بن إبراهيم، أخبرنا عبد الخالق بن علي (1) ، حدثني أحمد بن محمد بن موسى [اللخمي] (2) ، حدثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني (3) ، حدثنا ابن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم (4) ، حدثنا الفضل الرقاشي (5) ، عن محمد بن المنكدر (6) ، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قول الله عز وجل: { سلامٌ قولاً من رب رحيم } ، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى
__________
(1) ... عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق بن محمد بن إسحاق المؤذن، أبو القاسم النيسابوري، قدم قزوين غازياً سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وحدّث بها عن بكر بن محمد بن حمدان المروزي، وروى عنه الخليل الحافظ (التدوين في أخبار قزوين 3/479-480).
(2) ... في الأصل: الملجمي. والتصويب من الوسيط (3/517).
(3) ... الحسن بن أبي علي الفضل بن السمح، أبو علي الزعفراني، المعروف بالبوصراني، كان ينزل بالجانب الشرقي قرب المزوقين، مات في أول جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين ومائتين (تاريخ بغداد 7/401، ولسان الميزان 2/244).
(4) ... الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم بن الضحاك الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، قيل: إنه مولى بني شيبان، ثقة ثبت كثير الحديث، ولد سنة اثنتين وعشرين ومائة، مات سنة أربع عشر ومائتين (تهذيب التهذيب 4/395-396، والتقريب ص:280).
(5) ... الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي، أبو عيسى البصري الواعظ، منكر الحديث رمي بالقدر (تهذيب التهذيب 8/254، والتقريب ص:446).
(6) ... محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، أحد الأئمة الأعلام، ثقة فاضل، مات سنة ثلاثين أو بعدها (تهذيب التهذيب 9/417-418، والتقريب ص:508).(1/377)
شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم " (1) .
وقال ابن عباس: يرسل الله تعالى إليهم بالسلام (2) .
(#râ""tFّB$#ur الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ادثب
قوله تعالى: { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أي: انفردوا عن المؤمنين
__________
(1) ... أخرجه ابن ماجه (1/65 ح184).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/517).(1/378)
وكونوا على حِدَة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويُسَار بهم إلى الجنة.
وقال قتادة: اعتزلوا عن كل خير (1) .
وقال الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى (2) .
فعلى هذا امتيازهم هو أن لا يرى بعضهم بعضاً، تقول: ميّزت الشيء عن الشيء؛ إذا عزلته عنه ونحيته فامْتَاز وانْمَاز (3) .
قوله تعالى: { ألم أعهد إليكم } (4) أي: أوصيكم وآمركم.
وقال الزجاج (5) : ألم أتقدم إليكم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
{ يا بني آدم } يريد: المجرمين { أن لا تعبدوا الشيطان } تطيعوه في الشرك.
قوله تعالى: { ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً } قرأ ابن عامر وأبو عمرو: "جُبْلاً" بضم الجيم وسكون الباء مع التخفيف، وكذلك ابن كثير وحمزة والكسائي ووَرْش، إلا أنهم ضَمّوا الباء. وقرأ نافع وعاصم: "جِبلاًّ" بكسر الجيم والباء وتشديد اللام (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/22). وذكره السيوطي في الدر (7/66) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره النسفي في تفسيره (4/12).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: ميز).
(4) ... في الأصل زيادة قوله تعالى: { يا بني } . وستأتي بعد.
(5) ... معاني الزجاج (4/292).
(6) ... الحجة للفارسي (3/309-310)، والحجة لابن زنجلة (ص:601-602)، والكشف (2/219)، والنشر (2/355)، والإتحاف (ص:366)، والسبعة (ص:542).(1/379)
وقرأتُ ليعقوب من رواية روح وزيد وأبي حاتم: بضم الجيم والباء مع التشديد (1) ، وهي قراءة علي بن أبي طالب، وابن عباس، [وأبي] (2) عبد الرحمن السلمي، والزهري، والأعمش.
وقرأ عبد الله بن عمرو [وابن] (3) السميفع: بكسر الجيم وسكون الباء مع التخفيف.
وقرأ أبو المتوكل ومعاذ القارئ: بضم الجيم وفتح الباء مع التخفيف.
وقرأ أبو العالية: بكسر الجيم وفتح الباء مع التخفيف.
وقرأ أبو عمران الجوني: "جِبالاً" بكسر الجيم مع زيادة ألف (4) .
ومعنى الكلمة كيف تصرفت: أضل منكم خلقاً كثيراً.
قرئ: "جِيلاً" بكسر الجيم وبالياء، واحد الأجيال (5) .
¾حnة"yd جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
__________
(1) ... انظر: النشر (2/355)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:366).
(2) ... في الأصل: أبي.
(3) ... في الأصل: بن.
(4) ... ذكر هذه القراءات جميعاً ابن الجوزي في: زاد المسير (7/30).
(5) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/328)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/491). وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.(1/380)
(64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ادذب
ثم يقال لهم توبيخاً وتقريعاً ومبالغة في إعلامهم: { هذه جهنم } .
قوله تعالى: { اليوم نختم على أفواههم } وذلك عند إنكارهم الشرك(1/381)
[وتكذيبهم] (1) الرسل صلوات الله عليهم أجمعين، وقولهم: { وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام:23].
{ وتُكلمنا أيديهم } أخرج الإمام أحمد من حديث [حكيم بن] (2) معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تجيؤون يوم القيامة على أفواهكم الفِدام، وإن أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه" (3) .
وفي حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقال لأعضائه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعْداً لكُنّ وسُحْقاً وفيكن كنت أناضل" (4) .
فإن قيل: لم سمي ما صدر من اليد كلاماً ومن الرجل شهادة؟
قلتُ: لأن اليد مباشرة والرِّجل حاضرة، وقول الإنسان على نفسه إقرار وعلى غيره شهادة.
قوله تعالى: { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي: لو نشاء لأذهبنا أعينهم وعفنا أثرها.
{ فاستبقوا الصراط } أي: استبقوا إلى الصراط، أو يقال: ساغ ذلك؛
__________
(1) ... في الأصل: وتكذبهم.
(2) ... زيادة من مسند أحمد (4/446).
(3) ... أخرجه أحمد (4/446).
... والفدام: هو ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذي فيه. والمقصود: أنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم وجلودهم (اللسان، مادة: فدم).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2280 ح2969).(1/382)
لتضمن "استبقوا" [ابتدروا] (1) .
قال قتادة: المعنى: لو نشاء لأعمينا أبصار الكفار فضلُّوا عن الطريق فلا يبصرون عقوبة لهم (2) .
وقال ابن عباس ومقاتل (3) : المعنى: لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فاهتدوا وأبصروا رشدهم (4) .
{ فأنى يبصرون } ولم يفعل بهم ذلك.
{ ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } والمكانة والمكان واحد.
وقرأ أبو بكر: "مكاناتهم" على الجمع (5) .
قال ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير (6) . وقيل: حجارة (7) .
وقال قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم وأزمنّاهم (8) .
__________
(1) ... في الأصل: ابتدوا.
(2) ... ذكره الماوردي (5/29).
(3) ... تفسير مقاتل (3/91).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/32).
(5) ... الحجة للفارسي (3/311)، والحجة لابن زنجلة (ص:602)، والكشف (1/452)، والنشر (2/263)، والإتحاف (ص:366)، والسبعة (ص:543).
(6) ... ذكره أبو حيان في البحر (7/329)، والزمخشري في الكشاف (4/28).
(7) ... هو قول أبي صالح ومقاتل. انظر: تفسير مقاتل (3/91).
(8) ... أخرجه الطبري (23/26) بدون لفظة: "وأزمناهم". وذكره الماوردي (5/29) بدون زيادة هذه اللفظة أيضاً، والبحر المحيط (7/329)، والكشاف (4/28) بزيادتها.(1/383)
{ فما استطاعوا مُضِيّاً } وقرئ: "مِضِياً" (1) ، مثل: الغُنى والغِنى.
{ ولا يرجعون } إلى ما كانوا عليه.
وقال أبو صالح: ما استطاعوا مضياً في الدنيا ولا رجوعاً فيها (2) .
`tBur نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ اذةب
قوله تعالى: { ومن نعمره ننكسه في الخلق } قرأ عاصم وحمزة: "نُنَكِّسْه" بالتشديد وكسر الكاف، من التنكيس. وقرأ الباقون: بفتح النون
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/329)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/492).
(2) ... ذكره الماوردي (5/29)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/33).(1/384)
الأولى وإسكان الثانية وضم الكاف وتخفيفها (1) .
قال أبو الحسين: [نَنْكُسُه] (2) هو كلام العرب، ولا يكادون يقولون: نكَّسْتُه، -يعني: بالتشديد- إلا لما يُقلب فيجعل رأسُه أسفل (3) .
قال الزجاج (4) : من أطَلْنا عُمْره نكَّسْنا خَلْقَه، فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم.
{ أفلا يعقلون } بالتاء والياء، وقد سبق.
والمعنى: أفلا يعقلون أن القادر على تصاريف أحوال الناس ونقلهم من حال إلى حال قادر على البعث بعد الموت.
قوله تعالى: { وما علمناه الشعر } أي: ليس الذي علمناه من القرآن شعراً، أو قول الشعر، وذلك أن كفار مكة قالوا: إن هذا الذي يقوله محمد شِعْر، وإن محمداً شاعر.
{ وما ينبغي له } أي: ما يصحّ له ولا يتأتّى له لو طلبه، لأنا صرفناه عنه ولم نجعل له طبعاً متأنياً منقاداً لقوله. ولقد كان يتمثّل ببيت من الشعر لغيره فيكسره, فروى الحسن (5) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بهذا البيت: كفى
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/310)، والحجة لابن زنجلة (ص:603)، والكشف (2/220)، والنشر (2/553)، والإتحاف (ص:366)، والسبعة (ص:543).
(2) ... في الأصل: نكسه. والتصويب من الحجة للفارسي (3/310).
(3) ... انظر: الحجة للفارسي (3/310).
(4) ... معاني الزجاج (4/293).
(5) ... خلط الناسخ بين ألفاظ هذه الفقرة حيث قدّم وأخّر بعضها على بعض. وقد أثبتنا الصواب من الوسيط (3/518-519).(1/385)
الإسلام والشيب للمرء ناهياً، فقال أبو بكر: [يا رسول الله، إنما قال الشاعر] (1) :
............................ ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً (2)
أشهد أنك رسول الله، ما علّمك [الشعر] (3) وما ينبغي لك (4) .
وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بيت أخي بني قيس -يعني طرفة-:
ستُبدي لكَ الأيامُ ما كُنتَ جاهلاً ... ... ويأتيكَ بالأخبار من لم تُزوّد (5)
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فيقول: لست بشاعر ولا ينبغي لي (6) .
ودعا يوماً بعباس بن مرادس فقال: أنت القائل:
__________
(1) ... زيادة من الوسيط (3/518).
(2) ... عجز بيت لسحيم عبد بني الحسحاس، وصدره: (عميرة ودع إن تجهزت غادياً)، انظر: ديوانه (ص:16)، والأغاني (22/307)، وطبقات فحول الشعراء (1/187)، والتبصرة (ص:232)، والبيان والتبيان (ص:52)، واللسان (مادة: نهي).
(3) ... زيادة من الوسيط (3/518).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3200-3201).، وابن سعد في طبقاته (1/382-383). وذكره الواحدي في الوسيط (3/518)، والسيوطي في الدر (7/71) وعزاه لابن سعد وابن أبي حاتم والمرزباني في معجم الشعراء.
(5) ... البيت لطرفة بن العبد، انظر: ديوانه (ص:72)، واللسان (مادة: ضمن)، والقرطبي (15/51)، وروح المعاني (23/49)، والمستطرف (2/368)، والبحر (7/329).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/518-519).(1/386)
أتجعلُ نهبي ونهبَ العبيـ ... ... ـد بين الأقرع وعيينة (1)
فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لم يقلْ كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يضرك بأيهما [بدأت] (2) ، فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر ولا ينبغي لك الشِّعر (3) .
فإن قيل: قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
أنا النبيُّ لا كذب ... ... أنا ابن عبد المطلب (4)
وقال - صلى الله عليه وسلم - :
هل أنتِ إلا [أصبع] (5) دميتِ ... وفي سبيل الله ما لقيتِ (6)
قلتُ: الفصيح قد يجري على لسانه كلام موزون ويقع منه ذلك من غير قصد، بل غير الفصيح قد يتفق له ذلك، ولا يعد بذلك قائلاً للشعر، والبيت الثاني أنشده النبي - صلى الله عليه وسلم - مستشهداً، على أن هذا النوع من الرجز ليس بشعر عند الخليل.
__________
(1) ... أصل البيت: بين عيينة والأقرع، وهو في: اللسان (مادة: رجز)، والقرطبي (8/179، 15/52)، وروح المعاني (15/65، 23/49)، والأغاني (14/300).
(2) ... في الأصل: بدأ. والتصويب من زاد المسير (7/36).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/34-35).
(4) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: رجز)، والقرطبي (8/101، 15/52)، وروح المعاني (10/74، 12/33، 23/48، 26/165)، والبحر (7/330).
(5) ... في الأصل: أصبعاً. والتصويب من مصادر التخريج.
(6) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: رجز، صبع)، والقرطبي (15/52)، وروح المعاني (10/97، 23/49، 30/157)، والبحر (7/330).(1/387)
وفي الجملة: قائل البيت والبيتين ليس بشاعر عند العرب، إنما الشاعر عندهم الذي ينفث بالشعر على أقراء مخصوصة وأوزان معلومة.
فإن قيل: لم مُنع عن قول الشعر؟
قلتُ: كما مُنع من الكتابة؛ لئلا يتخذ الكَفَرة ذلك ذريعة إلى الطعن عليه فيما جاء به من النظم البديع، فيقال: إنما تأتي له ذلك بحدة خاطره، وثقابة فطنته، وقوته على نظم القريض، وكذلك منع الكتابة لئلا يقال: نَظَرَ في الكتب القديمة وتسلط بها على إنشاء كتابه، واطلع فيها على الأمور المغيبة عنه.
فإن قيل: إذا كان ما ذكرته حكمةُ صرفه عن قول الشعر، فنراهم لم يتناهوا عنه حتى قالوا: شاعر؟
قلتُ: لا جرم أن ذلك كسبهم شعار الكذب، وسلبهم وصف الإنصاف، وجعلهم عند أنفسهم كَذَبَة فَجَرَة؛ لعلمهم بحاله.
ولذلك قال لهم الوليد بن المغيرة: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما رأيته يلتئم بها، فقولوا فيه غير ذلك، فقالوا: قل أنت؟ فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، وإنما راموا بذلك ترويج باطلهم عند جاهل غِرٍّ، أو متجاهل ذي غُمر، وإلا فأين أسلوب (1) القرآن من أساليب الشعر؟
قوله تعالى: { لينذر } وقرأ نافع وابن عامر: "لتنذر" بالتاء (2) ، على
__________
(1) ... قوله: "أسلوب" مكرر في الأصل.
(2) ... الحجة للفارسي (3/311)، والحجة لابن زنجلة (ص:603)، والكشف (2/220)، والنشر (2/355)، والإتحاف (ص:366)، والسبعة (ص:544).(1/388)
الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
{ من كان حياً } يريد: المؤمنين، { ويحق القول على الكافرين } سبق تفسيره.
َOs9urr& يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ اذجب
ثم دلّهم بما يشاهدون من آثار قدرته على وجوب وحدانيته فقال: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } أي: عملناه بغير واسطة ولا شِركة. وهذا معنى قول السدي (1) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3201) عن السدي قال: من صنعتنا. وذكره الماوردي (5/31)، والسيوطي في الدر (7/72) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/389)
قال الحسن: الأيدي: القوة، كما قال تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } (1) [الذاريات:47].
{ فهم لها مالكون } قادرون على التصرف فيها، لم نجعلها وحشية نافرة منهم.
{ وذلّلناها لهم } يعني: الأنعام، ولولا تسخيره جَلَّت عظمته لامتنعت عن بني آدم كما امتنع ما هو أضعف منها من الحيوانات.
ولقد ذَلَّلَ الله تعالى أعظمها أجساماً، وأشدها قوة وأجراماً، حتى ضرب به المثل في الانقياد، قال - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن كالجمل الأنِف، إن [قيد] (2) انقاد، وإن أنيخ استناخ " (3) .
ولقد أحسن القائل:
يُصرِّفُه الصبيُّ بكل وجهٍ ... ويحبسُه على الخسْفِ الجرير
وتضْربهُ الوليدةُ بالهَرَاوى ... فلا غِيرٌ لديه ولا نكيرُ (4)
ولهذا المعنى وهذا الإنعام أمر الله تعالى راكبه أن يشكر نعمته عليه ويسبحه إذا علا ذروته، فقال تعالى: { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/31).
(2) ... زيادة من شعب الإيمان (6/272).
(3) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/272 ح8128).
(4) البيتان في: المستطرف (2/61)، والمستقصى في أمثال العرب (1/103)، وجمهرة الأمثال (1/429)، ومجمع الأمثال (1/254).(1/390)
كنا له مقرنين } [الزخرف:13].
رأيت بخط الإمام [أبي] (1) البقاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي رضي الله عنه في كتابه المعروف بالفنون، وهو كتاب عظيم، يدل على فخامة صاحبه وغزارة علمه وحكمته. قال لي الشيخ أبو البقاء اللغوي: سمعت أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السِّفْر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون يقول: ركب يزيد بن نهشل بعيراً، فلما استوى عليه قال: اللهم إنك قلت: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف:13]، اللهم إني أشهدك أني له مُقرن، فنفر البعير وتعلقت رجله والبعير يجمر به حتى مات.
[معنى] (2) : "مُقرنين": مُطيقين، فادعى الطاقة لرد منّة الله منه تعالى في نعمته فهلك.
قوله تعالى: { فمنها ركوبهم } أي: ما يركب، يريد: الإبل.
وقرأ الحسن والأعمش: "رُكُوبُهُم" بضم الراء، أي: ذو ركوبهم (3) .
{ ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع } من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل، { ومشارب } من ألبانها، جمع مَشْرَب، وهو موضع الشرب أو المشروب.
(#rنsƒھB$#ur مِنْ دُونِ
__________
(1) ... في الأصل: أبو. وهو لحن.
(2) ... في الأصل: يعني.
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:367).(1/391)
اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ اذدب
{ واتخذوا من دون الله } الذي أنعم بهذه النعمة { آلهةً لعلهم ينصرون } أي: رجاء أن يعضدهم ويدفع عنهم وينفعهم ويشفع لهم، فانعكس [مقصودهم] (1) عليهم.
قوله تعالى: { وهم لهم جند محضرون } أي: المشركون لأصنامهم جُنْد.
قال ابن جريج: شِيعة.
وقال غيره: أعوان (2) .
"مُحْضَرُون": يحضرونهم للعبادة والخدمة والذَّبِّ عنهم والغضب لهم.
{ فلا يحزنك قولهم } هذا وقف التمام. ثم استأنف فقال: { إنا نعلم ما
__________
(1) ... في الأصل: مصودهم.
(2) ... ذكر القولين الماوردي (5/32).(1/392)
يسرون وما يعلنون } .
َOs9urr& يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ارةب
قوله تعالى: { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } سبب نزولها: أن رجلاً من كفار قريش أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم نَخِر ففتَّه بيده، ثم قال لرسول(1/393)
الله - صلى الله عليه وسلم - : أتزعم أن الله تعالى يحيي هذا بعدما رَمَّ؟ فقال: نعم، يُميتك الله ثم يُحييك ثم يُدخلك نار جهنم (1) .
واختلف في هذا الرجل؛ فقيل: هو العاص بن وائل (2) .
وقيل: أبو جهل (3) . رويا عن ابن عباس.
وقال الحسن: أمية بن خلف (4) .
وقال مجاهد وقتادة وعامة المفسرين: هو أُبيّ بن خلف (5) .
{ وضرب لنا مثلاً } في إنكار البعث بالعظم البالي يفتُّه في يده ويُنكر قدرتنا على إعادته.
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/466 ح3606)، والطبري (23/30-31) عن سعيد بن جبير مرسلاً، وابن أبي حاتم (10/3202)، والضياء المقدسي في المختارة (10/87-88)، والإسماعيلي في معجمه (3/742). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:379)، والسيوطي في الدر (7/74) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والإسماعيلي في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والضياء في المختارة، كلهم عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل ... الحديث.
(2) ... انظر: تخريج الحديث السابق.
(3) ... ذكره السيوطي في الدر (7/75) وعزاه لابن مردويه.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/41).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:537)، والطبري (23/30)، وابن أبي حاتم (10/3202). وذكره السيوطي في الدر (7/75-76) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. ومن طريق آخر عن السدي، وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لابن أبي حاتم.(1/394)
{ ونسي خلقه } أي: وترك النظر في خلق نفسه وعنصره وكوني أوجدته من نطفة خسيسة مَهينة خارجة من قناة البول، ونقلته بقدرتي ونعمتي من حال إلى حال، حتى جعلته سميعاً بصيراً متكلماً، قادراً عالماً فاهماً، ثم جحد حقِّي وكفر نعمتي، وأنكر وحدانيتي، وعَبَدَ الأصنام من دوني، وتصدى لنصرة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، يروم أن يجعله بزعمه شريكاً لي، وأنكر قدرتي على إحياء عظام أنا أنشأتها وفَطَرْتها ابتداء، وأخرجتها من العدم إلى الوجود.
{ قال من يحيي العظام وهي رميم } يقال: رَمَّ العظمُ يرمُّ رمّاً؛ إذا بلي فهو رميم (1) ، والعظام رميم.
قال الزمخشري (2) : الرَّميم: اسم لما بلي من العظام غير صفة، [كالرمة] (3) والرفات، فلا يقال: لمَ لمْ يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول.
فصل
احتج علماؤنا بهذه الآية على نجاسة عظام الميتة من حيث كونها قابلة للموت ضرورة قبولها للحياة.
قوله تعالى: { وهو بكل خلق عليم } أي: يعلم كيف يخلق، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: رمم).
(2) ... الكشاف (4/33).
(3) ... في الأصل: كالرمية. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/395)
ثم ذكر من بدائع خلقه ما يدلهم على قدرته على ما أحالته عقولهم الضعيفة، فذلك قوله تعالى: { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } أي: الذي جعل النار المحرقة من الشجر الأخضر الرّطب، وجمع بينهما مع مضادة النار الماء وإشعالها الحطب، وأكثر ما تكون النار في المَرْخ والعَفَار، وفي أمثالهم: (في كل شجر نار، واستمْجَدَ المَرْخُ والعَفَار)، يقطع الرجل منهما عويدتين كالسواكين وهما خضراوان يقطران الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر، على العفار وهي أنثى، فتنقدح النار بإذن الله تعالى.
ويروى عن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب. قالوا: ولذلك يتخذ منه كُذَيْنِقَات (1) القصارين (2) .
وقوله تعالى: { الأخضر } : على اللفظ. وقيل: الشجر، جمع يؤنث ويذكر، قال الله تعالى: { من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون } [الواقعة:52-53]، وقال تعالى هاهنا: { فمنه توقدون } .
}ّٹs9urr& الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
__________
(1) ... الكُذَيْنِقُ: مدقّ القصارين الذي يدقّ عليه الثوب (اللسان، مادة: كذنق).
(2) ... الكشاف (4/33).(1/396)
(81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ارجب
ثم ذكر لهم ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى: { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر } .
وروى رويس وأبو حاتم عن يعقوب: "يَقْدِرُ" بياء مفتوحة وسكون القاف من غير ألف (1) ، جعله فعلاً مضارعاً، وهي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد [ذكرناه] (2) في بني إسرائيل.
{ يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق } وقرأ أبي بن كعب والحسن: "الخالق العليم" (3) .
و"الخلاّق": الكثير المخلوقات، "العليم": الكثير المعلومات.
__________
(1) ... النشر (2/355)، والإتحاف (ص:367).
(2) ... في الأصل: ذكرنا.
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:367).(1/397)
والآية التي بعد هذه مفسرة في النحل (1) .
ثم نزّه نفسه سبحانه وتعالى عما يقولون فقال: { فسبحان الذي بيده ملكوت } أي: مُلْك { كل شيء } والقدرة على كل شيء { وإليه ترجعون } بعد الموت. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 40.(1/398)
سورة الصافات
ijk
وهي مائة واثنتان وثمانون آية، وهي مكية بإجماعهم.
دM"Oے¯"¢ء9$#ur صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ اخب
قال الله تعالى: { والصافات صفاً } قيل: يريد جماعة المؤمنين إذا صفوا في الصلاة أو القتال في سبيل الله تعالى.
وقيل: الطير، من قوله تعالى: { والطير صافات } [النور:41].
والصحيح: أنهم الملائكة. وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وعامة المفسرين (1) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/466 ح3607)، والطبراني في الكبير (9/214 ح9041)، وأبو الشيخ في العظمة، والطبري (23/33)، وابن أبي حاتم (10/3204). وذكره السيوطي في الدر (7/78) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة عن ابن عباس، وعدة طرق أخرى.(1/399)
أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة [أو] (1) بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة، أو أجنحتها في الهواء واقفة ترتقب أمر الله عز وجل.
قال ابن عباس: يريد: الملائكة صفوفاً صفوفاً، لا يعرف كل مَلَك منهم مَنْ إلى جانبه، لم يلتفت منذ خلقه الله تعالى عز وجل (2) .
{ فالزاجرات زجراً } قال الربيع وقتادة: آيات القرآن (3) .
والصحيح: أنها الملائكة، وهو قول الذين تقدم ذكرهم وعامة المفسرين.
يريد: فالزاجرات السحاب، أو فالزاجرات عن المعاصي زجراً.
{ فالتاليات ذكراً } يريد: الملائكة.
وقال ابن عباس: الأنبياء (4) .
أي: القارئات لكلام الله عز وجل وكتبه المنزّلة.
قال قطرب: أقسم الله تعالى بثلاثة أصناف من الملائكة، وجواب القسم: { إن إلهكم لواحد } .
قرأ أبو عمرو في إدغامه الكبير وحمزة: { والصافات صفاً } ، { فالزاجرات زجراً } ، { فالتاليات ذكراً } ، { والذاريات ذرواً } بالإدغام فيهن. وعلة الإدغام: مقاربة التاء هذه الحروف من حيث أنها وإياهن من طرف
__________
(1) ... في الأصل: أ. والمثبت من الكشاف (4/36).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/521)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/44).
(3) ... أخرجه الطبري (23/34)، وابن أبي حاتم (10/3204). وذكره السيوطي في الدر (7/78) وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/45).(1/400)
اللسان وأصول الثنايا، ومن ترك الإدغام فلاختلاف المخارج (1) .
{ رب السماوات } خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف (2) .
و { المشارق } ثلاثمائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب، تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.
$¯Rخ) زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/312)، والكشف (1/150-152)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:367)، والسبعة (ص:546).
(2) ... التبيان (2/205)، والدر المصون (5/495).(1/401)
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ اتةب
قوله تعالى: { إنا زينا السماء الدنيا } يريد: السماء القربى إلى الأرض.
{ بزينةٍ الكواكب } قرأ عاصم وحمزة: "بزينةٍ" بالتنوين. وقرأ أبو بكر: "الكواكبَ" بالنصب، وقرأ الباقون بإضافة "الزينة" إلى "الكواكب" (1) .
فمن نوّن وخفض "الكواكب" جعل الكواكب بدلاً من "الزينة"؛ لأنها هي هي، كما تقول: مررت بأبي عبدالله محمد. ومن نوّن ونصب "الكواكبَ" جعلها بدلاً من محل "زينة".
وقال أبو علي (2) : أعمل الزينة في الكواكب، المعنى: بأن زينّا الكواكب فيها. والباقون أضافوا المصدر إلى المفعول به، كقوله تعالى: { من دعاء الخير } [فصلت:49]، وقوله تعالى: { بسؤال نعجتك } [ص:24]، والمعنى: بأن زينا الكواكب فيها.
{ وحفظاً } محمول على المعنى، تقديره: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً { من كل شيطان } .
وقيل: المعنى: وحفظناها حفظاً.
قال قتادة: خلقت النجوم لثلاث؛ رجوماً للشياطين، ونوراً يهتدى بها،
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/313)، والحجة لابن زنجلة (ص:604)، والكشف (2/221)، والنشر (2/356)، والإتحاف (ص:367-368)، والسبعة (ص:546-547).
(2) ... الحجة للفارسي (3/314).(1/402)
وزينة للسماء الدنيا (1) .
قوله تعالى: { لا يسّمّعون } قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "يَسَّمَّعُون" بتشديد السين وفتحها، أصله: يتسمَّعون، أدغموا التاء في السين. وقرأ الباقون: "يَسْمَعُون"، من سمع يسمع (2) .
قال ابن عباس: يتسمعون ولا يسمعون (3) .
قال الزمخشري (4) : إن قلت: كيف اتصل "لا يَسَّمَّعُون" بما قبله؟
قلتُ: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان، أو استئنافاً، فلا تصح الصفة؛ لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف؛ لأن سائلاً لو سأل: كيف تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون؛ لم يستقم، فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ اقتصاصاً، لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا إلى كلام الملائكة، أو يستمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب.
فإن قلت: هل يصح قول من زعم [أن أصله] (5) : "لئلا يسمعوا" فحذفت
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/38).
(2) ... الحجة للفارسي (3/314)، والحجة لابن زنجلة (ص:605)، والكشف (2/221)، والنشر (2/356)، والإتحاف (ص:368)، والسبعة (ص:547).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3205). وذكره السيوطي في الدر (7/79) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) ... الكشاف (4/38-39).
(5) ... زيادة من الكشاف (4/39).(1/403)
اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقي: أن لا يسمعوا، فحذفت "أن" وأهدر عملها، كما في قول القائل:
ألا أيُّهَذا الزَّاجري أحْضُرُ الوغى ... ... ......................... (1)
قلتُ: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب.
فإن قلت: أي فرق بين سمعت فلاناً يتحدث، وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟
قلتُ: المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك.
والملأ الأعلى: الملائكة؛ لأنهم يسكنون السماوات.
وقال ابن عباس: هم الكَتَبَة من الملائكة (2) .
{ ويُقْذَفُون } أي: يرمون { من كل جانب } أي: من جميع جوانب السماء أين صعدوا للاستراق.
{ دُحُوراً } مفعول له، أي: يقذفون للدُّحور وهو الطَّرْد، أو مدحورين؛
__________
(1) ... صدر بيت لطرفة، وعجزه: (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي)، انظر: ديوانه (ص:32)، واللسان (مادة: أنن، دنا)، والبحر (7/163)، والدر المصون (1/275، 5/375)، والسبع الطوال (ص:172)، والمقتضب (2/134)، والهمع (1/6)، والخزانة (1/119).
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/39).(1/404)
على الحال، أو هو مصدر على معنى: يُدْحَرُون دحوراً (1) ، أو لأن القذف والطرد يتقاربان في المعنى، فكأنه قيل: يُدحرون دحوراً.
{ ولهم عذاب واصب } أي: دائم، يعني: أنهم يعذبون في الدنيا بإرسال النجوم عليهم، ولهم في الآخرة نوع من العذاب متصل لا ينقطع وهو عذاب النار.
وقال مقاتل (2) : دائم إلى النفخة الأولى فهم يخرجون ويخبلون.
قوله تعالى: { إلا من خطف الخطفة } "مَنْ" في محل الرفع بدل من الواو في { لا يسَّمَّعُون } (3) ، على معنى: لا يسمع من الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة، أي: اختلس الكلمة من الملائكة مسارقة.
{ فأتبعه } لحقه { شهاب ثاقب } نار مضيئة تحرقه، وهذا مثل قوله تعالى: { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين } [الحجر:18].
ِNحkةJّےtFَ™$$sù أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/205)، والدر المصون (5/496).
(2) ... تفسير مقاتل (3/95).
(3) ... انظر: الدر المصون (5/496).(1/405)
وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ اتزب
قوله تعالى: { فاستفتهم } قال الزجاج (1) : سَلْهم سؤال تقرير.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/299).(1/406)
{ أهم أشد خلقاً } أحكم صنعة أو أقوى خلقاً، من قولهم: شديد الخَلق والخُلق، { أم من خلقنا } يريد: ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المَرَدَة. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد وسعيد بن جبير (1) .
والمعنى: فكيف ينكرون قدرتي على إعادة الأموات، وقد شاهدوا عظائم مخلوقاتي ودلائل قدرتي.
قولهم: { إنا خلقناهم من طين لازب } تسجيلٌ عليهم بالضعف بالنسبة إلى هذه المخلوقات العظام، وتنبيهٌ لهم على عجائب قدرة من أنشاهم من تراب مجبول، ليستدلوا بأحد المقدورين على الآخر.
وقيل: المعنى: أهم أشد خلقاً أم من خلقنا من الأمم الماضية قبلهم، وقد أهلكنا أولئك حين كذبوا وكفروا وكانوا أشدّ منهم قوة وأعظم بطشاً، فما ظن هؤلاء؟
والمفسرون يقولون: نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد (2) بن هاشم بن عبد مناف، وأبي الأشدين كلدة (3) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:540)، والطبري (23/41)، وابن أبي حاتم (10/3206). وذكره السيوطي في الدر (7/81) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... في مصادر ترجمته: ركانة بن عبد يزيد. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (3/248)، والتقريب (ص:210).
(3) ... ذكره الماوردي (5/41).(1/407)
يقال: لَزِبَ يَلْزُبُ لُزُوباً؛ إذا لَزِق (1) .
قال ابن عباس: من طين لاصق (2) .
وقال قتادة: لازق (3) .
قال الواحدي (4) : المعنى: أن هؤلاء الكفار خلقوا مما خلق منه الأولون [فليسوا بأشد خلقاً منهم، وهذا إخبار عن التسوية بينهم وبين] (5) غيرهم من الأمم في الخلق.
وهذا عندي غير مستقيم؛ لأن الأمم الماضية كانت أحكم بُنْية، وأشدّ قوة، وأعظم أجراماً، وقد نطق القرآن بأنهم كانوا أشد منهم قوة في مواضع، وإنما أراد الله تعالى تقريرهم بضعفهم بالنسبة إلى الذين من قبلهم؛ لتتضاءل أنفسهم عندهم؛ حيث يعظموا شدّة قواهم. ثم بين ضعف الجميع بقوله تعالى: { إنا خلقناهم من طين لازب } .
قوله تعالى: { بل عجبت ويسخرون } أضْرَبَ عن الكلام الأول ثم أخذ في غيره، فكأنه قيل: دَعْ يا محمد ما مضى، عجبت أنت من قدرة الله تعالى
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: لزب).
(2) ... أخرجه الطبري (23/43)، وابن أبي حاتم (10/3206). وذكره الماوردي (5/40)، والسيوطي في الدر المنثور (7/81) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم كلهم -عدا الماوردي- بلفظ: ملتصق.
(3) ... أخرجه الطبري (23/43)، وابن أبي حاتم (10/3206). وذكره السيوطي في الدر (7/82) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... الوسيط (3/522).
(5) ... زيادة من الوسيط، الموضع السابق.(1/408)
على هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك ومن تعجبك.
وقرأ حمزة والكسائي: "عَجِبْتُ" بضم التاء (1) ، وهي قراءة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
قال أبو وائل: قرأ عبدالله بن مسعود: "بل عجبتُ"، فقال شريح: إن الله لا يعجب، إنما يعجب من لا يعلم.
قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم، فقال: إن شريحاً كان معجباً برأيه، وإن عبدالله قرأ: "بل عجبتُ"، وعبدالله أعلم من شريح (2) .
قال الزجاج رحمه الله (3) : إنكار هذا غلط؛ لأن القراءة به، والرواية كثيرة، والعجب من الله تعالى بخلاف العجب من الآدميين، وأصل العجب في اللغة: أن الإنسان إذا رأى ما [ينكره] (4) ويقلّ مثله قال: قد عجبتُ من كذا وكذا، فكذاك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله تعالى جاز أن يقول فيه: عجبتُ، والله تعالى قد علم الشيء قبل كونه، ولكن الإنكار إنما يقع والتعجب الذي به يلزم الحجة عند وقوع الشيء.
وقال الواحدي (5) : إضافة التعجب إلى الله تعالى ورد الخبر به، كقوله
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/315)، والحجة لابن زنجلة (ص:606)، والكشف (2/223)، والنشر (2/356)، والإتحاف (ص:368)، والسبعة (ص:547).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3206-3207). وذكره السيوطي في الدر (7/82) وعزاه لأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) ... معاني الزجاج (4/300).
(4) ... في الأصل: يكره. والتصويب من معاني الزجاج (4/300).
(5) ... الوسيط (3/523).(1/409)
- صلى الله عليه وسلم - : "عجب ربكم من إلِّكم (1) وقنوطكم" (2) ، و "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" (3) ، و "عجب الله البارحة من فلان وفلانة" (4) .
قوله تعالى: { يستسخرون } أي: يسخرون ويستهزؤون، أو يستدعي بعضهم من بعض السخرية.
قوله تعالى: { وآباؤنا } معطوف على محل "إن" واسمها، أو على الضمير في "لمبعوثون"، والذي جوّز العطف عليه [الفصل] (5) بهمزة الاستفهام.
والمعنى: أيبعث أيضاً آباؤنا، على زيادة الاستبعاد (6) .
قال مكي (7) : هذه واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام التي معناه الإنكار للبعث بعد الموت.
وقرأ ابن عامر وقالون: "أوْ آباؤنا" بإسكان الواو (8) ، ومثله في
__________
(1) ... الإلّ: الحلف والأيمان.
... قال الخطابي في إصلاحه غلط المحدثين (ص:152): يرويه المحدثون بكسر الألف. والصواب: "ألّكم" بفتحها. يريد: رفع الصوت بالدعاء.
(2) ... أخرج ابن ماجه (1/64 ح181)، وأحمد (4/11) هذا الخبر بلفظ: "ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره...".
(3) ... أخرجه أحمد (4/151)، والطبراني في الكبير (17/309).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1854 ح4607).
(5) ... في الأصل: الفعل. والتصويب من الكشاف (4/41).
(6) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/41).
(7) ... الكشف (2/223-224).
(8) ... الحجة لابن زنجلة (ص:608)، والكشف (2/223)، والنشر (2/357)، والإتحاف (ص:368).(1/410)
الواقعة (1) ، جعلها "أو" التي للإباحة في الإنكار، أي: أنكروا بعثهم [وبعث] (2) آبائهم بعد الموت. هكذا ذكر مكي.
وأنا قرأتُ لنافع من رواية وَرْش أيضاً عنه كقالون.
{ قل نعم وأنتم داخرون } : صاغرون.
{ فإنما هي زجرة واحدة } هذا جواب شرط مُقَدَّر، تقديره: إذا كان ذلك فإنما هي زجرة، وهي لا ترجع إلى شيء، وإنما هي مبهمة يفسرها خبرها.
والمعنى: فإنما هي صيحة واحدة.
قال الحسن وعامة المفسرين: هي النفخة الثانية (3) .
(#qن9$s%ur يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) * احْشُرُوا الَّذِينَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 48.
(2) ... في الأصل: أو بعث. والتصويب من الكشف (2/224).
(3) ... أخرجه الطبري (23/45)، وابن أبي حاتم (10/3207) كلاهما عن السدي. وذكره الماوردي (5/42)، والسيوطي في الدر (7/83) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.(1/411)
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ اثدب
{ وقالوا } يعني: منكري البعث { يا ويلنا } سبق الكلام عليه وما بعده.
ويجوز أن يكون من تمام كلامهم، وقول بعضهم لبعض إلى قوله تعالى: { احشروا } . ويجوز أن يكون من قول الملائكة لهم، ويجوز أن يكون قول الكفار. انتهى بتمام الآية، ومن قوله تعالى: { هذا يوم الفصل } من كلام الملائكة جواباً لهم.
وقوله تعالى: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أضرابهم وأمثالهم في الكفر والمعاصي.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يحشر صاحب الربا مع صاحب الربا، وصاحب الزنا مع صاحب الزنا، وصاحب الخمر مع صاحب(1/412)
الخمر (1) .
وقال الحسن: يريد: أزواجهم المشركات (2) .
{ وما كانوا يعبدون * من دون الله } قال عكرمة وقتادة: يريد: الأصنام (3) .
وقال مقاتل (4) : يعني: إبليس وجنده. واحتج بقوله تعالى: { أن لا تعبدوا الشيطان } [يس:60].
{ فاهدوهم إلى صراط الجحيم } عرّفهم طريق النار حتى يسلكوها.
{ وقفوهم إنهم مسؤولون } قال الماوردي (5) : فيه ستة أوجه:
أحدها: عن لا إله إلا الله. وهو قول يحيى بن سلام.
الثاني: عما دعوا إليه من بدعة. رواه أنس بن مالك مرفوعاً (6) .
__________
(1) ... ذكره المارودي (5/43)، والسيوطي في الدر (7/83) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/523).
(3) ... أخرجه الطبري (23/47)، وابن أبي حاتم (10/3208) كلاهما عن قتادة. وذكره الماوردي (5/43) عن قتادة وعكرمة، والسيوطي في الدر (7/84) وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(4) ... تفسير مقاتل (3/97).
(5) ... تفسير الماوردي (5/44).
(6) ... أخرجه البخاري في تاريخه (2/86 ح1778)، والترمذي (5/364 ح3228) وقال: هذا حديث غريب، والطبري (23/48)، والدارمي (1/141)، والحاكم (2/467). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/84) وعزاه للبخاري في تاريخه والترمذي والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه.(1/413)
الثالث: عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري.
الرابع: عن جلسائهم. وهو قول عثمان بن زائدة (1) .
الخامس: محاسبون. وهو قول ابن عباس (2) .
السادس: مسؤولون.
{ ما لكم لا تناصرون } على طريق التوبيخ والتقريع لهم. انتهى كلام الماوردي.
قلت: وهذا الوجه السادس هو التفسير الصحيح.
والمقصود من هذا السؤال: التهكم بهم، والتوبيخ لهم بعجزهم عن تناصرهم، وليس المقصود منه الحساب، فإن هذا السؤال واقع بعد أن يقال للملائكة: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم"، وقد قضي الأمر فيهم وحق القول عليهم.
{ بل هم اليوم مستسلمون } منقادون خاضعون، أو قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
ں@t7ّ%r&ur بَعْضُهُمْ عَلَى
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3208). وذكره السيوطي في الدر (7/85) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3208). وذكره السيوطي في الدر (7/84) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/414)
بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا tbqà)ح !#xs9 (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا(1/415)
اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ $¨Zح r& لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ (#qà)ح !#s%s! الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ(1/416)
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ احزب
قوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض } يعني: الرؤساء والأتباع.
وقال قتادة: أقبل الإنس على الجن (1) .
{ يتساءلون } سؤال توبيخ وتلاوُم، هؤلاء يقولون: غَرَرْتُمُونا، وهؤلاء يجيبونهم: لم قَبِلْتُم منّا، ونحوه قول إبليس لهم: { وما كان لي عليكم من سلطان ... الآية } [إبراهيم:22]، وجيء به على لفظ الماضي على عادة الله تعالى في إخباره، لكونه متحقق الكون.
{ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } قال ابن عباس: تقهرونا بالقوة،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/48)، وابن أبي حاتم (10/3209). وذكره السيوطي في الدر (7/86) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/417)
واليمين: القوة (1) ، وأنشدوا:
إذا ما رايةٌ رُفعتْ لمجدٍ ... ... تلقّاها عَرابةُ باليمين (2)
وقال بعض أهل المعاني (3) : لما كانت اليمين أشرف العضوين وأمثلهما وكانوا يتيمّنون بها، فبها يُصافحون وبها يُناولون ويَتناولون ويُزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سَمُّوها: الشؤمى، كما سموا أختها: اليُمنى، وتيمَّنوا بالسانح، وتطيّروا من البارح (4) ، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، [وأراذلها] (5) بالشمال. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في كل شيء، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله؛ استعيرت للخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أي: من قبل الخير وناحيته، فصدّه عنه وأضله.
وقيل: كان الرؤساء قد حلفوا للأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/45).
(2) ... البيت للشماخ بن ضرار المري. وهو في: اللسان (مادة: عرب، يمن)، والطبري (23/49)، والقرطبي (5/20، 8/251، 14/147، 15/75، 278، 18/275)، والماوردي (5/45).
(3) ... الكشاف (4/42-43).
(4) ... السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك. والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك (اللسان، مادة: سنح).
(5) ... في الأصل: وأرذالها. والتصويب من الكشاف (4/42).(1/418)
والمعنى: كنتم تأتوننا من ناحية اليمين أنكم على الحق.
فإن قيل: ما العامل في "إذا" في قوله تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم } ؟
قلتُ: "يستكبرون"، تقديره: إنهم كانوا يستكبرون إذا قيل لهم: لا إله إلا الله.
فإن قيل: ما منعك أن تجعل "إذا" خبراً لـ"كان"؟
قلتُ: لأنها ظرف زمان، والواو في "كانوا" يراد به الجثث، وظروف الزمان لا تكون إخباراً عن الجثث.
وما لم أذكره ظاهر أو مفسر، إلى قوله تعالى: { إلا عباد الله المخلصين } وهو استثناء منقطع.
{ أولئك لهم رزق معلوم } قال قتادة: الرزق المعلوم: الجنة (1) .
ويفسد هذا القول بقوله تعالى: { في جنات } .
وقال غيره: هو ما ذكره في قوله تعالى: { فواكه } ، فيكون "فواكه" عطف بيان.
وقال بعض أهل العلم بالمعاني (2) : فسر الرزق المعلوم بالفواكه، وهو كل ما يتلذذ به ولا [يتقوت] (3) لحفظ الصحة، يعني: أن رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/52)، وابن أبي حاتم (10/3209). وذكره السيوطي في الدر (7/86) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... الكشاف (4/44).
(3) ... في الأصل: يتوقت. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/419)
للأبد، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ.
ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خُلق عليها؛ من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر.
{ على سرر متقابلين } لا يرى بعضهم أقفاء بعض، وذلك من تمام ما يكون به الإكرام.
قوله تعالى: { يطاف عليهم بكأس من معين } يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها [كأساً] (1) ، قال:
وكأسٍ شَربتُ على لذةٍ ... ... وأخرى تداويتُ منها بها (2)
وقال الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وهذا تفسير ابن عباس أيضاً (3) .
وقوله تعالى: { من معين } أي: من شراب معين، أي: من نهر معين، وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون.
{ بيضاء } صفة للكأس.
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (4/44).
(2) ... البيت للأعشى، وهو في: البحر (7/344)، والدر المصون (5/500)، وروح المعاني (23/86).
(3) ... أخرجه الطبري (23/53) وابن أبي حاتم (10/3211)، وهناد في الزهد (1/77-78)، كلهم عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (7/87) وعزاه لابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك، والنسفي (4/20) عن الأخفش.(1/420)
قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن (1) .
{ لَذَّة } أي: لذيذة، يقال شراب لَذَّ ولذيذ، كطَبَّ وطبيب.
وأنشدوا:
ولذَّ كطعْمِ الصَّرْخديّ تركتُه ... بأرضِ العِدا من خشيةِ الحَدَثَان (2)
ولَذَّة: تأنيث لَذَّ.
والمعنى: ما هو إلا التلذُّذ الخالص السالم من آفات الخمر، ألا تراه يقول: { لا فيها غَوْل } أي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها وجع، من غالَه يغُوله؛ إذا أهلكه، ومنه: الغُول (3) .
وقال بعض الحكماء: الغضبُ غُول الحِلْم (4) .
{ ولا هم عنها يُنْزَفُون } وقرأ حمزة والكسائي: "يُنْزِفُون" بكسر الزاي، وافقهما عاصم في التي في الواقعة (5) . وقرأهما الباقون بفتح الزاي (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/525)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/56).
(2) ... البيت للراعي، وهو في: اللسان (مادة: لذذ)، والقرطبي (15/78)، والبحر (7/336)، والدر المصون (5/501)، وروح المعاني (23/87)، والكشاف (4/45).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: غول).
(4) ... هذا مثلٌ يُضرب في وجوب كظم الغيظ. (انظر: المستقصى في أمثال العرب 1/337، ومجمع الأمثال 2/61).
(5) ... آية رقم: 19.
(6) ... الحجة للفارسي (3/315-316)، والحجة لابن زنجلة (ص:608-609)، والكشف (2/224)، والنشر (2/357)، والإتحاف (ص:369)، والسبعة (ص:547).(1/421)
قال أبو علي (1) : يقال: أنزف الرجل، على معنيين:
أحدهما: أنه يراد به سَكِرَ. قال الشاعر:
لعمْري لئن أنْزَفْتُمُ أوْ صَحَوْتُمُ ... لبئسَ النَّدَامَى كُنتمُ آل أبْجَرَا (2)
فمقابلته له بـ"صحوتم" يدل على إرادة "سكرتم".
والآخر: أنْزفَ الرجل: إذا [نَفَدَ] (3) شرابه، ومعنى "أنزف": صار ذا إنفادٍ لشرابه، كما أن الأول معناه النفاد من عقله.
فمن قرأ بكسر الزاي: يجوز أن يراد به: لا يَسْكَرُون عن شربها. ويجوز أن يراد: لا ينفد ذلك عندهم، كما ينفد شراب أهل الدنيا.
ومن فتح الزاي أراد: لا يسكرون، وهو مثل: لا يُضْرَبُون، ليس "يُنْزَفون" من أنْزَفَ؛ لأن أنزف في كلا معنييه لا يتعدى إلى المفعول به، وإذا لم يتعدّ إلى المفعول به لم ينبني له، فإذا لم يجز ذلك علمت أن [ينزفون] (4) من نَزَفَ، وهو مَنْزُوف؛ إذا سَكِرَ.
قوله تعالى: { وعندهم قاصراتُ الطرف عِين } وهُنَّ اللواتي قصرت أبصارهن على أزواجهن لا يمددنها إلى غيرهم، ومنه قول امرئ القيس:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/316).
(2) ... البيت ينسب للأبيرد الرياحي. وهو في: اللسان (مادة: نزف)، والمحتسب (2/308)، ومجاز القرآن (2/169)، والأغاني (13/148)، والبحر (7/336)، والدر المصون (5/501)، والطبري (23/55)، وروح المعاني (23/88)، ونسبه القرطبي في تفسيره للحطيئة (15/79).
(3) ... في الأصل: نفذ. والتصويب من الحجة (3/316).
(4) ... في الأصل: منزفون. والتصويب من الحجة (3/316).(1/422)
منَ القاصراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْولٌ ... ... من الذَّرِّ فوقَ الإتبِ منها لأثَّرا (1)
قال أبو جعفر النحاس: العرب تقول لكل صغير: مُحْوِل ومُحِيل، وإن لم يأت عليه حَوْل (2) .
وقال أبو هلال العسكري: الإتْبُ: ثوب رقيق تبرز فيه المرأة. يقال: ائْتَتَبَت [تأتيباً] (3) .
و"العِين": النَّجَل (4) العيون.
قال الزجاج (5) : كِبَارُ العيون حِسَانُها، الواحدة: عَيْنَاء.
{ كأنهن بَيْضٌ مكنون } شبههن سبحانه وتعالى ببيض النعام المكنون في الأداحي، وبها تشبِّه العرب النساء وتسمّيهن: بيضات الخدور.
وقال الزجاج (6) : أي: كأن ألوانهن ألوان بيض النعام الذي يكنه ريش النعام. ويجوز أن يكون "مكنون": مَصُون، يقال من ذلك: كَنَنْتُ الشيء؛ إذا
__________
(1) ... البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:68)، واللسان (مادة: قصر، حول)، والبحر (7/344)، والدر المصون (5/502)، والقرطبي (15/80، 220)، وروح المعاني (23/89، 27/118، 30/212)، والماوردي (5/48).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حول).
(3) ... في الأصل: تأتيب. وانظر: اللسان (مادة: أتب).
(4) ... النَّجَل: سعة شق العين مع حُسْن (اللسان، مادة: نجل).
(5) ... معاني الزجاج (4/304).
(6) ... معاني الزجاج (4/304).(1/423)
سترته وصُنْتُه، فهو مكنون، وأكْنَنْتُه: إذا أخفيته وأضمرته في نفسك (1) .
وقال الحسن وابن زيد: شبههن ببيض النعام تكنها بالريش من الريح والغبار، فلونها [أبيض] (2) في صفرة، وهذا أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاء [مشربة بصفرة] (3) .
وإلى هذا المعنى ذهب جماعة المفسرين، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه أراد بالبيض المكنون: الدُّرُّ في صَدَفه (4) ، وأنشدوا قول الشاعر:
هي زهراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغـ ... ... ـواص مِيزتْ منْ جَوهرٍ مكنون (5)
ں@t7ّ%r'sù بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ ×@ح !$s% مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: كنن).
(2) ... زيادة من الوسيط (3/525).
(3) ... أخرج نحوه الطبري (23/57) عن ابن زيد، وابن أبي حاتم (10/3212) عن زيد بن أسلم. وذكره الماوردي (5/48) عن الحسن، والواحدي في الوسيط (3/525) عن الحسن وابن زيد، والسيوطي في الدر (7/89) وعزاه لابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم. ... وما بين المعكوفين في الأصل: مشرة صفرة. والتصويب من الوسيط (3/525).
(4) ... ذكره الماوردي (5/48).
(5) ... البيت لأبي دهبل، ويقال: لعبد الرحمن بن حسن، انظر اللسان (مادة: خصر، سنن)، والطبري (23/58)، والقرطبي (10/22، 15/81)، والماوردي (5/48).(1/424)
(51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا(1/425)
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ادتب
قوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يريد: أهل الجنة يتساءلون عن أحوالهم في الدنيا.
{ قال قائل منهم إني كان لي قرين } أي: صاحب في الدنيا ينكر البعث، وهو قوله: { أإنك لمن المصدقين } يعني: بالبعث.
قال ابن عباس: شريكٌ كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه (1) .
وقال مجاهد: شيطانٌ كان يغويه (2) .
وكثيرٌ من المفسرين يقولون: هما اللذان قص الله تعالى علينا قصتهما في الكهف في قوله تعالى: { واضرب لهم مثلاً رجلين } (3) [الكهف:32].
قوله تعالى: { لمدينون } أي: مجزيون ومحاسبون، والاستفهام للإنكار.
"قال" يعني: القائل، "إني كان لي قرين".
وقيل: الله عز وجل. وقيل: بعض الملائكة.
فإن قلنا: هو صاحب القرين؛ فالمعنى: قال لأصحابه في الجنة: { هل أنتم مطلعون } إلى النار ينظر كيف منزلة أخي. وقد نُقل أن في الجنة كوىً ينظر منها أهل الجنة إلى أهل النار.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/49).
(2) ... أخرجه الطبري (23/58). وذكره الماوردي (5/49)، والسيوطي في الدر (7/90) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الماوردي (5/49)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/59).(1/426)
وإن قلنا: هو الله تعالى أو بعض الملائكة؛ كان المعنى: هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لتعلموا فرق ما بين المنزلتين.
{ فاطلع فرآه } أي: فرأى قرينه { في سواء الجحيم } أي: في وسطها، سُمي بذلك؛ لاستواء المسافة منه إلى الجوانب.
وقرأ جماعة، منهم ابن عباس وابن محيصن: "مُطْلِعُونَ" بالتخفيف وفتح النون (1) .
قال الزجاج (2) : هو بمعنى طَالِعُون ومُطَّلِعُون، يقال من ذلك: طَلَعْتُ عليهم واطَّلَعْتُ عليهم في معنى واحد.
قال الزمخشري (3) : قيل: الخطاب على هذا للملائكة.
وقرئ: "مُطْلِعُونِ" بكسر النون (4) ، أراد: مطلعون إياي؛ فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:
هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمرُونه ... إذا ما خَشُوا من حادثِ الأمر مُعْظَمَا (5)
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:369).
(2) ... معاني الزجاج (4/304).
(3) ... الكشاف (4/47).
(4) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/60)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/503). وقد ردّ هذه القراءة أبو حاتم وغيره؛ لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم، إذ كان قياسها: مُطَّلِعِيّ.
(5) ... انظر البيت في: الكتاب لسيبويه (1/188) وفيه: أن الرواة زعموا أنه مصنوع، ومجالس ثعلب (ص:123)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/125)، والخزانة (4/269)، ومعاني الفراء (2/386)، والبحر (7/346)، والدر المصون (5/504)، والقرطبي (15/83).(1/427)
قال الزجاج (1) : كسر النون شاذ عند البصريين والكوفيين جميعاً، وله عند الجماعة وجه ضعيف، وقد جاء مثله في الشعر وهو قوله، وأنشد البيت ثم قال: وإنما الكلام: والآمروه، وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون والتنوين، تقول: زيدٌ ضَارِبي وهم ضاربوك.
وقال ابن جني (2) : هو على لغة ضعيفة، وهو أن يجري اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع؛ لقربه منه، فيجري "مُطلعوني" مجرى "يُطلعوني"، وهو شاذ.
{ قال تالله إنْ كدت لتردين } قال الزمخشري (3) : "إنْ" مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على "كاد" كما تدخل على "كان"، ونحوه: { إن كاد ليضلنا } [الفرقان:42] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.
"لتُرْدِين": لتهلكني.
{ ولولا نعمة ربي } وهي العصمة والتوفيق للتمسك بعروة الإسلام، { لكنت من المحضرين } في النار.
قال ابن السائب: ثم يؤتى بالموت فيُذْبَح، فإذا أمن أهل الجنة فرحوا، وقالوا: { أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى } التي كانت في الدنيا { وما نحن بمعذبين } فقيل لهم: لا، فعند ذلك قالوا: { إن هذا لهو الفوز العظيم } قال
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/305).
(2) ... المحتسب (2/220).
(3) ... الكشاف (4/47).(1/428)
الله تعالى: { لمثل هذا } النعيم { فليعمل العاملون } (1) .
قال الزمخشري (2) : الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
y7د9؛sŒr& خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ اPq-%¨9$# (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/526).
(2) ... الكشاف (4/47).(1/429)
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ اذحب
ولما تمت قصة المؤمن وقرينه رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: { أذلك } يعني: الرزق { خير نُزُلاً } قال الزجاج والزمخشري (1) : النُّزُل
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/306)، والكشاف (4/48).(1/430)
هاهنا: الرَّيْعُ والفَضْلُ في الطعام، يقال من ذلك: هذا طعام كثير النُّزُل، بتسكين الزاي وضَمِّها، والنَّزَل أيضاً.
قال الزمخشري (1) : فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم.
وانتصاب "نُزُلاً" على التمييز، ولك أن تجعله حالاً، كما تقول: أثَمر النخلة خير بلحاً أم رطباً؟ يعني: أن الرزق المعلوم نُزُل أهل الجنة، وأهل النار نُزُلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلاً. والنُّزُل: ما يقال للنازل بالمكان من الرزق. ومنه: إنزال الجند لأرزاقهم. ومعنى الأول: أن للرزق المعلوم نُزُلاً، ولشجرة الزقوم نُزُلاً، فأيهما خير نزلاً؟. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل لهم ذلك توبيخاً على سوء اختيارهم.
قال الماوردي (2) : هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار، مُرّة الثمرة، خَشِنَة الملمس، مُنْتِنَة الريح.
فلما نزلت هذه الآية قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة. فقال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر: التمر والزبد، فقال أبو جهل: يا جارية أبغينا تمراً وزبداً، ثم قال لأصحابه: تزقموا، هذا الذي يخوفنا به محمد، [يزعم أن
__________
(1) ... الكشاف (4/48).
(2) ... تفسير الماوردي (5/50-51).(1/431)
النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر] (1) .
قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تأكلها، فأنزل الله تعالى: { إنا جعلناها فتنة للظالمين } (2) .
أي: محنةً [وعذاباً] (3) لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا.
{ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها (4) .
{ طَلْعُها } الطَّلْع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، { كأنه } في قبح منظره وشدة كراهته { رؤوس الشياطين } وشبهه برؤوس الشياطين وإن كانوا لم يروها؛ لما تقرر في أنفس الناس من قبحها، لكون الشيطان شراً محضاً، ألا تراهم يقولون للشيء المتناهي في القبح: كأنه شيطان، وللقبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، وإذا [صَوَّره] (5) المصورون جاؤوا به على أقبح ما يقدروا، وبالعكس من ذلك [تشبيههم] (6) الأشياء المتناهية الحُسْن بالملائكة؛ لما تقرر في النفوس من حسن الصورة المَلَكية
__________
(1) ... زيادة من الماوردي (5/51).
(2) ... أخرجه الطبري (23/63)، وابن أبي حاتم (10/3216). وذكره السيوطي في الدر (7/95) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... في الأصل: عذاباً. والمثبت من: الكشاف (4/48).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/526)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/63).
(5) ... في الأصل: صوروه. والتصويب من الكشاف (4/48).
(6) ... في الأصل: تشبههم. والصواب ما أثبتناه.(1/432)
وإن لم يشاهدوها؛ لكون المَلَك خيراً محضاً، ومنه قوله تعالى: { ما هذا بشراً إن هذا إلا مَلَكٌ كريم } (1) [يوسف:31].
قوله تعالى: { فإنهم لآكلون منها } أي: مِنْ ثَمَرِها { فمالئون منها البطون } إما لما يغلبهم من الجوع المفْرط، أو لكونهم يُكرهون على أكلها.
{ ثم إن لهم عليها لشوباً } أي: لَخَلْطاً ومزاجاً { من حميم } وهو الماء المتناهي الحرارة، إما أنهم يشربونه لعطشهم إذا أكلوا الزقوم، أو يُشاب لهم الزقوم بالحميم قبل تناوله.
والأول أظهر في العربية؛ لترتيبه بحرف "ثم".
وقرئ شاذاً: "لشُوباً" بضم الشين (2) ، و"هم" اسم لما يُشاب به، والأول تسميه بالمصدر.
قوله تعالى: { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } فيه إشعار بأنهم يذهب بهم عن دركاتهم في النار إلى شجرة الزقوم والماء الحميم فيتطلعون منهما ثم يرجعون إلى أماكنهم، وهذا كقوله تعالى في موضع آخر: { يطوفون بينها وبين حميم آن } [الرحمن:44].
ثم ذمّهم الله تعالى على التقليد في الشرك فقال: { إنهم ألفَوا آباءهم ضالين } أي: وجدوهم زائغين عن طريق الهدى.
__________
(1) ... هذا كلام الزمخشري في الكشاف (4/48).
(2) ... وهي قراءة شيبان النحوي. انظر هذه القراءة في: البحر (7/348)، والدر المصون (5/506).(1/433)
{ فهم على آثارهم يُهْرَعُون } قال الزجاج (1) : يَتبعونهم في سُرعة، كأنهم يزعجون [من الإسراع] (2) إلى اتباع آبائهم.
ô‰s)s9ur نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/307).
(2) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/434)
الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ارثب
قوله تعالى: { ولقد نادانا نوح } أي: دعانا على قومه حين أَيِسَ منهم، { فلنعم المجيبون } اللام جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فوالله لنعم المجيبون نحن.
والمراد: أجبناه أحسن الإجابة من نصره على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ أنواع العذاب.
{ وجعلنا ذريته هم الباقين } وذلك أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده.
وقيل: المعنى: هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة، وذلك أنه كان معه في السفينة أولاده الثلاثة: سام -وهو أبو العرب-، ويافث -أبو الروم-وحام -أبو الحبش-.
قال بعض العرب يصف سوداء:
عجوزٌ من بني حَام بن نُوح ... كأنَّ جَبينها حَجَرُ المقام (1)
وقيل: سام أبو العرب وفارس والروم، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب.
والأول أصح؛ لما أخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب قال: قال
__________
(1) ... البيت لعنترة بن شداد، انظر: الماوردي (5/53).(1/435)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم " (1) .
{ وتركنا عليه في الآخرين } قال ابن عباس: تركنا عليه ثناء حسناً، وهو قوله تعالى: { سلام على نوح } (2) . وهو من الكلام المحكي.
قوله تعالى: { في العالمين } إعلام بثبات ذلك ودوامه في الملائكة والثقلين، وأنهم يسلمون عليه عن آخرهم إلى يوم القيامة.
ثم نبّه على أن علّة هذا العطاء الجزيل والثناء الجميل إحسان نوح وإيمانه، فقال تعالى: { إنا كذلك ... } إلى آخر الآيتين.
* وَإِن مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) %¸3ّےح r& آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ارذب
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/365 ح3231).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/527).(1/436)
قوله تعالى: { وإن من شيعته لإبراهيم } قال ابن عباس: من أهل دينه (1) .
وقال مجاهد: على منهاجه وطريقته (2) .
قال الأصمعي: الشيعة: الأعوان، مأخوذ من الشِّياع، وهو الحطب الصغار، يوضع مع الكبار حتى يستوقد؛ لأنه يعين على الوقود (3) .
وعامة المفسرين ذهبوا إلى أن الضمير في "شيعته" يرجع إلى نوح.
وقال ابن السائب والفراء (4) : الضمير لمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وهو بعيد.
وقيل: جعله من شيعته؛ لما بين شريعتيهما من الاتفاق.
وقيل: لحسن مصابرته قومه.
قوله تعالى: { إذ جاء ربه بقلب سليم } قال قتادة: من الشك (5) .
وقال الحسن: من الشرك (6) .
والصحيح: العموم، على معنى: جاء ربه بقلب سليم من جميع الآفات المفسدة للقلوب، والظرف متعلق بما في "شيعته" من معنى المشايعة، على معنى: وإن من جملة من شايعه حين جاء ربه بقلب سليم إبراهيم، أو هو
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/69). وذكره الماوردي (5/54).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:542)، والطبري (23/69)، وابن أبي حاتم (10/3219). وذكره السيوطي في الدر (7/100) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/54).
(4) ... معاني الفراء (2/388). وذكره الطبري (23/69) بلا نسبة، والماوردي (5/54)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/66).
(5) ... ذكره الماوردي (5/54).
(6) ... مثل السابق.(1/437)
متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر إذ جاء ربه، فقال بعض أهل المعاني: أخلص قلبه لله، وعرف ذلك منه، فضرب المجيء مثلاً لذلك (1) .
{ إذ قال لأبيه وقومه } بدل من "إذ جاء ربه" (2) .
{ أإفْكاً } قال الزمخشري (3) : هو مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً، وإنما قدم [المفعول على الفعل للعناية، وقدم] (4) المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون "إفكاً" مفعولاً به، يعني: أتريدون إفكاً (5) .
ثم فسّر الإفك بقوله: { آلهة دون الله } على أنها إفك في أنفسها.
ويجوز أن يكون حالاً، يعني: أتريدون آلهة من دون الله آفكين (6) .
{ فما ظنكم برب العالمين } قال الثعلبي والواحدي (7) : ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره. فيكون تهديداً لهم على هذا القول.
وقال صاحب الكشاف (8) : المعنى: فما ظنّكم به حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام، أو فما ظنكم به أيّ شيء هو من الأشياء حتى جعلتم الأصنام
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/50).
(2) ... انظر: التبيان (2/206)، والدر المصون (5/508).
(3) ... الكشاف (4/50-51).
(4) ... زيادة من الكشاف (4/50).
(5) ... انظر: الدر المصون (5/508).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... تفسير الثعلبي (8/148)، والوسيط للواحدي (3/528).
(8) ... الكشاف (4/51).(1/438)
له أنداداً. فيكون تجهيلاً لهم.
tچsàoYsù نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي(1/439)
الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ازرب
قوله تعالى: { فنظر نظرة في النجوم } قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم، فأتاهم من حيث لا ينكرون حين أراد الكيد بأصنامهم، ليستدرجهم إلى مقصوده في إلزامهم الحجة، ودافعهم لئلا يحضر معهم عيدهم، وأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم (1) .
قال سعيد بن جبير: رأى نجماً طالعاً فنظر فيه { فقال إني سقيم } (2) .
أي: مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب أمراضهم، وكانوا يخافون العدوى، فتفرقوا عنه وذهبوا إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام، ففعل ما قصّ الله تعالى في كتابه الكريم.
وقال الكلبي: كان إبراهيم عليه السلام بقرية بين البصرة والكوفة، وكانوا ينظرون في النجوم، فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم (3) .
قال ابن عائشة: كان علم النجوم من النبوة، فلما حبس الله تعالى على
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/528)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/67).
(2) ... أخرجه الطبري (23/71)، وابن أبي حاتم (10/3219) كلاهما عن سعيد بن المسيب. وذكره السيوطي في الدر (7/100) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب.
(3) ... ذكره الماوردي (5/56).(1/440)
يوشع بن نون (1) الشمس أبطل ذلك (2) .
فعلى هذا؛ يكون التقدير: فنظر نظرة في علم النجوم، أو في أحكام النجوم.
وقال قتادة: كلمة من كلام العرب، تقول إذا تفكّر الرجل في أمره: قد نظر في النجوم (3) .
فإن قيل: هل يُعَدُّ قوله: "إني سقيم" كذباً؟
قلتُ: كلا بل هو من معاريض الكلام. وقد أشبعت القول في مثل هذا في سورة الأنبياء في قصة إبراهيم عليه السلام.
ومراده هاهنا: إني سَاقِم، كما قال تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون } [الزمر:30].
وقيل: إني سقيم النفس لكُفْرِكُم.
{ فراغ إلى آلهتهم } ذهَبَ إليها خفية، ومنه: رَوْغَةُ الثعلب. وكانوا تركوا بين أيدي آلهتهم طعاماً [لتبارك] (4) لهم فيه [على زعمهم] (5) { فقال } إبراهيم عليه السلام مستهزءاً بها وبهم: { ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون } .
{ فراغ عليهم ضرباً باليمين } أي: مَالَ عليهم. و"ضَرْباً": مصدر.
__________
(1) ... وهو فتى سيدنا موسى الذي صاحبه في رحلتيه إلى الخضر.
(2) ... ذكره الماوردي (5/55).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... في الأصل: لتبرك. والتصويب من زاد المسير (7/68).
(5) ... زيادة من زاد المسير، الموضع السابق.(1/441)
وفي قوله: "باليمين" ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أراد الجارحة المعلومة، أي: ضربهم بيده اليمنى؛ لأن الضرب بها أشد وأمكن؛ لقوتها.
الثاني: أنه أراد بالقوة والقدرة. قاله السدي (1) .
وقيل: بقوة النبوة.
والثالث: أن المعنى: "ضَرْباً باليمين" أي: بسبب اليمين حين قال: { وتالله لأكيدن أصنامكم } [الأنبياء:57]. حكاه ابن عيسى وغيره (2) .
{ فأقبلوا إليه يَزِفُّون } وقرأ حمزة: "يُزِفُّون" بضم الياء (3) ، وقرأتُ بها أيضاً لعاصم من رواية أبان عنه، ومن رواية أبي زيد عن المفضل عنه.
فمن قرأ بفتح الياء فمعناه: فأقبلوا إليه يُسرعون؛ من زَفيف النعامة، وهو أول عَدْوِهَا، يقال: جاء يزِفُّ زَفيفَ النعامة، ويقال: زفَّتِ الإبل تَزفُّ؛ إذا أسرعت (4) .
ومن ضم الياء فهو من أَزَفَّ، إذا دخل في الزَّفيف، أو من أزفَّه، إذا حمله على الزَّفِيف، أي: يُزفُّ بعضهم بعضاً، أو يُزفُّون دوابهم، فإنه بلغهم صنيع إبراهيم بآلهتهم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/528)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/69).
(2) ... ذكره الماوردي (5/57)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/69) حكاية عن الماوردي.
(3) ... الحجة للفارسي (3/317)، والحجة لابن زنجلة (ص:609)، والكشف (2/225)، والنشر (2/357)، والإتحاف (ص:369)، والسبعة (ص:548).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: زفف).(1/442)
فلما أقبلوا عليه قال محتجاً عليهم: { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } وبهذه الآية احتج علماء الحق على إبطال مذهب القَدَرية والجبرية بناء على أن "ما" مصدرية.
المعنى: والله خلقكم وعملكم، فأثبت كونها مخلوقة لله، وكونها من كسب العباد.
وقيل: إن "ما" موصولة، على معنى: والله خلقكم والذي تعملونه وتنحتونه من الآلهة.
وهذا الوجه أظهر؛ لوجهين:
أحدهما: أن المراد من الآية: الاحتجاج عليهم بفساد ما انتحلوه من عبادة [مخلوقات] (1) لله تعالى مثلهم، بدليل قوله تعالى: { أتعبدون ما تنحتون } ، فلو قلنا بأنها مصدرية لم يصح هذا الاحتجاج.
الثاني: أن "ما" في قوله: { ما تنحتون } موصولة لا شك فيها، فلا يُعدل بأختها عنها.
قوله تعالى: { فأرادوا به كيداً } أي: شراً، وهو تحريقه بالنار، { فجعلناهم الأسفلين } أي: أعليناه عليهم بالحجة، وقهرناهم بخلاص إبراهيم من كيدهم.
وقيل: من الأسفلين في نار جهنم.
tA$s%ur إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
__________
(1) ... في الأصل: مخالوق. والصواب ما أثبتناه.(1/443)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ اتةثب
{ وقال إني ذاهب إلى ربي } قال ابن عباس: مُهَاجر إلى ربي، يعني: أهجر ديار الكفر وأذهب إلى حيث أمرني ربي (1) .
وقال قتادة: ذاهب إلى ربي بقلبي وديني وعملي (2) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/529).
(2) ... أخرجه الطبري (23/76)، وابن أبي حاتم (10/3220). وذكره السيوطي في الدر (7/101) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/444)
قال مقاتل (1) : فهاجر من أرض العراق، وهو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة.
وفي قوله: { سيهدين } قولان:
أحدهما: سيرشدني إلى طريق الهجرة. وهو قول جمهور المفسرين (2) .
الثاني: سيرشدني إلى ما فيه صلاحي وتوفيقي، وهو الظاهر.
فلما استقر بدار هجرته -قال مقاتل (3) : هي الأرض المقدسة- سأل ربه الولد فقال: { رب هب لي من الصالحين } ولفظ الهِبة مُشعرٌ بالولد وغالبٌ عليه، ومنه: { ووهبنا له يحيى } [الأنبياء:90]، و { هب لي من لدنك ولياً } [مريم:5]، ومنه قول علي حين هَنَّأ عبدالله بن العباس بولده علي عليهم السلام أبي الخلفاء: شكرت الواهب، وبورك في الموهوب.
{ فبشرناه بغلام حليم } أي: وقور.
قال الحسن: ما سمعت الله تعالى نحل عباده شيئاً أجلّ من الحلم (4) .
قال الزجاج (5) : وهذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويُوصف بالحلم.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/103).
(2) ... ذكره الماوردي (5/59).
(3) ... تفسير مقاتل (3/103).
(4) ... ذكره الماوردي (5/60).
(5) ... معاني الزجاج (4/310).(1/445)
{ فلما بلغ معه السعي } قال قتادة: مشى معه (1) .
وقال الحسن: مشى معه للعمل الذي تقوم به الحجة (2) .
قال ابن عباس: صام وصلى، ألم تسمع إلى قوله تعالى: { وسعى لها سعيها } (3) [الإسراء:19].
قال المفسرون: كان ابن ثلاث عشرة سنة (4) .
{ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } قال مقاتل (5) : رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات.
قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي (6) .
وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه (7) .
{ فانظر ماذا تَرَى } وقرأ حمزة والكسائي: "تُرِي" بضم التاء وكسر
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/77)، وابن أبي حاتم (10/3221). وذكره السيوطي في الدر (7/103) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (5/60)، والواحدي في الوسيط (3/529).
(3) ... ذكره الماوردي (5/60).
(4) ... ذكره الماوردي (5/61)، والواحدي في الوسيط (3/529)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/72).
(5) ... تفسير مقاتل (3/104).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3221). وذكره السيوطي في الدر (7/104) وعزاه لابن أبي حاتم.
(7) ... أخرجه الطبري (23/78). وذكره السيوطي في الدر (7/104-105) وعزاه لعبد بن حميد.(1/446)
الراء (1) .
فمن قرأ: "تَرَى" بفتح التاء والراء، فمعناه: ماذا ترى من صبرك أو جزعك، أو ماذا ترى من الرأي.
ومن قرأ: "تُرِي" فعلى معنى: ماذا تبصر من رأيك وتبديه وتشير به.
وقال الفراء (2) : ماذا تريني من صبرك أو جزعك.
وعلم أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، فإن ذلك كان حتماً من الله تعالى، بل ليعلم ما عنده مما نزل به من البلاء العظيم، وليؤانسه ويثبته ويستدرجه إلى الاستسلام والانقياد لما أمر به فيه، فظهر فيه أثر تلك البشارة المؤذنة براجح علمه، فذلك قوله: { قال يا أبت افعل ما تؤمر } به من ذبحي { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على بلائه.
!$£Jn=sù أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/317)، والحجة لابن زنجلة (ص:609)، والكشف (2/225)، والنشر (2/357)، والإتحاف (ص:369-370)، والسبعة (ص:548).
(2) ... معاني الفراء (2/390).(1/447)
الْمُحْسِنِينَ (105) إِن هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ(1/448)
مُبِينٌ اتتجب
{ فلما أسلما } أي: استسلما لأمر الله تعالى وانقادا له.
وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد والأعمش والثوري: "سلّما" (1) . يقال: أسْلَمَ وسَلَّمَ واسْتَسْلَمَ بمعنى واحد.
قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه (2) .
{ وتلّه للجبين } صرعه على شقه، فوضع أحد جنبيه على الأرض، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما.
قال الحسن: كان ذلك في الموضع المشرف على مسجد منى (3) .
وقال الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم (4) .
{ وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا } حيث فعلت ما أمكنك فعله.
ويروى: أنه رأى في النوم معالجة الذبح ولم يراد إراقة الدم، ففعل في اليقظة ما رأى في النوم. وهذا تمام الكلام.
وجواب "لَمَّا" محذوف، تقديره: لما أسلما كان مما لا يحيط به الوصف من سعادتهما واصطفائهما.
وقيل: الجواب: "وناديناه"، والواو زائدة.
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:370).
(2) ... أخرجه الطبري (23/79)، وابن أبي حاتم (10/3224). وذكره السيوطي في الدر (7/111) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/57).
(4) ... مثل السابق.(1/449)
وقوله تعالى: { إنا كذلك نجزي المحسنين } إخبارٌ من الله تعالى، وليس من تمام ما نودي به إبراهيم.
قال مقاتل (1) : جزاه الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
{ إن هذا لهو البلاء المبين } الاختبار [الظاهر] (2) الصعوبة أو المبين للمخلص من غيره.
وقال: البلاء هاهنا: النعمة، وهو أن فُدي ابنه بالكبش، وهو قوله تعالى: { وفديناه بذبح عظيم } فعلى قوله: يكون "هذا" إشارة إلى الفداء.
والذَّبْح: اسم لما يُذْبَح.
واختلفوا في الكبش؛ فقال ابن عباس: هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقُبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فُدي به إسماعيل (3) .
وقال الحسن: [أنه فدي] (4) بوعْل (5) أُهبط عليه من ثبير (6) .
فإن قيل: لم وُصف بالعظيم؟
قلتُ: لأنه وقع فداء عن ذبح الله من خليل الله فصار عظيماً لذلك، أو
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/104).
(2) ... في الأصل: الطار. والصواب ما أثبتناه.
(3) ... أخرجه الطبري (23/86)، وابن أبي حاتم (10/3221). وذكره الماوردي (5/62)، والسيوطي في الدر (7/113) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم.
(4) ... في الأصل: أفدى. والمثبت من الماوردي (5/62).
(5) ... الوَعْل: تيس الجبل (اللسان، مادة: وعل).
(6) ... أخرجه الطبري (23/87). وذكره الماوردي (5/62)، والواحدي في الوسيط (3/530).(1/450)
[لأنه] (1) تقبل ورعى في الجنة أربعين خريفاً.
وقيل: كان عظيم الجثّة.
فصل
اختلف علماء الأمة في الذبيح على قولين:
أحدهما: أنه إسحاق (2) . وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، والعباس بن عبد المطلب، وكعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل (3) ، والزهري، والسدي، في آخرين (4) .
والقول الثاني: أنه إسماعيل. وهو قول ابن عباس، وعبدالله بن عمر، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع، والقرظي، والكلبي، في آخرين (5) .
وعن الإمام أحمد روايتان كالقولين، وإلى القول الأول ميل أصحاب الإمام أحمد، وله ينصرون.
والحجة للقول الثاني في القرآن: ما استنبطه محمد بن كعب القرظي،
__________
(1) ... في الأصل: لكنه. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... وهو اختيار الطبري.
(3) ... تفسير مقاتل (3/104).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:543)، والطبري (23/81-83)، وابن أبي حاتم (10/3221) وما بعدها. وذكره السيوطي في الدر (7/107 وما بعدها) من طرق عديدة، فانظرها.
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:543)، والطبري (23/83-85)، وابن أبي حاتم (10/3223). وذكره السيوطي في الدر (7/105-107) من طرق عديدة، فانظرها.(1/451)
وذلك أن الله تعالى قال حين فرغ من قصة المذبوح: { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } ، وقال عز من قائل: { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } [هود:71] يقول: [بابن] (1) وابن ابن، فلم يكن يأمره بإسحاق ليذبحه وله فيه من الله تعالى الموعد (2) . فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلا بعد انقضاء قصة الذبح ثم بشره بإسحاق، علمنا أن الذبيح إسماعيل.
قال القرظي: قد ذكرتُ ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كنت معه بالشام، فقال لي عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، وكان يهودياً فأسلم وحَسُنَ إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال: أيُّ بَنِي إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود ليعلمون ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن [يكون] (3) أباكم الذي كان من أمر الله سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره الله تعالى عنه، لصبره على ما أمره به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم (4) .
واحتج أيضاً من نصر هذا القول: بأن قرني الكبش كانا منوطين
__________
(1) ... في الأصل: وأبا ابن. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/605 ح4039)، والطبري (23/84). وذكره السيوطي في الدر (7/106) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير والحاكم.
