع، بينا ترى أحدها في آخر البروج كرَّ راجعاً إلى أوله، وسَمّاها كُنّساً؛ لأنها تكنِس، أي: تستتر، كما تَكنِسُ الظباء.
قال قتادة: تبدو بالليل وتخفى بالنهار فلا تُرى (3) .
قال الزجاج (4) : تَخْنِسُ: أي: تغيب، (وكذلك تَكْنِسُ، أي: تدخل في كناسها أي: تغيب) (5) في المواضع (6) التي تغيب فيها.
ويروى: أن رجلاً من مراد قال لعلي عليه السلام: ما الخُنَّس الجواري الكُنَّس؟
قال: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا تُرى، وتكنس بالليل فتأوي إلى
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/291).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:517).
(3) ... أخرجه الطبري (30/75). وذكره السيوطي في الدر (8/432) وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... معاني الزجاج (5/292).
(5) ... ما بين القوسين سقط من ب.
(6) ... في ب: الموضع.(1/539)
مجاريها. قال: وهن: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشتري (1) .
قال الماوردي (2) : وفي تخصيصها بالذكر وجهان:
أحدهما: [لأنها] (3) تستقبل الشمس. وهذا قول بكر بن عبدالله المزني.
والثاني: لأنها تقطع المجرّة. وهذا قول ابن عباس.
وذهب جماعة، منهم: ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وجابر بن زيد، إلى أنها: بقر الوحش (4) .
وقال سعيد بن جبير وابن عباس في رواية العوفي عنه: هي الظباء (5) .
والمرادُ بانْخِنَاسِها: رجوعُها بعد جَرْيِها إلى كِنَاسِها، وهو اسمٌ للمكان الذي تأوي إليه؛ لأنها تَكْنِسُ فيه، أي: تدخل وتستتر.
قوله تعالى: { والليل إذا عَسْعَس } يقال: عسعس الليل، وقد يُقلب فيقال:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/74-75)، وابن أبي حاتم (10/3404). وذكره الماوردي (6/216)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/42)، والسيوطي في الدر (8/431) وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(2) ... تفسير الماوردي (6/216).
(3) ... في الأصل: أنها. والتصويب من ب، وتفسير الماوردي، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (30/75-76)، وابن أبي حاتم (10/3405)، والحاكم (2/560 ح3903)، والطبراني في الكبير (9/219 ح9063)، وابن سعد في الطبقات (6/106). وذكره السيوطي في الدر (8/431-432) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود.
(5) ... أخرجه الطبري (30/76). وذكره السيوطي في الدر (8/432) وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس.(1/540)
سَعْسَعَ. قال اللغويون: هو من الأضداد، يقال: عَسْعَسَ الليل؛ إذا أقبل، وعَسْعَسَ؛ إذا أدبر (1) . وأنشدوا:
حتى إذا الصبحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... ... وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسَا (2)
والمعنيان مذكوران في التفسير، ورجح بعضهم المعنى الثاني بقوله: { والصبح إذا تنفس } . قال [الزجاج] (3) : تنفّس الصبح: امتدّ وصار نهاراً بيّناً.
ثم ذكر جواب القسم فقال: { إنه لقول رسول كريم } .
قال الزجاج (4) : يعني: القرآن نزل به جبريل عليه السلام.
ثم وصف جبريل بقوله: { ذي قوة } ، فهو كقوله: { شديد القوى * ذو مرة فاستوى } [النجم:5-6] والمعنى: ذي قوةٍ على أعداء الله، { عند ذي العرش } صاحبه وهو الله عز وجل { مكين } رفيع المنزلة والمكانة عند ذي العرش.
{ مُطاعٍ } في الملائكة ممتثل الأمر فيهم، علماً منهم بأن إيراده وإصداره منوط بإذن رب العزة جل وعلا.
قال المفسرون: من طاعة الملائكة لجبريل عليه السلام: أنه أمر خازن
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عسس).
(2) ... البيت لعلقمة بن قرط. وهو في: الطبري (30/79)، والقرطبي (19/238)، ومجاز القرآن (2/288)، وزاد المسير (9/43)، والبحر (8/422)، والماوردي (6/217)، وروح المعاني (30/58). ونسبه السمين الحلبي في الدر المصون (6/487) للعجاج.
(3) ... معاني الزجاج (5/292). وما بين المعكوفين زيادة من ب.
(4) ... معاني الزجاج (5/292).(1/541)
الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أبوابها فدخلها، ورأى ما فيها، وأمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها (1) .
وقال بعض العلماء (2) : { ثَمَّ } إشارة إلى الظرف [المذكور] (3) ، وهو: عند ذي العرش، فالمعنى: مطاع في ملائكة الله المقربين.
وقرئ: "ثُمَّ" بضم الثاء (4) ؛ تعظيماً لأمانة جبريل، وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.
وقد سبق في غير موضع: أن جبريل عليه السلام أمين الوحي ورسول الله إلى أنبيائه.
قوله تعالى: { وما صاحبكم بمجنون } يعني: [محمداً] (5) - صلى الله عليه وسلم - . وكان كفار مكة رَمَوْه بالجنون، فَسَلَبَ عنه ما أثبتوه له بهتاً وعناداً منهم. ونسبتُه إليهم بقوله: "وما صاحبكم (6) " كلام يلوح منه التوبيخ لهم، والإشعار بأنهم كذبة عند أنفسهم.
المعنى: وما صاحبكم الذي صحبتموه الزمان الطويل وعرفتموه بضدّ ما به قرفتموه، وما زال مشهوراً بينكم بالرزانة، موصوفاً بالأمانة، بمجنون، فكيف استجزتم لأنفسكم عظيم الاجتراء على المكابرة والافتراء؟
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/431)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/43).
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/713).
(3) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/43)، والدر المصون (6/487).
(5) ... في الأصل: محمد. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل زيادة قوله: بمجنون.(1/542)
قوله تعالى: { ولقد رآه بالأفق المبين } أي: رأى ربه.
وقيل: جبريل، رآه على صورته التي خُلق عليها، بالأفق التي تطلع منه الشمس، فتُبيّن الأشياء وتُظهرها. وقد ذكرنا ذلك في النجم (1) .
قوله تعالى: { وما هو على الغيب } أي: وما محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما يُخبر به من الغيب من الوحي والإخبار عما كان ويكون { بظنين } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "بظَنِين" بالظاء، أي: بمتّهم على ما يُخبر به من ذلك عن الله عز وجل. وقرأ الباقون "بضَنِين" بالضاد (2) ، من الضَّنِّ، وهو البخل، أي: وما هو ببخيل فيبخل عليكم بما ينفعكم من الوحي.
والقراءة بالظاء أشبه بسياق الآية، وهو في مصحف ابن مسعود: بالظاء، وفي مصحف أبيّ: بالضاد.
قوله تعالى: { وما هو } يعني: القرآن { بقول شيطان رجيم } نفيٌ لقول كفار مكة: هذا كهانة.
قال مقاتل (3) : قال كفار مكة: إنما تجيء به الشياطين، فتلقيه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى: { فأين تذهبون } قال الزجاج (4) : أيّ طريق تسلكون أبين من
__________
(1) ... عند الآية رقم: 7.
(2) ... الحجة للفارسي (4/101)، والحجة لابن زنجلة (ص:752)، والكشف (2/364)، والنشر (2/398-399)، والإتحاف (ص:434)، والسبعة (ص:673).
(3) ... تفسير مقاتل (3/457).
(4) ... معاني الزجاج (5/293).(1/543)
هذه الطريقة التي بيّنتُ لكم.
وقال غيره (1) : هذا استضلال للكفار، كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً (2) في بنيات الطريق: أين تذهب؛ مُثّلَتْ حالهم بحاله في تركهم الحق، وعدولهم عنه إلى الباطل.
قوله تعالى: { إن هو } يعني: القرآن { إلا ذكر للعالمين } [موعظة للخلق أجمعين.
{ لمن شاء منكم } بدل من "للعالمين" (3) ] (4) .
وإنما صح إبدال الذين [شاؤوا الاستقامة] (5) من "العالمين"؛ لأنهم لموضع اختصاصهم بالنفع، كأنه لم يوعظ به سواهم، وإن كان الوعظ بالقرآن للجميع أن يستقيم على الحق والإيمان.
والمعنى: أن القرآن إنما يتّعظ به من استقام على الحق.
ثم أعلم أن المشيئة في التوفيق إليه فقال: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } .
قال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت: { لمن شاء منكم أن
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/714).
(2) ... في ب: وذهاباً.
(3) ... انظر: التبيان (2/282)، والدر المصون (6/487).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: شاء بالإستقامة. والتصويب من ب.(1/544)
يستقيم } قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (1) .
فصل
ذهب جماعةٌ مِنْ نَقَلَةِ التفسير إلى أن قوله: { لمن شاء منكم أن يستقيم } ، وقوله في عبس: { فمن شاء ذكره } [عبس:12]، وقوله في الإنسان وفي المزمل (2) : { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } منسوخ بقوله: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (3) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا تنافي بين ما ادّعوه ناسخاً ومنسوخاً، وإنما هو إعلامٌ أن مَشِيَّتَهُم منُوطةٌ بمشيَّتِهِ سبحانه وتعالى، والأمر كذلك.
قال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/84). وذكره السيوطي في الدر (8/436) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة. ومن طريق آخر عن سليمان بن موسى، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:473).
(2) ... في سورة الإنسان عند الآية رقم: 29، وفي المزمل عند الآية رقم: 19.
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:159)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:64)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:500) قال: وليس هذا بكلام من يدري ما يقول.
(4) ... ذكره القرطبي (19/243).(1/545)
سورة الانفطار
ijk
وهي تسع عشرة آية، وهي مكية بإجماعهم (1) .
#sŒخ) السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:266).(1/546)
صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ اتثب
قال الله سبحانه وتعالى: { إذا السماء انفطرت } يعني: انشقت، كقوله: { ويوم تشقق السماء بالغمام } [الفرقان:25].
{ وإذا الكواكب انتثرت } تساقطت.
قال ابن عباس: تسقط سُوداً لا ضوء لها (1) .
{ وإذا البحار فُجِّرَت } فُتِحَ بعضها إلى بعض، فامتزج العذب بالملح وصارت بحراً واحداً.
{ وإذا القبور بُعْثِرَت } أي: بُحْثِرَت وقُلِبَت؛ لِبَعْثِ مَنْ فيها من الموتى.
وقال الفراء (2) : تُخْرِجُ ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تُخْرِجَ الأرضُ ذهبَها وفضَّتها، ثم تُخرج الموتى.
وجواب "إذا": { علمت نفس ما قدمت وأخرت } وهو مُفسّر في قوله:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/220).
(2) ... معاني الفراء (3/243).(1/547)
{ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [القيامة:13].
قوله تعالى: { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } الإنسان: اسم جنس، يريد: الكافر.
وقال ابن عباس: يريد: أبا الأشدّين (1) ، وقد ذكرناه في المدثر (2) .
وقال عطاء: يريد: الوليد بن المغيرة (3) .
وقال عكرمة: أبيّ بن خلف (4) .
والاستفهام في معنى [إنكار] (5) الاغترار به جلّت عظمته.
قال الزجاج (6) : ما خَدَعَكَ وسَوَّلَ لك، حتى أضَعْتَ ما وجب عليك.
وقال غيره: المعنى: ما غرّك بربك الكريم المتجاوز عنك، إذ لم يعاجلك بالعقوبة.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: غرَّه والله! جهله وحُمْقُه (7) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/221)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/47).
(2) ... عند الآية رقم: 30.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/434)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/47).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3408). وذكره السيوطي في الدر (8/439) وعزاه لابن المنذر.
(5) ... في الأصل: الإنكار. والتصويب من ب.
(6) ... معاني الزجاج (5/295).
(7) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3408). وذكره السيوطي في الدر (8/439) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن المنذر.(1/548)
وقال الحسن: غرَّه والله! شيطانُه الخبيث (1) .
وقال قتادة: غرَّه عدوُّه المسلّط عليه (2) .
قال مقاتل (3) : غرَّه عفوُ الله عنه، حين لم يُعاقبه في أول مرة.
وقيل لفضيل بن عياض: لو أقامك الله فقال: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرّني سترك المرخى (4) . فنظمه محمد بن السماك فقال رضي الله عنهما:
يا كَاتِمَ الذَّنْبِ أمَا تَسْتَحِي ... واللهُ في الخلوةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ ربكَ إمْهَالُهُ ... وسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا
وقال يحيى بن معاذ الرازي: لو أقامني الله بين يديه وقال: ما غرّك بي؟ لقلت: غرّني بك بِرُّكَ بي سالفاً وآنفاً (5) .
قوله تعالى: { فسوَّاك } أي: فجعلك سوياً سالم الأعضاء { فَعَدَّلَكَ } تعديلاً متناسباً.
قرأ أهل الكوفة: "فَعَدَلَك" بتخفيف الدال. وقرأ الباقون: بالتشديد (6) .
__________
(1) ... ذكره القرطبي (19/245).
(2) ... أخرجه الطبري (30/87). وذكره الواحدي في الوسيط (4/434).
(3) ... تفسير مقاتل (3/458) وفيه: غَرَّهُ الشيطان. وانظر قول مقاتل في: الوسيط (4/434).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/435)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/47).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... الحجة للفارسي (4/102)، والحجة لابن زنجلة (ص:752-753)، والكشف (2/364)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:434)، والسبعة (ص:674).(1/549)
قيل: هما بمعنى واحد.
وقيل: "عدَلك" بالتخفيف، بمعنى: صرفك.
قال الفراء (1) : صرفك إلى أي صورة شاء.
وقال غيره (2) : صرفك إلى خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق.
قوله تعالى: { في أي صورة ما شاء ركبك } "ما" مزيدة.
والمعنى: في أي صورة شاء، حسنة أو قبيحة، أو طويل أو قصير، أو ذكر أو أنثى، رَكَّبَك.
وقال مجاهد: في أي صورة من صور القرابات (3) .
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد في كتابه، أخبرنا عبد الجبار بن أحمد بن محمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل بجرجان، أخبرنا جدي أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن النحاس، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا مُطهّر بن الهيثم الطائي (4) ، حدثنا موسى بن علي (5) ، عن أبيه (6) ، عن جدّه: "أن رسول
__________
(1) ... معاني الفراء (3/244).
(2) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/716).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/48).
(4) ... مطهر بن الهيثم بن الحجاج الطائي البصري، متروك الحديث (تهذيب التهذيب 10/163، والتقريب ص:535).
(5) ... موسى بن علي بن رباح اللخمي، أبو عبد الرحمن المصري، صدوق ربما أخطأ، ولي إمرة مصر سنة ستين ومائة، ولد بالغرب سنة تسع وثمانين، ومات بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة (تهذيب التهذيب 10/323، والتقريب ص:553).
(6) ... علي بن رباح بن قصير اللخمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى، تابعي ثقة، مات سنة بضع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 7/280، والتقريب ص:401).(1/550)
الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ما وُلد لك؟ قال: يا رسول الله ما عسى أن يولد لي، إما غلام أو جارية، قال: فمن يشبه؟ قال: يشبه أمه أو أباه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تقولن كذا، إن النطفة إذا استقرّت في الرحم، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله: { في أي صورة ما شاء ركبك } أي: من نسبك" (1) .
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن الاغترار { بل تكذبون بالدين } وهو الجزاء أو دين الإسلام.
{ وإن عليكم لحافظين } ملائكةٌ يحفظون عليكم أفعالكم وأقوالكم، ويكتبونها عليكم؛ لتُجازوا بها.
{ كِراماً } على ربهم { كاتبين } ما تُملونه عليهم من خير وشر.
وفي قوله: { يعلمون ما تفعلون } تحقيق لمعنى ضبطهم وإحاطتهم بأعمالهم التي يكتبونها.
¨bخ) الْأَبْرَارَ لَفِي
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (5/74 ح4624)، والطبري (30/87)، وابن أبي حاتم (10/3408)، والواحدي في الوسيط (4/437).
... قال ابن كثير (4/482) بعد أن ذكر هذا الحديث: وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مُطهّر بن الهيثم به. وهذا الحديث لو صَحَّ لكان فيصلاً في هذه الآية، ولكن إسناده ليس بالثابت؛ لأن مُطَهَّر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس: كان متروك الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن موسى بن علي وغيره بما لا يُشبه حديث الأثبات.(1/551)
نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا tûüخ6ح !$tَخ/ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ اتزب
قوله تعالى: { وما هم عنها بغائبين } عن الجحيم، وهذا كقوله: { وما هم بخارجين منها } [المائدة:37].
وقيل: وما هم عن القيامة بغائبين. فيكون الكلام منعطفاً على الأبرار والفجار.
ثم عظّم ذلك اليوم فقال مخاطباً لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { وما أدراك ما يوم الدين } .(1/552)
وقال الكلبي: الخطاب للإنسان لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ثم كرر ذلك تفخيماً لشأن يوم القيامة فقال: { ثم ما أدراك ما يوم الدين } .
ثم أجمل القول في وصفه فقال: { يومُ لا تملك نفس لنفس شيئاً } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يومُ" بالرفع، على البدل من "يوم الدين"، أو على معنى: هو يوم. وقرأ الباقون: بالنصب (2) ، على معنى: يُدانون يوم الدين، أو بإضمار: اذكر.
قال مقاتل (3) : [يعني] (4) : لا تملك نفسٌ لنفسٍ كافرةٍ شيئاً.
والصحيح عمومه، وأن أحداً لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بأمر الله، ألا تراه يقول: { والأمر يومئذ لله } . والله أعلم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/439)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/49).
(2) ... الحجة للفارسي (4/102)، والحجة لابن زنجلة (ص:753-754)، والكشف (2/364-365)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:435)، والسبعة (ص:674).
(3) ... انظر: تفسير مقاتل (3/459).
(4) ... زيادة من ب.(1/553)
سورة المطففين
ijk
وهي ست وثلاثون آية (1) .
قال ابن مسعود والضحاك: هي مكية (2) .
وقال ابن عباس والحسن وقتادة: مدنية (3) .
قال مقاتل: هي أول سورة نزلت في المدينة (4) .
واستثنى ابن عباس وقتادة منها ثماني آيات من قوله: { إن الذين أجرموا } إلى آخرها فقالا: نزلت بمكة (5) .
وقال ابن السائب وجابر بن زيد: نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (6) .
قال هبة الله المفسر (7) : نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة، نصفها يقارب مكة، ونصفها يقارب المدينة.
×@÷ƒur لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:267).
(2) ... انظر: الماوردي (6/225)، وزاد المسير (9/51).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... ذكره الماوردي (6/225).
(5) ... انظر: الماوردي (6/225)، وزاد المسير (9/51).
(6) ... انظر: المصدرين السابقين، والإتقان (1/45).
(7) ... في الناسخ والمنسوخ (ص:195).(1/554)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ادب
قال الله تعالى: { ويل للمطففين } قال ابن عباس: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: { ويل للمطففين } ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك (1) .
وقال السدي: قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وبها رجل يقال له: أبو جهينة،
__________
(1) ... أخرجه النسائي (6/508 ح11654)، وابن ماجه (2/748 ح2223)، والطبراني في الكبير (11/371 ح12041)، والشعب (4/327 ح5286). وذكره السيوطي في الدر (8/441) وعزاه للنسائي وابن ماجه وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح.(1/555)
ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية (1) .
وقد ذكرنا معنى "ويل" في البقرة (2) .
قال ابن قتيبة (3) : والمُطَفِّفُ: الذي لا يُوفي الكيل. يقال: إناء [طَفَّانٌ] (4) ؛ إذا لم يكن مملوءاً (5) .
وقال الزجاج (6) : إنما قيل: مُطَفِّفٌ؛ لأنه لا يكاد يَسْرِقُ في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أُخذ من: طَفِّ الشيء، وهو جانبه.
قال (7) : وقد فَسَّرَ أمرهم في السورة فقال: { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } .
قال الفراء والزجاج وغيرهما من اللغويين (8) : المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل.
و"على" و "مِنْ" يتعاقبان.
ولم يذكر الوزن؛ لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع غالباً، فذكْرُ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:475)، والوسيط (4/440)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/52).
(2) ... عند الآية رقم: 79.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:519).
(4) ... في الأصل: طفاف. والتصويب من ب، وتفسير غريب القرآن، الموضع السابق.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: طفف).
(6) ... معاني الزجاج (5/297).
(7) ... أي: الزجاج.
(8) ... معاني الفراء (3/246)، ومعاني الزجاج (5/297).(1/556)
أحدهما يدل على الآخر.
{ وإذا كَالُوهم أو وَزَنُوهُم يُخسرون } أي: كَالوا لهم أو وَزَنُوا لهم. فحذف الحرف الجار وأوصل الفعل، كما قال:
ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً ... ........................... (1)
أي: جنيت لك [هذا] (2) ، كقولهم: نصحتك وشكرتك.
قال الفراء (3) : هو من كلام أهل الحجاز وَمَنْ جاورهم.
فعلى هذا: يكون الضميران في موضع نصب.
وقيل: "هم" توكيد.
المعنى: وإذا كَالَ المطففون، فيكون الضميران في موضع رفع.
والأول هو الوجه الصحيح.
ومعنى: "يخْسِرُون": يُنْقِصُون، كقوله: { ولا تخسروا الميزان } [الرحمن:9]، وقد مرّ تفسيره.
ثم وبَّخهم وخوّفهم فقال: { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم } أي: ألا يتوهَّمون ويخطر ببالهم أنهم مبعوثون ومحاسبون، يريد: أن من
__________
(1) ... صدر بيت، وعجزه: (ولقد نهيتك عن بنات الأوبر). وهو في: الإنصاف (1/319، 2/726)، وأوضح المسالك (1/180)، والخصائص (3/58)، وسر صناعة الإعراب (ص:366)، وجمهرة اللغة (ص:331)، واللسان، (مادة: حجر)، وتاج العروس (مادة: وبر)، والعين (2/290)، والمقتضب (4/48)، والمحتسب (2/224)، والحجة للفارسي (2/184).
(2) ... في الأصل: وهذا. والمثبت من ب.
(3) ... معاني الفراء (3/246).(1/557)
توهم البعث والجزاء على الأعمال جدير [بأن] (1) يتحاشى ظلم الناس في أموالهم.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: يريد: ألا يستيقن مَنْ فعل هذا أنه مبعوث ومحاسب (2) .
قال مقاتل (3) : المُطَفِّفُ في الكيل والوزن شاكٌ في البعث يوم القيامة.
قال الزجاج (4) : لو ظنوا أنهم يُبعثون ما نقصوا الكيل والوزن.
قال صاحب الكشاف (5) : وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعِظَم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين: بيان بليغ لِعِظَم الذنب، وتفاقُم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل (6) في كل قول وعمل.
فصل: يتضمن نبذة زاجرة عن التطفيف
روى مجاهد وطاووس والضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله
__________
(1) ... في الأصل: أن. والمثبت من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/441).
(3) ... لم أقف عليه في تفسير مقاتل.
(4) ... معاني الزجاج (5/298).
(5) ... الكشاف (4/721).
(6) ... قوله: "في كل أخذ وإعطاء بل" ساقط من ب.(1/558)
- صلى الله عليه وسلم - : "خمسٌ بخمسٍ، قالوا: يا رسول الله وما خمسٌ بخمسٍ؟ قال: ما نقض قومٌ العهد إلا سلّط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله عز وجل إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفَّفُوا الكيل إلا مُنِعُوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا مَنعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر" (1) .
وقال مالك بن دينار: دخلتُ على جار لي وقد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار. قلت: ما تقول؟ أتهجر (2) ؟ قال: يا أبا يحيى، إن لي مكيالين كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر، قال: فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر، فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظماً، فمات في وجعه (3) .
وقال الفضيل بن عياض: بَخْسُ الميزان سوادُ الوجه يوم القيامة (4) .
وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يمرّ بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن، فإن المطففين يُوقَفُون يوم القيامة، حتى إن العَرَق
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/45 ح10992)، والديلمي في الفردوس (2/197 ح2978). قال الهيتمي في مجمع الزوائد (3/65): رواه الطبراني في الكبير، وفيه إسحاق بن عبدالله بن كيسان المروزي، ليّنه الحاكم، وبقية رجاله موثقون وفيهم كلام.
(2) ... هَجَرَ في نومه ومرضه يَهْجُرُ هَجْراً: هذى (اللسان، مادة: هجر).
(3) ... أخرج نحوه أحمد في الزهد (ص:394). وذكره الواحدي في الوسيط (4/441).
(4) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/721).(1/559)
ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن هشام صاحب الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة، حدثني من سمع: أن عمر رضي الله عنه قرأ: { ويل للمطففين } فلما بلغ: { يوم يقوم الناس لرب العالمين } بكى حتى خرّ، وامتنع من قراءة ما بعده (2) .
قوله تعالى: { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال الزجاج (3) : "يومَ" منصوب بقوله: "مبعوثون". المعنى: ألا يظنون أنهم يُبعثون يوم القيامة.
قال يزيد الرِّشْك: يقومون بين يديه للقضاء (4) .
وقال سعيد بن جبير: يقومون من قبورهم (5) .
"لرب العالمين" أي: لأمره.
ويدل على صحة هذا: ما أخبرنا به الشيخ أبو العباس الخضر بن كامل المعبر الخاتوني، بظاهر دمشق قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست وستمائة، أخبرنا أبو عبدالله الحسين بن علي بن أحمد الخياط المقرئ سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزاز، أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبدالله الدقاق المعروف بابن أخي ميمي، أخبرنا أبو
__________
(1) ... أخرج نحوه الطبري (30/92) من حديث ابن عمر، مرفوعاً. وذكره القرطبي (19/253-254)
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:240).
(3) ... معاني الزجاج (5/298).
(4) ... ذكره الماوردي (6/226).
(5) ... ذكره الماوردي (6/226)، والواحدي في الوسيط (4/441) بلا نسبة.(1/560)
القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، حدثنا أبو نصر عبدالملك بن عبدالعزيز التمار، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال: يقومون حتى يبلغ [الرشح] (1) أطراف آذانهم" (2) . هذا حديث صحيح اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحيهما. فرواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن معن، عن مالك، عن نافع. وأخرجه مسلم عن أبي نصر التمار، عن حماد بن سلمة. فهو يعلو لي [برجل] (3) من طريق (4) الصحيحين.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين ذراعاً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم" (5) .
وفي صحيح مسلم من حديث المقداد بن الأسود (6) قال: سمعت رسول
__________
(1) ... في الأصل: الوسخ. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1884 ح4654)، ومسلم (4/2196 ح2862).
(3) ... في الأصل: رجل. والتصويب من ب.
(4) ... في ب: طريقي.
(5) ... أخرجه مسلم (4/2196 ح2863).
(6) ... المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود البهراني، أبو الأسود الزهري، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو معبد، المعروف بالمقداد بن الأسود، كان أبوه حليفاً لبني كندة، وكان هو حليفاً للأسود بن عبد يغوث الزهري، فتبنّاه الأسود فنسب إليه، أسلم قديماً، وشهد بدراً والمشاهد، وكان فارساً يوم بدر، مات سنة ثلاث وثلاثين (تهذيب التهذيب 10/254، والتقريب ص:545).(1/561)
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا كان يوم القيامة أُدنيت الشمس من العباد حتى تكون [قدر] (1) ميل أو ميلين. قال الراوي عن المقداد: فلا أدري أمسافة الأرض، أو الميل الذي [تكحل] (2) به العين. قال: ثم [تصهرهم] (3) الشمس، فيكونون في العَرَق كقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، [ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه] (4) ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً. قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده إلى فيه، قال: يُلجمه إلجاماً" (5) .
Hxx. إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
__________
(1) ... في الأصل: قد. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: نكحل. والمثبت من ب.
(3) ... في الأصل: تظهرهم. والتصويب من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه مسلم (4/2196 ح2864).(1/562)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ اتذب
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ وزجرٌ لهم عن التطفيف، والغفلة عن ذكر البعث.
وقوله تعالى: { إن كتاب الفجار } مبتدأ.
وقال أبو حاتم: "كلا" مبتدأ يتصل بما بعده، على معنى: حقاً إن كتاب(1/563)
الفجار { لفي سجين } . وهو قول الحسن (1) .
وكتابُهم: كُتُبُ أعمالهم.
قال أبو عبيدة (2) : "سِجِّين" فِعِّيل من السّجن.
قال قتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل: "سِجِّين": الأرض السابعة السفلى (3) .
وفي حديث البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سجين أسفل سبع أرضين" (4) .
قال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة، وفيها إبليس وذريته (5) .
{ وما أدراك ما سجين } على وجه التعظيم لأمره.
وقال الزجاج (6) : المعنى: ليس سجين مما كنت تعلمه أنت ولا قومك، ثم فسره فقال: { كتاب مرقوم } أي: مكتوب.
وقال غيره: "مرقوم" أي: مُثبت عليهم، كالرَّقْمِ في [الثوب] (7) لا يُمحى
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/443).
(2) ... مجاز القرآن (2/289).
(3) ... أخرجه الطبري (30/94-95). وذكره السيوطي في الدر (8/444) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة. وانظر: تفسير مقاتل (3/461).
(4) ... أخرجه الطبري (30/96). وذكره الماوردي (6/227).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/444).
(6) ... معاني الزجاج (5/298).
(7) ... في الأصل: الثبوت. والتصويب من ب.(1/564)
حتى يُجازوا به.
قال صاحب الكشاف (1) : "سجين" كتاب جامع، وهو ديوان الشر، دوَّنَ الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو مُعْلَمٌ يعلم من رآه أنه لا خير فيه. فالمعنى: أن ما كتب من أعمال الفجار مُثبت في ذلك الديوان. وسمي سِجِّيناً: فِعِّيلاً من السِّجْن، وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح كما روي تحت الأرض السابعة في مكان وحشٍ مظلم، وهو مسكن إبليس وذريته استهانةً به وإذالةً، وليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقربون.
وقال الواحدي (2) : ذكر قوم أن قوله: { كتاب مرقوم } تفسير للسِّجِّين، وهو بعيد؛ لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء، على ما حكينا عن المفسرين، فالوجه أن يجعل هذا بياناً للكتاب المذكور في قوله: { إن كتاب الفجار } ، على تقدير: هو كتاب مرقوم.
قوله تعالى: { ويل يومئذ للمكذبين } قال صاحب النظم: هذا منتظم بقوله: { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ، وما بينهما اعتراض (3) .
وما بعده مُفسّرٌ فيما مضى إلى قوله: { كلا } وهو ردع للمعتدي الأثيم عن قوله: { بل ران } .
__________
(1) ... الكشاف (4/722).
(2) ... الوسيط (4/444).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/445)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/55).(1/565)
وقرأ حفص: "بلْ رَان" بإظهار اللام (1) .
قال الزجاج (2) : الإدغام أجود؛ لقرب اللام من الراء، ولغلبة الراء على اللام. وإظهار اللام جائز؛ لأن اللام من كلمة والراء من كلمة أخرى.
قال (3) : و"رَانَ" بمعنى غطّى على قلوبهم. يقال: رَانَ على قلبه الذَّنْبُ يَرينُ رَيْناً؛ إذا غشي على قلبه (4) . ويقال: غَانَ على قلبه يغِينُ غَيْناً، والغَيْنُ: كالغيم الرقيق، والرَّيْن: كالصدأ يغشى على القلب.
وقال غيره: الغين يقال بالراء وبالغين، ففي القرآن: "كلا بل ران".
وفي الحديث: "إنه ليُغَانُّ على قلبي" (5) ، وكذلك الراية تقال بالراء والغين، والرُّمَيْصَاء تكتب [بالغين] (6) وبالراء؛ لأن الرَّمص يكتب بهما.
قال الحسن في هذه الآية: هو ورود الذنب حتى يعمى القلب (7) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/104)، والحجة لابن زنجلة (ص:754)، والكشف (1/182)، والنشر (2/60)، والإتحاف (ص:435)، والسبعة (ص:675).
(2) ... معاني الزجاج (5/299).
(3) ... أي: الزجاج.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: رين).
(5) ... أخرجه مسلم (4/2075 ح2702).
(6) ... في الأصل: بالعين. والمثبت من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (30/98). وذكره الماوردي (6/229)، والسيوطي في الدر (8/447) وعزاه لعبد بن حميد.(1/566)
العبد إذا أخطأ خطيئة نَكَتَ في قلبه نُكْتَة (1) ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِلَ قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الرَّان الذي ذكر الله: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " (2) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الرجل ليذنب الذنب فيُنكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت أخرى، حتى يصير قلبه مثل لون الشاة الرَّبْداء" (3) .
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد انقبض وقبض أصبعاً، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصبعاً أخرى، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه، ثم يطبع الله على قلبه، [وكانوا] (4) يرون أن ذلك هو الرَّيْن، ثم قرأ هذه الآية (5) .
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن الذنوب التي توجب الرَّيْن على القلوب، { إنهم } يعني: الفجار { عن ربهم يومئذ لمحجوبون } .
قال الزجاج (6) : في هذه الآية دليلٌ على أن الله تعالى يُرى في القيامة،
__________
(1) ... النكتة: أثرٌ قليل كالنَّقْطة شِبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما (النهاية 5/113).
(2) ... لم أقف عليه في صحيح البخاري، وقد أخرجه الترمذي (5/434 ح3334).
(3) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/440 ح7204). والرَّبْداء: أي: لونها بين السواد والغبرة (النهاية 2/183).
(4) ... في الأصل: وكا. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه البيهقي في الشعب (5/441 ح7206)، وابن أبي حاتم (10/3409). وذكره السيوطي في الدر (8/446) وعزاه للفريابي والبيهقي.
(6) ... معاني الزجاج (5/299).(1/567)
لولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خَسَّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن الله عز وجل. وقال الله في المؤمنين: { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } [القيامة:22-23]، فأعلم الله تعالى أن المؤمنين ينظرون إلى الله تعالى، وأعلم أن الكافرين محجوبون عن الله.
أخبرنا أبو بكر عبدالرزاق بن عبدالقادر الجيلي في كتابه، قال: حدثنا أحمد بن عبدالله بن مرزوق، أخبرنا جعفر بن أحمد بن عبدالواحد الثقفي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبدالرحيم، أخبرنا عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان، حدثنا الفضل بن [الخصيب] (1) ، حدثنا أبو العباس المزني (2) ، حدثنا أبو إبراهيم المزني، عن ابن هرم قال: قال الشافعي رحمه الله: قول الله تبارك وتعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فيه دلالة على أن أولياء الله يرون الله تبارك وتعالى (3) .
وقال الربيع بن سليمان: كنت ذات يوم عند الشافعي رضي الله عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فكتب فيه: لما حَجَبَ قوماً بالسُّخْطِ دَلَّ على أن قوماً
__________
(1) ... في الأصل: الحصيب. والمثبت من ب. وهو الفضل بن الخصيب ابن العباس بن نصر، المحدث الصدوق الرحال، أبو العباس الأصبهاني، توفي في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 14/551-552).
(2) ... أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفل، أبو العباس المزني، كان ثقةً شديداً على أهل البدع، توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين (تاريخ بغداد 4/44).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/446).(1/568)
يَرَوْنَهُ بالرضا. فقلت له: أو تدين بهذا سيدي؟ فقال: والله! لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا (1) .
وقال الكلبي عن ابن عباس: إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون، والمؤمن لا يُحجب عن رؤيته (2) .
وقال مقاتل (3) : إنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.