(3) ... زيادة من الطبري (23/85).
(4) ... أخرجه الطبري (23/84-85). وذكره السيوطي في الدر (7/107) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير.(1/452)
بالكعبة، ولو كان الذبيح إسحاق لم يكن ذلك، بل كانا في يدي بني إسرائيل، ولم يزالا في البيت إلى أن احترق في أيام ابن الزبير والحجاج.
قال الشعبي وغيره: كان [القرنان] (1) ميراثاً لولد إسماعيل عن أبيهم، وكان ولد إسحاق الروم أكثر وأعز من العرب، فلو لم يكن شرفاً لهم لم تقره الروم في أيديهم.
وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو ابن العلاء عن الذبيح؟ فقال لي: يا أصمعي أين ذهب عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه عليهما الصلاة والسلام (2) .
الإشارة إلى القصة:
أخبرنا المؤيد بن محمد في كتابه، أخبرنا عبدالجبار بن محمد بن أحمد، أخبرنا أحمد بن علي النيسابوري، أخبرنا المؤمل بن أحمد، أخبرنا محمد بن عبدالله بن نعيم، حدثنا محمد بن عبدالله الصفار، حدثنا الحسن بن الجهم، حدثنا الحسين بن الفرج، حدثنا أبو عبدالله الواقدي، حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي مالك -وكان مولى لعثمان بن عفان- عن عطاء بن [يسار] (3) قال:
__________
(1) ... في الأصل: القرآن. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/100)، وأبو حيان في البحر المحيط (7/356).
(3) ... في الأصل: السائب. والمثبت من المستدرك (2/605)، والوسيط (3/530). وهو عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني القاص، مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان ثقة كثير الحديث، مات بالإسكندرية سنة ثلاث أو أربع ومائة (تهذيب التهذيب 7/194، والتقريب ص:392).(1/453)
سألت خوات بن جبير (1) : ذبيح الله أيهما كان؟ فقال: إسماعيل، لما بلغ إسماعيل سبع سنين رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النوم في منزله بالشام أن يذبح إسماعيل، فركب إليه على البراق حتى جاءه فوجده عند أمه، فأخذ بيده ومضى به إلى حيث أمر، حتى انتهى إلى منحر البدن اليوم، فقال: يا بني! إن الله أمرني أن أذبحك، فقال إسماعيل: فأطع ربك، فإن في طاعة ربك كل خير. فقال له إسماعيل: هل أعلمتَ أمي بذلك؟ قال: لا. قال: أصبت، إني أخاف أن تحزن، ولكن إذا قربت السكين من حلقي فأعرض عني، فإنه أحرى أن تصبر ولا تراني، ففعل إبراهيم، فجعل يحزّ في حلقه فإذا هو يحز في نحاس ما تَحيكُ (2) فيه الشفرة، فَشَحَذَها (3) مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع. قال إبراهيم: إن هذا الأمر من الله، فرفع رأسه فإذا هو بوَعْلٍ واقف بين يديه، فقال إبراهيم: قم يا بني، فقد نزل فداؤك، فذبحه هناك (4) .
وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدوا من الشام فيقيل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه
__________
(1) ... خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري، قيل: إنه شهد بدراً، وضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره، مات سنة أربعين أو بعدها (تهذيب التهذيب 3/147، والتقريب ص:196).
(2) ... أي: ما تقطع (انظر: اللسان، مادة: حيك).
(3) ... شَحَذَ السكين والسيف يشحذه شحذاً: أحَدَّهُ بالمِسَنِّ وغيره مما يخرج حَدَّه (اللسان، مادة: شحذ).
(4) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (2/605 ح4040)، والواحدي في الوسيط (3/530).(1/454)
لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أُرِيَ في المنام أن يذبحه، فلما أقرَّ بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب، فلما جاء بابنه في شعب ثبير أخبره بما ذكر الله تعالى (1) .
قال العلماء بالسير: فقال له ابنه الذي أراد ذبحه: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن، واستحدّ شفرتك، وأسرع مرَّ السكين على حلقي لتذبحني، فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فأقرئها السلام مني، وإن رأيت أن تردّ قميصي على أمي فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ففعل إبراهيم ما أمره به ابنه، ثم أقبل عليه يُقبّله وقد ربطه وهو متكئ والابن يبكي، حتى استنقع بالدموع ما تحت خدّه، ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك السكين (2) .
قال السدي: ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه (3) .
قالوا: فقال الابن عند ذلك: كبني لوجهي على جبيني، فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع، ففعل إبراهيم ذلك، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم! قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك
__________
(1) ... ذكره الطبري في تاريخه (1/165)، والبغوي في تفسيره (4/33).
(2) ... ذكره الطبري في تاريخه (1/164-165)، والبغوي (4/33).
(3) ... أخرجه الطبري (23/78). وذكره السيوطي في الدر (7/110) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/455)
فاذبحها دونه (1) ، فنظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أقرن أملح، فكبَّر جبريل وكبَّر إبراهيم وكبَّر ابنه، فأخذ إبراهيم الكبش فأتى به المنحر من منى فذبحه (2) .
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد يبس (3) .
قال أبو هريرة وكعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله: قال الشيطان: والله لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا [لا أفتن] (4) منهم أحداً أبداً، فتمثل لهم الشيطان رجلاً وأتى أم الغلام، فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطبان من هذا الشعب، قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: إن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه وسلّمنا لأمر الله، فخرج الشيطان من عندها حتى أتى الابن وهو يمشي على إثر أبيه، فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحطب أهلنا من هذا الشعب، قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: يزعم أن الله أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره ربه، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال:
__________
(1) ... أخرجه الفاكهي (5/123-124).
(2) ... ذكره الطبري في تاريخه (1/165-166)، والبغوي في تفسيره (4/34-35).
(3) ... أخرجه الطبري (23/87). وذكره الطبري في تاريخه (1/166)، والبغوي في تفسيره (4/33).
(4) ... في الأصل: لأفتن. والتصويب من البغوي (4/34).(1/456)
أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك، فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي، فرجع عدو الله إبليس بغيظه لم يبلغ من إبراهيم وآله شيئاً مما أراد، قد امتنعوا منه بعون الله تعالى (1) .
قوله تعالى: { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } "نبياً" حال مُقَدَّرَة (2) .
قال الزمخشري (3) : لا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك قولك: وبشرناه بوجود إسحاق نبياً، أي: بأن يوجد مقدرة نبوته؛ فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله: { فادخلوها خالدين } [الزمر:73].
قوله تعالى: { من الصالحين } : حال ثانية (4) .
قال قتادة: بشره الله تعالى بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه (5) .
وهذا جواب من يقول: الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله: { وبشرناه بإسحاق } ، قالوا: ولا يجوز أن يبشره الله تعالى بمولده ونبوته
__________
(1) ... أخرجه الفاكهي (5/123). وذكره الطبري في تاريخه (1/165)، والبغوي في تفسيره (4/34).
(2) ... انظر: التبيان (2/207)، والدر المصون (5/511).
(3) ... الكشاف (4/61).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/511).
(5) ... أخرجه الطبري (23/89)، وابن أبي حاتم (10/3224). وذكره السيوطي في الدر (7/115) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/457)
معاً؛ لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبياً.
قوله تعالى: { وباركنا عليه وعلى إسحاق } أي: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا.
ô‰s)s9ur مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ(1/458)
عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ اتثثب
قوله تعالى: { ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } وهو ما كانوا فيه من الذُلِّ والاستعباد والاستخدام في الأعمال الشاقة.
وقيل: الغرق.
¨bخ)ur إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ مNن3ح !$t/#uن الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ(1/459)
لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ اتجثب
قوله تعالى: { وإن إلياس لمن المرسلين } وقرأتُ لابن عامر من بعض طرقه: "وإنَّ اليَاسَ" بوصل الهمزة (1) . والابتداء على هذه القراءة بفتح الهمزة، جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف، كقوله: { واليَسْعَ } [الأنعام:86].
والوجه: قراءة العامة؛ لأن الهمزة ثابتة في هذا الاسم وليست للتعريف، يدل على ذلك قوله: { سلام على إلياسين } .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/319)، والحجة لابن زنجلة (ص:609-610)، والنشر (2/357-360)، والإتحاف (ص:370)، والسبعة (ص:548).(1/460)
واختلف فيه، فقال عبدالله بن مسعود: هو إدريس عليه السلام (1) ، وفي قراءته: "وإن إدريس لمن المرسلين"، "سلام على إدراسين"، وهذا قول قتادة وعكرمة (2) .
وقال عامة المفسرين وأهل العلم بالتاريخ: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل (3) .
قال ابن عباس: هو عم اليسع (4) ، وقالوا: هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران.
قال ابن إسحاق وغيره: بعثه الله تعالى إلى سبطه، وكانوا يسكنون بعلبك، وكان ملكهم قد حملهم على عبادة الأوثان، وكان لهم صنم يقال له: ["بَعْل"] (5) ، طوله عشرون ذراعاً، له أربعة أوجه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الرحمن ورفض الأوثان، فاستجاب له الملك، وكان إلياس يقوم بأمره ويسدده، وكان للملك امرأة فاجرة، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب، فتبرز للناس وتحكم بينهم، وكانت قَتَّالة للأنبياء والأولياء، وكان للملك
__________
(1) ... أخرجه الطبري (7/261)، وابن أبي حاتم (4/1336). وذكره السيوطي في الدر (7/117) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر.
(2) ... أخرجه الطبري (23/91). وذكره السيوطي في الدر (7/117) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/531)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/79).
(4) ... ذكره الماوردي (5/64) عن الكلبي، والبغوي (4/36)، والقرطبي (15/115).
(5) ... في الأصل: بغل. والتصويب من البغوي (4/36).(1/461)
جار صالح.. (1) له جنينة إلى جنب قصر الملك وامرأته، وكان [الملك يحسن إليهما] (2) ، وكانت امرأته تحسده عليها، فاحتالت عليه في أخذها منه.. (3) في بعض أسفار الملك أنه قد سبّ الملك، وكان حكمهم إذ ذاك أن من سبّ الملك قُتِلَ، فقتلته وأخذت الجنينة، فغضب الله تعالى عليهم، فلما قدم الملك سَفَّهَ رأيها فيما فعلت، فقالت: غضبتُ لك وحكمتُ بحكمك، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن قل له [ولزوجته] (4) : إن الله تعالى قد غضب لوليه حين قتلتموه ظلماً، وآلى على نفسه إن لم تتوبا وتردّا الجنينة إلى ورثة وليي؛ أن يهلكهما في جوف الجنينة أيسر ما تكونان، ثم يدعكما جيفتين مُلقاتين فيها حتى تتعرى عظامكما من لحومكما، ولا يتمتعان بها إلا قليلاً، فلما بلغه رسالة ربه اشتد غضبه على إلياس وقال: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى إلا فلاناً وفلاناً -سَمّى ملوكاً كانوا يعبدون الأوثان- إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتمتعون، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما ترى لنا عليهم من فضل، وهمَّ بتعذيب إلياس، فلما أحس بذلك خرج هارباً منه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد الملك إلى عبادة الأوثان، وعكف على "بَعْل" يعبده من دون الله، وجعل له أربعمائة سادن يحفظونه ويقومون بأمره، وكان الشيطان يدخل في جوفه فيكلم السدنة،
__________
(1) ... كلام غير ظاهر في الأصل.
(2) ... غير ظاهر في الأصل. ولعل الصواب ما أثبتناه. وانظر: البغوي (4/36).
(3) ... كلام غير ظاهر في الأصل.
(4) ... في الأصل: لزوجته.(1/462)
فمرض ابن الملك -وكان يحبه حباً شديداً- فسأل السدنة أن يلتمسوا له الشفاء من "بَعْل"، فدعوه فلم يجبهم، ومنعت القدرة الإلهية الشيطان أن يلج في جوف "بَعْل"، فلما طال ذلك عليهم قالوا: أيها الملك إن إلهك عليك غضبان، قال: ولم وأنا أعبده وأطيعه؟ قالوا: لأنك لم تقتل إلياس وفرطت فيه حتى نجا سالماً، وهو كافر بإلهك، فخذْ في طلبه، وهلك ابنه، ودعا عليهم إلياس فحبس الله تعالى عليهم القطر ثلاث سنين وهلك أكثرهم، فرجع إليهم إلياس فقال: إن كنتم لم تعلموا أنكم على باطل فاخرجوا بأصنامكم وادعوها، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنزعتم ورجعتم [ودعوتم] (1) الله تعالى فكشف ما بكم، فقالوا: أنصفت، وفعلوا، فلما رأوا أنها لم تجبهم إلى ما سألوا لجأوا إلى إلياس، فدعا الله تعالى لهم فنشأت سحابة مثل الترس فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى المطر فأغاثهم، فلما [كشف] (2) الله عنهم نقضوا العهد ولم ينزعوا عن ضلالتهم، فلما رأى إلياس ذلك دعا [ربه عز وجل أن يريحه منه] (3) ، فقيل له: انظر يوم كذا وكذا فاخرج إلى موضع كذا [وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه] (4) ولا تهبه، فأقبل [فرسٌ] (5) من نار حتى وقف بين يديه، فوثب
__________
(1) ... في الأصل: ودعوتموا.
(2) ... في الأصل: شكف. والتصويب من البغوي (4/41).
(3) ... غير ظاهر في الأصل، والمثبت من البغوي، الموضع السابق.
(4) ... مثل السابق.
(5) ... في الأصل: قوس. والتصويب من البغوي، الموضع السابق.(1/463)
[عليه إلياس] (1) فانطلق الفرس، فكان ذلك آخر العهد به، وقطع الله عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، وكان إنسياً ملكياً، أرضياً سمائياً (2) ، وسلط الله تعالى على الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم، فقتل الملك وزوجته في الجنينة، ولم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما، ونبأ الله اليَسْع وبعثه إلى بني إسرائيل رسولاً، وأيَّدَهُ بمثل ما أيَّدَ به إلياس، فآمنت به بنوا إسرائيل، وكانوا يعظمونه وينتهون إلى أمره (3) .
وقد أخرج الإمام بإسناده عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام (4) .
قوله تعالى: { أتدعون بَعْلاً } قال عطاء: كان من ذهب (5) .
{ وتذرون أحسن الخالقين } أي: وتدعون عبادة أحسن الخالقين.
{ اللهُ ربُّكُم } مبتدأ وخبر، { وربُّ آبائكم الأولين } عطف على الخبر (6) .
__________
(1) ... غير ظاهر في الأصل، والمثبت من البغوي، الموضع السابق.
(2) ... أخرج نحوه الطبري (23/92-94) من طريق محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/81) مختصراً، والطبري في تاريخه (1/273-274). وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ذكر قول وهب بن منبه (1/338): وفي هذا نظر، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، بل الظاهر أن صحتها بعيدة. والله أعلم.
(3) ... ذكر البغوي قول ابن إسحاق بطوله في تفسيره (4/36-41).
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:281).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/531).
(6) ... انظر: الدر المصون (5/512).(1/464)
وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "اللهَ ربَّكُم وربَّ" بالنصب على البدل (1) .
قوله تعالى: { سلام على إليَاسين } وقرأ نافع وابن عامر: "آل ياسين" (2) .
قال أبو علي (3) : حجة من قرأ "آل ياسين" أنهم زعموا أنها في المصحف مفصولة من "ياسين"، ولو كانت الألف واللام التي للتعريف لوصلت في الخط [ولم تُفْصَل] (4) ، ففي فَصْل ذلك في الكتاب دلالة على "آلٍ" الذي تصغيره: أُهيل.
وأما من قرأ "إلياسين" فهو جمع، معنى واحده النسب، مثل: تميمي وبكري، ولا يجوز أن يكون هذا الجمع على حدِّ: مسلم ومسلمون، وزيد وزيدون؛ لأنه ليس كل واحدٍ منهم اسمه إلياس، وإنما إلياس اسم نبيِّهم، وإذا لم يكن على هذا عُلِمَ أنه على معنى إرادة النسب بالياء، إلا أن اليائين حذفتا في جمع الاسم على التصحيح، كما حذفتا في جمعه على التكسير، وذلك على نحو: المَسَامِعَة [والمَهَالِبَة] (5) ، فإنما هذا على أن كل واحد منهم مَسْمَعِي
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/321)، والحجة لابن زنجلة (ص:610)، والكشف (2/228-229)، والنشر (2/360)، والإتحاف (ص:370)، والسبعة (ص:549).
(2) ... الحجة للفارسي (3/319)، والحجة لابن زنجلة (ص:610-611)، والكشف (2/227)، والنشر (2/360)، والإتحاف (ص:370)، والسبعة (ص:549).
(3) ... الحجة للفارسي (3/319-321).
(4) ... زيادة من الحجة (3/319).
(5) ... في الأصل: والمهالية. والتصويب من الحجة (3/320).(1/465)
ومُهَلَّبِي، فحذفت الياءات في الجمع، وهكذا قولهم: الأشعرون والنمرون، إنما هو الأشعريون والنميرون، فحذفت ياء النسب من جميع ذلك، وكذلك التقدير في "إلياسين": إلياسيِّين، فحذفت كما حذفت من سائر هذه الكلم، وقد قيل: أن إلياسين لغة في إلياس، كقوله: ميكال وميكائيل.
قال أبو علي (1) : وليس كذلك؛ لأن ميكال وميكائيل لغتان في اسم واحد، وليس أحدهما مفرداً والآخر جمعاً؛ كإدريس وإدْراسين، وإلياس وإلياسين. تمّ كلام أبي علي.
قال ابن عباس في قوله تعالى: { إلياسين } يريد: إلياس ومن آمن معه (2) .
قال الفراء (3) : يذهب بإلياسين إلى أنه يجعله جمعاً فيجعل أصحابه داخلين (4) في اسمه.
وأما من قرأ "آل ياسين": فلم أر أحداً من المفسرين قال فيه كلاماً سديداً. ويحتمل عندي وجهين:
أحدهما: أن يراد بـ"ياسين": إلياس، ويكون ذلك من تحريف العرب الكلم الأعجمي؛ لأنه ليس من لغتها، فيقِلُّ اهتمامها به كما مرّ، حرّفوا إدريس إلى إدارس وإدراسين، وسليمان إلى سَلاَّم. قال الحطيئة:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/321).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/532).
(3) ... معاني الفراء (2/391-392).
(4) ... في الأصل زيادة قوله: فيه. وهو وهم. وانظر: معاني الفراء (2/392).(1/466)
فيه الرِّماحُ وفيه كُلّ سابغةٍ ... ... جَدْلاءَ مُحكمةٍ من نسْجِ سَلاَّم (1)
وحرَّفَه النابغة فقال:
.......................... ... ... ونسْجُ [سُليمٍ] (2) كُلَّ قَضَّاءَ ذائِل (3)
الجَدْلاء والمجْدُولة: المحكمة. ودرع قَضَّاء: خشنة الملمس. وذائل: طويلة.
وحرّفوا أيضاً "طور سيناء" إلى "طور سينين"، وهذا كثير في كلامهم جداً.
فعلى هذا؛ يريد: سلام على أهل دينه، ويكون بهذا المعنى داخلاً في جملتهم؛ لأنه أصلهم وهم تبع له، أو تكون الآل مقحمة؛ كقول الشاعر:
فلا تَبْكِ مَيْتاً بعدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ ... عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر (4)
يريد: وأبو بكر.
الثاني: أن المراد بآل ياسين: إلياس، وياسين: اسم أبيه كما سبق، فأضيف إليه كما تقول: آل محمد، وآل علي، وآل العباس، وهذا الوجه ألَمّ به
__________
(1) ... البيت للحطيئة، وهو في: اللسان (مادة: جدل) وفيه: "الجياد" بدل: "الرماح"، والأغاني (12/164)، وتاج العروس (مادة: جدل)، وزاد المسير (1/122).
(2) ... في الأصل: سليماً. والتصويب من مصادر البيت.
(3) ... عجز بيت للنابغة، وصدره: (وكلُّ صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تُبَّعِيَّةٍ)، وهو في: ديوانه (ص:95)، واللسان (مادة: ضمت، ذيل، قضي)، وزاد المسير (1/122)، وتاج العروس (مادة: صمت، ذيل، نثل، قضي)، والعين (5/10).
(4) ... البيت لعبد الله بن أراكة الثقفي يرثي أخاه عمرو، انظر البيت في: تفسير الماوردي (5/159)، وزاد المسير (1/296)، وتفسير القرطبي (4/63).(1/467)
صاحب الكشاف (1) .
وذكر الكلبي في تفسيره: أن المعنى: سلام على آل محمد (2) .
قال الواحدي (3) : وهذا بعيد؛ لأن ما قبله وما بعده لا يدل عليه.
¨bخ)ur لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ اتجرب
قوله تعالى: { إذ نجيناه } في قصة لوط لا يتعلق بما قبله؛ لأنه لم يرسل
__________
(1) ... انظر: الكشاف (4/62).
(2) ... انظر: الوسيط (3/532).
(3) ... الوسيط (3/532).(1/468)
إذ نُجِّي، وإنما يتعلق بمحذوف، تقديره: اذكر إذ نجيناه.
قوله تعالى: { وإنكم لتمرّون عليهم } أي: على قراهم ومنازلهم { مصبحين * وبالليل } أي: نهاراً وليلاً. ثم وبخهم فقال: { أفلا تعقلون } .
¨bخ)ur يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)(1/469)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ اتحرب
قوله تعالى: { وإن يونس لمن المرسلين } : سمعت شيخنا موفق الدين أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه يقول: أخبرنا أبو العباس أحمد بن المبارك بن سعد، أخبرنا جدي لأمي أبو المعالي ثابت بن بندار، أخبرنا أبو علي بن دوما، أخبرنا (1) أبو علي الباقرحي، أخبرنا الحسن بن علوية، أخبرنا إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن بشر، أخبرنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن يونس عليه السلام كان مع نبي من أنبياء بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن ابعث يونس إلى أهل نِينَوى (2) يحذرهم عقوبتي، قال: فمضى يونس على كُرْهٍ منه، وكان رجلاً حديداً شديد
__________
(1) ... قوله: "أخبرنا" مكرر في الأصل.
(2) ... نينوى: هي قرية يونس بن متّى عليه السلام بالموصل، وبسواد الكوفة ناحية يقال لها: نينوى، منها كربلاء التي قتل بها الحسين رضي الله عنه (معجم البلدان 5/339).(1/470)
الغضب، قال: [فأتاهم] (1) فحذَّرَهم وأنذرهم؛ فكذبوه وردُّوا عليه نصيحته، ورمُوهُ بالحجارة وأخرجوه، فانصرف عنهم، فقال له نبي بني إسرائيل: ارجع إلى قومك، فرجع إليهم، فرَمَوه بالحجارة وأخرجوه، فقال له النبي: ارجع إلى قومك، فرجع فكذبوه، فوعدهم العذاب فقالوا: كذبت، فلما كذَّبُوه وكفروا بالله وجحدوا كتابه، دعا عند ذلك ربه على قومه فقال: يا رب! إن قومي أبوا إلا الكفر، فأنزل عليهم نقمتك، فأوحى الله تعالى إليه أني أنزل بقومك العذاب، قال: فخرج عنهم يونس وأوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام، وأخرج أهله وانطلق، فصعد جبلاً ينظر إلى أهل نينوى ويترقب العذاب، فجاءهم العذاب وعاينوه، فأنابوا إلى الله تعالى، فكشف عنهم العذاب، فلما رأى ذلك جاءه إبليس فقال: يا يونس إنك إن رجعت إلى قومك اتَّهَمُوك وكذَّبُوك، فَذَهَبَ مغاضباً لقومه، فانطلق حتى أتى شاطئ دجلة، فركب سفينة، فلما توسطت الماء أوحى الله تعالى إليها أن ارْكدي، فركدت السفينة، والسفن تَمُرُّ يميناً وشمالاً فقالوا: ما نال سفينتكم؟ فقالوا: لا ندري، قال يونس: أنا أدري، قالوا: فما حالها؟ قال: فيها عبد آبق من ربه، فلا تسير حتى تلقوه في الماء، قالوا: ومن هو؟ قال: أنا وعرفوه، قالوا: أما أنت فليس نلقيك، والله ما نرجوا منها النجاة إلا بك، قال: فاقْترعوا فمن قرع فألقوه في الماء، قال: فاقْترعوا فَقَرَعَهُم يونس، فأبوا أن يلقوه، قال: فاقْترعوا الثانية فَقَرَعَهُم، قال: فاقترعوا الثالثة فَقَرَعَهُم فقال: ألقوني في الماء.
__________
(1) ... في الأصل: فأتهم. والصواب ما أثبتناه.(1/471)
وفي رواية: قال: يا قوم، اطرحوني في الماء وانجوا، فقام القوم فاحتملوه شبه المشفقين عليه، فقال: ايتوا بي صدر السفينة، ففعلوا، فلما أشرفوا ليلقوه فإذا الحوت فاتحٌ فاه، فلما رأى ذلك قال: أي قوم ردوني إلى مؤخر السفينة، ففعلوا، فلما أشرفوا ذهبوا يطرحونه فاستقبله الحوت فاتحاً فاه، فلما رأى جوفه وهَوْله قال: يا قوم ردوني إلى وسط السفينة، ففعلوا فاستقبله، فقال: ردوني إلى الجانب الآخر، فاستقبله فاتحاً فاه ليأخذه، فقال: اطرحوني وانجوا، فلا منجى من الله، فطرحوه، والتقمه الحوت قبل أن يبلغ الماء وتصوب به.
رجع الحديث إلى الحسن، قال: فانطلق به الحوت إلى مسكنه من البحر، ثم انطلق به إلى قرار الأرض، فطاف به البحار أربعين يوماً، فسمع يونس تسبيح الحصا وتسبيح الحيتان، قال: فجعل يسبح ويهلل ويقدس، وكان يقول في دعائه: سيدي في السماء مسكنك، وفي الأرض قدرتك وعجائبك، سيدي من الجبال [أهبطتني] (1) ، وفي البلاد سيرتني، وفي الظلمات الثلاث حبستني، إلهي سجنتني بسجن لم تسجن به أحداً قبلي، إلهي عاقبتني بعقوبة لم تعاقب بها أحداً قبلي، فلما كان تمام أربعين يوماً وأصابه الغم { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [الأنبياء:87]، قال: فسمعت الملائكة بكاه، وعرفوا صوته، وبكت الملائكة لبكاء يونس، وبكت السموات والأرض والحيتان، فقال الجبار: يا ملائكتي، ما لي أراكم
__________
(1) ... في الأصل: أهبطني.(1/472)
تبكون؟ قالوا: ربنا، صوتٌ ضعيفٌ حزينٌ نعرفه في مكان غريب، قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: يا رب! العبد الصالح الذي كان يصعد له في كل يوم وليلة العمل الصالح الكثير؟.
قال ابن عباس: قال الله: نعم، فشفعت له الملائكة والسموات والأرض، فبعث الله تعالى جبريل فقال: انطلق إلى الحوت الذي حبست يونس في بطنه فَقُلْ له: إن لي في عبدي حاجة، فانطلق به إلى الموضع الذي ابتلعته فيه فاقذفه فيه، فانطلق جبريل عليه السلام إلى الحوت فأخبره، فانطلق الحوت بيونس وهو يقول: يا رب استأنست في البحر بتسبيح عبدك، واستأنست به دواب البحر، وكنت أزكى شيء به، وجعلت بطني له مُصلَّى يقدّسك فيه، فقدّست به وما حولي من البحار فتخرجه عني بعد أنس كان به، قال الله تعالى: إني أقلته عثرته ورحمته فأَلقِه، قال: فجاء به إلى حيث ابتلعه ببلد على شاطئ دجلة، فدنا جبريل من الحوت وقَرَّبَ فاه من فِيِّ الحوت فقال: السلام عليك يا يونس، رب العزة يقرئك السلام، فقال يونس: مرحباً بصوت كنتُ خشيتُ أن لا أسمعه أبداً، مرحباً بصوت كنتُ أرجوه قريباً من سيدي، ثم قال جبريل للحوت: اقذف يونس بإذن الله تعالى الرحمن، فقذفه مثل الفَرْخ الممْعُوط (1) الذي ليس عليه ريش، فاحتضنه جبريل.
قال الحسن: فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يَقْطين، وهو الدُّبَّاء، وكان لها ظل واسع يستظل به، وأمرت أن ترضعه أغصانها، فكان يرضع منها
__________
(1) ... مَعِطَ شعرُهُ وجِلْدُه مَعْطاً، فهو أمْعَط، ورجلٌ أمْعَط: لا شعر له على جسده (اللسان، مادة: معط).(1/473)
كما يرضع الصبي.
وعن [الحسن] (1) قال: بعث الله تعالى إلى يونس وَعْلَة من وُعُول الجبل يدرّ ضرعها لبناً، حتى جاءت إلى يونس وهو مثل الفرخ، ثم ربضت وجعلت ثديها في فِيّ يونس، فكان يَمُصُّهُ كما يَمُصُّ الصبي، فإذا شبع انصرفت، فكانت تختلف إليه حتى اشتد ونبت عليه شعرُه خلقاً جديداً، ورجع إلى حاله قبل أن يقع في بطن الحوت، فمرَّتْ به مارَّة فكسُوه كساء، فبينا هو ذات يوم نائماً إذ أوحى الله تعالى إلى الشمس أن احرقي شجرة يونس فأحرقتها، فأصابت الشمس جلده فأحرقته، فقال: يا رب نجيتني من الظلمات ورزقتني ظل شجرة كنت أستظل بها [فأحرقتها] (2) ، أفتسخر مني يا رب، وبكى، فأتاه جبريل فقال: يا يونس إن الله تعالى يقول: أنت زرعتها أم أنت أنْبَتَّها؟ قال: لا، قال: فبكاؤك حين تعلم أن الله تعالى قد أعطاكها، فكيف دعوت على مائة ألف وزيادة عشرين ألفاً أردت أن تهلكهم.
وقال ابن عباس: قال له جبريل: أتبكي على شجرة أنبتها الله تعالى لك ولا تَبْكِ على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم في غداة واحدة، فعند ذلك عرف يونس ذنبه واستغفر ربه، فغفر له.
وعن الزهري قال: لما قوي يونس عليه السلام كان يخرج من الشجرة يميناً وشمالاً، فأتى على رجل يصنع الجرار، فقال يونس: يا عبد الله، ما عملك؟ قال: أصنع الجرار وأبيعها وأطلب فيها فضل الله تعالى، فأوحى الله
__________
(1) ... في الأصل: أحسن.
(2) ... في الأصل: فاحترقتها.(1/474)
تعالى إلى يونس: قل له: يكسر جراره.. (1) ، فقال يونس ذلك له، فغضب الجرّار وقال: إنك رجل سوء، تأمرني بالفساد، تأمرني أن أكسر شيئاً صنعته وعملته ورجوتُ خيره، فأوحى الله تعالى إلى يونس: ألا ترى إلى هذا الجرّار كيف يغضب حيث أمرته بكسر ما صنع، وأنت تأمرني بهلاك قومك، فما الذي يشق عليك أن يصلح من قومك مائة ألف أو يزيدون.
قال الله تعالى: { فلولا أنه كان من المسبِّحين } أي: من المصلِّين من قبل أن تنزل البلية، { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } .
قال ابن عباس: من كان ذاكراً لله تعالى في الرخاء ذكره الله تعالى في الشدة واستجاب له، ومن يغفل عن الله تعالى في الرخاء وذكره في الشدة لم يستجب له.
إلى هاهنا سمعت من شيخنا رحمه الله.
عدنا إلى التفسير:
قوله تعالى: { إذ أَبَقَ } مجازٌ عن هربه بغير إذن من الله تعالى.
{ فساهم } فقارع { فكان من المدحضين } المغلوبين.
وحقيقته: المزْلَق عن مقام الظفر والغلبة.
{ فالتقمه الحوت وهو مليم } أي: ابتلعه وهو مستحق للَّوم؛ لأنه أتى ما يُلام عليه، وهو قوله تعالى: { مليم } ، [وهو] (2) في محل الحال (3) .
__________
(1) ... كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... انظر: الدر المصون (5/513).(1/475)
{ فلولا أنه كان من المسبِّحِين } قال ابن عباس: من المصلِّين (1) .
قال قتادة: كان كثير الصلاة في الرَّخاء (2) .
وقال الحسن: من القائلين: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } (3) .
{ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } أي: في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
قال قتادة: لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة (4) .
واختلفوا في مقدار لبث يونس في بطن الحوت على خمسة أقوال:
أحدها: أربعون يوماً. وقد ذكرناه آنفاً، وهو قول جماعة، منهم: أبو مالك، وابن جريج، والسدي (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/100)، وابن أبي حاتم (10/3229). وذكره السيوطي في الدر (7/126) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وغيرهم.
(2) ... أخرجه الطبري (23/99)، وابن أبي حاتم (10/3230)، والبيهقي في الكبرى (10/287 ح21194)، وأحمد في الزهد (ص:44). وذكره السيوطي في الدر (7/125) وعزاه لأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي.
(3) ... ذكره الماوردي (5/67)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/87).
(4) ... أخرجه الطبري (23/101)، وابن أبي حاتم (10/3230). وذكره السيوطي في الدر (7/127) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:45)، والطبري (23/101)، وابن أبي حاتم (10/3230) كلهم عن أبي مالك. وذكره السيوطي في الدر (7/127) وعزاه لعبد الرزاق وابن مردويه عن ابن جريج.
... ومن طريق آخر عن أبي مالك، وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/476)
الثاني: عشرون يوماً. قاله الضحاك (1) .
الثالث: سبعة أيام. قاله عطاء وجعفر (2) .
الرابع: ثلاثة أيام. قاله قتادة ومقاتل (3) .
الخامس: بعض يوم (4) . قال الشعبي: [التقمه] (5) ضحى، ولَفَظَهُ عشية (6) .
قوله تعالى: { فنبذناه بالعراء } وهو المكان الخالي من الشجر والماء، { وهو سقيم } مُعتلٌّ مما حلّ به.
{ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } قال أهل اللغة: اليقطين: كل شجرة لا تقوم على ساق وإنما تمتد على وجه الأرض، كالبطيخ والقثاء والحنظل،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/533).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3230) عن سعيد بن جبير. وذكره الماوردي (5/68) عن جعفر، والواحدي في الوسيط (3/533) عن عطاء، والسيوطي في الدر (7/127) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3230) عن قتادة. وذكره مقاتل في تفسيره (2/367)، والسيوطي في الدر (7/127) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(4) ... قاله الماوردي (5/68).
(5) ... في الأصل: ألقمه. والتصويب من المصادر التالية.
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3229)، والحاكم (2/639 ح4126). وذكره السيوطي في الدر (7/127) وعزاه لعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم.(1/477)
واشتقاقه من: قَطَنَ بالمكان، أي: أقام به.
قال عامة المفسرين: يعني: القرع (1) .
وقيل: التين.
وقيل: الموز.
والأول أكثر وأصح.
فإن قيل: ما الحكمة في اختصاص ذلك بالإنبات على يونس دون سائر الأشجار؟
قلتُ: لينُه وتكاثف ظلُّه، وكونه لا يقربه الذباب، فكان في ذلك زيادة لطف بيونس؛ لأنه خرج كما حكيناه كالفرخ الممْعُوط.
قوله تعالى: { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } قال ابن عباس: أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت (2) ، فكأنه أرسل إلى قوم بعد قوم أرسل إليهم ثانية.
وقال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه (3) .
فعلى هذا؛ المراد به: ما سبق من إرساله إليهم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/102-103)، وابن أبي حاتم (10/3230). وذكره السيوطي في الدر (7/130-131) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وطرق أخرى كثيرة، فانظرها.
(2) ... أخرجه الطبري (23/105). وذكره السيوطي في الدر (7/132) وعزاه لأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه.
(3) ... أخرجه الطبري (23/104)، وابن أبي حاتم (10/3230). وذكره السيوطي في الدر (7/131) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة.(1/478)
واختلفوا في قوله تعالى: { أو يزيدون } فقال ابن عباس والفراء (1) [وآخرين] (2) : "أوْ" بمعنى: "بل" (3) ، كقوله: { قاب قوسين أو أدنى } [النجم:9]، وأنشدوا:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصُورتها أو أنتِ في العين أمْلَحُ (4)
وقيل: "أو" بمعنى الواو (5) ؛ كقوله: { عذراً أو نذراً } [المرسلات:6].
وفي قراءة جعفر بن محمد: "ويزيدون" (6) .
وقال الزجاج (7) : هي على أصلها. المعنى: أو يزيدون في تقديركم، إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.
فالشك إنما دخل في حكاية المخلوقين.
واختلفوا في مقدار زيادتهم؛ فقال قوم: كانوا يزيدون عشرين ألفاً.
__________
(1) ... معاني الفراء (2/393).
(2) ... في الأصل: آخرين.
(3) ... أخرجه الطبري (23/104). وذكره الماوردي (5/69).
(4) ... البيت لذي الرمة. انظر: ملحقات ديوانه (ص:857)، واللسان (مادة: أوا)، والمحتسب (1/99)، والخصائص (2/458)، والدر المصون (1/135)، والقرطبي (1/463، 16/100)، وزاد المسير (1/42، 130)، وروح المعاني (1/335، 25/90، 28/105).
(5) ... هو قول ابن قتيبة. انظر: غريب القرآن (ص:375).
(6) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/89)، وأبو حيان في: البحر (7/360).
(7) ... معاني الزجاج (4/314).(1/479)
أخرج الترمذي [من] (1) حديث أبي بن كعب قال: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } قال: يزيدون عشرون ألفاً " (2) .
وهذا قول عامة المفسرين.
وقال الحسن: بضعة وثلاثين ألفاً (3) .
وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفاً (4) .
{ فآمنوا فمتعناهم إلى حين } انتهاء آجالهم.
َOخgدFّےtGَ™$$sù أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... أخرجه الترمذي (5/365 ح3229).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/533).
(4) ... أخرجه الطبري (23/104)، وابن أبي حاتم (10/3231). وذكره السيوطي في الدر (7/132) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/480)
لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ اتدةب(1/481)
قوله تعالى: { فاستفتهم } قال ابن عباس: اسأل أهل مكة سؤال توبيخ: { ألربك البنات ولهم البنون } ، وذلك أن قريشاً وقبائلاً من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وهذا كقوله تعالى: { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } (1) [النجم:21-22].
{ أم خلقنا الملائكة إناثاً } معناه: بل أخلقنا الملائكة إناثاً { وهم شاهدون } حاضرون خلقنا إياهم، ومضنون ذلك بجهلهم حيث اطمأنوا إلى هذه المقالة التي لا يعضدها برهان.
{ ألا إنهم من إفكهم ليقولون * وَلَدَ اللهُ } وقرئ شاذاً: "وَلَدُ الله" بالرفع والإضافة (2) ، أي: الملائكة ولد الله. والولد فَعَل بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكّر والمؤنث، تقول: هذا ولدي، وهؤلاء أولادي، وهذه ولدي.
قوله تعالى: { أصْطَفَى البنات على البنين } قرأ أبو جعفر ونافع في رواية وَرْش وإسماعيل: "لكاذبونَ اصْطَفَى" بوصل الهمزة على الخبر، والابتداء بكسر الهمزة. وقرأ الباقون "أصْطَفَى" بفتح الهمزة (3) ، على الاستفهام الذي بمعنى التوبيخ؛ كقوله تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات }
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/534).
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/361)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/514).
(3) ... الحجة للفارسي (3/321)، والحجة لابن زنجلة (ص:612)، والنشر (2/360)، والإتحاف (ص:371)، والسبعة (ص:549).(1/482)
[الزخرف:16]، وقوله تعالى: { أم له البنات ولكم البنون } [الطور:39]، وقوله تعالى: { ألكم الذكر وله الأنثى } [النجم:21]، فكما أن هذه المواضع كلها استفهام، فكذلك قوله تعالى: { أصْطَفَى البنات } . ومن قرأ بوصل الألف فإنه على وجه الخبر، كأنه: اصطفى البنات فيما يقولون؛ كقوله تعالى: { ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم } [الدخان:49] أي: عند نفسك وفيما كنت تقوله وتذهب إليه.
ويجوز أن يكون المعنى: وإنهم لكاذبون، قالوا أصطفى البنات، فحذف: قالوا (1) . وقوله بعد: { ما لكم كيف تحكمون } توبيخ لهم على قولهم الكذب. ويجوز أن يكون قوله تعالى: { أصطفى البنات } بدلاً من قوله تعالى: { ولد الله } ؛ لأن ولادة البنات [واتخاذهنّ] (2) اصطفاءً لهن. ويجوز أن يكون "اِصْطَفَى" تفسير لكذبهم الذي نسب إليهم في قولهم: { ولد الله وإنهم لكاذبون } . هذا كله كلام أبي علي (3) .
وقال الفراء (4) : أراد الاستفهام، فحذف حرف الاستفهام؛ كقوله تعالى: { أذهبتم طيباتكم } [الأحقاف:20].
وقراءة الأكثرين هاهنا مثل قوله تعالى: { أفترى على الله كذباً } في
__________
(1) ... قوله: "قالوا" مكرر في الأصل.
(2) ... زيادة من الحجة (3/322).
(3) ... الحجة للفارسي (3/321-322).
(4) ... معاني الفراء (2/394).(1/483)
سبأ (1) .
{ أم لكم سلطان مبين } أي: حُجّة نزلت من السماء بأن الملائكة بنات الله.
{ فائتوا بكتابكم } الذي أنزل عليكم في ذلك؛ كقوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [الروم:35] وهذه الآيات مؤذنة بغضب شديد، وإنكار فظيع، وتضليل لأحكام كفار قريش ومن دَانَ بقولهم واستهزائهم.
قوله تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً } قال قتادة: قالوا: صاهر الله الجن، والملائكة من بينهم (2) .
وقال الكلبي: قالوا لعنهم الله: تزوج من الجن [فخرج] (3) منها الملائكة (4) .
وقال مجاهد: لما قالت قريش: الملائكة بنات الله، قال أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات (5) الجن (6) .
__________
(1) ... آية رقم: 8.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/534).
(3) ... في الأصل: فرج. والتصويب من الوسيط (3/534).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/534).
(5) ... سروات الجن: أي: أشرافهم (اللسان، مادة: سرا).
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:546)، والطبري (23/108)، وابن أبي حاتم (10/3231)، والبيهقي في الشعب (1/166 ح141). وذكره السيوطي في الدر (7/133) وعزاه لآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.(1/484)
وقال الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله (1) .
وقال عطية العوفي وابن السائب: هو قول الزنادقة: أن الله وإبليس أخوان، وأن النور والخير [والحيوان] (2) النافع من خلق الله، والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس (3) .
{ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } أي: أن القائلين هذا القول لمحضرون في النار.
وقيل: الضمير في "إنهم" للجِنَّة إن فُسِّروا بالشياطين.
قوله تعالى: { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منقطع من "المحضرين"، معناه: لكن المخلصين ناجون، و { سبحان الله } اعتراض. ويجوز أن يكون استثناء من الضمير في { يصفون } (4) أي: لكن عباد الله المخلصين براء من أن يوصفوه به.
ِ/ن3¯Rخ*sù وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/66).
... قال القرطبي (15/135): قول الحسن في هذا أحسن، دليله قوله تعالى: { إذ نسويكم برب العالمين } [الشعراء:98] أي: في العبادة.
(2) ... في الأصل: الحيوان. والتصويب من الماوردي (5/71).
(3) ... ذكره الماوردي (5/70-71).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/515).(1/485)
بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ اتدزب
قوله تعالى: { فإنكم وما تعبدون } هذا خطاب لأهل مكة.
قال ابن عباس: فإنكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله (1) .
{ ما أنتم عليه } قال الواحدي (2) : "ما أنتم عليه" أي: على ما تعبدون.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/534).
(2) ... الوسيط (3/534).(1/486)
وقال الزمخشري (1) : الضمير في "عليه" لله عز وجل. معناه: ما أنتم بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟
قلتُ: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيَّبَها عليه.
قال (2) : ويجوز أن يكون الواو في "وما تعبدون" بمعنى: مع، على معنى: إنكم مع ما تعبدون، أي: إنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها. ثم قال: { ما أنتم عليه بفاتنين } ، أي: [على] (3) ما تعبدون "بفاتنين" بحاملين على طريق الفتنة والإضلال.
{ إلا من هو صال الجحيم } في سابق علمه قضائه وحكمه.
قال عمر بن عبد العزيز: فصلت هذه الآية بين الناس (4) . يشير إلى إبطال ما انتحلته القَدَرية.
وقرأ الحسن: "صَالُ الجحيم" بضم اللام (5) .
قال ابن جني (6) : شيخنا أبو علي يحمله على أنه حذف لام "صالٍ"
__________
(1) ... الكشاف (4/67).
(2) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/67).
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/136).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:371).
(6) ... المحتسب (2/228).(1/487)
تخفيفاً، وأعرب اللام بالضم، كما حُذفت لام البالة من قولهم: ما باليت به بالةً، وهي البالية كالعَافية.
وذهب قطرب إلى أنه أراد به جمع "صالٍ"، أي: صالون، فحذفت النون للإضافة، وبقَّى الواو [في] (1) "صالو"، فحذفها من اللفظ لالتقاء الساكنين، وحُمل على معنى "من"؛ لأنه جمع، فهو كقوله تعالى: { ومنهم من يستمعون إليك } [يونس:42].
قال ابن جني (2) : وهذا حسن عندي. وقول أبي علي وجه مأخوذ به.
قوله تعالى: { وما منا إلا له مقام معلوم } هذا قول الملائكة. والتقدير: وما منا أحد، ولا بد من هذا المحذوف ليعود الضمير في قوله: "إلا له" إليه. والمعنى: إلا له مقام معلوم في العبادة ينتهي إليه ولا يتجاوزه ولا يقصر عنه، كما يروى: أن منهم من هو راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه.
قال قتادة: كان الرجال والنساء يصلون جميعاً حتى نزلت: { وما منا إلا له مقام معلوم } ، فتقدم الرجال وتأخر النساء (3) .
{ وإنا لنحن الصافون } يصفون أقدامهم في الصلاة، أو أجنحتهم في الهواء ينتظرون أمر الله تعالى.
وقال أبو مالك: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله تعالى: { وإنا
__________
(1) ... في الأصل: من. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(2) ... المحتسب (2/228).
(3) ... ذكره الماوردي (5/72)، والسيوطي في الدر المنثور (7/136) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/488)
لنحن الصافون } ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَصْطَفُّوا (1) .
{ وإنا لنحن المسبحون } المُصَلُّون أو المنزهون.
ثم عاد إلى الإخبار عن المشركين فقال: { وإنْ كانوا ليقولون } هذه "إِنْ" المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، تقديره: وإن الشأن والأمر كأن المشركون ليقولون.
{ لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين } أي: لو جاءنا كتاب كما جاء غيرنا { لكنا عباد الله المخلصين } كما قالوا: { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [الأنعام:157].
(#rمچxےs3sù بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3232). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/136) وعزاه لابن أبي حاتم عن زيد بن مالك.(1/489)
الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ اتذزب
قال الله تعالى: { فكفروا به } المعنى: فجاءهم ما تمنُّوا فكفروا به، { فسوف يعلمون } مغبّة كفرهم. وهذا تهديد لهم.
قوله تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } قال مقاتل (1) : الكلمة قوله تعالى: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة:21].
وقال غيره: الكلمة قوله تعالى: { إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/110).(1/490)
فإن قيل: هي كلمات، فكيف سماها كلمة؟
قلتُ: قد ذكرنا فيما مضى أن العرب تقول عن القصيدة: كلمة فلان، وقال فلان في كلمته ، وهاهنا أولى ؛ لانتظام الكلمات في معنى واحد ، فكأنه كلمة مفردة.
فإن قيل: هذه الآية تتعلق بغلبة الرسل ونصرهم على من ناوأهم، وقد رأينا الحرب بينهم وبين أعدائهم سجالاً، ومنهم من قتل، كما قال تعالى: { وكأيّن من نبي قاتل } [آل عمران:146]؟
قلتُ: قال السدي: المعنى: إنهم لهم المنصورون بالحجج في الدنيا [والعذاب] (1) في الآخرة (2) .
وقال قتادة: هم المنصورون إما بالإيمان أو بالانتقام (3) ، على أن العلة للرسل ولمن تبعهم في العاقبة، وإن وقع في غضون الأمر خلاف ذلك ابتلاء وامتحاناً.
وقد روي عن الحسن أنه قال: لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط (4) .
قوله تعالى: { فتولَّ عنهم حتى حين } قال مجاهد والسدي: حتى نأمرك
__________
(1) ... في الأصل: والغدر. والتصويب من الماوردي (5/73).
(2) ... ذكره الماوردي (5/73).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... ذكره الماوردي (5/73).(1/491)
بالقتال (1) .
وقال قتادة: إلى الموت (2) . فتكون منسوخة بآية السيف (3) .
{ وأبصرهم } وما يقضى عليهم من القتل والذل والأسر إذا نزل بهم العذاب { فسوف يبصرون } ذلك.
وقال ابن زيد: أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله (4) .
وقال ثعلب: "أبصرهم": أعلمهم الآن، "فسوف يبصرون": يعلمونه بالعيان (5) .
قال المفسرون: لما هدّدهم الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - قالوا تكذيباً واستهزاءً: متى هذا العذاب؟ فأنزل الله تعالى: { أفبعذابنا يستعجلون } (6) . { فإذا نزل بساحتهم } أي: بحضرتهم.
قال الفراء (7) : العرب تكتفي بالسَّاحَة والعَقْوَة (8) من القوم، يقولون: نزل
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/535).
(2) ... أخرجه الطبري (23/115)، وابن أبي حاتم (10/3233). وذكره السيوطي في الدر (7/139) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:147)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:51-52)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:436).
(4) ... أخرجه الطبري (23/115). وذكره الماوردي (5/73).
(5) ... انظر قول ثعلب في: تفسير الماوردي (5/74).
(6) ... ذكره الطبري (23/115)، والسيوطي في الدر المنثور (7/139) بنحوه.
(7) ... معاني الفراء (2/396).
(8) ... العقوة والعقاة: الساحة وما حول الدار والمحلّة (اللسان، مادة: عقا).(1/492)
بك العذاب وبساحتك [سواء] (1) .
والسَّاحَة: مُتَّسَعُ الدار (2) .
{ فساء صباح المنذرين } وقرأ ابن مسعود على المعنى: "فبئس صباح المنذرين" (3) .
وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قال يوم خيبر حين أصبحوا فخرجوا بمساحيهم فرأوا جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" (4) .
وإنما كرر "وَتَوَلَّ عنهم" لتكون تسلية على تسلية، وتأكيداً لوقوع ما توعدهم به من العذاب.
z`"ysِ6ك™ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
__________
(1) ... زيادة من معاني الفراء (2/396).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: سوح).
(3) ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/364).
(4) ... أخرجه البخاري (1/221 ح585)، ومسلم (2/1045 ح1365).(1/493)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اترثب
ثم نزّه نفسه عما يقوله المشركون فقال سبحانه وتعالى: { سبحان ربك رب العزة } أي: مالك العزة.
وقال صاحب الكشاف (1) : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق؛ لاختصاصه بالصدق. ويجوز أن يراد ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى: { وتعز من تشاء } [آل عمران:26].
ولما اشتملت هذه السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله عز وجل ونسبوا إليه ما هو سبحانه وتعالى منزّه عنه، وما عاناه المرسلون صلوات الله عليهم من جهتهم، وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم؛ ختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين، { والحمد لله رب العالمين } على ما قيّض لهم من حسن العواقب.
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون... إلى آخر السورة" (2) .
وهو حديث ثابت من طرق، أحسنها ما أخبرنا به أبو المجد محمد بن
__________
(1) ... الكشاف (4/71).
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (1/269 ح3097).(1/494)
محمد بن أبي بكر الكرابيسي، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه أبو سعيد المطهر بن عبدالكريم بن محمد قالا: أخبرنا عبدالرحمن حمد الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر الدينوري، أخبرنا أبو بكر السني الحافظ، أخبرني أبو عروبة (1) ، حدثني ابن وكيع (2) ، حدثني أبي (3) ، عن سفيان الثوري، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من صلاته -قال: لا أدري قبل أن يُسَلِّم أو بعد أن يُسَلِّم- يقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين" (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من أحب أن يكتال له بالكيل الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام
__________
(1) ... هو الحسين بن محمد بن أبي معشر مودود السلمي الجزري، أبو عروبة الحراني، صاحب التصانيف. ولد بعد العشرين ومائتين، وأول سماعه في سنة ست وثلاثين ومائتين، كان عارفاً بالرجال وبالحديث، مات سنة ثماني عشرة وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 14/510-512).
(2) ... سفيان بن وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو محمد الكوفي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بورّاقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه. توفي في ربيع الآخر سنة سبع وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/109، والتقريب ص:245).
(3) ... وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي الحافظ، كان ثقةً مأموناً عالياً، رفيع القدر، كثير الحديث حجة، ولد سنة سبع أو ثمان أو تسع وعشرين ومائة، ومات سنة ست وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 11/109-114، والتقريب ص:581).
(4) ... أخرجه الخطيب في تاريخه (13/138)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:63). وذكره السيوطي في الدر (7/141) وعزاه للخطيب.(1/495)
على المرسلين، والحمد لله رب العالمين" (1) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3234). وذكره السيوطي في الدر (7/141) وعزاه لابن أبي حاتم عن الشعبي.(1/496)
سورة ص
ijk
وهي ستة وثمانون آية في المدني، وثماني وثمانون في الكوفي (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
üة وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ اجب
قال الله تعالى: { ص } اتفق القراء السبعة والأكثرون على تسكين الدال، وكان أبو جعفر يقف وقفة يسيرة (2) .
وقرأ أبي بن كعب والحسن: "صادِ" بكسر الدال (3) .
وقرأ عيسى بن عمر: "صادَ" بفتح الدال (4) ، ومثله: قاف، ونون.
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:214).
(2) ... انظر: النشر (1/241، 424)، والإتحاف (ص:371).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:371).
(4) ... ذكر هذه القراءة: الطبري (23/118)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/97)، وأبو حيان في البحر (7/366)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/519).(1/497)
وقرئ: "صادٍ" بالجر والتنوين (1) .
قال الزمخشري (2) : قرئ بالفتح والكسر لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: اللهَ لأفعلنَّ، بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجر، كقولهم: اللهِ لأفعلنَّ، بالجر وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ "صادٍ" بالتنوين والجر على تأويل الكتاب والتنزيل.
وقيل فيمن كسر: هو من المُصَادَاةِ، وهي المعارضة.
قال أبو علي الفارسي (3) : ومنه الصدى، [وهو ما يعارض] (4) الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه.
وقيل: من قرأ "صاد" فعلى الإغراء.
وقيل: هو فعل ماض، أي: صاد محمد قلوب الناس واستمالها حتى آمنوا به. وقد سبق الكلام على الحروف المقطعة في أوائل البقرة.
وقال مجاهد والقرطبي (5) فيما يخص هذا الحرف: هو مفتاح أسماء الله،
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/366)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/519). وهي قراءة ابن أبي إسحاق.
(2) ... الكشاف (4/72).
(3) ... لم أقف عليه في الحجة. وهو من كلام الزمخشري في الكشاف (4/72).
(4) ... في الأصل: وما تعارض. والتصويب والزيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... تفسير القرطبي (15/143).(1/498)
صمد، صانع المصنوعات، صادق الوعد.
وقال الضحاك: صدق الله (1) .
وقيل: صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك مروي عن ابن عباس (2) .
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن (3) .
وقيل: اسم السورة.
وقال السدي: قسم أقسم الله تعالى به (4) .
قوله تعالى: { والقرآن ذي الذكر } أي: ذي الشرف، كما قال تعالى: { وإنه لذكر لك ولقومك } [الزخرف:44].
وقال ابن عباس: ذي البيان (5) .
قال صاحب الكشاف (6) : ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز، ثم أتبعه القسم [محذوف] (7) الجواب لدلالة التحدي عليه، كأنه قال: والقرآن ذي الذكر إنه لكلام مُعْجِزٌ. أو يكون "ص" خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/118). وذكره السيوطي في الدر (7/144) وعزاه لابن جرير.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/538)، والسيوطي في الدر (7/144) وعزاه لابن مردويه.
(3) ... أخرجه الطبري (23/117). وذكره الماوردي (5/75).
(4) ... أخرجه الطبري (23/117) عن ابن عباس.
(5) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/75)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/98) كلاهما عن قتادة.
(6) ... الكشاف (4/72).
(7) ... في الأصل: بمحذوف. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/499)
يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، [تريد] (1) : هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز.
وقال جماعة من أهل المعاني: جواب القسم محذوف، بتقدير: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار، ودلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: { بل الذين كفروا } (2) .
وقال الواحدي (3) : جواب القسم قد تقدم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمداً قد صدق، كما تقول: فعل والله، وقام والله.
قوله تعالى: { بل الذين كفروا في عِزَّةٍ } أي: استكبار وأنَفَة عن الإذعان للحق والاعتراف به.
وقرئ "غِرَّةٍ" بالغين معجمة والراء المهملة. أي: في غفلة (4) .
ثم خوفهم فقال تعالى: { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا } عند معاينة العذاب بالاستغاثة.
قال الحسن: فنادوا بالتوبة (5) .
قال الله تعالى: { ولات حين مناص } قال الزمخشري (6) : "لاَتَ" هي
__________
(1) ... في الأصل: زيد. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... انظر: الدر المصون (5/520).
(3) ... الوسيط (3/538).
(4) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/99)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/520).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/73)، وأبو حيان في البحر (7/367).
(6) ... الكشاف (4/73).(1/500)
[لا] (1) المشبهة بـ"لَيْسَ"، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رُبَّ، وثمَّ للتوكيد، تغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتصييها؛ إما الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما جميعاً. وهذا مذهب الخليل وسيبويه (2) .
وعند الأخفش: أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. و"حين مناص" منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم (3) .
وعنه: أن [ما] (4) ينتصب بعده بفعل مضمر، أي: ولا أرى حين مناص، ويرتفع -يعني: ما بعد "ولات"- بالابتداء، أي: ولا حين مناص كائن لهم. وعندهما أن النصب على: "ولات حين مناص"، أي: وليس الحين حين مناص، والرفع على ولات حين مناص حاصلاً لهم (5) .
وقرئ: "حينِ مناص" بالكسر (6) ، وأنشدوا:
__________
(1) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... الكتاب (1/57).
(3) ... انظر: الدر المصون (5/522).
(4) ... زيادة من الكشاف (4/73).
(5) ... قال السمين الحلبي في الدر المصون (5/522) بعد أن ذكر هذين الوجهين: وهما ضعيفان.
(6) ... قال أبو حيان في البحر (7/367): وتخريجه مشكل. وحكى أيضاً في شرح التسهيل: أن بعضهم خرّج هذه القراءة على أن "لات" بمعنى "غير"، صفة لمحذوف، وتقدير البيت: طلبوا صلحنا وقتاً غير أوان صلح. وردّ هذا بأن الواو لا تراد في كـ "لا" الصفة، وبأنه لو كانت "لات" صفة لوجب تكرارها، في نحو: مررت برجل لا قائم ولا قاعد (انظر: التصريح 2/279، والكتاب 1/280).(1/501)
طَلَبُوا صُلْحَنا ولاتَ أوانٍ ... ... فأجبنا أنْ لاتَ حينَ بَقَاء (1)
وقرئ: "ولاتِ" بكسر التاء على البناء، [كجير] (2) .
فإن قلت: كيف يوقف على "ولات"؟
قلتُ: يوقف عليها بالتاء، كما يوقف على الفعل الذي يتصل [به] (3) تاء التأنيث.
وأما الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة.
وأما قول أبي عبيد: أن التاء داخلة على "حين" فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. هذا آخر كلامه (4) .
قلتُ: وإلى هذا الذي ذكر من أنّ الوقف على التاء وأن "حين" منقطعة صار جمهور أهل العلم.
وقد ذكر أبو [عبيد] (5) في غريب الحديث (6) : قال الأموي: العرب
__________
(1) ... البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في: اللسان (مادة: أون)، والخصائص (2/377)، ومجمع الأمثال (1/433)، والكشاف (4/73)، والبحر (7/367)، والقرطبي (15/147)، والطبري (23/122)، والدر المصون (5/521)، وابن يعيش (9/32)، والهمع (1/126)، ومعاني الفراء (2/398)، والأشموني (1/256)، والخزانة (4/183).
(2) ... في الأصل: كحير. والتصويب من الكشاف (4/73).
(3) ... زيادة من الكشاف (4/73).
(4) ... أي: كلام الزمخشري.
(5) ... في الأصل: عبيدة. والصواب ما أثبتناه.
(6) ... غريب الحديث (4/250).(1/502)
يزيدون التاء في الآن وفي حين، فيقولون: تَلآن وتَحين، ومنه قوله تعالى: { ولات حين مناص } ، قال: وأنشدني الأموي لأبي [وجزة] (1) السعدي:
العَاطِفُونَ تَحينَ ما منْ عَاطفٍ ... والمُطْعِمُون زمانَ ما منْ مُطْعِم (2)
والمناص: المنْجَا والفَوْت، يقال: نَاصَهُ يَنُوصُهُ نَوْصاً ومَنَاصَاً؛ إذا فَاتَه، واسْتَنَاصَ: طَلَبَ المَنَاص (3) .
قال حارثة بن [بدر] (4) يصف فرساً كثير الجري:
غَمْرُ الجِرَاءِ إذا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بيدي اسْتَنَاصَ ورَامَ جَرْيَ المِسْحَل (5)
المِسْحَل: حمار الوحش، سُمي بذلك؛ لكثرة سحاله.
وقال الفراء (6) : النَّوْص -بالنون-: التأخر، والبَوْص -بالباء-: التقدم، وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال:
أمِنْ ذكْرِ ليلى إذ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... وتَقْصُر عنها خُطْوةً وتَبُوصُ (7)
__________
(1) ... في الأصل: جزة. والتصويب من غريب الحديث، الموضع السابق.
(2) ... البيت لأبي وجزة السعدي، وهو في: اللسان (مادة: عطف، أين)، والأشموني (4/339)، ومجالس ثعلب (ص:374)، والدر المصون (5/521)، والقرطبي (1/321، 15/147)، وزاد المسير (7/101)، وروح المعاني (23/165).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: نوص).
(4) ... في الأصل: برد. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: الأعلام (2/158).
(5) ... البيت لحارثة بن بدر، وهو في: اللسان (مادة: نوص)، والبحر (7/365)، والدر المصون (5/525)، وروح المعاني (23/165)، والكشاف (4/74).
(6) ... معاني الفراء (2/397).
(7) ... البيت لامرئ القيس، انظر: ديوانه (ص:177)، واللسان (مادة: بوص، نوص)، والماوردي (5/77)، وغريب القرآن (ص:376)، والدر المصون (5/524)، والطبري (23/120)، وزاد المسير (7/101). وفي الديوان وبعض المصادر: "سلمى" بدل: "ليلى".(1/503)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ(1/504)
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ اتتب
قوله تعالى: { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي: رسول من أنفسهم. هذا الذي ذكره المفسرون. والآية تحتمل وجهين:
أحدهما: مُنذرٌ من بني آدم، والآخر: من نسبهم.
وفي هذه الآية والتي بعدها دلالة على إفراط القوم في الجهالة، وتوغلهم(1/505)
في الضلالة، حيث نسبوا السحر والكذب إلى من ظهرت آيات رسالته، ومعجزات نبوته، وتعجبوا من إثبات الوحدانية لله تعالى الذي خلق ورزق، مع إنارة براهينها، ولم يتعجبوا من الشرك وعبادة الأحجار مع وضوح بطلانه.
قوله تعالى: { إن هذا لشيء عجاب } أي: لأمرٌ عَجَب، وهما لغتان مثل: كبير وكُبَار، [وطويل] (1) وطُوَال.
والقُرّاء السبعة والأكثرون قرأوا: "عُجَاب" بالتخفيف. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وعيسى بن عمر: "عُجَّاب" بالتشديد (2) ، وهو لغة أيضاً.
قال ابن جني (3) : قد كثر عنهم مجيء الصفة على فعيل وفُعَال -بالتخفيف- وفُعَّال بالتشديد، قالوا: رجل وضِيءٌ ووُضَّاءٌ، وأنشدوا:
والمرءُ يُلْحِقُهُ بِفتيانِ النَّدَى ... ... خُلُقُ الكريم وليس بالوُضَّاء (4)
أي: وليس بالوَضيء.
وقال:
نحنُ بَذلنا [دُونها] (5) الضِّرَابا ... إنا وجَدْنا ماءَها طُيَّابا (6)
__________
(1) ... في الأصل: وطول. والمثبت من زاد المسير (7/103).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/102-103)، والدر المصون (5/525).
(3) ... المحتسب (2/230-231).
(4) ... البيت لأبي صدقة الدُّبَيْري. انظر: الخصائص (3/266)، واللسان، (مادة: وضأ)، والقرطبي (18/307)، وروح المعاني (29/76).
(5) ... في الأصل: دنها. والتصويب من المحتسب (2/230).
(6) ... انظر البيت في: معاني الفراء (2/398).(1/506)
وقال:
جاؤوا بصيدٍ [عجب] (1) من العَجَبْ ... أُزيرق العينين طُوَّال الذَّنب (2)
قال المفسرون: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق ذلك على قريش، فأتى أشرافهم أبا طالب واجتمعوا عنده، وشكوا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إنه سَفَّهَ أحلامنا، وسَبَّ آلهتنا، وعَابَ ديننا، فعاتب أبو طالب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ما تريد من قومك يا ابن أخي؟ فقال: أدعوهم إلى كلمة واحدة، قالوا: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فنفروا من ذلك وقالوا: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } ، وخرجوا من عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض: { امشوا واصبروا على آلهتكم } ، فذلك قوله تعالى: { وانطلق الملأ منهم } ، يقول بعضهم لبعض: { امشوا واصبروا على آلهتكم } أي: اثبتوا على عبادتها (3) .
{ إنْ هذا } الذي نراه من زيادة أصحاب محمد وظهور أمره { لشيء يراد } يُرِدْه الله تعالى ويُمْضِيه، أو لشيء يُراد بنا لا نَقْدِر على دفعه.
{ ما سمعنا بهذا } الذي يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد { في الملة الآخرة } يعنون: النصرانية؛ لأنها آخر الملل. والنصارى لا يُوحِّدون.
__________
(1) ... في الأصل: عجباً. والتصويب من مصادر البيت.
(2) ... انظر البيت في: معاني الفراء (2/398)، وزاد المسير (7/103).
(3) ... ذكره الطبري (23/127)، والواحدي في أسباب النزول (ص:381)، والوسيط (3/539-540)، والسيوطي في الدر المنثور (7/142-143).(1/507)
وقال قتادة: في ملة قريش الذي أدركوا عليها آبائهم (1) .
{ إنْ هذا } الذي جاء به من التوحيد والقرآن { إلا اختلاق } افْتعال وافْتراء.
ثم أنكروا اختصاصهم من بين صناديدهم وعظمائهم لشرف النبوة فقالوا: { أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري } لأنهم كانوا يتردَّدُون بين التصديق بما يظهر لهم من دلائل نبوته، وبين التكذيب ذهاباً مع الحسد.
{ بل لما يذوقوا عذابـ } ـي بعد، فإذا ذاقوه عرفوا ما أنكروه، وهذا تهديدٌ لهم وإيذان بأنهم يذوقون عذاب الله.
{ أم عندهم } أي: أبأيديهم { خزائن رحمة ربك } حتى يتصرفوا فيها كيف شاؤوا فيصيبوا بالنبوة ويخصُّوا بالذِّكْر من أرادوا.
والمعنى: ليس ذلك إليهم، وإنما هو بيد { العزيز } القاهر على خلقه، { الوهاب } الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ومواضعها.
{ أم لهم مُلْكُ السموات والأرض وما بينهما } حتى يَتَّكِلُوا في الأمور الربانية، ويتحكموا في الحكم الإلهية، ويتصرفوا في التدابير التي يختص بها الخالق المالك.
ثم رشح ذلك تهكماً بهم فقال تعالى: { فليرتقوا في الأسباب } أي: إن كانوا يصلحون لهذا الشأن العظيم وبأيديهم الخزائن ولهم الملك وزمام
__________
(1) ... أخرج الطبري في تفسيره (23/127) قال قتادة: أي: في ديننا هذا ولا في زماننا قط. وذكره السيوطي في الدر (7/146) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/508)
التصرف والتدبير على وفق الحكمة والمصلحة، وهو مفوض إليهم؛ فليرتقوا في الأسباب، أي: فليصعدوا في معارج العالم العلوي، وليستووا على العرش ويتوصلوا إلى ملكوت السموات والأرض، ويُنزلوا الوحي على من يشاؤون، ويخصُّوا بالشرف من يختارون.
ثم أبعدهم عن ذلك فقال تعالى: { جند ما هنالك } أي: هم جند من الكفار المتحزبين على الرسل.
و"ما": زائدة.
قال قتادة: أخبره الله تعالى وهو يومئذ بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر (1) .
ôMt/Ox. قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/130)، وابن أبي حاتم (10/3236). وذكره السيوطي في الدر (7/147) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/509)
عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ اتخب
وفي قوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد } مع ما في حيزها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتخويف لكفار قريش بما ذكَّرهم به من سنّته جلّت عظمته في الأمم المكذبة ممن كانوا أشد منهم قوة وأعظم مُلْكاً.
{ وفرعون ذو الأوتاد } قال عطية: الجنود والجموع العظيمة (1) . يشير إلى استقرار ملكه واستحكام أمره واستفحال سلطانه، وأصله من ثبات المطنب بالأوتاد، كما قال:
والبيتُ لا ينبني إلا على عَمَدٍ ... ولا عِمادَ إذا لم تُرْسَ أوتَادُ (2)
فاستعير لثبات العزة والملك كما ذكرناه، ومنه قول الأسود بن يعفر:
.......................... ... ... في ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ [الأوتاد] (3)
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/541)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/106).
(2) ... البيت للأفْوَه الأودي، انظر: ديوانه (ص:10)، وأمالي القالي (2/224)، والبحر (7/370)، والدر المصون (5/527)، والكشاف (4/78)، وروح المعاني (23/170، 30/6).
(3) ... في الأصل: الأتاد. والتصويب من مصادر البيت.
... وهو عجز بيت لأسود بن يعفر، وصدره: (ولقد غَنُوا فيها بأنْعَمَ عِيشةٍ)، انظر: ديوان المفضليات (ص:4492)، والبحر (7/370)، والدر المصون (5/527)، والأغاني (13/22)، وغريب القرآن (ص:377)، والماوردي (5/81)، والقرطبي (15/155)، وزاد المسير (7/106).(1/510)
وقيل: هذا إشارة إلى جبروته وبطشه وتعجْرفه، فإنه كان إذا غضب على إنسان أمر به فَمُدَّ بين أربعة أوتاد وأرسل عليه العذاب.
قال مقاتل بن حيان: كان يَمُدُّ الرجل مُستلقياً على الأرض ثم [يشدّه] (1) بالأوتاد (2) .
وقال السدي: كان يمدّ الرجل ويشدّه بالأوتاد، ويرسل عليه العقارب والحيات (3) .
وقيل: كان يشد كل عضو إلى سارية ويتركه في الهواء حتى يموت (4) .
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه (5) .
قوله تعالى: { فحق عقاب } أي: فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم.
{ وما ينظر هؤلاء } كفار مكة لوقوع العذاب بهم { إلا صيحة واحدة } وهي النفخة الأولى في الصور { ما لها من فَوَاق } .
__________
(1) ... في الأصل: يسنده. والمثبت من البغوي (4/50).
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/50).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... هو قول مقاتل في تفسيره (3/114).
(5) ... أخرجه الطبري (23/130)، وابن أبي حاتم (10/3236) كلاهما عن قتادة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/106) عن عطاء وقتادة، والسيوطي في الدر (7/147) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.(1/511)
قرأ حمزة والكسائي وخلف: "فُوَاق" بضم القاف والفاء، وفتحها الباقون (1) .
قال الفراء وأبو عبيد وأبو علي (2) : "الفَواق" -بالفتح-: الراحة والإفاقة، وبالضم: من فُواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين.
وقيل: هما لغتان بمنزلة جَمَامُ [المَكُول] (3) وجُمَامِهِ، وقَصَاصِ الشَّعْرِ وقُصَاصِهِ.
وقال ابن عباس وقتادة: ما لها من رجوع (4) .
قال الزجاج (5) : المعنى في القراءتين: ما لها من رجوع.
[والفُواق] (6) : ما بين حَلْبَتَيْ الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضاً؛ لأن اللبن يعود إلى الضرع، ويقال: أَفَاقَ من مرضه؛ إذا رجع إلى الصحة، وهو من هذا أيضاً (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/323)، والحجة لابن زنجلة (ص:613)، والكشف (2/231)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:372)، والسبعة (ص:552).
(2) ... انظر: معاني الفراء (2/400)، وغريب الحديث لأبي عبيد (176-177)، والحجة للفارسي (3/323).
(3) ... في الأصل: المكوك. والمثبت من الدر المصون (5/528). والمَكُول من الآبار: التي يقلّ ماؤها فتستجمّ حتى يجتمع الماء في أسفلها (اللسان، مادة: مكل).
(4) ... أخرجه الطبري (23/132)، وابن أبي حاتم (10/3237). وذكره السيوطي في الدر (7/147) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... معاني الزجاج (4/323).
(6) ... في الأصل: والوافق. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) ... انظر: اللسان (مادة: فوق).(1/512)
وقال صاحب الكشاف (1) : ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حَلْبَتَي الحالِب ورَضْعَتَي الرَّاضِع.
يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان؛ كقوله تعالى: { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [النحل:61].
(#qن9$s%ur رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
__________
(1) ... الكشاف (4/78).(1/513)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ اثةب
قوله تعالى: { وقالوا ربنا عجل لنا قِطَّنا } القِطُّ: القسْط من الشيء؛ لأنه قطْعة منه، مِنْ قَطَّه؛ إذا قطعه (1) .
ويقال [لصحيفة] (2) الجائزة: قِطّ؛ لأنها قطعة من القرطاس (3) .
قال ابن عباس وقتادة: المعنى: عَجِّلْ لنا نصيبنا من العذاب والعقوبة، قالوا ذلك تكذيباً واستهزاءاً (4) .
وقال سعيد بن جبير والسدي: لما ذكر لهم ما في الجنة قالوا: عجل نصيبنا منها في الدنيا (5) .
وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل (6) : لما نزل قوله تعالى: { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [الحاقة:19]، { وأما من أوتي كتابه بشماله } [الحاقة:25] قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعَجِّل لنا قِطَّنا قبل يوم
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: قطط).
(2) ... في الأصل: الصحيفة. والتصويب من الكشاف (4/79).
(3) ... هذا كلام الزمخشري في الكشاف (4/79).
(4) ... أخرجه الطبري (23/134) عن ابن عباس وقتادة، وابن أبي حاتم (10/3237) عن قتادة. وذكره الماوردي (5/82) عن ابن عباس، والواحدي في الوسيط (3/542) عن قتادة.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/542).
(6) ... تفسير مقاتل (3/114-115).(1/514)
الحساب، يقولون ذلك تكذيباً به (1) ، فقال الله تعالى: { اصبر على ما يقولون } يعني: من الكفر والتكذيب والأذى.
فإن قيل: ما وجه المطابقة بين هذا وبين قوله تعالى: { واذكر عبدنا داود } حتى قرن به وعطف عليه؟
قيل: قد أجاب الزمخشري (2) عنه فأحسن، قال: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: اصبر على ما يقولون، وعظّم أمر معصية الله تعالى في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبي من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوة والملك، لكرامته عليه وزلفته [لديه] (3) ، ثم زلّ زلةً فبعث الله تعالى [إليه] (4) الملائكة ووبَّخه عليها، على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمّه الواصب، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له - صلى الله عليه وسلم - : اصبر على ما يقولون، وصُنْ نفسك وحافظ عليها أن تزلّ فيما كُلّفت من مصابرتهم وتحمّل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زَلَّ تلك الزلّة اليسيرة، فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي.
{ ذا الأَيْد } ذا القوة في الدين المضطلع بمشاقّه وتكاليفه (5) ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/543).
(2) ... الكشاف (4/79).
(3) ... في الأصل: يديه. والتصويب من الكشاف (4/79).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: بمشاقصوا تكاليفه. وقد صححت على الهامش بقوله: لعله: بمشاقه وتكاليفه. والمثبت من: الكشاف (4/79).(1/515)
يصوم يوماً ويُفْطر يوماً، -وهذا أشق شيء نجده على النفس-، ويقوم نصف الليل.
{ إنه أوّاب } رجّاع عن كل ما يكره الله تعالى.
{ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وهو وقت إضاءة الشمس وصفاء شعاعها.
قال الزجاج (1) : يقال: شَرِقَت الشمس؛ إذا طلعت، وأشرقت؛ إذا أضاءت (2) .
وقال غيره: يقال: شرقت الشمس ولما تشرق.
وقد روي عن ابن عباس أنه [فَسَّر] (3) التسبيح بالإشراق في هذه الآية بصلاة الضحى (4) . وقال: حدثتني أم هانئ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صَلّى الضحى وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق" (5) .
{ والطير محشورة } أي: مجموعة إليه تُسبّح الله تعالى معه.
قال ابن عباس: كان إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/324).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: شرق).
(3) ... في الأصل: قر. والتصويب من الوسيط (3/543).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/543).
(5) ... أخرجه الحاكم (4/59 ح6873)، والطبراني في الكبير (24/406 ح986)، والأوسط (4/296 ح4246). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/99) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف.(1/516)
الطير فسبّحت، فذلك حشرها (1) .
{ كل له أوّاب } أي: كل واحد من الجبال والطير رجّاع إلى طاعة داود وأمره، أو كلٌ لأجل داود، أي: لأجل تسبيحه مُسبّحٌ، لأنها كانت تُسبّح بتسبيحه.
وقيل: الضمير في "له" يرجع إلى الله تعالى، على معنى: كل واحدٍ من داود والجبال والطير لله تعالى أواب.
{ وشددنا ملكه } قوَّيناه بالجنود والعَدَد والعُدَد وإلقاء الرهبة والرغبة في قلوب الناس له.
قال ابن عباس: كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وروى عكرمة عن ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود، فقال: إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما دواد عليه السلام: قوما حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه: أن يقتل الرجل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أثبت، فأوحى الله تعالى إليه في منامه أن يقتله، فلم يفعل، فأوحى الله تعالى إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود عليه السلام إليه فقال له: إن الله تعالى أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/544).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/544)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/111).(1/517)
بغير بينة؟ قال داود: نعم، والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال: لا تعجل حتى أخبرك، وإني والله ما أُخذت بهذا الذنب، ولكني كنت اغتلت أبَا هذا، فقتلته، فبذلك أُخذت، فأمر به فقُتل، فأشدت هيبة بني إسرائيل لداود عليه السلام عند ذلك، واشتدّ ملكه، فذلك قوله تعالى: { وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة } (1) .
قال ابن عباس: النبوة والمعرفة بكل ما حكم (2) .
وقيل: الزبور وعلم الشرائع.
{ وفصْل الخطاب } قال أكثر المفسرين: هو البينة على المدّعي واليمين على من أنكر (3) ؛ لأن به الفصل والقطع بين المتخاصمين. وهو مروي عن علي عليه السلام.
وقال ابن مسعود وقتادة: هو العلم بالقضاء والفهم فيه (4) .
وقيل: الكلام الصحيح الفاصل بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، والصواب والخطأ (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/138-139)، وابن أبي حاتم (10/3237-3238). وذكره السيوطي في الدر (7/153) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/545).
(3) ... وهو نص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أخرجه الترمذي في جامعه (3/626 ح1342) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والطبري (23/140)، والبيهقي في الكبرى (10/253). وذكره السيوطي في الدر (7/154) وعزاه لابن جرير والبيهقي.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/545).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/82).(1/518)
ويروى أنه عليه الصلاة والسلام أول من قال: أما بعد (1) .
وقيل: هو الخطاب الذي ليس فيه اختصار مُخِلُّ، ولا إشباع مُمِلٌّ (2) . ومنه قول أم معبد في صفتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "حلو المنطق، فَصْلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذْرٌ" (3) .
وقد أحسن القائل:
ويُوجِزُ لكنه لا يُخِلُّ ... ويطنُبُ لكنه لا يُمِلّ (4)
* وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ اثتب
قوله تعالى: { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } قيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما؛ إما كانا
__________
(1) ... هو قول أبي موسى الأشعري والشعبي. أخرجه الطبري (23/140) عن الشعبي، وابن أبي حاتم (10/3238) عن أبي موسى. وذكره السيوطي في الدر (7/154-155) وعزاه لابن جرير عن الشعبي. ومن طريق آخر عن أبي موسى الأشعري، وعزاه لابن أبي حاتم والديلمي.
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/82).
(3) ... أخرجه الحاكم (3/10-11 ح4274) من حديث طويل.
(4) ... البيت لعلي بن محمد البستي. انظر: قرى الضيف (4/355).(1/519)
خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما له نسوان كثيرة من المهائر (1) والسراري، والثاني ما له إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها.
والصحيح (2) والمشهور: أن السبب في امتحان داود عليه السلام: ما حدثنا الشيخ الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في ذي القعدة سنة خمس وستمائة، قال: أخبرنا أحمد بن المبارك، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا أبو علي بن دوما، أخبرنا مخلد بن جعفر، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا إسماعيل بن عيسى (3) ، أخبرنا إسحاق بن بشر (4) ، قال: وأخبرنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان داود عليه الصلاة والسلام قد قسم الدهر على أربعة أقسام، فيوم لبني إسرائيل يدارسهم العلم ويدارسونه، ويوم للمحراب، ويوم للقضاء، ويوم للنساء، فبينا هو مع بني إسرائيل يدارسهم إذ قال بعضهم: لا يأتي على ابن آدم يوم إلا يصيب فيه ذنباً، فقال داود في
__________
(1) ... المهائر: الحرائر (اللسان، مادة: مهر).