وسُئل مالك عن هذه الآية قال: حَجَبَ أعداءه فلم يروه، وتجلى لأوليائه حتى رأوه (4) .
وقد ذكرنا في أثناء كتابنا هذا من دلائل الكتاب والسنة وآثار أخبار الأئمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، ما لا يسع المسلم تركه، فنسأل الله أن يُعيذنا من الزيغ والعناد، وأن يمتّعنا بالنظر إليه إذا حُجب عنه أهل الإلحاد.
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم بعد حجبهم عنه جل وعلا يدخلون النار فقال: { ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال } تصغيراً وتحقيراً وتوبيخاً { هذا } العذاب { الذي كنتم به تكذبون } .
Hxx. إِنَّ كِتَابَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/446).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/446)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/56).
(3) ... تفسير مقاتل (3/461).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/446)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/56).(1/569)
الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى إ7ح !#u'F{$# يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ اثرب(1/570)
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ عن التكذيب. ويجوز أن يكون متصلاً بما بعده بمعنى: حقاً { إن كتاب الأبرار لفي عليين } .
روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عليين في السماء السابعة تحت العرش" (1) .
وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيه (2) .
وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش اليمنى (3) .
وقال الضحاك: سدرة المنتهى (4) .
وقال الحسن: في علو وصعود إلى الله عز وجل (5) .
قال الزجاج (6) : أعلى الأمكنة.
قوله تعالى: { وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم } الكلام عليه كالكلام
__________
(1) ... أخرجه أحمد (4/287)، والحاكم (1/93-94 ح107)، والطيالسي (1/102 ح753)، وابن أبي شيبة (3/54-55 ح12059)، والبيهقي في الشعب (1/355 ح395).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/57).
(3) ... أخرجه الطبري (30/102). وذكره السيوطي في الدر (8/448) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
... ومن طريق آخر عن كعب، وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... أخرجه الطبري (30/102). وذكره السيوطي في الدر (8/448) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... ذكره الماوردي (6/229)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/57).
(6) ... معاني الزجاج (5/299).(1/571)
[على] (1) نظيره السابق في هذه السورة.
قال صاحب الكشاف (2) : "عِلِّيُّون": عَلَمٌ لديوان الخير الذي دُوِّن فيه كُلُّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع "عِلِّيّ" فِعِّيل من العُلُوّ، كسِجِّين من السِّجن، سمي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة، حيث يسكن الكَرُوبيُّون، تكريماً له وتعظيماً.
وقال الواحدي (3) : "كتاب مرقوم" ليس بتفسير "عليين"، وهو يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن المرادَ به كتابُ أعمالهم، كما ذكرنا في كتاب الفجار.
الثاني: أنه كتاب في عليين كُتب هناك ما أعدّ الله لهم من الكرامة. وهو معنى قول مقاتل (4) : مكتوبٌ لهم بالخير في ساق العرش.
ويدل على صحة هذا قوله: { يشهده المقربون } يعني: الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب.
قوله تعالى: { على الأرائك ينظرون } سبق تفسير الأرائك، [وأنها] (5) السُّرُرُ في الحجال. والمعنى: ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... الكشاف (4/723).
(3) ... الوسيط (4/447-448).
(4) ... تفسير مقاتل (3/462).
(5) ... في الأصل: أنها. والتصويب من ب.(1/572)
وقيل: ينظرون إلى أعدائهم يُعذَّبون في النار.
قال بعض العلماء (1) : ما تَحْجُبُ الحِجَالُ أبصارَهم عن الإدراك.
{ تعرف في وجوههم نضرة النعيم } يعني: بهجته ورونقه.
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء العكبري رحمه الله لأبي جعفر ويعقوب: "تُعْرَفُ" بضم التاء وفتح الراء، على البناء للمفعول، "نَضْرَةُ" بالرفع (2) .
{ يسقون من رحيق مختوم } الرَّحِيق: الخمر (3) ، في قول جمهور المفسرين واللغويين.
قال الخليل بن أحمد: هو أجود الخمر (4) .
قال الأخفش: هو الخالص من الغش (5) .
وقال ابن قتيبة (6) : الخمر العتيقة.
وقال الحسن: هو عين في الجنة مَشوبةٌ بالمسك (7) .
ومعنى مختوم: أنه خُتم ومُنع من أن يمسه ماسٌّ، أو تتناوله يد إلى أن
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/724).
(2) ... النشر (2/399)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:435).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:739)، والطبري (30/105-106)، وابن أبي حاتم (10/3410). وانظر: الدر المنثور (8/451).
(4) ... ذكره الماوردي (6/230)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/58).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:519).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/58).(1/573)
ينفكّ (1) ختمه للأبرار في الجنة. وهذا معنى قول مجاهد (2) .
قال ابن عباس: خُتْمُهُ الذي يُختم به الإناء مِسْكٌ (3) .
وقال غيره: { ختامه مسك } [تفسير] (4) لقوله: "مختوم"، على معنى: آخر طعمه مسك. أي: رائحة المسك.
وقيل: يمزج بالكافور، ويختم مزاجه بالمسك.
وقرأتُ للكسائي من طرقه المشهورة: "خَاتَمُهُ" بألف قبل التاء (5) . وقرأتُ له من رواية الشيزري: "خَاتِمُهُ" بكسر التاء (6) ، وكلتاهما بمعنى واحد.
أي: ما يختم به ويقطع مسك.
{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } التنافس: كالتشاحّ على الشيء والتنازع فيه.
والمعنى: وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة الموصلة إليه.
__________
(1) ... في ب: يُفْتَكَّ.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/448).
(3) ... أخرجه الطبري (30/106)، وابن أبي حاتم (10/3410). وذكره السيوطي في الدر (8/451) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في البعث.
(4) ... في الأصل: تفسيراً. والتصويب من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (4/105)، والحجة لابن زنجلة (ص:754)، والكشف (2/366)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:435)، والسبعة (ص:676).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/59)، والدر المصون (6/494).(1/574)
قوله تعالى: { ومزاجه من تسنيم } قال ابن مسعود: هو عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتُمزج لأصحاب اليمين (1) .
قال حذيفة بن اليمان: هي عين في جنة عدن (2) . وعدن: دار الرحمن، فأهل عدن جيرانه.
وسُئل ابن عباس عن قوله: { ومزاجه من تسنيم } فقال: هذا مما يقول الله: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } (3) [السجدة:17].
وقال صاحب الكشاف (4) : "تسنيم": علمٌ لعين [بعينها] (5) ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه؛ إما لأنها أرفع شراب في الجنة، وإما لأنها تأتيهم من فوق، على [ما] (6) روي أنها تجري في الهواء متسنّمة [فتنصبّ] (7) في أوانيهم. و"عَيْناً" نصب على المدح.
وقال الزجاج (8) : نصب على الحال، ويكون "تسنيم" معرفة، و"عَيْناً"
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/108)، وابن أبي حاتم (10/3410)، وابن أبي شيبة (7/44 ح34091). وذكره السيوطي في الدر (8/452) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (6/231)، والسيوطي في الدر (8/452) وعزاه لابن المنذر.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/449).
(4) ... الكشاف (4/724).
(5) ... في الأصل: بطينها. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: فتصب. والمثبت من ب.
(8) ... معاني الزجاج (5/301).(1/575)
نكرة.
قال الزجاج أيضاً (1) : ويجوز أن تكون منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عَيْناً، أي: مِنْ عَيْن.
وقال غيره: يجوز أن يكون تمييزاً.
وقوله: { يشرب بها المقربون } مُفسّر في "هل أتى" (2) .
¨bخ) الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/301).
(2) ... عند الآية رقم: 6.(1/576)
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى إ7ح !#u'F{$# يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ اجدب
قوله تعالى: { إن الذين أجرموا } يعني: كفار قريش { كانوا من الذين آمنوا } مثل صهيب وعمار وخباب وبلال، وغيرهم من المستضعفين بمكة { يضحكون } استهزاءً بهم.
{ وإذا مروا بهم } أي: وإذا مَرَّ المؤمنون بالكفار { يتغامزون } بالأعين والحواجب، على وجه السخرية منهم.
وقال ابن السائب ومقاتل (1) : نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، وذلك أنه مرّ هو ونفر من المؤمنين بالمنافقين فسخروا منهم وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه، فأنزل الله هذه الآيات قبل أن يصل عَلِيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/463).(1/577)
قوله تعالى: { وإذا انقلبوا } يعني: الكفار { إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } .
وقرأ حفص: "فَكِهِين" بغير ألف (1) . وقد ذكرنا وجه القراءتين في يس (2) .
والمعنى: انقلبوا متلذذين بالاستهزاء والسخرية من المؤمنين.
{ وإذا رأوهم } أي: وإذا رأى كفار مكة أصحاب محمد { قالوا إن هؤلاء لضالون } . وصفوهم بالضلال؛ لمباينتهم عبادة الأصنام، ومخالفتهم ما كان عليه أسلافهم.
قال الله تعالى: { وما أُرسلوا عليهم } يعني: الكفار على المؤمنين { حافظين } يحفظون عليهم أعمالهم أي: [لم] (3) يُوكَّلوا على ذلك، فما لهم يحكمون عليهم بالضلال، ويسجلون عليهم به. وفيه تهكُّم بالكفار.
وجوّز بعضهم أن يكون هذا من تمام قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المؤمنين قالوا: إن هؤلاء لضالون، وأنهم [لم] (4) يرسلوا عليهم حافظين؛ إنكاراً لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما كان عليه هو ومن يعاضده من المؤمنين، من صدّهم عن الشرك، ودعائهم إلى التوحيد.
{ فاليوم } يعني: في الآخرة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/106)، والحجة لابن زنجلة (ص:755)، والكشف (2/366)، والنشر (2/354-355)، والإتحاف (ص:435)، والسبعة (ص:676).
(2) ... عند الآية رقم: 55.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... زيادة من ب.(1/578)
قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم [فيها] (1) : اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } (2) .
{ على الأرائك ينظرون } إلى عذاب عدوهم.
وقوله: "على الأرائك ينظرون" في محل الحال [من] (3) "يضحكون" (4) .
وقد ذكرنا عند قوله في الصافات: { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } [55] كيفية اطلاع أهل الجنة على أهل النار.
قوله تعالى: { هل ثُوِّب الكفار } وقرأ حمزة والكسائي: "هل ثوب" بإدغام اللام في الثاء؛ لقرب مخرجهما (5) .
والمعنى: هل جُوزوا. يقال: ثوّبه وأثابه؛ إذا جازاه.
قال أوس:
سَأجْزِيكِ أوْ يُجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وحَسْبُكِ أن يُثْنَى عليكِ وتُحْمَدِي (6)
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/450)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/61).
(3) ... في الأصل: في. والمثبت من ب.
(4) ... انظر: الدر المصون (6/494).
(5) ... الحجة للفارسي (4/106)، والإتحاف (ص:435)، والسبعة (ص:676).
(6) ... البيت لأوس بن حجر، وهو في: البحر (8/435)، والدر المصون (6/495)، والكشاف (4/725)، وروح المعاني (30/77)، والأغاني (11/77).(1/579)
والمعنى: هل جُوزي الكفار بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا.
والاستفهام بمعنى التقرير، ومضمونه: تعظيم ما جُوزوا به من العذاب المهين.
ومن هذا الطرز ما كتبه بعض الفضلاء، المبرّزين في العلوم الشرعية والأدبية إلى قاض، وكان بلغه أنه غَضَّ منه فذكر (1) كلاماً بليغاً في معرض القَدْح فيه إلى أن قال:
يا حَاكِماً صَدّ عَنِّي ... وسَلَّ سَيْفَ التَّجَنِّي
ضَيَّعْتَ لي منك ... ما قدْ حفظتُهُ لَكَ مِنِّي
فاسْمَعْ عِتابي صريحاً ... فإنني لستُ أَكْنِي
وإنْ كَنيتُ فإني ... بالقولِ إياكَ أعْنِي
ماذا دَعَاكَ إلى أن ... قلبتَ ظَهْرَ المِجَنِّ
فصرْتَ تَهْدِمُ ما ... كنتُ منْ إخَائِكَ أبْنِي
... [إلى أن قال] (2) :
وصرتَ تُبدي وَقَاراً ... وسَطْوَةً أيْ بأنِّي
قَاضيكُمُ فاعرفوني ... وعظِّمُوني لأنِّي
... ثم قال كلاماً آخر ختمه بقوله:
__________
(1) ... قوله: "فذكر" ساقط من ب.
(2) ... زيادة من ب.(1/580)
أوجعتَ قلبي فقل لي ... أوجعتُ قلبكَ أم لا؟
يريد بذلك: تنبيهه على عظيم ما رماه به من القول المُوجع، والأذى المفرط. والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/581)
سورة الانشقاق
ijk
وهي خمس وعشرون آية، وهي مكية بإجماعهم (1) .
#sŒخ) السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:268).(1/582)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا اتخب
قال الله تعالى: { إذا السماء انشقت } قال علي عليه السلام: تنشق السماء من المجرّة (1) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3411). وذكره الماوردي (6/233)، والسيوطي في الدر (8/455) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/583)
قال المفسرون: انشقاقُها من علامات الساعة (1) . وذلك مذكور في مواضع من كتاب الله (2) .
فإن قيل: أين جواب "إذا"؟
قلتُ: المختار عند المحققين أنه محذوف؛ ليذهب الذهن [إلى] (3) كل مذهب من أنواع الأهوال.
قال بعضهم (4) : حذف الجواب اكتفاء بما عُلم في [نظيرتيهما] (5) ، وهما التكوير والانفطار.
وقيل: جوابها ما دلّ عليه قوله: { فمُلاقيه } . أي: إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كَدْحَه. وهو اختيار الزجاج (6) .
وقال المبرد (7) : في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت.
قوله تعالى: { وأذِنَتْ لربها } أي: استمعت له، ومنه قوله عليه السلام:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/233)، والواحدي في الوسيط (4/451)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/62).
(2) ... الفرقان آية رقم: (25)، والرحمن آية رقم: (37)، والحاقة آية رقم: (16).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/726).
(5) ... في الأصل: نظيرتها. والتصويب من ب.
(6) ... معاني الزجاج (5/303).
(7) ... انظر قول المبرد في: الطبري (30/114) بلا نسبة، وزاد المسير (9/63).(1/584)
"ما أَذِنَ الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن" (1) .
ومنه قول الشاعر:
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكرتُ به ... وإن ذُكرتُ بِشَرٍّ عندهمْ أَذِنُوا (2)
ومعنى الآية: أطاعت ربها في الانشقاق، وحقّ لها أن تطيعه.
قوله تعالى: { وإذا الأرض مُدَّت } قال ابن عباس: تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويُزاد في سعتها (3) .
قال مقاتل (4) : لا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها.
{ وألقت ما فيها } من الموتى والكنوز { وتخلت } مما في باطنها من ذلك.
{ وأذنت لربها } في إلقاء ما في باطنها وتخلّيها منه { وحقت } بأن تأذن له.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1918 ح4735، 6/2720 ح7044)، ومسلم (1/546 ح792) من حديث أبي هريرة.
(2) ... البيت لقعنب بن أم صاحب. وهو في: اللسان (مادة: شور، أذن)، والمحتسب (1/206)، وديوان الحماسة (2/179)، ومجاز القرآن (1/177)، وتاج العروس (مادة: أذن)، والطبري (30/112)، والقرطبي (19/269)، والماوردي (6/234)، والبحر المحيط (8/438)، والدر المصون (6/497)، وزاد المسير (9/62)، وروح المعاني (10/126، 30/78).
(3) ... أخرجه الطبري (30/185)، والحارث في مسنده (2/1001 ح1122). وذكره السيوطي في الدر (5/34) وعزاه للحارث بن أبي أسامة وابن جرير بسند حسن.
(4) ... لم أقف عليه في تفسير مقاتل. وانظر قول مقاتل في: الوسيط (4/451)، وزاد المسير (9/63).(1/585)
قوله تعالى: { يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه } قال الزجاج (1) : الكَدْحُ في اللغة: السَّعي والدُّؤوب في العمل في [باب] (2) الدنيا وفي باب الآخرة.
قال تميم بن مقبل:
وما الدَّهْرُ إلا تَارتان فمنهُما ... أموتُ [وأخرى] (3) أبتغي العيشَ أكْدَحُ (4)
أي: فتارة أسعى في طلب العيش وأدأب.
وقال مقاتل (5) : إنك ساعٍ إلى ربك سعياً.
وقال ابن عباس وقتادة وعامة المفسرين: إنك عامل لربك عملاً (6) .
وقال ابن قتيبة (7) : فيه إضمار، تقديره: إلى لقاء ربك فَمُلاقٍ ربك.
وقيل: فَمُلاق عملك، وهو الكدح.
وابن كثير يصل الهاء في "فملاقيه" بياء. وقد ذكرنا علة ذلك فيما مضى.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/304).
(2) ... في الأصل: دار. والمثبت من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: أخرى. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج (5/304).
(4) ... تقدم.
(5) ... تفسير مقاتل (3/464).
(6) ... أخرجه الطبري (30/115)، وابن أبي شيبة (7/220 ح35498). وذكره السيوطي في الدر (8/456) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لابن أبي شيبة.
(7) ... تأويل مشكل القرآن (ص:521).(1/586)
قوله تعالى: { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } أي: سهلاً.
قالت عائشة رضي الله عنها: هو أن يُعَرَّفَ ذنوبه ثم يَتجاوز عنه (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى -يعني: ابن سعيد-، عن عثمان ابن (2) الأسود قال: سمعت ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة تقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال البخاري: وحدثنا سليمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال البخاري: وحدثنا مسدد، عن يحيى، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة (3) ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس أحدٌ يُحاسب إلا هلك. قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً } قال: ذاك العَرْض يُعرضون، ومن نُوقش الحساب هلك" (4) . هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن بشر، عن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/115). وذكره السيوطي في الدر (8/457) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... في الأصل و ب زيادة قوله: أبي. انظر ترجمته في: التهذيب (7/98)، والتقريب (ص:382)، وسير أعلام النبلاء (6/339).
(3) ... حاتم بن أبي صغيرة، وهو ابن مسلم، أبو يونس القشيري، وقيل: الباهلي مولاهم البصري، ثقة (تهذيب التهذيب 2/112، والتقريب ص:144).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1885 ح4655)، ومسلم (4/2205 ح2876).(1/587)
يحيى بن سعيد.
وأخرج الحاكم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثٌ من كُنّ فيه حاسبه الله حساباً يسيراً، وأدخله الجنة برحمته، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: تُعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك. قال: فإذا فعلت ذلك فما لي يا رسول الله؟ قال: تُحاسب حساباً يسيراً، ويدخلك الله الجنة برحمته" (1) .
قوله تعالى: { وينقلب إلى أهله } أي: ويرجع إلى أهله في الجنة، من الآدميات والحور العين { مسروراً } بما أوتي من الكرامة.
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } قال ابن السائب: لأن يده اليمنى مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلف ظهره (2) .
قال مقاتل (3) : تُخلع يده اليسرى فتكون من وراء ظهره.
{ فسوف يدعو ثبوراً } يريد: أنه إذا قرأ كتابه دعا: يا ويلاه، يا ثبوراه. وقد ذكرنا ذلك عند قوله: { دعوا هنالك ثبوراً } [الفرقان:13].
قوله تعالى: { ويصلى سعيراً } قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة: "ويَصْلَى" بفتح الياء وسكون الصاد وتحفيف اللام، أضافوا الفعل إلى الداخل في النار، فهو الفاعل، وهو مضمر في الفعل، وجعلوا الفعل ثلاثياً يتعدى إلى مفعول واحد، وهو "سعيراً"، ودليله: إجماعهم على قوله:
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/563 ح3912).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/453)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/64) بلا نسبة.
(3) ... تفسير مقاتل (3/467).(1/588)
{ ويصلى سعيراً } ، وقوله: { إلا من هو صال الجحيم } [الصافات:163].
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، على ما لم يُسَمَّ فاعله (1) .
{ إنه كان في أهله مسروراً } أي: إنه كان في الدنيا مسروراً باتباع هواه، وركوب شهواته، لا يهمّه أمر آخرته، ولا ينظر في عاقبة أمره.
{ إنه ظن أن لن يحور } لن يرجع إلى الله، تكذيباً بالبعث، يقال: حَارَ يَحُورُ حَوْراً؛ إذا رجع (2) ، وأنشدوا قول لبيد:
وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضوئِهِ ... يحورُ رَمَاداً بعدَ إذ هُو ساطعُ (3)
{ بلى } إيجاب لما بعد النفي في "لن يحور"، أي: بلى ليحورنّ.
{ إن ربه كان به بصيراً } لا يخفى عليه شيء من أحواله، فهو يجازيه عليها.
وقال الزجاج (4) : كان به بصيراً قبل أن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه.
Ixsù أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/108)، والحجة لابن زنجلة (ص:755-756)، والكشف (2/367)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:436)، والسبعة (ص:677).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حور).
(3) ... الببيت للبيد. انظر: ديوانه (ص:169)، والبحر (8/436)، والدر المصون (6/498)، والماوردي (6/236)، والقرطبي (19/273)، وزاد المسير (1/226، 6/250، 9/65)، وروح المعاني (23/2، 30/81)، والأغاني (15/362، 17/69)، واللسان، وتاج العروس (مادة: حور)، والعين (3/287).
(4) ... معاني الزجاج (5/305).(1/589)
(16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ) (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اثخب
قوله تعالى: { فلا أقسم بالشفق } وهو الحمرة التي تخرج وقت المغرب(1/590)
بغيبوبتها.
قال الفراء (1) : سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ: كأنه الشفق، وكان أحمر.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الشفق: الحُمْرة" (2) . وقد ملّح بعض المتأخرين في قوله:
لو لم يكنْ وجْهُهُ شمسَ النهارِ لما ... لاحتْ على وجْنَتَيْهِ حُمْرَةُ الشَّفَقِ
وقال آخر:
قُمْ يا غلامُ أعِنِّي غيرَ مُحْتَشِمٍ ... على الزَّمانِ بكأسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ (3)
وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، والعبادلة: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، والسعيدان: ابن المسيب، وابن جبير، وطاووس، ومكحول، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه، والأئمة الثلاثة؛ مالك، والشافعي، وأحمد، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة، وعامة العلماء من الفقهاء والمفسرين واللغويين.
وقال مجاهد وعكرمة: الشفق: النهار كله (4) .
وقال عمر بن عبد العزيز: البياض (5) . ويقال أنه رجع عنه.
__________
(1) ... معاني الفراء (3/251).
(2) ... أخرجه الدارقطني (1/269 ح3).
(3) ... انظر البيت في: القرطبي (19/275) وفيه: "مرتبك" بدل: "محتشم".
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:742)، والطبري (30/119)، وابن أبي حاتم (10/3411).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/66).(1/591)
قوله تعالى: { والليل وما وسق } أي: وما جَمَعَه وضَمَّه، مما كان منتشراً في النهار، وذلك أنه بدخول الليل يأوي كلُّ ذي وطن إلى وطنه، وكلُّ ذي وَكْر إلى وَكْره.
قوله تعالى: { والقمر إذا اتّسق } أي: تكامل وتمّ، وذلك ليلة أربع عشرة.
وقال الفراء (1) : اتِّسَاقُهُ: امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وست عشرة. وهو افتعل من الوَسْق، وهو الجمع.
وقد ذكرنا في الذاريات معنى القَسَم بهذه الأشياء وأمثالها، وجواب القسم: { لتركبن طبقاً عن طبق } .
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "لتركبَن" بفتح الباء (2) ، وهي قراءة عمر بن الخطاب، وابن مسعود وأصحابه، وابن عباس، وأبي العالية.
واختلفوا في معناه، فقيل: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، [حدثنا البخاري] (3) ، حدثنا سعيد
__________
(1) ... معاني الفراء (3/251).
(2) ... الحجة للفارسي (4/108)، والحجة لابن زنجلة (ص:756-757)، والكشف (2/367)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:436)، والسبعة (ص:677).
(3) ... زيادة على الأصل. وقد سبق هذا الإسناد كثيراً بهذه الزيادة كما أثبتناه.(1/592)
بن النضر (1) ، حدثنا هشيم (2) ، حدثنا أبو بشر جعفر بن إياس (3) ، عن مجاهد قال: "قال ابن عباس: { لتركبن طبقاً عن طبق } قال: حالاً بعد حال. قال هذا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " (4) . انفرد بإخراجه البخاري.
وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد: المعنى: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء (5) .
قال الكلبي: تَصعد فيها (6) .
وقيل: لتركبن رتبة بعد رتبة، ودرجة بعد درجة في القربة إلى الله
__________
(1) ... سعيد بن النضر البغدادي، أبو عثمان، سكن آمل جيحون، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/81، والتقريب ص:241).
(2) ... هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطي، قيل: إنه بخاري الأصل، كان ثقةً ثبتاً كثير الحديث، كثير التدليس والإرسال الخفي، ولد سنة أربع ومائة، ومات سنة ثلاث وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 11/53-55، والتقريب ص:574).
(3) ... جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري، أبو بشر الواسطي، بصري الأصل، ثقة، مات سنة ست وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك (تهذيب التهذيب 2/71، والتقريب ص:139).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1885 ح4656).
(5) ... أخرجه الطبري (30/124)، وابن أبي حاتم (10/3412)، والطبراني في الكبير (10/95 ح10068). وذكره الماوردي (6/238)، والوسيط (4/455)، والسيوطي في الدر (8/459) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم في الكنى وابن منده في غرائب شعبه وابن مردويه والطبراني عن ابن مسعود.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/455).(1/593)
ورفعة المنزلة.
وقال قوم، منهم: قتادة: الإشارة إلى السماء، يريد: أنها تتغير لوناً بعد لون، فتصير تارة كالدهان، وتارة كالمهل، [وتُشقّق] (1) بالغمام مرة، وتُطوى أخرى (2) .
وقيل: الخطاب للإنسان المنادى بقوله: { يا أيها الإنسان } .
فإن قيل: لم يُرد إنساناً بعينه، بل هو اسم جنس؟
قلتُ: هو كذلك، لكنه راعى اللفظ، فخاطب خطاب الواحد.
وقرأ الباقون: "لتَرْكَبُنَّ" بضم الباء، على الخطاب للجنس (3) ، وهي اختيار أبي عبيد، [قال] (4) : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه إنما ذكر قبل هذه الآية من يؤتى منهم كتابه بيمينه وشماله، ثم قال بعدهما: { فما لهم لا يؤمنون } ، وذكر ركوبهم طبقاً بعد طبق فيهما.
واختلف المفسرون في معنى: "طبقاً عن طبق"، فقال أكثرهم: حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر في مواقف القيامة (5) .
__________
(1) ... في الأصل: وتتشقق. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (30/124). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/67) كلاهما عن ابن مسعود.
(3) ... انظر: الحجة للفارسي (4/108)، والحجة لابن زنجلة (ص:756-757)، والكشف (2/367)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:436)، والسبعة (ص:677).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (30/122-124)، وابن أبي حاتم (10/3411). وانظر: الدر المنثور (8/459).(1/594)
قال ابن عباس: الشدائد والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض (1) .
وقال الحسن: الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، [والغنى] (2) بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة (3) .
وقال عكرمة: حالاً بعد حال، رضيع، ثم فطيم، ثم غلام، ثم شاب، ثم شيخ (4) .
وقال سعيد بن جبير: هو تغيّر حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتّضع من كان مرتفعاً (5) .
قال بعض الحكماء: من كان اليوم على حالة وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى غيره (6) .
وقال بعض البصراء بالعربية (7) : الطبق: ما طابق غيره، فيقال: ما هذا بطبق لِذَا، أي: لا يطابقه. ومنه قيل للغطاء: الطبق. وإطباق الثرى: ما تطابق منه، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق. ومنه قوله: { طبقاً عن طبق } أي:
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/68).
(2) ... في الأصل: والمعنى. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (6/238)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/68).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... ذكره الماوردي (6/238)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/68)، والسيوطي في الدر (8/460) وعزاه لابن المنذر.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/68).
(7) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (4/728-729).(1/595)
حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة [لأختها] (1) في الشدة والهول. ويجوز أن يكون جمع طبقة، وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات. ومنه: طبق الظهر لفقاره، [الواحدة] (2) : طبقة، على معنى: لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقاتٌ في الشدة، بعضها أرفع من بعض، وهي الموت، وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها.
وهاهنا [تمّ] (3) الكلام.
ثم قال مُنْكِراً على كفار (4) مكة، موبخاً لهم: { فما لهم لا يؤمنون * وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } .
قال عطاء: لا يصلّون (5) .
وقال غيره: لا [يستكينون] (6) ولا يخضعون (7) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، حدثني بكر، عن أبي
__________
(1) ... في الأصل: لاتها. والتصويب من ب، والكشاف (4/729).
(2) ... في الأصل: الواحد. والتصويب من ب، والكشاف (4/729).
(3) ... في الأصل: ثم. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: قريش.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/455)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/68) كلاهما عن عطاء وابن السائب الكلبي.
(6) ... في الأصل: يستكنون. والتصويب من ب.
(7) ... ذكره الطبري (30/125).(1/596)
رافع قال: "صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: { إذا السماء انشقت } فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه" (1) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ وغيره عن المعتمر.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: { اقرأ باسم ربك } و { إذا السماء انشقت } " (2) .
فصل
احتج من يرى وجوب سجود التلاوة -وهو مذهب جماعة، منهم: سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهويه- بهذه الآية.
قال القاضي أبو يعلى رحمه [الله] (3) : ولا حجة فيها؛ لأن المعنى: فما لهم لا يخضعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه (4) .
وذهب (5) [الإمامان] (6) الشافعي وأحمد: إلى أن سجود التلاوة غير واجب، ولذلك أدلة ليس هذا موضع استقصائها.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/366 ح1028)، ومسلم (1/407 ح578).
(2) ... أخرجه مسلم (1/406 ح578).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/69).
(5) ... في ب: ذهب.
(6) ... في الأصل: الإمان. والتصويب من ب.(1/597)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله لم يكتبها علينا (1) .
قوله: { بل الذين كفروا يكذبون } يعني: بالقرآن والبعث والجزاء.
{ والله أعلم بما يوعون } في صدورهم من التكذيب والعناد.
{ فبشرهم بعذاب أليم } اجعل لهم ذلك بدل البشارة. وقد فسرنا (2) ذلك في مواضع.
{ إلا الذين آمنوا } استثناء منقطع.
والممنون عند أهل اللغة: المقطوع.
__________
(1) ... أخرجه النسائي في الصغرى (1/506 ح902)، ومالك في الموطأ (1/206 ح484)، والبيهقي في الكبرى (2/321 ح3574، 3/213 ح5587).
(2) ... في ب: قررنا.(1/598)
سورة البروج
ijk
وهي اثنتان وعشرون آية (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
دن!$uK،،9$#ur ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:269).(1/599)
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِن الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ اتةب
قال الله تعالى: { والسماء ذات البروج } ، وهي البروج الاثنا عشر. وقد ذكرناها في الحجر (1) .
{ واليوم الموعود } يوم القيامة.
وفي قوله: { وشاهد ومشهود } أقوال كثيرة، أشهرها وأولاها: ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اليوم الموعود: يوم القيامة، والشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة" (2) . وهو مخرج في الترمذي.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 16.
(2) ... أخرجه الترمذي (5/436 ح3339).(1/600)
وإلى هذا القول ذهب علي عليه السلام، وابن عباس في بعض الروايات عنه، وهو قول أكثر المفسرين.
قال بعضهم: سمي يومُ الجمعة شاهداً؛ لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، وسمي يوم عرفة مشهوداً؛ لأن الناس يشهدون فيه [موسم] (1) الحج، وتشهده الملائكة.
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه قال: أخبرنا عبدالجبار بن أحمد بن محمد [الخواري] (2) ، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا أبو إسحاق المقرئ -يعني: الأستاذ الثعلبي صاحب التفسير- قال: أخبرنا الحسين بن محمد أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهلويه، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي (3) ، حدثنا مالك بن ضيغم الراسبي (4) ، حدثنا أبو سهل المنذراني، عن خباب، عن رجل قال: دخلت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا برجل يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس حوله، فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود؟ قال: نعم،
__________
(1) ... في الأصل: بموسم. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير (9/71).
(2) ... في الأصل: الحوري. والتصويب من ب.
(3) ... أحمد بن إبراهيم بن كثير بن زيد الدورقي النكري البغدادي، أبو عبد الله، ثقة حافظ، ولد سنة ثمان وستين ومائة، ومات سنة ست وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/9، والتقريب ص:77).
(4) ... مالك بن ضيغم بن مالك الراسبي، روى عن أبيه، روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي (الجرح والتعديل 8/211).(1/601)
أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم [عرفة] (1) .
فجُزْتُه إلى آخَرَ يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود؟ قال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، [وأما] (2) المشهود يوم النحر.
فجُزْتُهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار، وهو يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود؟ قال: نعم، أما الشاهد فمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } [الأحزاب:45]، وقال عز وجل: { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } [هود:103].
فسألتُ عن الأول فقالوا: ابن عباس، وسألتُ عن الثاني فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي عليهم السلام (3) .
قلتُ: وهذا القول المروي عن الحسن بن علي رواه ميمون [بن] (4) مهران عن ابن عباس (5) .
__________
(1) ... في الأصل: النحر. والمثبت من ب، وتفسير الثعلبي (10/165).
(2) ... في الأصل: أما. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الثعلبي (10/165-166). وذكره الواحدي في الوسيط (4/458).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/71). قلت: وقول الحسن بن علي أخرجه الطبراني في الأوسط (9/182 ح9482)، والصغير (2/263 ح1137) من حديث الحسين بن علي، والطبري (30/130). وذكره السيوطي في الدر (8/464) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.(1/602)
وروى الوالبي عنه: أن الشاهد: هو الله تعالى، والمشهود: يوم القيامة (1) .
وقال سعيد بن جبير: الشاهد: هو الله تعالى، والمشهود: بنو آدم (2) .
وقال الحسين بن الفضل: الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: جميع الأمم. ودليله قوله: { لتكونوا شهداء على الناس } (3) .
وقال [الترمذي] (4) : الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم (5) .
وقيل: الحجر الأسود والحجيج (6) .
وقال صاحب الكشاف (7) : وشاهدٍ في ذلك اليوم -يعني: يوم القيامة-، ومشهودٍ فيه، والمراد بالشاهد: من يشهد فيه من الخلائق كلهم؛ وبالمشهود: ما في ذلك اليوم من عجائبه.
وقيل: غير ذلك، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: أين جواب القسم؟
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/131) من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وانظر رواية الوالبي عن ابن عباس في زاد المسير (9/71). وذكره السيوطي في الدر (8/464) وعزه لابن جرير من طريق علي عن ابن عباس.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/72).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/73).
(4) ... في الأصل و ب: اليزيدي. والمثبت من زاد المسير (9/73). وهو محمد بن علي الترمذي، وليس هو صاحب الجامع.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/73).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... الكشاف (4/730).(1/603)
فقلت: عنه جوابان:
أحدهما: أنه قوله: { إن بطش ربك لشديد } . قاله قتادة والزجاج (1) .
الثاني: أنه قوله: { قتل أصحاب الأخدود } (2) . قاله الفراء (3) .
قال الزمخشري (4) : هو محذوف، يدل عليه: { قتل أصحاب الأخدود } ، كأنه قيل: أُقسم بهذه الأشياء [أنهم ملعونون] (5) ، يعني: كفار قريش، كما لُعن أصحاب الأخدود.