(2) ... وقد أشار المؤلف رحمه الله في آخر القصة أن جماعة من المحققين أنكروا صحة هذه الروايات، وهو الصحيح.
(3) ... إسماعيل بن عيسى البغدادي العطار، ضعفه الأزدي وصححه غيره، مات في رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (تاريخ بغداد 6/262، ولسان الميزان 1/426).
(4) ... إسحاق بن بشر بن محمد بن عبد الله بن سالم، أبو حذيفة البخاري، مولى بنى هاشم. ولد ببلخ واستوطن بخارى فنسب إليها، وهو صاحب كتاب "المبتدأ" وكتاب "الفتوح"، متروك الحديث رمى بالكذب، توفي يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من رجب سنة ست ومائتين (تاريخ بغداد 6/326).(1/520)
نفسه: اليومُ الذي أخلو فيه للمحراب تُنحّى عني الخطيئة، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود خذ حذرك حتى ترى بلاءك" (1) .
قال إسحاق: وأخبرنا ابن بشير -قلتُ: واسمه: سعيد بن بشير-، عن قتادة، عن الحسن قال: بينا هو في محرابه مُنكبّ على الزبور يقرؤها، إذ دخل طائر من الكوة فوقع بين يديه، جسده من ذهب، وجناحاه من ديباج مُكلل بالدر، ومنقاره زبرجد، وقوائمه فيروزج، [فوقع] (2) بين يديه، فنظر إليه فحسب أنه من طير الجنة، فجعل يتعجب من حسنه، وكان له ابن صغير فقال: لو أخذت هذا الطائر فنظر إليه ابني، فأهوى إليه فتباعد منه ويطمعه أحياناً من نفسه حتى كاد تقع يده عليه، فيتباعد منه أيضاً، فما زال كذلك يدنو ويتباعد حتى قام من مجلسه، وأطبق الزبور فطلبه [فوقع] (3) في الكوة، فرمى بنفسه في بستان، فاطلع داود فإذا [بامرأة] (4) تغتسل، فنظر إلى أحسن خلق الله، ونظرت المرأة وإذا وجه رجل، فنشرتْ شَعْرَها فغطَّتْ جسدها.
رجع إلى حديث الحسن، قال: فزاده ذلك بها إعجاباً، فرجع إلى مكانه وفي نفسه منها ما في نفسه، فبعث لينظر من هِيَ، فرجع الرسول إليه فقال: هي [بشايع] (5) ابنة حنانا، وزوجها [أوريا] (6) بن صوري، وهو في البلقاء
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/148) عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر (7/158) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن.
(2) ... في الأصل: قوع.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... في الأصل: بالمرأة.
(5) ... في الأصل: تشايع. وانظر مصادر التخريج.
(6) ... في الأصل: أرويا. وانظر: مصادر التخريج.(1/521)
مع ابن أخت داود محاصري قلعة، فكتب داود إلى ابن أخته كتاباً إذا جاءك كتابي هذا فمُرْ أوريا بن صوري فليحمل التابوت وليتقدم أمام الجيش، وكان الذي يتقدم أمام الجيش لا يرجع حتى يقتل أو يفتح الله تعالى عليه، فدعا صاحب الجيش أوريا بن صوري فقرأ عليه الكتاب، فقال: سمعاً وطاعة، فحمل التابوت وسار أمام أصحابه فقُتِلَ، وكتب ابن أخت داود عليه الصلاة والسلام بذلك إلى داود عليه الصلاة والسلام، فلما انقضت عدّة المرأة أرسل إليها داود عليه السلام فخطبها فتزوجها (1) .
وقال: وأخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال: إن داود عليه السلام لما تزوج بشايع بنت حنانا، وكان يخلو للعبادة في المحراب، فبينا هو في المحراب إذ سمع صوتاً عالياً، ثم تسوّر عليه رجلان حتى اقتحما عليه، فلما رآهما فزع منهما قالا: { لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض } يعني: اعتدى بعضنا على بعض وظلمه، { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } يعني:
__________
(1) ... أخرج نحوه الطبري (23/148). وذكر نحوه السيوطي في الدر (7/158) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
... وهذه القصة باطلة لا تصح، ونقل المؤلف أن جماعة من المحققين أنكروا صحة هذه الروايات. فهي من الإسرائيليات التي اختلقها اليهود ونسبوها زوراً وبهتاناً إلى نبي الله داود. وقد صرّح كثير من أهل العلم ببطلان هذه القصة المزعومة، كالقرطبي والقاضي عياض وابن الجوزي وأبي حيان التوحيدي وغيرهم.
... قال ابن الجوزي في زاد المسير (7/115): وهذا لا يصح من طريق النقل ولا يجوز من حيث المعنى؛ لأن الأنبياء منزهون عنه.(1/522)
ولا تَجُر، { واهدنا إلى سواء الصراط } يعني: إلى قصد السبيل، فقال داود عليه السلام: قصّا عليّ قصتكما. قال: { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } يعني: قهرني وظلمني وأخذ نعجتي فضمّها إلى نعاجه. "وعزني في الخطاب" يعني: إذا تكلم كان أبلغ في [المخاطبة] (1) مني، وإذا دعا كان أسرع إجابة مني، وإذا خرج كان يعني أكثر تبعاً مني. فقال داود عليه السلام: { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } .
قال: فضحك المُدّعى عليه، فقال داود عليه السلام: تظلم وتضحك، ما أحوجك إلى قَدوم (2) يرضّ منك هذه وهذه، يعني: جبهته وفاه، قال الملك: بل أنت أحوج إلى ذلك منه، وارتفعا (3) .
وفي رواية: قال: فتجولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه.
وعلم داود أنما عني به، فخرَّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يعود فيسجد لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي، حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده: سبحان خالق النور الحائل بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي
__________
(1) ... في الأصل: المخابة.
(2) ... القَدُوم: معروفة، وهي التي ينحت بها (اللسان، مادة: قدم).
(3) ... ذكره الطبري (23/146) وما بعدها، والسيوطي في الدر (7/158) وما بعدها.(1/523)
خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي لم أفارق الزبور ولم أتعظ بما وعظت به غيري، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم، وللأرملة كالزوج الرحيم، فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي بأي وَجْهٍ أنظر إليك يوم القيامة، وإنما يُنظر الظالمون من طَرْفٍ خفي، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء، فيقال: هذا داود الخاطئ، أنت المغيث وأنا المستغيث، فمن يدعو المستغيث إلا المغيث، سبحان خالق النور، إلهي إليك فررت بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين، ولا تخزني يوم الدين، في مناجاة كثيرة.
قال: فأتى نداء: أجائعٌ أنت فتُطعم، أظمْآن فتُسقى، أمظلوم أنت فتُنصر، ولم يجبه في ذكر خطيئته، قال: فصاح صيحة هاج ما حوله، ثم نادى: يا رب الذنب الذي أصبت، فنودي: يا دواد ارفع رأسك فقد غفرت لك.
قال: وأخبرنا أبو إلياس عن وهب: أن داود عليه السلام أتى قبر أوريا، فقام عنده وجعل التراب على رأسه، ثم نادى فقال: الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود إذا نصبت الموازين، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود يوم يقتص للمظلوم من الظالم، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود حين يسحب على وجهه مع الظالمين إلى النار، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود. قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد(1/524)
غفرت ذنبك، ورحمت بكاءك، وأقلتك عثرتك. قال: يا رب كيف تعفو عني وصاحبي لم يعفُ عني؟ قال: يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه، فأقول: رضي عبدي، فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول له: هذا عوض من عبدي داود، فأستوهبك منه فيهبُك لي. قال: يا رب الآن عرفت أنك قد غفرت لي (1) . هذا تمام الحديث والقصة التي سمعتها من شيخنا رحمه الله.
وروى السدي وابن السائب عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود عليه السلام يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب! أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله تعالى إليه أنهم قد ابتلوا ببلايا لم يُبتل بها أحد فصبروا عليها، ابتلي إبراهيم عليه السلام بنمروذ، وبذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف، وإنك لم تُبتل بشيء من ذلك. قال داود: فابتليني مثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله تعالى إليه إنك مبتلى في شهر كذا، في يوم كذا، فاحترس. فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله عز وجل دخل داود في المحراب فأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك، إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، من كل لون حسن، فذكروا قريباً مما تقدم، غير أنهم قالوا: ففتح على يديه، فكتب إلى داود بذلك، فبعث داود إلى ابن أخته أيضاً أن ابعثه إلى
__________
(1) ... ذكره الطبري (23/148)، والسيوطي في الدر المنثور (7/160-161).(1/525)
عدو كذا، إلى أن قال: فقتل في المرة الثالثة، فلما انقضت عدّتها تزوجها داود، وهي أم سليمان (1) .
وقد أنكر جماعة من المحققين صحة هذه الروايات؛ تنزيهاً لمنصب النبوة عن مثل هذه الأمور التي لا تصح إضافتها إلى آحاد الصلحاء فضلاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ورووا عن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القُصَّاص جلدته مائة وستين، وهو حدّ الفرية على الأنبياء (2) .
ويروى: أن رجلاً حدّث عمر بن عبدالعزيز بذلك وعنده رجل فأنكره، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله عز وجل فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وإن كانت على ما ذكرت وكفّ الله عز وجل عنها تستراً على نبيه عليه الصلاة والسلام فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لَسماعي هذا الكلام أحبُّ إليّ مما طلعت عليه الشمس (3) .
وقال بعض العلماء: الذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله تعالى لقصته عليه الصلاة والسلام ليس إلا [طلبه] (4) إلى زوج المرأة أن ينزل عنها
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/147)، والحاكم (2/641 ح4134) كلاهما عن السدي. وذكره السيوطي في الدر (7/159-160) وعزاه لابن جرير والحاكم عن السدي.
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/83).
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/83-84)، والنسفي في تفسيره (4/36).
(4) ... في الأصل: طلبته. والتصويب من الكشاف (4/84).(1/526)
فحسب (1) .
قال (2) : وكان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة في المواساة بذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة أوريا، فسأله النزول عنها، فاستحيا أن يردّه ففعل.
وقيل: خطبها أوريا، ثم خطبها داود على خطبته مع كثرة نسائه، فرغب أهلها فيه فزوَّجُوه (3) .
فإن قيل: لم خوطب بجنايته على طريقة التمثيل؟
قلتُ: لما في ضمن ذلك من التوبيخ المؤثر في القلب بسبب ترسخه في الذهن واستقراره فيه حيث أبرز في صورة تماثله مع ما في ذلك من جميل العشرة وحسن الأدب بترك المجاهرة.
فإن قيل: لم خاطب الله تعالى رسوله بذلك على طريقة الاستفهام؟
قلتُ: تنبيهاً له على أنه ثناء عجيب ينبغي أن يُصِيخَ (4) إليه بقلب حاضر وأُذُن واعية، وتشويقاً له إلى استماعه.
فإن قيل: ما الخصم المذكور في الآية؟
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/84).
(2) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/82-83).
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/83).
(4) ... أصاخَ له يُصيخُ إصاخة: استمع وأنصت (اللسان، مادة: صيخ).(1/527)
قلتُ: هما جبريل وميكائيل. هكذا ذكره مقاتل (1) وعامة المفسرين على أنهما اثنان، بدليل قوله تعالى: { خصمان بغى بعضنا على بعض } ، وقوله تعالى: { إن هذا أخي له } ، وقوله: { أنما فتناه } على قراءة من خفَّف.
فإن قيل: فما تصنع بقوله تعالى: { إذ تسوّروا المحراب } وما بعده، فإنه يدل على أنهم أكثر من اثنين؟
قلتُ: هو على مذهب من يجعل الاثنين جماعة.
وقال الزمخشري (2) : الخصْمُ: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع؛ كالضيف. قال الله تعالى: { حديث ضيف إبراهيم المكرمين } [الذاريات:24] لأنه مصدر في أصله.
فإن قلت: هذا جمع، وقوله تعالى: "خصمان" تثنية، فكيف استقام ذلك؟
قلتُ: معنى "خصمان": فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: "خصمان بغى بعضهم على بعض"، ونحوه: { هذان خصمان اختصموا } .
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: { إن هذا أخي له } وهو دليلٌ على اثنين؟
قلتُ: هذا قول البعض المراد بقوله: بعضنا على بعض.
فإن قلت: فقد جاء في الرواية: أنه بعث إليه ملكان؟
قلتُ: معناه: أن التحاكم كان بين مَلَكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/116).
(2) ... الكشاف (4/84-85).(1/528)
فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين، فكيف سمّاهم جميعاً خَصْماً في قوله: { نبأ الخصم } و { خصمان } ؟
قلتُ: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحَّت التسمية به.
فإن قلت: بم انتصب "إذ"؟
قلتُ: لا يخلو إما أن ينتصب بـ"أتاك"، أو بالنبأ، أو بمحذوف، فلا يسوغ انتصابه بـ"أتاك"؛ لأن إتيان النبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإن أردت بالنبأ: القصة في نفسها لم تكن ناصباً، فبقي أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم.
ويجوز أن ينتصب بـ"الخصم"؛ لما فيه من معنى الفعل.
وأما ["إذ"] (1) الثانية فبدل من الأولى.
ومعنى: { تسوّروا المحراب } تصعّدوا سُورَه، كما تقول: تَسَنَّمَه؛ إذ علا سَنَامَه، وتذرَّاهُ؛ إذا عَلاَ ذُرْوَته.
وقد ذكرنا "المحراب" في آل عمران (2) .
ّŒخ) دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ
__________
(1) ... في الأصل: إذا. والتصويب من الكشاف (4/85).
(2) ... عند الآية رقم: 37.(1/529)
قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا(1/530)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ اثخب
قوله تعالى: { ففزع منهم } قال ابن إسحاق: لم يرع داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه، فقال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا: لا تخف خصمان، أي: نحن خصمان (1) .
{ ولا تُشْطِط } وقرأ أبو رجاء وقتادة: "تَشْطُط" بفتح التاء وضم الطاء.
يقال: شَطَّ الرجل يَشُطُّ ويَشِطُّ شَطَطاً، وأشَطَّ إشْطَاطاً؛ إذا جَارَ في
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/149) من طريق محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه.(1/531)
حكمه (1) .
فالمعنى: ولا تَجُرْ علينا.
وقيل: لا تبعد عن الحق، من قولهم: شَطَّتِ الدار، أي: بَعُدَت (2) .
{ واهدنا إلى سواء الصراط } : احملنا على الحق.
قال داود عليه السلام: تكلَّما، فقال أحد الملكين: { إن هذا أخي } يريد: في الدين، أو أخوة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة.
{ له تسع وتسعون نعجة } وقرأ الحسن بخلاف عنه: "تَسْعٌ" بفتح التاء (3) . وقرأ أيضاً والأعرج معه: "نِعْجَةً" بكسر النون (4) .
قال أبو الفتح (5) : قد كثر عنهم مجيء الفَعْل والفِعْل على المعنى الواحد، والفَعْلة والفِعْلة أيضاً، مثل: البَزْر والبِزْر، والنَّفْط والنِّفْط، والحَبْر والحِبْر، وكذلك: لَقْوَةٌ ولِقْوَةٌ، وقوم شَجْعَة وشِجْعَة للشُّجَعَاءِ، والمَهْنَةُ والمِهْنَةُ للخدمة.
فكأن مقصودهما التّوْرية والتمثيل، فلهذا كنُّوا عن النساء بالنِّعاج، والعرب تُورِّي عن المرأة بالشاة والنعجة.
قال الأعشى:
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: شطط).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:372).
(4) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/376)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/531).
(5) ... المحتسب (2/231-232).(1/532)
فرميتُ غفلةَ عينِهِ عن شَاتِه ... ... فأصبْتُ حبةَ قَلْبها وطِحَالَها (1)
وقال الآخر:
يا شَاةَ ما قَنَصٍ لمنْ حلَّت له ... ........................ (2)
{ فقال أكفلنيها } ضمها إليّ واجعلني كافلها لتتم له المائة.
{ وعزني في الخطاب } قال الشاعر:
قَطَاةٌ عزَّها شَرَكٌ فباتتْ ... ... تُجاذِبُه وقد عَلِقَ الجنَاح (3)
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء رحمه الله لعاصم من رواية خلف عن يحيى عن أبي بكر عنه: "وعَزَني" بتخفيف الزاي، وهي قراءة أبي حيوة.
قال ابن جني (4) : خفف الكلمة بحذف الزاي الثانية أو الأولى، كما حكاه ابن الأعرابي، من قولهم: ظَنْتُ، أي: ظننت، وكقول أبي زبيد:
خَلاَ إنَّ العِتَاق من المطايا ... ... أحَسْنَ به فهُنَّ إليه شُوسُ (5)
__________
(1) ... البيت للأعشى. وهو في: اللسان (مادة: شوه)، والقرطبي (15/173)، وروح المعاني (23/180).
(2) ... صدر بيت لعنترة، وعجزه: (حَرُمَتْ عَليَّ وليتَها لم تَحْرُم)، وهو في: اللسان (مادة: شوه)، والقرطبي (15/173)، وزاد المسير (7/120)، وروح المعاني (23/180).
(3) ... البيت لقيس بن الملوح. انظر: ديوانه (ص:90)، والكشاف (4/85)، والأغاني (2/45، 57، 81)، وديوان الحماسة (2/109)، والبحر (7/372)، والدر المصون (5/531)، والقرطبي (15/174)، وروح المعاني (23/180).
(4) ... المحتسب (2/232).
(5) ... تقدم.(1/533)
فإن قيل: كيف شاع للملكين كلام قول ما لم يكن؟
قلتُ: هو على سبيل الفرض والتقدير لا على وجه التحقيق والإخبار.
{ قال لقد ظلمك } جواب قسم محذوف.
فإن قيل: كيف حكم عليه بالظلم من قبل أن يسمع كلامه؟
قلتُ: الظاهر أنه استنطقه فاعترف، غير أنه لم يحك في القرآن، أو يكون التقدير: إن كان الأمر على ما تقول: لقد ظلمك { بسؤال نعجتك } ، أي: بسؤاله نعجتك { إلى نعاجه } أي: ليَضُمَّها إلى نعاجه.
{ وإن كثيراً من الخلطاء } أي: الشُّركاء -وكان داود عليه السلام ظنهما شريكين- { ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } المعنى: فإنهم لا يظلمون.
{ وقليل مّا هم } أي: هُمْ قليل.
و "ما" صلة، أو موصولة، على معنى: وقليل الذين هم كذلك.
قال المفسرون: فلما قضى داود عليه السلام بينهما نَظَرَ أحدهما إلى صاحبه فَضَحِكَ، وصعدا إلى السماء، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه، وإنما ذَكَّرَاه تمثيلاً لقصته، فهو قوله تعالى: { وظن داود أنما فتناه } أي: أيْقَنَ وعَلِمَ أنما ابتليناه (1) .
وقرأتُ على الشيخ أبي البقاء عبدالله بن الحسين النحوي رحمه الله للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه: "فَتَنَاهُ" بالتخفيف (2) ، إشارة إلى
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/547)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/122).
(2) ... انظر: الحجة للفارسي (3/325)، والإتحاف (ص:372)، والسبعة (ص:553).(1/534)
المَلَكَيْن.
{ فاستغفر ربه } سأله الغُفْران، { وخَرَّ راكعاً } قال ابن عباس: ساجداً (1) .
وعبّر عن السجود بالركوع؛ لما يشتركان فيه من معنى الانحناء والخضوع.
وقال الحسين بن الفضل: سألني عبدالله بن طاهر عن قوله تعالى: { وخَرَّ راكعاً وأناب } هل يقال للراكع خَرَّ؟ قلتُ: لا، قال: فما معنى الآية؟ قلت: معناه: فخرَّ بعد أن كان راكعاً، أي: سجد (2) .
فعلى تفسير ابن عباس: "راكعاً": تمييز. وعلى التفسير الثاني: حال (3) .
فصل
اختلف أهل العلم في سجدة ص، فذهب عمر وسفيان الثوري وابن المبارك وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يُسْجَد هاهنا (4) .
قال ابن عباس: كان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم عليه الصلاة والسلام أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فَسَجَدَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أما تقرأ: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (5) [الأنعام:90].
وذهب الشافعي إلى أنه سجود شكر وليس من عزائم السجود (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/549).
(2) ... ذكره البغوي (4/57)، والقرطبي (15/183).
(3) ... انظر: التبيان (2/210)، والدر المصون (5/532).
(4) ... انظر: المغني (1/357)، والشرح الكبير (1/820).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1808 ح4529).
(6) ... انظر: المغني (1/357)، والشرح الكبير (1/820).(1/535)
وعن الإمام أحمد كالمذهبين (1) .
والذي يفتي به أصحابه: أنها ليست من عزائم السجود.
أخبرنا الشيخان أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي بدمشق، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الحازن النيسابوري ببغداد، قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور [الكرجي] (2) ، أخبرنا أحمد بن الحسن أبو بكر الحيري، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع قال: قال لي الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبدة (3) ، عن زر، عن ابن مسعود: "أنه كان لا يسجد في ص ويقول: إنما هي توبة نبي" (4) .
وفي صحيح مسلم عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في ص" (5) .
أخبرنا أبو المجد محمد بن محمد الكرابيسي بدمشق، أبنا الشيخان عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه المطهر بن عبدالكريم بن محمد قالا: أبنا عبدالرحمن بن حمد الدوني، أبنا القاضي أبو نصر الدينوري، أبنا
__________
(1) ... انظر: المغني (1/357)، والإنصاف (2/196).
(2) ... في الأصل: الكرخي. وانظر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء (19/71-72).
(3) ... عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغاضري مولاهم، يقال: مولى قريش، أبو القاسم البزاز الكوفي الفقيه، نزيل دمشق، ثقة (تهذيب التهذيب 6/407-408، والتقريب ص:369).
(4) ... أخرجه البيهقي في سننه (2/319 ح3560)، والشافعي في مسنده (ص:388)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/371 ح4269).
(5) ... أخرجه البخاري (1/363 ح1019) ولم أقف عليه عند مسلم.(1/536)
الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد السني، حدثني عمر بن سهل، ثنا زكريا بن يحيى الناقد، ثنا الخليل [بن] (1) عمرو (2) ، ثنا محمد بن سلمة (3) ، عن الفزاري (4) ، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال: رأيت في المنام كأني جالس في ظل شجرة ومعي دواة وقرطاس، وأنا أكتب من أول سورة ص، حتى بلغت السجدة، فسجدت والدواة والقرطاس والشجرة، وسمعتهن يقُلْن في سجودهن: اللهم احطط بها وزراً، وأحرز بها شكراً، وأعظم بها أجراً، وعُدْنَ كما كُنّ، فلما استيقظتُ أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته الخبر، فقال: خيرٌ رأيتَ وخيرٌ يكون، نمتَ ونامتْ عينُك، توبة نبي ذكرت، تَرقَّب عندها مغفرة، ونحن نترقب ما ترقب (5) .
وفي مسند الإمام أحمد: "أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب ص، فلما بلغ إلى [سجدتها] (6) قال: رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب
__________
(1) ... زيادة من عمل اليوم والليلة (ص:362). وانظر ترجمته في التعليق التالي.
(2) ... الخليل بن عمرو الثقفي، أبو عمرو البزاز البغوي، نزيل بغداد، كان ثقة صدوق،
... مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 3/145، والتقريب ص:196).
(3) ... محمد بن سلمة بن عبد الله بن أبي فاطمة المرادي الجملي مولاهم، أبو الحارث المصري، كان ثقة ثقة، توفي لست خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 9/171، والتقريب ص:481).
(4) ... في عمل اليوم والليلة: القواريري.
(5) ... أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:362).
(6) ... في الأصل: إلى التي يسجد بها. والتصويب من المسند (3/78).(1/537)
ساجداً، قال: فقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يسجد بها [بعد] (1) " (2) .
وفي حديث آخر: أن أبا سعيد الخدري قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ سورة ص، فلما بلغت الشجرة السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحطّ عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: كنتَ أحق بالسجدة من الشجرة، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [سورة ص] (3) حتى بلغ السجدة فسجد، ثم قال مثل ما قالت الشجرة" (4) .
وقد أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحو هذا الحديث" (5) .
قوله تعالى: { وإن له عندنا لزلفى } أي: لقُربى ومكانة ومنزلة حسنة.
أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن مالك بن دينار في قوله تعالى: { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } قال: يقيم الله تعالى داود عليه السلام عند ساق العرش فيقول: يا داود مجِّدْني اليوم بذلك الصوت الرخيم،
__________
(1) ... زيادة من المسند، الموضع السابق.
(2) ... أخرجه أحمد (3/78 ح11758).
(3) ... زيادة من المصادر التالية.
(4) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (5/93 ح4768)، وأبو يعلى في مسنده (2/330 ح1069).
(5) ... أخرجه الترمذي (2/472 ح579).(1/538)
فيقول: كيف أُمجِّدُك به وقد سلبتنيه في الدنيا؟ فيقول: إني أردُّه عليك، قال: فيرفع داود صوته بالزبور فيستفرغ نعيم أهل الجنة (1) .
كٹ¼مr#y‰"tƒ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ اثدب
قوله تعالى: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } أي: استخلفناك على تدبير مُلْك الأرض، أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، { فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } في قضائك وغيره مما استخلفت فيه، { فيضلك } الهوى { عن سبيل الله } .
__________
(1) ... لم أجده في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه ابن أبي حاتم (10/3240). وذكره السيوطي في الدر (7/167-168) وعزاه لأحمد في الزهد والحكيم الترمذي وابن أبي حاتم.(1/539)
فإن قيل: { يوم الحساب } بم يتعلق؟
قلتُ: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون متعلقاً [بـ"نسوا"] (1) ، على معنى: لهم عذاب شديد بنسيانهم يوم الحساب، وهو ضلالهم عن سبيل الله.
والثاني: أن يكون متعلقاً بـ"لهم عذاب شديد"، على معنى: لهم عذاب شديد في يوم الحساب.
{ بما نسوا } أي: بنسيانهم وتركهم القضاء بالحق. وهذا قول عكرمة والسدي (2) .
$tBur خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا
__________
(1) ... في الأصل: بينسوا. وانظر: الكشاف (4/90).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/550).(1/540)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي(1/541)
حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ اججب
قوله تعالى: { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } أي: عبثاً.
قال ابن عباس: إلا للثواب والعقاب (1) .
{ ذلك } إشارة إلى خلقها باطلاً { ظن الذين كفروا } فإنهم ينكرون الثواب والعقاب والحساب.
قوله تعالى: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } هذه "أمْ" منقطعة، والاستفهام للإنكار عليهم.
المعنى: لو بطل الحساب والجزاء لتساوى المؤمنون والمفسدون في الأرض، والمُتَّقون والفُجّار.
{ كتاب } أي: هذا كتاب، يعني القرآن { أنزلناه إليك مبارك } كثير خيره.
{ ليَدَّبَّرُوا ءاياته } وقرأتُ لأبي جعفر ولعاصم من طريق: "لتَدَبَّرُوا" بتاء المخاطبة وتخفيف الدال (2) .
والمعنى: ليتفكروا فيها ويستخرجوا مكنون سرّها ويعملوا بما فيها.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط، الموضع السابق.
(2) ... النشر (2/361)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:372).(1/542)
{ وليتذكر أولوا الألباب } قال الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأتُ القرآن فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله، ما يرى القرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا [الوَرَعَة] (1) ، لا كَثَّر الله تعالى في الناس مثل هؤلاء (2) .
قوله تعالى { إذ عرض } أي: اذكر إذ عرض { عليه بالعشي } بعد العصر { الصافنات الجياد } .
قال ابن عباس: الخيل السوابق إذا وقفت صَفَنَتْ على أطراف حوافرها عُرضت عليه حتى شغلته عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس (3) .
__________
(1) ... في الأصل: الوزعة. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:274 ح793)، وسعيد بن منصور في سننه (2/420 ح135)، والبيهقي في الشعب (2/541 ح2653).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/551).
... وقال ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به: أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً، كما شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب، وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه، ويحتمل أنه كان سائغاً في ملَّتهم تأخير الصلاة لعذر، والأول أقرب؛ لأنه قال بعدها: { ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } ، وذهب ابن جرير إلى أنه ذهب يمسح عراقيب الخيل وأعرافها؛ لأنه لم يكن له أن يعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بلا سبب، وخالفه ابن كثير لاحتمال أن يكون مثل هذا جائزاً في شرعهم ولا سيما إذا كان غضباً لله، ولذلك عوضه الله بما هو خير منها من الريح التي هي أسرع من الخيل. اهـ (انظر: تفسير ابن كثير 4/34-35).(1/543)
قال الزجاج (1) : قال أهل التفسير واللغة: الصَّافِنُ: القائم الذي يُثْني إحدى يديه وإحدى رجليه حتى يقف بها على سُنْبُكِه، وهو طرف الحافر، فثلاث من قوائمه متصلة بالأرض، وقائمة منها متصلة بالأرض بطرف حافرها فقط، قال الشاعر:
ألِفَ الصُّفُونَ فلا يزالُ كأنه ... مما يقومُ على الثلاث كَسِيرا (2)
وقال بعضهم: الصَّافِن: القائم ثَنَى بعض قوائمه أو لم يَثْنِها.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سَرَّه أن يقوم الناس له صُفوناً فليتبوأ مقعده من النار" (3) .
قال ابن السائب: غزا سليمان بن داود عليهما السلام أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس (4) .
وقال مقاتل (5) : ورث سليمان عليه السلام من أبيه ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/330).
(2) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: صفن)، والبحر (7/372)، والدر المصون (5/534)، والقرطبي (12/62، 15/193)، وزاد المسير (7/127)، والماوردي (5/92)، وروح المعاني (23/190).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/90 ح2755)، وأحمد (4/93، 100)، والبخاري في الأدب المفرد (1/339 ح977) من حديث معاوية رضي الله عنه.
(4) ... ذكره القرطبي (15/193)، والبغوي (4/60).
(5) ... تفسير مقاتل (3/118).(1/544)
وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر [لها] (1) أجنحة (2) .
قالوا: فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه، فتنبه لصلاة العصر وقد بقي منها مائة فرس، فإذا الشمس قد غابت ولم يعلموه بذلك هيبة له، فاغتمَّ لذلك فقال: "رُدُّوها عليَّ"، فردوها عليه فعرقبت وعقرت بالسيف، وقربها لله تعالى، وبقي منها مائة فرس، فما في أيدي الناس اليوم من الخيل فهو من نسل تلك المائة.
قال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله (3) خيراً منها وأسرع [وهي] (4) الريح تجري بأمره كيف يشاء (5) .
{ فقال إني أحببت حب الخير } أي: آثرت حُبَّ الخير.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: أحببت الخير حُبّاً، فقدّم وأضاف.
والمراد بالخير في قوله: "حُبَّ الخير": المال. وقيل: الخيل.
وفي قراءة ابن مسعود: "حُبَّ الخيل" (6) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (7/128).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/128).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: "منها".
(4) ... زيادة من البغوي (4/60).
(5) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/60)، والسيوطي في الدر (7/189) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(6) ... ذكر هذه القراءة الماوردي في تفسيره (5/92).(1/545)
القيامة" (1) .
{ عن ذِكْر } أي: على ذكر { ربي } يريد: صلاة العصر، في قول علي (2) .
والذِّكْر المعروف، في قول ابن عباس (3) .
{ حتى توارت بالحجاب } الليل.
والأول أكثر وأشهر.
وكثير من العلماء باللغة والتفسير يقولون: هو كناية عن غير مذكور.
قال الزجاج (4) : هذا لا أحسبه أعطوا الفكر فيه حقّه؛ لأن في الآية دليل على الشمس، وهو قوله تعالى: { إذ عرض عليه بالعشي } [والعشيُّ] (5) في معنى: إذ عرض عليه بَعْدَ زوال الشمس، حتى توارت الشمس بالحجاب، وليس يجوز الإضمار إلا أن يجري ذِكْرٌ أو دليلُ ذِكْرٍ بمنزلة الذِّكْر.
وطرد الزجاج هذا حيث جاء في كتاب الله تعالى، حتى قال في قوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر:1] جرى ذكر القرآن فيما قبل هذه السورة في قوله تعالى: { حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة } [الدخان:1-3] وهي ليلة القَدْر. وقوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي }
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1047 ح2695)، ومسلم (3/1493 ح1872).
(2) ... أخرجه الطبري (23/155). وذكره الماوردي (5/92)، والسيوطي في الدر (7/177) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(3) ... ذكره الماوردي (5/92).
(4) ... معاني الزجاج (4/331).
(5) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/546)
[القيامة:26] كناية عن النفس، وقد تقدم ذكرها في أول السورة.
قال الحسن: عاتب الله تعالى سليمان حين فاتته صلاة العصر فقال: { ردوها عليّ } أي: أعيدوها عَلَيّ (1) .
{ فطفق مَسْحاً } أي: يمسح مِسَاحاً، أي: يضرب ضرباً، يقال: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه (2) . والمعنى: أقبل يضرب سوقها وأعناقها.
قال الزجاج (3) : والسُّوق: جمع سَاق، مثل قولك: دَارٍ ودُور، ولم يكن عليه الصلاة والسلام ليضرب سُوقها وأعناقها إلا وقد أباح الله تعالى له ذلك؛ لأنه لا تحصل التوبة من ذنب بذنْبٍ عظيم.
قال ابن عباس: يريد: قطع الرؤوس والأعناق (4) .
قال الحسن: [كَسَفَ] (5) عراقيبها وقطع أعناقها وقال: لا تشغليني عن عبادة ربي مرة أخرى (6) .
قال الزمخشري (7) : أراد [بالكَسْف] (8) : القَطْع، ومنه: الكسف في ألقاب
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/552).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: مسح).
(3) ... معاني الزجاج (4/331).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/552).
(5) ... في الأصل: كشف. والكَسْف: قطع العرقوب (اللسان، مادة: كسف).
(6) ... أخرجه الطبري (23/156).
(7) ... الكشاف (4/94).
(8) ... في الأصل: بالكشف. وكذا وردت في الموضع التالي. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/547)
الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة [فمُصَحَّف] (1) .
وهذا الذي ذكرناه من قطع أعناقها وسوقها هو المشهور في التفسير، وإنما فعل ذلك تقرُّباً إلى الله تعالى وكفارة لما فعل، وقد كانت الخيل مباحة في شرعهم كبهيمة الأنعام لنا.
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان يمسح سوقها وأعناقها ويكشف الغبار عنها حُبّاً لها (2) .
وقال قوم: حبسها في سبيل الله وكَوَى سوقها وأعناقها بكَيّ الصدقة (3) .
ô‰s)s9ur فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ اجحب
قوله تعالى: { ولقد فتنا سليمان } أي: أعليناه واختبرناه بسلب ملكه.
وكان السبب في ذلك: ما حدثناه شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه قال: أخبرنا أحمد بن المبارك، أخبرنا جدي لأمي أبو المعالي ثابت بن بندار، أخبرنا أبو علي بن دوما،
__________
(1) ... في الأصل: فقد صحت. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... أخرجه الطبري (23/156)، وابن أبي حاتم (10/3241). وذكره السيوطي في الدر (7/178) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/61).(1/548)
أخبرنا مخلد بن جعفر، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا إسماعيل بن عيسى، أخبرنا إسحاق بن بشر، أخبرنا جويبر (1) ، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام رجلاً غَزَّاء، يغزو في البر والبحر، فسمع بملك في جزيرة من جزائر البحر، فركب سليمان الريح وجنوده من الجن والإنس حتى نزل تلك الجزيرة، فقتل ملكها وسبى من فيها وأصاب جارية لم يَرَ مثلها حسناً وجمالاً، وكانت ابنة ذلك الملك، فاصطفاها لنفسه، وكان يجد بها ما لا يجد بأحد، وكان يؤثرها على جميع نسائه، فدخل عليها يوماً فقالت: إني أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، فإن رأيت أن تأمر بعض الشياطين [فيُصوِّرُون] (2) لي صورة أبي في داري، فأراه بكرة وعشياً، رجوتُ أن يذهب عني حزني، ويسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان صخر المارد فمثَّلَ لها أباها في هيئته في ناحية دارها لا تُنْكر منه شيئاً، إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه فزيّنته وألبسته حتى تركته في هيئة أبيها ولباسه، فإذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه كل غدوة مع جواريها فتُطيّبه وتسجد له، ويسجد جواريها، وتروح بمثله، وسليمان لا يعلم بذلك، حتى أتى لذلك أربعون يوماً، وبلغ الناس، وبلغ آصف بن برخيا، وكان صِدِّيقاً، فدخل عليه فقال: يا نبي الله، قد أحببت أن أقوم مقاماً أذكر فيه
__________
(1) ... جويبر بن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، ويقال اسمه جابر، وجويبر لقب، نزيل الكوفة، راوي التفسير، ضعيف جداً، مات بعد الأربعين (تهذيب التهذيب 2/106، والتقريب ص:143).
(2) ... في الأصل: فيصورن.(1/549)
من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم، فجمع سليمان الناس، فقام فيهم، فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى، وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضلهم الله تعالى به حتى انتهى إلى سليمان، فَذَكَرَ فضله وما أعطاه الله تعالى في حداثة سِنّه وصِغَره، ثم سكت، فامتلأ سليمان عليه السلام غيظاً، فلما دخل أرسل إليه، فدخل، فقال: يا آصف ذكرتَ من مضى من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام فأثنيتَ عليهم بما كانوا في زمانهم كله، فلما ذكرتني جعلت تُثني عليَّ بخير في صغري، وسكتَّ عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثتُ في كبري، قال: أحدثتَ أنَّ غير الله تعالى يُعْبَد في دارك منذ أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: [في] (1) داري؟ قال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، عرفتُ ما قلتَ هذا إلا عن شيء بلغك (2) ، ثم رجع إلى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم دعا بثياب الطهر (3) فلبسها، ثم خرج إلى فلاة من الأرض ففُرش له الرماد، ثم أقبل تائباً إلى الله عز وجل، فجلس على ذلك الرماد يتمعَّك (4) فيه [متذللاً] (5) مُتضرِّعاً يبكي ويستغفر يقول: يا رب ما هذا بلاؤك عبد آل داود
__________
(1) ... في الأصل: لي. والتصويب من البغوي (4/62).
(2) ... قوله: "إلا عن شيء بلغك" قدم في الأصل بعد قوله: "هوى امرأة" وهو وهم من الناسخ، وقد أخّر إلى هنا ليستقيم المعنى (انظر: البغوي 4/62).
(3) ... ثياب الطهر: هي ثياب لا تغزلها إلا الأبكار، ولا تنسجها إلا الأبكار، ولا تغسلها إلا الأبكار (البغوي 4/62).
(4) ... تمعّك فيه: أي: تمرّغ فيه (اللسان، مادة: معك).
(5) ... في الأصل: متذلاً.(1/550)
أن يعبدوا غيرك، وأن يقروا في دارهم وأهليهم عبادة غيرك، فلم يزل كذلك حتى أمسى، ثم رجع. وكانت له جارية سماها: الأمينة، وكان إذا أتى الخلاء أو أراد إتيان امرأة وضع خاتمه عندها، وكان لا يمسه إلا وهو طاهر، وكان الله تعالى جعل مُلْكه في خاتمه.
قال وهب: فجاء يوماً يريد الوضوء فدفع الخاتم إليها، وجاء صخر المارد فسبق سليمان فدخل المتوضأ فدخل سليمان لحاجته وخرج الشيطان على صورة سليمان ينفض لحيته من الوضوء لا تنكر من سليمان شيئاً، فقال: خاتمي يا أمينة، فناولته إياه ولا تحسب أنه إلا سليمان، فجعله في يده، ثم جاء حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والوحش والإنس والجن، وخرج سليمان بن دواد عليهما السلام فقال للأمينة: خاتمي، قالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، وقد تغير عن حاله وذهب عنه بهاؤه، قالت: كذبت، إن سليمان قد أخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته (1) .
قال الحسن: فخرج هارباً مخافةً على نفسه، فذهب على وجهه بغير حذاء ولا قلنسوة في قميص وإزار، فمر بباب شارع على الطريق وقد جهده الجوع والعطش والحر، فأتى الباب فَقَرَعَهُ، فخرجت امرأة فقالت: ما حاجتك؟ فقال: ضيافة ساعة، فقد ترين ما أصابني من الحرّ والرمضاء، قد احترقت رجْليَّ وبلغ مجهودي من الجوع والعطش، قالت المرأة: زوجي
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (11/390)، والبغوي (4/61-62) من حديث وهب بن منبه.(1/551)
غائب وليس يسعني أن أدخل رجلاً غريباً عليّ، فادخل البستان فإن فيه ماءً وثماراً فَأَصِبْ من ثماره وتبرد فيه، فإذا جاء زوجي استأذنته في ضيافتك، فإن أذن لي فذاك, وإن أبى أصبت منا رزق الله ومضيت، فدخل البستان فاغتسل، ووضع رأسه فنام، فآذاه الذُّبَّان، فجاءت حيّة سوداء فأخذت ريحانة من البستان بفيها، وجاءت سليمان فجعلت تَذُبَّ عنه الذُّبَاب، حتى جاء زوج المرأة فقصت عليه القصة، فدخل إلى سليمان، فلما رأى الحية وصنيعها دعا امرأته فقال: تعالي فانظري إلى العجب، فنظرت، ثم مشيا إليه فأيقظاه، ثم قالا له: يا فتى هذا منزلنا لا يسعنا شيء يُعجزك، وهذه ابنتي قد زوجتكها، وكانت من أجمل نساء زمانها، فتزوجها، وأقام عندهم ثلاثاً.
ثم قال: لا يسعني إلا طلب المعيشة لي ولأهلي، فانطلق إلى الصيادين فقال لهم: هل لكم في رجل يكون معكم يعينكم وترضخون له من صيدكم، وكُلٌّ يأتيه الله تعالى برزقه، فقالوا: قد انقطع عنا الصيد، وليس عندنا فضل نعطيكه، فمضى إلى غيرهم فقال لهم مثل هذه المقالة، فقالوا له: نعم وكرامة، نواسيك بما عندنا، فأقام معهم يختلف كل ليلة إلى أهله بما أصاب من الصيد، حتى أنكر الناس قضاء سليمان وفعاله، فلما رأى الخبيث أن الناس قد فطنوا له انطلق بالخاتم فألقاه في البحر (1) .
__________
(1) ... هذه الروايات وغيرها من الروايات التي ذكرها المفسرون في فتنة سليمان النبي لم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة، فضلاً عما فيها من تناقضات ومخالفات تدل على عدم صحتها، ومن هنا فإننا لا نسلم بها. أما عن التناقضات في تلك الروايات التي معنا فنرى المصنف يذكر في رواية أولى أن سبب فتنة سليمان ما حدث في بيته من عبادة زوجته لصنم دون علمه، وفي رواية ثانية يذكر فيها أن صخراً المارد تمثل بصورة سليمان وأخذ الخاتم من زوجته، وفي رواية ثالثة يذكر فيها أن الشيطان ضحك على سليمان وأخذ خاتمه وألقاه في البحر فذهب ملك سليمان، فتلك وغيرها مما ذكره بعض المفسرين أقوال متناقضة ومن ثم لا يعتد بها جميعاً، كما أن فيها مخالفات لا تتمشى مع روح الآيات ولا مع نزاهة الأنبياء وعصمتهم.(1/552)
قال الحسن: أمسك الخاتم أربعين يوماً.
وروي: أنه قعد على كرسي سليمان، فاجتمع له الجن والإنس والشياطين وملك كل شيء يملكه سليمان، إلا أنه لم يُسَلَّط على نسائه، وخرج سليمان يسأل الناس ويتضيفهم، ويقوم على باب الرجل والمرأة ويقول: أطعموني فإني سليمان بن داود، فيطردونه ويقولون: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان، وهذا سليمان على ملكه، حتى أصابه الجهد، واشتد عليه البلاء، فلما تمّ عليه أربعون يوماً قال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من خلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم، فعمد عند ذلك فألقى الخاتم في البحر، فاستقبله جِرِّيٌّ (1) فابتلع الخاتم فصار في جوفه مثل الحريق من نور الخاتم، فاستقبل جرية الماء فوقع في شباك الصيادين الذين كان سليمان معهم، فلما أمسوا تقسموا السمك فأسقطوا الجِرِّيّ فجعلوه لسليمان، فذهب به إلى أهله، فأمرهم أن يصنعوه، فلما شقوا بطنه أضاء البيت نوراً من خاتمه، فدعَتِ المرأة سليمان فأرتْهُ الخاتم فتختَّم به، وخَرَّ لله تعالى ساجداً وقال: إلهي لك الحمد على قديم بلائك، وحسن صنعك إلى آل داود، إلهي أنت ابتدأتهم بالنعم، وأورثتهم الكتاب والحكم
__________
(1) ... الجِرِّيُّ: ضَرْبٌ من السمك (اللسان، مادة: جرا).(1/553)
والنبوة، فلك الحمد، نعمائك ظهرت فلا تخفى، وبطنت فلا تحصى، فَلَكَ الحمد، إلهي لم تسلمني بذنوبي، فَلَكَ الحمد، تغفر الذنوب وتستجيب الدعاء، فَلَكَ الحمد، إلهي لم تسلمني بجريرتي، فلك الحمد، ولم تخذلني بخطيئتي، فَلَكَ الحمد، إلهي فأتمّ نعمتك عليّ واغفر لي ما سلف، وَهَبْ لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فَلَكَ الحمد (1) .
وروى عكرمة: أن سليمان عليه السلام لما أصاب المُلْك أمر بحمل أهل ذلك البيت فوضعهم في وسط المملكة، ولم يكن سليمان نال تلك المرأة حتى رد عليه الملك ملكه. هذا تمام الحديث الذي سمعته من شيخنا.
قال السدي: فأمر سليمان بالشيطان الذي أخذ خاتمه فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك إلى الساعة (2) .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن سبب فتنة سليمان عليه السلام أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه ودّ أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً، وأوحى الله تعالى إليه أنه سيصيبك بلاء، فكان لا يدري يأتيه من السماء أو من الأرض (3) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: قوله تعالى: { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب } .
(2) ... أخرجه الطبري (23/159). وذكره السيوطي في الدر (7/185) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه الحاكم (2/471 ح3623)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/180). وذكره السيوطي في الدر (7/178-179) وعزاه للفريابي والحكيم الترمذي والحاكم وصححه.(1/554)
وقال السدي: كانت جرادة آثر نسائه عنده فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإني أحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي [لأجل ما قال] (1) .
قال وهب بن منبه: هذه جرادة هي التي سباها وأمر أن يصوروا لها صورة أبيها.
وقال سعيد بن المسيب: احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله تعالى إليه: احتجبت عن عبادي ثلاثة أيام فلم تنظر في أمورهم، ولم تنصف مظلوماً من ظالم، فسلط الشيطان على خاتمه (2) .
فعلى هذه الأقوال: المراد بالجسد: الشيطان، وكان اسمه: صخر.
وقيل: إنه لم يُسَخَّر لسليمان لفرط تمرده.
وقال الشعبي في سبب ذلك: ولد لسليمان ابن، فاجتمعت الشياطين فقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ينفك ما نحن فيه من البلاء والسخرة، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم سليمان عليه السلام بذلك، فأمر السحاب حتى حملته، وغدا ابنه في السحاب خوفاً من معرة [الشياطين] (3) ، فعاقبه الله تعالى بخوفه من الشياطين، ومات الولد، فأُلقي ميتاً على كرسيه جسداً، فهو
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/158). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/133)، والسيوطي في الدر (7/185) وعزاه لابن جرير. والزيادة من زاد المسير.
(2) ... ذكره السيوطي في الدر (7/184) وعزاه لعبد بن حميد والحكيم الترمذي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب.
(3) ... في الأصل: الشيطان. وكذا وردت في الموضع التالي. وانظر: مصادر التخريج.(1/555)
الجسد الذي قال الله تعالى: { وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب } (1) .
tA$s% رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/96)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/134-135).(1/556)
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ احةب
قوله تعالى: { قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } قدَّم طلب المغفرة على طلب الملك؛ لأن المغفرة سبب للسعادة في الدار الآخرة، وهو مقصود الأنبياء والأولياء.
ومعنى: "لا ينبغي": لا يتسهل لأحد من بعدي.
فإن قيل: كيف سأل مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، والمعهود من حال الأنبياء والأولياء الإعراض عن الدنيا والإضراب عنها والزهد فيها، ثم لم يكتف بذلك حتى قال: "مُلْكاً"، ثم لم يكتف حتى قال: "لا ينبغي لأحد من بعدي"، وهو سؤال يلوح منه الحرص ويؤذن بالحسد؟
قلتُ: عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لم يرد المُلْك والاستبداد به ليتنعم به ويمرح نفسه في لذات الدنيا، بل أراد الاستظهار على الكفرة والفَجَرَة والمَرَدَة من الجن والإنس بمعجزة النبوة وقوة المُلْك ليأخذ بنواصيهم إلى طاعة الله تعالى.
الثاني: أنه أراد مُلْكاً مستقراً محفوظاً لا يسلب عنه ولا يقوم به غيره بدلاً عنه، كما سلبه أولاً وأقيم فيه الجسد على كرسيه. وهذا معنى [قول] (1) الحسن (2) .
__________
(1) ... في الأصل: وقول.
(2) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/186) وعزاه لعبد بن حميد.(1/557)
الثالث: أن المعنى: هب لي مُلْكاً تكون فيه آية تدل على نبوّتي، ولا ينبغي لأحد من الآدميين الذين ليسوا بأنبياء، ويكون في ذلك آية تدل على أنك قد غفرت لي ورددت إليّ نبوتي، ودليله قوله تعالى: { فسخرنا له الريح } وما بعده. قاله الزجاج (1) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن عفريتاً من الجن تفلَّتَ عَلَيَّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله تعالى منه، فأخذته فأردت أن [أربطه] (2) إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرتُ دعوة أخي سليمان: { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددته خاسئاً" (3) .
قوله تعالى: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء } أي: ليَّنة الهبوب.
قال الحسن: ليست [بالعاصفة] (4) المؤذية ولا الضعيفة المقصرة (5) .
{ حيث أصاب } أي: أراد وقصد.
قال الأصمعي: العرب تقول: أصَابَ فلان الصَّواب فأخطأ الجواب. معناه: أنه قَصَدَ الصواب وأراده وأخطأ مُراده (6) .
ويحكى أن رجلين من أهل اللغة قصدا رؤبة بن العجاج ليسألاه عن هذه
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/333).
(2) ... في الأصل: أرطبه. والتصويب من الصحيحين.
(3) ... أخرجه البخاري (3/1260 ح3241)، ومسلم (1/384 ح541).
(4) ... في الأصل: بالعاصف. والتصويب من الماوردي (5/99).
(5) ... ذكره الماوردي (5/99).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: صوب).(1/558)
الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان (1) ؟ فقالا: هذه طلبتنا، ورجعا (2) .
ويقال: أصاب الله بك خيراً.
قوله تعالى: { والشياطين } أي: وسخرنا له الشياطين { كل بناء وغواص } بدل من "الشياطين" (3) ، وكانوا يبنون له الأبنية، كما قال تعالى في موضع آخر: { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } [سبأ:13] ويغوصون له في البحر يستخرجون له الدُّرّ.
{ وآخرين } أي: وسخرنا له آخرين { مقرنين في الأصفاد } وهم مَرَدَة الشياطين سُخِّروا له حتى قرنهم في الأصفاد.
قال الزجاج (4) : الأصفاد: سلاسل الحديد، وكل ما شددتّه شداً وثيقاً بالحديد وغيره فقد صَفَدْتَه، وكل من أعطيته عطاء جزلاً فقد أصْفَدْتَه، أي: كأنك أعطيته ما يرتبط به.
قال غيره: ومنه قول علي عليه السلام: من بَرَّكَ فقد أسرك، ومن جَفَاكَ فقد أطلقك (5) .
ومنه قول المتنبي:
.......................... ... ... ومنْ وَجَدَ الإحسانَ قَيْداً تَقَيَّدَا (6)
__________
(1) ... قوله: "تصيبان" مكرر في الأصل.
(2) ... انظر: الغريب للخطابي (3/29).
(3) ... انظر: التبيان (2/210)، والدر المصون (5/536).
(4) ... معاني الزجاج (4/333).
(5) ... ذكره المناوي في فيض القدير (4/306)، والبغوي في تفسيره (4/40).
(6) ... عجز بيت للمتنبي، وصدره: (وقيَّدتُ نفسي في ذراك محبةً)، وهو في: الخزانة (1/200)، وقرى الضيف (1/251)، والقرطبي (9/384)، وروح المعاني (23/203).(1/559)
قال يحيى بن سلام: لم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم (1) .
قوله تعالى: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي: قلنا له: هذا عطاؤنا.
قال عطاء عن ابن عباس: أعط من شئت وأمسك من شئت بغير حساب، لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت (2) .
قال الحسن: ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تَبِعَة، إلا سليمان عليه السلام، فإن الله تعالى يقول: { هذا عطاؤنا ... الآية } ، إن أعطى أجر، [وإن لم] (3) يعط لم يكن عليه تَبِعَة (4) .
وقيل: المعنى: امْنُن على من شئت من الجن بإطلاقه، أو أمسك من شئت منهم في عمله من غير حرج عليك. وهذا قول جماعة منهم قتادة (5) .
وقيل: إن قوله تعالى: { بغير حساب } متعلق بقوله: { هذا عطاؤنا } ، تقديره: هذا عطاؤنا أعطيناكه بغير حساب، يعني: جماً كثيراً.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/99).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/556)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/141).
(3) ... في الأصل: ولم. والتصويب من الوسيط (3/556).
(4) ... ذكره الطبري (23/163)، والماوردي (5/100)، والواحدي في الوسيط (3/556-557)، والسيوطي في الدر (7/191) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... أخرجه الطبري (23/163). وذكره الماوردي (5/100).(1/560)
وقال الزجاج (1) : بغير جزاء، يعني: أعطيناكه تفضيلاً لا مجازاة.
والباء في قوله تعالى: { بغير } في موضع الحال من "عطاؤنا"، أي: هذا عطاؤنا ثابتاً بغير حساب. والعامل فيه معنى الإشارة، وهي على المعنى الأول هي في موضع الحال من الفاعل، والعامل فيه "فامْنُن" (2) .
ِچن.ّŒ$#ur عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/334).
(2) ... انظر: التبيان (2/210)، والدر المصون (5/536).(1/561)
بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ اححب
قوله تعالى: { واذكر عبدنا أيوب } "عَبْدَنا" منصوب بوقوع الفعل عليه، "وأيوبَ" بدل أو عطف بيان، و { إذ } بدل اشتمال منه.
{ نادى ربه } دَعَاهُ { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } وقرأتُ لأبي جعفر: "بنُصُبٍ" بضم النون والصاد، وقرأتُ ليعقوب بفتحهما، وقرأتُ أيضاً من رواية حسنون بن الهيثم عن هبيرة بن محمد التمار عن حفص: بفتح النون وسكون الصاد، وقرأتُ لباقي القراء العشرة: بضم النون وسكون الصاد (1) .
فالنُّصْب والنَّصَب لغتان، كالرُّشْد والرَّشَد، و"نُصُب" [بضمهما] (2) تثقيل نصب، ونَصَبٌ على أصل المصدر، وأصله: التَّعَبُ والمشقة.
قال ابن عباس: يريد: ما ابتلاه الله تعالى به حين سَلَّط عليه الشيطان (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/325-326)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:372)، والسبعة (ص:554).
(2) ... في الأصل: يضمهما.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/557).
... قال محققه: يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصاً إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله، وهو ما أشار له التنزيل الكريم لأنه المتيقن، وهو أنه عليه السلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله وأنه صبر على ذلك صبراً صار يُضرب به المثل، كثباته وسعة صدره وشجاعته، وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.(1/562)
وقال قتادة: بضُرٍّ في الجسد وعذاب في الأهل والمال (1) .
فإن قيل: كيف أضاف ما أصابه إلى الشيطان والمبتلي له هو الله تعالى؟
قلتُ: أضافه إلى الشيطان إضافة الشيء إلى سببه، فإن الشيطان هو الذي تولى ذلك، وباشره على ما ذكرناه في قصته في سورة الأنبياء، فتطلبه مع ما لم أذكره هاهنا من حديثه في سورة الأنبياء.
فإن قيل: فما الحكمة في إضافته إلى سببه دون مسببه؟
قلتُ: استعمال حسن الأدب مع الله سبحانه وتعالى لئلا يكون كالشاكي منه يذكر ما ابتلاه به.
وقيل: أراد بقوله: { مسني الشيطان بنصب وعذاب } : ما كان يوسوس إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، وما كان يغريه على الكراهة والجزع.
{ ارْكض برجلك } أي: قلنا له اضرب الأرض برجلك، فركض فنبعت عين ماء فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً، ثم رَكَضَ برجْله فأنبعت عين فشرب منها، فهو قوله تعالى: { هذا مغتسل بارد وشراب } .
قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها: الجابية (2) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/557)، والسيوطي في الدر (7/191) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... أخرجه الطبري (23/166). وذكره الماوردي (5/102).
... والجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدور، من ناحية الجولان، قرب مرج الصفر في شمالي حوران، وفي هذا الموضع خطب سيدنا عمر رضي الله عنه خطبته المشهورة (معجم البلدان 2/91).(1/563)
قوله تعالى: { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } أي: وقلنا له خُذْ بيدك حزمة من حشيش أو ريحان أو عيدان ونحو ذلك، فاضرب به ولا تحنث، وكان عليه السلام حَلَفَ في مرضه ليضربن امرأته مائة جلدة إن عافاه الله تعالى.
واختلفوا في سبب يمينه على أربعة أقوال:
أحدها: ما ذكرناه في سورة الأنبياء من حديث ابن عباس: أن إبليس جلس في طريقها في صورة طبيب فقالت له: يا عبد الله إن هاهنا إنساناً مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ فقال: إن شاء فعلت على أن يقول لي إذا برأ: أنت شفيتني، فذكرت ذلك لأيوب فقال: ويحك ذاك الشيطان وحلف ليجلدنها إن شفاه الله تعالى مائة جلدة (1) .
الثاني: ما حكيناه أيضاً في الأنبياء عن الحسن: أن إبليس أتى زوجته بسخلة فقال: ليذبح هذه لي وقد برأ، فأخبرته الخبر، فحلف (2) .
الثالث: أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز فخاف خيانتها،
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3245). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/192-193) وعزاه لأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/377).(1/564)
فحلف ليضربنها. قاله سعيد بن المسيب (1) .
الرابع: أن إبليس لقيها فقال لها: أنا الذي فعلت بأيوب ما به، وأنا إله الأرض، وما أخذته منه فهو بيدي فانطلقي أريك، فمشى بها غير بعيد، ثم سحر بصرها وأراها وادياً عميقاً فيه أهلها وولدها ومالها، فأتت أيوب فأخبرته بذلك فقال: ذاك الشيطان، ويحك كيف وعى قوله سمعك، والله لئن شفاني الله تعالى لأجلدنك مائة جلدة. [قاله] (2) وهب بن منبه (3) .
قال المفسرون: جبر الله تعالى زوجته بحسن صبرها أن أفْتَاهُ في ضربها، فسهل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: أخذ عِثْكالاً (4) فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فبرّ في يمينه (5) .
قال مجاهد: هذا خاص لأيوب (6) ، يريد: أن شريعتنا ليست كذلك.
والأمر على ما ذَكَرَ عندنا وعند مالك والليث بن سعد فيما إذا حلف ليضربنه مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لا يبرّ في يمينه.
وقال أبو حنيفة والشافعي: يبرّ إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/103)، والواحدي في الوسيط (3/558).
(2) ... في الأصل: قال. والتصويب من زاد المسير (7/144).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/144)، والسيوطي في الدر (7/195) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... العِثْكَال: الشِّمْراخ، وهو ما عليه البُسْرُ من عيدان الكِباسة، وهو في النخل بمنزلة العنقود من الكَرْم (اللسان، مادة: عثكل).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/144).
(6) ... ذكره الماوردي (5/104).(1/565)
منها؛ احتجاجاً بقصة أيوب (1) .
وفي قوله تعالى: { إنا وجدناه صابراً } دليل على أن الشكاية إلى الله تعالى لا تبطل الصبر ولا تذهب بالأجر.
ِچن.ّŒ$#ur عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
__________
(1) ... انظر: المغني (10/61)، والأم (7/80).(1/566)
الْأَخْيَارِ احرب
قوله تعالى: { واذكر عبادنا } وقرأ ابن كثير: "عبدنا" على التوحيد (1) .
فعلى قراءة الأكثرين: { إبراهيم وإسحاق ويعقوب } بدل من "عبادنا". وعلى قراءة ابن كثير وحده: بدل، ثم عطف عليه "إسحاق ويعقوب" (2) .
فإن قيل: ما بال إسماعيل لم يذكر معهم وهو منهم؟
قلتُ: إنما لم يذكر معهم؛ لأن المعنى: واذكر هؤلاء الذين ابتلوا فصبروا، ولذلك عطف ذكرهم على ما تقدم من قصة داود وسليمان وأيوب ذوي البلوى، وإسماعيل عليه السلام لم يُبْتَل كبلواهم، إلا إذا قلنا هو الذبيح فلا يستقيم هذا الجواب.
{ أولي الأيدي والأبصار } الأيْدِي: جمع يد التي هي بمعنى القدرة والقوة.
قال ابن عباس: أولي [القوة] (3) في طاعة الله تعالى، والأبصار في المعرفة بالله تعالى (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/329)، والحجة لابن زنجلة (ص:613)، والكشف (2/231)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:372)، والسبعة (ص:554).
(2) ... انظر: التبيان (2/211)، والدر المصون (5/537).
(3) ... زيادة من الوسيط (3/560).
(4) ... أخرجه الطبري (23/170)، وابن أبي حاتم (10/3246) كلاهما بلفظ: أولي القوة والعبادة، والأبصار: الفقه في الدين. وذكره الواحدي في الوسيط (3/560-562)، والسيوطي في الدر (7/197) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/567)
وقرأتُ لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه: "الأيْدِ" بغير ياء في الحالين (1) ، وهي قراءة ابن مسعود والأعمش؛ اكتفاء بالكسرة.
قال الفراء (2) : هو صواب، مثل الجَوَارِ والمُنَادِ (3) .
قوله تعالى: { إنا أخلصناهم } أي: جعلناهم لنا خالصين { بخالصة } أي: بخصلة خالصة، ثم فسّرها بقوله تعالى: { ذكرى الدار } أي: أنهم يذكرون الدار الآخرة فيتأهبون لها ويزهدون في ضرتها.
قال أبو علي (4) : على هذه القراءة "ذكرى" بدل من "خالصة"، تقديره: أخلصناهم بذكرى الدار.
وقرأ نافع والحلواني عن هشام: "بخَالِصَةِ ذِكْرَى" بغير تنوين على الإضافة (5) ؛ لأن الخالصة تكون للذِّكْر وغير الذِّكْر، فإذا أضيفت إلى "ذكرى" اختصت الخالصة بهذه الإضافة، فتكون الإضافة إلى المفعول به، كأنه بإخلاصهم ذكرى الدار، أي: أخلصوا ذكرها والخوف منها [لله] (6) ، ويجوز أن تكون على إضافة المصدر الذي هو "خالصة" إلى الفاعل،
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:372).
(2) ... معاني الفراء (2/407).
(3) ... "الجوار" في سورة الشورى من الآية رقم: 32، و"المناد" في سورة ق من الآية رقم: 41.
(4) ... الحجة للفارسي (3/327-328).
(5) ... الحجة للفارسي (3/326-327)، والحجة لابن زنجلة (ص:613)، والكشف (2/231)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:373)، والسبعة (ص:554).
(6) ... زيادة من الحجة (3/328).(1/568)
تقديره: بأن [أخلصت] (1) لهم ذكرى الدار. هذا كلام أبي علي.
{ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } يريد: من الذين اتخذهم صَفْوة، فصَفَّاهم من كل دنس، والأخْيَار: جمع خَيْر أو خَيِّر على التحقيق؛ كأمْوات في جمع مَيْت أو مَيِّت.
قوله تعالى: { واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل } أي: اذكر فضلهم وصبرهم وتأسَّ بهم واقْتَدِ بأخلاقهم.
وقد ذكرنا الْيَسْع في سورة الأنعام (2) ، وذا الكفل في الأنبياء (3) .
#x"yd ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
__________
(1) ... في الأصل: خلصت. والتصويب من الحجة، الموضع السابق.
(2) ... آية رقم: 86.
(3) ... آية رقم: 85.(1/569)
أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ اخحب
قوله تعالى: { هذا ذِكْرٌ } أي: هذا شرف وثناء جميل تذكرون به أبداً، وكيف لا يكون شرفاً والمُثْنِي عليهم رب العالمين.
{ وإن للمتقين } أي: وإن للأنبياء المذكورين ومن شاركهم في وصف التقوى مع هذا الثناء الجميل والشرف العظيم { لحُسْنَ مآب } أي: لحسن مرجع يؤوبون إليه يوم القيامة.
{ جنات عدن } بدل من "حُسْنَ مآب" أو عطف بيان (1) .
{ مفتحةً } قيل: النصب صفة لـ"جنات".
وقال الزمخشري (2) : "مُفَتَّحَةً" حال، والعامل فيها ما في "للمتقين" من معنى الفعل. وفي "مفتحة" ضمير الجنات، و"الأبواب" بدل من الضمير، تقديره: مُفَتَّحَةً هي الأبواب، كقولهم: ضرب زيدٌ اليَد والرِّجل، وهو من بدل الاشتمال.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/211)، والدر المصون (5/538).
(2) ... الكشاف (4/102).(1/570)
وقال الزجاج (1) : المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها.
وقال الفراء (2) : المعنى: مفتحةً لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة.
قال الزمخشري (3) : وقرئ "جَناتُ عدنٍ مفتحةٌ" بالرفع (4) ، على أن "جنات عدن" مبتدأ، و"مفتحة" خبره. أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي: هو جنات عدن هي مفتحة لهم (5) .
قوله تعالى: { متكئين فيها } حال من الضمير المجرور باللام في قوله تعالى: { لهم } (6) .
قوله تعالى: { وعندهم قاصرات الطرف أتراب } قال الزجاج (7) : الأتْرَاب: اللواتي أسنانهن واحدة، وهنّ في غاية الشباب والحُسْن.
قال غيره: وإنما جعلهن على سِنّ واحدة؛ لأن التحابّ بين الأقران أثبت.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/337).
(2) ... معاني الفراء (2/408).
(3) ... الكشاف (4/102).
(4) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/387)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/539).
(5) ... قال ابن جرير في تفسيره (23/174): فإن قال لنا قائل: وما في قوله: { مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ } من فائدة خبر حتى ذكر ذلك؟
... قيل: الفائدة في ذلك: إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها إياها، بمعاناة بيد ولا جارحة، ولكن بالأمر.
(6) ... انظر: التبيان (2/211)، والدر المصون (5/539).
(7) ... معاني الزجاج (4/338).(1/571)
وقيل: هنّ أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهم.
و"قاصرات الطرف" مفسر في الصافات (1) .
قوله تعالى: { هذا ما توعدون } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يوعدون" بالياء، والباقون بالتاء (2) .
قال أبو علي (3) : من قرأ بالتاء فعلى معنى: قل لهم هذا ما توعدون، فيكون خطاباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. ومن قرأ "يوعدون" بالياء؛ فلأن ذكر المتقين قد تقدم في قوله تعالى: { وإن للمتقين لحسن مآب } ، { هذا ما يوعدون } أي: ما يوعد المتقون ليوم الحساب، أي: في يوم الحساب، أو لأجل يوم الحساب.
قوله تعالى: { ما له من نفاد } أي: انقطاع.
قال ابن عباس: ليس لشيء في الجنة نفاد، ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه [حياً] (4) .
#x"yd وَإِن لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 48.
(2) ... الحجة للفارسي (3/330)، والحجة لابن زنجلة (ص:614)، والكشف (2/232)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:373)، والسبعة (ص:555).
(3) ... الحجة للفارسي (3/330).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/563). وما بين المعكوفين في الأصل: جرماً. والتصويب من الوسيط.(1/572)
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)(1/573)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ادحب
قوله تعالى: { هذا } قال الزجاج (1) : المعنى: الأمر هذا، فـ"هذا" رفع بخبر الابتداء المحذوف، وإن شئت كان "هذا" رفعاً بالابتداء، والخبر محذوفاً.
وقال غيره: يجوز أن يكون التقدير: إن هذا لرزقنا هذا، فيكون توكيداً لما قبله.
ثم ذكر ما للكفار فقال تعالى: { وإن للطاغين لشرَّ مآب } .
{ جهنم } بدل من "شر مآب"، أو عطف بيان (2) .
{ هذا فليذوقوه } فيه تقديم وتأخير، تقديره: هذا حميم فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه. ثم ابتدأ فقال: { [هذا] (3) } أي: هو { حميم وغساق } .
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "وغسَّاق" بالتشديد، هاهنا وفي عم
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/338).
(2) ... انظر: التبيان (2/212)، والدر المصون (5/539).
(3) ... في الأصل: جهنم. وهو خطأ.(1/574)
يتساءلون (1) ، والباقون بالتخفيف (2) .
قال أبو علي (3) : من قرأ بالتخفيف؛ فلأنه اسم مثل: عذاب ونكال وشراب وهو بارد ضد الحميم يحرق كما يحرق الحميم.
فأما من قرأ "وغسّاق" بالتشديد فلا يخلو من أن [يكون] (4) اسماً أو صفة، فيبعد أن يكون اسماً، [لأن] (5) الأسماء لم تجئ على هذا الوزن إلا قليلاً، وذلك الكَلاَّء (6) [والقَذَّاف] (7) والجَبَّان (8) ، وإن كان صفة من غَسَقَ يغسِقُ: إذا سأل، مثل: ضَرَّاب من ضرب يَضْرِبُ، فقد أقيم مقام
__________
(1) ... عند الآية رقم: 25.
(2) ... الحجة للفارسي (3/330)، والحجة لابن زنجلة (ص:615)، والكشف (2/232)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:373)، والسبعة (ص:555).
(3) ... الحجة (3/330-331).
(4) ... زيادة من الحجة (3/330).
(5) ... في الأصل: فإن. والمثبت من الحجة، الموضع السابق.
(6) ... الكَلاَّء: مرفأ السفن، وهو عند سيبويه فَعَّالٌ، مثل: جَبَّار، لأنه يَكْلأُ السفن من الريح، وعند أحمد بن يحيى: فَعْلاء، لأن الريح تَكِلُّ فيه، فلا ينخرق، وقول سيبويه مرجّح، ومما يرجحه أن أبا حاتم ذكر أن الكلاّء مذكر لا يؤنثه أحد من العرب (انظر: لسان العرب، مادة: كلأ).
(7) ... في الأصل: والقذا. والتصويب من الحجة (3/330). والقذّافُ: جمع، وهو الذي يُرمى به الشيء فَيَبْعُدُ، والقذّاف: المنجنيق وهو الميزان (لسان العرب، مادة: قذف).
(8) ... الجبَّانُ: الصحراء، وتسمى بها المقابر؛ لأنها تكون في الصحراء تسمية للشيء بموضعه، والجبَّان: ما استوى من الأرض في ارتفاع، ويكون كريم المنبت (لسان العرب، مادة: جبن).(1/575)
الموصوف، وأن لا تُقام الصفة مقام الموصوف أحسن، إلا [أن] (1) يكون صفة قد غلبت وأجري مجرى الأسماء، نحو: العبد، والأبطح.
والقراءة بالتخفيف أحسن؛ لسلامته من الأمرين اللذين وصفناهما في المشدد، وهما قلة البناء، وإقامة الصفة مقام الموصوف.
واختلف المفسرون في الغَسَّاق؛ فقال ابن عباس: هو الزمهرير (2) .
وقال أبو سعيد الخدري: المُنْتِن (3) .
وقال عطية: القيح الذي يسيل من جلود أهل النار (4) .
وقال السدي: دموعهم التي تسيل من أعينهم (5) .
وقال كعب الأحبار: عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذي حمة (6) .
وأخبرنا أبو المجد القزويني قال: أخبرنا أبو منصور الطوسي قال: سمعت الحسين بن مسعود البغوي يقول: الغَسَّاق: ما يسيل من أعينهم من
__________
(1) ... زيادة من الحجة (3/331).
(2) ... أخرجه الطبري (30/14)، وابن أبي حاتم (10/3395). وذكره السيوطي في الدر (7/199) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الترمذي (4/706 ح2584)، والحاكم (4/644 ح8779)، وأحمد (3/28 ح11247) كلهم رفعه. وذكره السيوطي في الدر (7/199-200) وعزاه لأحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور.
(4) ... أخرجه الطبري (30/13)، وهناد في الزهد (1/186). وذكره الماوردي (5/106)، والسيوطي في الدر (7/199) وعزاه لهناد.
(5) ... أخرجه الطبري (23/177).
(6) ... أخرجه الطبري (23/177). وذكره السيوطي في الدر (7/200) وعزاه لابن جرير.(1/576)
دموعهم يسقونه مع الحميم (1) .
قوله تعالى: { وآخر من شكله } أي: من شكل هذا المذوق في الفظاعة والكراهة { أزواج } أجناس وأصناف.
وقرئ: "مِنْ شِكْلِهِ" بكسر الشين (2) ، وهي لغة في معنى المثل، وأما
الغَنِج (3) فبالكسر لا غير.
قرأ أبو عمرو: "وأُخَرُ" بضم الهمزة من غير مد، وقرأ الباقون بفتح الهمزة ومَدِّها (4) ، على معنى: وعذاب آخر. وقوله تعالى: { مِنْ شَكْلِه } يؤيد هذه القراءة.
ويجوز أن يجمع الخبر الذي هو "أزواج" وإن كان المبتدأ واحداً؛ لأن "آخر" يراد به العذاب، والعذاب يشتمل على ضروب، كما تقول: عذاب فلان ضُروب شتى.
ومن قرأ "وأُخَر" على الجمع فمعناه: وضُروب أُخَر وأنواع أُخَر؛ لأن العذاب ذو ضروب وأنواع، "وأُخَر" أيضاً مرفوع بالابتداء، و"أزواج" الخبر. هذا كلام أبي علي الفارسي (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/177) عن السدي.
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/388)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/541).
(3) ... الغَنج: الدَّلّ، من التدلل (انظر: اللسان، مادة: غنج).
(4) ... الحجة للفارسي (3/331)، والحجة لابن زنجلة (ص:615)، والكشف (2/233)، والنشر (2/361)، والإتحاف (ص:373)، والسبعة (ص:555).
(5) ... الحجة (3/332).(1/577)
قوله تعالى: { هذا فوج } أي: جمع كثيف، { مقتحم معكم } النار، أي: داخلها بشدة.
قال ابن السائب: يضربون بالمقَامِع (1) فيلقون أنفسهم في النار (2) .
وهو حكاية قول الزبانية، أو كلام بعضهم لبعض.
قال ابن عباس: إذا دخل القادة النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قال الخَزَنة للقادة: هذا فوج مقتحم معكم، فيقول القادة: { لا مرحباً بهم } ، أي: لا صادفوا مرحباً (3) .
والمَرْحَب والرَّحْب: السَّعَة (4) ، أي: لا اتسعت بهم مساكنهم. وهذا إخبار أن مودتهم انقطعت وصارت عداوة.
{ إنهم صالوا النار } كما صليناها.
{ قالوا } يعني: الأتباع للقادة { بل أنتم لا مرحباً بكم } يشيرون إلى أن قادتهم أولى بالدعاء عليهم وبما قالوه لهم، وعللوا ذلك بقولهم: { أنتم قدمتموه لنا } أي: قدمتموا العذاب لنا، [يريدون] (5) : سببه، وهو الكفر، يريدون: أنتم ابتدأتم وشرعتم الكفر الذي هو سبب عذابنا.
ثم قالت الأتباع: { ربنا من قدّم لنا هذا ... الآية } وقد سبق الكلام على
__________
(1) ... المقامع: جمع مِقْمَعَة، وهي سياط تعمل من حديد رؤوسها مُعْوَجَّة (اللسان، مادة: قمع).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/564)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/151).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/223).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: رحب).
(5) ... في الأصل: يريدن.(1/578)
تفسيرها في سورة الأعراف (1) .
قوله تعالى: { وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار } قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار: أين صهيب؟ أين عمّار؟ أين بلال؟ (2) .
وقال الكلبي: ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم معهم، وهم المؤمنون، فعند ذلك يقولون: { ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار } في الدنيا (3) .
{ أتخذناهم سخرياً } إخباراً عن أنفسهم أنهم صنعوا ذلك، على معنى: أنا اتخذناهم سخرياً، والجملة المعادلة لقوله: { أم زاغت } محذوفة، المعنى: [أمفقودون] (4) هم أم زاغت عنهم الأبصار. وهذه قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون: "منَ الأشْرار اتَّخَذْنَاهم" بقطع الهمزة وفتحها على الاستفهام (5) ، ولذلك عودل بـ"أم"، واستبعد البصراء بالعربية هذه القراءة؛ لأن استفهامهم مع علمهم أنهم فعلوا بهم ذلك لا معنى له.
وقال الفراء (6) : الاستفهام بمعنى التعجب والتوبيخ.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 38.
(2) ... أخرجه الطبري (23/181). وذكره السيوطي في الدر (7/201) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/565).
(4) ... في الأصل: أمفقودن.
(5) ... الحجة للفارسي (3/333-334)، والحجة لابن زنجلة (ص:616-617)، والكشف (2/233)، والنشر (2/361-362)، والإتحاف (ص:373)، والسبعة (ص:556).
(6) ... معاني الفراء (2/411).(1/579)
والمعنى: أنهم يوبخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين.
و"سخرياً" بضم السين وكسرها، مذكور في { قد أفلح المؤمنون } (1) .
قال قتادة ومقاتل (2) : أم زاغت أبصارنا عنهم فهم معنا في النار ولا نراهم (3) .
قوله تعالى: { إن ذلك لحق } قال الزجاج (4) : أي إن الذي وصفناه عنهم لحق، ثم بين ما هو فقال تعالى: { تخاصم أهل النار } .
قال المفسرون: يعني: تخاصم القادة والأتباع (5) .
ِ@è% إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 110.
(2) ... تفسير مقاتل (3/123).
(3) ... أخرجه الطبري (23/182). وذكره السيوطي في الدر (7/201) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... معاني الزجاج (4/340).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/565).(1/580)
الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ اذةب
{ قل } يا محمد لأهل مكة: { إنما أنا منذر } أُخَوِّفكم عقوبة الله.
{ قل هو } يعني: القرآن، في قول مجاهد والضحاك وعامة المفسرين (1) .
وقيل: المعنى: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً، وأن الله واحد قهار { نبأ عظيم } لا يعرض عنه إلا غافل شديد الغفلة.
{ أنتم عنه معرضون } لا تتفكرون فيه.
والمقصود من ذلك: تنبههم على التفكر في القرآن ليستدلوا به على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، ألا تراه يقول: { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } يعني: الملائكة { إذ يختصمون } في آدم حين قال الله تعالى: { إني
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/183). وذكره السيوطي في الدر (7/201-202) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي نصر السجزي في الإبانة عن مجاهد.(1/581)
جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها... } [البقرة:30] إلى آخر القصة. قاله ابن عباس وأكثر المفسرين (1) .
وقيل: اختصامهم ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رأيت ربي عز وجل فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: أنت أعلم يا رب، قال: في الكفارات والدرجات. فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" (2) .
قوله تعالى: { إن يوحى إليّ } أي: ما يوحى إلي { إلا أنما أنا نذير مبين } .
قال الفراء (3) : المعنى: ما يوحى إليّ إلا أني نبي ونذير مبين أُبَيِّنُ لكم ما تأتون من الفرائض والسنن، وما تدعون من الحرام والمعصية.
وقرأتُ لأبي جعفر: "إلاَّ إنَّما" بكسر الهمزة على الحكاية (4) ، على معنى: إن يوحى إليّ إلا هذا القول وهو إذ أقول لكم إنما أنا نذير مبين.
ّŒخ) قَالَ رَبُّكَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/183-184)، وابن أبي حاتم (10/3247). وذكره السيوطي في الدر (7/202) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (5/342 ح5496).
(3) ... معاني الفراء (2/412).
(4) ... النشر (2/362)، والإتحاف (ص:374).(1/582)
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)(1/583)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ(1/584)
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ اررب
{ إذ قال ربك للملائكة } متصل بقوله: "يختصمون"، وما بينهما اعتراض.
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } أي: لما توليت خلقه بنفسي { أستكبرت } عن طاعتي والسجود لآدم { أم كنت من العالين } ممن علا واستكبر وارتفع عن السجود له.
والاستفهام بمعنى التوبيخ، فأخبره أن امتناعه من السجود لآدم علوّه عليه فقال: { أنا خير منه } .
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { قال فالحق والحق أقول } اتفق القرّاء على نصب "الحقَّ" الثاني، واختلفوا في الأول، فقرأ عاصم وحمزة: "قال فالحقُّ" بالرفع، ونصبه الباقون (1) . فمن رفع جعله خبر مبتدأ محذوف،
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/336)، والحجة لابن زنجلة (ص:618)، والكشف (2/234)، والنشر (2/362)، والإتحاف (ص:374)، والسبعة (ص:557).(1/585)
تقديره: أنا الحقُّ أو قولي، أو هو مبتدأ، خبره محذوف، على معنى: قال فالحق مني، كما قال تعالى: { الحق من ربك } [البقرة:147].
ومن نصب فعلى معنى: الزموا الحق، أو على معنى: أحق الحق، كقوله تعالى: { ويحق الله الحق } [يونس:82].
وقيل: هو قسم، فلما حذفت الباء انتصب، كما تقول: الله لأفعلنّ، أي: قال فبالحق لأملأن جهنم، وما بينهما اعتراض.
والحق الثاني منصوب بـ"أقول".
ويروى عن أبي عمرو من غير طرقه المشهورة: "والحقُّ أقولُ" بالرفع (1) .
ووجهه ظاهر.
{ لأملأن جهنم منك } أي: من جنسك، { وممن تبعك منهم } من ذرية آدم { أجمعين } .
{ قل ما أسألكم عليه } أي: على القرآن { من أجر } أو الوحي، أي: على تبليغه من أجر (2) فتتهموني.
{ وما أنا من المتكلفين } الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وقد عرفتموني بالبراءة من ذلك، فكيف أنتحل النبوة وأتكلف ما لم أؤمر به وأتقوَّل القرآن.
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة البناء في: الإتحاف (ص:374)، وابن الجوزي في: زاد المسير (7/158).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: المعنى.(1/586)
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان، قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: "دخلنا على عبدالله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } " (1) . هذا حديث صحيح.
{ إن هو } يعني: القرآن { إلا ذكر للعالمين } موعظة للجن والإنس.
{ ولتعلمن } يا كفار مكة { نبأه } خبر صدقه { بعد حين } .
قال ابن عباس وقتادة: بعد الموت (2) .
قال الحسن: يا ابن آدم! عند الموت يأتيك الحق (3) اليقين (4) .
وقال عكرمة: يوم القيامة (5) .
وقال السدي: يوم بدر (6) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1809 ح4531).
(2) ... أخرجه الطبري (23/189) عن قتادة.
(3) ... في جميع مصادر التخريج: الخبر.
(4) ... ذكره الطبري (23/189) في تفسيره، والماوردي (5/112)، والواحدي في الوسيط (3/568)، والسيوطي في الدر المنثور (7/209).
(5) ... ذكره الماوردي (5/112)، والواحدي في الوسيط (3/568).
(6) ... أخرجه الطبري (23/189). وذكره الماوردي (5/112).(1/587)
وقال ابن السائب: من بقي عَلِمَ ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات [علمه] (1) بعد الموت (2) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... زيادة من الوسيط (3/568).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/568).(1/588)
سورة الزمر
ijk
وهي اثنتان وسبعون آية في المدني، وخمس في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول ابن عباس وعليه المفسرين (2) ، إلا آيتين نزلتا بالمدينة: { الله نزل أحسن الحديث } و { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } (3) .
وقيل: إلا سبع آيات من قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا } إلى آخر السبع. واستثني أيضاً: { يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } .
م@ƒح"\s? الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:216).
(2) ... ذكره السيوطي في الدر (7/210) وعزاه لابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.
(3) ... انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/52)، والماوردي (5/113)، وزاد المسير (7/160)، والبيان (ص:216)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:643).(1/589)
الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ احب
قال الله تعالى: { تنزيل الكتاب } : مبتدأ، خبره: { من الله } .
وقيل: "تنزيل": خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، والجار(1/590)
والمجرور صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله. أو غير صلة، فيكون الجار والمجرور خبراً بعد خبر. أو يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا من الله (1) .
والمراد بالكتاب: القرآن.
قوله تعالى: { مخلصاً } نصب على الحال، { الدين } نصب بوقوع الفعل عليه (2) . والمعنى: فاعبد الله ممحضاً له الدين من الشرك والرياء.
{ ألا لله الدين الخالص } قال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله (3) .
وقال الحسن: الإسلام (4) .
وقيل: المعنى: هو الذي وجب اختصاصه بأن تُخلص له الطاعة من كل شائبة كدر.
قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء } قال صاحب الكشاف (5) : يحتمل المتَّخذين وهم الكفرة، والمتخذين وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى؛ عن ابن عباس. والضمير في "اتخذوا" على الأول راجع إلى "الذين"، وعلى الثاني إلى "المشركين"، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوماً،
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/214)، والدر المصون (6/3-4).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (23/191). وذكره السيوطي في الدر (7/210) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... ذكره الماوردي (5/114).
(5) ... الكشاف (4/113).(1/591)
والراجع إلى "الذين" محذوف. والمعنى: والذين [اتخذهم] (1) المشركون أولياء.
"والذين اتخذوا" في موضع رفع على الابتداء.
فإن قلت: فالخبر ما هو؟
قلتُ: هو على الأول، إما { إن الله يحكم بينهم } أو ما أضمر من القول قبل قوله: { ما نعبدهم } . وعلى الثاني: { إن الله يحكم بينهم } .
فإن قلت: فإذا كان "[إن الله] (2) يحكم بينهم" الخبر، فما موضع القول المضمر؟
قلتُ: يجوز أن يكون في موضع الحال، أي: قائلين ذلك. [ويجوز أن يكون بدلاً من الصلة فلا يكون له محل، كما أن المُبْدل منه كذلك] (3) .
وقرأ ابن مسعود بإظهار القول: "قالوا ما نعبدهم" (4) . وفي قراءة أُبَيّ: "ما نعبدكم إلا لتقربونا" على الخطاب (5) ، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم.
وقال الزجاج (6) : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى } أي: قُربى.
والضمير في "بينهم" لهم ولأوليائهم.
والمعنى: إن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى عليهم السلام
__________
(1) ... في الأصل: اتخذوهم. والمثبت من الكشاف (4/113).
(2) ... في الأصل: الله تعالى. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... ذكر هذه القراءة الطبري (23/191)، والقرطبي (15/233).
(5) ... ذكر هذه القراءة الطبري، الموضع السابق، والقرطبي (15/234).
(6) ... معاني الزجاج (4/344).(1/592)
الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله تعالى.
وقيل: يحكم بين المسلمين والمشركين، فإن المسلمين كانوا يقولون لهم: مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.
{ إن الله لا يهدي } أي: لا يُرشد { من هو كاذب كفار } في قوله أن الآلهة تشفع لهم وتقربهم إلى الله.
وقيل: من هو كاذب في قولهم في بعض من اتخذوه من دون الله أولياء: بنات الله، ولذلك عقبه محتجاً عليهم بقوله تعالى: { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء } .
قال الزمخشري (1) : كأنه قال: لو أراد الله تعالى اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما [يشاء] (2) من خلقه وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم [اتخاذهم] (3) أولاداً، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات.
ثم نزّه نفسه فقال: { سبحانه هو الله الواحد القهار } .
t,n=y{ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
__________
(1) ... الكشاف (4/114).
(2) ... في الأصل: شاء. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: اتخاهم. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/593)
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا(1/594)
هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ادب
قوله تعالى: { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } قال أبو عبيدة (1) : يُدْخِلُ هذا على هذا، وهذا على هذا.
قال ابن قتيبة (2) : أصل [التكوير] (3) : اللَّفُّ، ومنه كَوْرُ العمامة.
وقال غيره: أصل التَّكوير: طرح الشيء بعضه على بعض (4) .
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { ثم جعل منها زوجها } يعني: حوّاء من آدم عليهما السلام.
وقد أشرنا إلى دفع الإشكال في الترتيب بحرف "ثم" مع تقدم خلق حواء على خلق المخاطبين في سورة النساء عند قوله تعالى في أواخرها: { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } بعد قوله تعالى: { فأخذتهم الصاعقة } [النساء:153].
وقيل: أخرج الله تعالى ذرية آدم عليه السلام من ظهره [كالذَّرِّ] (5) ، ثم خلق بعد ذلك حوّاء.
قوله تعالى: { وأنزل لكم من الأنعام } أي: قضى لكم وقَسَم، والقضاء
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/188).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:382).
(3) ... في الأصل: التكور. والتصويب من غريب القرآن، الموضع السابق.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: كور).
(5) ... في الأصل: كاذر. والتصويب من الكشاف (4/116).(1/595)
والقَسَم موصوف بالنزول من السماء.
وقيل: لما كانت لا تعيش إلا بالماء والنبات النامي من الماء، والماء من السماء، فكأنه أنزلها من السماء. وقد أشرنا إلى تفسير ذلك في الأنعام (1) .
{ خَلْقاً من بعد خلق } يريد: نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم عظاماً، ثم لحماً، إلى غير ذلك من تقلبات أحوال الإنسان إلى أن يظهر إلى الوجود.
وقيل: خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلق في ظهر آدم.
{ في ظلمات ثلاث } قال ابن عباس وقتادة وعامة المفسرين: هي ظلمة البطن، والرَّحم، والمشيمة (2) .
وقيل: ظلمة البطن، والرّحم، والصلب.
bخ) تَكْفُرُوا فَإِن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 143.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:556)، والطبري (23/196)، وابن أبي حاتم (10/3248). وذكره السيوطي في الدر (7/212) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن أبي مالك، وعزاه لعبد بن حميد.(1/596)
وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) * وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ارب
قوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } قال ابن عباس: لا يرضاه لعباده(1/597)
المؤمنين (1) ، فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى؛ كقوله تعالى: { عيناً يشرب بها عباد الله } [الإنسان:6].
وقيل: لا يرضاه لأحد ما وإن وقع بإرادته. وبين [الإرادة] (2) والرضى فرق ليس هذا موضع ذكره.
{ وإن تشكروا يرضه لكم } اختلف القراء السبعة، فمنهم من ضَمَّ الهاء ووصلها بواو؛ لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة: ضَرَبَه. ومنهم من اختلس الحركة؛ لأن أصل الكلمة: ترضاه، فصار بمنزلة: عَصَاه، والحذف ليس بلازم. ومنهم من أسكن الهاء وقال: هي لغة (3) .
قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } أي: راجعاً إليه ومقبلاً عليه.
{ ثم إذا خوّله } ملَّكه وأعطاه، واشتقاقه من قولهم: هو خائل مالٍ؛ إذا كان متعهداً له حَسَنُ القيام عليه (4) ، ومنه الحديث: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بالموعظة" (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/197)، وابن أبي حاتم (10/3248). وذكره السيوطي في الدر (7/213) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) ... في الأصل: إرادة.
(3) ... الحجة للفارسي (3/338)، والحجة لابن زنجلة (ص:619)، والكشف (2/236)، والنشر (1/307-309)، والإتحاف (ص:375)، والسبعة (ص:560-561).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: خول).
(5) ... أخرجه البخاري (1/38 ح68)، ومسلم (4/2172 ح2821).(1/598)
وقيل: هو من خَالَ يَخُولُ؛ إذا اختال وماس (1) .
وفي معناه قول العرب: إن [الغنيَّ] (2) طويلُ الذَّيل ميّاس (3) .
{ نعمة منه } أزال عنه الضُّرَّ وأسبغ عليه نعمة من نعمه، { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } أي: نَسِيَ الضر الذي كان يَتضرَّعُ الله تعالى بسببه، ويدعوه إلى كشفه.
وقيل: نسي ربه الذي [كان] (4) يبتهل إليه (5) .
و"ما" بمعنى "من"؛ كقوله تعالى: { وما خلق الذكر والأنثى } [الليل:3]، ومثله قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } [الكافرون:3].
والمراد بالإنسان في هذه الآية: الكافر.
قال عطاء: نزلت في عتبة بن ربيعة (6) .
وقال مقاتل (7) : في أبي حذيفة بن المغيرة.
ô`¨Br& هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: خول).
(2) ... في الأصل: الفتى. والتصويب من المصادر التالية.
(3) ... هذا مثلٌ يراد به: أن المال يظهر ولا يخفى، وكذلك الفقر لا يكاد المرء يخفيه (انظر: المستقصى في أمثال العرب 1/409، وجمهرة الأمثال 1/198، ومجمع الأمثال 1/34).
(4) ... زيادة من الكشاف (4/118).
(5) ... هذا من كلام الزمخشري في الكشاف (4/117-118).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/572)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/165).
(7) ... تفسير مقاتل (3/128).(1/599)
اللَّيْلِ سَاجِدًا $VJح !$s%ur يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ازب
قوله تعالى: { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } اختلفوا فيمن نزلت على أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. قاله ابن عباس (1) .
والثاني: في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قاله ابن عمر (2) .
والثالث: في عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيب وأبي ذر. قاله
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/117)، والواحدي في أسباب النزول (ص:382).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3248)، وأبو نعيم في الحلية (1/56). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:382)، والسيوطي في الدر (7/213-214) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر.(1/600)
ابن السائب (1) .
وحكى يحيى بن سلام: أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقيل: بعمومها فيمن كان بهذه الصفة.
واختلف القراء في قوله تعالى: { أمَّنْ } فقرأ ابن كثير ونافع وحمزة: "أَمَنْ" بتخفيف الميم، وشدّدها الباقون.
قال أبو علي (3) : من شدَّد فإنها "أَمْ" دخلت على ["مَنْ"] (4) فأدغمت الميم في الميم، وتكون الجملة التي عادلت أمْ قد حذفت، المعنى: الجاحد الكافر بربه خير أمَّن هو قانت، و"مَنْ" موصولة بمعنى الذي، وليست باستفهام، ودل على الجملة المحذوفة المعادلة لأَمْ ما جاء بعد من قوله تعالى: { قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون } ، ودلّ عليها أيضاً ما قبلُ من قوله تعالى: { قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار } . فأما من خفَّفَ الميم فقال: { أمَنْ هو قانت } ، فالمعنى: أمَنْ هو قانت كَمَنْ هو بخلاف هذا الوصف؟ ولا وجه للنداء هاهنا؛ لأن هذا موضع معادلة، ويدل على المحذوف هاهنا: { قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون } ؛ لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين.
ِ@è% يَا عِبَادِ الَّذِينَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/117).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/339-340).
(4) ... زيادة على الأصل.(1/601)
آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ اتثب
قوله تعالى: { للذين أحسنوا } مفسر في النحل (1) .
{ وأرض الله واسعة } يريد: الجنة.
وقيل: الأرض المعهودة.
فإن أريد الأول كان ترغيباً لهم في العمل المفضي بهم إليها. وإن أريد
__________
(1) ... عند الآية رقم: 30.(1/602)
الثاني كان حَضّاً لهم على الهجرة.
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم } على طاعة الله وعن معصيته، وعلى تجرّع الغُصَص واحتمال البلاء أجرهم الذي جعله الله تعالى جزاء لهم على صبرهم { بغير حساب } أي: لا يحاسبون عليه.
وقيل: بغير مكيال وغير ميزان، وهو تمثيل للتكثير.
قال ابن عباس: لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف (1) .
أخبرنا الشيخ عبدالعزيز بن معالي بن غنيمة بن منينا قراءة عليه وأنا أسمع بمنزله بباب البصرة، أخبركم أبو بكر محمد بن عبدالباقي الأنصاري فأقرّ به، قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر القاضي، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا علي بن قمر العجلي، حدثنا جعفر بن سليمان، عن [سعد] (2) بن طريف (3) ، عن الأصبغ بن نباتة (4) قال: "دخلنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الحسن بن علي نعوده، فقال له علي: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ فقال: أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال: كذا أنت إن شاء الله. ثم قال الحسن: أسندوني أسندوني، فأسنده عليّ إلى
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (4/50).
(2) ... في الأصل: سعيد. وانظر ترجمته في التعليق التالي.
(3) ... سعد بن طريف الإسكاف الحذّاء الحنظلي الكوفي، متروك، ورماه ابن حبان بالوضع (تهذيب التهذيب 3/410، والتقريب ص:231).
(4) ... الأصبغ بن نباتة التميمي الحنظلي، أبو القاسم الكوفي، متروك رمي بالرفض (تهذيب التهذيب 1/316، والتقريب ص:113).(1/603)
صدره، فقال الحسن: سمعت جدي - صلى الله عليه وسلم - وقال لي يوماً: بُنَيّ! عليك بالقناعة تكن من أغنى الناس، وأدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، يا بني! إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يُؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا يُنصب لهم ميزان، ولا يُنشر لهم ديوان، يُصَبُّ عليهم الأجر صَبّاً، وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } " (1) .
قوله تعالى: { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } قال الزمخشري (2) : المعنى: وأمرتُ بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين، أي: مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. ولك أن تجعل اللام مزيدة، مثلها في: أردت لأن أفْعَل. ولا تزاد إلا مع "أنْ" خاصة دون الاسم الصريح، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: { وأمرت أن أكون من المسلمين } [يونس:72]، { وأمرت أن أكون من المؤمنين } [يونس:104]، و { أمرت أن أكون أول من أسلم } [الأنعام:14].
وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعاً.
ِ@è% إِنِّي أَخَافُ إِنْ
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (3/92 ح2760). وذكره السيوطي في الدر (7/215) وعزاه للطبراني وابن عساكر وابن مردويه.
(2) ... الكشاف (4/120-121).(1/604)
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ اتدب
قوله تعالى: { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم(1/605)
القيامة } معناه: أن الكاملين في الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالمصير إلى النار وخسروا أهليهم؛ لأنهم إن كانوا كفاراً فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا مؤمنين فقد خسروهم؛ لأنهم لم يدخلوا معهم الجنة.
وقال الحسن وقتادة: خسروا الحور العين الذين كانوا أهليهم لو أدخلوا الجنة (1) .
قال الزمخشري (2) : وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله تعالى: { ألا ذلك هو الخسران المبين } حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرّف الخسران ونعته بالمبين.
قوله تعالى: { لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار } (3) أي: أطباق وسرادقات من النار ودخانها، { ومن تحتهم ظلل } أطباق وسرادقات هي مهاد لقوم وظُلَلٌ لآخرين.
{ ذلك } إشارة إلى العذاب المذكور { يخوّف الله به عباده } ليجتنبوا ما يوقعهم فيه، { يا عباد فاتقون } ولا تعرضوا [لعذابي] (4) .
tûïد%©!$#ur اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/119)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/169).
(2) ... الكشاف (4/121).
(3) ... في الأصل زيادة قوله تعالى: { ومن تحتهم } . وستأتي بعد.
(4) ... في الأصل: لعاذابي.(1/606)
يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا(1/607)
الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ اثةب
قوله تعالى: { والذين اجتنبوا الطاغوت } قال ابن زيد: حدثني أبي أن هاتين الآيتين نزلتا في نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله؛ زيد بن [عمرو] (1) ، وأبو ذر، وسلمان الفارسي (2) .
والمعنى: والذين اجتنبوا عبادة ما دون الله من شيطان وكاهن وصنم.
قال الأخفش (3) : إنما قال: { أن يعبدوها } ؛ لأن [الطاغوت] (4) في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحداً مؤنثاً.
وقال غيره: "أنْ" مع الفعل في موضع النصب بتأويل المصدر بدل من مفعول "اجتنبوا"، تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت.
{ لهم البشرى } خبر المبتدأ الذي هو "والذين اجتنبوا" (5) . والمعنى: لهم البشرى على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين في الدنيا، وعلى ألسنة الملائكة حين الموت وحين يحشرون.
__________
(1) ... في الأصل: عمر. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... أخرجه الطبري (23/207)، وابن أبي حاتم (10/3249). وذكره السيوطي في الدر (7/217) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:382).
(3) ... معاني الأخفش (ص:274).
(4) ... في الأصل: العابدون. والمثبت من معاني الأخفش، الموضع السابق.
(5) ... انظر: الدر المصون (6/11).(1/608)
{ فبشر عبادي } فوصفهم فقال: { الذين يستمعون القول } وهو القرآن في قول عامة المفسرين.
{ فيتّبعون أحسنه } مفسّر في الأعراف عند قوله تعالى: { يأخذوا بأحسنها } [الأعراف:145].
وقيل: بعمومه في الكلام كله.
قال ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ فيحدث بأحسن ما سمع، ويكفّ عما سواه (1) .
وقد ذهب بعض القراء إلى أن الوقف على قوله: { فبشر عبادي } ويبتدئ: { الذين يستمعون القول } ، فيكون مرفوعاً بالابتداء، والخبر { أولئك } (2) .
قوله تعالى: { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار } . ذكر الزجاج والزمخشري (3) -دخل كلام أحدهما في الآخر-: أنها جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار، والهمزة الثانية هي الأولى، كُررت لتوكيد الكلام وطوله؛ لأنه لا يصلح في العربية أن تأتي بألف الاستفهام في الاسم والخبر.
وأصل الكلام: أمَّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والفاء الثانية فاء الجزاء، والفاء الأولى عطف على محذوف يدلّ الخطاب عليه، تقديره: أأنت مالُكُ أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/121).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/11).
(3) ... معاني الزجاج (4/349-350)، والكشاف (4/123).(1/609)
ويجوز أن تكون الآية جملتين، على معنى: أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه (1) ؟ أفأنت تنقذه؟ وإنما جاز حذف "فأنت تخلصه"؛ لدلالة "أفأنت تُنقذُ" عليه.
قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده، ومن تخلّف من عشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان (2) .
قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية } أي: علالي بعضها فوق بعض قد بُنيت العلالي وأحكمت إحكام المساكن التي على الأرض.
{ تجري من تحتها الأنهار } كما تجري من تحت المنازل من غير تفاوت بين العلو والسفل.
{ وعد الله } : مصدر (3) .
ِNs9r& تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: أفأنت تخلصه. وانظر النص في: الكشاف (4/123).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/576)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/172).
(3) ... انظر: التبيان (2/214)، والدر المصون (6/12).(1/610)
أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اثثب
قوله تعالى: { فسلكه ينابيع في الأرض } قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل (1) .
والمعنى: فأدخله ونظمه عيوناً في الأرض يسلك في مجاريه كالعروق
__________
(1) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (4/1257 ح7347)، والطبري (23/208). وذكره السيوطي في الدر (7/219) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ في العظمة والخرائطي في مكارم الأخلاق.(1/611)
في الأجساد.
{ ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه } ما بين أخضر وأحمر وأصفر وأبيض وغير ذلك.
وقيل: المراد بألوانه: أصنافه من بُرّ وشعير وأرز وسمسم وغيرها.
{ ثم يهيج } يتناهى جفافه.
قال الأصمعي: يقال للنبت إذا تَمَّ جفافه: قد هَاجَ يَهيجُ هَيْجاً (1) .
قال بعضهم: سُمي بذلك؛ لأنه إذا تَمَّ جفافه حان له أن يثور عن منابته.
{ فتراه } بعد نضارته وخضرته { مصفرّاً ثم يجعله حطاماً } فتاتاً متكسراً.
{ إن في ذلك لذكرى } لتذكيراً { لأولي الألباب } على أنه لا بد من صانع حكيم قادر عليم.
وقال مقاتل (2) : هذا مثلٌ ضُرب للدنيا.
قوله تعالى: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } قال الزجاج (3) : جوابه متروك؛ لأن الكلام دالٌّ عليه، تقديره: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع الله تعالى على قلبه. ويدلّ عليه قوله تعالى: { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: هيج).
(2) ... تفسير مقاتل (3/131).
(3) ... معاني الزجاج (4/351).(1/612)
وقد فسرنا معنى الشرح في سورة الأنعام (1) وذكرنا فيه حديثاً له اختصاص بهذه الآية ومدخل في تأويلها.
قال قتادة: "فهو على نور من ربه": هو كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه (2) .
قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وأبيّ بن خلف (3) .
وقال عطاء: نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وولده (4) .
وقال مقاتل (5) : نزلت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل.
وقد ذكرنا معنى القسوة في سورة البقرة (6) .
ومقاتل يقول (7) : "مِنْ ذكر الله" بمعنى: عَنْ ذكر الله (8) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 125.
(2) ... أخرجه الطبري (23/209). وذكره الماوردي (5/121)، والواحدي في الوسيط (3/577).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/174).
(4) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:383)، والوسيط (3/577)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/174).
(5) ... تفسير مقاتل (3/131).
(6) ... عند الآية رقم: 74.
(7) ... تفسير مقاتل (3/131).
(8) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (7/174): فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذكر الله عز وجل؟
... فالجواب: أنه كلما تلي عليهم ذكر الله الذي يكذبون به قَسَتْ قلوبهم عن الإيمان.(1/613)
قال الفراء (1) : كما تقول: اتّخمت من طعامٍ أكلته وعن طعام أكلته.
قلتُ: [ويؤيد] (2) هذا قراءة أُبيّ بن كعب وابن أبي عبلة وأبي عمران: "عن ذكر الله" (3) .
وقال الزمخشري (4) : إن قلت: ما الفرق بين "من" و"عن" في هذا؟
قلتُ: إذا قلتَ: قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى ما ذكرت، من [أن] (5) القسوة من أجل الذِّكْر وسببه، وإذا قلتَ: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذِّكْر وجفا عنه. ونظيره: [سقاه] (6) من العَيْمَة (7) ، أي: من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة؛ إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.
وقال غيره: هو على حذف المضاف، تقديره: فويل للقاسية قلوبهم من ترك ذكر الله.
ھ!$# نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
__________
(1) ... معاني الفراء (2/418).
(2) ... في الأصل: ويد.
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/174).
(4) ... الكشاف (4/125).
(5) زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: سقا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(7) ... العَيْمَة: شدة العطش (اللسان، مادة: عيم).(1/614)
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ اثجب
قوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث } قال ابن مسعود وابن عباس: قالت الصحابة: يا رسول الله لو حدَّثتنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1) .
{ كتاباً } بدل من "أحسن الحديث"، أو حالاً منه (2) ، { متشابهاً } يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف.
وقال قتادة: تشبه الآية الآية، والكلمة الكلمة، والحرف الحرف (3) .
وقال الزجاج (4) : يشبه بعضه بعضاً في الفضل والحكمة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/211) عن ابن عباس. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:383). وذكره السيوطي في الدر (7/221) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(2) ... انظر: التبيان (2/215)، والدر المصون (6/13).
(3) ... أخرجه الطبري (23/210). وذكره الماوردي (5/122).
(4) ... معاني الزجاج (4/351).(1/615)
وقال الزمخشري (1) : متشابهاً في الصحة والإحكام والصدق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخيّر والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز. ويجوز أن يكون { مثاني } بياناً لكونه متشابهاً؛ لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة.
والمثاني: جمع مثنى، بمعنى: مردّد ومكرّر، لما ثني من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه.
وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد.
ويجوز أن يكون جمع مثنى: مَفْعَل، من التثنية، بمعنى: التكرير والإعادة.
فإن قيل: ما فائدة التثنية والتكرير؟
قلتُ: عنه جوابان:
أحدهما: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتعلم كل واحد منهم ما يتيسر له، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث السور المختلفة إلى القبائل المتفرقة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة نوح مثلاً إلى قوم، وقصة موسى إلى قوم، فأراد الله سبحانه وتعالى الحكيم إظهار القصص وتشعبها في القبائل والبقاع؛ موعظة لخلقه، ومعجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: أن النفوس شديدة النفرة عن المواعظ والنصائح، فأراد الله عز
__________
(1) ... الكشاف (4/125).(1/616)
وجل تكرير قصص الأنبياء مع أممهم وأمثال ذلك ليترسخ فيها بسبب التكرار والترداد.
قوله تعالى: { تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم } أي: يأخذهم عند تلاوته وتدبر مواعظه قُشعريرة.
روى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اقشعرَّ جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما تتحاتّ عن الشجرة اليابسة أوراقها" (1) .
وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تعالى حرَّمه الله على النار" (2) .
{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } عَدَّى "تلين" بإلى؛ لتضمنها معنى [تَطْمَئن] (3) وتَسْكُن.
قال السدي: تقشعر من وعيده وتلين عند وعده (4) .
قال قتادة: هذا نعت أولياء الله تعالى تقشعر جلودهم وتلين قلوبهم، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع وهذا من
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعبه (1/491 ح803). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/310) وعزاه للبزار وقال: وفيه أم كلثوم بنت العباس ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. وذكره السيوطي في الدر (7/222) وعزاه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/77).
(3) ... في الأصل: تضمين. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه.
(4) ... ذكره الماوردي (5/123)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/176).(1/617)
الشيطان (1) .
قال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدّتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله سبحانه وتعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قال: فقلت لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن يخرّ أحدهم مغشياً عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2) .
ومرَّ ابن عمر رضي الله عنهما برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط، فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله ولا نسقط، ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هكذا يصنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وذُكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق (4) .
قوله تعالى: { ذلك هدى الله } إشارة إلى الكتاب.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/578-579)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/176)، والسيوطي في الدر (7/221) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... أخرجه البيهقي في الشعب (2/365 ح2062)، وسعيد بن منصور في السنن (2/330-331)، وابن أبي حاتم (10/3249). وذكره السيوطي في الدر (7/222) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر.
(3) ... ذكره البغوي (4/77)، والقرطبي (15/249)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/176).
(4) ... ذكره البغوي (4/77)، والقرطبي (15/249).(1/618)
وقيل: إشارة إلى ما ينزل [بالخاشعين] (1) عند تلاوة الكتاب من اقشعرار الجلود عند الوعيد ولينها عند الوعد.
`yJsùr& يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اثدب
__________
(1) ... في الأصل: بالخاسيين.(1/619)
قوله تعالى: { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } جوابه محذوف، تقديره: كمن آمن العذاب، أو كمن يدخل الجنة.
ويروى: أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً فلا يتهيّأ له أن يتّق النار إلا بوجهه.
قال مجاهد: يخرُّ في النار على وجهه (1) .
ô‰s)s9ur ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:557) وفيه: "يُجر" بدل "يخر"، والطبري (23/211). وذكره السيوطي في الدر (7/223) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/620)
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ اجتب
قوله تعالى: { قرآناً عربياً غير ذي عوج } قال الزجاج (1) : "عربياً" نصب على الحال. المعنى: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عَرَبِيَّتِه وبيانه. وذكر "قرآناً" توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، وجاءني عمرو إنساناً عاقلاً، [فذكر] (2) رجلاً وإنساناً توكيداً.
وقال الزمخشري (3) : يجوز أن ينتصب على المدح. ومعنى "غير ذي عوج": مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف.
وقيل: المراد بالعِوَج: الشَّكُّ واللَّبْسُ. وأنشدوا:
وقدْ أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ ... من الإلهِ وقولٌ غيرُ مكذوب (4)
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/352).
(2) ... في الأصل: فتذكر.
(3) ... الكشاف (4/127-128).
(4) ... انظر البيت في: البحر (7/407)، والدر المصون (6/14)، والكشاف (4/128)، والقرطبي (15/252)، وروح المعاني (23/262).(1/621)
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى "غير ذي عِوَج": غير مخلوق.
أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي رحمه الله، أخبرنا أبو العلاء وجيه بن هبة الله بن المبارك بن السقطي، أخبرنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن العلاف المقرئ (1) ، حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ الحماميّ، حدثنا أبو عبدالله جعفر بن إدريس القزويني (2) ، حدثنا حموية بن يونس -إمام مسجد قزوين-، حدثنا جعفر بن محمد بن فضيل الرسعني -برأس عين- قال: حدثنا عبدالله بن صالح -كاتب الليث-.
قال الحماميّ: وحدثنا أبو بكر (3) أحمد بن جعفر الخُتلي، حدثنا عمر بن محمد الجوهري المعروف بالشذاني، حدثنا علي بن داود القنطري (4) ، حدثنا
__________
(1) ... علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن يعقوب البغدادي، أبو الحسن ابن العلاف الحاجب، من بيت الرواية والعلم ومن حجاب الخلافة. توفي سنة خمس وخمسمائة وقد استكمل تسعاً وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء 19/242-243).
(2) ... جعفر بن إدريس القزويني، أبو عبد الله. خرج إلى مكة وجاور بها، ويقال: إنه كان إمام الحرمين ثلاثين سنة، توفي سنة بضع عشر وثلاثمائة (التدوين في أخبار قزوين 2/376).
(3) ... في الأصل زيادة لفظة: "بن". وهو خطأ. انظر: الإكمال لابن ماكولا (3/221).
(4) ... علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري، أبو الحسن بن أبي سليمان البغدادي الأدمي، ثقة صدوق، توفي سنة اثنتين وستين ومائتين، وقيل: اثنتين وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 7/279، والتقريب ص:401).(1/622)
عبدالله بن صالح (1) ، حدثنا معاوية بن صالح (2) ، عن علي بن أبي
طلحة (3) ، عن ابن عباس في قول الله تعالى: { قرآناً عربياً غير ذي عوج } قال: غير مخلوق (4) .
قال حموية بن يونس: بلغ أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه هذا الحديث، فكتب إلى جعفر بن محمد بن فضيل يكتب إليه بإجازته، فكتب إليه بإجازته، فَسُرَّ أحمد بهذا الحديث وقال: كيف فاتني عن عبدالله بن صالح هذا الحديث.
وبهذا الإسناد قال أبو الحسن الحمامي: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن مخلد العطار، حدثنا أبو داود
__________
(1) ... عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني مولاهم، أبو صالح المصري، كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 5/225-228، والتقريب ص:308).
(2) ... معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد بن سعد بن فهر الحضرمي، أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الرحمن الحمصي، أحد الأعلام وقاضي الأندلس، كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة ثمان وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 10/189-190، والتقريب ص:538).
(3) ... علي بن أبي طلحة واسمه سالم بن المخارق الهاشمي، مولى بني العباس، أصله من الجزيرة، وانتقل إلى حمص، أرسل عن ابن عباس ولم يره، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 7/298، والتقريب ص:402).
(4) ... أخرجه الآجري في الشريعة (ص:84)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص:311). وذكره الواحدي في الوسيط (3/580)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/179)، والسيوطي في الدر المنثور (7/223) وعزاه للآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/623)
السجستاني، حدثنا حسين (1) بن الصباح، حدثنا [معبد أبو] (2) عبدالرحمن -ثقة-، عن معاوية [بن] (3) عمار قال: سألت جعفر بن محمد رضي الله عنهما عن القرآن، قال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله عز وجل (4) .
وبالإسناد قال الحمامي: حدثنا أبو بكر محمد بن هارون العسكري الفقيه، حدثنا محمد بن يوسف بن [الطباع] (5) قال: سمعت رجلاً سأل أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبدالله، أُصلِّي خلف من يشرب المُسْكِر؟ قال: لا. قال: وأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ قال: فقال: سبحان الله، أنهاك عن مسلم وتسألني عن كافر (6) .
وأخبرنا أبو بكر عبدالرزاق بن عبدالقادر الجيلي إذناً قال: حدثنا أحمد بن عبدالله بن مرزوق، أخبرنا جعفر بن أحمد بن عبدالواحد الثقفي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبدالرحيم، أخبرنا عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان، حدثنا عبدالله بن محمد بن زكريا، حدثنا موسى بن عبدالله
__________
(1) ... في الشريعة: الحسن.
(2) ... في الأصل: سعيد بن. وهو خطأ. وهو معبد بن راشد، أبو عبدالرحمن الكوفي، انظر ترجمته في: التهذيب (10/201)، والتقريب (ص:539).
(3) ... في الأصل: عن. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: لسان الميزان (7/392)، والتقريب (ص:538).
(4) ... أخرجه الآجري في الشريعة (ص:84)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (2/242 ح399)، والبيهقي في الاعتقاد (ص:107)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/151-152).
(5) ... في الأصل: الصباغ. والتصويب من مصادر التخريج.
(6) ... أخرجه الآجري في الشريعة (ص:84). وذكره ابن مفلح في: المقصد الأرشد (2/533).(1/624)
الطرسوسي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو [جهميّ] (1) ، ومن زعم أن هذه الآية مخلوقة: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } فقد كفر (2) ، والقرآن من علم الله، فمن زعم أن من علم الله شيئاً مخلوقاً فقد كفر (3) .
أخبرنا أبو علي الحسين بن الحسن بن علي الكوسج الأصبهاني إجازة، وأخبرني عنه سماعاً أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن [الأزهر] (4) الصريفيني قال: أخبرنا الحافظ أبو سعد محمد بن عبدالواحد بن عبدالوهاب الصائغ، حدثنا الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد الدقاق، أخبرني أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد المقرئ بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن موسى، حدثنا محمد ابن الحسن النقاش، حدثنا أبو صالح القاسم بن الليث الرسعني، حدثنا محمد بن بشار (5) بندار رحمه الله قال: كان لنا جارٌ، وكان يقرأ القرآن، وكان حسن الصوت، رأيته عند يعقوب الجرمي فجاور رجلاً فقال: إن لم يكن القرآن مخلوقاً فنزع الله كل آية في كتابه من صدري، فأصبح وما يقرأ من كتاب الله تعالى حرفاً واحداً. قال: فكان إذا سمع قارئاً
__________
(1) ... في الأصل: جمي. وقد ذكره عبد الله بن أحمد في السنة (1/165).
(2) ... ذكره اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (2/256) عن النضر بن محمد.
(3) ... ذكره اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (2/354).
(4) ... في الأصل: الأهر. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (23/89)، وذيل التقييد (1/439).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: بن. وهو خطأ. وقوله: "بندار" لقب لمحمد بن بشار. وقد تقدمت ترجمته.(1/625)
في المسجد تكلم به قال: لا أستطيع، ويقول كلاماً معروفاً. قال: ومات على هذه الحال.
قال بندار: كتب إليَّ إسحاق بن راهويه يسألني عن هذا الحديث، فكتبت إليه.
قوله تعالى: { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سالماً لرجل } أي: ضرب الله لعُبّاد الأصنام مثلاً مثل رجل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فـ"رجلاً" بدل من قوله: "مثلاً فيه شركاء" (1) .
"متشاكسون": مختلفون كل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبون عنان التصرف فيه على حسب أهوائهم واختلاف أغراضهم وآرائهم، فأصبح مُتشعِّب الهموم، مُتقسم الفكر.
"ورجلاً" عطف على الأول، أي: ومثل رجل، "سالم لرجل": خالص لرجل واحد، فهو مجتمع الهِمّ، سليم مما يوجب توزع فكره، مقتصر على خدمة سيد واحد.
{ هل يستويان مثلاً } أي: صفة، أي: هل يستوي صفتاهما وحالاهما.
قال ثعلب: إنما قال: "هل يستويان مثلاً" ولم يقل: "مَثَلَيْنِ"؛ لأنهما جميعاً ضُربَا مثلاً واحداً، ومثله: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } (2) [المؤمنون:50].
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/215).
(2) ... انظر: زاد المسير (7/180-181).(1/626)
وقال الزمخشري (1) : إنما اقتصر في التمييز على الواحد؛ لبيان الجنس. وقرئ: "مثلين"؛ كقوله تعالى: { وأكثر أموالاً وأولاداً } [التوبة:69] مع قوله تعالى: { أشد منهم قوة } ، وهذا مثل العبد المؤمن والعبد الكافر في عبادة هذا إلهاً واحداً، وفي عبادة هذا آلهة شتى.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "ورَجُلاً سَالِماً لرجُل" بألف مع كسر اللام، وقرأ الباقون: "سَلَماً" بفتح اللام من غير ألف (2) .
وقرأتُ لعبد الوارث عن أبي عمرو: " ورَجُلٌ سالمٌ " بالرفع على الابتداء (3) ، على معنى: وهناك رجل سالم لرجل.
{ الحمد لله } قال الماوردي (4) : يحتمل وجهين:
أحدهما: على احتجاجه بالمثل الذي خصم به المشركين.
الثاني: على هدايته التي أعان بها المؤمنين.
{ بل أكثرهم لا يعلمون } فيشركون به غيره، أو لا يعلمون المثل المضروب.
قوله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون } إن قيل: ما الحكمة في إخباره بموته وهو يعلمه حقيقة؟
__________
(1) ... الكشاف (4/129).
(2) ... الحجة للفارسي (3/340)، والحجة لابن زنجلة (ص:621-622)، والكشف (2/238)، والنشر (2/362)، والإتحاف (ص:375)، والسبعة (ص:562).
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/180)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/15).
(4) ... تفسير الماوردي (5/124).(1/627)
قلتُ: هو فيه حِكَم:
أحدها: الحث على العمل.
الثانية: تقصير الأمل.
الثالثة: الإيذان بقرب الأجل، حيث أتى به في صيغة الحال.
الرابعة: أن المشركين كانوا يتربصون به - صلى الله عليه وسلم - الموت، فأخبرهم أن الموت وصفٌ شاملٌ له ولهم، فلا معنى لانتظاره له دونهم.
الخامسة: توطئة نفسه الكريمة - صلى الله عليه وسلم - على الموت.
السادسة: إعلام المؤمنين أن هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - على ربه لم يوجب له اختصاص بوصف الامتياز على العالمين فضلاً عليهم في الخلود والبقاء الدائم.
{ ثم إنكم } أنتم وإياهم -غلب المخاطب- { يوم القيامة عند ربكم } الذي لا يخفى عليه خافية { تختصمون } فيحتج عليهم بالبلاغ، ويحتجون هم بما لا حجة فيه من الاقتداء بالآباء والكبراء.
وقال ابن عباس: يتخاصم الصادق والكاذب، والمظلوم والظالم، والمهتدي والضال، والضعيف والمتكبر (1) .
وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا (2) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/1). وذكره السيوطي في الدر (7/227) وعزاه لابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (24/2). وذكره السيوطي في الدر (7/226) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر.(1/628)
* فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ اجخب(1/629)
قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدَّق به } قال علي عليه السلام وأبو العالية وابن السائب: "الذي جاء بالصدق": رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، "وصدَّق به": أبو بكر رضي الله عنه (1) .
وقال ابن عباس: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلا إله إلا الله وصدق به (2) .
وقال مجاهد في رواية الليث عنه: "الذي جاء بالصدق": رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، "وصدّق به": علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3) .
وقال قتادة: "الذي جاء بالصدق": رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، "وصدّق به": المؤمنون (4) .
وقال عطاء: "الذي جاء بالصدق": الأنبياء، "وصدّق به": الأتباع (5) .
ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي العالية: "والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به" (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/3). وذكره السيوطي في الدر (7/228) وعزاه لابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان عن علي بن أبي طالب.
(2) ... أخرجه الطبري (24/3)، وابن أبي حاتم (10/3251). وذكره السيوطي في الدر (7/228) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) ... ذكره الماوردي (5/126).
(4) ... أخرجه الطبري (24/3).
(5) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/79).
(6) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/411)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/15).(1/630)
وقال السدي: "الذي جاء بالصدق": جبريل جاء بالقرآن، "وصدّق به": محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقرأ أبو صالح الكوفي السمان ومحمد بن جحادة: "وصَدَقَ به" بالتخفيف (2) ، على معنى: وصَدَقَ به الناس ولم يكذبهم به، يعني: أدَّاه إليهم كما نزل إليه من غير تحريف.
قوله تعالى: { الذي } هاهنا اسم جنس، يدل عليه قوله: { أولئك هم المتقون } ، ومثله:
إنّ الذي حَانَتْ بفلْجٍ دماؤُهُم ... هُمُ القومُ كُلُّ القومِ يا أمَّ خالد (3)
قوله تعالى: { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } اللام من صلة قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون عند ربهم } . وقيل: هو لام القسم، التقدير: والله ليكفرن الله عنهم، فكُسرت اللام وحذفت النون. والمعنى: أسوأ الذي عملوا قبل الإيمان والتوبة.
وقيل: أسوأ الذي عملوا من الصغائر؛ لأنهم يتقون الكبائر. ذكر هذين الوجهين الماوردي (4) .
ولا معنى للأول؛ لأن مدلوله أن المصدق لا يعمل عملاً يوصف
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/3)، وابن أبي حاتم (10/3251). وذكره السيوطي في الدر (7/228) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/412)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/16).
(3) ... تقدم.
(4) ... تفسير الماوردي (5/127).(1/631)
بالاستواء، ولا للثاني لأنه مُشعر أن المصدّق لا يقع في كبيرة.
والمعنى: أن الله تعالى يكفر عنهم أسوأ أعمالهم، فما ظنك بغير الأسوأ.
وقيل: الذي فرط منهم هو عندهم الأسوأ؛ لاستعظامهم المعصية، والحسَن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن؛ لحسن إخلاصهم فيه؛ فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن.
}ّٹs9r& اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ(1/632)
أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ اجرب
قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ حمزة والكسائي: "عباده" (1) ، يريد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقرأ سعد بن أبي وقاص وأبو عمران: "بكافي" بياء من غير تنوين، "عَبْدِهِ" بالجر على الإضافة (2) ، ومثلهما قرأ أُبيّ بن كعب وأبو العالية وأبو الجوزاء والشعبي، إلا أنهم قرؤوا "عباده" على الجمع (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/341)، والحجة لابن زنجلة (ص:622)، والكشف (2/239)، والنشر (2/362-363)، والإتحاف (ص:375)، والسبعة (ص:562).
(2) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/184)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/16).
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير، الموضع السابق.(1/633)
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء: "يُكافي" بياء مضمومة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء، "عِبَادَهُ": بالنصب مع الجمع (1) .
{ ويخوفونك بالذين من دونه } وذلك أن كفار قريش قالوا: يا محمد ما تزال تذكر آلهتنا وتعيبها، فاتق أن تصيبك بسوء، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: { هل هن كاشفات ضره } وقرأ أبو عمرو: "كاشفاتٌ وممسكاتٌ" بالتنوين فيهما، "ضُرَّهُ ورحْمَتَه" بالنصب فيهما؛ لأنه أمر منتظر، وما لم يقع من أسماء الفاعلين أو كان في الحال فالوجه فيه التنوين والنصب؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل.
وقرأ الباقون بغير تنوين وبالجر في الجملتين على الإضافة (2) ؛ طلباً للخفة والتنوين مراد، ولذلك لا يتعرّف اسم الفاعل وإن أضيف إلى معرفة.
قال صاحب الكشاف (3) : إن قلت: لم قيل: "كاشفات" و"ممسكات" على التأنيث بعد قوله تعالى: { ويخوفونك بالذين من دونه } ؟
قلتُ: أنثهن وكنّ إناثاً، وهنّ اللات والعزى ومناة، [قال الله تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة] (4) الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى }
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير، الموضع السابق، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/16).
(2) ... الحجة للفارسي (3/341-342)، والحجة لابن زنجلة (ص:623)، والكشف (2/239)، والنشر (2/363)، والإتحاف (ص:376)، والسبعة (ص:562).
(3) ... الكشاف (4/132).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/634)
[النجم:19-21] [ليضعفها] (1) ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة؛ لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أن الذكورة من باب الشدة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تَدَّعون [لهن] (2) وأعجز. وفيه [تهكم] (3) أيضاً.
ِ@è% يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
__________
(1) ... في الأصل: لضعفها. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: لهم. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: تهكيم.(1/635)
عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ احثب
{ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } مُفسر في الأنعام (1) .
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } أي: يقبضها عند فناء أجلها، { والتي لم تمت } أي: ويتوفى التي لم تمت { في منامها } وسماهُ وفاة على وجه التشبيه للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل } [الأنعام:6].
قال الزجاج (2) : المتوفى وفاة الموت هو الذي قد فارقته النفس التي تكون
__________
(1) ... عند الآية رقم: 135.
(2) ... معاني الزجاج (4/356).(1/636)
بها الحياة والحركة، والنفس التي تميز بها، والتي تتوفى في النوم نفس [التمييز] (1) وحدها لا نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النَّفَس، والنائم يتنفَّس.
وقال ابن عباس: في ابن آدم نفس وروح، فالنفس العقل والتمييز، وبالروح النفس والتحريك، فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه (2) .
وقال ابن جريج: في ابن آدم نفس وروح بينهما حاجز، والله تعالى يقْبِضُ النَّفْسَ عند النوم ثم يَرُدُّها إلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إماتة العبد في نومه لم [يَرُدَّ] (3) النَّفْسَ وقَبَضَ الروح (4) .
وقال سعيد بن جبير: إن الله تعالى يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فيتعارف ما شاء الله أن يتعارف، { فيمسك التي قضى عليها الموت } فلا يعيدها، { ويرسل الأخرى } فيعيدها (5) .
وذهب بعض العلماء إلى أن التوفي المذكور في حق النائم هو نومه، وهو اختيار الفراء (6) وابن الأنباري.
__________
(1) ... في الأصل: التميز. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... ذكره الماوردي (5/128)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/186).
(3) ... في الأصل: يردد. والتصويب من زاد المسير (7/186).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/186).
(5) ... أخرجه الطبري (24/9). وذكره الماوردي (5/128-129).
(6) ... معاني الفراء (2/420).(1/637)
فعلى هذا؛ معنى توفي النائم: قبض نفسه عن التصرف، وإرسالها: إطلاقها باليقظة في التصرف.
قرأ حمزة والكسائي: "قُضِيَ" بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء على ما لم يُسمّ فاعله، "الموتُ" بالرفع. وقرأ الباقون "قَضَى" بفتح القاف والضاد، "الموتَ" بالنصب (1) ، حملاً على قوله: { ويرسل الأخرى } (2) في بناء الفعل للفاعل.
دQr& اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/342)، والحجة لابن زنجلة (ص:624)، والكشف (2/239)، والنشر (2/363)، والإتحاف (ص:376)، والسبعة (ص:562-563).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: ليسجد.(1/638)
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ احخب
قوله تعالى: { أم اتخذوا } "أمْ" هاهنا منقطعة، { من دون الله شفعاء } يعني: الأصنام، فإنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، { قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } [وجواب هذا الاستفهام] (1) محذوف، تقديره: [أتتخذونهم] (2) شفعاء.
قوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده } أي: أُفرد بالذِّكْر دون آلهتهم { اشمأزت } . قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: انقبضت (3) ، { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } .
__________
(1) ... في الأصل: وحرا. والتصويب والزيادة من الوسيط (3/584)، وزاد المسير (7/187).
(2) ... في الأصل: أنتخذومهم.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:559)، والطبري (24/10). وذكره مقاتل في تفسيره (3/135)، والسيوطي في الدر (7/233) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.(1/639)
وقال ابن عباس أيضاً: نَفَرَتْ عن التوحيد (1) .
{ وإذا ذكر الذين من دونه } وهم آلهتهم، ذُكر الله تعالى معهم أو لم يذكر { إذا هم يستبشرون } .
ب@è% اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ
__________
(1) ... ذكره الطبري (24/10)، والماوردي (5/129) كلاهما بلا نسبة.(1/640)
الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ احرب
{ قل اللهم فاطر السموات والأرض } أي: يا فاطر. وقد سبق تفسيرها.
كان الربيع بن خثيم قليل الكلام، فلما قتل الحسين عليه السلام قالوا: اليوم يتكلم، فلما أخبروه بقتله لم يزد على قراءة هذه الآية (1) .
قوله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } أي: ظهر لهم من سخطه وعذابه ما لم يكن في حسابهم.
وقيل: عملوا أعمالاً حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات.
جزع محمد بن المنكدر عند موته، فقيل له: [لم تجزع] (2) ؟ فقال: أخشى آية من كتاب الله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } (3) .
سمعت شيخنا أبا محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة رضي الله عنه يقول:
__________
(1) ... أخرجه ابن سعد في طبقاته (6/190).
(2) ... زيادة من المصادر التالية.
(3) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/146). وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/144).(1/641)
أخبرنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني في كتابه، أخبرنا عبدالرزاق بن محمد بن الشرابي، [أنا سعيد بن محمد بن سعيد الولي، أنا علي بن أحمد بن علي الواقدي] (1) ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن إسحاق السراج يقول: سمعت محمد بن خلف يقول: حدثني يعقوب بن يوسف قال: كان الفضيل بن عياض إذا علم أن ابنه علياً خلفه -يعني: في الصلاة- مرَّ ولم يقف ولم يخوّف، وإذا علم أنه ليس خلفه تنوّق (2) في القرآن وحزن وخوّف، فظنَّ يوماً أنه ليس خلفه، فأتى على ذكر هذه الآية: { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين } [المؤمنون:106] قال: فخرَّ عليّ مغشياً عليه، فلما علم أنه خلفه وأنه قد سقط، تجوّز في القراءة، فذهبوا إلى أمه فقالوا: أدركيه، فجاءت فرشَّتْ عليه ماء فأفاق، فقالت لفضيل: أنت قاتل هذا الغلام عَلَيَّ، فمكث ما شاء الله فظنَّ أنه ليس خلفه، فقرأ: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فخرّّ ميتاً، وتجوّز [أبوه] (3) في القراءة، وأُتيت أمه فقيل لها: أدركيه، فجاءت فرشَّت عليه ماء فإذا هو ميت رحمه الله تعالى (4) .
#sŒخ*sù مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ
__________
(1) ... زيادة من كتاب التوابين (ص:209).
(2) ... تنوّق في الأمر: تأنّق فيه وتجوّد (اللسان، مادة: نوق).
(3) ... زيادة من كتاب التوابين (ص:209).
(4) ... أخرجه ابن قدامة في كتاب التوابين (ص:209).(1/642)
دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ(1/643)
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اخثب
قوله تعالى: { فإذا مس الإنسان ضر دعانا } قال مقاتل (1) : هو أبو حذيفة بن المغيرة. وقد سبق في هذه السورة نظيره.
{ ثم إذا خولناه نعمة منا } مُفسّر في أوائل هذه السورة أيضاً.
{ قال إنما أوتيته } أي: أتيت الإنعام أو شيئاً من النعمة.
وقيل: "إنما" موصولة لا كافة، فرجع الضمير إليها، على معنى: الذي أوتيته على علم.
وقد سبق تفسيره في قصة فرعون في سورة القصص (2) .
{ بل هي } يريد: النعمة { فتنة } ابتلاء وامتحان، أيشكُر أم يكفُر؟.
وقرئ: "بل هو فتنة" (3) حملاً على "إنما أوتيته".
وقيل: "بل هي" يريد: الكلمة أو المقالة التي قالها فتنة.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنهم مستدرجون أو مفتونون.
قال صاحب الكشاف (4) : إن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/136).
(2) ... عند الآية رقم: 78.
(3) ... ذكر هذه القراءة الزمخشري في: الكشاف (4/136).
(4) ... الكشاف (4/136-137).(1/644)
وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟
قلتُ: السبب في ذلك: أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } [الزمر:45] على معنى: أنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسّ أحدهم ضرٌ دعا من اشمأز من ذِكْرِه، دون من استبشر بذِكْرِه، وما بينهما من الآي اعتراض.
وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو؛ كقولك: قام زيد وقعد عمرو.
قوله تعالى: { قد قالها الذين من قبلهم } أي: قد قال هذه الكلمة أو هذه المقالة أو هذه الجملة من الكلام الذين من قبلهم.
وقرئ: "قاله الذين من قبلهم" (1) : قارون وقومه، حيث قال: { إنما أوتيته على علم عندي } [القصص:78] وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها.
وقال السدي: هم الأمم الماضية (2) .
يشير إلى أن فيهم من قال مثل هذه المقالة.
{ فما أغنى عنهم } "ما" نافية أو استفهامية { ما كانوا يكسبون } من متاع الدنيا ويجمعون منه.
قوله تعالى: { والذين ظلموا من هؤلاء } أي: من مشركي مكة وأضرابهم { سيصيبهم سيئات ما كسبوا } أي: جزاء سيئاتهم كما أصاب
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/416)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/19).
(2) ... أخرجه الطبري (24/13). وذكره السيوطي في الدر (7/234) وعزاه لابن جرير.(1/645)
الذين من قبلهم، فأصابهم ذلك يوم بدر بقتل صناديدهم وحبس القطر عنهم سبع سنين، ثم بسط لهم الرزق فمطروا سبع سنين، فذلك قوله تعالى: { أو لم يروا ... الآية } .
* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ(1/646)
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَن اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَن لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ اخزب
قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي: جَنُوا عليها(1/647)
بالإسراف في المعاصي والغُلوّ فيها.
{ لا تقنطوا من رحمة الله } أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا إسماعيل البخاري، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، قال يعلى: إن سعيد بن جبير أخبرهم عن ابن عباس: "أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } [الفرقان:68]، ونزل قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } " (1) .
وقال ابن عمر: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا بمكة وكانوا قد أسلموا ثم عُذبوا فافتتنوا، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لا يَقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً، قوم تركوا دينهم لعذاب عُذبوه، [فنزلت] (2) هذه الآية، فكتب بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليهم فأسلموا وهاجروا (3) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1811ح4532)، ومسلم (1/113 ح122).
(2) ... زيادة من مصادر التخريج.
(3) ... أخرجه الطبري (24/15). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:384). وذكره السيوطي في الدر (7/237) وعزاه لابن جرير.(1/648)
وقيل: نزلت في وحشي، قاتل حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه (1) .
وهذه الآية من أرجى الآيات المؤذنة برحمة الله تعالى.
ويروى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين نزلت: ما أحبُّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية (2) .
وقال علي عليه السلام: ما في القرآن آية أوسع من { يا عبادي الذين أسرفوا ... الآية } (3) .
وقال ابن مسعود: إن أكثر آية في القرآن فرجاً هذه الآية (4) .
قوله تعالى: { وأسلموا له } أي: أخلصوا له التوحيد واخضعوا له.
{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } مفسر في الأعراف في قوله تعالى: { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } [الأعراف:145].
قوله تعالى: { أن تقول نفس } قال المبرد: المعنى: بادروا قبل أن تقول، واحذروا من أن تقول (5) .
وقال غيره: كراهة أن تقول نفس (6) .
{ يا حسرتا } وقرأتُ لأبي جعفر: "يا حسرتايَ" بألف بعد التاء وياء
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:385).
(2) ... أخرجه أحمد (5/275 ح22416).
(3) ... أخرجه الطبري (24/16). وذكره السيوطي في الدر (7/237-238) وعزاه لابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (24/15).
(5) ... انظر قول المبرد في: زاد المسير (7/192).
(6) ... قاله الزمخشري في الكشاف (4/139).(1/649)
مفتوحة (1) .
وقرأ الحسن وأبو العالية: "يا حسرتي" بكسر التاء وسكون الياء على الأصل (2) . والمعنى: يا ندامتي احضري، فهذا أوانك.
{ على ما فرطت في جنب الله } "ما" مصدرية.
قال الحسن: في طاعة الله (3) .
وقال سعيد بن جبير: في حق الله (4) .
وقال مجاهد والزجاج: في أمر الله (5) . وأنشدوا للسابق البربري:
أما تتقينَ اللهَ في جَنْبِ [وَامِقٍ] (6) ... له كبدٌ حرّى عليكِ تَقَطَّع (7)
وقال الفراء (8) : الجنب: القرب، أي: على ما [فرطت] (9) في قُرب الله وجواره. يقال: فلان يعيش في جنب فلان، أي: في قُربه وجواره (10) .
__________
(1) ... النشر (2/363)، والإتحاف (ص:376).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:376).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/589)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/192).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/192).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:559)، والطبري (24/19). وانظر: معاني الزجاج (4/359).
(6) ... في الأصل: وابق. والمثبت من الكشاف (4/139). وفي بقية المصادر: عاشق.
(7) ... البيت لسابق البربري، من شعراء الحماسة، وهو في: البحر (7/418)، والدر المصون (6/20)، وروح المعاني (24/17)، والكشاف (4/139)، ونسبه القرطبي (15/271) لكثير، ونُسب أيضاً لجميل بن معمر، انظر ديوانه (ص:73).
(8) ... انظر قول الفراء في: الوسيط (3/588)، وزاد المسير (7/192).
(9) ... في الأصل: فطت. والصواب ما أثبتناه.
(10) ... انظر: اللسان (مادة: جنب).(1/650)
فعلى هذا؛ يكون المعنى: على ما فرطت في طلب قُرب الله، وهو الجنة.
{ وإن كنت لمن الساخرين } قال الزجاج (1) : أي وما كنت إلا من المستهزئين.
قال قتادة: لم يكفه أن يضيع طاعة الله حتى سَخِرَ من أهلها (2) .
قال الزمخشري (3) : ومحل "إن كنت" النصب على الحال، كأنه قال: [فرطت] (4) وأنا ساخر، أي: فرطت في حال سخريتي.
{ أو تقول لو أن الله هداني } أرشدني { لكنت من المتقين } .
{ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة } رجعة إلى الدنيا { فأكون من المحسنين } .
قال الزجاج (5) : قوله: { بلى } جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي.
ومعنى: "لو أن الله هداني" و "لو أن لي كَرَّة": ما هُديت، فقيل له: { بلى قد جاءتك آياتي } .
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء اللغوي رحمه الله تعالى للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه: "جاءتكِ، فكذبتِ، واستكبرتِ، وكنتِ" بكسر الكاف والتاء فيهن، على المخاطبة للنفس. وهي قراءة عائشة رضي الله
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/359).
(2) ... أخرجه الطبري (24/19). وذكره السيوطي في الدر (7/241) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... الكشاف (4/140).
(4) ... في الأصل: فرط. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... معاني الزجاج (4/359).(1/651)
عنها (1) .
قال الزجاج (2) : رُويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
tPِqtƒur الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/193)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/21).
(2) ... معاني الزجاج (4/360).(1/652)
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ اددب
قوله تعالى: { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } أي: زعموا أن له(1/653)
[ولداً أو شريكاً] (1) .
وقال الحسن: هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل (2) .
{ وجوهم مسودة } مبتدأ وخبر في موضع الحال، أو مفعول ثان إن [كان] (3) "ترى" من رؤية القلب (4) .
والأول أجود.
قال الزجاج (5) : ويجوز "وجوهَهُم مسودةً" بالنصب على البدل من "الذين كذبوا". المعنى: ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودةً.
قوله تعالى: { وينجي الله الذين اتقوا } وقرأتُ ليعقوب من رواية أبي حاتم وروح: ["ويُنْجِي"] (6) بالتخفيف (7) .
{ الذين اتقوا بمفازتهم } وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: "بمَفَازَاتِهِمْ" على الجمع (8) .
__________
(1) ... في الأصل: ولد أو شريك. وهو لحن.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/590)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/193).
(3) ... في الأصل: كا. والمثبت من الكشاف (4/142).
(4) ... انظر: التبيان (2/215)، والدر المصون (6/21).
(5) ... معاني الزجاج (4/360).
(6) ... في الأصل: وننجي. وانظر المصادر التالية.
(7) ... النشر (2/259)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:210، 376).
(8) ... الحجة للفارسي (3/342)، والحجة لابن زنجلة (ص:624)، والكشف (2/240)، والنشر (2/363)، والإتحاف (ص:376)، والسبعة (ص:563).(1/654)
قال أبو علي (1) : حجة من قرأ على الإفراد: أن المفازة والفوز واحد، وإفراد المفازة كإفراد الفوز من حيث إنه مصدر.
ووجه من قرأ على الجمع: أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها، ومثله في الجمع والإفراد قوله تعالى: { على مكانتكم } [الأنعام:135] و"مكاناتكم".
وقال الزمخشري (2) : قرئ: "بمفازاتهم" على أن لكل مُتَّق مفازة.
قوله تعالى: { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } تفسير للمفازة، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، أي: ننجيهم بنفي السوء والحزن عنهم أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى: { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [آل عمران:188] أي: بمَنْجَاةٍ منه.
فإن قلت: ما محل "لا يمسهم" من الإعراب على التفسيرين؟
قلتُ: أما على الأول فلا محل له. وأما على الثاني فمحله النصب على الحال.
قوله تعالى: { له مقاليد السموات والأرض } قال الزجاج وابن قتيبة وغيرهما من أهل اللغة والمفسرين (3) : المقاليد: المفاتيح.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/342).
(2) ... الكشاف (4/142).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:560)، والطبري (24/23)، وابن أبي حاتم (10/3255). وذكره السيوطي في الدر (7/243، 245) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وطرق أخرى كثيرة، فانظرها، والزجاج في معاني القرآن (4/361)، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن (ص:384).(1/655)
يريد: أن كل شيء من السموات والأرض فالله خالقه ومالكه وفاتح بابه، ولا واحد للمقاليد من لفظها.
وقيل: واحدها: مِقْلِيد، ويقال: إِقْلِيد، والكلمة أصلها فارسية وعرَّبتها العرب (1) .
__________
(1) ... اختلف العلماء والأئمة في وقوع المعرَّب في القرآن الكريم، فالأكثرون -كما يقول الإمام السيوطي في كتابه الإتقان- ومنهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه، لقوله تعالى: { قرآناً عربياً } ، وقوله تعالى: { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } ، وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك.
... وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول.
... وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله؛ لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
... وقال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد.
... وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت من لغاتهم ألفاظاً غيرت بعضها بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
... وقال آخرون: كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جداً ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلة. وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح، قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي. وقال أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك: إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً. ويجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ. وذهب آخرون إلى وقوعه فيه. وأجابوا عن قوله تعالى: { قرآناً عربياً } بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربياً، والقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية. وعن قوله تعالى: { أأعجمي وعربي } بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي. واستدلوا باتفاق النحاة على أن في غيرها موجه بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس.
... وأقوى ما رأيته للوقوع وهو اختياري ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان. وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه. فهذه إشارة إلى أن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاكته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب.
... ثم رأيت ابن النقيب صرح بذلك فقال: من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير انتهى.
... وأيضاً فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو. وقد رأيت الجويني ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل إن: "استبرق" ليس بعربي وغير العربي من الألفاظ دون الفصاحة والبلاغة فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك، وذلك لأن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة، فإن لم يرغبهم بالوعد الجميل ويخوفهم بالعذاب الوبيل لا يكون حثه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب. ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة ثم المآكل الشهية ثم المشارب الهنية ثم الملابس الرفيعة ثم المناكح اللذيذة ثم ما بعده مما يختلف فيه الطباع، فإذا ذكر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال من أمر بالعبادة ووعد عليها وبالأكل والشرب إن الأكل والشرب لا ألتذ به إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير. وأما الذهب فليس مما ينسج منه ثوب، ثم إن الثوب من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن والثقل وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن. وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثخن ولا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحث والدعاء. ثم إن هذا الواجب الذكر إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، أو لا يذكر بمثل هذا، ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى لأنه أوجز وأظهر في الإفادة وذلك إستبرق، فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظاً واحداً يدل عليه لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس ولم يكن لهم بها عهد ولا وضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عربوا ما سمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به. وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخل بالبلاغة، لأن ذكر لفظين بمعنى يمكن ذكره بلفظ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ: "إستبرق" يجب على كل فصيح أن يتكلم به في موضعه ولا يجد ما يقوم مقامه، وأي فصاحة أبلغ من أن لا يوجد غيره مثله؟ انتهى.
... وقال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون. (انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/393-396).(1/656)
قال المفسرون: مقاليد السموات: المطر، ومقاليد الأرض: النبات (1) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/194).(1/658)
{ والذين كفروا بآيات الله } مُتصل بقوله: { وينجي الله الذين اتقوا } ، وما بينهما اعتراض.
{ قل } يا محمد لكفار قريش وغيرهم: { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } و"غير" منصوب بـ"أعبد" لا بـ"تأمروني" (1) ، والتقدير: أتأمروني أن أعبد غير الله، فحذف "أنْ" ورفع الفعل، كما في قوله:
.......... أحْضُرُ الوغى ... ... ............................... (2)
والدليل على صحة هذا: قراءة من قرأ "أعْبُدَ" بالنصب (3) .
وقال أبو علي (4) : "تأمروني" يقتضي مفعولين، والياء المفعول الأول، و"غير" مفعول ثان. و"أعبد" في تقدير: أن أعْبُدَ، في موضع البدل من "غير".
قرأ نافع: "تَأْمُرُوني" بنون واحدة مخففة. وقرأ ابن عامر بنونين خفيفتين. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة (5) .
فمن أظهر النون فعلى الأصل؛ لأن النون الأولى من علامة رفع الفعل، والثانية هي التي تصحب ياء المتكلم مع الفعل، ومن شدَّد أدغم الأولى في
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/216)، والدر المصون (6/22).
(2) ... تقدم.
(3) ... ذكر هذه القراءة السمين الحلبي في: الدر المصون (6/22)، وأبو حيان في: البحر (7/421).
(4) ... الحجة للفارسي (3/343-344).
(5) ... الحجة للفارسي (3/343)، والحجة لابن زنجلة (ص:625)، والكشف (2/240)، والنشر (2/363-364)، والإتحاف (ص:376-377)، والسبعة (ص:563).(1/659)
الثانية لاجتماع المثلين.
[فإن قيل] (1) : كيف جاز الإدغام وقبله حرف ساكن وهو الواو؟
قلتُ: هو حرف مدّ ولِين، والمد الذي فيه ينوب مناب الحركة.
ومن قرأ بنون واحدة حذف إحدى النونين؛ لاجتماع المثلين، والمحذوفة هي التي تصحب ياء المتكلم؛ لأن التكرير والتثقيل بها وقع.
ولأن حذف الأولى لحن؛ لأنها دلالة الرفع.
وكلهم سَكّن الياء، إلا ابن كثير ونافعاً فإنهما فتحاها (2) .
قوله تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقرأتُ ليعقوب من رواية أبي حاتم وزيد عنه: "لنُحْبطَنَّ" بنون مضمومة مع كسر الباء، "عَمَلَكَ" بالنصب (3) ، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله.
قال ابن عباس: هذا أدب من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لغيره؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك (4) .
وقيل: إنما خاطبه بذلك؛ ليعرف من دونه أن الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها ولو وقع من نبي.
__________
(1) ... في الأصل: فاقيل.
(2) ... ... الحجة للفارسي (3/343)، والحجة لابن زنجلة (ص:625)، والكشف (2/240)، والنشر (2/363-364)، والإتحاف (ص:376-377)، والسبعة (ص:563).
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/195)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/23).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/592)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/195).(1/660)
واللام الأولى في "لئن أشركتَ" موطئة للقَسَم، والثانية لام جواب، وهذا الجواب سادّ مسدّ جوابي الشرط والقسم.
{ بل الله فاعبد } لا ما أمروك به من طواغيتهم. و"اللهَ" منصوب بـ"أعْبُد" (1) .
قال الزجاج (2) : هو إجماع في قول الكوفيين والبصريين، والفاء جاءت على معنى المجازاة, المعنى: قد تَبيّنْتَ فاعبُدِ الله.
$tBur قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ادذب
قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قَدْرِه } أي: ما عَظَّمُوه حَقَّ تعظيمه.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/23).
(2) ... معاني الزجاج (4/361).(1/661)
قال الزجاج (1) : ويقرأ "قَدَرِه" بفتح الدال. قال (2) : والقَدْر والقَدَر هاهنا بمعنى واحد.
قوله تعالى: { والأرض } يريد: الأرضين، بدليل قوله تعالى: { والسموات } ، وقوله تعالى: { جميعاً } .
ولأنه موضع تعظيم.
وقوله تعالى: { جميعاً } منصوب على الحال (3) . المعنى: والأرض إذا كانت مجتمعة.
{ قبضته يوم القيامة } قال ابن عباس: الأرض والسموات كلها بيمينه (4) .
وقال سعيد بن جبير: السموات [قبضة] (5) والأرض قبضة (6) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد، حدثنا آدم (7) ، حدثنا
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/361).
(2) ... أي: الزجاج.
(3) ... انظر: التبيان (2/216)، والدر المصون (6/23).
(4) ... أخرجه الطبري (24/25). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/196).
(5) ... في الأصل: قبضته. وكذا وردت في الموضع التالي. والتصويب من زاد المسير (7/197).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/197).
(7) ... آدم بن أبي إياس واسمه عبد الرحمن بن محمد، ويقال: ناهية بن شعيب الخراساني، أبو الحسن العسقلاني، ثقة مأمون عابد، نشأ ببغداد، وارتحل في الحديث فاستوطن عسقلان إلى أن مات سنة إحدى وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/171، والتقريب ص:86).(1/662)
شيبان (1) ، عن منصور (2) ، عن إبراهيم (3) ، عن عَبيدة (4) ، عن عبدالله (5) قال: "جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بَدَتْ نواجذه تصديقاً لقول الحَبْر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } " (6) . وأخرجه مسلم أيضاً.
وبه قال البخاري: حدثنا سعيد ابن عفير (7) ، حدثني الليث (8) ، حدثني
__________
(1) ... شيبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أبو معاوية البصري المؤدب، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد، ثقة صدوق صاحب كتاب، مات سنة أربع وستين ومائة (تهذيب التهذيب 4/326-327، والتقريب ص:269).
(2) ... منصور بن عبد الله بن ربيعة بن عتاب بن فرقد السلمي، أبو عتاب الكوفي، ثقة ثبت، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة (تهذيب التهذيب 10/277-278، والتقريب ص:547).
(3) ... إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذهل النخعي، أبو عمران الكوفي، ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، مات سنة ست وتسعين (تهذيب التهذيب 1/155، والتقريب ص:95).
(4) ... هو عبيدة بن عمرو السلماني. تقدمت ترجمته.
(5) ... هو ابن مسعود.
(6) ... أخرجه البخاري (4/1812 ح4533)، ومسلم (4/2147 ح2786).
(7) ... سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد بن الأسود الأنصاري مولاهم، أبو عثمان المصري، وقد ينسب إلى جده، ثقة صدوق عالم بالأنساب وغيرها، مات سنة ست وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/66، والتقريب ص:240).
(8) ... هو الليث بن سعد. تقدمت ترجمته.(1/663)
عبدالرحمن بن خالد بن مسافر (1) ، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض" (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي [الأرضين] (3) بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" (4) .
y‡دےçRur فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
__________
(1) ... عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، ويقال: اسم جده ثابت بن مسافر، أبو خالد، ويقال: أبو الوليد الفهمي المصري، أمير مصر، كان ثبتاً في الحديث صدوق، توفي سنة سبع وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 6/150، والتقريب ص:339).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1812 ح4534)، ومسلم (4/2148 ح2787).
(3) ... في الأصل: الأرض. والتصويب من صحيح مسلم (4/2148).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2148 ح2788).(1/664)
يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ اذةب
قوله تعالى: { ونفخ في الصور } سبق في الأنعام (1) .
{ فَصَعَقِ } وقرأ ابن السميفع: "فَصُعِقَ" بضم الصاد (2) . والمعنى: ماتوا من شدة الفزع.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 73.
(2) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (7/197)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/24).(1/665)
{ إلا من شاء الله } مفسر في النمل (1) .
{ ثم نفخ فيه أخرى } وهي نفخة البعث { فإذا هم } يعني: الخلائق { قيامٌ } . وقرئ شاذاً: "قياماً" (2) .
{ ينظرون } يقلبون أبصارهم نظر المبهوت إذا حل به أمر أزعجه، أو ينظرون ماذا يُفعل بهم.
قوله تعالى: { وأشرقت الأرض بنور ربها } أي: أضاءت بما أظهر فيها من الحق والعدل. هذا معنى قول الحسن (3) .
ويحقق ذلك تمام الآية وختمها بنفي الظلم، وكثيراً ما يستعيرون النور للعدل والظلمة للظلم، ومنه الحديث: "الظلم ظلمات يوم القيامة" (4) .
[وللإمام] (5) أحمد رضي الله عنه في أبيات يوصي فيها ابنه يقول:
لا تَلْقَ ربكَ ظالماً لعباده ... فالظلمُ مُشتقٌ من الظلماء
وقال الثعلبي (6) : قال أكثر المفسرين: بضوء ربها، وذلك حين يبرز الجبار لفصل القضاء بين خلقه.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 87.
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/423)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (6/25).
(3) ... ذكره الماوردي (5/136).
(4) ... أخرجه البخاري (2/864 ح2315)، ومسلم (4/1996 ح2578).
(5) ... في الأصل: وللإم.
(6) ... تفسير الثعلبي (8/256-257).(1/666)
وقال: ويقال إن الله تعالى يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به (1) .
ويقال: إن الله يتجلى للملائكة فتشرق الأرض بنوره. وأراد بالأرض: عرصات القيامة.
قوله تعالى: { ووضع الكتاب } قال قتادة: كتاب الأعمال (2) .
وقال السدي: الكتاب: الحساب (3) .
وقيل: اللوح المحفوظ.
{ وجيء بالنبيين والشهداء } وهم الذين يشهدون للأمم وعليهم.
وقال السدي: الذين استشهدوا في سبيل الله (4) .
t,إ™ur الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/594).
(2) ... أخرجه الطبري (24/32). وذكره الماوردي (5/136).
(3) ... أخرجه الطبري (24/33). وذكره السيوطي في الدر (7/262) وعزاه لابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (24/33). وذكره الماوردي (5/137).(1/667)
رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ(1/668)
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ اذحب
قوله تعالى: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } قال الحسن: أفواجاً (1) .
قال أبو عبيدة (2) والأخفش: جماعات في تفرقة.
قال ابن السائب: أمماً (3) .
وقيل: في زُمر.
{ الذين اتقوا ربهم } هي الطبقات المختلفة؛ الشهداء، والزهاد، والعلماء، والفقراء، أي: كل طائفة على حِدَة.
فإن قيل: ما معنى سَوْق هؤلاء وسَوْق هؤلاء؟
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/137).
(2) ... مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/191). وانظر: قول الأخفش في: الماوردي (5/137).
(3) ... ذكره الماوردي (5/137).(1/669)
قلتُ: سَوْق الكفار: طردهم إلى النار وزجرهم بأبلغ ما يكون من العنف والهوان ليقتحموا جَراثيم جهنم. وسوق المتقين: سوق مراكبهم إسراعاً بهم إلى ما أعد لهم من الكرامة في الجنة.
فإن قيل: ما الفرق بين قراءة أهل الكوفة: "فُتحت، وفُتحت" بالتخفيف فيهما، وقراءة الباقين بالتشديد؟
قلتُ: قد ذكرته في الأنعام عند قوله تعالى: { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } فاطلبه هناك (1) .
فإن قيل: لم أدخلت الواو في الموضع الثاني وهو قوله تعالى: { وفتحت أبوابها } ، وحذفت في الأول؟
قلتُ: هي واو الحال، بتقدير: وقد فتحت أبوابها، يريد: أن المتقين سبقوا إلى الجنة وقد فتحت أبوابها لهم قبل مجيئهم ليتعجلوا السرور والفرح، وأن الكافرين جاؤوا جهنم وأبوابها مغلقة لم تفتح حتى جاؤوها لتكون أشد لحرّها وأبلغ في عذابها.
وقال بعض العلماء: هذه تسمى واو الثمانية، وذلك أن من عادة قريش يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا الثامنة زادوا فيها واواً، فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية. وقد أشرنا إلى هذا عند قوله تعالى: { وثامنهم كلبهم } [الكهف:22].
وقيل: الواو زائدة.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 44.(1/670)
فإن قيل: أين جواب { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } ؟
قلتُ: ["فُتِحَت"] (1) إن كانت الواو زائدة، أو محذوف إن لم تكن زائدة، تقديره: حتى إذا جاؤوها -إلى آخر الآية-: سعدوا، ويكون التقدير: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها.
وقال الزجاج (2) : المعنى: { حتى إذا جاؤوها } إلى قوله تعالى: { فادخلوها خالدين } : دخلوها، فيكون الجواب: دخلوها، وحذف؛ لأن في الكلام [دليلاً] (3) عليه.
قوله تعالى: { طبتم } أي: طهرتم من دنس المعاصي في الدنيا.
وقال ابن عباس: طاب لكم المقام (4) .
وقيل: طبتم بالمغفرة.
ويروى عن علي عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال: سيقوا إلى أبواب الجنة، حتى إذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فنظروا فيها فَجَرَتْ عليهم نظرة النعيم، فلن تغير آثارهم بعدها أبداً، ولن تشعث أشعارهم بعدها أبداً، كأنما قد دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى
__________
(1) ... في الأصل: فيجب. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه. انظر: الدر المصون (6/25).
(2) ... معاني الزجاج (4/364).
(3) ... في الأصل: دليل. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/595)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/201-202).(1/671)
أو قذى [وتلقتهم] (1) الملائكة على أبواب الجنة: { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } (2) .
وقد ذكرنا نحو هذا في الأعراف (3) .
وقوله: "خالدين" حال مُقَدَّرة.
قوله تعالى: { وأورثنا الأرض } يعني: أرض الجنة. وقد سبق معنى كون ذلك ميراثاً في الأعراف (4) .
{ نتبوأ من الجنة حيث نشاء } أي: نتخذ من المنازل ما شئنا. وما ذاك إلا لسعتها وزيادة منازلها على مقدار حاجة الداخلين إليها.
وحكى أبو سليمان الدمشقي: أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأمم بعدهم، فلذلك قالوا: { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } فيقول الله تعالى: { فنعم أجر العاملين } أي: فنعم ثواب المطيعين [في الدنيا] (5) الجنة (6) .
__________
(1) ... في الأصل: وتلقهم.
(2) ... أخرجه الطبري (24/35)، وابن أبي حاتم (10/3262)، وابن المبارك في الزهد (ص:509)، والضياء في المختارة (2/161). وذكره السيوطي في الدر (7/263-264) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبيهقي في البعث والضياء في المختارة.
(3) ... عند الآية رقم: 46.
(4) ... عند الآية رقم: 137.
(5) ... زيادة من زاد المسير (7/202).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/202).(1/672)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اذخب
قوله تعالى: { وترى الملائكة حافين من حول العرش } أي: مُحدقين بالعرش.
ودخول "مِنْ" للتوكيد.
{ يسبحون بحمد ربهم } يُصلّون وينزهون متلذذين بذلك لا مُتعبدين بذلك؛ لأن التكليف قد زال في ذلك الزمان.
{ وقُضي بينهم } أي: بين العباد.
[وقيل] (1) : بين الملائكة، على معنى: فضّل بينهم بتمييز درجاتهم على حسب فضائلهم.
والأول أصح.
{ وقيل الحمد لله رب العالمين } هذا قول المؤمنين، حمدوا الله تعالى
__________
(1) ... في الأصل: قيل.(1/673)
على خلاصهم من الجحيم وفوزهم بالنعيم.
قال قتادة: فتح أول الخلق بالحمد، فقال تعالى: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } [الأنعام:1]، وختم بالحمد، فقال تعالى: { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } (1) .
وقد ذكر نحوه عن ابن عباس في أول الأنعام.
قال المفسرون: ابتدأ الله تعالى ذكر الخلق بالحمد، وختم غاية الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم بالحمد؛ تنبيهاً للحق على حمده في بداية كل أمر وخاتمته (2) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر" (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/38). وذكره السيوطي في الدر (7/267) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... ذكره الماوردي (5/140)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/202-203).