قوله تعالى: { قتل أصحاب الأخدود } أي: لُعنوا.
والأخدود: الشق المستطيل في الأرض، ويجمع: أخاديد (6) . وهم قوم كفرة، حفروا حفائر، وأوقدوا فيها ناراً، وألقوا فيها من لم يُجبهم إلى الكفر.
وكان من قصتهم: ما أخبرنا به أبو علي بن الفرج في كتابه، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي الواعظ، أخبرنا أبو بكر بن مالك، أخبرنا عبدالله بن الإمام أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان مَلِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/135). وانظر: معاني الزجاج (5/307).
(2) ... وقال ابن جرير الطبري (30/135): جواب القسم متروك، والخبر مستأنف؛ لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته.
(3) ... معاني الفراء (3/253).
(4) ... الكشاف (4/730).
(5) ... في الأصل: أنه لملعونون. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: خدد).(1/604)
ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كَبِرَتْ سني وحضر أجلي، فادفع إليَّ غلاماً فلأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً وكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام [على] (1) الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، فكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ [وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟] (2) ، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر. قال: فبينما هو كذلك [إذا أتى] (3) ذات يوم على دابة عظيمة وقد حبست الناس، فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب [أحبُّ] (4) إلى الله أم أمر الساحر، وأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس. فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني! أنت أفضل مني، وإنك ستُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يُبرئ الأكمه وسائر الأدواء، ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه، وأتى بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوتُ الله فشفاك، فآمن، فدعا الله له فشفاه، ثم أتى الملك فجلس معه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان،
__________
(1) ... في الأصل: إلى. والمثبت من ب، ومسند أحمد (6/17).
(2) ... زيادة من ب، والمسند، الموضع السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... مثل السابق.(1/605)
من ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي. قال: أنا، قال: لا، ولكن ربي وربك الله، قال: أو لك ربٌ غيري؟ قال: نعم، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي شيء بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أنا أحداً، ما يشفي إلا الله، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فأخذه أيضاً بالعذاب، فلم يزل به حتى دلَّ على الراهب، فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع [المنشار] (1) في مفرق رأسه حتى وقع شِقَّاه. وقال للأعمى: ارجع [عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شِقَّاه في الأرض. وقال للغلام: ارجع] (2) عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فَدَهْدِهُوهُ (3) من فوقه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فَدُهْدِهُوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمّس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله عز وجل، فبعث به في قُرْقُور (4) في البحر مع نفر، فقال: إذا لججتم البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه، فلجّجوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام
__________
(1) ... في الأصل: الميشار. والمثبت من ب، والمسند (6/17).
(2) ... زيادة من ب، والمسند، الموضع السابق.
(3) ... الدَّهْدَهَة: قذفك الحجارة من أعلى إلى أسفل دحرجةً، ودَهْدَهْتُ الحجر فَتَدَهْدَه: دحرجته فتدحرج (اللسان، مادة: دهده).
(4) ... القُرْقُور: ضَربٌ من السفن. وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة (اللسان، مادة: قرر).(1/606)
يتلمّس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله عز وجل، ثم قال للملك: إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك [به] (1) ، فان أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال: وما هو؟ قال: تجمعُ الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كِنَانَتِي (2) ، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه وقال: بسم الله ربّ الغلام، فوضع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله نزل بك، فقد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخُدّدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق" (3) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم. فرواه عن هدبة [بن] (4) خالد (5) ، عن حماد بن سلمة. ولم يخرج البخاري عن صهيب شيئاً.
قال سعيد بن المسيب: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ ورد
__________
(1) ... زيادة من ب، والمسند (6/17).
(2) ... الكِنانة: جَعْبَة السهام تُتَّخذُ من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود فيها (اللسان، مادة: كنن).
(3) ... أخرجه مسلم (4/2299 ح3005)، وأحمد (6/16-17).
(4) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.
(5) ... ويقال له: هداب بن خالد، كما جاء في مسلم (4/2299).(1/607)
عليه قوم فقالوا: إنهم وجدوا ذلك الغلام -يعني: الذي ذكرناه- وهو واضع يده على صدغه، فكلما مُدَّت يده عادت إلى صدغه، فكتب عمر: واروه حيث وجدتموه (1) .
وروي عن علي عليه السلام أنه قال حين اختلف المسلمون في المجوس وما يجري عليهم من الأحكام: هم أهل كتاب، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله، فتناول أخته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السُّكْر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت؟ وما المخرجُ منه؟ قالت: تجمع أهل مملكتك فتُعلمهم أن الله قد أحلّ لهم ذلك، ففعل، فأبوا عليه، فخدَّ لهم أخدوداً في الأرض، وأوقدوا فيه النيران، وعرضهم عليها، فمن أبى قبول ذلك قذفه فيها، ومن أجاب خلى سبيله، فأنزل الله فيهم: { قتل أصحاب الأخدود } إلى قوله: { ولهم عذاب الحريق } (2) .
وقال قتادة: هم [ناس] (3) اقتتل مؤمنهم وكافرهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغْدُرَ بعضُهم ببعض، فغدر الكفار بهم، فأخذوهم، فقال لهم رجل من المؤمنين: أوقدوا ناراً واعرضونا عليها، فمن تابعكم على دينكم فذاك الذي تحبون، ومن لم يُتابعكم اقتحم النار، فاسترحتم منه، ففعلوا، فجعل
__________
(1) ... ذكر نحوه الواحدي في الوسيط (4/460) من قول ابن إسحاق عن عبدالله بن أبي بكر.
(2) ... أخرجه الطبري (30/132). وذكره الواحدي في الوسيط (4/460-461)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/74-75)، والسيوطي في الدر (8/467) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... زيادة من ب.(1/608)
المسلمون يقتحمونها (1) .
وقال الربيع بن أنس: اعتزل قومٌ من المؤمنين الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّارٌ من عَبَدة الأوثان، فَعَرَضَ عليهم الدخول في دينه، فأبوا، فاتخذ لهم أخدوداً فألقاهم فيه (2) .
وقال مقاتل (3) : آمن قومٌ من قوم يوسف بن ذي نُواس بأرض العرب، بعدما رُفع عيسى عليه السلام، فَخَدَّ لهم أُخدوداً وأضرم فيه النار، وعرض عليهم الكفر، وحرَّق من أبى منهم.
قال وهب بن منبه: كانوا اثني عشر ألفاً (4) .
واختلفوا في أصحاب الأخدود أين كانوا؟ وممن كانوا؟ فقال علي عليه السلام: كانوا في الحبش (5) .
وقال الحسن: من اليمن (6) .
وقال الضحاك: كانوا [من] (7) نصارى اليمن، قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/132). وذكره السيوطي في الدر (8/465) وعزاه لعبد بن حميد
... وابن المنذر.
(2) ... أخرجه الطبري (30/134)، وابن أبي حاتم (10/3414).
(3) ... تفسير مقاتل (3/469).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/76).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3413). وذكره الماوردي (6/241)، والسيوطي في الدر (8/465) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الحسن عن علي.
(6) ... ذكره الماوردي (6/242)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/76).
(7) ... زيادة من زاد المسير (9/76).(1/609)
بأربعين سنة (1) .
وقال مجاهد: من أهل نجران (2) .
وقال ابن عباس: من بني إسرائيل (3) .
وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان إذا ذَكَرَ أصحابَ الأخدود تعوَّذَ بالله من [جَهْدِ] (4) البلاء (5) .
قوله تعالى: { النارِ ذات الوقود } بدل من "الأخدود" (6) ، كأنه قال: قُتل أصحاب النار.
وفي قوله: "ذات الوقود" إيذان بأنها نارٌ شديدة الاضطرام.
وقرأ أبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد: "الوُقود" بضم الواو (7) . وقد ذكرناه في البقرة (8) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/242)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/76).
(2) ... أخرجه الطبري (30/133)، ومجاهد (ص:747). وذكره الماوردي (6/241)، والسيوطي في الدر (8/465) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الطبري (30/132). وذكره الماوردي (6/241)، والسيوطي في الدر (8/465) وعزاه لابن جرير.
(4) ... زيادة من مصادر التخريج.
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/79 ح34333). وذكره السيوطي في الدر (8/466) وعزاه لابن أبي شيبة عن عوف.
(6) ... انظر: التبيان (2/284)، والدر المصون (6/503).
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/77)، والدر المصون (6/503).
(8) ... عند الآية رقم: 24.(1/610)
قوله: { إذ } ظرف لـ"قُتِلَ" (1) ، على معنى: لُعنوا حين قعدوا على حافات الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر أو الإحراق.
قال مجاهد: كانوا قعوداً على الكراسي عند الأخدود (2) .
{ وهم } يعني: الملك وأصحابه { على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } حضورٌ، ينظرون ذلك ويشاهدونه.
يُشير بذلك: إلى قسوة قلوبهم، وفرط اجترائهم على الفساد.
وقيل: معنى شهادتهم على إحراق المؤمنين: أنهم وَكَّلُوا بذلك، وجَعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك، أن أحداً منهم لم يُفرّط فيما أمره وفوّض إليه من التعذيب.
وقيل: هم شهود يُؤدُّون شهادتهم يوم القيامة، { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [النور:24].
قوله تعالى: { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله } وقرأ جماعة: منهم أبو حيوة، وابن أبي عبلة: "نَقِمُوا" بكسر القاف (3) . وقد ذكرنا فيما مضى أنهما لغتان.
قال ابن عباس: ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا (4) .
وقال مقاتل (5) : ما عابوا عليهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/284)، والدر المصون (6/503).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/461).
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (9/77)، والدر المصون (6/503).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/461).
(5) ... تفسير مقاتل (3/470) ولفظه: ما عذبهم.(1/611)
وقد ذكرنا فيما مضى أنه كقول الشاعر:
ولا عيب فيهم ............ ... ........................... (1)
وقول الآخر:
ما نَقَمَ الناس من أميّةَ إلا ... ... [أنهم] (2) يَحْلُمُون إن غَضِبُوا (3)
{ والله على كل شيء } من إحراقهم المؤمنين وغيره { شهيد } لم يخفَ عليه ما صنعوا. وهذا وعيدٌ لهم.
قوله تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } وهم أصحاب الأخدود.
ومعنى: "فتنوا": أحرقوا. وقد ذكرناه في قوله: { يوم هم على النار يفتنون } [الذاريات:13].
{ ثم لم يتوبوا } من شركهم ومعاصيهم وما فعلوا بالمؤمنين { فلهم عذاب جهنم } جزاءً على كفرهم { ولهم عذاب الحريق } وهو عذابٌ زائد على عذاب جهنم، كأنها نار أخرى تُضرم لهم، فَيَصْلَوْنَها زيادة على ما يستحقه أمثالهم في الكفر.
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... البيت لابن قيس الرقيات. انظر: ديوانه (ص:4)، والخزانة (7/288)، والبحر المحيط (5/74)، وزاد المسير (3/471-472)، وتهذيب اللغة (9/202)، ومجاز القرآن (1/170)، والقرطبي (8/207)، والطبري (6/292)، وروح المعاني (6/173، 10/139).(1/612)
وقيل: لهم عذاب الحريق في الدنيا.
قال الكلبي: ارتفعت النار من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم (1) .
وقال الربيع بن أنس: قبض الله عز وجل أرواح المؤمنين قبل أن تمسهم النار، وخرجت النار على من في شفير الأخدود من الكفار، فأحرقتهم (2) .
¨bخ) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/461).
(2) ... أخرجه الطبري (30/134)، وابن أبي حاتم (10/3414). وذكره الثعلبي (10/174).(1/613)
لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ اثثب
قوله تعالى: { إن بطش ربك } أي: إن أخذه الجبابرة والظَّلَمَة بالعنف { لشديد } .
{ إنه هو يبدئ } الخلق في الدنيا { ويعيد } هم في الأخرى.
{ وهو الغفور } لذنوب المؤمنين { الودود } المحبّ لهم أو المتحبّب إليهم.
وقد فسرنا الودود في هود (1) .
{ ذو العرش } صاحبه.
قرأ حمزة والكسائي: "المجيدِ" بالجر، صفة العرش، يشير إلى علوّه
__________
(1) ... عند الآية رقم: 90.(1/614)
وعِظَمِه. وقرأ الباقون: "المجيدُ" بالرفع، صفة لذو العرش (1) . وهو أشبه؛ لأن المجيد لم يُسمع في غير صفة الله تعالى.
{ فعَّال لما يريد } فلا يُسأل عما يَفعل من تسليط الكافرين على المؤمنين وغيره.
وقال عطاء: لا يَعْجِزُ عن شيء يريدُه (2) .
قوله تعالى: { هل أتاك حديث الجنود } وهم الذين تجنّدوا وتحزّبوا على أولياء الله.
{ فرعونَ وثمود } بدلٌ من "الجنود" (3) .
والمعنى: قد عرفت تكذيبهم للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم.
{ بل الذين كفروا } من قومك { في تكذيب } يريد: في أيّ تكذيب.
وفي ضمن ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتخويفٌ لكفار (4) قريش، ألا تراه يقول: { والله من ورائهم } يريد: لا يفوتونه إذا طلبهم، أو لا يَخْفَوْن عليه.
{ بل هو } إشارة إلى الذين كَذَّبُوا به { قرآن مجيد } كريم عظيم عال على سائر الكتب؛ بما اشتمل عليه من البلاغة والحِكم والأحكام والإخبار بما كان ويكون، لا كما قالوا: سحر، وكهانة، وأساطير الأولين.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/110)، والحجة لابن زنجلة (ص:757)، والكشف (2/369)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:436)، والسبعة (ص:678).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/462).
(3) ... انظر: التبيان (2/284)، والدر المصون (6/504).
(4) ... في ب: كفار.(1/615)
وقرأ جماعة، منهم: أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع: "قرآنُ" بغير تنوين، "مجيدٍ" بالجر على الإضافة (1) .
{ في لوح محفوظ } عند الله، محروسٍ من الشياطين.
وقرأ نافع: "محفوظٌ" بالرفع، صفة لـ"قرآن" (2) ، كما قال: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر:9].
وقرأ [يحيى] (3) بن يعمر: "في لُوحٍ" بضم اللام (4) . واللُّوح: الهواء. يريد [والله] (5) أعلم: ما فوق السماء السابعة.
وقال الثعلبي -في هذه القراءة- (6) : المعنى: أنه يلوح، وهو ذو نور وعلو وشرف. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/79)، والدر المصون (6/504).
(2) ... الحجة للفارسي (4/112)، والحجة لابن زنجلة (ص:758)، والكشف (2/369)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:436)، والسبعة (ص:678).
(3) ... في الأصل: الجني. والتصويب من ب.
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/446)، والدر المصون (6/505).
(5) ... في الأصل: الله. والتصويب من ب.
(6) ... تفسير الثعلبي (10/175).(1/616)
سورة الطارق
ijk
وهي سبعة عشر آية (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
دن!$uK،،9$#ur وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ ة=ح !#uژ©I9$#ur (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:270).(1/617)
لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى مچح !#uژœ£9$# (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ اتةب
قال الله تعالى: { والسماء والطارق } يريد: النجم؛ [لأنه] (1) يَطْرُقُ ليلاً.
قال الفراء والزجاج وابن قتيبة (2) : كل من أتاك ليلاً [فقد] (3) طَرَقك.
قال المفسرون: يريد: جنس النجوم. ومنه قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق ... ...................... (4)
تريد: أن أبانا نجمٌ في ارتفاع شرفه وعلوّه.
ويروى [عن] (5) علي عليه السلام: أنه زحل (6) .
قال ابن عباس: هو نجم مسكنه في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم (7) .
__________
(1) ... في الأصل: لا. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الفراء (3/254)، والزجاج (5/311)، وتفسير غريب القرآن (ص:523).
(3) ... زيادة من ب، وتفسير غريب القرآن، الموضع السابق.
(4) ... تقدم.
(5) ... في الأصل: على. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره الطبري (30/142) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (9/81).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/81).(1/618)
وقال ابن زيد: يريد: الثريا (1) .
وقد ذكرنا أنه عَلَمٌ له فيما مضى.
{ وما أدراك ما الطارق } على معنى التعظيم له، والتفخيم لشأنه.
قال المفسرون: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدري ما المراد به لو لم يُنبَّه بقوله: { النجم الثاقب } أي: المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه.
وجواب القسم: { إن كلُّ نفس لما عليها حافظ } ، وقد ذكرنا اختلاف القراء السبعة في "لما" في يس عند قوله: { وإن كل لما } (2) ، وأشرنا إلى تعليل القراءتين، وأوضحنا القول في ذلك إيضاحاً شافياً، فاطلبه هناك.
وقرأ أبيّ بن كعب وأبو المتوكل: "إنَّ كلَّ نفس" بتشديد النون ونصب "كُلّ" (3) .
قال ابن عباس: هم الحفظة من الملائكة (4) .
قال قتادة: يحفظون عملك ورزقك وأجلك، إذا توفّيته يا ابن آدم قبضت إلى ربك (5) .
ثم نَبَّهَ على البعث بقوله: { فلينظر الإنسان مم خُلق } أي: فلينظر منكر البعث ببصيرته نظر تفكر واستدلال، من أيّ شيء خلقه الله؟!.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/142). وذكره السيوطي في الدر (8/474) وعزاه لابن جرير.
(2) ... عند الآية رقم: 32.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/81)، والدر المصون (6/506).
(4) ... أخرجه الطبري (30/143). وذكره السيبوطي في الدر (8/474) وعزاه لابن جرير.
(5) ... أخرجه الطبري (30/143). وذكره السيوطي في الدر (8/474) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/619)
وجواب هذا الاستفهام قوله: { خُلِقَ من ماء دافق } وهو المني. والدَّفْق: صَبٌّ فيه دفع. والمعنى: مدفوق.