(3) ... أخرجه ابن ماجه (1/610 ح1894).(1/674)
سورة المؤمن (1)
ijk
وهي أربع وثمانون آية في المدني وخمس في الكوفي (2) ، وهي مكية بإجماعهم.
ويحكى عن ابن عباس وقتادة: أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: { إن الذين يجادلون في آيات الله } والتي بعدها (3) .
وقال الزجاج (4) : الحواميم كلها نزلت بمكة.
وفي حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الحواميم ديباج القرآن)) (5) .
وقال ابن مسعود: إذا وقعتَ في آل حم وقعتَ في روضات دمثات أتأنق فيها (6) .
وقال ابن سيرين: رأى واحدٌ في المنام سبعَ جوار حِسان في مكان واحد
__________
(1) ... وتسمى سورة غافر.
(2) ... انظر: البيان في عد آي القرآن (ص:218).
(3) ... انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/52)، والماوردي (5/141)، وزاد المسير (7/204).
(4) ... معاني الزجاج (4/365).
(5) ... ذكره السيوطي في الدر (7/269) وعزاه لأبي الشيخ وأبي نعيم والديلمي. وقد أخرجه الحاكم (2/474 ح3634)، وابن أبي شيبة (6/153 ح30283) موقوفاً على عبدالله بن مسعود. وديباج القرآن: زينته، وفي القاموس (مادة: دبج): الديباج: النقش.
(6) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/153 ح30285). وذكره السيوطي في الدر (7/268) وعزاه لأبي عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر.(1/675)
لم يُر أحسن منهن، فقال لهن: لمن أنتن؟ قلن: لمن قرأ آل حم؟ (1) .
قال ابن الأنباري (2) : العرب تقول: وقع في الحواميم وفي آل حم، وأنشد أبو عبيدة (3) :
حلفتُ بالسبع اللواتي طُوّلت ... وبمئين بعدها قد أمْئيت
وبمثانٍ ثُنّيت فكُرّرت ... وبالطواسين اللواتي ثُلِّثت
وبالحواميم اللواتي سُبّعت ... [وبالمفصّل اللواتي فُصّلت] (4)
فمن قال: وقع في حم، جعل حم اسماً لكلهن، ومن قال: وقع في الحواميم، جعل حم كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل.
وقال غيره: من الخطأ أن تقول: قرأتُ الحواميم، وليس من كلام العرب، والصواب: آل حم.
وأنشدوا للكميت:
وجدنا لكمْ في آل حاميمَ آيةً ... تأوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ (5)
üNm (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (8/262)، والقرطبي في تفسيره (15/288) عن محمد بن قيس.
(2) ... انظر قول الأنباري في: زاد المسير (7/204).
(3) ... مجاز القرآن (1/7).
(4) ... زيادة من مجاز القرآن، الموضع السابق.
(5) ... البيت للكميت، وهو في: الكتاب (3/257)، والطبري (24/40)، والبحر (7/429)، والدر المصون (6/27)، وزاد المسير (7/204)، وروح المعاني (25/31).(1/676)
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اجب
قوله تعالى: { حم } قرأ حمزة والكسائي بإمالة الحاء في الجمع.
واختلفت الرواية عن ابن عامر؛ فروي عنه الإمالة والتفخيم، [وفخمها] (1) الباقون (2) .
قال الزجاج (3) : فأما الميم فساكنة في قراءة القُرّاء كلهم، إلا عيسى بن عمر فإنه حكي عنه أنه قرأ: "حَمَ" وفتح الميم، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن تجعل "حم" اسماً للسورة، فتنصبه ولا تنونه؛ لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية، نحو: هابيل وقابيل, ويكون المعنى على قولك: اتل حم يا هذا.
__________
(1) ... في الأصل: فخمها.
(2) ... الحجة للفارسي (3/345-346)، والحجة لابن زنجلة (ص:626-627)، والكشف (1/188)، والإتحاف (ص:377)، والسبعة (ص:566-567).
(3) ... معاني الزجاج (4/365).(1/677)
والأجود أن يكون فَتَحَ "حم"؛ لالتقاء الساكنين، حيث جعله اسماً للسورة، ويكون حكاية حرف هجاء.
وقال الزمخشري (1) : وجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو: أين وكيف، أو النصب بإضمار "اقرأ"، ومنع الصرف للتأنيث والتعريف، أو التعريف وأنها [على زنة] (2) أعجمي، نحو: قابيل وهابيل.
وللمفسرين في معنى حم ثمانية أقوال (3) :
أحدها: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم الله تعالى به (4) .
الثاني: أن معنى "حم": قضي ما هو كائن (5) .
الثالث: أنهما مع انضمام الر [وحم] (6) ونون اسم الرحمن على الهجاء (7) . رويت هذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس.
الرابع: أن الحاء مفتاح اسم حميد، والميم مفتاح مجيد. قاله أبو العالية (8) .
الخامس: أن الحاء مفتاح كل اسم [لله ابتداؤه حاء، مثل: حكيم، وحليم،
__________
(1) ... الكشاف (4/152).
(2) ... في الأصل: لزنة. والمثبت من الكشاف (4/152).
(3) ذكر هذه الأقوال الماوردي في تفسيره (5/141).
(4) ... أخرجه الطبري (24/39). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/205).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/206).
(6) ... زيادة من زاد المسير، الموضع السابق.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/206).
(8) ... مثل السابق.(1/678)
وحي. والميم مفتاح كل اسم] (1) أوله ميم، مثل: ملك، ومتكبر، ومجيد، ومهيمن. قاله عطاء الخراساني (2) .
قال محمد بن كعب القرظي: أقسم الله تعالى بحلمه وملكه أن لا يعذب أحداً عاد إليه بقول: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه (3) .
السادس: أن حم اسم من أسماء القرآن. قاله قتادة (4) .
السابع: أنه اسم السورة. قاله الشعبي.
الثامن: أنه اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - . قاله جعفر الصادق.
وفي صحيح البخاري (5) : يقال: حم اسم، يدل عليه قول شريح بن أبي أوفى العبسي:
يُناشدني حم والرمح دونه ... ... فهلاَّ تلا حم قبل التقدم (6)
قوله تعالى: { وقابل التوب } جمع توبة، أو مصدر.
وقال صاحب الكشاف (7) : التَّوْب والثَّوْب والأَوْب: أخواتٌ في معنى
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (7/206).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/206).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/2).
(4) ... أخرجه الطبري (24/39). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/206).
(5) ... ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً (4/1813).
(6) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: حمم)، والطبري (24/39)، والقرطبي (15/290)، والماوردي (5/141)، والبحر (7/429)، والدر المصون (6/27)، والمقتضب (1/373)، ومجاز القرآن (2/193).
(7) ... الكشاف (4/152-153).(1/679)
الرجوع، والطَّوْلُ: الفضل والزيادة. يقال: لفلان على فلان طَوْل.
فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً، والموصوف معرفة تقتضي أن تكون مثله معارف؟
قلتُ: أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان؛ لأنه لم يُرد بهما حدوثُ الفعلين، وأنه يغفر [الذنب] (1) ويقبل التوب الآن أو غداً، حتى يكونا في تقدير الانفصال، وتكون إضافتهما غير حقيقية؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، وكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش.
وأما شديد العقاب فأمره مشكل ؛ لأنه في تقدير: شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج (2) بدلاً. وفي كونه بدلاً وحده
[بين] (3) الصفات [نبوّ] (4) ظاهر، والوجه أن يقال: لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلُّها أبدالٌ غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على [مُسْتَفْعِلُنْ] (5) ، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على مُتَفَاعِلُنْ كانت من الكامل (6) .
__________
(1) ... في الأصل: الذنوب. والمثبت من الكشاف (4/152).
(2) ... انظر: معاني الزجاج (4/366).
(3) ... في الأصل: من. والتصويب من الكشاف (4/153).
(4) ... في الأصل: نبوة. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: مستفعلين. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... وقد ناقش ذلك أبو حيان في البحر (7/430) فقال: ولا نبوّ في ذلك؛ لأن الجَرْي على القواعد التي استقرت وصحت هو الأصل. وقوله: "فقد آذنت بأن كلها أبدال" تركيب غير عربي، لأنه جعل "فقد أذنت" جواب "لما" وليس من كلامهم: لما قام زيد فقد قام عمرو، وقوله: "بأن كلها أبدال" فيه تكرار الأبدال، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وأما بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها، أو منعه.(1/680)
ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حَذَفَ الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظاً، فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، ومما سهل ذلك الأمنُ [من] (1) اللبس وجهالة الموصوف.
فإن قلت: ما بال الواو في قوله: { وقابل التوب } ؟
قلتُ: فيه نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب [التائب] (2) بين رحمتين: بين أن تُقبل توبتُه فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها مَحَّاءَةً للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
$tB يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (4/153).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/681)
بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ادب
قوله تعالى: { ما يجادل في آيات الله } أي ما يجادل فيها بالباطل { إلا الذين كفروا } ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: ((مراءٌ في القرآن كفر)) (1) .
قوله تعالى: { والأحزاب من بعدهم } وهم الذين تحزبوا على الرسل. وقد فسرنا ذلك مع ما لم نذكر تفسيره هاهنا.
__________
(1) ... أخرجه أحمد (2/286 ح7835).(1/682)
قوله تعالى: { وهمت كل أمّة برسولهم } قال: [وُجِّهَتْ] (1) إلى الرجال.
وقرأ ابن مسعود: "برسولها" (2) . وكلٌّ صوابٌ.
{ ليأخذوه } قال ابن عباس: ليقتلوه (3) .
وقيل: ليحبسوه ويعذبوه (4) . ويقال للأسير: أَخِيذ.
{ فأخذتهم فكيف كان عقاب } سبق تفسيره.
{ وكذلك حقت كلمة ربك } قد سبق تفسيرها واختلاف القُرّاء فيها في الموضع الأول من يونس (5) .
{ أنهم أصحاب النار } قال الزمخشري (6) : "هم" في محل الرفع بدل من "كلمة ربك"، أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الذين كفروا كونهم من أصحاب النار. والمعنى: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل.
tûïد%©!$# يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
__________
(1) ... في الأصل: ذهبت. والصواب ما أثبتناه. انظر: تفسير الطبري (24/23).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/432)، والدر المصون (6/30).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/4)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/207).
(4) ... ذكره الماوردي (5/143) حكاية عن ابن قتيبة.
(5) ... عند الآية رقم: 33.
(6) ... الكشاف (4/155).(1/683)
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ِNخgح !$t/#uن وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ(1/684)
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ازب
ثم أخبر سبحانه وتعالى بفضل المؤمنين فقال: { الذين يحملون العرش } وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جعلوا ثمانية.
قال ابن عباس: حملة العرش ما بين [منكب] (1) أحدهم إلى أسفل قدمه مسيرة خمسمائة عام (2) .
وقال مسروق: أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، [وهم] (3) أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة، والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها (4) .
وقال مجاهد: بين الملائكة وبين العرش سبعون حجاباً من نور (5) .
__________
(1) ... في الأصل: كعب. والتصويب من الدر المنثور (7/276).
(2) ... ذكره السيوطي في الدر (7/275-276) وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) ... زيادة من الدر المنثور (7/276).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/276) وعزاه لعبد بن حميد عن ميسرة.
(5) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/691 ح19). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/336) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/685)
قال ابن عباس: لما خلق الله تعالى حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي، فلم يُطيقوا، فخلق مع كل مَلَكَ منهم مثلَ جنود من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق، فقال: احملوا عرشي فلم يُطيقوا، فخلق مع كل منهم مثلَ جنود سبع سموات وسبع أرضين، وما في الأرض من عدد وخلق، وعد الحصى والثرى، فقال: احملوا عرشي، فلم يُطيقوا، فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلما قالوها استقلوا عرش ربنا عز وجل، قال: فنفدت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستو، فكتب على كل قدم من أقدامهم اسماً من أسمائه عز وجل، فاستقر في أقدامهم (1) .
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن خلقاً من الملائكة يقال له: إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه على الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله عز وجل حتى يصير كأنه الوَصَع)) (2) .
وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أُذن لي أن أحدث عن ملك من الملائكة من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام)) (3) .
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (8/266).
(2) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/697-698 ح27). وذكره السيوطي في الدر (7/276) وعزاه لأبي الشيخ في العظمة.
... والوَصَع: الصغير من العصافير (اللسان، مادة: وَصَع).
(3) ... أخرجه أبو داود (4/232 ح4727).(1/686)
قوله تعالى: { ومن حوله } قال وهب بن منبه: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة [يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة] (1) ، ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح الآخر (2) .
وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيون، وهم سادة الملائكة (3) .
{ ويستغفرون للذين آمنوا } هذا تفسير لقوله تعالى: { ويستغفرون لمن في الأرض } .
{ ربنا } أي: يقولون ربنا { وسعت كل شيء رحمةً وعلماً } قال الزجاج (4) : النصب على التمييز.
وقال غيره: المعنى: وسعتْ رحمتُك وعلمُك كلَّ شيء (5) .
{ فاغفر للذين تابوا } من الشرك { واتبعوا سبيلك } وهو الإسلام.
قوله تعالى: { وقهم السيئات } أي: عذاب السيئات.
¨bخ) الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (7/208).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/208).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... معاني الزجاج (4/367).
(5) ... ذكره الماوردي (5/144).(1/687)
إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ(1/688)
يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اتحب
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ينادون } قال قتادة: يُنادون يوم القيامة (1) .
وقال السدي: في النار (2) .
{ لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } أي: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم.
{ إذ تُدْعَون } منصوب بالمقت الأول، والمعنى: يُقال للكافرين يوم القيامة: كان اللهُ يمقتكم حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون عليهم أشد من مقتكم اليوم لأنفسكم.
قال الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا: { لمقت ... الآية } (3) .
وقيل: المعنى: لمقتُ الله إياكم إذ عصيتموه أكبرُ من مقت بعضكم بعضاً حين يتلاعن القادة والأتباع ويتبرّأ بعضكم من بعض.
وقيل: المعنى: لمقت الله إياكم اليوم حين شاهدتم ما وُعدتم به أكبرُ من
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/46). وذكره الماوردي (5/145).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/277) وعزاه لعبد بن حميد.(1/689)
مقتكم أنفسكم.
وقوله تعالى: { إذ تدعون } : تعليل, فالمَقْتُ: أشدّ البغض. وقد سبق.
قوله تعالى: { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } أي: أمَتَّنا إماتتين وأحييتنا إحيائين، أو أمَتَّنا موتتين وأحييتنا إحيائين.
وقد سبق تفسير ذلك في أوائل البقرة في قوله تعالى: { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [البقرة:28]، وذكرنا ثمة ما هو الصحيح الذي يجب أن يعتمد عليه في التفسير.
وقال السدي: أُميتوا في الدنيا ثم أُحيوا في قبورهم، ثم أُميتوا في قبورهم ثم أُحيوا في الآخرة (1) .
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أحياهم حين أخذ الميثاق عليهم، ثم أماتهم بعده، ثم أحياهم حين أخرجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم (2) .
{ فاعترفنا بذنوبنا } وذلك أنهم كانوا ينكرون البعث في الدنيا، فلما تكررت عليهم الإماتة والإحياء علموا أن الله تعالى قادر على ذلك وعلى ما يشاء، فاعترفوا حينئذ بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وغيره.
{ فهل إلى خروج } من النار وتخليص مما نحن فيه من العذاب { من سبيل } كأنهم سألوا العود إلى الدنيا ليقروا بالبعث ويعملوا بالطاعة.
وفي الكلام محذوف، تقديره: لا سبيل لكم إلى الخروج.
قوله تعالى: { ذلكم } أي: ذلكم الذي أنتم فيه ولا تقدرون على التخلص
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/48). وذكره الماوردي (5/146).
(2) ... ذكره الماوردي (5/146).(1/690)
منه بسبب أنه { إذا دعي الله وحده } فقيل: لا إله إلا الله { كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله } فهو الذي حكم عليكم بالعذاب الشديد { العلي الكبير } : سبق تفسيرهما.
كىدùu' الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ اتذب(1/691)
قوله تعالى: { رفيع الدرجات ذو العرش } مبتدأ، خبره مقدم عليه وهو: "رفيع الدرجات" (1) .
وقرئ: "رفيعَ" بالنصب على المدح (2) .
واختلفوا في معنى "رفيع الدرجات"؛ فقال ابن عباس: يعني: رافع السموات (3) .
وقيل: عظيم الصفات (4) .
وقيل: رفعه درجات أوليائه (5) .
وقيل: هو كقوله تعالى: { ذي المعارج } [المعارج:3] وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش (6) .
وقيل: هو مَجَازٌ عن عُلوّ شأنه وعظمة سلطانه.
{ يلقي الروح } وهو الوحي. وقيل: جبريل.
{ من أمره } قال ابن عباس: من قضائه (7) .
وقال مقاتل (8) : بأمره.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/217)، والدر المصون (6/32). وفيهما: أن "رفيع الدرجات" مبتدأ، وخبره: "ذو العرش".
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/436)، والدر المصون (6/33).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/210).
(4) ... ذكره الماوردي (5/147) من قول ابن زياد.
(5) ... ذكره الماوردي (5/147) من قول يحيى.
(6) ... وهو قول الزمخشري في الكشاف (4/160).
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/7)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/211).
(8) ... تفسير مقاتل (3/145) ولفظه: بإذنه.(1/692)
وقيل: "من أمره": من قوله. وهذا يجيء على قول من قال: الروح: الوحي (1) .
{ على من يشاء من عباده } وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{ لينذر } الله، أو الروح، أو النبي الذي ألقي عليه الروح.
وقرأتُ ليعقوب من رواية زيد عنه: "لتنذر" (2) على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو لتنذر الروح؛ لأنها مؤنث.
{ يوم التلاق } وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: يلتقي فيه أهل السماوات وأهل الأرض والأولون والآخرون (3) .
وقال قتادة: يلتقي الخالق والمخلوق (4) .
وقال ميمون بن مهران: يلتقي فيه الظالم والمظلوم (5) .
وقيل: يلتقي المرء بعمله (6) .
__________
(1) ... وهو قول قتادة. أخرجه الطبري (24/49). وذكره الماوردي (5/147)، والسيوطي في الدر (7/279) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:378).
(3) ... ذكره الماوردي (5/148)، والواحدي في الوسيط (4/7)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/211).
(4) ... أخرجه الطبري (24/50). وذكره الماوردي (5/148)، والسيوطي في الدر (7/279) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/211).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/211) حكاية عن الثعلبي.(1/693)
{ يوم هم بارزون } ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا بناء ولا شيء، ولا عليهم ثياب، كما جاء في الحديث: ((يحشرون حفاةً عراةً غُرْلاً)) (1) .
{ لا يخفى على الله منهم شيء } أي: لا يخفى عليه من أعمالهم وأحوالهم شيء.
ولعمري! إن الله تعالى لا يخفى عليه شيء برزوا أو اختفوا، وإنما هذا لدفع ما توهمه الكفرة والجهلة، كما قال الله تعالى: { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } [فصلت:22].
وقيل: المعنى: يوم هم بارزون من قبورهم لا يخفى على الله منهم شيء، بل ينشرهم ويحشرهم جميعاً.
قوله تعالى: { لمن الملك اليوم } قال محمد بن كعب وأكثرُ العلماء بالتفسير: إذا أفنى الله تعالى الخلائق يقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه عز وجل فيقول: { لله الواحد القهار } (2) .
وقال ابن مسعود: يجمع الله الخلائق يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة، لم يُعص اللهُ تعالى فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد: { لمن الملك اليوم } إلى قوله تعالى: { سريع الحساب } (3) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1271 ح3263)، ومسلم (4/2194 ح2859).
(2) ... ذكره الماوردي (5/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/212).
(3) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/280) وعزاه لعبد بن حميد.(1/694)
فعلى هذا: المجيب هو المنادي.
وقال عطاء: يجيب الله تعالى نفسه فيقول: { لله الواحد القهار } (1) .
وقال ابن جريج: تجيبه الخلائق المؤمنون والكافرون فيقولون: "لله الواحد القهار" (2) .
وقوله: "اليوم" ينتصب بمدلول قوله تعالى: { لمن } ، أي: لمن ثبت الملك في هذا اليوم.
وقال قوم: الوقف على "الملك" حسن، ويبتدئ: "اليوم لله"، أي: هو ثابت لله في هذا اليوم.
ِNèdِ'ةRr&ur يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ spuZح !%s{ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/212).
(2) ... مثل السابق.(1/695)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اثةب
قوله تعالى: { وأنذرهم يوم الآزفة } وهو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأزوفه، وهو قربه، ومنه: { أزفت الآزفة } [النجم:57].
وقيل: هو يوم حضور المنية (1) .
والأول أصح.
{ إذ القلوب لدى الحناجر } وذلك أنها ترتقي من المخافة وتنتقل من مقارّها إلى الحناجر، فلا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويستريحوا، ولا تخرج فيموتوا، ولكنها معترضة كالشَّجَا (2) . وقد سبق ذكر الحناجر في الأحزاب (3) .
قال الزجاج (4) : { كاظمين } منصوب على الحال، والحال محمولة على
__________
(1) ... قاله قطرب. ذكره الماوردي (5/149)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/212).
(2) ... الشجا: ما اعترض في الحلق (القاموس، مادة: شجا).
(3) ... عند الآية رقم: 10.
(4) ... معاني الزجاج (4/369-370).(1/696)
المعنى؛ لأن القلوب لا يقال لها: كاظمين، وإنما الكاظمون أصحاب القلوب. والمعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمِهِم.
وجاء في التفسير: أن القلب [من] (1) الفزع يرتفع فيلصق بالحنجرة فلا يرجع إلى مكانه، ولا يخرج فيُسْتَراحُ من كَرْبِ غمّه.
قال الزمخشري (2) : ويجوز أن يكون حالاً عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غمٍ وكربٍ فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جَمَعَ الكاظمَ جَمْعَ السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال: { رأيتهم لي ساجدين } [يوسف:4]. ويؤيده قراءة من قرأ: "كاظمون".
ويجوز أن يكون حالاً عن قوله تعالى: { وأنذرهم } [أي: وأنذرهم] (3) مقدرين أو مشارفين الكظم، كقوله: { فادخلوها خالدين } [الزمر:73].
قال المفسرون: "كاظمين": أي: مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً (4) .
وقال قطرب: ساكتين (5) ، وأنشدوا قول الشماخ:
فظَلَّتْ كأنّ الطيرَ فوق رؤوسها ... صيامٌ تُباري الشمس وهْي كُظُوم (6)
وقال علي بن عيسى: الكاظم: الساكت على امتلائه غيظاً (7) . وقد سبق
__________
(1) ... زيادة من معاني الزجاج (4/369).
(2) ... الكشاف (4/162).
(3) ... زيادة من الكشاف (4/162).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/213).
(5) ... ذكره الماوردي (5/149).
(6) ... انظر البيت في: الماوردي (5/149) وفيه: "تنائي" بدل: "تباري"، والكشاف (4/163).
(7) ... ذكره الماوردي (5/149).(1/697)
ذكر ذلك.
قوله تعالى: { ما للظالمين من حميم } قال الحسن: من قريب (1) .
وقال مجاهد: من شقيق (2) .
{ ولا شفيع يُطاع } قال الحسن: والله ما يكون لهم شفيع البتة.
قوله تعالى: { يعلم خائنة الأعين } أي: هو يعلم. والخائنة والخيانة واحدة.
قال قتادة: وهو الغمز بالعين فيما لا يحبه الله تعالى و[لا] (3) يرضاه (4) .
قال ابن السائب: النظرة بعد النظرة (5) .
وقال ابن عباس: هو الرجل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيريهم أنه يغضُّ بصره، فإذا رأى فيهم غفلة لحظ إليها، فإن خاف أن يفطنوا له غضَّ بصره (6) .
{ وما تخفي الصدور } قال ابن عباس: ما تضمره من الفعل أن لو
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/149).
(2) ... ذكره الماوردي (5/149). وفيه: الشفيق.
(3) ... زيادة من الطبري (24/54)، وزاد المسير (7/213).
(4) ... أخرجه الطبري (24/54). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/213)، والسيوطي في الدر (7/282) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ في العظمة.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/213).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3265)، وابن أبي شيبة (4/7). وذكره السيوطي في الدر (7/282) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/698)
قدرت على ما نظرت إليه (1) .
وقال السدي: الوسوسة (2) .
وقيل: ما يضمره القلب من أمانة وخيانة (3) .
{ والله يقضي بالحق } فيجازي بالسيئة والحسنة، { والذين يدعون من دونه } وقرأ نافع وابن عامر في رواية: "تدعون" بالتاء (4) ، على معنى: قل لهم والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء.
* أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/150)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/213).
(2) ... ذكره الماوردي (5/150)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/213-214).
(3) ... ذكره الماوردي (5/150)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/214).
(4) ... الحجة للفارسي (3/346)، والحجة لابن زنجلة (ص:628-629)، والكشف (2/242)، والنشر (2/364)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:568).(1/699)
بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ اثثب
قوله تعالى: { كانوا هم أشد منهم قوة } وقرأ ابن عامر: "منكم" (1) ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، على الرجوع من الغيبة إلى الخطاب.
{ وآثاراً في الأرض } يريد: حصونهم وقصورهم.
وقال ابن جريج: المشي فيها بأرجلهم (2) .
وقال الكلبي: بُعْدُ الغاية في الطلب (3) .
وقال مقاتل (4) : طول الأعمار.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/348)، والحجة لابن زنجلة (ص:629)، والكشف (2/242)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:569).
(2) ... ذكره الماوردي (5/151).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... تفسير مقاتل (3/146).(1/700)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ(1/701)
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ اثذب
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة موسى وفرعون وحديثه مع قارون ليعتبروا فقال تعالى: { ولقد أرسلنا موسى } قال المفسرون: أعاد اللعينُ القتل على بني إسرائيل حين جاءهم موسى، فذلك قوله تعالى: { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم } .
قال قتادة: [كان] (1) فرعونُ قد كفَّ عن قتل الولدان، فلما بَعَثَ الله تعالى موسى أعاد عليهم القتل ليصدّهم بذلك عن متابعة موسى عليه الصلاة والسلام (2) .
{ وما كيد } فرعون { إلا في ضلال } أي: في ضياع وذهاب؛ لأنه ما عصمه مما أراد الله به من العذاب.
{ وقال فرعون ذروني أقتل موسى } وكانوا نهوْه عن قتله وقالوا: ليس هو بالذي تخافه، وهو أقلُّ من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة،
__________
(1) ... في الأصل: كا. والتصويب من زاد المسير (7/215).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/8)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/215).(1/702)
وكانوا قالوا له: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة.
وقيل: كان في ملئه مؤمنون من بني إسرائيل يكفونه عن قتله.
{ وليدع ربه } الذي يزعم أنه أرسله { إني أخاف أن يبدل دينكم } .
قال قتادة: أن يُغيّر أمركم الذي أنتم عليه (1) .
{ وأن يظهر } قرأ أهل الكوفة: "أو أن يظهر"، وقرأ الباقون: "وأن" (2) .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: "يُظهِرَ" بضم الياء وكسر الهاء [ { الفسادَ } بالنصب] (3) و[قرأ الباقون: "يَظْهَرَ" بفتح] (4) الياء، "الفسادُ" بالرفع (5) .
فمن قرأ: "وأن يظهر" بواو العطف، كان المعنى: إني أخاف هذه الأمرين.
ومن قرأ: "أو أن يظهر" فالمعنى: إني أخاف عليكم هذا الضرب عليكم، كما تقول: كل خبز أو تمر، أي: كل هذا الضرب من الطعام.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/57). وذكره الماوردي (5/151)، والسيوطي في الدر (7/284) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... الحجة للفارسي (3/348)، والحجة لابن زنجلة (ص:629)، والكشف (2/243)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:569).
(3) ... زيادة من زاد المسير (7/216).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... الحجة للفارسي (3/349)، والحجة لابن زنجلة (ص:630)، والكشف (2/243)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:569).(1/703)
ومن قرأ: "يُظْهِرَ" بضم الياء، أسند الفعل إلى موسى وطابق بينه وبين الفعل الذي قبله وهو يبدل، والباقون أضافوا الفعل إلى الفساد؛ لأن التبديل إذا وقع ظهر الفساد.
والمعنيُّ بظهور الفساد: تغييرُ دينهم على زعمه.
وقيل: يُظهر الفساد بقتل أبنائكم كما فعلتم بهم.
{ وقال موسى إني عُذْتُ بربي وربكم } قرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي: "عذت" بإدغام الذال في التاء لتقارب مخرجهما؛ لأنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا. وقرأ الباقون بالإظهار (1) ؛ لأن الذال ليس من مخرج التاء، إنما هي من مخرج الظاء والثاء. ثم إن الذال حرف مجهور والتاء مهموسة، والمجهور أقوى من المهموس، فإدغامه فيه إجحاف به، ونقل له من القوة إلى الضعف.
والمعنى: وقال موسى لقومه: إني استجرت بربي وربكم.
وفي قوله: "وربكم" تنبيه لهم وبعث على الاعتصام بالله { من كل متكبر } عن الخضوع لله والإيمان بفرعون وغيره { لا يؤمن بيوم الحساب } ؛ لأن انضمام كفره إلى كبره يوجب له مزيد قسوة وجرأة على الله وعباده، فلذلك استعاذ منه.
tA$s%ur رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/349-350)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:569).(1/704)
إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ(1/705)
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ اثزب
قوله تعالى: { وقال رجل مؤمن من آل فرعون } قال ابن عباس: لم يكن مؤمن غيره وغير امرأة فرعون، والرجل الذي قال لموسى: { إن الملأ يأتمرون بك } (1) .
قال السدي ومقاتل (2) : كان ابن عم فرعون.
وقال ابن السائب: كان اسمه عزقيل، وكان ملكاً على نصف الناس، وله الملك من بعد فرعون (3) .
وقال ابن عباس: اسمه: خربيل (4) .
وقال كعب وابن إسحاق: حبيب (5) .
وقيل: سمعون -بالسين المهملة- (6) .
وقيل: سمعان -بالسين والشين- (7) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3266). وذكره الماوردي (5/152)، والسيوطي في الدر (7/284-285) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (24/58). وذكره مقاتل في تفسيره (3/147)، والماوردي (5/152). وذكر مقاتل في سورة القصص (2/493): أنه حزقيل بن صابوث القبطي.
(3) ... ذكره الماوردي (5/152) وفيه أن اسمه: حزبيل.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/217) وفيه: حزبيل.
(5) ... ذكره الماوردي (5/152)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/217).
(6) ... وهو قول شعيب الجبائي. ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.
(7) ... وهو قول ابن إسحاق. ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.(1/706)
وقيل: كان المؤمن إسرائيلياً (1) .
والأول أصح.
وكان إيمانه بموسى.
وقيل: كان مؤمناً قبل مجيء موسى (2) .
والأول أظهر.
قوله تعالى: { من آل فرعون } صفة لـ"رجل". وقيل: صفة (3) لـ { يكتم } [أي] (4) يكتم { إيمانه } من آل فرعون (5) .
{ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } أي: لأن [تقتلون] (6) رجلاً يقول ربي الله.
{ وقد جاءكم } على صدقه { بالبينات } وهي اليد والعصا في جملة الآيات التسع.
{ من ربكم } أي: من عند ربكم.
فإن قيل: أين الكتمان مع هذا التصريح؟
قلت: المعنى: كان يكتم إيمانه إلى أن صدر منه هذا القول.
فإن قيل: ما المانع أن يكون التقدير: من ربكم على زعمه، بدليل قوله:
__________
(1) ... ذكره الطبري (24/58)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/217).
(2) ... ذكره الماوردي (5/152) من قول الحسن، وابن الجوزي في زاد المسير (7/217).
(3) ... في الكشاف: صلة.
(4) ... في الأصل: على. والتصويب من الكشاف (4/166).
(5) ... انظر: التبيان (2/218)، والدر المصون (6/37).
(6) ... في الأصل: تقولون. والصواب ما أثبتناه.(1/707)
{ وإن يك كاذباً فعليه كذبه } وهذا ينفي التصريح بالإيمان، أو يكون الله تعالى حكى ما في نفسه من غير أن يكون صرح بقوله: { من ربكم } ؟
قلتُ: الآية الأخرى وهي قوله: { لهم } مذكراً بأنعم الله عليهم ومحذراً لهم من زوالها، وحلول بأس الله عز وجل بهم وما يتلوها مما حكى الله عنه من قوله لقومه ما ينفي ذلك.
فإن قيل: فما معنى قوله: { وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم } ؟
قلتُ: هو استدراجٌ لهم إلى الهدى بألطف طريق، [واستنزالٌ] (1) لهم عن أذى موسى بأحسن وساطة ومناصفة.
فإن قيل: لم قال: "بعض الذي يعدكم"؟
قلتُ: قال (2) الزجاج (3) : هذا باب من النَّظَر، يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسرِ ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكل، ومثله قول الشاعر (4) :
قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجته ... وقد يكونُ مِنَ المستَعْجِلِ الزَّللُ
وإنما ذكر البعض ليوجب له الكل؛ لأن البعض من الكل، ولكن القائلَ
__________
(1) ... في الأصل: واستنزل. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... في الأصل زيادة قوله: ابن. وهو وهم.
(3) ... معاني الزجاج (4/372).
(4) ... البيت للقطامي. انظر: ديوانه (ص:23)، واللسان (مادة: بعض)، والقرطبي (15/307)، وزاد المسير (7/218)، والبحر (7/442)، والدر المصون (6/38)، ومجالس ثعلب (ص:369).(1/708)
إذا قال: أقلَّ ما يكون للمتأني إدراكُ بعض الحاجة، وأقلُّ ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضلَ المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه.
وقال الزمخشري (1) : أراد أن يَهضمه بعضَ حقه في ظاهر الكلام، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل، وكذلك قوله تعالى: { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } .
قرأتُ على الشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة، أخبركم عبد الأول. قرأ على أبي القاسم أحمد بن عبدالله العطار وأنا أسمع، أخبركم عبد الأول قال: أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد، حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير قال: قلتُ لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: ((بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } )) (2) . هذا حديث صحيح، انفرد بإخراجه البخاري، وساوى (3) فيه الإمام أحمد، فإن الإمام
__________
(1) ... الكشاف (4/167).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1814 ح4537)، وأحمد (2/204 ح6908).
(3) ... المساواة: هي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين (نخبة الفكر ص:21).(1/709)
رواه في مسنده عن علي بن عبدالله، هو ابن المديني.
وأخرج ابن ودعان في كتابه المعروف بالتخريج النظامي بإسناده عن محمد بن عقيل قال: قال علي عليه السلام يوماً وهو في جماعة من الناس: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أشجع الناس أبو بكر رضي الله عنه، لما كان يوم بدر، جعلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشاً [فقلنا] (1) : من يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يَصِلَ إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر [شاهراً] (2) السيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: واجتمع المشركون عليه بمكة، قال علي: فهذا يجأه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت [الذي] (3) جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فوالله ما دنا إليه منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. ثم قال علي عليه السلام: أنشدكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم [أبو] (4) بكر؟ قال: فسكت القوم فقال: ألا تجيبوني؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه، وأبو بكر رجل أظهر إيمانه (5) .
قوله تعالى: { يا قوم } من تمام كلام المؤمن { لكم الملك اليوم ظاهرين
__________
(1) ... في الأصل: قلنا. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... في الأصل: شاهر. والتصويب من مصادر التخريج.
(3) ... زيادة من البزار (3/15).
(4) ... في الأصل: أبي. والتصويب من مصادر التخريج.
(5) ... أخرجه البزار في مسنده (3/15 ح761). وذكره الهيثمي في مجمعه (9/46-47) وعزاه للبزار وقال: فيه من لم أعرفه.(1/710)
في الأرض } يريد: أرض مصر { فمن ينصرنا من بأس الله } أي: من عذابه.
ذكَّرهم نعمة الملك والاستيلاء، ثم حذرهم زواله بسبب الكفر وقتل النبي المبعوث إليهم، [وضم] (1) نفسه في جملتهم فقال: { فمن ينصرنا من بأس الله } ملاطفة وحسن عشرة.
فلما ظهرت الحجة أَخَذَ اللعينُ يُموّه ويقول: { ما أريكم } .
قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي (2) .
وقيل: ما أريكم إلا ما أرى من قتله، يعني: ما أستصوبُ إلا قتله.
{ وما أهديكم } بهذا الرأي { إلا سبيل الرشاد } أي: طريق الصواب.
قال بعض العلماء (3) : كان اللعين مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، وكان يخاف أن يعاجل بالهلاك إن أوقع به مكروهاً، فكان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً في أذى موسى عليه الصلاة والسلام ولعاجله بالقتل وغيره.
tA$s%ur ü"د%©!$# z`tB#uن ةQِqs)"tƒ 'خoTخ) ك$%s{r& Nن3ّn=tو ں@÷WدiB دQِqtƒ
__________
(1) ... في الأصل: ونضم.
(2) ... ذكره الماوردي (5/154).
(3) ... هو الزمخشري، انظر: الكشاف (4/168).(1/711)
ة>#t"ômF{$# اجةب ں@÷WدB ة>ù&yٹ دQِqs% 8yqçR 7ٹ%tوur yٹqكJrOur tûïد%©!$#ur .`دB ِNدdد‰÷èt/ $tBur ھ!$# ك‰ƒجچمƒ $VJù=àك دٹ$t7دèù=دj9 اجتب دQِqs)"tƒur 'خoTخ) ك$%s{r& ِ/ن3ّn=tو tPِqtƒ دٹ$uZF9$# اجثب tPِqtƒ tbq-9uqè? tûïجچخ/ô‰مB $tB Nن3s9 z`دiB "!$# ô`دB 5Oد¹%tو `tBur ب@خ=ôزمƒ ھ!$# $yJsù ¼çms9 ô`دB 7ٹ$yd اججب
{ وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم } يعني: إن أقمتم على كفركم { مثل يوم الأحزاب } أي مثل أيامهم، كقول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... ... ...................... (1)
ثم فسر فقال: { مثل دأب قوم نوح وثمود والذين من بعدهم } أي: أخافُ عليكم مثلَ جزاء دأبهم، أي: عادتهم في الإقامة على الكفر، فينزل بكم مثل
__________
(1) ... تقدم.(1/712)
ما نزل بهم.
وقيل: الثاني عطف بيان للأول (1) .
{ ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } وقرأ ابن كثير ويعقوب: "التنادي" بإثبات الياء في الحالين، وافقهما وَرْش في الوصل (2) .
قال الزجاج (3) : الأصل إثبات الياء، وحذفها حسن جميل؛ لأن الكسرة تدل على الياء وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدال (4) .
والمراد: يوم القيامة، سمي بذلك؛ لمناداة بعضهم بعضاً.
قال ابن جريج: هو قولهم: يا حسرتنا، يا ويلتنا (5) .
وقال غيره: يُنادى كلُّ أناس بإمامهم (6) .
وقال قتادة: ينادي أهل الجنة أهل النار { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } [الأعراف:44]، وينادي أهل النار أهل الجنة { أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } (7) [الأعراف:50].
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/39).
(2) ... الحجة للفارسي (3/347)، والحجة لابن زنجلة (ص:627-628)، والكشف (2/246)، والإتحاف (ص:378)، والسبعة (ص:568).
(3) ... معاني الزجاج (4/373).
(4) ... قال محقق معاني الزجاج: هكذا في الأصل، ويبدو أنه "على الكسر" فهذا ما يقتضيه السياق.
(5) ... ذكره الماوردي (5/154)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/221).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، الموضع السابق.
(7) ... أخرجه الطبري (24/61). وذكره السيوطي في الدر (7/287) وعزاه لعبد بن حميد.(1/713)
وقرأ جماعة؛ منهم: أبو بكر الصديق وابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبو العالية والضحاك رضي الله عنهم: "التَّنَادّ" بتشديد الدال من غير ياء (1) ، من قولهم: ندّ فلان وندّ البعير؛ إذا هرب على وجهه (2) .
فالمعنى: يوم يندّ الناسُ بعضُهم من بعض، وهو قوله تعالى: { يوم تولون مدبرين } ، ومثله: { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه } [عبس:34-35].
قال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هراباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا رأوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: { يوم تولون } فراراً من النار (3) .
وقال قتادة: منصرفين من موقف الحساب إلى النار (4) .
{ ما لكم من الله من عاصم } أي: من مانع.
وفي قائل: { ومن يضلل الله فما له من هاد } قولان:
أحدهما: أنه موسى عليه السلام (5) .
والثاني: مؤمن آل فرعون (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (24/61)، وزاد المسير (7/219).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: ندد).
(3) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:103)، والطبري (24/61). وذكره السيوطي في الدر (7/286-287) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (24/62). وذكره الماوردي (5/155).
(5) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/155).
(6) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/155).(1/714)
ô‰s)s9ur ِNà2uن!%y` ك#ك™qمƒ `دB م@ِ6s% دM"uZةi t7ّ9$$خ/ $yJsù ÷Lنêّ9خ- 'خû 7e7x© $£JدiB Nà2uن!%y` ¾دmخ/ #س¨Lym #sŒخ) ڑپn=yd َOçFù=è% `s9 y]yèِ7tƒ ھ!$# .`دB ¾حnد‰÷èt/ Zwqك™u' y7د9؛xں2 '@إزمƒ ھ!$# ô`tB uqèd ش$جچَ،مB ë>$s?ِچoB اجحب ڑْïد%©!$# tbqن9د‰"pgن† 'خû دM"tƒ#uن "!$# خژِچtَخ/ ?`"sـù=ك™ ِNكg9s?r& uژم9ں2 $¹Gّ)tB y‰Zدم "!$# y‰Zدمur tûïد%©!$# (#qمZtB#uن ڑپد9؛xx. كىt7ôـtƒ ھ!$# 4'n?tم بe@à2 ة=ù=s% 9ژةi9s3tFمB 9'$6y_ اجخب
قوله تعالى: { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } أي: ولقد جاءكم(1/715)
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين من قبل موسى بالدلالات الواضحات على وحدانية الله تعالى. وهذا قول عامة المفسرين (1) .
وحكى النقاش عن الضحاك: أنه رسول من الجن يقال له: يوسف (2) . وليس بشيء.
{ حتى إذا هلك قلتم } قولاً من عند أنفسكم غير مستند إلى حجة: { لن يبعث الله من بعده رسولاً } فأقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يؤكد حجته عليكم ولا يرسل رسولاً إليكم، { كذلك } أي: مثل ذلك الضلال { يضل الله من هو مسرف } كافر { مرتاب } شاكٌّ في الله تعالى وفي رسله عليهم الصلاة والسلام.
قوله تعالى: { الذين يجادلون } قال الزجاج (3) : هو في موضع نصب على الرد على "مَنْ"، أي: كذلك يضل الله الذين يجادلون { في آيات الله } بغير حجة أتتهم.
ويجوز أن يكون موضع "الذين" رفعاً، على معنى: مَنْ هُوَ مُسرفٌ مرتابٌ [هم] (4) الذين يجادلون في آيات الله.
__________
(1) ... ذكره الطبري (24/63)، والماوردي (5/155).
(2) ... ذكره الماوردي (5/155).
(3) ... معاني الزجاج (4/374).
(4) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/716)
وقال صاحب الكشاف (1) : { الذين يجادلون } بدل من { من هو مسرف } .
فإن قلت: كيف يجوز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟
قلتُ: لأنه لا يريد مسرفاً واحداً، فكأنه قال: كل مسرف.
فإن قلت: ما فاعل "كَبُرَ"؟
قلتُ: [ضمير] (2) من هو مسرف.
فإن قلتَ: أما قلت هو جمع، ولهذا أبدلت منه "الذين يجادلون"؟
قلتُ: بلى، هو جمع في المعنى. وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه. ويجوز أن يرفع "الذين يجادلون" على الابتداء، ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في "كَبُرَ"، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتاً، ويحتمل أن يكون "الذين يجادلون" مبتدأ؛ و "بغير سلطان أتاهم" خبراً، وفاعل "كَبُرَ" قوله تعالى: { كذلك } أي: كَبُرَ مقتاً مثل ذلك الجدال، و { يطبع الله } كلام مستأنف.
قال المفسرون: يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير حجة واضحة أتتهم من الله.
و"مَقْتَاً" نصب على التمييز.
{ كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } قرأ أبو عمرو وابن عامر بخلاف عنه: "قلبٍ" بالتنوين، على وصف القلب بالتكبر والتجبر؛ لأنه مقرهما، أو على معنى: على كل ذي قلب، فيجعل الصفة لصاحب القلب.
__________
(1) ... الكشاف (4/170-171).
(2) ... زيادة من الكشاف (4/171).(1/717)
وقرأ الباقون: "قلبِ" بغير تنوين على الإضافة (1) .
قال الزجاج (2) : وهو الوجه؛ لأن المتكبر هو الإنسان.
tA$s%ur مbِqtمِچدù ك`"yJ"yg"tƒ بûَّ$# 'ح< %[n÷ژ|ہ 'جj?yè©9 à÷è=ِ/r& |="t7َ™F{$# اجدب |="t7َ™r& دN؛uq"yJ،،9$# yىخ=©غr'sù #'n<خ) دm"s9خ) 4سyqمB 'خoTخ)ur ¼çm'ZàكV{ $\/ة"ں2 y7د9؛xں2ur tûةiïم- tbِqtمِچدےد9 âن qك™ ¾د&خ#yJtم £‰ك¹ur ا`tم ب@خ6،،9$# $tBur ك‰ّں2 ڑcِqtمِچدù wخ) 'خû 5>$t6s? اجذب tA$s%ur ü"د%©!$#
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/350)، والحجة لابن زنجلة (ص:630)، والكشف (2/243-244)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:378-379)، والسبعة (ص:570).
(2) ... معاني الزجاج (4/374).(1/718)
ڑئtB#uن ةQِqs)"tƒ بbqمèخ7¨?$# ِNà2د‰÷dr& ں@خ6y™ دٹ$x©چ9$# اجرب ةQِqs)"tƒ $yJ¯Rخ) حnة"yd نo4quysّ9$# $u÷R'‰9$# سى"tFtB ¨bخ)ur notچإzFy$# }'دd â'#yٹ ح'#tچs)ّ9$# اجزب ô`tB ں@دJtم Zpy¥حhٹy™ ںxsù #"t"ّgن† wخ) $ygn=÷WدB ô`tBur ں@دJtم $[sخ="|¹ `دiB @چں2sŒ ÷rr& 4†s\Ré& uqèdur رئدB÷sمB y7ح´¯"s9'ré'sù ڑcqè=نzô‰tƒ sp¨Ypgّ:$# tbqè%y-ِچمƒ $pkژدù خژِچtَخ/ 5>$|،دm احةب
وما بعده مفسر في القصص (1) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 38.(1/719)
قوله: { لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات } يعني: أبوابها وطرقها. وهذا قول عامة المفسرين واللغويين (1) . وأنشد الأخفش:
ومنْ هَابَ أسبابَ المنايا يَنلْنَهُ ... ولوْ رَامَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ (2)
{ فأطلعُ إلى } وقرأ حفص: "فأطلعَ" بالنصب (3) ، على جواب الترجي تشبيهاً له بالتمني.
{ وكذلك } أي: ومثل ذلك التزين وذلك الصَّد { زين لفرعون سوء عمله وصدّ عن السبيل } ، والفاعل للتزيين والصد هو الله تعالى بالقدر والقضاء، أو الشيطان بالوسوسة والإغواء. وقد ذكرنا اختلاف القراء في "وصُدَّ" في سورة الرعد (4) .
{ وما كيدُ فرعون إلا في تباب } أي: خسران وهلاك.
ثم [عاد] (5) إلى الإخبار عن نصيحة مؤمن آل فرعون، وما وَعَظَ به قومه وذكَّرَهُم به، فقال: { وقال الذي آمن يا قوم اتبعون } وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين، وافقهما في الوصل وَرْش وأبو جعفر والولي (6) عن أبي عثمان عن الدوري، وعبد الوارث عن أبي عمرو،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/64-65) عن السدي، عن أبي صالح. وذكره الماوردي (5/156).
(2) ... البيت لزهير، انظر: ديوانه (ص:111)، والقرطبي (2/206)، والدر المصون (1/431).
(3) ... الحجة للفارسي (3/351)، والحجة لابن زنجلة (ص:631)، والكشف (2/244)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:379)، والسبعة (ص:570).
(4) ... عند الآية رقم: 33.
(5) ... في الأصل: عاده. والصواب ما أثبتناه.
(6) ... هو: أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل الدقاق الولي لله. (انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 1/94).(1/720)
والباقون بغير ياء في الحالين (1) .
{ أهدكم سبيل الرشاد } طريق الهدى.
وفيه تعريض لفرعون وقومه بأنهم على نقيض ذلك، وهي الغي.
قوله تعالى: { من عمل سيئة } يريد: الشرك. وقيل: المعاصي.
{ فلا يجزى إلا مثلها } أي: بمقدارها.
قوله تعالى: { يدخلون الجنة } قرئ: "يَدْخُلُون" و"يُدْخَلُون" على البناء للفاعل والمفعول (2) . وقد سبق ذكره.
{ يرزقون فيها بغير حساب } أي: بغير تقدير، بل ما شاؤوا من الزيادة وما لم تبلغه الأماني.
* دQِqs)"tƒur $tB 'ح< ِNà2qمم÷ٹr& 'n<خ) حo4qyf¨Z9$# û_ح_tRqممô‰s?ur 'n<خ) ح'$¨Z9$# احتب سح_tRqممô‰s? tچàےٍ2L{ "!$$خ/ x8خژُ°é&ur ¾دmخ/ $tB }ّٹs9
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:379).
(2) ... الحجة للفارسي (3/352-353)، والحجة لابن زنجلة (ص:632)، والكشف (1/397)، والإتحاف (ص:379)، والسبعة (ص:571).(1/721)
'ح< ¾دmخ/ ضNù=دو O$tRr&ur ِNà2qمم÷ٹr& 'n<خ) ح"ƒح"yèّ9$# جچ"Oےtَّ9$# احثب ںw uQtچy_ $yJ¯Rr& ûسح_tRqممô‰s? دmّs9خ) }ّٹs9 ¼çms9 ×ouqôمyٹ 'خû $u÷R'‰9$# ںwur 'خû حotچإzFy$# ¨br&ur !$tR¨ٹtچtB 'n<خ) "!$# cr&ur tûüدùخژô£كJّ9$# ِNèd ـ="ysô¹r& ح'$¨Z9$# احجب ڑcrمچن.ُtF|،sù !$tB مAqè%r& ِNà6s9 قعبhqsùé&ur ü"جچّBr& 'n<خ) "!$# cخ) ©!$# 7ژچإءt/ دٹ$t6دèّ9$$خ/ اححب çm9s%uqsù ھ!$# إV$t"حhٹy™ $tB (#rمچx6tB s-%tnur ةA$t"خ/ tbِqtمِچدù(1/722)
âن qك™ ة>#xyèّ9$# احخب â'$¨Y9$# ڑcqàتtچ÷èمƒ $pkِژn=tو #xrك‰نî $|د±tمur tPِqtƒur مPqà)s? èptم$،،9$# (# qè=إz÷ٹr& tA#uن ڑcِqtمِچدù £‰x©r& ة>#xyèّ9$# احدب
وما بعده ظاهر ومفسر إلى قوله تعالى: { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } أي: ليس له استجابة دعوة.
وقال ابن السائب: ليس له شفاعة (1) .
قوله تعالى: { فستذكرون } وقرأ ابن مسعود وأبو العالية: "فستذَكَّرون" بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها (2) .
وقرأ أبي بن كعب: بفتح الذال والكاف وتشديدهما (3) .
والمعنى: فستذكرون في الآخرة.
وقيل: عند نزول العذاب بكم (4) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/158)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/225).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/225-226).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/226).
(4) ... هو قول النقاش. ذكره الماوردي (5/158).(1/723)
{ ما أقول لكم } من النصيحة { وأفوض أمري إلى الله } معتصماً به متوكلاً عليه. وكانوا توعدوه لمخالفته دينهم، { إن الله بصير بالعباد } أوليائه وأعدائه.
قال المفسرون (1) : ثم إن المؤمن خرج من بين أظهرهم، فلم يَقْدِرُوا عليه، ونجا مع موسى حين جاوز البحر، فذلك قوله تعالى: { فوقاه الله سيئات ما مكروا } أي: ما دبروه فيما بينهم ليغتالوه به، { وحاق بآل فرعون } أحدق بهم وأحاط بهم { سوء العذاب } أشده وأقبحه، وهو الغرق. وقد ذكرناه في البقرة.
أو يكون المراد بسوء العذاب: ما أعدّ الله تعالى لهم في الآخرة من عذاب الجحيم، فيكون قوله تعالى: { النار } بدلاً من "سوء العذاب"، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو النار. وعلى الأول: "النار" مبتدأ، خبره: { يعرضون عليها } (2) .
قال ابن مسعود وابن عباس: إن أرواح آل فرعون في [أجواف] (3) طير سود، يُعرضون على النار كل يوم مرتين، فيقال: يا آل فرعون هذه داركم (4) .
__________
(1) ... انظر: الطبري (24/70)، والماوردي (5/159)، والدر المنثور (7/290).
(2) ... انظر: التبيان (2/219)، والدر المصون (6/44).
(3) ... في الأصل: أجوف. والتصويب من المصادر التالية.
(4) ... أخرج نحوه ابن أبي حاتم (10/3267). وذكره الماوردي (5/159)، والواحدي في الوسيط (4/16)، والسيوطي في الدر (7/291) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.(1/724)
وقال حماد بن محمد [الفزاري] (1) : سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: يرحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية المغرب فوجاً فوجاً، فلا يَعْلَمُ عَدَدَها إلا اللهُ تعالى، فإذا كان العشاء رجع مثلها سوداً. قال: فطنتم لذلك؟ قال: نعم. قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداً، فينبت عليها من الليل رياش بيض، وتتناثر السود، ثم تغدو فيعرضون على النار غدواً وعشياً، ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: { أدْخِلُوا آل فرعون أشد العذاب } (2) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة)) (3) .
وفي هذه الآية حجة على صحة عذاب القبر.
{ ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون } قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو
__________
(1) ... في الأصل: القاري. والتصويب من مصادر التخريج. وانظر ترجمته في: ضعفاء العقيلي (1/313).
(2) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه: من عاش بعد الموت (ص:44)، والطبري (24/71). وذكره السيوطي في الدر (7/291) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب: من عاش بعد الموت، وابن جرير.
(3) ... أخرجه البخاري (1/464 ح1313)، ومسلم (4/2199 ح2866).(1/725)
عمرو وأبو بكر: "الساعة ادخُلوا" بالوصل وضم الخاء، والابتداء على قراءتهم بضم الهمزة. وقرأ الباقون: "أَدْخِلُوا" بهمزة مقطوعة مفتوحة وصلاً ووقفاً، وكسر الخاء (1) ، على معنى الأمر للملائكة بإدخال آل فرعون { أشد العذاب } ، أي: أفظع عذاب في نار جهنم.
ّŒخ)ur ڑcqo_!$ystFtƒ 'خû ح'$¨Z9$# مAqà)usù (#às¯"xےyè'ز9$# ڑْïد%©#د9 (#ےrçژy9ٍ6tFَ™$# $¯Rخ) $¨Zن. ِNن3s9 $Yèt7s? ِ@ygsù OçFRr& ڑcqمYَّoB $¨Ztم $Y7ٹإءtR ڑئدiB ح'$¨Z9$# احذب tA$s% ڑْïد%©!$# (#ےrçژy9ٍ6tFَ™$# $¯Rخ) @@ن. !$ygٹدù cخ) ©!$# ô‰s% zNs3ym ڑْ÷üt/ دٹ$t6دèّ9$# احرب tA$s%ur tûïد%©!$# 'خû
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/352)، والحجة لابن زنجلة (ص:633)، والكشف (2/245)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:379)، والسبعة (ص:572).(1/726)
ح'$¨Z9$# دptRt"y‚د9 zO¨Yygy_ (#qمم÷ٹ$# ِNن3/u' ô#دeےsƒن† $¨Ztم $YBِqtƒ z`دiB ة>#xyèّ9$# احزب (# qن9$s% ِNs9urr& غپs? ِNن3ٹد?ù's? Nà6è=ك™â' دM"uZةi t7ّ9$$خ/ (#qن9$s% 4'n?t/ (#qن9$s% (#qمم÷ٹ$$sù $tBur (#às¯"tمكٹ tûïحچدے"x6ّ9$# wخ) 'خû @@"n=|ت اخةب
قوله تعالى: { وإذ يتحاجون في النار } أي: اذكر لقومك يا محمد إذ يتخاصمون، يعني: أهل النار في النار. وقد سبق تفسير ذلك (1) .
قوله تعالى: { إنا كنا لكم تبعاً } هو جمع تابع، كخدم وخادم. أو يكون بمعنى: إنا كنا لكم ذوي تبع.
قوله تعالى: { إنا كل فيها } أي: نحن وأنتم فيها.
__________
(1) ... في سورة إبراهيم، آية رقم: 21.(1/727)
وقرأ ابن السميفع: "كُلاًّ" بالنصب (1) ، على التأكيد لاسم "إنَّ" وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا فيها.
قال الزمخشري (2) : إن قلت: هل يجوز أن يكون "كلاًّ" حالاً قد عمل ["فيها"] (3) فيها؟
قلتُ: لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول: كل يوم لك ثوب، ولا تقول: قائماً في الدار زيد.
{ إن الله قد حكم بين العباد } قضى وفصل بينهم بإدخال المؤمنين الجنة وإدخال الكافرين النار.
{ وقال الذين في النار } على وجه الاستغاثة حين لم تنفعهم الاستغاثة { لخزنة جهنم } القُوَّامُ بأمرها، وفي ذكرها باسمها تفخيم وتهويل لها { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } .
{ قالوا } موبخين لهم قاطعين لمعذرتهم { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا } كلام يلوح منه خيبتهم، دعوا أو لم يدعو.
ثم آيسوهم من استجابتهم فقالوا: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } .
$¯Rخ) çژفاZoYs9 $oYn=ك™â' ڑْïد%©!$#ur (#qمZtB#uن 'خû
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/448)، والدر المصون (6/46).
(2) ... الكشاف (4/175).
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/728)
حo4quٹptّ:$# $u÷R'‰9$# tPِqtƒur مPqà)tƒ ك‰"ygô©F{$# اختب tPِqtƒ ںw كىxےZtƒ tûüدJخ="©à9$# ِNهkèEu'ة÷ètB مNكgs9ur èpuZ÷è¯=9$# ِNكgs9ur âن qك™ ح'#O$!$# اخثب ô‰s)s9ur $oY÷ s?#uن سyqمB 3"y‰كgّ9$# $oYّOu'÷rr&ur ûسح_t/ ں@ƒدنآtچَ™خ) |="tFإ6ّ9$# اخجب "W‰èd 3"tچٍ2دŒur 'ح<'rT{ ة="t6ّ9F{$# اخحب ÷ژة9ô¹$$sù cخ) y‰ôمur "!$# A,ym ِچدےَّtGَ™$#ur ڑپخ7/Rs%خ! ôxخm7y™ur د‰ôJpt؟2 y7خn/u' ؤcسإ´yèّ9$$خ/ جچ"x6ِ/M}$#ur اخخب ¨bخ)(1/729)
ڑْïد%©!$# ڑcqن9د‰"pgن† 'خû دM"tƒ#uن "!$# خژِچtَخ/ ?`"sـù=ك™ ِNكg9s?r& bخ) 'خû ِNدdح'rك‰ك¹ wخ) ×ژِ9إ2 $¨B Nèd دmٹةَخ="t6خ/ ُدètGَ™$$sù "!$$خ/ ¼çm¯Rخ) uqèd كىٹدJ،،9$# çژچإءt7ّ9$# اخدب
قوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } قال أبو العالية: ننصرهم بالحجة (1) .
وقيل: بالانتقام من أعدائهم (2) .
قال السدي: ما قَتَلَ قومٌ قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بَعث الله تعالى عليهم من ينتقم لهم، فصاروا منصورين في الحياة الدنيا وإن قُتلوا (3) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3267). وذكره السيوطي في الدر (7/292) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (5/160).
(3) ... ذكره الماوردي (5/160).(1/730)
وقيل: ننصرهم بجعل العاقبة لهم (1) .
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (2) : وفصلُ الخطاب أن نصرهم حاصل لا بُدَّ منه، فتارة يكون بإعلاء أمرهم كما أعطي داود وسليمان من المُلْك ما قهرا به كل كافر، وأظهر محمداً - صلى الله عليه وسلم - على مكذبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم [بإنجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه، وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذبيهم] (3) بعد وفاة الرسل، كتسليطه بختنصر على قتلة يحيى بن زكريا.
{ ويوم يقوم الأشهاد } عطف على ما قبله، أي: ننصرهم في الدنيا، وننصرهم يوم يقوم الأشهاد، وهو جمع شاهد؛ كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد، مثل: شريف وأشراف، وهم الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: "تنفع" بالتاء؛ لتأنيث لفظ المعذرة، وقرأ الباقون بالياء (4) ؛ لأن المعذرة والعذر بمعنى واحد. وقد سبق القول [في] (5) نظائره. واليوم الثاني بدل من
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/230).
(2) ... زاد المسير (7/230).
(3) ... زيادة من زاد المسير (7/230).
(4) ... الحجة للفارسي (3/353)، والحجة لابن زنجلة (ص:634)، والكشف (2/245)، والنشر (2/365)، والإتحاف (ص:379)، والسبعة (ص:572).
(5) ... زيادة على الأصل.(1/731)
الأول (1) .
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الهدى } وهو جميع ما أوتيه من الآيات والمعجزات وشرائع الدين، { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } التوراة.
{ هدى وذكرى } مفعول له، أو حال (2) .
{ فاصبر } يا محمد على ما يُجَرِّعُك قومك من الغصص { إن وعد الله حق } بنصرك وإعلاء كلمتك، وكون العاقبة لك ولأمتك حق كائن ثابت لا محالة.
وكثير من المفسرين يقول: الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف (3) .
{ واستغفر لذنبك } قال الماوردي (4) : أي من ذنب إن كان منك.
وقال الزمخشري (5) : أقبل على التقوى [واستدرِكْ] (6) الفرطات بالاستغفار.
{ وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } قال ابن عباس: صَلِّ الصلوات الخمس (7) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/219)، والدر المصون (6/47).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/48).
(3) ... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:152)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:53).
(4) ... تفسير الماوردي (5/161).
(5) ... الكشاف (4/177).
(6) ... في الأصل: واستدراك. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/18)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/232).(1/732)
وقال الحسن: هي صلاةٌ كانت قبل أن تفرض الصلوات الخمس؛ ركعتان غدوة، وركعتان عشية (1) .
وقيل: نزِّه ربك وأثْنِ عليه.
قوله تعالى: { إنْ في صدورهم إلا كبْرٌ } يعني: كفار مكة، { ما هم ببالغيه } أي: ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضاه، وهو ما كانوا يتعلقون به من الرئاسة والنفاسة عليك.
{ فاستعذ بالله } مستعيناً به مستجيراً بعزّته من كيدهم ومكرهم وبغيهم وحسدهم.
وذهب جماعة من المفسرين -منهم مقاتل (2) -: إلى أنها نزلت في اليهود، وذلك أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن صاحبنا المسيح بن داود -يعنون: الدّجّال- يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، ويَرُدُّ الملكَ إلينا، وتسيرُ معه الأنهار، وإنه من آيات الله، فأنزل الله هذه الآية، وأمره بالاستعاذة من الدجال.
{ إنه هو السميع } لما تقول ويقولون { البصير } بما تعمل ويعملون، فهو عاصمك منهم وناصرك عليهم.
ك,ù=yـs9 دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur çژt9ٍ2r& ô`دB
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/161)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/233).
(2) ... تفسير مقاتل (3/153).(1/733)
ب,ù=yz ؤ¨$¨Y9$# £`إ3"s9ur uژsYٍ2r& ؤ¨$¨Y9$# ںw tbqكJn=ôètƒ اخذب $tBur "بqtGَ،o" 4'yJôمF{$# çژچإءt7ّ9$#ur tûïد%©!$#ur (#qمZtB#uن (#qè=دHxهur دM"ysخ="¢ء9$# ںwur âنû_إOكJّ9$# Wxٹخ=s% $¨B ڑcrمچ©.xtGs? اخرب ¨bخ) sptم$،،9$# ×puٹد?Uy w |=÷ƒu' $ygٹدù £`إ3"s9ur uژsYٍ2r& ؤ¨$¨Z9$# ںw ڑcqمYدB÷sمƒ اخزب tA$s%ur مNà6ڑ/u' 'خTqمم÷ٹ$# َ=ةftGَ™r& ِ/ن3s9 ¨bخ) ڑْïد%©!$# tbrçژة9ُ3tGَ،o" ô`tم 'خAyٹ$t6دم tbqè=نzô‰uy™ tL©èygy_ ڑْïجچإz#yٹ ادةب
ولما كان معظم جدالهم في آيات الله لإنكار البعث، قال الله تعالى:(1/734)
{ لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } .
وبعده مفسر إلى قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قال ابن عباس: وَحِّدُوني واعبدوني أُثِبْكم (1) .
وقال السدي: سلوني أُعْطِكم (2) .
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي } يترتب على القولين.
قرأتُ على الشيخ أبي المجد محمد بن الحسين بن أحمد، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد المعروف بحفدة العطاري، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (3) ، أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن [أحمد] (4) بن عبدالجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن منصور، عن ذر (5) ، عن يسيع الكندي (6) ، عن النعمان بن
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/162)، والواحدي في الوسيط (4/19)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/234).
(2) ... ذكره الماوردي (5/162)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/234).
(3) ... تفسير البغوي (4/103).
(4) ... في الأصل: محمد. والتصويب من تفسير البغوي (4/103). وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (14/433-435).
(5) ... ذر بن عبد الله المرهبي الهمداني، أبو عمر الكوفي، كان من عُبّاد أهل الكوفة، ثقة صدوق في الحديث، رمي بالإرجاء (تهذيب التهذيب 3/189، والتقريب ص:203).
(6) ... يسيع بن معدان الحضرمي، ويقال: سنان الكوفي، ثقة (تهذيب التهذيب 11/333، والتقريب ص:607).(1/735)
بشير (1) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: ((إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } )) (2) . هذا حديث حسن لا يُعرف إلا من حديث ذر.
قرأ ابن كثير وأبو بكر والعباس وعبدالوارث عن أبي عمرو: "سَيُدْخَلون" على البناء للمفعول. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء، على البناء للفاعل (3) .
"داخرين": صاغرين.
ھ!$# "د%©!$# ں@yèy_ مNن3s9 ں@ّٹ©9$# (#qمZن3َ،oKد9 دmدù u'$yg¨Y9$#ur #·چإءِ6مB cخ) ©!$# rن%s! @@ôزsù 'n?tم ؤ¨$¨Z9$# £`إ3"s9ur uژsYٍ2r& ؤ¨$¨Y9$# ںw ڑcrمچن3ô±o" ادتب
__________
(1) ... النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله المدني، له ولأبويه صحبة، سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنة (تهذيب التهذيب 10/399-400، والتقريب ص:563).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/456 ح3372).
(3) ... الحجة للفارسي (3/353)، والحجة لابن زنجلة (ص:635)، والكشف (2/245)، والنشر (2/252)، والإتحاف (ص:379)، والسبعة (ص:572).(1/736)
مNà6د9؛sŒ ھ!$# ِNن3ڑ/u' ك,خ="yz بe@à2 &نَسx" Hw tm"s9خ) wخ) uqèd 4'¯Tr'sù tbqن3sù÷sè? ادثب ڑپد9؛xx. à7sù÷sمƒ ڑْïد%©!$# (#qçR%x. دM"tƒ$t"خ/ "!$# tbrك‰ysّgs† ادجب ھ!$# "د%©!$# ں@yèy_ مNà6s9 uعِ'F{$# #Y'#tچs% uن!$yJ،،9$#ur [ن!$oYخ/ ِNà2u'q|¹ur z`|،ômr'sù ِNà2u'uqك¹ Lنls%y-u'ur z`دiB دM"t6حh©ـ9$# مNن3د9؛sŒ ھ!$# ِNà6ڑ/u' ڑ‚u'$t6tGsù ھ!$# Uu' ڑْüدJn="yèّ9$# ادحب uqèd ژ†ysّ9$# Iw tm"s9خ) wخ) uqèd çnqمم÷ٹ$$sù tûüإءخ=ّƒèC م&s! ڑْïدe$!$# ك‰ôJptّ:$# ! ةb>u'(1/737)
tûüدJn="yèّ9$# ادخب * ِ@è% 'خoTخ) àMٹخgçR ÷br& y‰ç6ôمr& ڑْïد%©!$# tbqممô‰s? `دB بbrكٹ "!$# $£Js9 u'خTuن!%y` àM"oYةi t6ّ9$# `دB 'خn1' كNِچدBé&ur ÷br& zNخ=َ™é& ةb>tچد9 ڑْüدJn="yèّ9$# اددب uqèd "د%©!$# Nà6s)n=s{ `دiB 5>#tچè? NèO `دB 7pxےُـœR NèO ô`دB 7ps)n=tو NèO ِNن3م_جچّƒن† Wxّےدغ NèO (# qنَè=ِ7tFد9 ِNà2£‰ن©r& ¢OèO (#qçRqن3tFد9 %Y{qمٹن© Nن3ZدBur `¨B 4'¯ûuqtGمƒ `دB م@ِ6s% (# qنَè=ِ7tFد9ur Wxy_r& 'wK|،oB ِNà6¯=yès9ur ڑcqè=ة)÷ès? ادذب uqèd "د%©!$# ¾ا'ّtن† àMدJمƒur(1/738)
#sŒخ*sù #س|سs% #\چّBr& $yJ¯Rخ*sù مAqà)tƒ ¼çms9 `ن. مbqن3uٹsù ادرب
وما بعده سبق تفسيره في مواضع متفرقة (1) إلى قوله تعالى: { ثم لتبلغوا أشدكم } متعلق بفعل محذوف، تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا، أو كذلك لتكونوا. [وأما] (2) قوله تعالى: { ولتبلغوا أجلاً مسمى } فمحمول على معنى: ولنفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى، وهو وقت الموت، وقيل: يوم القيامة.
{ ولعلكم تعقلون } ما في ذلك من العبر والحجج على قدرة الله تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته.
َOs9r& tچs? 'n<خ) tûïد%©!$# tbqن9د‰"pgن† 'خû دM"tƒ#uن "!$# 4'¯Tr& tbqèùuژَاç" ادزب tûïد%©!$# (#qç/Oں2 ة="tFإ6ّ9$$خ/ !$yJخ/ur $uZù=y™ِ'r& ¾دmخ/ $oYn=ك™â'
__________
(1) ... وهي: سورة يونس آية رقم: 67، والقصص آية رقم: 73، والأنعام آية رقم: 95، والنمل آية رقم: 61، والأعراف آية رقم: 54 و 29، والحج آية رقم: 5.
(2) ... في الأصل: فأما.(1/739)
t$ِq|،sù ڑcqكJn=ôètƒ اذةب دŒخ) م@"n=ٌّF{$# 'خû ِNخgة)"oYôمr& م@إ،"n=،،9$#ur tbqç7ysَ،ç" اذتب 'خû ةOٹدJptّ:$# ¢OèO 'خû ح'$¨Z9$# ڑcrمچyfَ،ç" اذثب NèO ں@ٹد% ِNçlm; ڑّْïr& $tB َOçFZن. tbqن.خژô³è@ اذجب `دB بbrكٹ "!$# (#qن9$s% (#q=|ت $¨Ztم @t/ َO©9 `ن3tR (#qممô‰¯R `دB م@ِ6s% $\"ّx© y7د9؛xx. '@إزمƒ ھ!$# tûïحچدے"s3ّ9$# اذحب Nن3د9؛sŒ $yJخ/ َOçFZن. ڑcqمmtچّےs? 'خû اعِ'F{$# خژِچtَخ/ بd,ptّ:$# $yJخ/ur ÷LنêYن. tbqمmtچôJs? اذخب (# qè=نz÷ٹ$# z>؛uqِ/r&(1/740)
zN¨Yygy_ tûïد$خ#"yz $pkژدù ڑ[ّ©خ7sù "uq÷WtB tûïخژةi9s3tGكJّ9$# اذدب ÷ژة9ô¹$$sù ¨bخ) y‰ôمur "!$# A,ym $¨Bخ*sù y7¨ZtƒجچçR uظ÷èt/ "د%©!$# ِLèeك‰دètR ÷rr& y7¨Yu©ùuqtGtR $uZّٹs9خ*sù tbqمèy_ِچمƒ اذذب ô‰s)s9ur $uZù=y™ِ'r& Wxك™â' `دiB y7خ=ِ7s% Oكg÷YدB `¨B $oYَء|ءs% y7ّn=tم Nكg÷YدBur `¨B ِN©9 َبفءّ)tR ڑپّn=tم $tBur tb%x. @Aqك™tچد9 br& ڑ†خAù'tƒ >ptƒ$t"خ/ wخ) بbّŒخ*خ/ "!$# #sŒخ*sù uن!$y_ مچّBr& "!$# zسإسè% بd,ptّ:$$خ/ uژإ£yzur ڑپد9$uZèd ڑcqè=دِ6كJّ9$#(1/741)
اذرب ھ!$# "د%©!$# ں@yèy_ مNن3s9 zN"yè÷RF{$# (#qç7ں2÷ژtIد9 $pk÷]دB $pk÷]دBur ڑcqè=ن.ù's? اذزب ِNن3s9ur $ygدù كىدے"oYtB (#qنَè=ِ7tFد9ur $pkِژn=tو Zpy_%tn 'خû ِNà2ح'rك‰ك¹ $ygّٹn=tوur 'n?tمur إ7ù=àےّ9$# ڑcqè=yJّtéB ارةب ِNن3ƒجچمƒur ¾دmدG"tƒ#uن £"r'sù دM"tƒ#uن "!$# tbrمچإ3Zè? ارتب
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } قال ابن زيد: هم المشركون (1) .
وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدرية (2) .
قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية، فإني لا أدري
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/83).
(2) ... أخرجه الطبري (24/83). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/236).(1/742)
فيمن نزلت: { ألم تر } إلى قوله تعالى: { كذلك يضل الله الكافرين } (1) .
قال الزمخشري (2) : إن قلت: هل قوله تعالى: { فسوف يعلمون * إذ الأغلال في أعناقهم } إلا مثل قولك: سوف أصوم أمس؟
قلتُ: المعنى: [هو] (3) إذاً؛ لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوع بها، عبّر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال.
قرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو رزين في آخرين: "والسلاسلَ" بالنصب، "يَسحبون" بفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الجملة الاسمية (4) .
قال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشد عليهم (5) .
قوله تعالى: { يسجرون } أي: توقد بهم النار.
وقيل: هو من سَجَرَ التنّور؛ إذا ملأه بالوقود (6) .
فمعناه: أنهم في النار وهم مسجورون بالنار، مملوءة بها أجوافهم.
{ ثم قيل لهم } توبيخاً وتبكيتاً: { أينما كنتم تشركون من دون الله } يعني: الأوثان، { قالوا ضلوا عنا } غابوا عنا.
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... الكشاف (4/183).
(3) ... في الأصل والكشاف: على. والمثبت من تفسير الرازي (27/87).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/236)، والدر المصون (6/50).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/236).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: سجر).(1/743)
فإن قيل: هم معهم في النار، فكيف ضلّوا عنهم؟
قلتُ: معنى الكلام: أين نَفْعُ ما كنتم تدعون من دون الله وشفاعتهم لكم، قالوا ضلّوا عنا وذهب ما كنا نرجوه من نفعها.
{ بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً } أي: ظهر لنا عند الحاجة أننا لم نكن نعبد شيئاً، كما تقول: كنت أحسب أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء.
{ كذلك } أي: مثل ضلال آلهتهم عنهم { يضل الله الكافرين } .
{ ذلكم } الإضلال { بـ } سبب { ما كنتم تفرحون في الأرض } .
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } المعنى: فمن لي أن آتي بآية من الآيات التي تقترحونها.
{ فإذا جاء أمر الله } وهو القيامة.
قوله تعالى: { لتركبوا منها } يريد: الإبل، { ومنها } أي: ومن الأنعام جميعها { تأكلون } .
{ ولكم فيها منافع } من أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها { ولتبلغوا عليها } أي: على الإبل { حاجة في صدوركم } من حج وغزو وطلب علم وتجارة وغير ذلك، { وعليها } في البر { وعلى الفلك } في البحر { تحملون } .
ِNn=sùr& (#rçژچإ،o" 'خû اعِ'F{$# (#rمچفàZusù y#ّx. tb%x. èpt6ة)"tم(1/744)
ڑْïد%©!$# `دB ِNخgخ=ِ7s% (# qçR%x. uژsYٍ2r& ِNهk÷]دB £‰x©r&ur Zoqè% #Y'$rO#uنur 'خû اعِ'F{$# !$yJsù 4سo_ّîr& Nهk÷]tم $¨B (#qçR%x. tbqç7إ،ُ3tƒ ارثب $£Jn=sù ِNكgّ?uن!%y` Nكgè=ك™â' دM"uZةi t7ّ9$$خ/ (#qمmجچsù $yJخ/ Nèdy‰Yدم z`دiB ةOù=دèّ9$# ڑX%tnur Nخgخ/ $¨B (#qçR%x. ¾دmخ/ tbrâنج"ِktJَ،o" ارجب $£Jn=sù (#÷rr&u' $uZy™ù't/ (# qن9$s% $¨ZtB#uن "!$$خ/ ¼çny‰÷nur $tRِچxےں2ur $yJخ/ $¨Zن. ¾دmخ/ tûüد.خژô³مB ارحب َOn=sù à7tƒ ِNكgمèxےZtƒ ِNهkك]"yJƒخ) $£Js9 (#÷rr&u'(1/745)
$uZy™ù't/ |M¨Yك™ "!$# سةL©9$# ô‰s% ôMn=yz 'خû ¾حnدٹ$t7دم uژإ£yzur y7د9$uZèd tbrمچدے"s3ّ9$# ارخب
و"ما" في قوله تعالى: { فما أغنى عنهم } نافية أو استفهامية، و"ما" الثانية موصولة أو مصدرية. وقد سبق تفسيره مع ما لم أذكره هاهنا.
قوله تعالى: { فرحوا بما عندهم من العلم } يريد: المشركين. وعِلْمُهم الذي فرحوا به: إنكارهم الوحدانية والبعث، بالشُّبه التي كانوا يدفعون بها البيِّنات. وتسمية ذلك علماً؛ تهكُّمٌ بهم.
وقيل: أراد الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، فرحوا بما عندهم من العلم الذي آثرهم الله تعالى به حين رأوا جهل المكذبين وما حلّ بهم من العقوبة فرح شكر لله تعالى.
وقيل: فرح المرسل إليهم بما عند الرسل من العلم فرح استهزاء واستزراء، ويدل عليه قوله تعالى: { وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } .
قوله تعالى: { وخسر هنالك الكافرون } قال ابن عباس: هلكوا (1) .
وقال الزجاج (2) : تبين لهم خُسْرانهم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/23)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/239).
(2) ... معاني الزجاج (4/378).(1/746)
سورة السجدة
ijk
وتسمى المصابيح (1) ، وهي ثلاث وخمسون آية في المدني، وأربع في الكوفي (2) ، وهي مكية بإجماعهم.
قرأتُ على الشيخ أبي القاسم علي بن أبي الفرج بن أبي منصور الموصلي، أخبركم أبو القاسم يحيى بن أسعد بن يحيى بن بوش الخباز فأقرَّ به، أخبرنا أبو العز أحمد بن عبيدالله بن كادش، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين بن محمد الجازري الكاتب، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى النهرواني الجريري، حدثنا أبو بكر ابن الأنباري، حدثنا محمد -يعني: المروزي-، حدثنا أحمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد (3) مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال عتبة بن ربيعة، وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منفرد ناحية: أريد أن أقوم إلى محمد فأعرض عليه أموراً ليكف عن أمره هذا، فأيها شاء أعطيناه إذا رجع لنا عن هذا، فقالوا له: شأنك أبا الوليد، وكان عتبة سيداً حليماً، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا ابن أخي، إنك منا بحيث قد علمت من الصميم في النسب والمكان من العشيرة، وإنك قد أتيتَ
__________
(1) ... وتسمّى سورة فصلت أيضاً.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:220).
(3) ... يزيد بن زياد، ويقال: بن أبي زياد، ويقال: يزيد بن زياد بن أبي زياد المدني، ثقة (تهذيب التهذيب 11/287، والتقريب ص:601).(1/3)
قومك بما لم يأت أحد قومه بمثله، سفّهتَ أحلامنا، وكفَّرت آبائنا، وعبتَ آلهتنا، وفرّقت كلمتنا، فإن كان هذا المال تبغيه جمعنا لك أموالنا حتى تكون أيسرنا، وإن كنت تميل إلى الرئاسة رأسناك علينا ولم نقطع أمراً دونك، وإن كان لرأي من الجن يعتادك أعذرنا في الجد والاجتهاد حتى ينصرف عنك، فإن الرأي قد يحمل صاحبه على ما لا يصل إلى بذله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت يسمع، فلما سكت عتبة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسمع يا أبا الوليد ما أقول: { بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون * بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القراءة حتى انتهى إلى السجدة فسجد، وعتبة مُصْغ يستمع، قد اعتمد على يديه من وراء ظهره، فلما قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة قال: يا أبا الوليد قد سمعتَ الذي قرأت عليك فأنت وذاك، فانصرف عتبة إلى قريش في ناديها فقالوا: والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم، ثم قالوا له: وما وراءك أبا الوليد؟ فقال: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا السحر، ولا الكهانة فأطيعوني في هذه، وأنزلوها بي، خلوا محمداً وشأنه واعتزلوه، فوالله ليكون لما سمعت من قوله نبأ، [فإن] (1) أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكاً أو نبياً كنتم أسعد الناس به؛ لأن ملكه ملككم، وشرفه شرفكم، فقالوا: هيهات، سحرك محمد يا أبا
__________
(1) ... في الأصل: فا.(1/4)
الوليد، فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما شئتم (1) .
$Om (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في الدلائل (1/221). وذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية (2/130-132)، والسيوطي في الدر (7/309) وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وابن عساكر.(1/5)
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ارب(1/6)
قوله تعالى: { تنزيل } (1) قال الزجاج (2) : "تنزيل": مبتدأ، خبره: { كتاب فصلت آياته } هذا مذهب البصريين.
وقال الفراء (3) : يجوز أن يرتفع "تنزيل" بـ"حم"، ويجوز أن يرتفع بإضمار: هذا.
وقال الزمخشري (4) : إن جعلتَ "حم" اسماً للسورة كانت في موضع المبتدأ. و"تنزيل" خبره. وإن جعلتَها تعديداً للحروف كان "تنزيل" خبر مبتدأ محذوف، و"كتاب" بدل من "تنزيل"، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف (5) ، ويجوّز الزجاج أن يكون "تنزيل" مبتدأ، و"كتاب" خبره. ووجهه: أن تنزيلاً تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ.
قوله تعالى: { فصلت آياته } مُفسّر في أول هود.
{ قرآناً } نصب على الحال (6) . أي: فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً.
وقيل: نصب على المدح والاختصاص (7) .
{ لقوم يعلمون } متعلق بـ"تنزيل" أو بـ"فصلت" (8) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: الكتاب. وهو خطأ.
(2) ... معاني الزجاج (4/379).
(3) ... معاني الفراء (2/414).
(4) ... الكشاف (4/189).
(5) ... انظر: التبيان (2/220)، والدر المصون (6/55).
(6) ... انظر: التبيان (2/220)، والدر المصون (6/55).
(7) ... انظر: الدر المصون (6/55).
(8) ... انظر: الدر المصون (6/55-56).(1/7)
قال صاحب الكشاف (1) : الأجودُ أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات.
{ بشيراً ونذيراً } صفة لـ"قرآناً" (2) . وقرئ: "بشير ونذير" بالرفع (3) ، صفة للكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف.
{ فهم لا يسمعون } لا يقبلون. وقد ذكرنا مثل هذا فيما مضى.
{ وقالوا قلوبنا في أكنّة } أغطية، وقد سبق ذكره وذكر الوقر (4) .
وهذه تمثيلات لنُبُوِّ قلوبهم عن تقبل الحق الذي جاء به.
{ فاعمل إننا عاملون } قال الفراء (5) : اعمل ما تعلم من دينك إنا عاملون بما نعلم من ديننا.
وقال ابن السائب: اعمل في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك (6) .
وقد سبق ذكر الويل في البقرة.
فإن قيل: هذه السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة، فكيف وصفهم في معرض الذم بمنع الزكاة؟
قلتُ: عنه أجوبة:
__________
(1) ... الكشاف (4/189).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/56).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/463)، والدر المصون (6/56) وهي قراءة زيد بن علي.
(4) ... في سورة الأنعام، عند الآية رقم: 25.
(5) ... معاني الفراء (3/12).
(6) ... ذكره الماوردي (5/168).(1/8)
أحدها: معناه: الذين لا يزكون أعمالهم. قاله ابن عمر ومجاهد (1) .
الثاني: لا يأتون ما يصيرون به أزكياء. قاله الحسن (2) . وهو معنى قول ابن عباس: لا يشهدون أن لا إله إلا الله (3) .
الثالث: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. قاله الضحاك (4) .
فإن قيل: على هذا القول لم خص منع الزكاة من بين أوصافهم المذمومة بالذِّكر؟
قلتُ: تقريعاً لهم بالشُّحِّ الذي تأنف منه النفوس الأبية والأمة العربية.
فإن قيل: لم قرنه في الذِّكر بالكفر بالآخرة؟
قلتُ: لتوغله في الإثم، ولذلك ألحق مانع الزكاة بالكافر في شرعته، ونصب لهم [الصّدّيق] (5) راية القتال حتى عاودوا رشدهم وعادوا عن إلحادهم.
قوله تعالى: { لهم أجر غير ممنون } أي: غير مقطوع ولا منقوص.
* قُلْ ِNن3Yخ r& لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/169)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/242).
(2) ... ذكره الماوردي (5/169).
(3) ... أخرجه الطبري (24/92)، وابن أبي حاتم (10/3270). وذكره السيوطي في الدر (7/313) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/242).
(5) ... في الأصل: الصدق. والصواب ما أثبتناه.(1/9)
فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً tû,خ#ح !$،،=دj9 (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا tûüدèح !$sغ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا(1/10)
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ اتثب
قوله تعالى: { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } قال ابن عباس وعبد الله بن سلام والسدي والأكثرون: يوم الأحد ويوم الاثنين (1) .
ومن حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال: ((أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ...)) (2) .
وقد ذكرت الحديث في سورة الأعراف عند قوله تعالى: { إن ربكم الله
__________
(1) ... أخرجه الحاكم مطولاً (2/592 ح3997)، والطبري (24/94)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1363)، والنحاس في ناسخه (ص:680-681) كلهم عن ابن عباس، ومن طريق آخر أخرجه أبو الشيخ (4/1366) عن عبدالله بن سلام. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/243)، والسيوطي في الدر (7/314، 315) وعزاه لابن جرير والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عبد الله بن سلام، وعزاه لأبي الشيخ في العظمة.
(2) ... أخرجه مسلم (4/2149 ح2789). قال ابن كثير في تفسيره (4/95): وهو من غرائب الصحيح.(1/11)
الذي خلق السماوات والأرض } [54]، وذكرنا ثمة ما لا غنى لك عن النظر فيه، وذكرنا كيفية خلق السماوات والأرض في أوائل البقرة.
قوله تعالى: { وجعل فيها رواسي من فوقها } وهي الجبال.
فإن قيل: ما الحكمة في [تثبيتها] (1) بالجبال من فوقها، وهلاّ كانت لها دعائم كسائر الأبنية؟
قلتُ: جعلها فوقها لاستقرارها والانتفاع بها والاستدلال على قدرة مُنشئها وعظمته، وليعلم أن للماسك والممسوك قادراً ممسكاً.
{ وبارك فيها } بإجراء أنهارها وإنشاء أشجارها وإخراج زرعها وثمارها.
{ وقدّر فيها أقواتها } أرزاق أهلها بما يصلحهم في معايشهم.
{ في أربعة أيام سواء } قرأ أبو جعفر: "سواءٌ" بالرفع. وقرأ يعقوب وعبد الوارث والقزاز عن أبي عمرو: "سواءٍ" بالجر، والباقون بالنصب (2) .
قال الزجاج (3) : من قرأ بالخفض جعل سواء صفة للأيام. المعنى: في أربعة أيام مستويات تامات، ومن نصب فعلى المصدر، على معنى: استوت سواءً واستواءً، ومن رفع فعلى معنى: هي سواء.
ومعنى: [ { للسائلين } ] (4) معلق بقوله تعالى: { وقدّر فيها أقواتها } لكل
__________
(1) ... في الأصل: تثبتها. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... النشر (2/366)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:380).
(3) ... معاني الزجاج (4/381).
(4) ... في الأصل: السائلين. والتصويب من معاني الزجاج (4/381).(1/12)
محتاج من خلقه إلى القُوت.
وإنما قيل: "للسائلين"؛ لأن كلاً يطلب القُوت ويسأله، ويجوز أن [يكون للسائلين] (1) لمن سأل: في كم خُلقت السموات والأرض؟
فقيل: خُلقت الأرض في أربعة أيام سواء، لا زيادة على ذلك ولا نقصان، جواباً لمن سأل. هذا كلام الزجاج.
قلتُ: والمعنى الأول قول ابن زيد (2) ، والثاني قول قتادة (3) .
قوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } أي: عمد إليها وهي دخان متصاعد من الماء.
قال المفسرون: لما خلق الله تعالى الماء أرسل عليه الريح فثار منه دخان، فارتفع وسما (4) .
{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } أي: جيئا بما خلقتُ فيكما لمصالح عبادي، أو افعلا ما آمركما [اختياراً] (5) أو اضطراراً.
قال ابن عباس: رَكَّبَ فيهما العقل فخاطبهما، فقال للسموات: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقِّقي أنهارك وأخرجي ثمارك (6) .
__________
(1) ... في الأصل: السائلين. والتصويب والزيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... أخرجه الطبري (24/97).
(3) ... أخرجه الطبري (24/97). وذكر نحوه السيوطي في الدر (7/315) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/245).
(5) ... في الأصل: اختاياراً.
(6) ... أخرجه الحاكم (1/79 ح73)، والطبري (24/98). وذكره السيوطي في الدر (7/316-317) وعزاه لابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/13)
{ قالتا أتينا طائعين } قال ابن عباس: أتت السماء بما فيها، والأرض بما فيها (1) .
قال أبو النصر: نطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء ما بحيالها، فوضع الله تعالى فيها حرمه (2) .
وقيل: إن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما (3) .
قال الزجاج (4) : "طائعين" منصوب على الحال، وإنما قال: "طائعين" دون طائعات؛ لأنهن جرين مجرى ما يعقل ويُميز، كما قال في النجوم: { وكل في فلك يسبحون } [يس:40]. وقد قيل: أتينا نحن ومن فينا طائعين.
ويروى: أن بعض الأنبياء قال: يا رب! لو أن السموات والأرض حين قلت لهما: "ائتيا طوعاً أو كرهاً" عصتاك ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما، قال: وأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروجي، قال: يا رب وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي (5) .
قوله تعالى: { فقضاهن } (6) قال الزجاج (7) : أي: خلقهنّ وصورهنّ.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/172).
(2) ... ذكره الماوردي (5/173).
(3) ... ذكره الماوردي (5/172).
(4) ... معاني الزجاج (4/381).
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/344).
(6) ... في الأصل زيادة قوله: "سبع" وستأتي بعد.
(7) ... معاني الزجاج (4/381).(1/14)
قال أبو [ذؤيب] (1) الهذلي:
وعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُما ... ... دَاودُ أوْ صَنَعَ السَّوابغَ تُبَّع (2)
أي: عملهما وصنعهما.
{ سبع سماوات في يومين } قال ابن عباس وعبد الله بن سلام: يوم الخميس ويوم الجمعة (3) .
{ وأوحى في كل سماء أمرها } قال قتادة: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وملائكتها وما يصلحها (4) .
وقال مجاهد: أوحى ما أراد، وأمر بما شاء (5) .
{ وزينا السماء الدنيا بمصابيح } يريد: النجوم، سُمِّيت بذلك؛ لإضاءتها.
{ وحفظاً } قال الزجاج (6) : وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حفظاً.
__________
(1) ... في الأصل: ذؤب. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... انظر البيت في: الدر المصون (6/59)، والبحر (7/467)، واللسان (مادة: صنع، قضي)، والطبري (1/509، 11/91، 22/67)، والقرطبي (2/87، 14/268، 15/345)، وزاد المسير (7/246).
(3) ... أخرجه الطبري (24/99) عن السدي. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/246).
(4) ... أخرجه الطبري (24/99). وذكره الماوردي (5/173)، والسيوطي في الدر (7/317) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... أخرجه مجاهد في تفسيره (ص:570) والطبري (24/99)، كلاهما بلفظ: قال: مما أمر به وأراد.
(6) ... معاني الزجاج (4/382).(1/15)
وقال الزمخشري (1) : يجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً.
÷bخ*sù أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
__________
(1) ... الكشاف (4/196).(1/16)
الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ اتدب
قوله تعالى: { فإن أعرضوا } أي: إن تولوا عن الإيمان بعد هذا البيان { فقل } محذراً لهم ومخوفاً: { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } .(1/17)
وروي شاذاً عن ابن كثير: "صَعْقَةً مثل صَعْقَةِ" بغير ألف فيهما (1) .
والمعنى: أنذرتكم أن ينزل بكم ما نزل بمن كفر من الأمم قبلكم من العذاب الشديد، الوقع الذي كأنه صاعقة.
وخصّ هاتين الأمّتين بالذِّكْر؛ لأن قريشاً كانت تَمُرُّ بمنازلهم وآثارهم في أسفارهم.
{ إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم } أي: من كل جانب، وأعملوا فيهم كل حيلة فلم يؤمنوا.
وقال الحسن: أنذروهم وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة (2) ، فقد جاؤوهم بالوعظ والتخويف من جهة الزمن الماضي والمستقبل.
وقيل: جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا القول وقد قال: "جاءتهم الرسل"؟
قلتُ: الرسل كلهم جاؤوا بدين التوحيد وإيجاب التصديق بكل رسول، فكأن الرسل جميعهم قد جاؤوهم.
{ ألا تعبدوا } يعني: أي: لا [تعبدوا] (3) . وقيل: هي مخففة من الثقيلة.
قالوا استبعاداً لإرسالهم إليهم وتكذيباً لهم: { لو شاء ربنا } ، ومفعول "شاء" محذوف، تقديره: لو شاء إرسال الرسل { لأنزل ملائكة } ولم يرسل بشراً، { فإنا بما أرسلتم به كافرون } هذا ليس اعتراف منهم برسالتهم، وإنما
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/468)، والدر المصون (6/59).
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/196).
(3) ... في الأصل: يعبدوا.(1/18)
هو على طريقة التهكم بما أرسلتم به على زعمكم.
ثم قَصَّ الله تعالى قصة عاد وثمود فقال: { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق } أي: تكبروا وعتوا على الناس، أو تكبروا عن الإيمان { وقالوا } حين توعدهم هود بالعذاب: { من أشد منا قوة } فنحن ندفع ما يجيء به، اغتراراً بفخامة أجسامهم وعِظَم أجرامهم.
قوله تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } قال أبو عبيدة (1) : هي الشديدة الصوت.
قال الزمخشري (2) : هي العاصفة التي تُصَرْصِر، أي: تصوّت في هبوبها.
وقال الزجاج (3) : وأكثر التفسير: أنها الشديدة البرد.
قال غيره: هي الباردة التي تحرق ببردها، تكرير لبناء الصرّ، وهو البرد الذي يصرّ، أي: يجمع.
وقال مجاهد: هي السموم (4) .
{ في أيام نحسات } قرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة: "نحِسات" بكسر الحاء، وأسكنها الباقون من العشرة (5) .
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/196).
(2) ... الكشاف (4/199).
(3) ... معاني الزجاج (4/383).
(4) ... أخرجه الطبري (24/102). وذكره الماوردي (5/174)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/248).
(5) ... الحجة للفارسي (3/354)، والحجة لابن زنجلة (ص:635)، والكشف (2/247)، والنشر (2/366)، والإتحاف (ص:380-381)، والسبعة (ص:576).(1/19)
فمن كسر الحاء، فالواحد: "نَحِس"، مثل: فَرِق وحَذِر، وجُمِعَ على ذلك. ومن أسكن الحاء فالواحد "نَحْس".
قال الزمخشري (1) : إما مخفف نَحِس، أو صفة على فَعْل، أو وصف لمصدر.
قال مجاهد وقتادة: "نَحِسَات": مشؤومات (2) .
قال ابن عباس: كُنَّ آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك { سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } ، قال: وما عُذّب قوم إلا في يوم الأربعاء (3) .
وقال الربيع بن أنس: أولها يوم الجمعة (4) .
وقال السدي: يوم الأحد (5) .
$¨Br&ur ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
__________
(1) ... الكشاف (4/199).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:570)، والطبري (24/103). وذكره السيوطي في الدر (7/317-318) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... ذكره الماوردي (5/174).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/248).
(5) ... مثل السابق.(1/20)
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ اترب
قوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم } وقرأتُ لعاصم من رواية المفضل عنه: "ثموداً" بالنصب والتنوين (1) .
قال المبرد: والوجه الرفع، تقول: زيد ضربته، والنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده.
قال قتادة: المعنى: وأما ثمود فبينا لهم سبيل الخير والشر (2) .
{ فاستحبوا العمى على الهدى } أي: اختاروا الكفر على الإيمان { فأخذتهم } [الصاعقة { صاعقة] (3) العذاب } أي: قارعة العذاب { الهون } والهُون والهوان بمعنى واحد. وقد سبق ذكره، ومجازه: فأخذتهم
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:381)، والدر المصون (6/63).
(2) ... أخرجه الطبري (24/104). وذكره السيوطي في الدر (7/318) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... في الأصل: الصاعة صاعة.(1/21)
[صاعقة] (1) العذاب ذي الهوان.
tPِqtƒur يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا
__________
(1) ... في الأصل: صاعة.(1/22)
كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ اثحب
قوله تعالى: { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار } قرأ نافع ويعقوب وأبان عن عاصم: "نَحْشُرُ" بالنون على البناء للفاعل "أعداءَ" بالنصب. وقرأ باقي(1/23)
القراء العشرة في جميع طرقهم المشهورة: "يحشر" بالياء المضمومة على البناء للمفعول، "أعداءُ" بالرفع (1) .
والقراءة الأولى محمولة على قوله: { ونجينا الذين آمنوا } ، ويؤيدها قوله تعالى: { يوم نحشر المتقين } [مريم:85]، والثانية محمولة على "يوزعون"، والكلام تم عند قوله تعالى: { وكانوا يتقون } ، فلا معنى لحمل ما بعده عليه.
و { يوزعون } مُفسّر في النمل (2) .
قوله تعالى: { وقالوا لجلودهم } الأظهر: أنها الجلود المعروفة.
وقيل: الأيدي والأرجل (3) .
وقال السدي: هي الفروج (4) .
وعن ابن عباس: كالقولين (5) .
والآخرين قالوا لها حين شهدت عليهم: { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } هذا تمام كلام الجلود.
وفي هذا الموضع إشكالان ما رأيت أحداً من المفسرين ذكرهما:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/355)، والحجة لابن زنجلة (ص:635-636)، والكشف (2/248)، والنشر (2/366)، والإتحاف (ص:381)، والسبعة (ص:576).
(2) ... عند الآية رقم: 17.
(3) ... ذكره الماوردي (5/176) عن ابن عباس.
(4) ... أخرجه الطبري (24/106) عن الحكم الثقفي، وعبيد الله بن أبي جعفر. وذكره الماوردي (5/176) عن ابن زيد.
(5) ... ذكره الماوردي (5/176)، والواحدي في الوسيط (4/30)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/250).(1/24)
أحدهما: أن الشهادة صدرت من السمع والأبصار والجلود، فَلِمَ أفرد الجلود باللوم والسؤال دون السمع والأبصار؟
الثاني: أن حق الجواب أن يكون: شهدنا لكيت وكيت، فلم قالوا: أنطقنا الله، وهم لم يسألوهم عن ذلك؟
قلتُ: على الإشكال الأول إن أريد الجلود المعروفة فلا إشكال فيه؛ لاشتمالها على سائر الأجسام، فلومها وسؤالها شامل لجميع أجزاء البدن، وإن أريد الأيدي والأرجل؛ فلأنهما معتمد الجسد وبهما عامة أكسابه، ويؤيده قوله تعالى: { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } [يس:65]، وإن أريد الفروج؛ فلأن جنايتها أشد من جناية البصر والسمع، والعقوبة الكائنة بسببها أعظم.
وأما الثاني فجوابه أن يقال: لما كان مقصودهم بالسؤال اللوم بقولهم: لم شهدتم علينا؟ أجابوا واعتذروا: قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء بالشهادة وألجأنا إليها بطريق القهر والاضطرار الذي أنطق كل شيء.
قال أنس بن مالك: ((ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا تسألون مِمَّ ضحكت؟ فقالوا: مِمَّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، قال: يقول: يا رب أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: فإن لك ذلك، قال: فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي، قال: أو ليس كفى بي شهيداً والكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه(1/25)
بما كان يعمل، فيقول لهنّ: بُعْداً لَكُنَّ وسُحقاً، عنكنَّ كنتُ أجادل)) (1) . هذا حديث انفرد مسلم بإخراجه.
قال الله تعالى: { وهو خلقكم أول مرة } هذا تقرير. المعنى: إنطاق الجوارح، واستدلال على القدرة على ذلك بالخلق الأول.
قوله تعالى: { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } السبب في نزولها: ما أخبرنا به شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه بقراءتي عليه في شعبان سنة تسع وستمائة بظاهر دمشق قال: أخبرنا أبو محمد عبدالقادر بن أبي صالح بن عبدالله الجيلي ببغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن المظفر بن سوسن التمار، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، حدثنا محمد بن مسلمة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي (2) ، عن الأعمش (3) ، عن أبي وائل (4) -فيما
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2280 ح2969).
(2) ... عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي، كان ثقة صدوق، كثير الحديث، وقد اختلط قبل موته، مات سنة ستين ومائة (تهذيب التهذيب 6/190-191، والتقريب ص:344).
(3) ... سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، يقال: أصله من طبرستان، وولد بالكوفة سنة إحدى وستين، كان ثقةً ثبتاً في الحديث، عارفاً بالقراءات، لكنه يدلس، وكان محدث أهل الكوفة (تهذيب التهذيب 4/195-196، والتقريب ص:254).
(4) ... شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي. أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، كان ثقة كثير الحديث، مخضرم، مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين (تهذيب التهذيب 4/317، والتقريب ص:268).(1/26)
يعلم المسعودي-، عن عبدالله قال: ((بينما أنا مستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر عظيمة بطونهم، قليل فقههم، [ثقفيان] (1) وختن لهما قرشي، أو قرشيان وختن لهما ثقفي، فقال أحدهما لصاحبه: ترى الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا.
قال عبدالله: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بقولهما، قال: فنزل القرآن: { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } )) (2) . هذا حديث صحيح اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحيهما، فرواه البخاري عن الحميدي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، ورواه أيضاً عن الصلت بن محمد (3) ، [عن] (4) يزيد بن زريع (5) ، عن روح بن القاسم، عن منصور، ورواه أيضاً عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن
__________
(1) ... في الأصل: ثقيفيان. والتصويب من الصحيحين.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1818-1819 ح4538، 4539، 4540). ومسلم (4/2141 ح2775).
(3) ... الصلت بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي المغيرة البصري، أبو همام الخاركي، ثقة صدوق (تهذيب التهذيب 4/382، والتقريب ص:277).
(4) ... في الأصل: بن. والصواب ما أثبتناه.
(5) ... يزيد بن زريع العيشي، ويقال: التميمي، أبو معاوية البصري الحافظ، كان ثقة حجة كثير الحديث، توفي بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 11/284-285، والتقريب ص:601).(1/27)
سفيان الثوري، عن منصور.
فكأنني من هذين الطريقين لقيت من حدثني به عن أصحاب أصحاب البخاري.
والمعنى: ما كنتم تستخفون من أن تشهد عليكم جوارحكم لأنكم لا تستطيعون الاختفاء منها.
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } قال ابن عباس: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر (1) .
{ وذلكم } : مبتدأ، { ظنكم } : خبره، { الذي ظننتم } : صفة الخبر، { أرداكم } : خبر بعد خبر (2) .
ويجوز أن يكون "ذلكم": مبتدأ، "ظنكم": بدل منه، "أرداكم": خبره (3) .
ومعنى: "أرداكم": أهلككم.
{ فإن يصبروا } يعني: على العذاب { فالنار مثوى لهم } يريد: لا ينفعهم صبرهم، { وإن يستعتبوا } يسألوا العُتْبَى، وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه، { فما هم من المعتبين } المُجَابين إلى ما طلبوا من الرضا، تقول: استعتبت فلاناً؛ إذا طلبت منه أن يُعْتَبَ، أي: يُرْضَى. وأعْتَبني فلان؛ إذا أرضاك بعد إسخاطه إياك (4) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/30)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/251).
(2) ... انظر: التبيان (2/221)، والدر المصون (6/63-64).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: عتب).(1/28)
وقرأ الحسن البصري: "وإن يُسْتَعْتَبُوا" بضم الياء، على البناء للمفعول (1) .
{ فما هم من المعتبين } أي: لا سبيل لهم إلى ذلك؛ لأنهم غير قادرين عليه.
* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/473)، والدر المصون (6/64).(1/29)
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ اثزب(1/30)
قوله تعالى: { وقيّضنا لهم قرناء } أي: [وسببنا] (1) لمشركي مكة أخداناً من الشياطين، كما قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } [الزخرف:36].
{ فزيّنوا لهم ما بين أيديهم } قال الكلبي: ما بين أيديهم من أمر الآخرة، وهو قولهم لهم: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، { وما خلفهم } من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات (2) .
وقيل: بالعكس (3) .
وقيل: ما بين أيديهم ما فعلوه، وما خلفهم ما عزموا على فعله (4) .
{ وحق عليهم القول } يعني: كلمة العذاب { في أمم } أي: في جملة أمم.
وموضع "في أمم" من الإعراب: النصب على الحال من الضمير في "عليهم" (5) ، أي: حَقَّ عليهم القول كائنين في جملة أمم.
{ إنهم كانوا خاسرين } يريد: الذين قيض لهم القرناء والأمم.
قوله تعالى: { والغوا فيه } قال الزجاج (6) : عارضوه بكلام لا يُفهم يكون ذلك الكلام لغواً، يقال: لَغَا [يلغو] (7) لغواً، ويقال أيضاً: لَغَا يَلْغَى لَغْواً؛ إذا
__________
(1) ... في الأصل: وسنينا. والمثبت من زاد المسير (7/252).
(2) ... ذكره الماوردي (5/178)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/252) بلا نسبة.
(3) ... أخرجه الطبري (24/111) عن السدي. وذكره الماوردي (5/178).
(4) ... ذكره الماوردي (5/178)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/252).
(5) ... انظر: الدر المصون (6/64).
(6) ... معاني الزجاج (4/384).
(7) ... في الأصل: يلغي. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/31)
تكلم باللغو، وهو الكلام الذي لا يحصل منه على نفع ولا على فائدة، ولا تفهم حقيقته.
وقرأ جماعة، منهم عيسى بن عمر: "والغُوا" بضم الغين (1) .
قال أبو الفتح ابن جني (2) : يقال منه: لَغَا يَلْغُو فهو لاغٍ، ومنه الحديث المرفوع: ((من قال في الجمعة: صَهْ، فقد لغا)) (3) .
ويقال فيه: لَغِيَ يَلْغَى لغاً.
وقال الأخفش: من فتح الغين كان من لغا يلغى، مثل: طغى يطغى، ومن ضم الغين كان من لغا يلغو، مثل: دعا يدعو.
قال المفسرون: كانت قريش توصي بعضهم بعضاً: إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم باللغو لتُشَوِّشُوا عليهم (4) .
وقال ابن عباس: قعوا فيه وعيبوه (5) .
وقال مجاهد: والغوا فيه بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق (6) .
{ فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً } قال ابن عباس: يوم بدر (7) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/473)، والدر المصون (6/65).
(2) ... المحتسب (2/246-247).
(3) ... أخرجه أبو داود (1/276 ح1051).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/252).
(5) ... ذكره الماوردي (5/178).
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:571)، والطبري (24/112)، وابن أبي حاتم (10/3272-3273). وذكره السيوطي في الدر (7/321) وعزاه لابن أبي حاتم.
(7) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/203).(1/32)
{ ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } في الدنيا وفي الآخرة.
قوله تعالى: { ذلك جزاء أعداء الله النار } فيه الوجهان المذكوران في إعراب: "وذلكم ظنكم". ويجوز فيه وجه ثالث وهو: أن يكون "النار": ابتداء، و { لهم فيها دار الخلد } : خبراً (1) ، ويكون الوقف على قوله تعالى: { أعداء الله } .
وقيل: ذلك إشارة إلى الأسوأ، ويجب أن يكون التقدير: أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون، حتى تستقيم هذه الإشارة، و"النار" عطف بيان للإشارة، أو خبر مبتدأ محذوف (2) .
قوله تعالى: { لهم فيها دار الخلد } قال الزجاج (3) : النار هي الدار، كما تقول: لك في هذه الدار دار السرور، وأنت تعني الدار بعينها. قال الشاعر:
أخُو رَغَائِبَ يُعْطِيها ويسأَلُها ... يأْبى الظلامةَ منه النَّوفلُ الزُّفَرُ (4)
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا } أي: يقولون يوم القيامة { ربنا أرنا اللذين أضلانا } .
وقد ذكر اختلاف القراء في "أرنا" في سورة البقرة في قوله تعالى: { وأرنا مناسكنا } [البقرة:128]، وأشرنا إلى تعليل ما قرؤوا به.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/222)، والدر المصون (6/65).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... معاني الزجاج (4/385).
(4) ... البيت لأعشى باهلة، يرثي أخاه المنتشر بن وهب. وهو في: اللسان (مادة: زفر، قفر، نفل)، والقرطبي (16/299)، وزاد المسير (1/434، 7/253).(1/33)
{ من الجن والإنس } يريدون: إبليس وقابيل؛ لأن إبليس سَنَّ الكفر، وقابيل سَنَّ القتل بغير حق.
وقيل: أرادوا دعاة الضلالة من الجن والإنس.
والمعنى: أرناهما ومكنّا منهما.
{ نجعلهما تحت أقدامنا } في النار { ليكونا من الأسفلين } أي: في الدرك الأسفل من النار. سألوا ذلك حنقاً عليهم حيث كانوا السبب في إضلالهم.
¨bخ) الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي(1/34)
أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ اجثب
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال الزمخشري (1) : "ثم" لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة. وفضلها عليها؛ لأن الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } [الحجرات:15]. والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده (2) .
ويؤيد هذا القول: ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال: قد قال الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو [ممن] (3) استقام)) (4) .
وقال ابن عباس: استقاموا على أداء الفرائض (5) .
__________
(1) ... الكشاف (4/204).
(2) ... أخرج الطبري في تفسيره (24/114) عن أبي بكر الصديق في قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً. وذكره الماوردي (5/179).
(3) ... في الأصل: مؤمن من. والتصويب من الترمذي (5/376).
(4) ... أخرجه الترمذي (5/376 ح3250).
(5) ... أخرجه الطبري (24/115). وذكره السيوطي في الدر (7/322) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/35)
وقال قتادة: استقاموا على الطاعة (1) .
وقال السدي: استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت (2) .
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب الزهد بإسناده عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يخطب الناس على المنبر: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال: استقاموا على الطريقة والله بطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعالب (3) .
وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: يا رسول الله! أخبرني بأمر أعتصم به؟ قال: قل: ربي الله ثم استقم (4) .
وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية بكى وقال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة (5) .
{ تتنزل عليهم الملائكة } قال ابن عباس ومجاهد: يعني: عند الموت (6) ، بالبشرى.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/115). وذكره الماوردي (5/179).
(2) ... ذكره الماوردي (5/179)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/254).
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:144).
(4) ... أخرجه الترمذي (4/607 ح2410)، وابن ماجه (2/1314 ح3972)، وأحمد (3/413).
(5) ... أخرجه الطبري (24/115).
(6) ... أخرجه مجاهد في تفسيره (ص:571)، والطبري (24/116) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (7/323) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب عن مجاهد.(1/36)
وقال قتادة: عند خروجهم من قبورهم للبعث (1) .
وقيل: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم (2) .
{ أن لا تخافوا } "أنْ" بمعنى: أي. وقيل: مخففة من الثقيلة، على معنى ضمير الشأن.
قال مجاهد: لا تخافوا الموت { ولا تحزنوا } على أولادكم (3) .
وقال عكرمة: لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم (4) .
وقد ذكرنا فيما مضى: أن الخوف غَمٌّ يلحق الإنسان لتوقع المكروه. والحزن: غَمٌّ لوقوع المكروه.
ثم تقول لهم الملائكة: { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أي: نحن الذين نتولاكم في الدنيا ونحبكم لما نرى من أعمالكم الصالحة، ونحن الذين نتولاكم اليوم إلى أن تدخلوا الجنة.
{ ولكم فيها ما تدعون } قال مقاتل (5) : ما تتمنّون.
وقال غيره: ما تدعون أنه لكم فهو مملوك لكم بحكم ربكم (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/180) عن ثابت ومقاتل، وابن الجوزي في زاد المسير (7/254) عن قتادة.
(2) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/180).
(3) ... ذكره الماوردي (5/180)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/254)، والسيوطي في الدر (7/323) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره الماوردي (5/180)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/254).
(5) ... تفسير مقاتل (3/167).
(6) ... ذكره الماوردي (5/180) من قول ابن عيسى.(1/37)
{ نُزُلاً } نصب على الحال من الموصول أو من الضمير الموصول المحذوف (1) .
أي: ما تدعونه نُزُلاً، والنُّزُل: رزق النزيل، وهو الضيف. وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى.
ô`tBur أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا د%©!$# بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/222)، والدر المصون (6/67).(1/38)
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اجدب
قوله تعالى: { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } هذا عام في كل من اتَّصف بهذه الأوصاف الثلاثة، ويدخل في عموم ذلك ما قاله المفسرون.
وقد روى جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها نزلت في المؤذِّنين. وهو قول عائشة ومجاهد (1) .
وقال ابن عباس: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى شهادة لا إله إلا الله (2) .
"وعمل صالحاً" قال ابن السائب: أدى الفرائض (3) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (1/204 ح2347) عن عائشة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/256)، والسيوطي في الدر (7/325) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/35)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/257).
(3) ... ذكره الماوردي (5/181).(1/39)
وقالت عائشة: صلى ركعتين بعد الأذان (1) .
وقال عكرمة: صام وصلى (2) .
"وقال إنني من المسلمين" أي: دان بالإسلام واعتقده، كما تقول: أنا أقول مقالة أهل الحديث، أي: أعتقد عقيدتهم وأذهب إلى مذهبهم.
قوله تعالى: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } قال الزجاج (3) : و"لا" زائدة مؤكدة. المعنى: لا تستوي الحسنة والسيئة. ومثله قال الفراء، وأنشد:
ما كان يرضي رسولَ الله فعلُهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر
قال علي عليه السلام: "الحسنة": حب آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و"السيئة": بغضهم (4) .
وقال ابن عباس: "الحسنة": الإيمان، و"السيئة": الشرك (5) .
وقال الضحاك: "الحسنة": الحلم، و"السيئة": الفحش (6) .
وقيل: "الحسنة": المداراة، و"السيئة": الغلظة (7) .
وقد أشرنا فيما مضى من كتابنا إلى أن هذه الأقوال وأمثالها لم تذكر
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/181)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/257).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/257)، والسيوطي في الدر (7/325) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... معاني الزجاج (4/386).
(4) ... ذكره الماوردي (5/182).
(5) ... ذكره الماوردي (5/182)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/257).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... وهو قول ابن عيسى. ذكره الماوردي في تفسيره (5/182).(1/40)
لحصر المراد من الكلام، بل هي لبيان جنس [بذكر] (1) بعض أنواعه.
قال صاحب الكشاف (2) : إن [قلت] (3) : هلاّ قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟
قلتُ: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل: ادفع بالتي هي أحسن.
فإن قلت: إذا كان المعنى "ولا تستوي الحسنة والسيئة"، فالقياس على هذا التقدير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة.
قلتُ: أجل، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
{ فإذا الذين بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } قال عكرمة: الولي: الصديق، والحميم: القريب (4) .
أخرج البخاري في أفراده عن ابن عباس ((في قوله تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن } قال: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه عصمهم الله وخضع لهم عدوّهم)) (5) .
وقال مقاتل (6) : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً. ونظيره قوله تعالى: { عسى
__________
(1) ... في الأصل: يذكر. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... الكشاف (4/205).
(3) ... في الأصل: قالت. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... ذكره الماوردي (5/182).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1814).
(6) ... تفسير مقاتل (3/167) وفيه: أن نزولها في أبي جهل.(1/41)
الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } [الممتحنة:7].
قوله تعالى: { وما يلقاها إلا الذين صبروا } قال الزجاج (1) : وما يُلَقَّى هذه الفعلة، وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } من الخير.
وقال السدي: إلا ذو جَدّ (2) .
وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة (3) .
وقال الحسن: والله ما عَظُمَ حَظّ دون الجنة (4) ، فيكون المعنى: وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
قوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } قال الزمخشري (5) : النزغ والنسغ بمعنىً، وهو شبيه بالنخس. فالشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغاً، كما قيل: جدّ جدّه، أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر. وقد فسرنا هذه الآية في آخر سورة الأعراف (6) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/386).
(2) ... أخرجه الطبري (24/120). وذكره الماوردي (5/182).
(3) ... أخرجه الطبري (24/120). وذكره السيوطي في الدر (7/327) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(4) ... ذكره الماوردي (5/182).
(5) ... الكشاف (4/206).
(6) ... عند الآية رقم: 200.(1/42)
وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ(1/43)
الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اجزب
قوله تعالى: { واسجدوا لله الذي خلقهن } إن قيل: كيف قال: الذي خلقهن، وقد قال: { الليل والنهار والشمس والقمر } وهي مُذَكَّرَة، فقد قال الزجاج (1) : فيها وجهان:
أحدهما: أن ضمير غير ما يعقل على لفظ التأنيث، تقول: هذه كِبَاشُك فَسُقْها، وإن شئت قلت: فَسُقْهُنَّ، وإنما يكون "خلقهن" لما [يعقل] (2) لا غير، ويجوز أن يكون "خلقهنَّ" راجع على معنى الآيات في قوله تعالى: { ومن آياته } .
فصل
واختلفوا في موضع السجدة هاهنا على قولين:
أحدهما: "تعبدون". قاله ابن مسعود وأصحابه والحسن (3) ، وإليه ذهب الشافعي لذكر لفظ السجدة قبله.
الثاني: "يسأمون". قاله ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/387).
(2) ... في الأصل: يفعل. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الماوردي (5/183)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/259).(1/44)
ومسروق وقتادة (1) ، وإليه ذهب أبو حنيفة وعلماؤنا؛ لأن به تمام الكلام.
قوله تعالى: { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } قال الزجاج (2) : مُتَهَشِّمَةً مغبرّة.
وقال الزمخشري (3) : الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعين بحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها.
{ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } وقرأ أبو جعفر: "وربأَت" بهمزة مفتوحة بعد الباء (4) .
قال الزجاج (5) : "رَبَتْ": عظمت، ورَبَأَتْ: ارتفعت. وقد ذكرناه في سورة الحج (6) .
¨bخ) الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... معاني الزجاج (4/387).
(3) ... الكشاف (4/206).
(4) ... النشر (2/325)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:313).
(5) ... معاني الزجاج (4/388).
(6) ... عند الآية رقم: 5.(1/45)
الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ احجب
قوله تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا } سبق تفسير الإلحاد وذكر(1/46)
اختلاف القُرَّاء فيه في أواخر سورة الأعراف (1) .
والمراد به هاهنا: التكذيب بالآيات، في قول قتادة (2) .
والميل عن الأدلة، في قول أبي مالك (3) .
ومعاندة الرسل في قول السدي (4) .
والمكاء والصفير عند تلاوة القرآن، في قول مجاهد (5) .
{ لا يخفون علينا } وعيدٌ لهم على التحريف، { أفمن يلقى في النار خير } وهو أبو جهل، في قول عامة المفسرين.
{ أم (6) من يأتي آمناً يوم القيامة } وهو عمار بن ياسر، في قول عكرمة (7) .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في قول ابن السائب ومقاتل (8) .
وعمر بن الخطاب، [في] (9) قول ابن زياد (10) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 180.
(2) ... أخرجه الطبري (24/123). وذكره السيوطي في الدر (7/330) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(3) ... ذكره الماوردي (5/184).
(4) ... أخرجه الطبري (24/123). وذكره الماوردي (5/184).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:571)، والطبري (24/123). وذكره الماوردي (5/184).
(6) ... في الأصل زيادة قوله: "خير" وقد سبقت.
(7) ... ذكره الماوردي (5/185). وذكره السيوطي في الدر (7/330) وعزاه لابن عساكر.
(8) ... ذكره مقاتل (3/168)، والماوردي (5/185)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/261).
(9) ... في الأصل: وفي.
(10) ... ذكره الماوردي (5/185)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/261) حكاية عن الماوردي.(1/47)
وحكى الثعلبي (1) : أنه عثمان بن عفان.
وحكى الواحدي (2) : أنه حمزة، رضي الله عنهم.
والظاهر: أنه عام في كل مؤمن وكافر.
وباقي الآية وعيد وتهديد.
قوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } وهو القرآن، في قول عامة المفسرين.
وخبر "إنّ": { أولئك ينادون من مكان بعيد } (3) . وقيل: محذوف، تقديره: كفروا به أو يجازون بكفرهم (4) .
وقال الزمخشري (5) : إن قلت: بم اتصل قوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر } ؟
قلتُ: هو بدلٌ من قوله تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا } ؛ لأنهم
__________
(1) ... تفسير الثعلبي (8/298).
(2) الوسيط (4/37).
(3) ... قال السمين الحلبي في الدر المصون (6/68): وقد استُبعد هذا من وجهين: أحدهما: كثرة الفواصل، والثاني: تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله: "أولئك"، وهو قوله: { والذين لا يؤمنون } ، واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور.
(4) ... انظر: التبيان (2/222)، والدر المصون (6/68).
(5) ... الكشاف (4/207).(1/48)
لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله.
{ وإنه لكتاب عزيز } : منيع محمي.
قال ابن عباس: كريم على الله (1) . وقال السدي: غير مخلوق (2) .
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } أي: لا يتطرق إليه بوجه من الوجوه.
قال سعيد بن جبير: لا يأتيه التكذيب (3) .
وقال قتادة: لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقاً ولا يزيد فيه باطلاً (4) .
فإن قيل: أليس قد تأوّله المبطلون وحرّفه الملحدون إلى مقاصدهم وأقرب الأشياء عهداً بذلك ما حكيته في سورة الحجر من إلحاد ذلك الزائغ الذي [حرّف] (5) كتاب الله في ملأ من الأشراف؟
قلتُ: الذي ضمنه الله تعالى حفظ كتابه، وأن الباطل لا يلبس به، وذلك حاصل والحمد لله.
وأما تحريف الغالين وتأويل الزائغين فقد قيض الله سبحانه وتعالى رجالاً يبيّنون عواره ويوضحون فساده، ويدفعون ما ليس منه.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/38)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/262) كلاهما عن ابن السائب الكلبي. وذكره القرطبي في تفسيره (15/367) عن ابن عباس.
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/367).
(3) ... ذكره الماوردي (5/185)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/262).
(4) ... أخرجه الطبري (24/125). وذكره السيوطي في الدر (7/332) وعزاه لعبد بن حميد وابن الضريس.
(5) ... في الأصل: حر.(1/49)
قوله تعالى: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } قال قتادة وجمهور المفسرين: المعنى ما يقول المشركون لك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الأقوال المؤذية، كقولهم: ساحر ومجنون (1) . فتكون الآية على هذا القول تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الكلبي: المعنى: ما تخبر إلا ما أخبر الأنبياء قبلك، وهو { إن ربك لذو مغفرة } لمن آمن بالله وصدق المرسلين { وذو عقاب أليم } لمن كفر بالله وكذّب المرسلين (2) .
ِqs9ur جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/126)، وابن أبي حاتم (10/3273). وذكره السيوطي في الدر (7/332) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) ... ذكره الماوردي (7/332)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/263) حكاية عن الماوردي.(1/50)
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ احخب
قوله تعالى: { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } أي: لو أنزلنا القرآن بلسان أعجمي { لقالوا لولا } : هلاَّ { فُصِّلَت } أي: بُيِّنَت { آياته } بأن تنزل عربية، ولقالوا إنكاراً لذلك: { أأعجمي وعربي } أي: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟، أو مرسل إليه عربي؟، والمعنى الأول قول سعيد بن جبير (1) ، والثاني قول السدي (2) .
ومعنى الكلام: أنهم قوم شأنهم التعنت واتباع الهوى والتكذيب.
قرأ ابن كثير في رواية قنبل من طريق ابن شوذب وابن عامر من
__________
(1) ... أخرجه الطبري (24/126). وذكره الماوردي (5/186)، والسيوطي في الدر (7/333) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... أخرجه الطبري (24/127). وذكره الماوردي (5/186).(1/51)
رواية الحلواني عن هشام: "أعجمي" بهمزة واحدة مقصورة مع سكون العين، وهي قراءة الحسن والضحاك والجحدري، ومثلهم عمرو بن ميمون، إلا أنه فتح العين. وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام على اختلاف أصولهم (1) .
قال أبو الفتح (2) : أما من قرأ "أَعْجَمِيٌّ" بقصر الهمزة وسكون العين، فعلى أنه خبر [لا استفهام، أي] (3) : لقالوا: لولا فصلت آياته. ثم أخبر فقال: الكلام الذي جاء به أَعْجَمِيٌّ، أي: قرآن وكلام أَعْجَمِيّ. ولم يخرج مخرج الاستفهام على معنى التعجب والإنكار على قراءة الكافة. وأما قراءة عمرو بن ميمون فهو منسوب إلى العجم.
وقال الزجاج في قراءة الحسن (4) : المعنى: هلا بُيِّنَتْ آياته، فجعل بعضها بياناً للعرب وبعضها بياناً للعجم. وقد ذكرنا فيما مضى الفرق بين الأعجمي والعجمي (5) .
قال الزمخشري (6) : إن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (3/356-358)، والحجة لابن زنجلة (ص:637)، والكشف (2/248)، والإتحاف (ص:381)، والسبعة (ص:576-577).
(2) ... المحتسب (2/248).
(3) ... زيادة من المحتسب (2/248).
(4) ... معاني الزجاج (4/389).
(5) ... في سورة الشعراء عند تفسير الآية رقم: 198.
(6) ... الكشاف (4/208).(1/52)
قلتُ: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كُتِبَ إلى قوم من العرب، يقول: أكتاب عجمي ومكتوب إليه عربي، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض، [ولا] (1) يوصل به ما يحتمل غرضاً آخر. ألا تراك تقول -وقد رأيتَ لباساً طويلاً على امرأة قصيرة-: اللباس طويل واللابس قصير، ولو قلت: اللابسة قصيرة، جئت بما هو [لكنة] (2) وفضول قول؛ لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس [وأنوثته] (3) ، إنما وقع في غرض وراءهما.
{ قل هو } أي: القرآن { هدى وشفاء } إرشاد إلى الحق وشفاء لما في الصدور من الظن والشك.
فإن قلت: { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } منقطع [عن] (4) ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟
قلتُ: لا يخلو إما أن يكون "الذين لا يؤمنون" في موضع الجر معطوفاً على قوله تعالى: { للذين آمنوا } على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر؛ إلا أن فيه عطفاً على عاملين، وإن كان الأخفش يجيزه. وإما أن يكون مرفوعاً على تقدير: والذين لا
__________
(1) ... في الأصل: لا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: لكونه. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: وأنوثيته. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: من. والمثبت من الكشاف (4/208).(1/53)
يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ، أو في آذانهم منه وقر.
وقد ذكرنا فيما مضى أن الوَقْر: الصَّمَم.
قوله تعالى: { وهو عليهم عمى } وقرأ جماعة، منهم: ابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص: "عَمٍ" بكسر الميم (1) ، وقراءة الأكثرين أرجح، وهي اختيار أبي عبيد؛ لقوله: { هدى وشفاء } ، فكذلك "عمى" مصدر مثلهما، قال: ولو أنهما "هادٍ وشافٍ" لكان الكسر في "عمٍ" أجود؛ ليكون نعتاً مثلهما.
{ أولئك ينادون من مكان بعيد } تحقيق لمعنى إعراضهم وبُعدهم عن الحق، كأنهم لفرط ذلك كالذي يُصاح به من مكان بعيد، فهو لا يَسمع النداء.
والآية التي [بعدها] (2) مفسرة في آخر سورة هود (3) .
ô`B عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) * إِلَيْهِ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (7/481)، والدر المصون (6/70).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... عند تفسير الآية رقم: 110.(1/54)
يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ احرب
قوله تعالى: { وما تخرج من ثمرة من أكمامها } قرأ نافع وابن عامر وحفص: "ثَمَراتٍ" على الجمع؛ لأن المعنى عليه؛ لأنه لا يريد ثمرة دون ثمرة. وقرأ الباقون "ثَمَرة" على لفظ الإفراد (1) ، والمراد: الكثرة، ويقوِّي ذلك قوله تعالى: { وما تحمل من أنثى } .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/355)، والحجة لابن زنجلة (ص:637-638)، والكشف (2/249)، والنشر (2/367)، والإتحاف (ص:382)، والسبعة (ص:577).(1/55)
قال الزمخشري (1) : الكِمُّ -بكسر الكاف-: وعاء الثمرة، كجُفِّ الطَّلْعَة.
وقال غيره: غلافُ كل شيء: كُمُّه، ومنه قيل للقلنسوة: كُمَّة؛ لأنها تغطي الرأس، [ومن هذا] (2) كُمَّا القميص؛ لأنهما يغطيان [اليدين] (3) .
والمعنى: وما يحدث من شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضعها إلا وهو عالم به.
{ ويوم يناديهم أين شركائي } يريد: على زعمهم أنها شركاء في الإلهية.
{ قالوا } يعني: المشركين. وقيل: الشركاء. والأول أظهر.
{ آذنَّاك } أعلمناك بما علمت من عقائدنا الآن، أو يقولون ذلك وقد سبق إعلامهم به أول ما سئلوا.
ثم أعيد عليهم السؤال توبيخاً وتقريعاً، فحكى الله تعالى ذلك عنهم، أو يكون ذلك إنشاء للإيذان.
{ ما منا من شهيد } يشهد بأن لك شريك. تبرّؤوا من شركائهم حين تبيَّنوا وحدانية الله تعالى، فلم ينفعهم ذلك.
وإن قلنا: هو من قول الشركاء، فالمعنى: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوه إلينا من الشركة.
{ وظنوا } أيقنوا { ما لهم من محيص } .
وكان سهل يقف على قوله: "وظنوا"، على معنى: وظنوا ظناً.
__________
(1) ... الكشاف (4/209).
(2) ... زيادة من زاد المسير (7/265).
(3) ... في الأصل: اليد. والتصويب من زاد المسير، الموضع السابق.(1/56)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ ZpyJح !$s% وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ(1/57)
الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ اختب
قوله تعالى: { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } أو من دعائه الخير، فحذف الفاعل وأضافه إلى المفعول.
والمعنى: لا يسأم من طلب السعة في المال وسوغ النعم.
{ وإن مسه الشر } وهو الفقر والضيق { فيئوس قنوط } .
قال الزمخشري (1) : بُولغ فيه من طريقين؛ بناء فعول، والتكرير. وهذه صفة الكافر، بدليل قوله تعالى: { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [يوسف:87].
{ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته } أي: ولئن فرجنا عنه فأذقناه غنى بعد فقر، أو صحة بعد مرض { ليقولن } أشَراً وبَطَراً وبغياً: { هذا لي } أي: حقي وصل إليّ؛ لأني أستوجبه بما عندي من الاستحقاق له.
ثم يتمادى في جهله وغيه حتى يقول إنكاراً لقدرة الله تعالى على البعث بعدما رأى وشاهد من تقلبات أحواله وآثار تصرفات الله تعالى فيه: { وما أظن الساعة قائمة } .
ثم يقول على سبيل الفرض والتقدير: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } الحالة الحسنى من النعمة والكرامة كما أعطاني في الدنيا.
قال الحسن بن علي عليهما السلام: الكافر في أُمنيتين، أما في الدنيا
__________
(1) ... الكشاف (4/210).(1/58)
فيقول: لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، وأما في الآخرة فيقول: يا ليتني كنت تراباً (1) .
ثم [هدّدهم] (2) بالآية التي تلي هذه.
والآية التي بعدها مُفسَّرة في أواخر بني إسرائيل (3) .
والمراد بالعريض: الكثير. والعرب تستعمل الطول والعرض في معنى الكثرة، يقولون: أطال فلان الكلام وأعْرَض؛ إذا كثر (4) .
ِ@è% أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/373).
(2) ... في الأصل: هدهم.
(3) ... في سورة الإسراء، عند الآية رقم: 83.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: عرض).(1/59)
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ اخحب
ثم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستدرجهم بألطف طريق وأن يستنزلهم عما هم عليه من العناد فقال: { قل أرأيتم } أي: أخبروني { إن كان } يعني: القرآن { من عند الله ثم كفرتم به } هذا الكفر وعاندتموه هذا العناد { من أضل ممن هو في شقاق بعيد } عن الهدى.
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } قال الحسن ومجاهد: "في الآفاق": فتح أقطار الأرض، "وفي أنفسهم": فتح مكة (1) .
وقال قتادة وغيره: سنريهم وقائعنا في الأمم الخالية، وذلك بسيرهم في الأرض، وفي أنفسهم يوم بدر (2) .
وقيل: "وفي أنفسهم": وهو كونهم خلقوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/5). وذكره الماوردي (5/189) كلاهما عن السدي، والواحدي في الوسيط (4/40).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/267).(1/60)
عظاماً، إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز (1) .
{ حتى يتبين لهم أنه الحق } يريد: القرآن، { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فهو يشهد لك وعليهم.
والآية التي بعدها مُفسَّرة فيما مضى، ومضمونها: تهديدهم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... وهو قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (4/391-392).(1/61)
سورة الشورى
ijk
وهي خمسون آية في المدني، وثلاث وخمسون في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول ابن عباس وعامة المفسرين (2) .
ويحكى عنه أيضاً أن فيها من المدني: { قل لا أسألكم عليه أجراً ... } إلى آخر أربع آيات (3) ، واستثنى مقاتل: { ذلك الذي يبشر الله } إلى قوله تعالى: { بذات الصدور } ، وقوله تعالى: { والذين إذا أصابهم البغي } إلى قوله تعالى: { من سبيل } (4) .
$Om (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:221).
(2) ... ذكره الماوردي (5/191)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/270)، والسيوطي في الدر (7/335) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن الزبير، وعزاه لابن مردويه.
(3) ... ذكره الماوردي (5/191)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/270).
(4) ... انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/53).(1/62)
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ احب
قوله تعالى: { حم عسق } قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: أقسم الله سبحانه وتعالى بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته (1) .
وقال في رواية ابن أبي طلحة: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم الله به (2) .
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن (3) .
وقال كثير من المفسرين: هي حروف مقطعة من حوادث آتية (4) .
قال عطاء: الحاء من حرب، والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين من [استئصال بسنين] (5) كسني يوسف، والقاف من قدرة الله تعالى في ملكوت الأرض (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/42) عن ابن عباس، والقرطبي في تفسيره (16/2) عن محمد بن كعب.
(2) ... ذكره الماوردي (5/191)، واين الجوزي في زاد المسير (7/271).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... ذكره الماوردي (5/192).
(5) ... في الأصل: استيعال يستبين. والمثبت من زاد المسير (7/271).
(6) ... ذكره الثعلبي (8/303) بنحوه، والماوردي (5/192)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/271).(1/63)
وقال بكر بن عبدالله المزني: حم حرب تكون بين قريش والموالي، فتكون الغلبة لقريش على الموالي، ["م"] (1) ملك بني أمية، "ع" علو ولد العباس، "سين" سناء المهدي، "ق" قوة عيسى بن مريم [حين] (2) ينزل فيقتل النصارى ويخرب البِيَع (3) .
وفي مصحف ابن مسعود: "حم سق" بغير عين (4) .
ويروى: أن ابن عباس كان يقرؤها كذلك (5) .
وسئل حسين بن الفضل: لم قطع { حم عسق } ولم يقطع { كهيعص } و { المص } ، يعني في خط المصحف؟. فقال: لكونها بين سور أوائلها حم، فجرى مجرى نظائرها قبلها وبعدها.
ولأنهما عُدّا آيتين وعدت أخواتها التي كتبت موصولة آية (6) .
وقيل: لأن أهلَ التأويل لم يختلفوا في { كهيعص } وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في { حم } فجعلها بعضهم فعلاً ماضياً على معنى "حُمَّ"، أي: قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة (7) .
__________
(1) ... في الأصل: من. والتصويب من تفسير الثعلبي (8/303).
(2) ... في الأصل: حتى. والمثبت من تفسير الثعلبي، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الثعلبي (8/303). وكل ذلك لا دليل عليه من الشارع وإنما هو اجتهاد.
(4) ... انظر: الطبري (25/6)، والماوردي (5/192).
(5) ... انظر: الطبري (25/6)، والماوردي (5/192).
(6) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/119).
(7) ... مثل السابق.(1/64)
قوله تعالى: { كذلك } أي: مثلُ ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب { يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } من الرسل.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت إليه { حم عسق } ، فذلك قوله تعالى: { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } (1) .
قرأ ابن كثير: "يوحَى" بفتح الحاء على البناء للمفعول به.
فعلى هذا؛ يرتفع اسم "الله" بما دل عليه "يوحى"، كأنه قيل: مَنِ الموحي؟ فقال: الله تعالى.
قال أبو علي (2) : ومما يقوي هذه القراءة قوله تعالى: { ولقد أوحي إليك } [الزمر:65]، وقوله تعالى: { وأوحي إلى نوح } [هود:36].
وقرأ الباقون "يوحِي" بكسر الحاء على البناء للفاعل (3) ، فيرتفع اسم الله بإسناد الفعل إليه.
وقرأتُ لعاصم من رواية أبان عنه: "نُوحِي" بالنون (4) ، فيرتفع اسم الله تعالى بالابتداء.
وما بعده إخبار، و { العزيز الحكيم } صفتان، والظرف خبر (5) .
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... الحجة للفارسي (3/362).
(3) ... الحجة للفارسي (3/361)، والحجة لابن زنجلة (ص:639)، والكشف (2/250)، والنشر (2/367)، والإتحاف (ص:382)، والسبعة (ص:580).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/272)، والدر المصون (6/74).
(5) ... انظر: التبيان (2/223)، والدر المصون (6/74).(1/65)
تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ادب
قوله تعالى: { تكاد السموات يَنْفَطِرْنَ من فوقهن } قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: "يَنْفَطِرْنَ" بالنون وتخفيف الطاء وكسرها. وقرأ الباقون: "يَتَفَطَّرْن" بتاء مفتوحة مع تشديد الطاء وفتحها (1) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/362)، والحجة لابن زنجلة (ص:640)، والكشف (2/250)، والنشر (2/319)، والإتحاف (ص:382-383)، والسبعة (ص:580).(1/66)
وقد ذكر في آخر مريم "تكاد" (1) .
والمعنى: تكاد السموات يتفطرن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه.
واستدل الزجاج على صحة هذا المعنى بقوله تعالى: { وهو العلي العظيم } ، وهذا معنى قول الضحاك وجمهور المفسرين (2) .
وقيل: المعنى: يكدن يتفطرن من عظمة من فوقهن من العرش والكرسي والملائكة الصافين والحافين من حول العرش، لهم زجل التسبيح والتهليل والتقديس إلى غير ذلك، مما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من الملكوت العلوي.
وقال ابن عباس: المعنى: تكاد السموات كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها من قول المشركين: اتخذ الله ولداً (3) ، فتكون نظيرَ الآية التي في أواخر مريم (4) .
قال الزمخشري (5) : لما جاءت كلمة الكفر من الذين تحت السموات، كان القياس [أن] (6) يقال: ينفطرن من جهتهن (7) ، أي: من الجهة التي منها جاءت
__________
(1) ... عند الآية رقم: 90.
(2) ... أخرجه الطبري (25/7). وذكره الماوردي (5/192)، والسيوطي في الدر (7/337) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن قتادة.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/43).
(4) ... عند الآية رقم: 90.
(5) ... الكشاف (4/214).
(6) ... في الأصل: أ. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(7) ... في الكشاف: تحتهن.(1/67)
الكلمة، ولكن بولغ في ذلك، فجُعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يَكَدْنَ ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. هذا خلاصة ما ذكره المفسرون.
ويجوز أن يكون الضمير في قوله تعالى: { من فوقهن } راجعة إلى الأرضين. وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى: { ما في السموات وما في الأرض } ، وهو الذي أشار إليه الزمخشري.
قوله تعالى: { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } أي: يُصَلُّون. وقيل: يُنَزِّهُون الله تعالى ويُعَظِّمُونه.
{ ويستغفرون لمن في الأرض } قال ابن السائب وغيره: سببُ استغفار الملائكة لمن في الأرض: أن الملائكة لما رأت المَلَكَين (1) [اللذين اختُبرا] (2) وبُعثا إلى الأرض [ليحكما بينهم] (3) ، فافتتنا بالزهرة -على ما حكيناه في البقرة-، فأتيا إدريس، وهو جد أبي نوح عليهما السلام فسألاه أن يدعو الله لهما، سبَّحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم (4) .
والذي يقتضيه البحث الصحيح: أنه من العام الذي يراد به الخصوص، وأن استغفارهم للمؤمنين خاصة، بدليل قوله تعالى في موضع آخر: { ويستغفرون للذين آمنوا } [غافر:7]، وقوله تعالى حاكياً عنهم: { فاغفر
__________
(1) ... أي: هاروت وماروت.
(2) ... في الأصل: الذين اختيراً. والتصويب من الماوردي (5/193).
(3) ... زيادة من الماوردي، الموضع السابق.
(4) ... ذكره الماوردي (5/193).(1/68)
للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [غافر:7].
ثم إن الله تعالى قد أخبر أن الملائكة يَلْعَنون الكفار في قوله تعالى: { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } [البقرة:161] فكيف تتوارد اللعنة والاستغفار على محل واحد؟ وهذا قول الضحاك والسدي (1) .
وزعم مقاتل (2) : أن هذه الآية منسوخة بالآية المخصوصة.
وليس هذا بشيء.
وزعم ابن السائب: أن المراد باستغفارهم لمن في الأرض: سؤال الرزق لهم (3) .
وقال صاحب الكشاف (4) : يحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله تعالى: { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } إلى أن قال: { إنه كان حليماً غفوراً } [فاطر:41]، وقوله تعالى: { إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [الرعد:6] والمراد: الحلم عنهم، وأن لا يُعاجلهم بالانتقام، فيكون عاماً.
وهذا قول محتمل.
والتفسير الصحيح ما ذكرته لك أولاً [فاعتمد] (5) عليه، فإن كتاب الله
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/193).
(2) ... تفسير مقاتل (3/173).
(3) ذكره الماوردي (5/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/273).
(4) الكشاف (4/214).
(5) في الأصل: فا تعتمد.(1/69)
تعالى يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً.
قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي: جعلوا له أنداداً يوالونهم ويعبدونهم من دون الله.
{ الله حفيظ عليهم } رقيبٌ عليهم على أحوالهم، وهو يتولى حسابهم وجزاءهم.
{ وما أنت عليهم بوكيل } أي: ما أنت يا محمد بموكل عليهم، فتقهرهم على الإيمان وتضطرهم إليه، إنما أنت رسول مبلغ.
وجمهور المفسرين قالوا: هذه الآية منسوخة بآية السيف (1) . وقد أوضحتُ لك منهج الصواب في هذه الآية وأضرابها في مواضع من كتابي، فاسلكه.
y7د9؛xx.ur أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:154)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:54).(1/70)
السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ارب
قوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } قال الزمخشري (1) : الكاف مفعول به لـ"أوحينا". و"قرآناً عربياً" حال من المفعول به، أي: [أوحيناه] (2) إليك، وهو قرآن عربي بيِّن، لا لَبْسَ فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حد الإنذار.
ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر "أوحينا"، أي: ومثلُ ذلك الإيحاء البيِّن المُفْهم أوحينا إليك قرآناً عربياً بلسانك { لتنذر } . يقال: أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عَدَّى الأول، أعني: "لتنذر أم القرى" إلى المفعول الأول، والثاني وهو قوله تعالى: { وتنذر يوم الجمع } إلى المفعول الثاني.
{ أم القرى } مكة، والمراد: لتنذر أهلها، { ومن حولها } في موضع نصب.
__________
(1) ... الكشاف (4/215).
(2) ... في الأصل: أوحينا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/71)
{ وتنذر يوم الجمع } وهو يوم القيامة، سمي بذلك لاجتماع الأولين والآخرين فيه. وفيه أقوال غير ذلك ذكرتها عند قوله تعالى: { لينذر يوم التلاق } في حم المؤمن (1) .
{ لا ريب فيه } مُفسَّر في أول سورة البقرة.
ثم أخبر الله تعالى عن حال المجموعين فيه فقال: { فريق في الجنة وفريق في السعير } .
أخرج الإمام أحمد من حديث شفي الأصبحي، عن عبدالله بن عمرو قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قابضاً على كفَّيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله، فقال: الذي في يدي اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم، عدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم، وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، وليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبدالله بن عمرو: ففيم العمل إذاً؟ فقال: اعملوا، وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي
__________
(1) ... في سورة غافر، عند الآية رقم: 15.(1/72)
عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال تعالى: { فريق في الجنة وفريق في السعير } )) (1) .
وفي لفظ آخر: ((فرغ [ربكم] (2) من العباد؛ فريق في الجنة وفريق في السعير)) (3) .
ثم أخبر الله تعالى أن افتراقهم الموجب لتفرقهم فرقتين في الجنة والسعير بمشيئته، فقال تعالى: { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } أي: جماعة متفقة على دين الإسلام؛ كقوله تعالى: { لجمعهم على الهدى } [الأنعام:35].
{ ولكن يدخل من يشاء في رحمته } قال أنس [بن] (4) مالك: في الإسلام (5) .
{ والظالمون } وهم الكافرون { ما لهم من ولي ولا نصير } .
دQr& اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/449 ح2141)، وأحمد (2/167 ح6563).
(2) ... في الأصل: ربك. والتصويب من مصادر التخريج.
(3) ... انظر: سنن الترمذي (4/449)، ومسند أحمد (2/167).
(4) ... زيادة على الأصل.
(5) ... ذكره الماوردي (5/194).(1/73)
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اتتب
قوله تعالى: { أم اتخذوا } الهمزة للإنكار، والفاء في { فالله } جوابُ شرطٍ مقدرٍ، أي: إن أرادوا ولياً حقيقاً بالولاية { فالله هو الولي } لا ما تولوه.(1/74)
وقال ابن عباس: فالله وليك يا محمد وولي من اتبعك (1) .
وفي قوله تعالى: { وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } حَضٌّ لهم على إفراد الله سبحانه وتعالى بالولاية؛ لاختصاصه بالقدرة، وتخويفٌ لهم من اتخاذهم أولياء من دونه، بما يستلزم إحياء الموتى من الحساب والجزاء على الأقوال والأعمال.
قوله تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء } أي: من شيء من أمر الدين أو من غيره { فحكمه إلى الله } تعالى.
قال مقاتل (2) : هو يحكم فيه.
قوله تعالى: { ذلكم الله ربي } "ذلكم": مبتدأ، "الله": عطف بيان، "ربي": نعت له، والخبر: قوله تعالى: { عليه توكلت وإليه أنيب } (3) .
قوله تعالى: { فاطر السموات والأرض } خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل، أو نعت، أو مبتدأ خبره: { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } (4) .
وقرئ شاذاً: "فاطرِ" بالجر (5) ، على معنى: فحكمه إلى الله فاطر السموات، وما بين الصفة والموصوف اعتراض.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/44)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/274).
(2) ... تفسير مقاتل (3/173).
(3) ... انظر: التبيان (2/224).
(4) ... انظر: التبيان (2/224)، والدر المصون (6/76).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/488)، والدر المصون (6/76). وهي قراءة زيد بن علي.(1/75)
{ جعل لكم } أي: خلق لكم { من أنفسكم } أي: من جنسكم من بني آدم { أزواجاً } ، قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي (1) : يعني: نساء، { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً، ذكوراً وإناثاً.
قال الزجاج (2) : المعنى: خلق الذكر والأنثى من الحيوان كلّه.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى: وخلق من الأنعام أزواجاً. ومعناه: وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً.
ويجوز عندي أن يكون المعنى: وجعل لكم يا بني آدم أزواجاً من جنسكم، وجعل لكم أيضاً من الأنعام أزواجاً، ذكوراً وإناثاً يتناسلون لأكلكم ولركوبكم، ولغير ذلك من أنواع الانتفاع المتعلق بها. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة:29].
ولأنه لو أراد المعنى الذي ذكره صاحب الكشاف لما اقتصر على بهيمة الأنعام؛ لأن جميع الحيوانات قد خلق الله تعالى لها من أنفسها أزواجاً، بل أراد الامتنان على عباده بما خلق لهم من الأزواج من جنسهم للسكون وغيره، ومن بهيمة الأنعام للأكل والركوب وغيرهما.
{ يذرؤكم } قال الفراء وغيره: يُكَثِّركم. يقال: ذرأ الله تعالى الخلق: بَثَّهم وكثَّرهم.
__________
(1) ... زاد المسير (7/275).
(2) ... معاني الزجاج (4/395).
(3) ... الكشاف (4/217).(1/76)
قال الزجاج (1) : يُكَثِّركم بجعْله منكم ومن الأنعام أزواجاً.
وقال السدي: يخلقكم (2) .
وقوله تعالى: { فيه } في الأرحام. وقيل: في البطن. وقيل: في الزوج. وقيل: "فيه" بمعنى: به، أي: يذرؤكم ويُكَثِّرُكُم بما جعل لكم من الأزواج.
وقال الزمخشري (3) : المعنى: يذرؤكم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في "يذرؤكم" يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء.
فإن قلت: هلا قيل: يذرؤكم به؟
قلتُ: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير؛ كما قال ثعلب: ليس كهو شيء، [والمثل] (4) زائد للتوكيد (5) . وقد ذكرنا هذا عند قوله: { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } في سورة البقرة (6) .
وقال الزجاج (7) : هذه الكاف مؤكدة، المعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: ليس مثل مثلِهِ شيء؛ لأن من قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى عن
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/395).
(2) ... أخرجه الطبري (25/11). وذكره السيوطي في الدر (7/339) وعزاه لابن جرير.
(3) ... الكشاف (4/217).
(4) ... في الأصل: المثل. والتصويب من الماوردي (5/195).
(5) ... انظر قول ثعلب في: الماوردي (5/195).
(6) ... عند الآية رقم: 137.
(7) ... معاني الزجاج (4/395).(1/77)
ذلك عُلُوّاً كبيراً.
وقال الزمخشري (1) : قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر.
¼çms9 مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) * شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
__________
(1) ... الكشاف (4/217).(1/78)
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ اتحب
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { شرع لكم } أي: بيّن وأوضح لكم { من الدين ما وصى به نوحاً } .(1/79)
قال قتادة: من تحليل الحلال وتحريم الحرام (1) .
قال الحكم: تحريم البنات والأمهات والأخوات (2) .
وقيل: التوحيد (3) .
وقال مجاهد: لم يبعث الله نبياً إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار لله تعالى بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم (4) . وهذا المعنى يروى عن ابن عباس.
وقيل: هو قوله تعالى: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . وفي هذه الآية مستدل لمن يرى أن ما لم ينسخ من شرع من قبلنا شرع لنا.
قوله تعالى: { أن أقيموا الدين } في محل النصب على البدل من مفعول "شَرَعَ"، أو في موضع الرفع (5) ، كأنه قيل: ما ذلك المشروع؟ فقال: هو إقامة الدين، ونحوه: { إن هذه أمتكم أمة واحدة } [الأنبياء:92].
{ كبر على المشركين } أي: عَظُمَ عليهم { ما تدعوهم إليه } من التوحيد ورفض الأنداد. { الله يجتبي إليه من يشاء } الضمير راجع إلى "الدين". والمعنى: الله يصطفي ويختار لدينه من شاء.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/15). وذكره السيوطي في الدر (7/340) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... ذكره الماوردي (5/196)، والسيوطي في الدر (7/340) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/276).
(4) ... ذكره الثعلبي (8/306).
(5) ... انظر: الدر المصون (6/77-78).(1/80)
ورأيت في بعض التفاسير: أنهم الذين ولدوا في الإسلام (1) .
{ ويهدي إليه } يرشد إلى دينه { من ينيب } يقبل إليه من أهل الكفر.
ثم ذمّ أهل الكتاب بكفرهم وظلمهم بعد إيمانهم وعلمهم فقال: { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } أن الفُرْقة ضلال وفساد.
وقيل: "من بعد ما جاءهم العلم": وهو نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته.
{ بغياً بينهم } قال الزجاج (2) : فعلوا ذلك بغياً بينهم، أي: للبغي.
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } وهو عِدَتُهُم بتأخيرهم إلى يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى: { بل الساعة موعدهم } [القمر:46].
{ لقضي بينهم } قضاء فصل بإنزال العذاب.
{ وإن الذين أورثوا الكتاب } من اليهود والنصارى { من بعدهم } أي: من بعد الرسل.
وقيل: "الذين أورثوا الكتاب": هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعد إسلامهم.
وقيل: "الذين أورثوا الكتاب": هم المشركون، والكتاب: القرآن.
"من بعدهم" أي: من بعد أهل الكتاب.
{ لفي شك منه مريب } أي: من الكتاب. وهو القرآن، على الأقوال كلها، أو التوراة، على القولين الأولين.
وقيل: لفي شك من محمد - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/197) من قول الكلبي.
(2) ... معاني الزجاج (4/396).(1/81)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ اتخب
قوله تعالى: { فلذلك } قال الفراء (1) : المعنى: فإلى ذلك، تقول: دعوت إلى فلان، ودعوت لفلان.
قال ابن السائب: المشار إليه: القرآن (2) .
وقال مقاتل (3) : التوحيد.
__________
(1) ... معاني الفراء (3/22).
(2) ... ذكره الماوردي (5/198)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/278).
(3) ... تفسير مقاتل (3/175).(1/82)
والأجود في نظري: أن تكون الإشارة إلى ما دلّ عليه قوله تعالى: { شرع لكم من الدين } .
وقال الزمخشري (1) : المعنى: فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تَشَعُّب الكفر شعباً { فادع } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية، { واستقم } عليها وعلى الدعوة إليها { كما أمرت } أي: كما أمرك الله تعالى في القرآن، { ولا تتبع أهواءهم } الباطلة المختلفة.
{ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } يريد: الإيمان بجميع الكتب المنزلة؛ لأن الذين تفرقوا آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض.
{ وأمرت لأعدل بينكم } إذا ترافعتم إليّ.
وقيل: لأعدل بينكم في تبليغ الرسالة.
{ الله ربنا وربكم } فهو يقضي بيننا وبينكم { لنا أعمالنا } عبادة الله ودين الإسلام، { ولكم أعمالكم } طاعة الشيطان وعبادة الأصنام { لا حجة بيننا وبينكم } أي: لا خصومة بيننا وبينكم في الدين.
فصل
ذهب أكثر المفسرين إلى نسخ ما اشتملت عليه هذه الآية من مشاهدة الكفار ومتاركتهم. وذهب جماعة من المفسرين إلى أنها محكمة، وأن المعنى: لا حجة بيننا وبينكم بعد ظهور الحق ووضوحه؛ لأن المحاجة بعد
__________
(1) ... الكشاف (4/220).(1/83)
ظهور الحجة لا حاجة إليها (1) .
tûïد%©!$#ur يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:155)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:54).(1/84)
أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ اتزب
قوله تعالى: { والذين يحاجون في الله } أي: يخاصمون في دينه.
قال قتادة: هم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم (1) .
وقال غيره: هم المشركون.
{ من بعد ما استجيب له } قال مجاهد: من بعد ما أسلم الناس (2) .
وقيل: من بعد ما أقروا بالميثاق.
والأظهر عود الضمير في "له" إلى الله تعالى.
وقيل: يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: من بعد ما استجاب الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - دعاءه على
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/19). وذكره السيوطي في الدر (7/342) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... أخرجه الطبري (25/19).(1/85)
المشركين يوم بدر.
{ حجتهم داحضة عند ربهم } أي: باطلة زائلة، وسمى خصومتهم حُجّة؛ لاعتقادهم أنها حجة، فهي كقوله تعالى: { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [الشعراء:27].
قوله تعالى: { الله الذي أنزل } إليك { الكتاب } يريد: القرآن، أو جنس الكتب { بالحق } أي: ملتبساً بالحق مقترناً، { والميزان } قال ابن عباس: يعني: العدل. وهذا قول قتادة وجمهور المفسرين (1) .
والمعنى: أنزل الأمر به في كتبه، وسمى العدل ميزاناً؛ لما فيه من ظهور الحق والتسوية بين الخلق.
وحُكي عن مجاهد أن المراد: الميزان الذي يوزن به (2) .
ومعنى إنزاله: إلهام الخلق العمل به.
{ وما يدريك لعل الساعة قريب } مُفسَّر في أواخر سورة الأحزاب (3) .
فإن قيل: كيف طابق ذكر اقتراب الساعة وذكر إنزال الكتاب والميزان؟
قلتُ: براهين وجوب الإيمان بالكتاب والاعتصام بالعدل قطعية، وشهود ثبوتها مقبولة عند حاكم العقل، فالمعتاد لمعظم الناس [عند] (4) الأخذ بذلك
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/20)، ومجاهد (ص:575). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/280)، والسيوطي في الدر (7/342) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/280).
(3) ... عند الآية رقم: 63.
(4) ... في الأصل: عن. ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/86)
إنما هو الركون إلى الحياة الدنيا والسكون إلى شهواتها، والاغترار بزينتها، فوعظهم بقرب مجيء الساعة مُعَرِّضاً بفناء الدنيا وذهاب ما اغتروا به من شهواتها وزينتها، استمالة لهم إلى الدين المنجي من عذابها.
وقال الزمخشري في جواب هذا السؤال (1) : الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم.
قوله تعالى: { ألا إن الذين يمارون في الساعة } أي: يجادلون ويلاجون، كأنّ كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، أي: يستخرجه.
قال الزجاج (2) : "يُمارُون": تدخلهم المِرْيَة والشك.
و"اللطيف": مُفسّر في الأنعام (3) .
{ يرزق من يشاء } أي: يوسع له في الرزق؛ لأن رزقه واصل إلى جميع الخلق.
`tB كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
__________
(1) ... الكشاف (4/221).
(2) ... معاني الزجاج (4/397).
(3) ... عند الآية رقم: 103.(1/87)
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ(1/88)
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ اثثب
قوله تعالى: { من كان يريد حرث الآخرة } أي: من كان يريد بعمله ثواب الآخرة { نزد له في حرثه } الحسنة بعشر أمثالها ونزيد.
وقيل: نزد له نشاطاً وقوة في الطاعة.
{ ومن كان يريد حرث الدنيا } قال ابن قتيبة (1) : يقال: فلان يحرث للدنيا، أي: يعمل لها ويجمع المال.
{ نؤته منها } قال السدي: هو المنافق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيه سهمه من الغنيمة.
{ وما له في الآخرة من نصيب } لأنه عمل لغير الله.
قوله تعالى: { أم لهم شركاء } الهمزة للتقرير والتقريع، وشركاؤهم: شياطينهم الذين أطاعوهم في الشرك وإنكار البعث وإرادة حرث الدنيا، وهذا هو الدين الذي شرعوه لهم لم يأذن به الله.
{ ولولا كلمة الفصل } وقد سبق تفسيرها { لقضي بينهم } أي: بين المؤمنين والكافرين، أو بين المشركين وشركائهم.
قوله تعالى: { وإن الظالمين } يعني: المشركين، بدليل قوله تعالى: { ترى الظالمين } يعني: في الآخرة { مشفقين مما كسبوا } أي: خائفين مما اجترحوا من الشرك والشك والأعمال السيئة.
ثم قابل ذلك بقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:392).(1/89)
الجنات لهم ما يشاؤون } يتمنّون { عند ربهم } منصوب على الظرف لا [بـ"يشاؤون"] (1) ، { ذلك هو الفضل الكبير } المنّ العظيم.
y7د9؛sŒ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ
__________
(1) ... في الأصل: يشاؤون. والتصويب من الكشاف (4/222).(1/90)
الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ اثحب
قوله تعالى: { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: "يَبْشُر" بفتح الياء وضم الشين، وقرأ باقي القراء العشرة من جميع طرقهم "يُبَشِّر" بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديدها (1) . فالقراءة الأولى من بَشَرَهُ يَبْشُرُه، والثانية من بَشَّرَهُ يُبَشِّرُه.
وقرأ حميد بن قيس: "يُبْشِرُ" (2) ، من أبْشَرَ، يقال: بَشَرَ وأبْشَر وبَشَّر.
قال صاحب الكشاف (3) : والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى: { واختار موسى قومه } [الأعراف:155]، ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى: { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [الفرقان:41]، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده.
قوله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } اختلفوا في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/20)، والحجة لابن زنجلة (ص:640-641)، والنشر (2/239-240)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:205-206).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (7/493)، والدر المصون (6/80).
(3) ... الكشاف (4/222-223).(1/91)
سبب نزوله على قولين:
أحدهما: أن المشركين اجتمعوا في مجمع فقال بعضهم لبعض: أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟. قاله قتادة (1) .
وقال ابن عباس: كانوا يؤذونه بمكة، فنزلت هذه الآية (2) .
الثاني: أنه لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة، فقالت الأنصار: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هداكم الله تعالى به وليس في يده سعة، فاجمعوا له من أموالكم ما لا يضركم، ففعلوا، ثم أتوه به، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس أيضاً (3) .
وفي هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه متصل، على معنى: لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وهذا لقريش خاصة؛ لأنه لم يكن بطن من بطونهم إلا وبينه وبينهم قرابة (4) . وهذا المعنى قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/283).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3275). وذكره السيوطي في الدر (7/346) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ... ذكره الثعلبي (8/310).
(4) ... قال الحافظ ابن كثير (4/114): ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين.(1/92)
والأكثرين (1) .
أو على معنى: إلا أن تودوا أهل قرابتي، وهو قول علي بن الحسين وسعيد بن جبير والسدي (2) .
ثم المراد بقرابته قولان:
أحدهما: أنهم فاطمة وعلي وولداهما رضي الله عنهم. روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
القول الثاني: أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس، وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
فإن قيل: أي: المعنيين أشبه بسبب النزول؟
قلتُ: المعنى الأول أشبه بقول ابن عباس الأول وقول قتادة. والمعنى الثاني أشبه بقول ابن عباس الأخير.