قال الفراء (1) : هو كقول العرب: سِرٌ كاتم، وَهَمٌّ ناصب، وليلٌ نائم، وعِيشةٌ راضية، وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً.
وقال الزجاج (2) : مذهب سيبويه وأصحابه أن معناه: النسب إلى الاندفاق. المعنى: من ماء ذي اندفاق.
قال الزمخشري (3) : ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو [مصدر] (4) دفق، كاللاَّبن والتَّامر، أو الإسناد المجازي. والدفق في الحقيقة لصاحبه، قال: ولم يقل ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.
قوله: { يخرج من بين الصلب والترائب } قال الفراء (5) : يخرج من الصلب والترائب، تقول للشيئين: ليخرجن من بين هذين خير كثير، ومن هذين خير كثير.
وفي الصلب أيضاً لغات؛ ضم الصاد واللام (6) . -وبها قرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة-. وفتحهما (7) ، وقد قُرئ [بها] (8)
__________
(1) ... معاني الفراء (3/255).
(2) ... معاني الزجاج (5/311).
(3) ... الكشاف (4/736).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... معاني الفراء (3/255).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/82)، والدر المصون (6/507).
(7) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/449)، والدر المصون (6/507).
(8) ... في الأصل: بهما. والتصويب من ب.(1/620)
أيضاً، وصالب، بزيادة ألف.
والمعنى: يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة.
ويروى عن الحسن وقتادة: من بين صلب الرجل وترائبه (1) .
والترائب: عظام الصدر.
قال الزجاج (2) : أهل اللغة مجمعون على أن الترائب: موضع القلادة من الصدر، وأنشدوا لامرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَل (3)
قوله تعالى: { إنه على رجعه لقادر } قد حصر الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه أقوال المفسرين، ورتبها ترتيباً حسناً في هذه الآية فقال (4) : الهاء في "إنه" كناية عن الله عز وجل، "على رجعه" الرجع: رد الشيء إلى أول حاله. وفي هذه الهاء -يعني في قوله: "رجعه"- قولان:
أحدهما: أنها تعود على الإنسان، ثم في المعنى قولان:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/144) عن قتادة. وذكره الماوردي (6/246) عن الحسن وقتادة، والسيوطي في الدر (8/475) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(2) ... معاني الزجاج (5/312).
(3) ... البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:15)، واللسان (مادة: ترب، سجل)، والقرطبي (20/5)، وزاد المسير (9/83)، وروح المعاني (30/97)، والدر المصون (6/507)، والبحر (8/447)، وتاج العروس (مادة: ترب، فيض، هفف، سجل).
... والسجنجل: المرآة.
(4) ... زاد المسير (9/83-84).(1/621)
أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر. قاله الحسن وقتادة (1) .
قال الزجاج (2) : ويدل على هذا القول قوله: { يوم تبلى السرائر } .
الثاني: أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن حال الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر. قاله الضحاك والفراء (3) .
والقول الثاني: أنها تعود إلى الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: على رد الماء في الإحليل. قاله مجاهد (4) .
الثاني: على رده في الصلب. قاله عكرمة والضحاك (5) .
الثالث: على حبس الماء فلا يخرج. قاله ابن زيد (6) . انتهى كلام أبي الفرج رحمه الله.
فإن قيل: ما العامل في قوله: { يوم تبلى السرائر } ؟
قلتُ: المصدر الذي هو "رجع"، على معنى: إنه على رجع الإنسان لقادر في ذلك اليوم (7) . وهذا قول الحسن وقتادة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/146) عن قتادة.
(2) ... معاني الزجاج (5/312).
(3) ... أخرجه الطبري (30/146). وانظر: معاني الفراء (3/255).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:749)، والطبري (30/145).
(5) ... أخرجه الطبري (30/145).
(6) ... أخرجه الطبري (30/146).
(7) ... أخرجه الطبري (30/146) من قول قتادة.(1/622)
قال (1) : وهو الصحيح.
وعلى باقي الأقوال: العامل فيه مضمر، تقديره: اذكر يوم تبلى السرائر، أي: تُختبر الضمائر، وهي كل ما استسرَّ الإنسان به من خير أو شر، وأنشدوا قول الأحوص:
سَتَبْقَى لها في مُضْمَر القلبِ والحَشَا ... سريرةُ وُدٍّ يومَ تُبلى السرائرُ (2)
ويروى: أن الحسن سمع رجلاً ينشد هذا البيت فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق.
وهذا الأحوص أحد الشعراء الذين تجمّعوا بباب عمر بن عبدالعزيز حين وُلِّيَ، ومنعهم الدخول عليه، وأنشد لكل [شاعر] (3) منهم شعراً جعله [سبب] (4) رده، فكان هذا البيت سبب رد الأحوص وصدّه [من] (5) الإذن له.
قال ابن عمر: يُبدي الله يوم القيامة كل شيء، فيكون زَيْناً في الوجوه وشَيْناً في الوجوه (6) .
قوله تعالى: { فما له } يعني: فما للإنسان (7) { من قوة } يمتنع بها من
__________
(1) ... أي: الطبري في تفسيره (30/146)، ولم يتقدم له ذكر في هذه المسألة.
(2) ... البيت للأحوص، وهو في: اللسان (مادة: ضمر)، وتاج العروس (مادة: ضمر)، والقرطبي (20/8)، والماوردي (6/248)، والبحر (8/450).
(3) ... في الأصل: واحد. والمثبت من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/466).
(7) ... في ب: يعني: للإنسان.(1/623)
عذاب الله { ولا ناصر } يدفع عنه ذلك.
دن!$uK،،9$#ur ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا اتذب
قوله تعالى: { والسماء ذات الرجع } يريد: المطر.
قال الزجاج (1) : سمي بذلك؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر.
وقال الزمخشري (2) : العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يُرجعه إلى الأرض، أو أرادوا التفاؤل فسموه رَجْعاً ليرجع.
{ والأرضِ ذات الصَّدْع } قال المفسرون واللغويون: تتصدَّع عن النبات
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/312).
(2) ... الكشاف (4/737).(1/624)
والأشجار.
وجواب القسم: { إنه لقول فَصْل } يريد: القرآنُ يَفصل بين الحق والباطل.
{ وما هو بالهزل } أي: هو جِدٌّ محضٌ، لا هوادة فيه.
وقيل: الضمير في قوله: "إنه لقول" كناية عن الوعيد المتقدم ذكره.
قوله تعالى: { إنهم } يعني: كفار قريش { يكيدون كيداً } يعملون المكايد في إبطال أمري، وإطفاء النور الذي بَعثتُ به رسولي.
{ وأكيد كيداً } أستدرجهم من حيث لا يعلمون.
{ فمهِّل الكافرين } ارتقبهم منتظراً ما أُحِلَّ بهم في الدنيا من العذاب والصَّغار، فظهر ذلك في يوم بدر وغيره، حتى استأصل الله تعالى شأفتهم، وأسكت نامتهم.
{ أمهلهم رويداً } أي: إمهالاً يسيراً. و"رويداً" نصبٌ على المصدر (1) .
قال ابن قتيبة (2) : لا يُتكلم برويداً إلا مُصغّرة مأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير [معنى] (3) الأمر.
وأنشد الكسائي:
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/285)، والدر المصون (6/508).
(2) ... تأويل مشكل القرآن (ص:559).
(3) ... زيادة من تأويل مشكل القرآن (ص:559).(1/625)
تكادُ لا تَكْلِمُ البطحاءَ خُطْوَتُهُ ... كأنه ثَمِلٌ يمشي على رُود (1)
وبعض المفسرين يقول: الإمهال منسوخ بآية السيف (2) . ولا مدخل للنسخ هاهنا، على ما قررنا في غير موضع. [والله أعلم] (3) .
__________
(1) ... البيت للجموح الظفري، وهو في: اللسان (مادة: رود)، وابن يعيش (4/29)، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري (ص:403)، والدر المصون (6/508)، وتاج العروس (مادة: رود).
(2) ... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:196)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:65)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:506).
(3) ... بياض في الأصل قدر كلمتين. والزيادة من ب.(1/626)
سورة الأعلى
ijk
وهي تسعُ عشرة آية (1) ، [وهي مكية] (2) بإجماعهم (3) .
أخرج الإمام أحمد (4) من حديث علي عليه السلام قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّ هذه السورة { سبح اسم ربك الأعلى } " (5) .
ثxخm7y™ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:271).
(2) ... في الأصل: ومكية. والمثبت من ب.
(3) ... قال السيوطي في الإتقان (1/45): الجمهور على أنها مكية. وقال ابن الغرس: وقيل: إنها مدنية؛ لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها.
(4) ... في هامش ب: وأخرج من حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى" (مسند أحمد 1/232 ح2066). وأخرجه أبو داود (1/233 ح883) وقال: وروي موقوفاً على ابن عباس، فالله أعلم.
(5) ... أخرجه أحمد (1/96 ح742).(1/627)
الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى اتجب
قال الله تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى } قال الفراء (1) : سبح اسم ربك،
__________
(1) ... معاني الفراء (3/256).(1/628)
وسبح باسم ربك: سواء في كلام العرب.
وغيره يقول: الاسم صلة، كقول لبيد:
....... ثم اسم السلام ..... ... ......................... (1)
وقد سبق ذلك.
قال الزجاج (2) وجمهورُ المفسرين واللغويين: نَزِّه ربك عن السوء، وقل: سبحان ربي الأعلى.
وروي عن ابن عباس: أن المعنى: صَلِّ بأمر ربك (3) .
وقال ابن جرير الطبري (4) : نَزِّهْ اسم ربك الأعلى أن يسمى باسمه أحد سواه.
{ الذي خلق فسوّى } أي: خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية تؤذن بحكمة بالغة.
{ والذي قَدَّرَ فهدى } قال عطاء: قَدَّرَ لكل دابة ما يُصلحها، ثم هداها إليه (5) .
ومن تَلَمَّحَ شأنَ الإنسان، وتَصَفَّحَ أحوالَ سائر الحيوان، وتطلّب ما
__________
(1) ... جزء من بيت للبيد بن ربيعة، وهو:
... ... ... إلى الحول ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَد اعْتَذَرْ
... وقد تقدم تخريجه.
(2) ... معاني الزجاج (5/315).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/87).
(4) ... تفسير الطبري (30/151).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/88).(1/629)
استودع من الحِكم البديعة وأُلهم من الطرق التي يهتدي بها إلى مصالحه رأى عجائب.
ويحكى: أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن سبب شفائها حكُّ عينيها بورق الرَّازْيَانج الغضّ، وربما كانت في فلاة نائية عن الريف، فتطوي تلك المسافة عمياء، حتى تهجم على بعض البساتين فتحك عينيها بورق الرَّازْيَانج الغضّ، فترجع بصيرة بإذن الله تعالى (1) .
وقال مجاهد وغيره: قدَّر الشقاوة والسعادة (2) ، فهدى من [شاء] (3) إلى ما شاء منهما.
وقال السدي: قَدَّرَ مدة الجنين في رحم أمه، ثم هداه للخروج (4) .
وقال مقاتل (5) : قدَّرهم ذكوراً وإناثاً، وهدى الذَّكر لإتيان الأنثى.
قال صاحب النظم: إتيان ذكران الحيوان يختلف؛ لاختلاف الصور والخلق والهيئات، فلولا أنه عز وجل جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/739).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:751)، والطبري (30/152)، وابن أبي حاتم (10/3416). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/482) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... في الأصل: يشاء. والمثبت من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/470)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/88).
(5) ... تفسير مقاتل (3/476).(1/630)
أنثاه لما اهتدى لذلك (1) .
وقرأ الكسائي وحده: "قَدَرَ" بتخفيف الدال (2) ، من القُدرة على الأشياء والملك لها.
والمعنى: قَدَرَ فهدى وأضلّ، فحذف الضلال؛ لدلالة الهدى عليه.
وقيل: هو من التقدير، كالقراءة المشددة، كما قال: { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [الشورى:12].
قوله تعالى: { والذي أخرج المرعى } أي: أنبت العُشب، { فجعله } بعد الخضرة { غثاءً } هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق السيل، { أحوى } أسود بعد أن كان أخضر، وذلك أن الكلأ [إذا] (3) تناهى جفافه اسودّ.
ويجوز أن يكون "أحوى" حالاً من "المرعى" (4) .
قال الفراء (5) : أخرج المرعى أحوى، أسود من الخضرة والرِّيِّ فجعله غثاء، كما قال: { مدهامتان } [الرحمن:64].
قوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى } قال مقاتل (6) : سنعلمك القرآن ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/470).
(2) ... الحجة للفارسي (4/114)، والحجة لابن زنجلة (ص:758)، والكشف (2/370)، والنشر (2/399)، والإتحاف (ص:437)، والسبعة (ص:680).
(3) ... في الأصل: إذ. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: التبيان (2/285)، والدر المصون (6/509).
(5) ... معاني الفراء (3/256).
(6) ... تفسير مقاتل (3/476).(1/631)
قوله تعالى: { إلا ما شاء الله } قال الحسن وقتادة: إلا ما شاء الله أن ينسخه، فتنساه (1) .
ويروى عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يُبادره بالقراءة خوف النسيان، فنزلت هذه الآية (2) . وقد ذكرنا مثل ذلك عند قوله: { لا تحرك به لسانك لتعجل به } [القيامة:16]، فيكون ذلك خارجاً مخرج البشارة له بأنه لا ينسى ما جاءه [به جبريل] (3) من القرآن، استنزالاً له - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الحرص المفرط، وتثبيتاً لقلبه الكريم.
وقيل: إلا ما شاء الله مما عساه أن تنساه، ثم [تتذكّره] (4) بعد ذلك على ما عليه عادة المَهَرَة من القرّاء.
وقيل: هو استثناء لما لا يقع.
قال الفراء (5) : لم يشأ أن ينسى شيئاً، وإنما هو كقوله: { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } [هود:107] ولا يشاء.
وقيل: إن قوله: { فلا تنسى } نهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن النسيان، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله: "السبيلا"، و"الرسولا"، و"الظنونا". فيكون المعنى: فلا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/154). وذكره الماوردي (6/253)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/90).
(2) ... أخرجه الطبراني في الكبير (12/120 ح12649). وذكره السيوطي في الدر (8/483) وعزاه للطبراني وابن مردويه.
(3) ... في الأصل: جبريل به. والمثبت من ب.
(4) ... في الأصل: تذكره. والتصويب من ب.
(5) ... معاني الفراء (3/256).(1/632)
تُغفل قراءته ودراسته فتنساه إلا ما شاء الله أن يُنسيكه برفع تلاوته.
{ إنه يعلم الجهر } من القول والفعل { وما يخفى } منهما.
قوله تعالى: { ونيسرك لليسرى } معطوف على "سنقرئك". والمعنى: سنوفقك (1) للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعني: حفظ الوحي.
وقيل: للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع.
وقيل: نيسرك لعمل الخير.
{ فذكر } أي: فَعِظْ أهل مكة.
قال صاحب الكشاف (2) : إن قلت: كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالذكرى، نفعت أو لم تنفع، فما معنى اشتراط النفع؟
قلتُ: هو على وجهين:
أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتواً وطغياناً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلظى حسرةً وتلهّفاً، ويزداد جِدّاً في تذكيرهم وحرصاً عليه، فقيل له: { وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } [ق:45]، و { أعرض عنهم وقل سلام } [الزخرف:89]، { فذكر إن نفعت الذكرى } ، وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير.
الثاني: أن يكون ظاهره شرطاً، ومعناه ذماً للمذكّرين، وإخباراً عن حالهم، واستبعاداً لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيلاً عليهم بالطبع على قلوبهم،
__________
(1) ... في ب: ونوفقك.
(2) ... الكشاف (4/741).(1/633)
كما تقول للواعظ: عِظ المكّاسين إن قبلوا منك. قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون.
قوله تعالى: { سيذكر } أي: سيَقْبَلُ التذكرة وينتفع بها { من يخشى } الله وسوء العاقبة.
{ ويتجنبها } أي: ويترك الذكرى جانباً { الأشقى } الكافر.
{ الذي يصلى النار الكبرى } وهي نار جهنم، فإنها أكبر وأشد حراً من نار الدنيا.
وقيل: هي السفلى من أطباق النيران.
{ ثم لا يموت فيها } فيستريح بانقطاع العذاب عنه { ولا يحيى } حياة تنفعه، كما قيل:
ألا مَا لِنَفْسِي لا تموتُ فينقضِي ... عَنَاهَا ولا تحيا حَيَاةً لها طَعْمُ (1)
وقد سبق هذا في غير هذا الموضع.
وقال ابن جرير (2) : تصيرُ نفس أحدهم في حلقه فلا تفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.
ô‰s% أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... تفسير الطبري (30/155).(1/634)
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى اتزب
قوله تعالى: { قد أفلح من تزكى } قال الزجاج (1) : أي: قد صادف البقاء الدائم والفوز من تكثّر بتقوى الله. والشيء الزاكي: النامي الكثير.
وهذا يجمع قول ابن عباس: تطهّر من الشرك بالإيمان (2) .
وقول الحسن: من كان عمله زاكياً (3) .
وقيل: هو تفعُّل من الزكاة، كتصدّق من الصدقة.
قال أبو سعيد الخدري وعطاء وقتادة: أعطى صدقة الفطر (4) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/316).
(2) ... أخرجه الطبري (30/156)، وابن أبي حاتم (10/3417). وذكره السيوطي في الدر (8/484) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (30/156). وذكره الماوردي (6/255).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3418). وذكره السيوطي في الدر (8/485) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري.(1/635)
وقال غيرهم: أخرج زكاة ماله.
{ وذكر اسم ربه فصلى } قال ابن عباس: ذكر معادَه وموقفه بين يدي الله (1) ، فصلى الصلوات الخمس (2) .