الوجه الثاني: أنه استثناء منقطع، على معنى: لكن أسألكم أن تودوني لقرابتي، أو تودوا قرابتي أهل بيتي.
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:575)، والطبري (25/23)، وابن أبي حاتم (10/3275). وذكره السيوطي في الدر (7/346) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه الطبري (25/25). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/284)، والسيوطي في الدر (7/348) وعزاه لسعيد بن منصور عن سعيد بن جبير.
(3) ... أخرجه الطبراني في الكبير (3/47 ح2641)، وابن أبي حاتم (10/3276). وذكره السيوطي في الدر (7/348) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.(1/93)
وقال الحسن: المعنى: إلا أن تودوا لله تعالى وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح (1) .
وقال ابن زيد: إلا أن تودوا لي كما تودون قرابتكم (2) . هذا بالقول الثاني في سبب النزول أشبه.
وقيل (3) : إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم (4) . وهو بعيد.
قوله تعالى: { ومن يقترف حسنة } أي: يكتسب حسنة، { نزد له فيها حسناً } .
وقرأتُ لأبي عمرو من رواية عبدالوارث: "يَزِدْ" بالياء (5) ، وهي قراءة جماعة، منهم: ابن السميفع، وعاصم الجحدري.
وزيادة حسنها من جهة الله تعالى: مضاعفتها.
والظاهر: عمومها في أي حسنة كانت.
وروى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى: { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً } قال: [المودة لآل] (6) محمد - صلى الله عليه وسلم - (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/26). وذكره الماوردي (5/202).
(2) ... أخرجه الطبري (25/24). وذكره الماوردي (5/202).
(3) ... قوله: "وقيل" مكرر في الأصل.
(4) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/202) من قول عبدالله بن القاسم، وابن الجوزي في زاد المسير (7/285) حكاية عن الماوردي.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/285)، والدر المصون (6/80).
(6) ... في الأصل: المراد آل. والتصويب من الدر المنثور (7/348).
(7) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/348).(1/94)
{ إن الله غفور } يغفر لمن تاب وأناب { شكور } يشكر اليسير ويجزل عليه الثواب.
قوله تعالى: { أم يقولون افترى على الله كذباً } "أمْ" منقطعة، والاستفهام بمعنى التوبيخ، تقديره: بل أيقول الكفار: أفترى محمد - صلى الله عليه وسلم - على الله كذباً؟
{ فإن يشأ الله يختم على قلبك } قال مجاهد: يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم (1) .
وقال قتادة: "يختم على قلبك": ينسيك القرآن (2) ، ويقطع عنك الوحي.
يعني: لو افترى على الله الكذب لفعل ذلك به.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله. ومثال ذلك: أن يخون بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلني، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب. وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله. ثم قال (4) : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق { بكلماته } بوحيه أو بقضائه، كما قال تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه }
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/203) عن مقاتل، والواحدي في الوسيط (4/53) بلا نسبة.
(2) ... أخرجه الطبري (25/27). وذكره السيوطي في الدر (7/350) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... الكشاف (4/226).
(4) ... أي: الزمخشري في الكشاف.(1/95)
[الأنبياء:18] يعني: لو كان مفترياً كما تزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عِدَةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يمحو الباطل الذي هُم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم.
وقال الفراء في قوله تعالى: { ويمحو الله الباطل } (1) : ليس بمردود على "يختم" فيكون جزماً، وإنما هو مستأنف، ومثله مما حذف منه الواو: { ويدع الإنسان بالشر } [الإسراء:11].
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: والله يمحو الباطل (2) .
وقال الزجاج (3) : الوقف عليها "ويمحو" بواو. والمعنى: والله يمحو، غير أنها كتبت في المصحف بغير واو؛ لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين.
uqèdur الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
__________
(1) ... معاني الفراء (3/23).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/286).
(3) ... معاني الزجاج (4/399).(1/96)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ اثرب(1/97)
قوله تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } مُفسّر في سورة براءة (1) .
{ ويعلم ما يفعلون } قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "تفعلون" بالتاء، على الخطاب لجميع المكلفين. وقرأ الباقون بالياء، حملاً على ما قبله من الغيبة (2) .
قوله تعالى: { ويستجيب الذين آمنوا } أي: يستجيب لهم، فحذف اللام، كما [حذف] (3) في قوله تعالى: { وإذا كالوهم } .
أو يكون المعنى: ويستجيب دعاء الذين آمنوا.
قال ابن عباس في قوله تعالى: { ويستجيب الذين آمنوا } قال: يشفعهم في إخوانهم، { ويزيدهم من فضله } قال: يشفعهم في إخوان إخوانهم (4) .
وقيل: المعنى: ويستجيب الذين آمنوا لله بالطاعة، جعلوا الفعل للمؤمنين. وهو قول بعيد؛ لأن ما قبله وبعده خبر عن الله تعالى.
قوله تعالى: { ولو بسط الله الرزق لعباده } قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها، فأنزل الله تعالى: { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في
__________
(1) ... عند الآية رقم: 104.
(2) ... الحجة للفارسي (3/362)، والحجة لابن زنجلة (ص:641)، والكشف (2/251)، والنشر (2/367)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:580-581).
(3) ... زيادة من الكشاف (4/227).
(4) ... أخرجه الطبري (25/29). وذكره السيوطي في الدر (7/351) وعزاه لابن جرير من طريق قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي.(1/98)
الأرض... الآية } (1) .
والمعنى: لو وسع عليهم فيه لطغوا وتطاول بعضهم على بعض. وشاهدُ صحةِ ذلك ما عُرف وأُلف من أحوال ذوي البسطة في المال والقدرة.
وقيل: هو من البغي الذي هو بمعنى الكبر، أي: لتكبروا في الأرض وراموا العلو فيها.
قال ابن عباس: بغيُهم طلبُهم منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركباً بعد مركب، وملبساً بعد ملبس (2) .
قال بعض السلف: لو رزق الله تعالى العباد بغير كسب لطغوا وبغوا وسعوا في الأرض فساداً، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش رحمةً منه وامتناناً (3) .
{ ولكن ينزل بقدر ما يشاء } أي: ينزل أرزاقهم بمقدار تقتضيه حكمته وعلمه.
{ إنه بعباده خبير بصير } فهو يعلم ما فيه صلاحهم وفسادهم.
فإن قيل: نرى البغي موجوداً في الأرض بدون البسط في الرزق؟
قلتُ: لعمري إنه لموجود، لكنه لو بسط لهم الرزق لتضاعف البغي بتضاعفه، فكأن عدم البسط مقللاً لا مزيلاً بالكلية.
قوله تعالى: { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } قرأ نافع
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/54)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/287).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/27).
(3) ... أخرجه الثعلبي (8/317) من قول شقيق بن إبراهيم الزاهد.(1/99)
وعاصم وابن عامر: "يُنَزِّلُ" بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف (1) . وقد سبق ذكره.
"من بعد ما قنطوا": أيسوا منه.
{ وينشر رحمته } قال السدي: المطر (2) . ويؤيد ذلك قوله تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح نشراً (3) بين يدي رحمته } [الأعراف:57].
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أجدبت الأرض وقنط الناس؟ قال: مطرتم إذاً، ثم قال: { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } (4) . وهذا المعنى قول عامة المفسرين.
وحكى أبو سليمان الدمشقي: أن الرحمة: الشمس بعد المطر (5) .
{ وهو الولي الحميد } الذي يتولى عباده بإحسانه، الحميد المحمود على ذلك.
ô`دBur آَيَاتِهِ خَلْقُ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (1/344)، والحجة لابن زنجلة (ص:641)، والكشف (1/254)، والنشر (2/218-219)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:164-166).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/29).
(3) ... وقراءة حفص: { بشراً } .
(4) ... أخرجه الطبري (25/31). وذكره السيوطي في الدر (7/353) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/288).(1/100)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ اجةب
قوله تعالى: { وما بث فيهما من دابة } يجوز أن يكون محمولاً على المضاف فيكون مرفوعاً، أو المضاف إليه فيكون مجروراً.
فإن قيل: الدواب في الأرض فكيف قال: { ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما } ؟
قلتُ: هو مثل قوله تعالى: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن:22] وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح، وسِرُّ ذلك: أن الشيء يجوز أن ينسب إلى جملته هو ملتبس [ببعضها] (1) ، كقوله عليه الصلاة
__________
(1) ... في الأصل: بعضها. ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/101)
والسلام: ((ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل)) (1) ، ومعلوم أن خزاعة لم يتمالؤوا على قتل الهذلي، وإنما قتله بعضهم.
ومثله قول بعض بني هاشم:
وعند غني قطرة من دمائنا ... ... وفي أسد أخرى تعدّ وتذكر (2)
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشي مع الطيران، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي. ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في السموات حيواناً يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض (3) .
{ وهو على جمعهم } بعد تمزقهم وتمزق أشعارهم وأبشارهم { إذا يشاء قدير } .
قال الزمخشري (4) : "إذا" تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال الله تعالى: { والليل إذا يغشى } [الليل:1]، ومنه: { إذا يشاء } ، وقال الشاعر:
وإذا ما أشاء أبعث منها ... ... آخر الليل ناشطاً [مذعورا] (5)
قوله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قرأ نافع وابن
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (4/172 ح4504).
(2) ... البيت لابن أبي عقب الليثي، وهو في: تاريخ الطبري (3/332، 466).
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/229).
(4) ... الكشاف (4/229).
(5) ... في الأصل: مذاعورا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
... والبيت لكعب بن زهير، وهو في: القرطبي (1/201، 5/291)، وروح المعاني (25/40).(1/102)
عامر: "بما كسبت" بغير فاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون "فبما كسبت" بالفاء، وكذلك هي في سائر المصاحف (1) .
قال الزجاج (2) : وهي أجود.
قال أبو علي (3) : اعلم أن "ما" من قوله: { وما أصابكم من مصيبة } يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون شرطاً، ويكون قوله تعالى: { أصابكم } في موضع جزم بالشرط، فمن قدرها هذا التقدير لم يجز عنده حذف الفاء من قوله تعالى: { فبما كسبت } على قول سيبويه، وغيره يجيز ذلك، ويستدل عليه بقوله تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [الأنعام:121].
والآخر: أن يكون "ما" بمعنى: الذي، ويكون "أصابكم" صلة "ما". فمن قدر "ما" هذا التقدير فإثبات الفاء وحذفها جائزان على معنيين مختلفين، أما إذا ثبتت الفاء ففي إثباتها دليل على أن الأمر الثاني وجب بالأول، وذلك نحو قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } [البقرة:274]، ثم قال تعالى: { فلهم أجرهم } [البقرة:274] فثبات الفاء يدل على أن وجوب الأجر إنما [هو] (4) من أجل الإنفاق، ومثل ذلك قوله تعالى: { وما بكم من نعمة فمن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/362-363)، والحجة لابن زنجلة (ص:642)، والكشف (2/251)، والنشر (2/367)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:581).
(2) ... معاني الزجاج (4/399).
(3) ... الحجة للفارسي (3/363).
(4) ... زيادة من الحجة (3/363).(1/103)
الله } [النحل:53]، وإذا لم تذكر الفاء جاز أن يكون الثاني وجب للأول، وجاز أن يكون لغيره.
قال (1) : والأولى إذا كان جزاءً غير جازم -يعني: أن تكون "ما" بمعنى: الذي- أن تثبت الفاء؛ كقوله تعالى: { ما أصابك من حسنة فمن الله } [النساء:79].
واختلفت أقوال المفسرين في معنى الآية، فقال الحسن البصري: وما أصابكم من الحدود على المعاصي فبما كسبت أيديكم (2) .
وقال غيره: المعنى ما أصاب المؤمن من مكروه في نفس أو مال أو ولد أو غيره فبما كسبت يده من الذنوب.
قال مرة الهمداني: رأيتُ على كف شريح قرحة فقلت: يا أبا أميّة ما هذا؟ قال: بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (3) .
وقال أحمد بن أبي الحواري: قيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: لأنهم علموا أن ما ابتلاهم الله تعالى به بذنوبهم. قال الله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } (4) .
وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله
__________
(1) ... أي: أبو علي الفارسي في الحجة (3/363).
(2) ... أخرجه الطبري (25/32-33). وذكره الماوردي (5/204)، والسيوطي في الدر (7/355) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الثعلبي (8/320).
(4) ... أخرجه الثعلبي (8/320).(1/104)
ليبلغه إياها إلا بها (1) .
فإن قيل: ما بال الطفل والمجنون يصابان ولا ذنب لهما؟
قلتُ: لما ذكرته آنفاً، وهو في حقهما لرفع درجتهما إن كانا من أهل السعادة، كما يمتحن النبي والولي.
فإن قيل: يجوز أن تكون الآية متناولة للكافر أيضاً؟
قلتُ: نعم، ويكون ما أصابه في الدنيا من البلاء من جملة ما يعذب به.
فإن قيل: على هذا فما نصنع بقوله تعالى: { ويعفو عن كثير } ؟
قلتُ: يكون مخصوصاً بالمؤمنين، أو يكون على عمومه في حق الناس، صالحهم وطالحهم، وغير ممتنع عقلاً وشرعاً أن يتجاوز الله تعالى عن بعض ذنوبه، فلا يعذبه عليها.
!$tBur أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
__________
(1) ... ذكره الثعلبي، الموضع السابق.(1/105)
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ اجخب
وما بعده مُفسّر إلى قوله: { ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام } أي: ومن عجائب مخلوقاته الجواري.
أثبت الياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب، ووافقهما في الوصل: نافع وأبو جعفر وأبو عمرو، وحذفها باقي العشرة في الحالين (1) . وقد أشرنا إلى علة ذلك فيما مضى.
والمراد بالجواري: السُّفُن، واحدتها: جارية، وهي السائرة في البحر.
"كالأعلام": وهي الجبال، واحدها: عَلَم.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/363)، والحجة لابن زنجلة (ص:642)، والكشف (2/254)، والنشر (2/368)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:581).(1/106)
قال الخليل: كل موضع مرتفع عند العرب فهو عَلَم.
قالت الخنساء:
وإنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهداةُ به ... ... كأنهُ عَلَمٌ في رأسه نَارُ (1)
{ إن يشأ يسكن الريح } يريد: جنس الرياح.
وفي قراءة أبي جعفر ونافع: "الرياح" على الجمع (2) .
{ فيظللن } يعني: الجواري { رواكد } ثوابت { على ظهره } أي: على ظهر البحر واقفات لا يجرين.
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار } على البلاء { شكور } على النعماء.
{ أو يوبقهن } يهلكهن { بما كسبوا } بسبب ما كسبوا من الذنوب { ويعف عن كثير } .
قوله تعالى: { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } قرأ نافع وابن عامر: "ويعلمُ" بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب (3) .
فمن رفع؛ فعلى الاستئناف حيث كان بعد الجزاء، وإن شئت جعلته خبر مبتدأ محذوف.
__________
(1) ... البيت للخنساء. انظر: ديوانها (ص:49)، والقرطبي (16/32)، والبحر (7/497)، والدر المصون (6/82)، وروح المعاني (22/226، 25/42).
(2) ... الحجة للفارسي (1/396)، والحجة لابن زنجلة (ص:118-119)، والكشف (1/270)، والنشر (2/223)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:173).
(3) ... الحجة للفارسي (3/363-364)، والحجة لابن زنجلة (ص:643)، والكشف (2/251)، والنشر (2/367)، والإتحاف (ص:383)، والسبعة (ص:581).(1/107)
ومن نصب؛ قال الزمخشري (1) : عطف على تعليل محذوف، تقديره: ولينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، ونحوه قوله تعالى: { ولنجعله آية للناس } [مريم:21].
وقال مكي رحمه الله (2) : من نصب فعلى الصرف. ومعنى الصرف: أنه لما كان قبله شرط وجواب، وعطف "ويعْلَمَ" عليه لا يحسن في المعنى؛ لأن علم الله تعالى واجب، وما قبله غير واجب، فلم يحسن الجزم في "يعلم" على العطف على الشرط وجوابه، لأنه يصير المعنى: وإن يشأ يعلم، فلما امتنع العطف عليه على لفظه، عطف على مصدره، والمصدر اسم، فلم يمكن عطف فعل على اسم، فأضمر "أن" ليكون مع الفعل اسماً، فيعطف اسماً على اسم، فانتصب الفعل بـ"أن" المضمرة، فالعطف مصروف عن لفظ الشرط إلى معناه، فلذلك قيل: نُصِبَ على الظرف، وعلى هذا أجازوا: إن تأتني وتعطيَني أُكرمْك، فنصبوا "تعطيني" على الصرف؛ لأنه صرف عن العطف على "تأتني"، فعطف على مصدره، فأضمرت "أن" لتكون مع الفعل مصدراً، فيعطف اسم على اسم، ولو عطف على "تأتني" كان المعنى: إن تأتني وإن تعطي أكرمك. فبوقوع أحد الفعلين يقع الإكرام إذا جزمت، وعطفتَ على لفظ "تأتني"، ولم يرد المتكلم هذا، إنما أراد: إذا اجتمع الأمران منكَ وقع مني الإكرام، فالتقدير: إن يكن منك إتيان وإعطاء أكرمك.
ومعنى الآية: ويعلم الذين يجادلون في آيتنا ويخاصمون فيها بالباطل
__________
(1) ... الكشاف (4/232).
(2) ... الكشف (2/252).(1/108)
عند إحاطة الهلاك والغرق بهم.
وقيل: يعلمون بعد البعث.
{ ما لهم من محيص } أي: مهرب ومَعْدِل.
!$yJsù أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ(1/109)
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ اجزب
قوله تعالى: { والذين يجتنبون كبائر الإثم } وقرأ حمزة والكسائي: "كَبِيرَ الإثم" (1) ، أي: عظيمه. والمراد: الجمع.
وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء عند قوله تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [النساء:31]، وهو معطوف على قوله تعالى: { الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وكذلك ما بعده.
{ والفواحش } الذنوب المفرطة في القبح، { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } أي: هم الأجدرون بأن يغفروا حالة الغضب ويكظموا على ما في أنفسهم، رغبة في الثواب ورهبة من العقاب.
وقد ذكرنا في سورة آل عمران (2) وأواخر الأعراف (3) طرفاً من الأخبار والآثار الواردة في فضل الكظم والعفو والتجاوز عند الغضب.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/365)، والحجة لابن زنجلة (ص:643)، والكشف (2/253)، والنشر (2/367-368)، والإتحاف (ص:383-384)، والسبعة (ص:581).
(2) ... عند تفسير الآية رقم: 134.
(3) ... عند تفسير الآية رقم: 199.(1/110)
قوله تعالى: { والذين استجابوا لربهم } أجابوه فيما دعاهم إليه، { وأقاموا الصلاة } مُفسّر في أول سورة البقرة.
{ وأمرهم شورى بينهم } أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه. فأثنى الله تعالى عليهم بذلك.
قال الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم (1) .
وقد أشرنا إلى فضيلة المشاورة في سورة آل عمران عند قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر } [آل عمران:159].
والشورى مصدر بمعنى التشاور.
ومعنى قوله تعالى: { وأمرهم شورى بينهم } أي: ذو شورى.
قال علي عليه السلام: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الله [والخير] (2) ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فأنزل الله تعالى: { فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } (3) إلى قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } (4) . خص به أبا بكر وعمَّ به من اتبعه.
قوله تعالى: { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } قال ابن جريج: إذا بغى المشركون عليهم انتصروا بالسيف منهم (5) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص:100). وذكره الماوردي (5/206)، والسيوطي في الدر (7/357) وعزاه لعبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر.
(2) ... في الأصل: لخير. والتصويب من الكشاف (4/233).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: وزينتها. وهو خطأ.
(4) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/232-233)، والقرطبي (16/36).
(5) ... ذكره الماوردي (5/206)، والسيوطي في الدر (7/358) وعزاه لابن المنذر.(1/111)
وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين بمكة، فرقة منهم كانت تؤذى فتعفو عن المشركين، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر، فأثنى الله تعالى عليهم جميعاً، فقال في الذين لم ينتصروا: { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وقال في المنتصرين: { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } (1) .
وقال في رواية أخرى عنه: ذكر الله تعالى المهاجرين وكانوا (2) صنفين، صنفاً عفى (3) ، وصنفاً انتصر فقال: { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } فبدأ بهم، وقال [في المنتصرين: { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } وقال] (4) : { والذين استجابوا لربهم } إلى قوله: { ينفقون } وهم الأنصار، ثم ذكر الصنف الثالث فقال: { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } من المشركين (5) .
وقيل: إنها عامة في جميع الناس.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا (6) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/291).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: "له". وانظر النص في: زاد المسير (7/291).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: "الله تعالى عنهم" وهو وهم. انظر: الطبري (25/37)، وزاد المسير (7/291).
(4) ... زيادة من زاد المسير (7/291-292).
(5) ... أخرجه الطبري (25/37). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/291-292).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3279). وذكره البخاري تعليقاً (2/863)، والسيوطي في الدر (7/357) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/112)
فإن قيل: هل يحمدون على الانتصار؟
قلتُ: نعم إذا لم يكن المنتصر متعدياً فيه؛ لأنه إذا تجرأ في الانتصار فَجَانَبَ ما لا يسيغه الشارع له، وفَعَلَ ما يبيحه له كان مطيعاً لله تعالى، ألا ترى أن مجتنب المعاصي ممدوح محمود في الآية السالفة، وهي قوله تعالى: { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } .
فإن قيل: فكيف يجمع بين هذه الآية الدالة على كونهم محمودين وبين الآيات المشتملة على فضيلة العفو؟
قلتُ: لا تناقض بين الحالتين، فإن المنتصر على الوجه المشروع محمود على الوجه الذي ذكرناه، والعافي له رتبة الفضيلة، حيث أغضى عن حقه وكظم على ما في نفسه ابتغاء وجه الله تعالى، وصار هذا بمنزلة من استحق دَمَ إنسان قصاصاً، فإنه إن طالب القصاص على الوجه المشروع أو الدية على الوجه المقدر في الشرع كان محسناً باعتبار اقتفائه أثر الشرع، وإن عفى كان أجمل وأفضل.
(#نtآt"y_ur سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)(1/113)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ احجب
قوله تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } مثل قوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } [البقرة:194]. وقد سبق الكلام عليه.
قال مجاهد والسدي: إذا قال له كلمة أجابه بمثلها من غير أن يتعدَّى (1) .
وقال مقاتل (2) : هذا في القصاص في الجراحات والدماء.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/38). وذكره السيوطي في الدر (7/359) وعزاه لابن جرير.
(2) ... تفسير مقاتل (3/180).(1/114)
ثم رغب في العفو فقال: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } تعالى.
قال الحسن: إذا كان يوم القيامة ينادي مُنادٍ: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا (1) .
{ إنه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظلم.
{ ولمن انتصر بعد ظلمه } هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول. ويفسره قراءة من قرأ: "بعد (2) ما ظُلِمَ" (3) .
{ فأولئك } إشارة إلى معنى "من" دون لفظها { ما عليهم من سبيل } بعقاب ولا عاب ولا عتاب.
{ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } يبتدؤونهم بالظلم، { ويبغون في الأرض } بالفساد والتكبر { بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم } .
{ ولمن صبر وغفر } أي: صبر على الظلم، وغفر فلم ينتصر { إن ذلك لمن عزم الأمور } مُفسّر في آل عمران (4) .
ويروى: أن رجلاً سَبَّ رجلاً في مجلس الحسن البصري، فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله [وفهمها] (5) إذ ضيّعها الجاهلون (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/58)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/293)، والسيوطي نحوه في الدر (7/359) وعزاه لابن مردويه.
(2) ... في الأصل زيادة قوله: من. وانظر النص في: المصادر التالية.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (7/500)، والدر المصون (6/86).
(4) ... عند الآية رقم: 186.
(5) ... زيادة من القرطبي (16/44).
(6) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/44).(1/115)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ(1/116)
الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ احدب
قوله تعالى: { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } أي: ما له من ولي بعد الله يتولى هدايته، أو منعه من الله تعالى.
{ وترى الظالمين لما رأوا العذاب } في الدار الآخرة { يقولون هل إلى مردّ من سبيل } مرجع إلى الدنيا لنصلح ما أفسدنا.
{ وتراهم يعرضون عليها } أي: على النار، ودلّ عليها ذكر العذاب من قبل.
{ خاشعين } خاضعين متواضعين { من الذل } . وبعض القُرّاء يقف على: "خاشعين"، ويبتدئ: { من الذل ينظرون من طرف خفي } فيجعل "من الذل" متعلقاً بـ"ينظرون".
قال الأخفش (1) : الطَّرْفُ: العين.
قال ابن عباس: "من طرف خفي": أي: ذليل (2) .
__________
(1) ... معاني الأخفش (ص:282).
(2) ... أخرجه الطبري (25/42)، وابن أبي حاتم (10/3280). وذكره السيوطي في الدر (7/361) وعزاه لابن جرير.(1/117)
وقال قتادة: يسارقون النظر (1) .
وقال أبو عبيدة (2) : ينظرون ببعض العين.
ويروى: أنهم يحشرون عُمْياً فلا ينظرون إلى النار إلا بقلوبهم، وهو النظر من طرف خفي (3) .
وفيه بُعْدٌ.
وكان يونس يقول: "مِنْ" بمعنى الباء، [مجازه] (4) : بطرف خفي (5) .
قوله تعالى: { يوم القيامة } إن تعلق بـ"خسروا"؛ كان المعنى: وقال الذين آمنوا في الدنيا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وإن تعلق بـ"قال"؛ كان المعنى: وقال الذين آمنوا يوم القيامة إذا رأوا المشركين على الصفة الفظيعة والحال الشنيعة: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
(#qç7ٹةftGَ™$# لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/42). وذكره السيوطي في الدر (7/361) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... مجاز القرآن (2/201).
(3) ... ذكره الطبري (25/42)، والماوردي (5/210).
(4) ... في الأصل: محازة.
(5) ... انظر: القرطبي (16/46).(1/118)
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ احرب
قوله تعالى: { استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله } أي: استجيبوا له [بالتوحيد] (1) والطاعة.
وقوله: { من الله } "مِنْ" صلة "لا مردّ"، على معنى: لا يرده الله بعد ما حكم به، أو "مِنْ" صلة "يأتي"، أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد
__________
(1) ... في الأصل: التوحيد.(1/119)
على ردِّه.
{ ما لكم من ملجأ يومئذ } تلجؤون إليه { وما لكم من نكير } يحتمل وجهين:
أحدهما: من منكر ينكر ويغيِّر ما بكم. قاله ابن السائب (1) .
الثاني: ما لكم من إنكار، أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئاً. قاله جماعة، منهم الزجاج (2) .
{ فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } سبق تفسيره (3) .
{ إن عليك إلا البلاغ } منسوخ بآية القتال عند أكثر المفسرين (4) .
{ وإنا إذا أذقنا الإنسان } (5) هو اسم جنس.
قال المفسرون: يريد: الكافر.
{ منا رحمة } نعمة من صحة وغنى وغيرهما، { فرح بها } أعجب بها غير شاكر ولا ذاكر.
{ وإن تصبهم سيئة } بلاء من مرض وفقر وغيرهما { فإن الإنسان كفور } بالله ونعمه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/210).
(2) ... معاني الزجاج (4/402).
(3) ... في سورة النساء، آية رقم: 80.
(4) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:157)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:55).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: رحمة هم.(1/120)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ اخةب
قوله تعالى: { لله ملك السموات والأرض } خزائنهما وما فيهما، فهو يتصرف كيف يشاء، { يهب لمن يشاء إناثاً } كما وهب للوط وشعيب عليهما السلام، { ويهب لمن يشاء الذكور } كإبراهيم ويعقوب.
{ أو يزوجهم } يقرنهم { ذكراناً وإناثاً } كما وهب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال مجاهد وجمهور المفسرين: هو أن تلد المرأة غلاماً ثم جارية، ثم غلاماً ثم جارية (1) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:577)، والطبري (25/44). وذكره الماوردي (5/211).(1/121)
وقال محمد بن الحنفية: أن تلد المرأة توأمين ذكراً وأنثى (1) .
{ ويجعل من يشاء عقيماً } لا يولد له؛ كيحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم عليهما السلام.
وهذه الأقسام موجودة في جميع الناس، وإنما ذكرنا الأنبياء عليهم السلام تمثيلاً.
{ إنه عليم } بمصالح العباد وما يصلح لكل واحد منهم من الأولاد { قدير } على ما يصلحهم.
قال الزمخشري (2) : فإن قلت: لم قدم الإناث أولاً على الذكور مع تقدمهم عليهنّ، ثم رجع فقدمهم، ولم عرّف الذكور بعدما نكّر الإناث؟
قلتُ: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما [يشاؤه] (3) لا [ما] (4) يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ، والأهمّ واجب التقديم، ولِيَلي الجنس الذي كانت العرب [تَعُدُّهُ] (5) بلاءً ذكر البلاء، فلما أخَّرَهم لذلك تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشهير،
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/211)، والسيوطي في الدر (7/362) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... الكشاف (4/236-237).
(3) ... زيادة من الكشاف (4/237).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: بعده. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/122)
كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، لكن لمقتضى آخر.
* وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ(1/123)
مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ اخجب
قوله تعالى: { وما كان لبشر } سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً [صادقاً] (1) كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم: لم ينظر موسى إلى الله، ونزلت هذه الآية (2) .
ومعنى الآية: ما صلح لبشر { أن يكلمه الله } إلا على أحد أوجه ثلاثة:
{ إلا وحياً } في المنام، أو بطريق الإلهام، كما أوحى إلى إبراهيم في ذبح ولده، وإلى أم موسى بما قذف في قلبها، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
وأوْحَى إليَّ اللهُ أنْ قَدْ تَأمَّرُوا ... بإبل أبي أوفى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ (3)
أي: ألهمني وقذف في قلبي.
{ أو من وراء حجاب } وهو أن يسمع كلامه ولا يراه، كما كَلَّمَ الله تعالى موسى. وهذا الوجه الثاني.
{ أو يرسل رسولاً } من ملائكته، إما جبريل أو غيره إلى من اختصه
__________
(1) ... زيادة من الماوردي (5/212)، وزاد المسير (7/297).
(2) ... ذكره الماوردي (5/212)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/297).
(3) البيت في: البحر المحيط (7/503)، وروح المعاني (25/54)، والكشاف (4/237).(1/124)
بالنبوة واختاره للرسالة، وجبريل أمين الوحي، وهو صاحبه الملازم له. وهذا الوجه الثالث.
قرأ نافع: "أو يرسلُ" بالرفع، { فيوحيْ } بسكون الياء، على الاستئناف والقطع مما قبله، أو على إضمار مبتدأ، تقديره: وهو يرسل.
وقال أبو علي (1) : "يرسل" فعل مضارع قد وقع موقع الحال، والتقدير: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو إرسالاً، "فإرسالاً" معطوف على "وحياً" الذي هو مصدر في موضع الحال.
وقرأ الباقون "يرسلَ"، "فيوحيَ" بالنصب فيهما (2) ، حملاً على معنى المصدر؛ لأن قوله: "إلا وحياً" معناه: إلا أن يوحي، فيعطف "أو يرسل" على أن يوحي.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون معطوفاً على "أن يكلمه الله"؟
قلتُ: كلا؛ لأن معناه على هذا التقدير: وما كان لبشر أن يرسل رسولاً، أو أن يرسله الله رسولاً. والمعنيان فاسدان.
قوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } أي: وكما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك روحاً، وهو القرآن، وسائر ما أوحيناه إليه سمي روحاً؛ لأنه حياة القلوب.
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (3/366-368).
(2) ... الحجة للفارسي (3/365)، والحجة لابن زنجلة (ص:644)، والكشف (2/253)، والنشر (2/368)، والإتحاف (ص:384)، والسبعة (ص:582).(1/125)
قال مقاتل (1) : وحياً بأمرنا.
{ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } قال ابن قتيبة ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأكثر المحققين (2) : ما كنت تدري ما القرآن وشرائع الإيمان، فإن شرائع الإيمان تسمى إيماناً. قال الله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة:143] يريد: صلاتكم.
ولا بد من هذا التقدير، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرك بالله طرفة عين، ولا جهلَ التوحيد.
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النُّصُب (3) .
{ ولكن جعلناه نوراً نهدي } يريد: الكتاب والإيمان.
{ وإنك لتهدي } أي: [إنك لترشد] (4) وتدعو { إلى صراط مستقيم } .
قوله تعالى: { صراط الله } بدل من الأول (5) .
وقد فَسَّرنا { الصراط المستقيم } في الفاتحة (6) .
قوله تعالى: { ألا إلى الله تصير الأمور } إيذان بالبعث وتنبيه على
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/183).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/61)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/298).
(3) ... انظر: السنة للخلال (1/195-196)، وزاد المسير (7/298).
(4) ... في الأصل: إن سد. ولعل الصواب ما أثبتناه. وانظر: القرطبي (16/60).
(5) ... انظر: التبيان (2/226)، والدر المصون (6/89).
(6) ... الآية:6.(1/126)
الجزاء. والله تعالى أعلم.(1/127)
سورة الزخرف
ijk
وهي تسع وثمانون آية في العدد المدني والكوفي (1) ، ومكية بإجماعهم (2) .
واستثنى مقاتل منها آية واحدة فقال: هي مدنية وهي: { واسأل من أرسلنا... الآية } (3) .
üNm (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:223).
(2) ... قال السيوطي في الدر (7/365): أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت بمكة سورة "حم" الزخرف.
(3) ... انظر: زاد المسير (7/301)، والإتقان في علوم القرآن (1/53).(1/128)
كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ارب
قوله تعالى: { حم * والكتاب المبين } سبق تفسير "حم" في أول آل حم، وتفسير "الكتاب المبين" في أول سورة يوسف.
وهذا قسمٌ جوابه: { إنا جعلناه } .
قال مجاهد: أوحيناه (1) .
وقال السدي: أنزلناه (2) { قرآناً عربياً } .
وقيل: صَيَّرناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين.
فإن قيل: إنما يُقْسَمُ على الشيء إذا كان في مظنة الخفاء، وكون هذا
__________
(1) ... انظر قول مجاهد في: الماوردي (5/215)، ولفظه: "قلناه"، بدل: "أوحيناه".
(2) ... ذكره الماوردي (5/215).(1/129)
القرآن عربياً لا يفتقر في تقريره وتحقيقه إلى قَسَم؛ لأنه لا ينكر؟
قلتُ: لم يقسم على كون القرآن عربياً فقط، إنما أقسم على كونه قرآناً، ثم وصفه بكونه عربياً امتناناً عليهم بإنزاله بلسانهم، إرادةَ أن يعقلوه ويفهموه، ألا تراه أتبع ذلك بقوله: { وإنه } يعني: القرآن.
وقال ابن جريج: ما يكون من الخلق من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر (1) .
والأول أصح (2) .
{ في أم الكتاب } أي: في أصله، وهو اللوح المحفوظ، كما قال في موضع آخر: { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } [البروج:21-22].
{ لدينا } أي: عندنا { لعلي } رفيع الشأن { حكيم } محكم بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، أو حكيم ذو حكمة وبلاغة.
قوله تعالى: { أفنضرب عنكم الذِّكْر صفحاً } قال ابن قتيبة (3) : أفنمسك عنكم، فلا نذكركم؟
"صفحاً": أي إعراضاً. يقال: صَفَحْتُ عن فلان؛ إذا أعرضت عنه (4) . والأصل في ذلك: أن تُولِّيَه صفحة عنقك. قال كُثيّر يصف امرأة:
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... ورجحه غير واحد من المفسرين؛ كالطبري (25/48) وغيره.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:395).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: صفح).(1/130)
صَفُوحاً فَمَا تَلْقَاكَ إلا بَخِيلةً ... فمنْ مَلَّ منْها ذلكَ الوصلَ مَلَّتِ (1)
أي: معرضة بوجهها، يقال: ضربت عن فلان كذا؛ إذا أمسكته، وأضربت عنه (2) .
وقال الزمخشري (3) : الفاء للعطف على محذوف، تقديره: [أنُهْمِلُكُم] (4) فنضربَ عنكم الذكر إنكاراً لأن يكون الأمر على خلاف ما تقدم. و"صَفْحاً" مصدر، من صفح عنه: إذا أعرض، منتصب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به، إعراضاً عنكم؟.
قرأ نافع وحمزة والكسائي: "إن كنتم قوماً مسرفين" بكسر الهمزة، وفتحها الباقون (5) .
وقال أبو علي (6) : من كسر الألف جعل "إنْ" شرطاً، واستُغْنيَ عن جوابه بما تقدَّمه، ومن فتحها فالمعنى: لأن كنتم، فموضع "أنْ" نصب على أنه مفعول له.
قال قتادة: المعنى: أفنمسك عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا
__________
(1) ... البيت لكثير، وهو في: اللسان (مادة: صفح)، والقرطبي (16/63)، وزاد المسير (7/302)، والبحر (8/7).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: ضرب).
(3) ... الكشاف (4/241).
(4) ... في الأصل: أنمهلكم. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... الحجة للفارسي (3/369)، والحجة لابن زنجلة (ص:644)، والكشف (2/255)، والنشر (2/368)، والإتحاف (ص:384)، والسبعة (ص:584).
(6) ... الحجة للفارسي (3/369).(1/131)
تؤمنون (1) ؟.
قوله تعالى: { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } يشير إلى كثرة الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ وما يأتيهم } حكاية حال ماضية، على معنى: وما كان يأتيهم { من نبي إلا كانوا به يستهزؤون } . وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ثم خَوَّفَ كفار قريش فقال: { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } قوة { ومضى مثل الأولين } أي: سبق وصفُ عقابهم فيما أنزلناه عليك.
وقيل: سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب، فسَتَقَعُ بينهم المشابهة في الإهلاك.
ûبُs9ur سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (8/328)، من قول قتادة وابن زيد.(1/132)
تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى(1/133)
رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ اتحب
ثم أبان عن جهل كفار قريش، حين أقروا بأن العزيز العليم خالق السموات والأرض، وهم مع ذلك يعبدون الحجارة، فقال تعالى: { ولئن سألتهم.. الآية } .
والتي تليها مُفسّرة في سورة طه (1) .
والمعنى: لعلكم تهتدون بالسبل في طرقكم وأسفاركم، أو: لعلكم تهتدون إلى معرفة المُنْعِم عليكم. وهو قول سعيد بن جبير (2) .
وقيل: لعلكم تهتدون إلى معايشكم (3) .
{ والذي نزل من السماء ماء بقدر } مُفسّر في سورة الحجر (4) .
قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قَدَر فأغرقهم، بل هو بقَدَر ليكون نافعاً (5) .
{ فأنشرنا } أحيينا { به بلدة ميتاً } ، { كذلك تُخْرَجُون } مُفسّر فيما مضى.
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه: ["تَخرُجُون"] (6) بفتح
__________
(1) ... عند الآية رقم: 53.
(2) ... ذكره الماوردي (5/217).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... عند الآية رقم: 21.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/65)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/304).
(6) ... في الأصل: يخرجون. والتصويب من مصادر التخريج.(1/134)
[التاء] (1) وضم الراء، وقرأ الباقون بالعكس من ذلك (2) .
قوله تعالى: { والذي خلق الأزواج كلها } يعني: أصناف الحيوان من ذكر وأنثى.
وقال سعيد بن جبير: يعني: الأصناف كلها (3) .
قال الحسن البصري: الشتاء والصيف، والليل والنهار، والشمس والقمر، والجنة والنار (4) .
{ وجعل لكم من الفلك } وهي السفن { والأنعام } يريد: الإبل { ما تركبون } أي: تركبونه.
{ لتستووا على ظهوره } قال أبو عبيدة (5) : هاء التذكير في "ظهوره" لـ: "ما".
قال الزمخشري (6) : على ظهور ما تركبون، وهو الفُلْكُ والأنعام.
{ ثم تذكروا نعمة ربكم } بالتسخير والتيسير { إذا استويتم عليه وتقولوا } ذِكْراً وشُكْراً: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } .
قال ابن عباس ومجاهد: مطيقين (7) .
__________
(1) ... في الأصل: الياء. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... الحجة للفارسي (3/374)، والحجة لابن زنجلة (ص:645-646)، والكشف (1/460)، والنشر (2/367-368)، والإتحاف (ص:384)، والسبعة (ص:584).
(3) ... ذكره الماوردي (5/217).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... مجاز القرآن (2/202).
(6) ... الكشاف (4/243).
(7) ... أخرجه الطبري (25/55)، وابن أبي حاتم (10/3281). وذكره السيوطي في الدر (7/369) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.(1/135)
قال ابن قتيبة وغيره (1) : يقال: أنا مُقْرِن لك؛ أي: مطيق لك، ويقال: هو من قولهم: أنا قِرْن لفلان؛ إذا كنت مثله في الشدة، فإذا قلت: أنا قَرْن فلان -بفتح القاف-، فمعناه أن تكون مثله في السنّ. قال ابن هَرْمَة:
وأقْرَنْتُ ما حَمَّلتني ولَقَلَّمَا ... ... يُطاقُ احتمالُ الصَّدِّ يا دَعْدُ والهَجْر (2)
{ وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي: راجعون في الآخرة.
سَنَّ الله تعالى لراكب الفُلْكِ والإبل قولَ هذا، بعد ذكر النعمة وشكرها، وتنزيه المنعم بها، والاعتراف بالعجز عن الاستيلاء عليها، لولا تسخيره جَلّت عظمته؛ لأنها حالة لا يؤمن فيها التلف، خصوصاً راكب البحر.
ولقد قيل لبعضهم بعد خروجه من البحر: ما أعجب ما رأيت فيه؟ قال: سلامتي.
فينبغي للمتلبس بهذه الحالة استذكار الآخرة والاستعداد لها، فليجتلب ما ينجيه؛ من طاعة الله، ويجتنب ما يرديه من معصيته، ولا يتخذ ذلك مقراً لفسقه ولهوه، كعادة أكثر ملوك زماننا وأتباعهم وأضرابهم، يشربون الخمور، وتضرب لهم القيان بالمعازف على صهوات الخيل، وفي البحور، لا يرجون لله تعالى وقاراً، ولا يعرفون نعم الله عليهم، ولا يخشون هجوم
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:395).
(2) ... البيت لابن هرمة، وهو في: البحر (8/9)، والدر المصون (6/93)، وروح المعاني (25/69)، والكشاف (4/244).(1/136)
الموت وهم في مثل هذه الحالة، التي هلك بسببها خلق كثير، ما ذاك إلا استيلاء الغفلة على قلوبهم، وقلة المبالاة بأمر آخرتهم.
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده، ومسلم في صحيحه -واللفظ للإمام- من رواية عبدالله بن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركب راحلته -يعني: للسفر- كَبَّر ثلاثاً، ثم قال: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ، ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، واطْوِ لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا.
وكان إذا رجع إلى أهله قال: آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون لربنا حامدون)) (1) .
وفي بعض الألفاظ: ((اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في الأهل والمال)) (2) .
وروى علي عليه السلام: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وكبر ثلاثاً، وهلَّل ثلاثاً)) (3) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (2/978 ح1342)، وأحمد (2/144 ح6311).
(2) ... أخرجه مسلم، الموضع السابق، وأحمد (2/150 ح6374).
(3) ... أخرجه أبو داود (3/34 ح2602)، والترمذي (5/501 ح3446).(1/137)
قال قتادة: في هذه الآية تعليمكم، تقولون إذا ركبتم في الفُلك: { بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } ، وإذا ركبتم الإبل قلتم: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ، وإذا نزلتم من الفلك والأنعام تقولون: اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين (1) .
ويروى: ((أن الحسين بن علي رضي الله عنهما رأى رجلاً ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال: أبهذا أمرتم؟ فقال: وبم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وكان قد أغفل حمد الله فنبهه عليه)) (2) .
(#qè=yèy_ur لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/54).
(2) ... أخرجه الطبري (25/54) عن أبي مجلز أن الحسن بن علي...، وذكره السيوطي في الدر (7/369) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى حسين بن علي...(1/138)
لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اثةب
قوله تعالى: { وجعلوا له من عباده جزءاً } متصل بقوله تعالى: { ولئن(1/139)
سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون خلقهن العزيز العليم } المعنى: وجعلوا له مع اعترافهم أنه الخالق الفاعل لما عدّدوه من نعمه عليهم من عباده، يريد: الملائكة [جزءاً] (1) ، أي: بعضاً له، وهو قولهم: الملائكة بنات الله.
قال الزجاج (2) : وقد أنشدني بعض أهل اللغة بيتاً يدل على أن معنى "جزء" معنى الإناث، ولا أدري البيت قديم أم موضوع (3) ، أنشدني (4) :
إنْ أجْزَأتْ حرةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... قد تُجزئُ الحرُّةُ المذكارُ أحيانا (5)
أي: [إن] (6) أنثت: ولدت أنثى.
قال الزمخشري (7) : ومن بدع التفاسير: أن الجزء في لغة العرب: اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم
__________
(1) ... في الأصل: جزاءاً.
(2) ... معاني الزجاج (4/406-407).
(3) ... في زاد المسير واللسان: مصنوع.
(4) ... نقل صاحب اللسان (مادة: جزأ) كلام الزجاج هذا وزاد: والمعنى في قوله: { وجعلوا له من عباده جزءاً } ، أي: جعلوا نصيب الله من الولد: الإناث، ثم قال: ولم أجده في شعر قديم، ولا رواه عن العرب الثقات، وأنشد أبو حنيفة:
... ... ... زوَّجْتُها من بناتِ الأوسِ مُجْزئةً ... ... للعوْسَجِ اللدْنِ في أبياتِها زَجَلُ
... يعني: امرأة غزالةً بمغازل سُوِّيَتْ من شجر العوسج.
(5) البيت في: اللسان (مادة: جزأ)، وغريب القرآن (ص:396)، والدر المصون (6/93)، وزاد المسير (7/305)، والقرطبي (16/69)، والبحر المحيط (8/10).
(6) ... زيادة من معاني الزجاج (4/407).
(7) ... الكشاف (4/245).(1/140)
ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً، وأنشد:
إن أجزأتْ ............... ... ... ......................
قوله تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } "أمْ" منقطعة، تقديره: بل اتخذوا، الهمزة للإنكار؛ تجهيلاً لهم وتعجيباً من شأنهم، حيث جعلوا لله من عباده جزءاً.
ثم لم يقنعوا بذلك حتى جعلوا له الأخس وهو الإناث، [وأصفاهم] (1) بالأخص وهم الذكور.
والذي بعدها مُفسّرة في سورة النحل (2) .
قوله تعالى: { أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "يُنَشَّأُ" بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين. وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين (3) . فمن خَفَّفَ بناه على الثلاثي، من قولهم: نَشَأ الغلام، ونَشَأت الجارية، فهو فعل لا يتعدى. ومن شَدَّدَ بناه على الرباعي بتضعيف العين، على: نَشَّأَ يُنَشِّأ، مثل: قَتَّلَ يُقَتِّلُ، وهو أيضاً إنكار عليهم وتوبيخ لهم، على معنى: أجعلتم مَنْ هو بهذه الصفة المذمومة ولداً للرحمن عز وجل، وهو يُربَّى في الزينة والنعمة، فإذا التفّت عليه المحافل في الخصام والجدال، غيرُ مبين بحجة، لضعف عقله ونقصان
__________
(1) ... في الأصل: والاصفاهم.
(2) ... عند الآية رقم: 58.
(3) ... الحجة للفارسي (3/369)، والحجة لابن زنجلة (ص:646)، والكشف (2/255)، والنشر (2/368)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:584).(1/141)
فطرته.
قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها (1) .
قال بعض العلماء (2) : وفي هذه الآية تنبيه على أن النَّشْءَ في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه وصف ربات الحجال، ولذلك عدُّوا قول الحطيئة في الزبرقان:
دَعِ المكارم لا تنهضْ لبُغيَتِها ... واقعدْ فإنِّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي (3)
هجواً عظيماً، حتى قال حسان: ما هَجَاهُ ولكن سَلَحَ عليه.
فعلى الرجل الحازم أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربأ بنفسه عنه، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: ((اخْشَوْشِنُوا وتمعْدَدُوا (4) )) (5) .
قوله تعالى: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } قرأ نافع
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/57). وذكره السيوطي في الدر (7/370) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... هو الزمخشري ، انظر: الكشاف (4/247).
(3) ... البيت للحطيئة، وهو في اللسان (مادة: ذرق، طعم، كسا)، والطبري (12/46)، والقرطبي (9/40)، والأغاني (2/177، 178)، والاستيعاب (2/562).
(4) ... قال ابن الأثير في النهاية (4/341-342): تَمَعْدَدَ الغلامُ: إذا شَبَّ وغَلُظَ، وقيل: أراد: تَشَبَّهوا بعَيْشِ مَعَدِّ بن عدنان، وكانوا أهلَ غِلَظٍ وقَشف، أي: كونوا مثلهم ودعوا التَّنَعُّم وزِيَّ العَجَم، ومنه حديثه الآخر: عليكم باللِّبْسَة المَعَدِّيَّة، أي: خُشَونة اللِباسِ.
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (5/304 ح26328).(1/142)
وابن كثير وابن عامر: "عند الرحمن". وقرأ الباقون "عِبَاد" (1) .
فمن قرأ جعله ظرفاً، احتج بقوله تعالى: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } [الأنبياء:19]، وقوله تعالى: { إن الذين عند ربك } [الأعراف:206]، والباقون احتجوا بقوله تعالى: { بل عباد مكرمون } [الأنبياء:26].
{ أشهدوا خلقهم } أي: أحَضِرُوا خلقهم وعاينوه فشهدوا على ما رأوا؟ وهو توبيخ لهم على القول بغير علم.
وقرأ نافع بهمزتين الأولى محققة والثانية مضمومة ملينة مع سكون الشين (2) ، وفصل بينهما بألف قالون وأبو جعفر يزيد بن القعقاع (3) ، وهؤلاء أدخلوا همزة التي معناها التوبيخ على فعل رباعي لم يُسَمَّ فاعله.
{ ستكتب شهادتهم } في ديوان الحَفَظَة وكتاب أعمالهم { ويسألون } عنها إذا وردوا موقف الحساب، وهذا أيضاً توبيخ لهم على كفرهم وشهادتهم على الملائكة بأنهم إناث.
قال بعض العلماء (4) : جمعوا في كفرة ثلاث كفرات، وذلك أنهم نسبوا إلى الله تعالى الولد، ونَسبوا إليه أخس النوعين، وجعلوا الملائكة الذين هم
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/370)، والحجة لابن زنجلة (ص:647)، والكشف (2/256)، والنشر (2/368)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:585).
(2) ... أي هكذا: "أَأُشْهِدُوا".
(3) ... الحجة للفارسي (3/370)، والحجة لابن زنجلة (ص:647-648)، والكشف (2/257)، والنشر (2/368-369)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:585).
(4) ... هو الزمخشري ، انظر: الكشاف (4/248).(1/143)
عند الله إناثاً، [فاستخفوا] (1) بهم واحتقروهم.
قوله تعالى: { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } يعنون: الملائكة، في قول قتادة (2) .
والأصنام، في قول مجاهد (3) .
يريدون: لو لم يرض بعبادتنا لمنعنا بالعقوبة وقطع أسباب الرزق، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: { ما لهم بذلك من علم } ، فنسبهم إلى الجهل في اعتقادهم، وما رضي الله تعالى بصنيعهم.
وبعض المفسرين يقول: "ما لهم بذلك" أي: بقولهم: الملائكة بنات الله، أو الأصنام آلهة "من علم".
والمعنى الأول أصح، وهذه الآية نظيرة قوله تعالى حاكياً عنهم: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } [الأنعام:148]، وقوله: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } [يس:47]، وقد كشفنا عن نفس المقصود، وأبطلنا جدالهم في الموضعين من الأنعام ويس، فاطلبه هناك تظفر به.
{ إن هم إلا يخرصون } أي: يَكذبون في قولهم واعتقادهم أن الله راض بأقوالهم وأفعالهم.
__________
(1) ... في الأصل: فاستحقوا. والتصويب من الكشاف (4/248).
(2) ... ذكره السيوطي في الدر (7/372) وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:580)، والطبري (25/59)، وابن أبي حاتم (10/3282). وذكره السيوطي في الدر (7/371-372) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/144)
أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا(1/145)
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ اثخب
قوله تعالى: { أم آتيناهم كتاباً من قبله } قد سبق القول على "أمْ" في مواضع، والضمير في "قبله" يعود إلى الكتاب، [نسبوا] (1) فيه إلينا ما اختلقوه علينا، { فهم به مستمسكون } بل إضراب عن أن تكون لهم حجة يتمسكون بها إلا قولهم: { إنا وجدنا آباءنا على أمة } دين وملة.
وقرأ عمر بن عبدالعزيز ومجاهد: "إِمَّةٍ" بكسر الهمزة (2) ، أي: على طريقة ومقصد.
وقيل: كلتا القراءتين من الأَمّ وهو القَصْد، والأمَّة: الطريقة التي تؤمّ، أي: تُقصد، كالرحلة للمرحول إليه، والإمَّة: الحالة التي يكون عليها الآمّ، وهو القاصد.
وقيل: الأُمَّة: النعمة، وأنشد قول عدي بن زيد:
__________
(1) ... في الأصل: نسبنا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) ... انظر هذه القراءة في: الماوردي (5/221)، والبحر (8/12)، والدر المصون (6/95).(1/146)
ثُمَّ بعدَ الفلاحِ والملكِ والأمَّـ ... ـة وَارَتْهُمُ هُناكَ القبور (1)
يريدون: وجدنا آباءنا على نعمة وحالة حسنة مرضية فسلكنا طريقهم.
{ وإنا على آثارهم مهتدون } "إنّ" واسمها وخبرها والظرف صلة لـ"مهتدون" (2) . ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر.
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم على طريقة من قبلهم في الاقتداء بالآباء، فقال تعالى: { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير... الآية } ومعنى: "مقتدون": مُتَّبِعُون.
{ قل } لهم يا محمد: { أوَلَوْ جئتكم } . وقرأ ابن عامر وحفص: { قال أَوَلَوْ } (3) على الخبر { جئتكم } . وقرأ أبو جعفر: "جئناكم" على الجمع (4) ، { بأهدى } أو بدين أهدى { مما وجدتم عليه آباءكم } . والجواب محذوف، تقديره: أتتبعون آباءكم وتَدَعُون الذين هو أهدى.
قال مقاتل (5) : فردوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذلك قوله تعالى: { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } .
ثم عاد إلى ذكر الأمم الخالية والإخبار عنهم، فقال: { فانتقمنا منهم فانظر
__________
(1) ... البيت لعدي بن زيد، وهو في: اللسان (مادة: فلح، أمم)، والطبري (25/60)، والقرطبي (16/74).
(2) ... قال الزمخشري في الكشاف (4/249).
(3) ... الحجة للفارسي (3/375)، والحجة لابن زنجلة (ص:648-649)، والكشف (2/258)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:585).
(4) ... النشر (2/369)، والإتحاف (ص:385).
(5) ... تفسير مقاتل (3/188).(1/147)
كيف كان عاقبة المكذبين } بالكتب والرسل.
ّŒخ)ur قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ اجةب(1/148)
قوله تعالى: { إنني براء مما تعبدون } قال الزجاج (1) : "بَراءٌ" بمعنى: بريء، والعرب تقول للواحد منها: أنا البراء منك، وكذلك الاثنان والجماعة، والذكر والأنثى [يقولون: نحن البراء منك، والخلاء منك] (2) لا يقولون: نحن البراءان منك ولا البراؤون. وإنما المعنى: أنا ذو البراء منك، ونحن ذو البراء منك، كما تقول: رجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل.
قوله تعالى: { إلا الذي فطرني } مثل قوله تعالى في الشعراء: { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [الشعراء:77]، وقد تكلمنا عليه.
قال الزمخشري (3) : "الذي فطرني" فيه غير وجه: أن يكون منصوباً على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين. وأن يكون مجروراً بدلاً من المجرور بـ"مِنْ"؛ كأنه قال: [إنني] (4) براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني.
فإن قلت: كيف تجعله بدلاً وليس من جنس "ما تعبدون" من وجهين:
أحدهما: أن ذات الله تعالى مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون.
الثاني: أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟
قلتُ: قالوا: كانوا يعبدون الله تعالى مع آلهتهم، وأن تكون "إلا" صفة
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/409).
(2) ... زيادة من معاني الزجاج (4/409).
(3) ... الكشاف (4/250).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/149)
بمعنى: غير، على أن "ما" في [ما] (1) تعبدون موصوفة، تقديره: إنني براء من [آلهة] (2) تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء:22].
قلتُ: ما معنى قوله تعالى: { سيهدين } على التسويف؟
قلتُ: قال مرّة: { فهو يهدين } [الشعراء:78] ومرّة { فإنه سيهدين } ، فاجمع بينهما وقدر، كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال.
قوله تعالى: { وجعلها } أي: وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها -وهي قوله تعالى: { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } - { كلمة باقية في عقبه } أي: في ذريته، فلا يزال فيهم من يُوحِّد الله تعالى ويدعو إلى التوحيد.
وقيل: وجعل الوصية التي أوصى بها بنيه، وهي الوصية المذكورة في البقرة: { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } [البقرة:132].
{ لعلهم يرجعون } إلى التوحيد إذا علموا أن أباهم تبرَّأ من كل معبود سوى الله تعالى.
قوله تعالى: { بل متعت هؤلاء وآباءهم } أي: أجزلتُ لقريش النِّعَم وأمهلتهم { حتى جاءهم الحق } وهو القرآن { ورسول مبين } للحق من الباطل، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: آلهتكم. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/150)
المعنى: فكان ينبغي لهم أن ينتبهوا من غفلتهم عند مجيء الحق والرسول.
{ ولما جاءهم الحق } ضَمُّوا إلى شركهم وغفلتهم المعاندة، فذلك قوله تعالى: { قالوا سحر } .
قال قتادة في قوله تعالى: { ولما جاءهم الحق } هم اليهود والنصارى (1) . وفيه بُعْد.
(#qن9$s%ur لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/310) عن قتادة قال: هم اليهود.(1/151)
بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ اجثب
قوله تعالى: { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } هذا من اقتراحات قريش واحتكامهم على الله جَلَّت عظمته في اختيار محمد - صلى الله عليه وسلم - للرسالة، واختصاصه بالنبوة، وكانوا أولاً ينكرون رسالته لكونه من البشر، فلما شرقوا (1) بالحجة وعلموا أن الرسل رجال عَدَلُوا عن ذلك إلى إنكار العدول بالرسالة عن أحد الرجلين العظيمين في نظرهم؛ تحكماً على الله تعالى.
وقولهم: "هذا القرآن" كلام يلوح منه الاستهانة به.
ومرادهم بالقريتين: مكة والطائف.
والمعنى: على رجل من إحدى القريتين، فهو كقوله تعالى: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن:22].
وقيل: التقدير: من رَجُلي القريتين.
"عظيم" أي: رئيس متقدم في الدنيا.
وعظيم مكة: الوليد بن المغيرة، في قول ابن عباس وقتادة والأكثرين (2) .
__________
(1) ... شرق بريقه: غَصَّ (القاموس المحيط، مادة: شرق).
(2) ... أخرجه الطبري (25/65)، وابن أبي حاتم (10/3282). وذكره السيوطي في الدر (7/374) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.(1/152)
وعتبة بن ربيعة، في قول مجاهد (1) .
وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. قاله ابن عباس (2) .
الثاني: أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي. قاله قتادة (3) .
وكان الوليد بن المغيرة يسمى: [ريحانة] (4) مكة، وكان يقول: لو كان هذا حقاً لنزل القرآن عليّ، أو على أبي مسعود الثقفي (5) .
الثالث: أنه كنانة بن عبد عمرو الطائفي. قاله السدي (6) .
الرابع: أنه ابن عبد ياليل. قاله مجاهد (7) .
قال الله تعالى منكراً عليهم معجباً من احتكامهم: { أهم يقسمون رحمة ربك } يعني: النبوة فيضعونها بجهلهم حيث شاؤوا { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } يعني: نحن قسمنا بينهم أرزاقهم ولم نَكِلَ ذلك إلى أحد، فكيف
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:581)، والطبري (25/65). وذكره السيوطي في الدر (7/375) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... أخرجه الطبري (25/65)، وابن أبي حاتم (10/3282). وذكره السيوطي في الدر (7/374) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ... أخرجه الطبري (25/65)، وابن أبي حاتم (10/3282). وذكره السيوطي في الدر (7/375) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... في الأصل: رحانة.
(5) ... انظر: المصادر السابقة.
(6) ... أخرجه الطبري (25/66). وذكره الماوردي (5/223).
(7) ... أخرجه مجاهد (ص:581)، والطبري (25/65). وذكره السيوطي في الدر (7/375) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/153)
بأمر النبوة؟.
قال قتادة: إنك لتلقاه ضعيف الحيلة، عيي اللسان، قد بسط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، بسيط اللسان، وهو مقدور عليه (1) .
{ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } هذا قوي وهذا ضعيف، وهذا حُر وهذا رقيق، وهذا غني وهذا فقير، وهذا عزيز وهذا ذليل. ولم تقتض حكمتنا التسوية بينهم.
{ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } فيملك الحر الرقيق، ويستأجر الغني الفقير، ويستسخر الناس بعضهم بعضاً في أسباب معايشهم، ولو جعلناهم في القوة والغنى، والعزة وغيرها سواء؛ لم ينتظم أمر العالم.
{ ورحمة ربك } التي هي النبوة { خير } أفضل وأعظم { مما يجمعون } من الأموال.
فإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية الدنيوية على هذه الصفة المذكورة، فما ظنهم بتدبير أمر الكتاب والنبوة، والأحكام الدينية.
والمقصود من هذا كله: [تجهيلهم] (2) في قولهم: { لولا نزل... الآية } .
Iwِqs9ur أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/67). وذكره الماوردي (5/223)، والسيوطي في الدر (7/375) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وفيهما: ... سليط اللسان، وهو مقتور عليه.
(2) ... في الأصل: تجهلهم.(1/154)
أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ اجخب
ثم إن الله عز وجل أخبر عباده بهوان الدنيا عليه وخِسّتها عنده؛ لئلا يَظنَّ ظَانٌّ أو يَتوهّم مُتوهّم أن الموسَّع عليه منها والمحظوظ فيها، كان ما ناله منها باعتبار كرامته على الله تعالى ونفاسة قدره عنده، وأن المضيَّقَ عليه فيها والمحروم منها، كان باعتبار هوانه على الله، وخِسَّة قدره عنده،(1/155)
فقال تعالى: { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي: لولا كراهة أن يُجمعوا على الكفر إذا رأوا زهرة الحياة الدنيا ملازمة له ومقرونة به { لجعلنا } لهوان الدنيا علينا { لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم } . فقوله تعالى: { لبيوتهم } بدل اشتمال من قوله: { لمن يكفر بالرحمن } (1) .
قال الفراء (2) : إن شئت جعلت اللام في "لبيوتهم" مكررة؛ كقوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [البقرة:217]، وإن شئت جعلتها بمعنى: على، كأنه قال: جعلنا لهم على بيوتهم.
{ سقفاً من فضة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بفتح السين وسكون القاف على التوحيد، ويريد الجنس. وقرأ الباقون: "سُقُفاً" بضمّهما على الجمع (3) . تقول: سَقْف وسُقُف، مثل: رَهْن ورُهُن.
{ ومعارج } جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج، والمعارج: المصاعد إلى العلالي (4) ، يريد: ومعارج أيضاً من فضة.
{ عليها يظهرون } يعلون السقف؛ كقوله تعالى: { فما اسطاعوا أن يظهروه } [الكهف:97].
{ ولبيوتهم أبواباً } أي: وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة { وسرراً } من
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/227)، والدر المصون (6/96).
(2) ... معاني الفراء (3/31).
(3) ... الحجة للفارسي (3/375)، والحجة لابن زنجلة (ص:649)، والكشف (2/258)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:585).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: عرج).(1/156)
فضة { عليها يتكؤون } .
{ وزخرفاً } أي: وجعلنا لهم زخرفاً. فهو منصوب بفعل مضمر، وإن شئت كان معطوفاً على موضع قوله تعالى: { من فضة } (1) .
والزُّخْرُف: الذهب. وقد سبق ذكره في قوله تعالى: { أو يكون لك بيت من زخرف } [الإسراء:93].
قوله تعالى: { وإن كل ذلك لَمَا متاع الحياة الدنيا } هذه "إنْ" الخفيفة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، على إضمار الشأن، تقديره: وإن الشأن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
وقرأ عاصم وحمزة وهشام: "لمّا" بتشديد الميم (2) .
فعلى هذه القراءة "إنْ" هي النافية بمعنى: "ما"، كالتي في قوله تعالى: { إن الكافرون إلا في غرور } [الملك:20]، فالمعنى: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، و"لمّا" في معنى "إلاّ".
وقد حكى سيبويه: نشدتك الله لمّا فعلت، وحمله على "إلاّ". وزعموا أنّ [في] (3) حرف أُبيّ: "وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا".
فهذا يدل على أنّ "لَمّا" بمعنى: "إلا"، وأنّ "إنْ" بمعنى "ما". هذا كلام أبي
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/97).
(2) ... الحجة للفارسي (3/376)، والحجة لابن زنجلة (ص:649)، والكشف (1/536-537)، والنشر (2/291)، والإتحاف (ص:385)، والسبعة (ص:586).
(3) ... زيادة من الحجة (3/376).(1/157)
علي (1) .
قوله تعالى: { والآخرة } يريد: الجنة { عند ربك } أي: في حكمه { للمتقين } خاصة، إلا الدنيا فتكون للصالح والطالح.
`tBur يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ اجرب
قوله تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/376).(1/158)
قرين } "يَعْشُ": يُعْرِض (1) . وقيل: يَعْمَ (2) . رويا عن ابن عباس.
والأول قول قتادة (3) ، واختيار الفراء والزجاج (4) .
وقال أبو عبيدة (5) : يَعْشُ: تُظْلِمْ عينه.
وقرأ ابن عباس: "يَعْشَ" بفتح الشين (6) .
قال الفراء (7) : من قرأ "يَعْشُ" -يعني: قراءة الأكثرين- فمعناه: يُعْرِض، ومن نصب الشين أراد: يَعْمَى عنه.
قال الزمخشري (8) : الفرق بين القراءتين: أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عَشِيَ. وإذا نظر نظر العُشْيِ ولا آفة [به] (9) ، قيل: عَشَا. ونظيره: عَرِجَ، لمن به الآفة. وعَرَجَ، لمن مَشَى مِشْيَة العُرْجَان.
قال الحطيئة:
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/315).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3283). وذكره الماوردي (5/225)، والسيوطي في الدر (7/378) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (25/73). وذكره الماوردي (5/225)، والسيوطي في الدر (7/378) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... انظر: معاني الفراء (3/32)، ومعاني الزجاج (4/411).
(5) ... مجاز القرآن (2/204).
(6) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/98)، والبحر (8/16).
(7) ... معاني الفراء (3/32).
(8) ... الكشاف (4/255-256).
(9) ... زيادة من الكشاف (4/254).(1/159)
متى تأْتِه تعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِه ... تجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ (1)
أي: تنظر إليها نظر العُشْي؛ لَمّا يضعف بصرك من عظيم الوقود واتساع الضوء. وهو بيّنٌ في قول حاتم:
أعْشُو إذا ما جَارَتِي بَرَزَتْ ... ... حتى يُواري جَارَتِي الخِدْر (2)
وقرئ: "يَعْشُوا" (3) ، على أنّ "مَنْ" موصولة غير مضمنة معنى الشرط.
وحق هذا القارئ: أن يرفع "نُقَيِّض".
وأنكر ابن قتيبة المعنى الذي ذكره الفراء وتابعه عليه الزمخشري، فقال (4) : لا أرى القول إلا قول أبي عبيدة. قال (5) : ولم أر أحداً يُجيز: "عَشَوْتُ عن الشيء": أعرضتُ عنه، إنما يقال: "تَعَاشَيْتُ عن كذا"، أي: تغافلتُ عنه، كأني لم أره، ومثله: تَعَاميتُ. والعرب تقول: "عشوتُ إلى النار": إذا استدللتُ إليها ببصر ضعيف (6) .
__________
(1) ... البيت للحطيئة. انظر: ديوانه (ص:51)، والكتاب (3/86)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/66)، والخزانة (9/94)، واللسان (مادة: عشا)، والدر المصون (6/98)، والبحر (8/6).
(2) ... ونسب أيضاً لمسكين الدارمي. انظر: ديوانه (ص:45)، وزاد المسير (1/41)، وروح المعاني (1/169، 12/140) وفيهما: "أعمى" بدل: "أعشق".
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/16)، والدر المصون (6/98).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:398).
(5) ... أي: ابن قتيبة.
(6) ... قال الأزهري في التهذيب -على ما في اللسان (15/56)- بعد أن ذكر هذا: أغفل القتيبي موضع الصواب واعترض -مع غفلته- على الفراء يرد عليه. فذكرت قوله لأبين عواره، فلا يغتر به الناظر في كتابه. والعرب تقول: عشوت إلى النار أعشو عشواً، أي: قصدته مهتدياً به، وعشوت عنها، أي: أعرضت عنها، فيفرقون بين "إلى" و "عن" موصولين بالفعل. ثم نقل عن أبي زيد وأبي الهيثم ما يثبت ذلك ويؤكده.
... وقال القرطبي (16/77): والقول قول أبي الهيثم والأزهري. وقد انتصر الطبري (11/188) لرأي الفراء، ونقله عن قتادة.(1/160)
قال الحطيئة:
متى تأته ............. ... ... .....................
وأنشد البيت.
ومنه حديث ابن المسيب: أن إحدى عينيه ذهبت، وهو يَعْشُو بالأخرى (1) ، أي: يبصر بصراً ضعيفاً.
فعلى ما ذكره الفراء يكون المعنى على قراءة الأكثرين: ومن يَتَعَامَ ويتجاهل وهو يعرف الحق.
وعلى القراءة القليلة : المعنى : ومن يَعْمَ عن ذكر الرحمن، فيُعِيرُ القرآن أذناً صُمّاً، وعيناً عُمْياً { نقيّض له } .
وقرأتُ لجماعة، منهم: خلف ويعقوب: "يُقَيِّضْ له" بالياء (2) ، على معنى: يقيّض له الرحمن { شيطاناً } جزاء له على فعله، { فهو له قرين } لا يفارقه.
{ وإنهم } يعني: الشياطين ليصدون العَاشِين { عن السبيل } وجَمَعَ ضمير "مَنْ" والشيطان في قوله تعالى: { وإنهم ليصدونهم } لإبهام "مَنْ" في جنس العاشي، وإبهام الشيطان.
{ ويحسبون } يعني: العاشين { أنهم مهتدون } .
__________
(1) ... ذكره أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء (2/166).
(2) ... النشر (2/369)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:386).(1/161)
قوله تعالى: { حتى إذا جاءنا } قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر: "جاءانا" بألف بعد الهمزة على التثنية، أي: العاشي وقرينه.
وفي الحديث: ((أنهما يُجعلان يوم البعث في سلسلة فلا يفترقان [حتى] (1) يصيرهما الله تعالى إلى النار)) (2) .
وقرأ الباقون: "جاءنا" (3) ، أي: العاشي وحده.
{ قال } لقرينه: { يا ليت بيني وبينك بُعْدَ المشرقين } أي: بُعد ما بين المشرق والمغرب، فثنّى باسم أحدهما، كما قالوا: سيرة العُمَرين، يريدون: أبا بكر وعمر، فغُلّب عمر؛ لأنه أخفّ الاسمين.
قال الفرزدق يمدح هشاماً:
فَحُلَّ بسيرةِ العُمَرَيْن فينا ... ... شفاءٌ [للقلوبِ] (4) من السِّقَام
والطلحتان: طلحة بن خويلد الأسدي وأخوه: جيال، والأقرعان: الأقرع بن حابس وأخوه: مرثد، والخبيبان: عبدالله بن الزبير وأخوه: مصعب، والحنتفان: الحنتف وأخوه: سيف ابنا أوس بن حميري، وقال الشاعر (5) :
أخَذْنَا بآفاقِ السماءِ عليكُم ... ... لنا قَمَرَاهَا والنجومُ الطوالع
يريد: الشمس والقمر.
__________
(1) ... زيادة من الطبري (25/74).
(2) ... أخرجه الطبري (25/74).
(3) ... الحجة للفارسي (3/377)، والحجة لابن زنجلة (ص:650)، والكشف (2/258-259)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:586).
(4) ... في الأصل: للقوب.
(5) ... البيت للفرزدق، وهو في: الطبري (25/74)، واللسان (مادة: عنا)، والماوردي (5/226).(1/162)
وقال الآخر:
فبَصْرَةُ الأزدِ منَّا والعراقُ لنا ... والموصِلان ومنّا مصرُ فالحرم (1)
يريد: الجزيرة والموصل.
وهذا القول اختيار الفراء والزجاج (2) .
وقال ابن السائب: هما مشرق الشمس في أقصر يوم في السنة، ومشرقها في أطول يوم في السنة (3) . ومثله: { رب المشرقين ورب المغربين } [الرحمن:17].
`s9ur يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
__________
(1) ... انظر البيت في: الطبري (25/74)، وزاد المسير (7/316).
(2) ... معاني الفراء (3/33-34)، ومعاني الزجاج (4/412).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/316).(1/163)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ احخب
قوله تعالى: { ولن ينفعكم اليوم } يريد: يوم القيامة { إذ ظلمتم } أي: أشركتم في الدنيا { أنكم في العذاب مشتركون } في محل الرفع على الفاعلية، تقديره: لن ينفعكم الاشتراك في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه (1) . وقد قررت هذا المعنى بأوضح من هذا فيما مضى.
__________
(1) ... ذكر هذا التقدير الزمخشري في: الكشاف (4/256).(1/164)
ويجوز أن يُجعل الفعل للتمني في قوله تعالى: { يا ليت بيني وبينك بُعْد المشرقين } بمعنى: ولن ينفعكم اليوم تمنّي مباعدة القرين.
وقوله تعالى: { أنكم في العذاب مشتركون } تعليل، أي: لن ينفعكم تمنيكم؛ لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناءكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه، وهو الكفر.
ويؤيده: ما قرأتُه على أبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري رحمه الله من رواية التغلبي عن ابن ذكوان عن ابن عامر: "إنكم" بكسر الهمزة (1) .
قوله تعالى: { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } هذا الاستفهام إنكار تعجيب من أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قادر على هدايتهم، حيث كان يدأب نفسه الكريمة في دعائهم، ويحرص على استنقاذهم من هلكة الضلال.
{ فإما نذهبن بك } مثل قوله تعالى: { فإما يأتينكم مني هدى } [البقرة:38] وقد ذكرنا إعرابها في أوائل البقرة.
والمعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم { فإنا منهم منتقمون } في الآخرة، كقوله تعالى: { أو نتوفينك فإلينا يرجعون } [غافر:77].
{ أو نرينك الذي وعدناهم } يعني: من العذاب.
قال ابن عباس: أراه ذلك يوم بدر (2) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/380)، والسبعة (ص:586).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/317)، والسيوطي في الدر (7/380) وعزاه لابن مردويه.(1/165)
وقال الحسن وقتادة: عنى بذلك المسلمين (1) .
وقد كان بعد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نقمة شديدة، فأكرم الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذهب به قبل أن يريه في أمته ما يكره.
ويروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُري ما يُصيب أمته من بعده، فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى (2) .
ثم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاعتصام بالقرآن تصريحاً، وأمر غيره به تلويحاً فقال: { فاستمسك بالذي أوحي إليك } أي: اثبت عليه وادعُ إليه.
وقوله تعالى: { إنك على صراط مستقيم } تعليل لذلك.
{ وإنه } يعني: القرآن { لذكر لك ولقومك } أي: لشرف لك ولهم.
والمراد بقومه: قريش.
وقال قتادة: كل من تابعه من أمته (3) .
{ وسوف تسألون } عن حقه وأداء شكره.
قوله تعالى: { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
قال ابن عباس وعامة المفسرين: أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الأنبياء
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/92).
(2) ... أخرجه الطبري (25/75).
(3) ... ذكره الماوردي (5/227)، والسيوطي في الدر (7/380) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/166)
الذين جُمعوا له ليلة الإسراء (1) .
قال ابن عباس: فلم يسألهم؛ لأنه كان أعرفَ بالله منهم (2) .
قال الزهري: صلى خلفه تلك الليلة كل نبي كان أرسل، وقيل له: اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا.
ويروى: أن ميكائيل قال لجبريل عليهما السلام: سألك محمد عن ذلك؟ فقال: هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسأل عن ذلك (3) .
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: المراد: واسأل أتباع الرسل من قبلك (4) .
وقيل الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد غيره.
ô‰s)s9ur أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/78) عن ابن زيد. وذكره الماوردي (5/228).
(2) ... ذكره الماوردي (5/228).
(3) ... ذكره الماوردي (5/228).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/75) عن ابن الأنباري.(1/167)
يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ اخةب
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } أي: باليد والعصا وغيرهما من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - { إلى فرعون وملإه } من القبط { فقال إني رسول رب العالمين } فطالبوه بالبينة على دعواه وصدقه في ادعائه.
ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: { فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } أي: يهزؤون ويسخرون وينسبونه إلى السحر.(1/168)
{ وما نريهم من آية } من الآيات التسع { إلا هي أكبر } أي: أعظم { من أختها } التي قبلها.
قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: هو كلام متناقض، لأن معناه: ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة.
قلتُ: الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل، وتتقارب منازلها فيه التقارب (2) اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك.
فعلى هذا [بنى] (3) الناس كلامهم، فقالوا: رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض، [وربما] (4) اختلفت آراء الرجل الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك. ومنه بيت الحماسة:
منْ تَلْقَ منهمْ تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهُم ... مثلَ النجومِ الذي يَسْري بها السَّاري (5)
ولقد فاضلت الأنمارية بين [الكَمَلَة] (6) من بنيها، ثم قالت -لما أبصرت
__________
(1) ... الكشاف (4/259).
(2) ... في الكشاف: وتتفاوت منازلها فيه التفاوت.
(3) ... في الأصل: بنوا. والمثبت من الكشاف (4/259).
(4) ... في الأصل: ربما. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... البيت في: الدر المصون (6/102)، وروح المعاني (25/87)، والكشاف (4/259).
(6) ... في الأصل: الكلمة. والتصويب من الكشاف (4/259).(1/169)
مراتبهم متدانية قليلة [التفاوت] (1) -: ثَكِلْتُهُم إن كنتُ أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفْرَغَة لا يُدْرَى أين طرفاها.
قوله تعالى: { وقالوا يا أيها الساحر ادعُ لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } وقرأ ابن عامر: "يا أيُّهُ الساحر" (2) ، وقد ذكرتُ علته في سورة النور في قوله تعالى: { أيها المؤمنون } [النور:31].
فإن قيل: هذا كلام يظهر فيه التناقض؛ لأنهم خاطبوه باسم الساحر ثم سألوه الدعاء لهم معترفين بأن له رباً يقدر على كشف ما بهم، ثم أخبروه بأنهم مهتدون؟
قلتُ: قد أجاب عنه الحسن البصري فقال: هو على وجه الاستهزاء منهم (3) .
وهو بعيد؛ لأنه لو كان ذلك على طريقة الاستهزاء [فكيف] (4) يكشف عنهم العذاب؟ ثم قوله تعالى: { إذا هم ينكثون } يفسده.
والجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن الساحر عندهم: الماهر في العلم، فأرادوا تعظيمه بذلك. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس (5) .
__________
(1) ... في الأصل: التفوات. والتصويب من الكشاف (4/259).
(2) ... بضم الهاء. انظر: الحجة للفارسي (3/380)، والحجة لابن زنجلة (ص:650)، والكشف (2/137)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:586-587).
(3) ... ذكره الماوردي (5/229)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/320).
(4) ... زيادة على الأصل.
(5) ... ذكره الطبري (25/80) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (7/320).(1/170)
الثاني: أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية. قاله الزجاج (1) .
وقال ابن بحر: أرادوا: يا غالب [السحرة] (2) .
وقوله تعالى: { بما عهد عندك } مع ما لم أذكره هاهنا مُفسّر في سورة الأعراف في قصتهم (3) .
3"yٹ$tRur فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/414).
(2) ... في الأصل: السحر. والتصويب من الماوردي (5/229).
(3) ... عند الآية رقم: 135.(1/171)
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ اخدب
قوله تعالى: { ونادى فرعون في قومه } أي: أمر رجالاً [فنادوا] (1) ، كما تقول: قطع الأمير السارق، وعاقب اللص، وقد أمر به. وجائز أن يكون اللعين قال ذلك رافعاً به صوته في ملأ من القبط، فأشاعوه عنه وأذاعوه، فكأنه نادى به فيهم فقال معظماً لنفسه: أليس إليَّ مُلْكُ مصر.
حكى النقاش: أنه كان يملك أربعين فرسخاً في مثلها (2) .
ويروى: أن الرشيد رضي الله عنه مرت به هذه الآية يوماً فقال: والله
__________
(1) ... في الأصل: فتلاوا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) ... ذكره الماوردي (5/229).(1/172)
لأولينها أخسّ عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وَضوئه (1) .
{ وهذه الأنهار تجري من تحتي } أراد: النيل، وما يتشعب منه، من ماء أجراه تحت قصوره ودوره وفي بساتينه.
ومن الأقوال [البعيدة] (2) : ما يروى عن الضحاك أنه أراد بالأنهار: القواد والجبابرة الذين كانوا يسيرون تحت لوائه (3) .
قال الزمخشري (4) : ويجوز أن تكون الواو عاطفة "للأنهار" على "ملك مصر". و"تجري" نصب على الحال منها، وأن تكون الواو للحال، واسم الإشارة مبتدأ، "الأنهار" صفة لاسم الإشارة، و"تجري" خبر للمبتدأ.