وقال الضحاك: ذكر اسم ربه في طريق المصلَّى، فصلَّى صلاة العيد (3) .
وقال أبو سعيد الخدري: صلَّى العيدين (4) .
واعلم أن هذه السورة مكية بالإجماع، وزكاة المال وصدقة الفطر وصلاة العيدين شُرعت بالمدينة، فلا وجه لتفسير الآيتين بهذه الأحكام (5) .
قوله تعالى: { بل تؤثرون } قرأ أبو عمرو وحده: "بل يؤثرون" بالياء، على الغيبة، حملاً على قوله: { الأشقى } ، فإنه اسم جنس. وقرأ الباقون بالتاء
__________
(1) ... في ب: ربه.
(2) ... أخرجه الطبري (30/157)، وابن أبي حاتم (10/3417). وذكره السيوطي في الدر (8/484) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
... وفي هامش ب: وأخرج البزار من حديث جابر رفعه: { قد أفلح من تزكى } قال: من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله. { وذكر اسم ربه فصلى } قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها.
(3) ... ذكره القرطبي (20/23).
(4) ... ذكره الماوردي (6/255)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/92)، والسيوطي في الدر (8/485).
(5) ... في هامش ب: أخرج البزار في مسنده (8/313 ح3383) من حديث كثير بن عبدالله بن عوف عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي العيد، ويتلو هذه الآية: { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى... } .(1/636)
على الخطاب (1) .
واختلفوا هل ذلك خطاب للكفار أو هو على عمومه في الجميع، فإنهم طُبعوا على إيثار الدنيا والميل إليها، إلا من عصم الله تعالى.
قال ابن مسعود: إن الدنيا أُحضرت وعُجّلت لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذّتها وبهجتُها، وإن الآخرة نُعتت لنا وزُويت عنّا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل (2) .
والمعنى: يؤثرونها فلا يفعلون ما يُفلحون به.
{ والآخرة } يعني: الجنة { خير } من زهرة الحياة الدنيا، { وأبقى } أدوم من الدنيا الفانية.
قوله تعالى: { إن هذا } إشارة إلى قوله: { قد أفلح من تزكى } إلى قوله: { خير وأبقى } . يريد: أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.
وقيل: إنه إشارة إلى ما في السورة كلها، وهو قول جماعة، منهم: أبو
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/114)، والحجة لابن زنجلة (ص:759)، والكشف (2/370)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:437)، والسبعة (ص:680).
(2) ... أخرجه الطبري (30/157)، والطبراني في الكبير (9/234 ح9147)، والبيهقي في الشعب (7/376 ح10645). وذكره السيوطي في الدر (8/487) وعزاه لابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان.
... وفي هامش ب: هذا منه على وجه هضم نفسه وعدم تزكيتها، أو أخبر به عن الجنس من حيث هو.(1/637)
العالية (1) .
وقال الحسن: الإشارة إلى القرآن (2) ، فيكون مثل قوله: { وإنه لفي زبر الأولين } [الشعراء:196].
وقوله: { صحف إبراهيم وموسى } مُفسّر في النجم (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/158)، وابن أبي حاتم (10/3419). وذكره السيوطي في الدر (8/488) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3419) عن الحسن رضي الله عنه { إن هذا لفي الصحف الأولى } قال: في كتب الله كلها. وذكره السيوطي في الدر (8/488) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... عند الآية رقم: 36.(1/638)
سورة الغاشية
ijk
وهي ست وعشرون آية (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
ِ@yd أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ اذب
قال الله تعالى: { هل أتاك حديث الغاشية } قال ابن عباس: هي القيامة تغشى الناس بالأهوال (2) .
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:272).
(2) ... أخرجه الطبري (30/159)، وابن أبي حاتم (10/3420).(1/639)
وقال سعيد بن جبير ومقاتل (1) : هي النار تغشى وجوه الكفار.
{ وجوه يومئذ خاشعة } ذليلة، وهي وجوه الكفار.
وقال ابن عباس: هي وجوه اليهود والنصارى (2) .
قوله تعالى: { عاملة ناصبة } الوصف للوجوه، والمراد: أصحابها.
واختلفوا في موضع العمل؛ فقال قوم: عاملة في الدنيا.
قال ابن عباس في رواية أبي الضحى: هم الرهبان وأصحاب الصوامع (3) .
وقال في رواية عطاء: هم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان والرهبان وغيرهم (4) .
وقال عكرمة والسدي: عاملةٌ في الدنيا بالمعاصي، ناصبةٌ في النار يوم القيامة (5) .
وقال قوم: عاملة في النار.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/159). وذكره مقاتل في تفسيره (3/478)، والماوردي (6/257)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/94).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3420). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/491) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/473)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/95).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3420) عن عكرمة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/95) عن عكرمة والسدي، والسيوطي في الدر (8/491) وعزاه لابن أبي حاتم عن عكرمة.(1/640)
قال ابن عباس -في رواية عنه- والحسن: عاملة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال؛ لأنها لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها ناصبة في النار (1) .
قال الضحاك: يكلفون ارتقاء جبل في النار من حديد (2) .
قوله تعالى: { تصلى ناراً حامية } قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: "تُصلى" بضم التاء، جعلاه فعلاً رباعياً لم يُسمّ فاعله، متعدياً إلى مفعولين، أحدهما مضمر في الفعل يعود على أصحاب الوجوه المذكورة. والثاني: "ناراً". وقرأ الباقون: بفتح التاء (3) ، وهو في معنى قوله: { وسيصلون سعيراً } [النساء:10]. وقد سبق تفسيره.
قوله تعالى: { تسقى من عين آنية } أي: متناهية في الحر؛ كقوله: { وبين حميم آن } [الرحمن:44].
قال الحسن رحمه الله: قد أُوقدت عليها جهنم مذ خُلقت فدُفِعُوا إليها عِطاشاً (4) .
قوله تعالى: { إلا من ضريع } قال ابن عباس في رواية العوفي: هو نبتٌ ذو شوك لاطئٌ بالأرض، تسميه قريش: الشِّبْرِق (5) ، فإذا هاج سموه
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/95).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (4/115)، والحجة لابن زنجلة (ص:759)، والكشف (2/370-371)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:437)، والسبعة (ص:759).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/474)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/96).
(5) ... الشبرق: نبات غضٌّ، وقيل: شجرمَنْبِته نجد وتهامة وثمرتُه شاكة صغيرة الجرم حرام مثل الدم، منبتها السِّباخ والقِيعان، واحدته شِبْرِقة وقالوا إذا يَبِس الضَّرِيع (اللسان، مادة: شبرق).(1/641)
ضريعاً (1) . وأنشدوا قول أبي ذؤيب:
رَعَى الشَّبْرِقَ [الرَّيَّان] (2) حتى إذا ذوَى ... وعَادَ ضَريعاً بَانَ عنه النَّحَائِصُ (3)
وقال في رواية الوالبي: هو شجرٌ من نار (4) .
ولا تنافي بين القولين.
قال ابن زيد: الضريع في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة: شوك من نار (5) .
واعلم أن أهل النار متفاوتون في العذاب، كما قال تعالى: { لكل باب منهم جزء مقسوم } [الحجر:44]، فمنهم من ليس له طعام إلا من ضريع، ومنهم من ليس له طعام إلا من غسلين، ومنهم من طعامه الزقوم (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/162)، وابن أبي حاتم (10/3421) كلاهما عن عكرمة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/96).
(2) ... في الأصل: الريحان. والمثبت من ب.
(3) ... البيت لأبي ذؤيب. وهو في: البحر (8/456)، والدر المصون (6/513)، والقرطبي (20/30)، وروح المعاني (30/113)، والماوردي (6/259).
(4) ... أخرجه الطبري (30/162)، وابن أبي حاتم (10/3420). وذكره السيوطي في الدر (8/491) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (30/162). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/96).
(6) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (9/97): فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: { ليس لهم طعام إلا من ضريع } وفي مكان آخر: { ولا طعامٌ إلا من غسلين } [الحاقة:36] فكيف الجمع بينهما؟
... فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ومنهم مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد.(1/642)
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله: { لا يسمن ولا يغني من جوع } (1) .
×nqم_مr يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ اتدب
قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناعمة } أي: ذات بهجة وحُسن.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/475)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/97).(1/643)
{ لسعيها راضية } (1) أي: راضية [بعملها] (2) حين شاهدت ما أفضى بهم إليه من الكرامة.
{ في جنة عالية } في المكان والمقدار.
{ لا تَسْمَعُ فيها لاغية } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يُسْمَعُ" بياء مضمومة، "لاغيةٌ" بالرفع. ومثلهما قرأ نافع، غير أنه قرأ: "تُسْمَعُ" بالتاء؛ لتأنيث "لاغية". وقرأ الباقون: بتاء مفتوحة، "لاغيةً" بالنصب (3) .
والمعنى: لا تسمع فيها كلمة ذات لغو، أو نفساً لاغية، فإن أهل الجنة مُنزَّهون عن العبث.
قوله تعالى: { فيها عين جارية } أي: عيون كثيرة، فهو مثل قوله: { علمت نفسٌ ما أحضرت } [التكوير:14]، وقد سبق.
{ فيها سرر مرفوعة } قال ابن عباس: ألواحُها من ذهب، مكللةٌ بالزبرجد والدرّ والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها (4) .
{ وأكواب موضوعة } (5) كلما أرادوها وجدوها عتيدة حاضرة عندهم.
وقيل: موضوعة على حافات العيون.
__________
(1) ... في هامش ب: أي لجزاء أو لثواب سعيها راضية، حين تشاهده ترضى به.
(2) ... في الأصل: لعملها. والمثبت من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (4/115)، والحجة لابن زنجلة (ص:760)، والكشف (2/371)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:437)، والسبعة (ص:681).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/475)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/98).
(5) ... في هامش ب: مفرده: كوب، أواني لا آذان لها ولا خراطيم ليشرب من أي ناحية شاء.(1/644)
{ ونمارق مصفوفة } أي: وسائد ومساند قد صُفَّ بعضها إلى بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مِسْوَرَة، واستند إلى أخرى.
وواحدة النمارق: "نُمْرُقة" بضم النون والراء.
وسمع الفراء من بعض العرب: "نِمْرِقة" بكسرهما (1) .
{ وزرابيّ مبثوثة } أي: مبسوطة ومفرَّقة في المجالس.
والزرابي: الطَّنَافس ذوات الخمل الرقيق، الواحدة: زَرْبِيَّة (2) .
قال المفسرون: لما نعت الله ما في الجنة عَجِبَ كفار قريش من ذلك، فذكَّرهم من عجائب مخلوقاته مما يشاهدونه، أو هو حاضر عندهم، عتيد لديهم، ليعتبروا الغائب بالشاهد، فقال تعالى:
ںxsùr& يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ
__________
(1) ... انظر: معاني الفراء (3/258).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: زرب).(1/645)
سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ اثدب
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } قال قتادة: ذكر الله ارتفاع سرر الجنة فقالوا: كيف نصعدها؟ فنزلت: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } (1) .
قال سعيد بن جبير: لقيت شريحاً القاضي فقلت: أين تريد؟ فقال: أريد الكُنَاسَة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت (2) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (6/262)، والواحدي في الوسيط (4/476)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/99).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/476). وذكر نحوه السيوطي في الدر (8/495) وعزاه لعبد بن حميد عن شريح.(1/646)
والمعنى: كيف خلقت خلقاً عجيباً عظيماً.
قال أبو عمرو ابن العلاء: إنما خَصَّ الإبل؛ لأنها من ذوات الأربع، تبرك فتُحمل عليها الحمولة، وغيرها من ذوات الأربع لا يُحمل عليها إلا وهي قائمة (1) .
قال الزجاج (2) : نبّههم على عظيمٍ من خَلْقِهِ قد ذلَّلَهُ [للصغير] (3) يقوده ويُنيخُه ويُنهضه، ويُحمَّل الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض به.
وقيل للحسن: الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير، لا يُركب ظهره، ولا يُؤكل لحمه، ولا يُحلب دَرُّه، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه، تأكل النوى والقت، وتُخرج اللبن، ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها (4) .
قال الثعلبي والواحدي (5) : ويحكى أن فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجرُّها وهي تتبعُها، حتى دخلت في (6) الجُحْر، فجرّت الزمام فبركت، فقرّبت فمها من جُحْر الفأرة. وقد قررنا هذا المعنى في آخر يس.
وقرأ ابن عباس، وأبو عمران، والأصمعي عن أبي عمرو: "الإبْل"
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/476).
(2) ... معاني الزجاج (5/318).
(3) ... في الأصل: لصغير. والمثبت من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/476).
(5) ... تفسير الثعلبي (10/189)، والوسيط للواحدي (4/476).
(6) ... قوله: "في" سقط من ب.(1/647)
بإسكان الباء (1) .
وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، وهارون عن أبي عمرو: بكسر الباء وتشديد اللام (2) .
قال أبو عمرو: الإبلّ -بتشديد اللام-: السحاب الذي يحمل الماء (3) .
قال الثعلبي (4) : لم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
قال الزمخشري (5) : لم يَدَّعِ من زعم أن الإبلّ السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبلّ من أسماء السحاب، كالغمام والمزن، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل [كثيراً في أشعارهم] (6) ، فجوّز أن يُراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز.
وقرأ جماعة، منهم: أبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: "خَلَقْتُ" بفتح الخاء واللام وسكون القاف وضم التاء (7) . وكذلك "رَفَعْتُ" و"نَصَبْتُ" و"سَطَحْتُ".
قال أنس بن مالك: صليت خلف علي بن أبي طالب عليه السلام فقرأ:
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/99)، والبحر المحيط (8/459).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير، الموضع السابق.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/99).
(4) ... تفسير الثعلبي (10/190). وذكره القرطبي في تفسيره (20/35).
(5) ... الكشاف (4/747).
(6) ... في الأصل: في أشعارهم كثيراً. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/99)، والدر المصون (6/514).(1/648)
"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خَلَقْتُ" (1) .
وكذلك: "رَفَعْتُ" و"نَصَبْتُ" و"سَطَحْتُ" يعني: على البناء للفاعل وتاء الضمير. والتقدير: خَلَقْتُها ورَفَعْتُها ونَصَبْتُها وسَطَحْتُها، فحذف المفعول.
قوله تعالى: { وإلى السماء كيف رفعت } أي: رفعت (2) بغير علاقة ولا دعامة.
{ وإلى الجبال كيف نصبت } نصباً رصيناً متيناً، فهي شامخة راسخة، لا تميد ولا تحيد.
{ وإلى الأرض كيف سطحت } سطحاً وثيراً، تتأتّى معه إثارتها لاستثمار الزرع والأشجار، وعمَارَتُها للسكن والقرار.
قوله تعالى: { فذكر إنما أنت مذكر } أي: عِظْ إنما أنت واعظ، وهو كقوله: { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى:48].
والمفسرون يقولون: هي منسوخة بآية القتال (3) .
{ لست عليهم بمسيطر } أي: بمسلّط. وقد سبق تفسيره في الطور عند قوله: { أم هم المصيطرون } [الطور:37].
قوله تعالى: { إلا من تولى وكفر } استثناء منقطع، معناه: لكن من تولى
__________
(1) ... ذكره القرطبي (20/36).
(2) ... قوله: أي رفعت. ساقط من ب.
(3) ... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:197)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:65)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:507).(1/649)
وكفر بعد التذكرة (1) { فيعذبه الله } .
وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس، وقتادة، وسعيد بن جبير: "ألا" بفتح الهمزة وتخفيف اللام، على التنبيه (2) .
والمعنى: فيعذبه الله في الآخرة { العذاب الأكبر } ، وهو عذاب جهنم، بعد العذاب الأصغر، وهو ما ابتلاهم به من الجوع والقتل والذل.
{ إن إلينا إيابهم } رجوعهم ومصيرهم بعد الموت.
{ ثم إن علينا حسابهم } يعني: جزاءهم.
وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وأبو جعفر المدني: "إيّابهم" بتشديد الياء (3) .
قال الزمخشري (4) : وجهُهُ أن يكون "فِيعَالاً" مصدر "أيَّب" فَيْعَلَ من الإياب، أو يكون أصله: "إِوَّاباً" فِعَّالاً من "أوَّبَ".
ثم قيل: إيواباً؛ كديوانٍ في دوّان (5) ، ثم فُعل به ما فُعل بأصل: سيّد.
فإن قلت: ما معنى تقديم الظرف؟
قلتُ: معناه التشديد في الوعيد، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر
__________
(1) ... في ب: التذكير.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/100)، والبحر المحيط (8/460).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (9/101)، والنشر (2/400)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:438).
(4) ... الكشاف (4/747-748).
(5) ... قوله: "في دوان" ساقط من ب.(1/650)
على الانتقام، وأن حسابهم [ليس] (1) إلا على الذي يُحاسب على النقير والقطمير. والله أعلم.
__________
(1) ... زيادة من ب، والكشاف (4/748).(1/651)
سورة الفجر
ijk
وهي ثلاثون آية في العدد الكوفي، واثنتان وثلاثون في المدني (1) . وهي مكية بإجماعهم.
جچôfxےّ9$#ur (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:273).(1/652)
بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ اتحب
قال الله تعالى: { والفجر } قال ابن فارس (1) : الفَجْر: انفِجارُ الظُّلمة عن الصُّبح، وانفَجَرَ الماء: [تَفَتَّحَ] (2) .
والظاهر أن القَسَم به، كما أقسَم بالصبح في قوله: { والصبح إذا أسفر } (3) [المدثر:34].
وقال عطية: فيه إضمار، تقديره: وصلاة الفجر (4) .
والأول أصح.
__________
(1) ... معجم مقاييس اللغة (4/475).
(2) ... في الأصل و ب: انفتح. والتصويب من معجم مقاييس اللغة، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: { والصبح إذا تنفس } ، والمثبت من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/103).(1/653)
قال ابن عباس: هو انفجار الصبح كل يوم (1) .
وقال مجاهد: يوم النحر (2) .
وقال قتادة: هو أول يوم من المحرم، تنفجر منه السنة (3) .
وقال الضحاك: فجر ذي الحجة (4) ، لقوله: { وليال عشر } يريد: عشر ذي الحجة، في قول جمهور المفسرين.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس: أنه العشر الآخر من رمضان (5) .
وقال يمان: عشر المحرم (6) .
فإن قيل: لم نكّر الليالي العشر؟
قلتُ: لموضع اختصاصها بزيادة الفضيلة.
قوله تعالى: { والشفع والوَتْر } قرأ حمزة والكسائي: "والوِتْر" بكسر الواو، وفتحها الباقون (7) . وهما لغتان.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/478)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/103).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3423). وذكره الماوردي (6/265)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/103)، والسيوطي في الدر (8/498) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/478)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/103).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3423). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/104)، والسيوطي في الدر (8/502) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/104).
(7) ... الحجة للفارسي (4/117)، والحجة لابن زنجلة (ص:761)، والكشف (2/372)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:683).(1/654)
وللمفسرين في الشفع والوتر عشرون قولاً، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أيضاً روايات: منها: ما أخرجه الترمذي من حديث عمران بن حصين: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الشفع والوتر فقال: هي الصلاة، بعضُها شفع وبعضها وتر" (1) ، وهو اختيار قتادة (2) .
وروى أبو أيوب الأنصاري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن قوله: { والشفع والوتر } فقال: الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر" (3) .
وروى جابر بن عبدالله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة" (4) .
ويقع لي والله أعلم في هذا الحديث: أن يوم النحر سمي شفعاً؛ لأنه يُشفع بليلة النحر، فهي مماثلة له في الفضيلة. وهذا قول عكرمة والضحاك.
وقال أبو صالح: الشفع: الخلق كله، والوتر: الله عز وجل (5) .
وقيل: الوتر: آدم شُفِعَ بزوجته حواء (6) . وهذه الأقوال [الثلاثة] (7) مروية
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/440 ح3342).
(2) ... أخرجه الطبري (30/172). وذكره الواحدي في الوسيط (4/479-480)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/105)، والسيوطي في الدر (8/502) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... أخرجه الطبراني في الكبير (4/180 ح4073). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/104)، والسيوطي في الدر (8/503) وعزاه للطبراني وابن مردويه بسند ضعيف.
(4) ... ذكره الماوردي (6/266)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/104).
(5) ... أخرجه الطبري (30/171). وذكره الواحدي في الوسيط (4/479)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/106)، والسيوطي في الدر (8/503) وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/106).
(7) ... في الأصل: اليلة. والتصويب من ب.(1/655)
عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفعٌ ومنه وتر (1) .
وقيل غير ذلك، مما لا طائل في حكايته.
قوله تعالى: { والليل إذا يَسْرِ } أثبت الياء في الحالين: ابن كثير، ووافقه في الوصل: نافع وأبو عمرو، وحذفها الباقون في الحالين اكتفاء بالكسرة (2) . وهي اختيار الزجاج (3) ؛ لأنها فواصل، والفواصل تحذف منها الياءات، وتدل عليها الكسرات.
والمعنى: إذا يسري ذاهباً مدبراً، كقوله: { والليل إذ أدبر } [المدثر:33]، وقوله: { والليل إذا عسعس } [التكوير:17].
وقال قتادة: إذا يسري مقبلاً (4) .
والأول أصح، وعليه جمهور المفسرين، وهو اختيار الزجاج (5) .
قوله تعالى: { هل في ذلك قسم لذي حِجْر } أي: هل فيما أقسمت به قسم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (30/171) عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/106) عن ابن زيد.
(2) ... الحجة للفارسي (4/117)، والحجة لابن زنجلة (ص:761)، والكشف (2/374)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:683).
(3) ... انظر: معاني الزجاج (5/321).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/108).
(5) ... انظر: معاني الزجاج (5/321).(1/656)
لذي عقل. وسمي العقل حِجْراً؛ لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك وفيما لا ينبغي.
والاستفهام بمعنى التقرير.
قال الزمخشري (1) : والمقسم عليه محذوف، وهو "لتعذبن"، يدل عليه قوله: { ألم تر } [إلى قوله] (2) : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } .
وقال غيره: جواب القسم: { إن ربك لبالمرصاد } ، وما بين القسم وجوابه اعتراض.
قال (3) : وقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما قيل لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى وإرم؛ تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مَجْداً تَلِيداً بناهُ أوَّلُهُ ... أدْرَك عَاداً وقَبْلَهَا إِرَمَا (4)
فإرم في قوله: { بعاد إرم } عطف بيان لـ"عاد"، وإيذان بأنهم [عاد] (5) الأولى القديمة.
وقيل: "إِرَمَ" بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. ويدل عليه قراءة ابن
__________
(1) ... الكشاف (4/750).
(2) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/750).
(4) ... البيت لابن قيس الرقيات. انظر: ديوانه (ص:155)، والدر المصون (6/519)، والروض المعطار (1/22).
(5) ... في الأصل: عاداً. والمثبت من ب، والكشاف (4/750).(1/657)
الزبير: "بعادٍ إرم" على الإضافة، وتقديره: بعادٍ أهل إرم، كما في قوله (1) : { واسأل القرية } [يوسف:82]، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث.
وقرأ الحسن: "بعادَ [إرَم"، مفتوحتين] (2) .
وقرئ: "بعادٍ [إِرْمَ] (3) " بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ: "بورْقكم" [الكهف:19]. هذا آخر كلامه.
فإن قلنا: أن إرم تسمية لعاد باسم جدهم، على ما قاله ابن إسحاق وقتادة ومقاتل (4) ، وأنه عطف بيان، كان قوله: { ذات العماد } وصفاً لهم بالطول المفرط، ومنه قولهم: رجل مُعَمَّد وعُمْدان؛ إذا كان طويلاً (5) .
قال الكلبي: طولُ الرجل منهم أربعمائة ذراع (6) .
وقال ابن عباس: يعني: طولُهم مثلُ العماد (7) .
وقيل: كانوا أهل عَمَد. وكأن معنى قوله: { التي لم يخلق مثلها } مثل تلك
__________
(1) ... في ب: كقوله.
(2) ... في الأصل: وأرم مفتوحين. والتصويب من ب، والكشاف (4/750). وانظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:438).
(3) ... في الأصل: وإرم. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (30/175-176). وذكره مقاتل في تفسيره (3/481)، والماوردي (6/268)، والواحدي في الوسيط (4/481)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/111).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: عمد).
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/751) بلا نسبة.
(7) ... أخرجه الطبري (30/176). وذكره السيوطي في الدر (8/505) وعزاه لابن جرير.(1/658)
القبيلة في الطول والقوة { في البلاد } ، وهذا معنى قول الحسن، وهم الذين قالوا: { من أشد منا قوة } (1) [فصلت:15].
وإن قلنا: إن إرم اسم بلدتهم -وهو قول كثير من المفسرين- كان قوله: { ذات العماد } صفة لبلدتهم، على معنى: ذات الأساطين، أو ذات البناء الرفيع.
وقد اختلفوا فيها؛ فقال سعيد بن المسيب وعكرمة وغيرهما: هي دمشق (2) .
وقال محمد بن كعب: الإسكندرية (3) .
وقيل: هي المدينة التي بناها شداد بن عاد (4) .
وكان من حديثها: على ما أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد المقرئ في
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/481)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/112).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3426) عن عكرمة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/109)، والسيوطي في الدر (8/506) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة. ومن طريق آخر عن سعيد بن المسيب، وعزاه لابن عساكر.
(3) ... أخرجه الطبري (30/175). وذكره السيوطي في الدر (8/506) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... ذكره ابن أبي حاتم (10/3425)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/110).
... وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/508، 509): ومن زعم أن المراد بقوله: { إِرَمَ ذات العماد } مدينة، إما دمشق؛ كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة، أو اسكندرية؛ كما رُوي عن القُرَظي، أو غيرهما، ففيه نظر... إلى أن قال: وإنما نبّهت على ذلك لئلا يُغْتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: { إِرَمَ ذات العماد } مبنية بلبن الذهب والفضة... إلخ.(1/659)
كتابه قال: أخبرنا جدي لأمي أبو [محمد] (1) العباس بن محمد بن العباس المعروف بعبّاسة، أخبرنا أبو سعيد محمد بن سعيد بن فرخزادا، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعالبي، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسر، أخبرنا محمد بن عبدالله الصفار الهمذاني قال: أخبرنا [أحمد] (2) بن مهدي الأصفهاني، حدثنا عبدالله بن صالح المصري، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن وهب بن منبه، عن عبدالله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن، إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال، فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته وعقلها، وسلَّ سيفه ودخل باب الحصن، فلما خَلَّفَ الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما، والبابان مرصعان بالياقوت الأبيض والأحمر، فلما رأى ذلك دهش وأعجبه، ففتح أحد البابين فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصورٌ كل قصرٍ منها معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع (3) المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: محمد. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (12/597)، وطبقات الحفاظ (ص:271).
(3) ... في ب: مصراع.(1/660)
المسك والزعفران، فلما عاين الرجل ما عاين ولم ير فيها أحداً هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو بشجر في كل زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار، وتحت الشجر أنهار مُطّرِدَة يجري ماؤها من قنوات من فضة، كل قناةٍ أشدُّ بياضاً من الشمس. فقال الرجل: والذي بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق ما خلق الله مثل هذا في الدنيا، وإن هذه هي الجنة التي وصفها الله تعالى في كتابه، فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران، ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا من ياقوتها شيئاً، فأخذ ما أراد وخرج، ورجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه، وأعلم الناس أمره، وباع بعض ما حمل، فلم يزل أمره ينمى حتى بلغ معاوية خبره، فأرسل في طلبه حتى قدم عليه، فخلا به وقصّ عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال: يا أبا إسحاق! هل في الدنيا من مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، أُخبرك بها وبمن بناها، إنما بناها شداد بن عاد. فأما المدينة فإرم ذات العماد التي وصفها الله عز وجل في كتابه، وهي التي لم يخلق مثلها في البلاد. قال معاوية: فحدثني حديثها فقال: إن عاداً الأولى ليس عاد قوم [هود] (1) ، وإنما هود وقوم هود وَلَدُ ذلك الرجل، وكان عاد له ابنان شدّاد وشديد، فهلك عاد، فبقيا ومَلَكا وقهَرَا البلاد، وأخذاها عنوة، ثم مات شديد، وبقي شداد فملك وحده، ودانت له ملوك الأرض، وكان مولعاً بقراءة الكتب، كلما مَرَّ فيها بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عُتُوّاً على الله عز وجل، فأمر بصنعة تلك المدينة إرم
__________
(1) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب.(1/661)
ذات العماد، وأمَّرَ على صنعتها مائة قهرمان، مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى كل ملك في الدنيا أن يجمع ما في بلاده من الجواهر، وكان تحت يده مائتان وستون ملكاً، فخرج القهارمة وتبدَّدُوا في الأرض ليجدوا ما يوافقوه، حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا هم بعيون مطّردة، قالوا: هذه [صفة الأرض] (1) التي أمر الملك [أن يبنى بها] (2) ، فقدّروها العرض والطول ثم وضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة حتى فرغوا منها، وكان عُمْر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه فارغين منها [قال] (3) : انطلقوا واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف علم، يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ويكون فوق كل علم ناطور، فرجعوا وعملوا ما أمرهم به، فأمر ألف وزير أن يتهيأوا إلى النقلة (4) إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحةً من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يبق منهم أحد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له في تلك الصحاري، والرجل عند معاوية، فالتفت إليه كعب
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (9/114).
(2) ... زيادة من زاد المسير (9/114).
(3) ... في الأصل: فقال. والمثبت من ب.
(4) ... في ب: للنقلة.(1/662)
فقال: هذا والله ذلك الرجل (1) .
وروى الشعبي عن دغفل الشيباني (2) ، عن علماء حمير قالوا: لما هلك شداد بن عاد ومن معه من الصيحة، مَلَكَ من بعده ابنه مرثد بن شداد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، فحُمل [مطلياً] (3) بالعنبر والكافور، وأمَرَ [بدفنه] (4) فحُفرت له حفيرة في مغارة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب فيه:
اعْتَبرْ بي أيُّها الـ ... ـمغرورُ بالعمر المديد
أنا شدَّادُ بن عادٍ ... صاحبُ الحصن العميد
وأخُو القوةِ والبأ ... ساءِ والمُلْكِ الحشيد
دانَ أهلُ الأرضِ لي ... من خوفِ وعدي ووعيدي
وملكتُ الشرقَ والـ ... ـغربَ بسلطانٍ شديد
__________
(1) ... أخرجه أبو الشيخ في: العظمة (4/1493-1502 ح9831). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/112-116). ...
(2) ... دغفل بن حنظلة بن زيد بن عبدة بن عبد الله بن ربيعة السدوسي النسابة الشيباني الذهلي، مخضرم له صحبة، نزل البصرة وغرق بفارس في قتال الخوارج قبل سنة ستين (تهذيب التهذيب 3/182، والتقريب ص:201).
(3) ... في الأصل: مطياً. والتصويب من ب.
(4) ... زيادة من زاد المسير (9/116).(1/663)
وبفضلِ الملك والـ ... ـعُدّة فيه والعَدِيد
فأتى هودٌ وكنا ... في ضلالٍ قبلَ هود
فدعانا لو قبلناهُ ... إلى الأمرِ الرشيد
فعصيناهُ وناديتُ: ... ألا هلْ منْ مَحِيد
فأتتنا صيحةٌ تهوي ... من الأُفقِ البعيد
فتوافينا كزرعٍ ... وسط بيداءَ حصيد (1)
قوله: { وثمود الذين جابوا الصخر } أي: قطعوه { بالواد } .
أثبت الياء في الحالين: ابن كثير، ووافقه (2) في الوصل: وَرْش، وحذفها الباقون في الحالين (3) .
قال ابن إسحاق: هو وادي القرى (4) .
قال ابن عباس: كانوا يجوبون الجبال فيجعلون منها بيوتاً، كما قال الله: { وتنحتون من الجبال بيوتاً } (5) [الشعراء:149].
ويقال: إن أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (9/116-117).
(2) ... في ب: وافقه.
(3) ... الحجة للفارسي (4/117)، والحجة لابن زنجلة (ص:763)، والكشف (2/374)،
... والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:683).
(4) ... ذكره الماوردي (6/269)، والواحدي في الوسيط (4/482) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (9/117).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/482).(1/664)
قوله تعالى: { وفرعون ذي الأوتاد } مُفسّر في صاد (1) .
قوله تعالى: { فصب عليهم ربك } أي: على عاد وثمود وفرعون. يقال: صَبَّ [عليه] (2) السوط وغشَّاه وقنَّعه.
قال الزجاج (3) : المعنى: ألم تر كيف أهلك ربك هذه الأمم التي كذبت رسلها، وكيف جعل عقوبتها أن جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب فقال: { فصب عليهم ربك سوط عذاب } .
وقال الحسن رضي الله عنه: إن عند الله أسْوَاطاً كثيرة، فأخذهم بسَوْطٍ منها (4) .
قوله تعالى: { إن ربك لبالمرصاد } وهو مفعالٌ من الرصد، وقد ذكرناه في سورة النبأ (5) .
قال الكلبي: يقول: عليه طريق العباد لا يفوته أحد (6) .
والمعنى: لا يفوت ربك منهم أحد.
$¨Br'sù الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 12.
(2) ... في الأصل: عليهم. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الزجاج (5/322).
(4) ... ذكره القرطبي (20/50).
(5) ... عند الآية رقم: 21.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/482).(1/665)
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا اثةب
قوله تعالى: { فأما الإنسان } هو اسم جنس.
قال ابن عباس: يريد: عتبة بن ربيعة، وأبا حذيفة بن المغيرة (1) .
وقال ابن السائب: يريد الكافر: أبي بن خلف (2) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/483)، وابن الجوزي في زاد المسير (9/118).
(2) ... مثل السابق.(1/666)
وقال مقاتل (1) : نزلت في أمية بن خلف.
{ إذا ما ابتلاه ربه } أي: اختبره بالغنى واليُسْر { فأكرمه } بالمال { ونعَّمه } به { فيقول ربي أكرمني } أي: فضّلني بما أعطاني لكرامتي عليه.
{ وأما إذا ما ابتلاه } اختبره بالفقر { فقدَّر عليه رزقه } ضيَّقه عليه، { فيقول ربي أهانني } أذلَّني بالفقر.
قال الزجاج (2) : يعني بهذا: الكافر الذي لا يُؤمن بالبعث، إنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الدنيا وقلَّتها. وصفة المؤمن: أن الإكرام عنده: توفيق الله إياه إلى ما يؤديه إلى حظِّ الآخرة.
قال صاحب الكشاف (3) : إن قلت: بم اتصل قوله: { فأما الإنسان } ؟
قلتُ: بقوله: { إن ربك لبالمرصاد } ، كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة، وهو مُرْصِدٌ بالعقوبة للعاصي؛ فأما الإنسان فلا [يريد] (4) ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يُلذّه ويُنعمّه فيها.
واختلف القُرَّاء في إثبات الياء وحذفها في "أكرمني" و "أهانني" (5) ، على نحو ما تقدم في الموضعين السابقين في هذه السورة.
قوله تعالى: { كلا } ردعٌ للإنسان عن قوله. ثم قال: { بل لا يكرمون
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/483).
(2) ... معاني الزجاج (5/323).
(3) ... الكشاف (4/752).
(4) ... في الأصل: يرد. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... الحجة للفارسي (4/118)، والحجة لابن زنجلة (ص:764)، والكشف (2/374)، والنشر (2/400)، والإتحاف (ص:438)، والسبعة (ص:684).(1/667)