قوله تعالى: { أم أنا خير من هذا الذي هو مَهين } "أمْ" هذه منقطعة، على معنى: بل أأنا خير، والهمزة للتقرير، كأنه لما عدّد عليهم أسباب فضله قال: قد تقرر عندكم أني أنا خير من هذا الذي هو مهين، [أي] (5) : ضعيف حقير.
وقيل: هي متصلة؛ لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون، إلا أنه وضع قوله تعالى: { أنا خير } موضع "تبصرون"؛ لأنهم إذا قالوا له: أنت خير فهم عنده بُصراء (6) .
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/99).
(2) ... في الأصل: البعدة.
(3) ... ذكره الماوردي (5/230).
(4) ... الكشاف (4/260).
(5) ... زيادة من الكشاف (4/261).
(6) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/260-261).(1/173)
وهذا الوجه حكاه الزجاج (1) عن الخليل وسيبويه (2) .
وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني: الوقف على قوله: "أم"، وفيه إضمار، مجازه: أفلا تبصرون أم لا تبصرون. ثم ابتدأ فقال: "أنا خير من هذا الذي هو مهين".
{ ولا يكاد يبين } أي: يفصح بالكلام. عَظَّمَ اللعينُ نفسه أولاً بما ذكر من ملكه وعظمة شأنه وعز سلطانه، ثم هَضَمَ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - ثانياً بما افتراه عليه من المهانة ونسبه إليه من اللّكْنَة والعيّ في القول حين عجز مع قوة سلطانه وكثرة أعوانه عن معارضة آياته ومناقضة بيناته.
ثم أخذ يُموّه عليهم ويخيّل إليهم أن النبوة يلازمها المُلْك والقُدْرَة على (3) المتَّصِف بها، فقال: { فلولا } أي: هلاّ { ألقي عليه أسَاوِرَةٌ } وقرأ حفص: "أسْوِرَةٌ" (4) .
{ من ذهب } يريد: هلاّ كان مَلِكاً، وإنما قال ذلك؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل وتفويض مقاليد الملك إليه سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق من ذهب.
وقد ذكرنا في سورة الكهف (5) ما يوضح ذلك الفرق بين "أساور"
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/415).
(2) ... انظر: الكتاب (3/173).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: يريد.
(4) ... الحجة للفارسي (3/377)، والحجة لابن زنجلة (ص:651)، والكشف (2/259)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:587).
(5) ... عند الآية رقم: 31.(1/174)
و"أسورة".
فإن قيل: ما هذه الهاء اللاحقة بـ"أساور"؟
قلتُ: قال أبو علي (1) : هي عوض من الياء التي ينبغي أن تُلحق في جمع [إسوارٍ] (2) على حَدِّ: إعصارٌ وأعاصير.
ويجوز أن تكون "أساورة" جمع أسْوِرَة، مثل: أسْقِيَةٍ وأساقٍ، ولحقت علامة التأنيث كما لحقت في قَشْعَم (3) وقشاعمة.
{ أو جاء معه الملائكة مقترنين } قال قتادة: متتابعين (4) .
وقال مجاهد: يمشون معه (5) .
فإن قيل: فرعون لم يكن مؤمناً بالله ولا مقراً بالملائكة، فما معنى هذا القول منه؟
قلتُ: هذا ليس على معنى الاعتراف منه بالملائكة، وإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، أي: هب أن الأمر كما ذكره من أن له رباً قادراً، عنده ملائكة هم في قبضته وتحت قهر سلطانه، فهلاَّ أيّده بجند من الملائكة
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/377-378).
(2) ... في الأصل: أساور. والتصويب من الحجة (3/377).
(3) ... القَشْعَم: المسن من الرجال، والنسور، ومن أسماء الأسد، والجمع: قشاعم (لسان العرب، مادة: قشعم).
(4) ... أخرجه الطبري (25/83). وذكره السيوطي في الدر (7/383) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:582)، والطبري (25/83). وذكره السيوطي في الدر (7/383) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير.(1/175)
ليعاضدوه ويناصروه، ويكونوا [دليلاً] (1) على صدقه؟.
قوله تعالى: { فاستخف قومه فأطاعوه } أي: استفزهم لِمَا أراد منهم فأجابوه.
قوله تعالى: { فلما آسفونا } قال ابن عباس وغيره: أغضبونا (2) .
قال ابن قتيبة (3) : الأسَف: الغضب، يقال: أسِفَ يأْسَفَ أسَفاً: إذا غضب (4) .
قوله تعالى: { فجعلناهم سلفاً } قرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام، والباقون بفتحها (5) .
قال مكي (6) : من ضَمَّ جعله جمعاً لـ"سَلَف"، كأسَد وأُسُد، ووَثَن ووُثُن، وهو كثير.
وقيل: هو جمع سليف، كرغيف ورغف، وهو كثير أيضاً.
والسَّليف: المتقدم، والعرب تقول: مضى منا سَلَف وسُلُف وسَلِيف.
__________
(1) ... في الأصل: ديلاً.
(2) ... أخرجه الطبري (25/84)، وابن أبي حاتم (10/3284). وذكره السيوطي في الدر (7/384) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:399).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: أسف).
(5) ... الحجة للفارسي (3/378)، والحجة لابن زنجلة (ص:651)، والكشف (2/260)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:587).
(6) ... الكشف (2/260).(1/176)
ومن فتحه حمله على بناء يقع للكثرة في الجمع، جعله جمع سالف؛ كخادم وخَدَم، وغائب وغيب. فالقراءتان في معنى واحد.
قال المفسرون: المعنى: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، ويقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم (1) .
{ ومثلاً } عبرة لهم.
وقيل: "مثلاً": حديثاً عجيب الشأن، يجري فيهم مجرى المثل.
* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/85). وذكره السيوطي في الدر (7/384) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.(1/177)
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ادةب
قوله تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون } أطبق جمهور المفسرين أن نزول هذه الآية وما في حيزها كان بسبب قصة عبدالله بن الزبعرى ومجادلته النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزل قوله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [الأنبياء:98]، وقد ذكرنا قصته في آخر الأنبياء (1) ، وأن ابن الزبعرى قال: إن عيسى قد عُبِدَ من دون الله تعالى، وأن قريشاً استبشرت وتضاحكت فرحاً بفلجهم بالحجة على ظنهم.
فمعنى الآية: ولما ضرب عبدالله بن الزبعرى عيسى بن مريم مثلاً وجاء ذلك به حيث عبدته النصارى إذا قومك منه يصدون، أي: من هذا المثل، "يصدون": يصيحون ويَضِجُّون فرحين ضاحكين، من الصَّديد وهو الجلبة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر والكسائي: "يَصُدُّون" بضم الصاد (2) .
قال الزجاج (3) : الكسر أكثر، ومعناهما جميعاً: [يَضِجُّون] (4) . ويجوز أن
__________
(1) ... عند الآية رقم: 101.
(2) ... الحجة للفارسي (3/379)، والحجة لابن زنجلة (ص:652)، والكشف (2/260)، والنشر (2/369)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:587).
(3) ... معاني الزجاج (4/416).
(4) ... في الأصل: يضحكون. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/178)
يكون معنى المضمومة: يُعْرِضُون. يعني: يَصُدُّون من الصُّدود. وهو قول الأخفش وقطرب (1) ، على معنى: إذا قومك من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه.
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو } قرأ أهل الكوفة: "أآلهتنا" بهمزتين محققتين بعدهما ألف، وقرأ الباقون بتحقيق الأولى وتليين الثانية، واتفقوا على ترك الفصل بينهما (2) .
والمعنى: أن آلهتنا عندك ليست خيراً من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً.
{ ما ضربوه } أي: ما ضربوا هذا المثل { لك إلا جدلاً } لأجل الجدال، لا طلباً للتمييز بين الحق والباطل، وهو حال على معنى: ما ضربوه لك إلا جدلين؛ لأنهم قد علموا أن المراد بذلك آلهتهم.
{ بل هم قوم خصمون } لك، شداد الخصومة.
قوله تعالى: { إن هو إلا عبد } يعني: عيسى { أنعمنا عليه } بالنبوة والكتاب { وجعلناه } حيث خلقناه من غير ذكر { مثلاً لبني إسرائيل } عبرة عجيبة وآية عظيمة لهم.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/234).
(2) ... الحجة للفارسي (3/384)، والحجة لابن زنجلة (ص:653)، والكشف (2/260)، والإتحاف (ص:386)، والسبعة (ص:587).(1/179)
{ ولو نشاء لجعلنا منكم } أي: لولدنا منكم يا بني آدم بقدرتنا التي نجبل بها ما نشاء إلى ما نشاء { ملائكة في الأرض يخلفونـ } ـكم فيها كما يخلفكم أولادكم.
وفي هذا إيذان بكمال قدرة الله تعالى جلَّت عظمته وتعريض لنفي ما أثبتوه للملائكة من كونها بنات الله.
وقال أكثر المفسرين: المعنى: لو نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلف بعضهم بعضاً، أو يخلفونكم في الأرض (1) .
¼çm¯Rخ)ur لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/89). وذكره السيوطي في الدر (7/386) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.(1/180)
جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ادذب(1/181)
قوله تعالى: { وإنه لعلم للساعة } قال الحسن وسعيد بن جبير: الضمير في "وإنه" للقرآن (1) .
وقال ابن عباس والجمهور: الضمير لعيسى عليه السلام (2) . وهو الصحيح.
والمعنى: وإن عيسى بن مريم شرطٌ من أشراط الساعة تُعْلَمُ به، فسمي الشرط علماً لحصول العلم به.
وقيل: المعنى: وإنه لدليل على الساعة والبعث بما أجري على يديه من إحياء الموتى.
وقرأ جماعة، منهم: ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن محيصن، وحميد: "لعَلَم" بفتح العين واللام (3) ، أي: علامة وأمارة على الساعة وكونها، أو على قربها.
والأول أوجه؛ لقوله تعالى: { فلا تمترن بها } .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن الصوفي البغداديان قالا:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/91). وذكره السيوطي في الدر (7/387) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... أخرجه الطبري (25/90)، وابن أبي حاتم (10/3285). وذكره السيوطي في الدر (7/386-387) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن أبي هريرة وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن قتادة وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:386)، وزاد المسير (7/325).(1/182)
أخبرنا أبو الوقت عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كيف أنتم إذا [نزل] (1) عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم)) (2) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس.
وقرأتُ على أبي المجد القزويني، أخبركم محمد بن أسعد فأقرَّ به، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (3) ، أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا عبدالرحمن بن أبي شريح (4) ، أخبرنا أبو القاسم البغوي (5) ، حدثنا علي بن الجعد (6) ، أخبرنا [عبدالعزيز بن] (7) عبدالله بن الماجشون (8) ، عن
__________
(1) ... زيادة من الصحيحين.
(2) ... أخرجه البخاري (3/1272 ح3265)، ومسلم (1/136 ح155).
(3) ... انظر: تفسير البغوي (1/308).
(4) ... عبد الرحمن بن أبي شريح أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن مخلد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن ثابت الأنصاري، أبو محمد المعروف بالشريحي، فقيه ثقة زاهد، مات سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة (تكملة الإكمال 3/162، 510).
(5) ... عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان، أبو القاسم البغوي، الحافظ الصدوق، كان ثقةً ثبتاً مكثراً، فهماً عارفاً، ولد سنة أربع عشرة ومائتين، ومات ليلة الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة (لسان الميزان 3/338-339، وتاريخ بغداد 10/111-116).
(6) ... علي بن الجعد بن عبيد الجوهري، أبو الحسن البغدادي، مولى بني هاشم، ثقة ثبت رمي بالتشيع، مات سنة ثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 7/256-257، والتقريب ص:398).
(7) ... زيادة من البغوي (1/308).
(8) ... عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون، كنيته أبو عبدالله، مات بالعراق سنة ست وستين ومائة، وكان فقيهاً ورعاً متابعاً لمذاهب أهل الحرمين من أسلافه (رجال مسلم 1/428).(1/183)
ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، فيفيض المال حتى لا يقبله أحد)) (1) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه البخاري عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح. وأخرجه مسلم عن قتيبة، عن الليث، كل عن ابن شهاب.
قوله: "يكسر الصليب، ويقتل الخنزير" إشارة إلى أنه يُبطل دين النصرانية، ويحكم بالشريعة المحمدية.
قوله: "ويضع الجزية" أي: يسقطها، ويحمل أهل الكتاب على دين الإسلام.
وقيل: معنى وضع الجزية: أن المال يكثر حتى لا يوجد محتاج، يدل عليه تمام الحديث.
وفي حديث آخر: ((أن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية من الأرض المقدسة، يقال لها: أَفِيق (2) ، وعليه مُمَصَّرتان (3) ، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، هي التي يقتل بها الدجّال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الغداة
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1272 ح3264)، ومسلم (1/135 ح155).
(2) ... أفيق، بوزن: أمير، والمراد بها: القدس الشريف (روح المعاني 25/96).
(3) ... أي: حلتان.(1/184)
والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام، ويصلي خلفه على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويُخَرِّبُ البِيَع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به)) (1) .
قوله تعالى: { واتبعوني } أي: اتبعوا هُداي وشرعي، { هذا صراط مستقيم } أي: هذا الذي أدعوكم إليه، أو هذا القرآن، على قول الحسن وسعيد (2) .
قوله تعالى: { ولما جاء عيسى بالبينات } آيات الإنجيل وما أوتي من العلم، { قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } لأنهم كانوا يختلفون في أمور دينية وغير دينية، فجاء ببيان ما اختلفوا فيه من الدين.
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } الموحدين العاملين بطاعة الله تعالى، فإن خِلَّتَهم تزداد يوم القيامة وتقربهم إلى الله تعالى.
قال مقاتل (3) : نزلت في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
دٹ$t7دè"tƒ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا
__________
(1) ... قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (3/254): غريب بهذا اللفظ، وهو في تفسير الثعلبي هكذا من غير سند، وهو مفرق في غضون الأحاديث.
(2) ... ذكره الماوردي (5/236) عن الحسن.
(3) ... تفسير مقاتل (3/195).(1/185)
أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا(1/186)
تَأْكُلُونَ اذجب
قال محمد بن جرير رحمه الله (1) : حدثنا ابن عبدالأعلى قال: [حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال] (2) : حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: يا عباد الله لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فييأس [الناس] (3) منها غير المسلمين.
وفي لفظ آخر: ينادي مُناد يوم القيامة: { يا عبادي ... الآية } ، [فيرفع] (4) الخلائق رؤوسهم، فيقول: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فينكس الكفار رؤوسهم (5) .
وقوله تعالى: { الذين آمنوا } في محل النصب صفة لـ"عبادي" (6) .
{ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } قرناؤكم أو زوجاتكم، "تحبرون" تنعمون وتسرون سروراً يظهر حباره، أي: أثره عليكم.
وقد فسرنا "تحبرون" في سورة الروم (7) .
__________
(1) ... تفسير الطبري (25/95).
(2) ... زيادة من تفسير الطبري، الموضع السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... في الأصل: فيرجع. والتصويب من زاد المسير (7/327).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/327).
(6) ... انظر: الدر المصون (6/106).
(7) ... عند الآية رقم: 15.(1/187)
قوله تعالى: { يُطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب } الصِّحَاف: جمع صَحْفَة، وهي القَصْعَة (1) ، والأكواب: جمع كُوب، وهو إناء مستدير لا عُروة له (2) .
قال الفراء وغيره (3) : الكوب: [الكوز] (4) المستدير الرأس الذي لا عُروة له ولا خرطوم. قال عدي:
مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبوابُهُ ... يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوب (5)
وقال الأعشى:
صَريفيَّةٌ [طَيِّبٌ] (6) طعمُها ... ... لها زبدٌ بين كُوبٍ ودَنِّ (7)
قال بعض أهل [اللغة] (8) : إنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين ناحية منها شاء (9) .
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: صحف).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: كوب).
(3) ... انظر: معاني الفراء (3/37)، وزاد المسير (7/328)، واللسان (مادة: كوب).
(4) ... زيادة من زاد المسير، الموضع السابق.
(5) ... البيت لعدي بن زيد، وهو في: اللسان (مادة: كوب، صفق)، ومعاني الفراء (3/37)، والدر المصون (6/106)، والقرطبي (16/114)، وزاد المسير (7/328)، والبحر (8/6).
(6) ... في الأصل: طيباً. والتصويب من مصادر البيت.
(7) ... البيت للأعشى، وهو في: اللسان (مادة: صرف)، والطبري (25/96، 27/174)، والقرطبي (16/114).
(8) ... زيادة على الأصل. وانظر: زاد المسير (7/328).
(9) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/328) من قول أبي منصور اللغوي.(1/188)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَنْ له سبع درجات، وهو على السادسة وفوقه سبعة، وإن له لثلاثمائة خادم، ويُغْدَى عليه ويراح بثلاثمائة صحفة، ولا أعلمه [إلا قال] (1) : من ذهب في كل صحفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما [يلذ] (2) آخره، وإنه ليقول: يا رب لو أذنت [لي] (3) لأطعمتُ أهل الجنة وسقيتهم [لم ينقص] (4) مما عندي شيء، وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه التي في الدنيا، وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض)) (5) .
وقرأتُ على أبي المجد القزويني، أخبركم أبو منصور الطوسي فأقرّ به قال: حدثنا الحسين بن مسعود الفراء قال: أخبرنا ابن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر [الحارثي] (6) ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبدالله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبدالله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن سليم، عن الحجاج بن عتاب العبدي (7) ، عن عبدالله بن معبد
__________
(1) ... في الأصل: قال إلا. والتصويب من المسند (2/537).
(2) ... في الأصل: يذل. والتصويب من المسند، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من المسند، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: لا نقص. والمثبت من المسند، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه أحمد (2/537 ح10945).
(6) ... في الأصل: الحازني. والتصويب من البغوي (4/284).
(7) ... حجاج بن عتاب العبدي، أبو خليفة، من أهل البصرة، يروى عن عبد الله بن معبد الزماني، روى عنه أبو هلال الراسبي، وقيل: إن هذا والد عمر بن أبى خليفة (الثقات 6/203).(1/189)
الزِّمَّاني (1) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أدنى أهل الجنة منزلة وما منهم دان لمن يغدو عليه [ويروح] (2) عشرة آلاف خادم، مع كل خادم منهم طريفة ليست مع صاحبه)) (3) .
قوله تعالى: { وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين } وقرأ نافع وابن عامر وحفص: { تشتهيه الأنفس } بإثبات الهاء (4) .
قال أبو علي (5) : هذا الفعل في صلة "ما"، والهاء عائدة على "ما"، فجاء بالكلام على أصله.
ومن قرأ: "تشتهي" بحذف الهاء؛ فلأن هذا الاسم قد طال بالصلة، والأسماء إذا طالت حسن الحذف فيها، قال (6) : وحذف هذه الهاء من الصلة في [الحسن] (7) كإثباتها، إلا أن الحذف يرجح على الإثبات بأن عامة هذا النحو جاء في التنزيل على الحذف، فمن ذلك قوله تعالى: { أهذا الذي بعث
__________
(1) ... عبد الله بن معبد الزماني البصري، تابعي ثقة، روى عن أبي قتادة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وأرسل عن عمر، وعنه قتادة، وغيلان بن جرير، وثابت البناني، والحجاج بن عتاب العبدي (تهذيب التهذيب 6/36، والتقريب ص:324).
(2) ... في الأصل: ويرح. والتصويب من البغوي (4/284).
(3) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/284).
(4) ... الحجة للفارسي (3/381)، والحجة لابن زنجلة (ص:654)، والكشف (2/260)، والنشر (2/370)، والإتحاف (ص:387)، والسبعة (ص:588-589).
(5) ... الحجة للفارسي (3/382).
(6) ... أي: أبو علي الفارسي في الحجة (3/382).
(7) ... في الأصل: حسن. والتصويب من الحجة، الموضع السابق.(1/190)
الله رسولاً } [الفرقان:41]، { وسلام على عباده الذين اصطفى } [النمل:59]، و { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } [هود:43]، وقد جاءت هذه الهاء مثبتة في قوله تعالى: { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة:275].
وبالإسناد السالف قال: حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد (1) ، عن عبد الرحمن بن سابط (2) قال: [قال] (3) رجل: ((يا رسول الله! أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل، فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير [بك] (4) في أيّ الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله! أفي الجنة إبل، فإني أحب الإبل؟ قال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك)) (5) .
قوله تعالى: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } وقال
__________
(1) ... علقمة بن مرثد الحضرمي، أبو الحارث الكوفي، ثقة (تهذيب التهذيب 7/246، والتقريب ص:397).
(2) ... عبد الرحمن بن سابط -ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط، وهو الصحيح، ويقال: عبدالرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سابط- بن أبي حميضة بن عمرو بن أهيب بن حذافة بن جمح الجمحي المكي، تابعي ثقة كثير الإرسال، مات سنة ثماني عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 6/163، والتقريب ص:340).
(3) ... زيادة من البغوي (4/145).
(4) ... زيادة من البغوي (4/145).
(5) ... أخرجه الترمذي (4/681 ح2543). وذكره البغوي في تفسيره (4/145).(1/191)
الزمخشري (1) : "تلك" إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ، خبرها: "الجنة"، "التي أورثتموها" صفة "الجنة". أو "الجنة": صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة. و"التي أورثتموها": خبر المبتدأ. أو "التي أورثتموها": صفة، و"بما كنتم تعملون": الخبر، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخباراً. وفي الوجه الأول تتعلق بـ"أورثتموها".
{ منها تأكلون } "مِنْ" للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبداً موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا.
قال ثوبان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها)) (2) .
¨bخ) الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا
__________
(1) ... الكشاف (4/266).
(2) ... أخرجه الحاكم (4/496 ح8390) مطولاً.(1/192)
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ارةب
قوله تعالى: { إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم } أي: لا يخفف ولا ينقص من قولهم: فَتَرَتْ عنه الحمى؛ [إذا سكت عنه قليلاً(1/193)
ونقص حرّها] (1) .
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد (2) رضي الله عنه من حديث عمرو بن ميمون قال: قال عبدالله بن مسعود: ((لو وعد أهل النار أن يخفف عنهم يوماً من العذاب لماتوا فرحاً)).
{ وهم فيه مبلسون } ساكتون سكوت يأس من الفرج.
وقد ذكرنا معنى الإبلاس في سورة الأنعام (3) .
{ وما ظلمناهم } بالتعذيب من غير ذنب { ولكن كانوا هم الظالمين } بما جنوا على أنفسهم.
{ ونادوا يا مالك } وقرأ جماعة، منهم: علي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وابن يعمر: "يا مَالِ" بحذف الكاف وكسر اللام للترخيم (4) .
وقرأ الغنوي: "يا مَالُ" بالترخيم أيضاً، ورفع اللام (5) .
ويروى أن ابن عباس قيل له: إن ابن مسعود قرأ: "ونادوا يا مَالِ" فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم (6) .
وقال الزجاج (7) : أكرهها لمخالفة المصحف.
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (4/266).
(2) ... الزهد (ص:202).
(3) ... عند الآية رقم: 44.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/329)، والدر المصون (6/107).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/27-28)، والدر المصون (6/107).
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/266).
(7) ... معاني الزجاج (4/420).(1/194)
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن صفوان بن (1) يعلى، عن أبيه قال: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر: { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } )) (2) .
والمعنى: سَلْهُ أن يميتنا فنستريح.
قال ابن عباس: فيجيبهم مالك بعد ألف سنة: { إنكم ماكثون } (3) .
قال عبدالله بن عمرو: هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك (4) .
وقال بعضهم: الضمير في "قال" [لله] (5) تعالى، أي: قال الله إنكم ماكثون، بدليل قوله تعالى: { لقد جئناكم بالحق } أي: أتيناكم بالحق على ألسنة الرسل { ولكن أكثركم للحق كارهون } .
يروى عن ابن عباس أنه قال في قوله: { ولكن أكثركم } : يريد: كلكم (6) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: "أبي". وانظر ترجمته في: التهذيب (4/379)، وتهذيب الكمال (13/218).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1821 ح4542).
(3) ... أخرجه الطبري (25/99)، وابن أبي حاتم (10/3286)، والحاكم (2/487). وذكره السيوطي في الدر (7/394) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وغيرهم.
(4) ... أخرجه الحاكم (2/429 ح3492).
(5) ... في الأصل: الله.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/330).(1/195)
وكان الزجاج ينكر هذا، ويقول: الصحيح: أن البعض لا يكون بمعنى الكل. وقد ذكرنا مثل ذلك فيما مضى من كتابنا.
فإن قيل: إذا لم يكن المراد بالأكثر هاهنا الكل، فما معنى الآية، وإنما هذا الخطاب للكفار، وكلهم كرهوا الحق؟
قلتُ: هذا توبيخ لهم وهم في النار على كراهيتهم للحق ونفورهم منه في الدنيا.
المعنى: أتيناكم بالحق فكرهه أكثركم، وهم الذين أصروا على الكفر والأمر به؛ لأنهم أكثر من الذين آمنوا.
قوله تعالى: { أم أبرموا أمراً } أي: أم أحكموا أمراً يكيدونك به يا محمد.
قال أكثر المفسرين: وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة، وقد ذكرناه في الأنفال (1) .
وقال الفراء (2) : المعنى: أم أبرموا أمراً ينجيهم من العذاب.
{ فإنا مبرمون } محكمون أمراً ندرأ به كيدهم.
{ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم } أي: ما حدثوا به أنفسهم { ونجواهم } فيما بينهم { بلى } نسمعهما ونطلع عليهما { ورسلنا } الحفظة { لديهم } عندهم { يكتبون } أقوالهم وأفعالهم.
ِ@è% إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 30.
(2) ... معاني الفراء (3/38).(1/196)
وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ(1/197)
تُرْجَعُونَ ارخب
{ قل } يا محمد لمن افترى الكذب عليَّ ونسب الولد إليّ من العرب واليهود والنصارى: { إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } .
اختلفوا في "إنْ" على مذهبين:
أحدهما: أنها شرطية على أصلها. ثم في معنى الكلام خمسة أوجه:
أحدها: إن كان للرحمن ولد على زعمكم وفي قولكم فأنا أول الجاحدين أن لله ولداً. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (1) .
ويروى أن أعرابيين اختصما إلى ابن عباس فقال أحدهما: إن هذا كانت لي في يده أرض فَعَبَدَنيِها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أول العابدين الجاحدين أن لله ولداً (2) .
الثاني: إن كنتم تزعمون أن للرحمن ولداً فأنا أول الموحدين الذين يعبدون الله مخالفين قولكم. وهذا قول مجاهد والزجاج (3) .
والثالث: فأنا أول الآنفين من هذا القول.
قال ابن قتيبة (4) : يقال: عَبِدتُ من كذا أعبَدُ عَبَداً، فأنا عَبد وعَابد. قال
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/101)، وابن أبي حاتم (10/3286). وذكره السيوطي في الدر (7/395) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/331).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:584)، والطبري (25/101). وانظر: معاني الزجاج (4/420). وذكره السيوطي في الدر (7/395) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:401).(1/198)
الفرزدق:
......................... ... ... وأعبَدُ أن [تُهْجَى] (1) تميم [بدارم] (2)
أي: آنف. قاله ابن السائب وأبو عبيدة (3) .
قال ابن جني (4) : روينا عن [قطرب] (5) أن العابد: العالم، والعابد: الجاحد، والعابد: الأَنِف الغضبان.
قال: ومعنى هذه الآية يحتمل كل هذه المعاني.
الرابع: "إن كان للرحمن ولد": أن المعنى: إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عَبَدَ الله، لكني لست أول من عَبَدَ الله فلا يكون لله ولد. وهذا المعنى حكاه الواحدي عن سفيان بن عيينة (6) .
الخامس: إن صح أن للرحمن ولد، أو ثبت ببرهان صحيح توردونه،
__________
(1) ... في الأصل: تهجو. والتصويب من ب، ومن مصادر البيت.
(2) عجز بيت للفرزدق، وصدره: (أولئك قوم إن هجوني هجوتهم)، وهو في: زاد المسير (7/332)، والإنصاف (2/637). وما بين المعكوفين في الأصل: بداهم. والتصويب من المصادر السابقة.
... ويروى:
... ... ... ... أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعبد أن أهجو كليباً بدارم
... انظر: المحتسب (2/258)، ومجاز القرآن (2/206)، والبحر (8/28)، والدر المصون (6/108).
(3) ... انظر: زاد المسير (7/331)، ومجاز القرآن (2/206).
(4) ... المحتسب (2/258).
(5) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(6) ... الوسيط (4/83).(1/199)
فأنا أول من يُعظِّمُ ذلك الولد ويعبده.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. [وهذا] (1) اختيار صاحب الكشاف (2) .
المذهب الثاني: أنها "إنْ" النافية. قاله الحسن وقتادة وابن زيد وآخرين (3) . فيكون المعنى: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أول من عَبَدَ الله وحده من هذه الأمة، أو فأنا أول الآنفين من هذا القول.
ويروى: أن النضر بن عبد الدار قال: إن الملائكة بنات الله، فنزلت هذه الآية، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني. فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فإنه أول الموحدين من أهل مكة: أن لا ولد له (4) .
ثم نزّه الله سبحانه وتعالى نفسه بالآية التي تليها.
{ فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يلاقوا } وقرأ جماعة، منهم أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن محيصن: "حتى يَلْقَوا"
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... الكشاف (4/268).
(3) ... أخرجه الطبري (25/101). وذكره الماوردي (5/240)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/332).
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/269).(1/200)
بفتح الياء وسكون اللام وفتح القاف من غير ألف، وبها قرأتُ لأبي جعفر (1) .
{ يومهم الذي يوعدون } وهو يوم القيامة.
وأكثر المفسرين يقولون: هذه منسوخة بآية السيف (2) ، وقد أسلفنا في غضون كتابنا أن هذا وأمثاله خارج مخرج التهديد، كقوله تعالى: { ذرني ومن خلقت وحيداً } [المدثر:11].
قوله تعالى: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } قال الزجاج (3) : المعنى: هو الموحَّدُ في السماء وفي الأرض.
وقرأ جماعة، منهم: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: "وهو الذي في السماء اللهُ وفي الأرض الله" (4) . والمقصود نفي آلهة سواه جلّت عظمته، وإبطال ما كانوا ينتحلونه من عبادة الأصنام.
ںwur يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
__________
(1) ... انظر: النشر (2/370)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:387).
(2) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:158)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:55).
(3) ... معاني الزجاج (4/421).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/333)، والدر المصون (7/109).(1/201)
يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ارزب
قوله تعالى: { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، حتى أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية (1) .
{ إلا من شهد بالحق } استثناء منقطع، على معنى: لكن من شهد بالحق، وهو يوحِّد الله تعالى، وعلَّمه علماً سليماً من الشك، فهو الذي يملك الشفاعة.
وقيل: هو استثناء متصل؛ لأن في جملة "الذين يدعون من دون الله":
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/242)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/333).(1/202)
الملائكة وعيسى وعزيراً. والأول قول قتادة والأكثرين (1) ، والثاني قول مجاهد (2) .
والواو في قوله: { وهم يعلمون } واو الحال.
قوله تعالى: { وقيله } قرأ عاصم وحمزة: "وقيلِه" بكسر اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام (3) .
وقرأ جماعة، منهم: أبو هريرة، وأبو رزين، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، والجحدري، وقتادة: "وقيلُه" برفع اللام (4) .
فمن قرأ بالجر عطفه على "الساعة"، أي: وعنده علم الساعة وعلم قِيله.
ومن نصب احتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يحمله على موضع: "وعنده علم الساعة"، على معنى: ويعلم الساعة ويعلم قِيلَه. وهو اختيار الزجاج (5) .
الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر، التقدير: ويقول قيلَه.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/105). وذكره الماوردي (5/242).
(2) ... أخرجه الطبري (25/105). وذكره السيوطي في الدر (7/396) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... الحجة للفارسي (3/382)، والحجة لابن زنجلة (ص:655)، والكشف (2/262)، والنشر (2/370)، والإتحاف (ص:387)، والسبعة (ص:589).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/334-335)، والدر المصون (6/110).
(5) ... معاني الزجاج (4/421).(1/203)
الثالث: أن يحمله على: "سرّهم ونجواهم" (1) ، التقدير: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه. ذكرهما الأخفش. وذكر الأوجه الثلاثة أبو علي (2) .
وقال مكي (3) : هو معطوف على مفعول "يكتبون" المحذوف، تقديره: [ورسلنا لديهم] (4) يكتبون ذلك وقيلَه.
قال (5) : ويجوز أن يكون معطوفاً على مفعول "يعلمون" المحذوف. ذكر هذين الوجهين مع الثلاثة المتقدمة (6) .
ومن رفع فعلى الابتداء، والخبر ما بعده، أو هو محذوف، تقديره: وقيلُه يا رب مسموع، أو مُتقبَّل.
قوله تعالى: { فاصفح عنهم } أعرض عنهم { وقل سلام } مثل قوله في القصص: { سلام عليكم } [القصص:55]. وهذا منسوخ عند المفسرين بآية السيف (7) .
ثم [هددهم] (8) بقوله تعالى: { فسوف يعلمون } .
__________
(1) ... قوله: "ونجواهم" مكرر في الأصل.
(2) ... الحجة للفارسي (3/382-383).
(3) ... الكشف (2/262).
(4) ... زيادة من الكشف (2/262).
(5) ... أي: مكي في الكشف.
(6) ... الكشف (2/263).
(7) ... الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:158)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:55).
(8) ... في الأصل: هدهم.(1/204)
وقيل: المعنى: فسوف يعلمون أنك صادق عند حلول العذاب بهم.
ويحتمل عندي أن يكون المعنى: فسوف يعلمون صدقك عند استفحال سلطانك وانتشار دعوتك، وظهور دينك.
وقرأ نافع وابن عامر: "فسوف تعلمون" بالتاء، على الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمخاطبتهم (1) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/383)، والحجة لابن زنجلة (ص:656)، والكشف (2/263)، والنشر (2/370)، والإتحاف (ص:387)، والسبعة (ص:589).(1/205)
سورة الدخان
ijk
وهي ست وخمسون آية في المدني وسبع في الكوفي (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
قال: أخبرنا أبو [المجد] (2) محمد بن أبي بكر [الكرابيسي] (3) ، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبدالرزاق بن إسماعيل [بن] (4) محمد وابن عمه أبو سعيد المطهر بن عبدالكريم بن محمد قالا: أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن [حمد] (5) بن الحسن الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين بن [الكسار] (6) الدينوري، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن السني قال: أخبرنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفوراً له)) (7) .
üNm (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:225).
(2) ... في الأصل: المجلد. وقد سبق صوابه كما أثبتناه.
(3) ... في الأصل: الكربيسي. وقد سبق صوابه كما أثبتناه.
(4) ... زيادة على الأصل.
(5) ... في الأصل: أحمد. وقد سبق صوابه كما أثبتناه.
(6) ... في الأصل: الكساب. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (17/514).
(7) ... أخرجه الترمذي (5/163 ح2889)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:319).(1/206)
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ مNن3ح !$t/#uن الْأَوَّلِينَ ارب
قوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } هذا جواب القسم، والكنايةُ راجعةٌ إلى "الكتاب"، وهو القرآن، و"الليلة المباركة": ليلة القدر، في قول ابن(1/207)
عباس وعامة المفسرين (1) ، وقد ذكرنا كيفية إنزاله في ليلة القدر في مقدمة الكتاب.
وسنذكر إن شاء الله تعالى معنى بركتها وفضيلتها في سورة القدر.
وقال عكرمة: في ليلة النصف من شعبان (2) .
وهذا بعيد من وجهين (3) :
أحدهما: أنه خلاف ما عليه عامة أهل العلم.
الثاني: أنه يناقض قوله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [البقرة:185]، وقوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر:1].
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله (4) : الرواية عن عكرمة بذلك مضطربة.
قوله تعالى: { إنا كنا منذرين } مرتبط بجواب القسم، على معنى: إنا أنزلناه مفصلاً بالحكم والأحكام، مشتملاً على ضروب النذارة؛ لأن شأننا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/107). وذكره السيوطي في الدر (7/398-400) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.
... ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. ومن نفس الطريق عزاه لابن جرير أيضاً.
(2) ... أخرجه الطبري (25/109)، وابن أبي حاتم (10/3287). وذكره الماوردي (5/244).
(3) ... قال الحافظ ابن كثير (4/138): ومن قال أنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النّجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان.
... وعلى هذا: فإن الصواب هو القول الأول وعليه عامة المفسرين.
(4) ... زاد المسير (7/338).(1/208)
الإنذار من عذاب النار.
{ فيها يفرق } أي: يفصل { كل أمر حكيم } أي: محكم.
قال ابن عباس: يكتب (1) .
وقال الضحاك: يقضى (2) .
وقال ابن زيد: ينزل (3) .
قال ابن عباس: يُكْتَبُ من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال، حتى الحاج (4) .
وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى (5) .
قوله تعالى: { أمراً من عندنا } قال الأخفش (6) : "أمراً" و"رحمة" منصوبان على الحال. والمعنى: إنا انزلناه آمرين أمراً وراحمين رحمة.
قال الزجاج (7) : ويجوز أن يكون منصوباً بـ"يُفرق"، بمنزلة يفرقُ فرقاً؛
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/245)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/338).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/85).
(5) ... أخرجه الحاكم (2/487 ح3678)، والطبري (25/109) بنحوه، وابن أبي حاتم (10/3287)، والبيهقي في الشعب (3/321 ح3661) كلهم من قول ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (7/400) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.
(6) ... معاني الأخفش (ص:284).
(7) ... معاني الزجاج (4/424).(1/209)
لأن أمراً بمعنى فَرْقاً.
قال الفراء (1) : ويجوز أن [تنصب] (2) الرحمة بوقوع "مرسلين" عليها، فتكون الرحمة هي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الزمخشري (3) : { أمراً من عندنا } نصب على الاختصاص (4) . جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، كائناً من لدنا. و"رحمة": مفعول له، على معنى: إنا أنزلنا القرآن؛ لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم.
قوله تعالى: { رب السموات والأرض } قرأ أهل الكوفة: "ربِّ" بالجر. وقرأ الباقون بالرفع (5) .
قال الزجاج (6) : الخفض على الصفة، على قولك: من رَبّ. ومن رفع فعلى قوله: "إنه هو السميع العليم". وإن شئت على الاستئناف، على معنى: هو رب السموات والأرض.
{ وما بينهما إن كنتم موقنين } ، ومعنى الشرط: أن إرسال الرسل،
__________
(1) ... معاني الفراء (3/39).
(2) ... في الأصل: ينتصب. والتصويب من معاني الفراء، الموضع السابق.
(3) ... الكشاف (4/275).
(4) ... في الأصل زيادة قوله: من. وانظر النص في: الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... الحجة للفارسي (3/386)، والحجة لابن زنجلة (ص:656)، والكشف (2/264)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:388)، والسبعة (ص:592).
(6) ... معاني الزجاج (4/424).(1/210)
وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل لهم: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مُقرُّون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما، أي: إن كان إقراركم عن إيقان بالله تعالى وإتقان لمعرفته.
قوله تعالى: { ربكم ورب آبائكم الأولين } قرأ الأكثرون: "ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين" برفع الباء فيهما. وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء اللغوي رحمه الله للكسائي من رواية الشيزري عنه: بالجر فيهما (1) ، بدلاً من "ربك".
ِ@t/ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:388).(1/211)
(13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ tbrك‰ح !%tو (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ اتدب
قوله تعالى: { بل هم في شك يلعبون } تكذيبٌ لهم في دعواهم الإيقان بالله تعالى، فإنهم لو كانوا مصدقين بذلك ما صدر عنهم ما لا يجامعه من عبادة الأصنام وجحد البعث وتكذيب الرسل.
قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } اختلف فيه وفي وقته على قولين:
أحدهما: أنه الجوع الذي أصاب كفار قريش بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: حدثنا عبدالله -يعني: ابن مسعود- قال: ((إنما كان هذا لأن(1/212)
قريشاً لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم } . قال: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: يا رسول الله! استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، قال لمضر: إنك لجريء، فاستسقى فسقوا، فنزلت: { إنكم عائدون } ، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله تعالى: { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } قال: يعني يوم بدر)) (1) . هذا حديث متفق على صحته.
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن مسعود قال: ((مضى خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام)) (2) . وإلى هذا القول ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل (3) .
الثاني: أنه دخان مرتقب يكون في آخر الساعة. وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام)) (4) .
وقال ابن أبي مليكة: غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال: ما نمت
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1823 ح4544)، ومسلم (4/2156 ح2798).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1823 ح4543)، ومسلم (4/2157 ح2798).
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:588). وانظر: تفسير مقاتل (3/202).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/339).(1/213)
الليلة حتى أصبحت، قلتُ: لِمَ؟ قال: طلع [الكوكب] (1) ذو الذنب فخشيت أن يكون دخاناً قد طرق، فما نِمْتُ حتى أصبحت (2) .
وهذا القول يروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة والحسن (3) .
قوله تعالى: { يغشى الناس } أي: يشملهم. وهو في محل الجر صفة لـ"دخان".
{ هذا عذاب } فيه إضمار منصوب على الحال (4) ، تقديره: قائلين هذا عذاب { أليم } .
{ ربنا اكشف عنا العذاب } وهو الجوع، على القول الأول. والدخان، على الثاني، { إنا مؤمنون } .
قوله تعالى: { أنى لهم الذكرى } أي: كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، { وقد جاءهم رسول مبين } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ودلائل صدقه ظاهرة، وبراهين رسالته باهرة، فلم يذكروا ولم يتعظوا.
__________
(1) ... في الأصل: الكوب. والتصويب من زاد المسير (7/339).
(2) ... أخرجه الحاكم (4/506 ح8419)، والطبري (25/113).
(3) ... أخرجه الطبري (25/113-114)، وابن أبي حاتم (10/3288). وذكره السيوطي في الدر (7/407-408) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي. ومن طريق آخر عن ابن عمر، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن أبي سعيد الخدري، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... انظر: الدر المصون (6/113).(1/214)
{ ثم تولوا عنه وقالوا } بهتاناً وعناداً: { معلم مجنون } يعلمه فلان وفلان غلمان أعاجم، وقد ذكرناهم عند قوله تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } [النحل:103].
قال الله تعالى: { إنا كاشفوا العذاب قليلاً } زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً. وهو الضرّ الذي أصابهم بسبب الجوع، على قول ابن مسعود (1) .
قال مقاتل (2) : كشفه الله تعالى عنهم إلى يوم بدر.
والدخان؛ على القول الآخر. فقد [روي] (3) أنه يكشف عنهم بعد أربعين يوماً، فريثما يكشف عنهم يرتدون (4) .
{ إنكم عائدون } يعني: إلى الشرك، على قول ابن مسعود (5) ، أو إلى عذاب الله، على القول الآخر.
{ يوم نبطش البطشة الكبرى } هو يوم بدر، على قول ابن مسعود (6) ، ويوم القيامة، على القول الآخر (7) .
__________
(1) ... وقد سبق الحديث قريباً.
(2) ... تفسير مقاتل (3/203).
(3) ... في الأصل: وي.
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (4/277).
(5) ... ذكره الماوردي (5/247).
(6) ... أخرجه الطبري (25/116)، وابن أبي شيبة (7/355 ح36673). وذكره السيوطي في الدر (7/408) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه.
(7) ... أخرجه الطبري (25/117). وذكره السيوطي في الدر (7/408) وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.(1/215)
وقد سبق أن البطش: الأخذ بقوة.
فإن قيل: فما العامل في "يوم نبطش"؟
قلتُ: إما مضمر، تقديره: "اذكر"، أو ما دل عليه.
{ إنا منتقمون } على معنى: ننتقم منهم يوم نبطش.
فإن قيل: هل يجوز أن ينتصب بـ"منتقمون"؟
قلتُ: لا؛ لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها.
فإن قيل: ما وجه قراءة الحسن وأبي رجاء: "نُبْطِش" بضم النون وكسر الطاء؟
قلتُ: هو على معنى: نسلط عليهم من يبطش بهم، أو على معنى: نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم.
* وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)(1/216)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ(1/217)
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ اثزب
قوله تعالى: { ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون } أي: فتناهم بما فتحنا عليهم وأتحنا لهم من أسباب الرزق وامتداد العمر حتى بطروا نعمتي، وعبدوا غيري.
وقيل: المعنى: فتنَّاهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم.
{ وجاءهم رسول كريم } شريف وسيط النسب، أو كريم على ربه.
{ أن أدوا إليّ عباد الله } "أنْ" هي المفسرة، أو الخفيفة من الثقيلة، و"عباد الله" مفعول به، أو منادى (1) .
فالأول على معنى: أرسلوا معي بني إسرائيل وسلمهم إليّ. والثاني على معنى: أدوا إليّ عباد الله ما هو واجب عليكم من التمسك بما جئتُ من التوحيد، والتنسك بما أمرتم به على لساني من الحكم والأحكام.
والمعنى الأول قول ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين (2) . والثاني ذكره الزجاج وغيره (3) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/229)، والدر المصون (6/114).
(2) ... أخرحه مجاهد (ص:588)، والطبري (25/118). وذكره السيوطي في الدر (7/409) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(3) ... معاني الزجاج (4/425).(1/218)
قال الماوردي (1) : وهو قول محتمل.
قوله تعالى: { وأن لا تعلوا على الله } "أنْ" هذه كالتي قبلها.
والمعنى: لا تتعظموا وتتكبروا على الله بالاستهانة برسوله.
{ إني آتيكم بسلطان مبين } حجة ظاهرة تدل على صدقي.
قال المفسرون: لما قال ذلك تواعدوه بالقتل، فقال { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } .
قال قتادة: بالحجارة (2) .
وقال أبو صالح: ترجمون بالشتم، بأن تقولوا: ساحر أو كاهن أو مجنون (3) .
{ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } تنحّوا عني وخلوا سبيلي واجتنبوا أذاي.
{ فدعا ربه أن هؤلاء } أي: بأن هؤلاء { قوم مجرمون } أي: مشركون.
قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم.
وقرئ: "إنَّ هؤلاء" بكسر الهمزة (4) ، على إضمار القول، أو لأن الدعاء في معنى القول.
فأجاب الله دعاءه وقال: { فأسر بعبادي ليلاً } وهو على إضمار القول،
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/249).
(2) ... أخرجه الطبري (25/120). وذكره السيوطي في الدر (7/409) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الطبري (25/119). وذكره الماوردي (5/250).
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/36)، والدر المصون (6/114).(1/219)
تقديره: فقال أسر بعبادي، أو يكون جواب شرط محذوف، تقديره: إن كان الأمر كذلك كما تقول فأسر بعبادي، يعني: بني إسرائيل.
{ إنكم متبعون } يتبعُكم فرعون وجنوده.
{ واترك البحر رهواً } ساكناً. ومنه قول الأعشى:
يمشينَ رهْوَاً فَلاَ الأعجازُ خاذلةً ... ولا الصُّدُورُ على الأعجاز تَتَّكِلُ (1)
فالمعنى: اتركه ساكناً على حاله بعد انفراقه، فلا تأمره بالالتئام خوفاً منهم.
{ إنهم جند مغرقون } وعبارة المفسرين في الرّهو ترجع إلى هذا الأصل، أو إلى هذا المعنى.
قال قتادة: "رَهْوَاً": طريقاً يابساً (2) .
وقال مجاهد: منفرجاً (3) .
وقال الربيع: سهلاً (4) .
وقال الضحاك: دمثاً (5) .
وقد ذكرنا قصة غرقهم في البقرة.
__________
(1) ... ونسب للقطامي أيضاً، انظر: ديوانه (ص:4)، واللسان (مادة: رها)، والقرطبي (16/137)، والدر المصون (6/115)، والبحر (8/32)، والماوردي (5/250).
(2) ... أخرجه الطبري (25/122). وذكره السيوطي في الدر (7/410) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... ذكره الماوردي (5/250)، والسيوطي في الدر (7/410) وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... أخرجه الطبري (25/121). وذكره السيوطي في الدر (7/410) وعزاه لابن جرير.
(5) ... أخرجه الطبري (25/122). وذكره السيوطي في الدر، الموضع السابق.(1/220)
والآية التي بعدها مُفسّرة في الشعراء (1) .
قوله تعالى: { ونَعمة كانوا فيها فاكهين } وهي ما كانوا فيه من السعة والرغد.
قال ابن عمر: هو نيل مصر (2) .
وقال ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها (3) .
وقد ذكرنا النعمة في [أول] (4) البقرة في قوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [البقرة:40].
و"فاكهين" وقرأ أبو جعفر: "فكهين" (5) ، هو مذكور في يس (6) .
{ كذلك } أي: الأمر كذلك { وأورثناها قوماً آخرين } ليسوا منهم في شيء، بل كانوا مستعبدين في أيديهم.
قوله تعالى: { فما بكت عليهم السماء والأرض } اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على حقيقته وظاهره، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: الحُمرة التي في السماء بكاؤها (7) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 57.
(2) ... ذكره الماوردي (5/251).
(3) ذكره الماوردي (5/251).
(4) ... في الأصل: أوال.
(5) ... النشر (2/354)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:366).
(6) ... عند الآية رقم: 55.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/345).(1/221)
وقال علي عليه السلام: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاّه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلى ولا في السماء مصعد عمل، فقال الله تعالى: { فما بكت عليهم السماء والأرض } (1) .
وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً (2) ، فقيل له: أَوَ تبكي؟ فقال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يَعْمُرُها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دويٌّ كدويّ النحل؟ (3) .
وإلى هذا القول ذهب عامة المفسرين المتقدمين. ويؤيده ما أخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مؤمن إلا وله بابان، بابٌ يصعد منه عمله، وبابٌ ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، فذلك قوله تعالى: { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3289)، وابن المبارك في الزهد (ص:114)، والمقدسي في المختارة (2/358 ح741). وذكره السيوطي في الدر (7/413) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر من طريق المسيب بن رافع عن علي رضي الله عنه.
(2) ... أخرجه الطبري (25/125). وذكره السيوطي في الدر (7/413) وعزاه لابن أبي شيبة والبيهقي.
(3) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (5/1714 ح117420). وذكره الماوردي (5/252)، والسيوطي في الدر (7/412) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ في العظمة.(1/222)
منظرين } )) (1) .
الثاني: أنه على حذف المضاف، تقديره: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض. قاله الحسن (2) .
الثالث: أنه على مذهب العرب، فإنهم يقولون إذا مات رجل خطير: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت له الشمس، وبكته الريح.
ومنه قول جرير يرثي عمر بن عبدالعزيز:
الشمسُ طالعةٌ ليستْ بكاسفةٍ ... تبكي عليكَ نجومُ الليلِ والقَمَرا
حُمِّلْتَ أمراً عظيماً فاصْطَبَرْتَ له ... وسِرْتَ فيه بحُكْم الله يا عُمَرا (3)
وقالت الخارجية:
أيَا شَجَرَ الخابُور ما لكَ مُورقاً ... كأنَّكَ لم تَجْزَع على ابن طريف (4)
وقال ابن مُفَرِّغ الحميري في غلامه برد حين باعه:
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/380 ح3255).
(2) ... ذكره الماوردي (5/252).
(3) ... البيتان لجرير، انظر: ديوانه (ص:372) وفيه: فالشمس كاسفة ليست بطالعة، وانظر البيت الأول في: اللسان (مادة: شمس، كسف، بكا)، وأمالي المرتضى (1/52)، والقرطبي (16/140)، وزاد المسير (7/346)، والبحر (8/37)، والدر المصون (6/116)، وروح المعاني (25/124)، والماوردي (5/253). وانظر البيت الثاني في: الجمل للفراهيدي (ص:111)، ومغني اللبيب (ص:486).
(4) ... البيت لليلى بنت طريف الخارجية، وهو في: الأغاني (12/113، 114، 116)، والقرطبي (16/140)، وروح المعاني (21/80) ونسبه للخنساء، واللسان (مادة: خبر).(1/223)
وشريْتُ بُرْداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَه
الريحُ تبكي شَجْوَه ... والبرقُ يلمعُ في غمامه (1)
قال بعض أهل المعاني (2) : وذلك منهم على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء، وتنبيهاً على تعظيم مهلك الرجل الخطير، وعلى هذا المعنى حملوا الأخبار والآثار الواردة في ذلك. والله تعالى أعلم.
ô‰s)s9ur نَجَّيْنَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
__________
(1) ... البيتان ليزيد بن مفرغ الحميري، انظر: ديوانه (ص:213)، والأغاني (18/269). وانظر البيت الأول في: اللسان (مادة: برد، شري)، والقرطبي (3/21، 9/155)، والطبري (1/415، 12/170)، وزاد المسير (2/131)، وروح المعاني (12/204). وانظر البيت الثاني في: البحر (8/37)، وزاد المسير (7/346).
(2) ... هو قول الزمخشري في: الكشاف (4/280).(1/224)
وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ اججب
قوله تعالى: { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين } وهو ما كان فرعون يعدهم به من استخدامهم في الأعمال الشاقة، واستحياء النساء، وقتل الأبناء.
{ من فرعون } أي: من العذاب المهين الواقع من فرعون، ويجوز أن يكون "من فرعون" بدلاً من "العذاب المهين" (1) ، كأنه في نفسه عذاب؛ لفرط توغله فيه.
وقرئ: "مِنْ عَذَابِ المهين" (2) على إضافة العذاب إلى المهين، وهو فرعون.
{ إنه كان عالياً } متكبراً { من المسرفين } وهما خبرا "كان" (3) .
قوله تعالى: { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } "على عِلْم" في محل الحال (4) . والمعنى: ولقد اخترنا بني إسرائيل عالمين بما اخترناه على عالمي زمانهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/229)، والدر المصون (6/116).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/116)، والكشاف (4/280).
(3) ... انظر: التبيان (2/229).
(4) ... انظر: التبيان (2/229)، والدر المصون (6/116).(1/225)
وقيل: هو على عمومه، على معنى: اخترناهم على جميع العالمين، بأن جعلنا الأنبياء منهم، وأكرمناهم بإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام عليهم، وغير ذلك من الآيات العظام والعجائب المختصة بهم.
{ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين } نعمة ظاهرة.
¨bخ) هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا !$oYح !$t/$t"خ/ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ 8ى 7è? وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ اجذب
ثم عاد إلى الإخبار عن كفار قريش فقال تعالى: { إن هؤلاء ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى } قال صاحب الكشاف (1) : [فإن] (2) قلت: كان الكلام
__________
(1) ... الكشاف (4/281-282).
(2) ... زيادة من الكشاف (4/281).(1/226)
واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت، فهلاّ قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ كما قيل: { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } ؟ وما معنى قوله تعالى: { إن هي إلا موتتنا الأولى } ؟ وما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟
قلتُ: معناه -والله الموفق للصواب-: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدمتكم موتة [قد تعقبتها] (1) حياة، وذلك قول الله عز وجل: { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } [البقرة:28] فقالوا: { إن هي إلا موتتنا الأولى } يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية.
{ وما نحن بمنشرين } بمبعوثين. يقال: أنشر الله تعالى الموتى ونشرهم: إذا بعثهم. وقد سبق ذلك.
{ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } هذا من جملة تعنّتهم؛ لأنهم قد شاهدوا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغنيهم عن الاحتكام عليه بالإيتاء بآبائهم، وفيه إيذان بجهلهم حيث طلبوا منه إحياء الموتى ليؤمنوا، ولو وقع ذلك لكانوا مضطرين إلى الاعتراف به، لموضع مشاهدتهم إياه، فيخرج عن حد الإيمان بالغيب، ويبطل معنى التكلف.
قوله تعالى: { أهم خير أم قوم تبّع } هذا تخويف لكفار قريش. والمعنى: أهم خير في القوة والنعمة.
__________
(1) ... في الأصل: تعقبها. والتصويب والزيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/227)
قال ابن عباس: أهم أشد أم قوم تُبَّع (1) .
أخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تسبوا تُبَّعاً فإنه كان قد أسلم)) (2) .
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أدري تُبَّعاً نبياً أو غير نبي)) (3) .
وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذمّ قومه ولم يذمّه (4) .
وقال قتادة: هو تُبّع بن حمير الحميري، وكان سار بالجيوش حتى حَيَّرَ الحيرة، وبنى سمرقند، وكان إذا كتب كتب: بسم الذي ملك براً وبحراً وضحاً وريحاً (5) .
وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت (6) .
{ والذين من قبلهم } يعني: من الأمم الخالية الكافرة. وهو مبتدأ، خبره: { أهلكناهم } . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر دلّ عليه "أهلكناهم". ويجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على "قوم تُبَّع"، والتقدير: أهم خير أم قوم
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/283).
(2) ... أخرجه أحمد (5/340 ح22931).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3289).
(4) ... أخرجه الحاكم (2/488 ح3681)، والطبري (25/128-129).
(5) ... أخرجه الطبري (25/128). وذكره الماوردي (5/255).
(6) ... أخرجه الطبري (25/129). وذكره السيوطي في الدر (7/415) وعزاه لابن المنذر وابن عساكر.(1/228)
تبع المهلكون من قبلهم (1) .
فعلى هذا يقف على "قبلهم"، ويكون "أهلكناهم" في تقدير: وأهلكناهم.
$tBur خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ احثب
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/231)، والدر المصون (6/116).(1/229)
قوله تعالى: { إن يوم الفصل } يريد: يوم القيامة، { ميقاتهم أجمعين } .
وقرأ عبيد بن عمير: "ميقاتَهم" بالنصب (1) ، على أنه اسم "إنّ"، والخبر: "يوم الفصل" (2) .
{ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } أي: لا يغني مولى قريب أو غير ذي قرابة.
وقال أبو عبيدة (3) : لا ينفع ابن عمّ ابن عمّه.
{ إلا من رحم الله } في محل الرفع على البدل من الواو في "ينصرون"، أو في محل النصب على أصل الاستثناء (4) ، وهم الذين ماتوا على الإسلام، فإنهم يشفعون ويشفع فيهم، وينفع بعضهم بعضاً.
cخ) شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/39)، والدر المصون (6/117).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/117).
(3) ... مجاز القرآن (2/209).
(4) ... انظر: التبيان (2/231)، والدر المصون (6/117).(1/230)
سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ اخةب
قوله تعالى: { إن شجرة الزقوم } وهي مذكورة في سورة الصافات (1) .
{ طعام الأثيم } أي: الفاجر الكثير الآثام.
ويروى: ((أن رجلاً كان يقرأ هذه الآية على أبي الدرداء ويقول: "طعام اليثيم"، وأبو الدرداء يرددها عليه ولسانه لا يجري بها، فقال أبو الدرداء: قل: طعام الفاجر)) (2) .
فقال الزمخشري (3) : ومن هذا أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على
__________
(1) ... عند الآية رقم: 62.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/489 ح3684)، والطبري (25/131). وذكره السيوطي في الدر (7/418) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه.
(3) ... الكشاف (4/284).(1/231)
شريطة، [وهي] (1) : أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً. قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة؛ لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر.
وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية.
و"المهل" مذكور في سورة الكهف (2) .
قرأ ابن كثير وحفص: "يغلي" بالياء؛ لتذكير الطعام.
فإن قيل: هل يجوز أن يراد المهل؟
قلتُ: لا؛ لأنه ذكر ليشبه به الطعام.
وقرأ الباقون: "تغلي" بالتاء (3) ؛ لتأنيث الشجرة.
والحميم: الماء الحار الذي انتهى غليانه. وقدم ذكره أيضاً.
قوله تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } وقرأ ابن كثير ونافع
__________
(1) ... في الأصل: وهو. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... عند الآية رقم: 29.
(3) ... الحجة للفارسي (3/387)، والحجة لابن زنجلة (ص:657)، والكشف (2/264)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:388)، والسبعة (ص:592).(1/232)
وابن عامر: "فَاعْتُلُوهُ" بضم التاء. وقرأ الباقون بكسرها (1) .
والمعنى: خذوه أيها الزبانية وقودوه إلى النار بعنف وغلظة، ومنه: العُتُلّ، وهو الغليظ الجافي.
"إلى سواء الجحيم" أي: وسط النار.
قال مقاتل (2) : هذه الآيات في أبي جهل، يضربه المَلَك من خُزَّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد، فتثقب دماغه، فيجري دماغه على جسده، ثم يصب الملك في النقب ماءً حميماً قد انتهى حرّه، فيقع في بطنه، ثم يقول له الملك: { ذُقْ } العذاب { إنك أنت العزيز الكريم } .
قرأ الكسائي: "ذُقْ أَنَّكَ" بفتح الهمزة، على معنى: ذق لأنك، أو بأنك. وكسرها الباقون على الاستئناف (3) .
وفي الحديث: أنه قال يوماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني)) (4) ، فيكون هذا القول له في النار خارجاً على مذهب الاستهزاء به والتوبيخ له.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/387)، والكشف (2/264)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:388)، والسبعة (ص:592-593).
(2) ... تفسير مقاتل (3/208).
(3) ... الحجة للفارسي (3/387)، والحجة لابن زنجلة (ص:657)، والكشف (2/264)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:389)، والسبعة (ص:593).
(4) ... أخرجه الطبري (25/134). وذكره السيوطي في الدر (7/419) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.(1/233)
قال قتادة: إنك أنت العزيز الكريم عند نفسك (1) .
وقيل: إنك أنت العزيز الكريم على قومك (2) .
ثم تقول الخَزَنَة للكفار توبيخاً لهم وتصغيراً: { إن هذا } إشارة إلى ما وقعوا فيه من العذاب { ما كنتم به تمترون } تشكُّون أو تتلاحون وتتمارون فيه.
¨bخ) الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/258)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/350).
(2) ... ذكره الماوردي، الموضع السابق.(1/234)
الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ اخزب
قوله تعالى: { إن المتقين في مقام أمين } قرأ نافع وابن عامر: "مُقام" بضم الميم، على أنه اسم المكان، مِنْ أقام، أو تكون مصدراً على تقدير حذف مضاف، تقديره في موضع إقامة. وقرأ الباقون بالفتح (1) ، على أنه اسم مكان، مِنْ قَامَ، كأنه اسم للجنس أو للمشهد، كما قال تعالى: { في مقعد صدق } [القمر:55].
وقوله تعالى: { أمين } يدل على أنه اسم مكان.
والمعنى: في مقام أمنوا فيه من جميع المخاوف.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/388)، والحجة لابن زنجلة (ص:657)، والكشف (2/265)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:389)، والسبعة (ص:593).(1/235)
وقد ذكرنا "الجنات" في أوائل سورة البقرة (1) ، و"السندس والإستبرق" في الكهف (2) ،
و"متقابلين" في سورة الحجر (3) .
قوله تعالى: { كذلك } أي: الأمر كذلك. ويجوز أن يكون في محل النصب، على معنى: آتيناهم مثل ذلك، { وزوجناهم بحور عين } .
قال المفسرون: المعنى: قَرَنَّاهم بهنّ وليس من عقد التزويج.
قال يونس: العرب لا يقولون: تزوج بها، إنما يقولون: تزوجها (4) .
قال أبو علي الفارسي (5) : والتنزيل على ما قال يونس (6) .
وقال ابن قتيبة (7) : يقال: زوجته امرأة، وزوجته بامرأة.
وأما الحور؛ فقال مجاهد: النساء النقيات البياض (8) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 25.
(2) ... عند الآية رقم: 31.
(3) ... عند الآية رقم: 47.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/351).
(5) ... لم أقف عليه في المطبوع من الحجة.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/351).
(7) ... انظر قول ابن قتيبة في: زاد المسير (7/351).
(8) ... انظر: الطبري (25/136).
... وفي تفسير مجاهد (ص:590) قوله: { وزوجناهم بحور عين } يقول: أنكحناهم حوراً عيناً. والحور: اللاتي يحار فيهن الطرف؛ باد مخ سوقهن من وراء ثيابهن، فينظر الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون.
... ورد الطبري على مجاهد معنى الحور هذا وقال: وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها أنه يحار فيها الطرف قول لا معنى له في كلام العرب؛ لأن الحور إنما هو جمع حوراء كالحمر جمع حمراء، والسود جمع سوداء. والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض كما قيل وبالمنفعة البياض من الطعام الحواري (الطبري 25/136).(1/236)
قال أبو [عبيدة] (1) : الحوراء: الشديدة بياض العين الشديدة سوادها. وقد ذكرنا في سورة الصافات معنى "عِين" (2) .
قوله تعالى: { آمنين } قال قتادة: من الموت والأوصاب والشيطان (3) .
وقيل: آمنين من انقطاع الفاكهة في بعض الأزمنة (4) .
{ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } قال صاحب الكشاف (5) : إن قلت: كيف استثنيت الموتة الأولى -المذوقة قبل دخول الجنة- من الموت المنفي ذوقه فيها؟
قلتُ: أريد: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله: { إلا الموتة الأولى } موضع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها.
__________
(1) ... في الأصل: عبيد. وانظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/246).
(2) ... عند الآية رقم: 48.
(3) ... أخرجه الطبري (25/137). وذكره السيوطي في الدر (7/420) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/351).
(5) ... الكشاف (4/286).(1/237)
وقال ابن جرير (1) : "إلا" بمعنى بعد. وقد ذكرنا هذا في قوله: { إلا ما قد سلف } [النساء:22]. وأكثر المفسرين يقول: سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
قوله تعالى: { فضلاً من ربك ذلك } مفعول له، [أو مفعول] (2) به، على معنى: أعطاهم فضلاً، أو مصدر مؤكد لما قبله (3) ؛ لأن قوله تعالى: { ووقاهم عذاب الجحيم } تفضل منه لهم، فكأنه قال: تَفَضَّلَ عليهم فضلاً.
وقال الزجاج (4) : المعنى: فعل الله تعالى بهم ذلك فضلاً منه.
وقرئ: "فَضْلٌ" بالرفع (5) ، على معنى: ذلك فضل.
قوله تعالى: { فإنما يسرناه } يعني: القرآن، { بلسانك } أي: بلغتك { لعلهم يتذكرون } أراد: أن يفهموه فيتدبروه.
{ فارتقب } انتظر ما يحلّ بهم { إنهم مرتقبون } هلاكك.
وأكثر المفسرين يقولون: هذه الآية منسوخة بآية السيف (6) .
والصحيح: أنها محكمة، على ما سبق في نظائرها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر: الطبري (25/137).
(2) ... في الأصل: أمفعول.
(3) ... انظر: التبيان (2/231)، والدر المصون (6/120).
(4) ... معاني الزجاج (4/429).
(5) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/286).
(6) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:159)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:55).(1/238)
سورة الجاثية
ijk
وتسمى سورة الشريعة. وهي ست وثلاثون آية في المدني، وسبع في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول عامة المفسرين (2) .
واستثنى قوم آية واحدة وهي قوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } فقالوا: هي مدنية (3) .
üNm (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:226).
(2) ... ذكر السيوطي في الدر (7/422) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت بمكة سورة حم الجاثية. وذكر عن ابن الزبير أيضاً قال: أنزلت سورة الشريعة بمكة.
(3) ... انظر: الماوردي (5/260)، وزاد المسير (7/354)، والإتقان في علوم القرآن (1/53).(1/239)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اخب
قال الله تعالى: { إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين } يجوز أن يكون على ظاهره.
وقال الزجاج (1) : المعنى -والله تعالى أعلم-: إن في خلق السموات والأرض، ويدل عليه قوله تعالى: { وفي خلقكم } .
والمعنى: وفي خلقكم من تراب ثم نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان وينفخ فيه الروح { وما يبث من دابة } عطف على "الخلق" المضاف، لا على المضاف إليه؛ لأنهم يستقبحون عطف المُظْهَر على المُضْمَر المجرور.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/431).(1/240)
وقد ذكرنا علة ذلك في أول النساء (1) .
قرأ حمزة والكسائي: "آياتٍ لقومٍ يوقنون" و "آياتٍ لقومٍ يعقلون" بالنصب فيهما. وقرأ الباقون "آياتٌ" بالرفع فيهما (2) .
قال الزجاج وأبو علي وغيرهما (3) : من قرأ برفع "الآيات"، فإن الرفع من وجهين:
أحدهما: العطف على موضع "إنَّ" وما عملت فيه؛ لأن موضعها رفع بالابتداء، فيحمل الرفع فيه على الموضع.
والآخر: أن يكون مستأنفاً ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة، فيكون قوله تعالى -على هذا- { آياتٌ } : مرتفعاً بالابتداء، أو بالظرف في قول من رأى الرفع به.
وأما حمزة والكسائي فإنهما حملا على لفظ "إنّ" دون موضعها، حَمَلاَ "آيات" في الموضعين على نصب "إنَّ" في قوله تعالى: { إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين } ، ومما يؤكد قراءتهما وأنّ "آيات" محمولة على ما ذكرهن في بعض القرآن بثلاث لامات؛ { وفي خلقكم وما يبث من دابة لآيات } ، وكذلك الموضعان الآخران؛ لأن هذه اللام إنما تدخل على خبر "إنَّ" أو على اسمها. فأما قوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله
__________
(1) ... عند الآية رقم : 1.
(2) ... الحجة للفارسي (3/389)، والحجة لابن زنجلة (ص:658)، والكشف (2/267)، والنشر (2/371)، والإتحاف (ص:389)، والسبعة (ص:594).
(3) ... معاني الزجاج (4/431-432)، والحجة للفارسي (3/389-390).(1/241)
من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها } يسلم الكلام من العطف على عاملين، وجاز حذف "في" هاهنا، وهي مرادة؛ لتقدم ذكرها في قوله تعالى: { إن في السموات } ، وفي قوله تعالى: { وفي خلقكم } فلما تقدم ذكرها في الموضعين قدّر إثباتها وإن كانت محذوفة، كما قدر سيبويه (1) في قوله:
أكل امرئ تحسبين امرءاً ... ... ونارٍ تَوقَّدُ بالليل نارا (2)
أن "كلّ" في حكم الملفوظ به، واستغني عن إظهاره بتقدُّم ذكره.
وفي قراءة ابن مسعود: "وفي اختلاف الليل والنهار" (3) ، وقد سبق تقدير الاثنين في سورة البقرة (4) .
y7ù=د? آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ
__________
(1) ... انظر: الكتاب (1/66).
(2) ... البيت لابن أبي دؤاد الإيادي. وهو في: أمالي ابن الشجري (1/296) بلا نسبة.
(3) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/122)، والكشاف (4/288).
(4) ... عند الآية رقم: 164.(1/242)
آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ ِNخgح !#u'ur جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ(1/243)
رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ اتتب
قوله تعالى: { تلك } إشارة إلى [ما] (1) تقدم إنزاله من القرآن، أو إلى هذه الحجج المذكورة.
{ آيات الله نتلوها عليك بالحق } مُفسّر في سورة البقرة (2) .
{ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } مُفسّر في الأعراف (3) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص: "يؤمنون" بالياء حملاً على ما قبله من الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء (4) ، حملاً على قوله تعالى: { وفي خلقكم } ، أو على معنى: قل لهم يا محمد فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون.
قوله تعالى: { ويل لكل أفاك أثيم } قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث (5) .
و"الويل" مذكور في البقرة، و"الأفاك الأثيم" في الشعراء (6) ، والتي تليها
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... عند الآية رقم: 252.
(3) ... عند الآية رقم: 185.
(4) ... الحجة للفارسي (3/391)، والحجة لابن زنجلة (ص:659)، والكشف (2/267)، والنشر (2/371-372)، والإتحاف (ص:389)، والسبعة (ص:594).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/355).
(6) ... عند الآية رقم: 222.(1/244)
في سورة لقمان (1) .
قوله تعالى: { وإذا علم من آياتنا } وقرأ ابن مسعود بضم العين وكسر اللام وتشديدها (2) . والمعنى: وإذا أحس بشيء من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - { اتخذها هزواً } .
وقيل: المعنى: وإذا علم من آياتنا شيئاً يتشبث به المعاند اتخذها هزؤاً وسلّماً يرقى فيه إلى أغراضه الفاسدة، { أولئك } يشير إلى كل أفّاك أثيم.
قوله تعالى: { من ورائهم جهنم } مُفسّر في سورة إبراهيم (3) .
{ ولا يغني عنهم ما كسبوا } من الأموال وزينة الدنيا { شيئاً } أي: لا ينفع ولا يدفع عنهم شيئاً من العذاب، كقوله تعالى: { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } [المجادلة:17]، { ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء } يعني: آلهتهم لا تدفع عنهم أيضاً شيئاً من العذاب.
قوله تعالى: { هذا هدى } يريد: القرآن { والذين كفروا } من هذه الأمة وغيرهم { بآيات ربهم } القرآن وغيره من كتب الله تعالى { لهم عذاب من رجز أليمٍ } . وقرئ: "أليمٌ" [بالرفع] (4) . وقد [ذكرناه] (5) في سورة سبأ (6) ،
__________
(1) ... عند الآية رقم: 7.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/356)، والدر المصون (6/126).
(3) ... عند الآية رقم: 16.
(4) ... في الأصل: بالفع. وانظر: الحجة للفارسي (3/392)، والحجة لابن زنجلة (ص:582)، والكشف (2/201-202)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:390)، والسبعة (ص:594).
(5) ... في الأصل: ذكرنا.
(6) ... عند الآية رقم: 5.(1/245)
و"الرجز" في الأعراف (1) .
* اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
__________
(1) ... عند الآية رقم: 134.(1/246)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ اتخب
قوله تعالى: { جميعاً منه } الجار والمجرور في محل الحال (1) . المعنى: سخر لكم هذه الأشياء كائنة من عنده.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي جميعاً منه (2) .
وقرأ جماعة، منهم: عبد الله بن عمرو، [وعبدالله] (3) بن العباس، وأبو مجلز، وابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري: "جميعاً مِنَّةً" (4) بفتح النون وتشديدها مع النصب والتنوين على المصدر، بما دل عليه: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً" كأنه قال: مَنَّ عليكم مِنَّة.
وقرأ سعيد بن جبير: "مَنُّه" بفتح الميم وتشديد النون ورفعها (5) ، على معنى ذلك، أو هو منه، أو هو فاعل "سَخَّر".
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/127).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في الأصل: وعبد. والصواب ما أثبتناه.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/356)، والدر المصون (6/127).
(5) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/356)، والدر المصون (6/127).(1/247)
قوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } ذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فروى عطاء عن ابن عباس: أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي له ماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حَبَسَكَ؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قِرَب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقِرَب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلُنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّن كلبكَ يأكُلْك، فبلغ عمر رضي الله عنه قوله، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فنزلت هذه الآية (1) .
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً قال: لما نزلت: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة:245] قال يهودي بالمدينة يقال له: فنحاص: احتاج رب محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل بهذه الآية، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب عمر، فلما جاء قال: يا عمر ضع سيفك، وتلا عليه هذه الآية (2) .
وقال مقاتل (3) : نزلت في عمر بن الخطاب، وكان قد شتمه رجل، فهمَّ أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، وأمره الله تعالى بالعفو والصفح عنه. روي
__________
(1) ... ذكره الواحدي في: أسباب نزول القرآن (ص:393)، وابن الجوزي في: زاد المسير (7/357).
(2) ... ذكره الواحدي في: أسباب نزول القرآن (ص:394)، وابن الجوزي في: زاد المسير (7/358).
(3) ... تفسير مقاتل (3/212).(1/248)
عن ابن عباس أيضاً.
فصل
وعامة المفسرين يقولون: هي منسوخة (1) ؛ لأنها نزلت متضمنة الصفح عن المشركين والتجاوز عنهم.
واختلفوا في ناسخها؛ فقيل: آية السيف (2) .
وقيل: { فإما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم } [الأنفال:57]، وقوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كافة } [التوبة:36]. رويا عن قتادة (3) .
وقال أبو صالح: وقوله تعالى: { أذن للذين يقاتلون بأنهم... الآية } (4) [الحج:39].
وقال قوم: هي محكمة. وقد ذكرنا أمثال ذلك فيما مضى.
فصل
وأما إعراب "يغفروا" فإنه مثل قوله تعالى: { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [إبراهيم:31]. وقد سبق ذكره هناك، وسبق أيضاً [الرجاء] (5) ، يطلق بمعنى: الخوف. فالمعنى: لا يخشون وقائع الله بأمثالهم.
__________
(1) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:159)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:55-56).
(2) ... أخرجه الطبري (25/144). وذكره السيوطي في الدر (7/424) وعزاه لابن جرير وابن الأنباري في المصاحف.
(3) ... أخرجه الطبري (25/144). وذكره السيوطي في الدر (7/424) وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... أخرجه الطبري (25/145). وذكره الماوردي (5/263).
(5) ... زيادة على الأصل.(1/249)
وقيل: لا يأملون ما وعد الله المؤمنين من الثواب.
والأول أظهر المعنيين هاهنا. وقد سبق ذكر المراد "بأيام الله" في سورة إبراهيم (1) .
قوله تعالى: { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: "لنجزي" بالنون، وقرأ الباقون بالياء (2) .
وقرأتُ لأبي جعفر: " ليُجزَى" بضم الياء وفتح الزاي (3) .
واتفقوا على نصب "قوماً"، ولا إشكال في نصبه على القراءتين المشهورتين. والتقدير على قراءة أبي جعفر: ليُجْزَى الجزاءُ قوماً. واللام في "ليجزي" يتعلق بقوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا } ، أي: اغفروا لهم ليجزي قوماً.
ô‰s)s9ur آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 5.
(2) ... الحجة للفارسي (3/392)، والحجة لابن زنجلة (ص:660)، والكشف (2/268)، والنشر (2/372)، والإتحاف (ص:390)، والسبعة (ص:594-595).
(3) ... النشر (2/372)، والإتحاف (ص:390).(1/250)
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ(1/251)
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ(1/252)
بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ(1/253)
هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ اثحب
قوله تعالى: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب } يريد: التوراة { والحكم } يعني: الحكمة والفقه.
وقيل: فصل الخصومات.
{ والنبوة } وما في الآية سبق تفسيره في مواضع.
{ وآتيناهم بينات من الأمر } أعطيناهم برهاناً يصدعون به بين الحق والباطل، ويفرقون به بين الحلال والحرام.
وقيل: آتيناهم العلم بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته وصفته.
وما بعده سبق تفسيره فيما مضى إلى قوله تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } أي: صيّرناك على طريقة واضحة من أمر الدين.
وما بعده ظاهر ومُفسّر إلى قوله تعالى: { أم حسب } الهمزة لإنكار الحسبان { الذين اجترحوا } اكتسبوا { السيئات } .
قوله تعالى: { سواء محياهم ومماتهم } قرأ حمزة والكسائي وحفص: "سواءً" بالنصب. وقرأ الباقون: بالرفع (1) .
فمن نصب جعله المفعول الثاني "لنجعل"، أو يكون حالاً، ويكون المفعول الثاني "لنجعلهم كالذين آمنوا". ويجوز أن يكون من الضمير المرفوع في "كالذين آمنوا"، وهذا الضمير يعود إلى الضمير المنصوب في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/393)، والحجة لابن زنجلة (ص:661)، والكشف (2/268)، والنشر (2/372)، والإتحاف (ص:390)، والسبعة (ص:595).(1/254)
"نجعلهم" في كلا الوجهين من كونه مفعولاً ثانياً، أو حالاً قد أعمل عمل الفعل، فرفع به "محياهم"، ومن رفع جعله خبر مبتدأ متقدم، والمبتدأ: "محياهم ومماتهم" سواء.
والمراد من الآية: الإعلام بنفي المساواة بين الصالح والطالح في حياته ومماته، وذم من سوّى بينهم في ذلك.
قال إبراهيم بن الأشعث: كنتُ كثيراً ما أرى الفضيل بن عياض يردد من أول ليلته إلى آخرها هذه الآية ونظائرها: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } ، ثم يقول: يا فضيل، ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟! (1) .
وما بعده مُفسّر وظاهر إلى قوله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } .
قال مقاتل (2) : نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
وقد سبق تفسيره في الفرقان (3) .
قوله تعالى: { وأضله الله على علم } قال الزجاج (4) : أي: على ما سبق في علم الله تعالى قبل أن يخلقه أنه ضالّ. وهو معنى قول ابن عباس (5) .
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (8/361).
(2) ... تفسير مقاتل (3/214).
(3) ... عند الآية رقم: 43.
(4) ... معاني الزجاج (4/433).
(5) ... أخرجه الطبري (25/151)، وابن أبي حاتم (10/3291)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/566 ح1003). وذكره السيوطي في الدر (7/426) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/255)
وقال مقاتل (1) : على علم منه أنه ضالّ.
وتمام الآية مُفسّر في البقرة (2) ، والتي تليها مُفسّرة في المؤمنين (3) إلى قوله تعالى: { وما يهلكنا إلا الدهر } أي: ما يُفنينا إلا مرّ الزمان واختلاف الجديدين. ولم يكن من اعتقادهم أن قبض أرواحهم بإذن الله تعالى على يد مَلَك الموت وأعوانه، ونسبتهم ذلك إلى الدهر على عادتهم في إضافة الحوادث التي تنزل بهم إليه. وإذا استقرأت أشعارهم وأخبارهم رأيناها مشحونة بذلك، وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)) (4) ، أي: فإن الله هو الذي يفعل بكم ما تنسبونه إلى الدهر.
#sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا !$oYح !$t/$t"خ/ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/214).
(2) ... عند الآية رقم: 7.
(3) ... عند الآية رقم: 37.
(4) ... أخرجه مسلم (4/1763 ح2246).(1/256)
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اثزب(1/257)
وما بعده سبق تفسيره في مواضعه إلى قوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية } .
قال ابن عباس: مجتمعة (1) .
وقال قتادة: جماعات، من الجَثْوَة، وهي الجماعة (2) . وقد ذكرناه في سورة مريم (3) .
وقال مجاهد: مستوفزة (4) .
وقال الحسن: باركة على الركب (5) .
قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: في القيامة ساعة هي عشر سنين، يكون الناس فيها جثاة على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام ينادي: نفسي نفسي، لا أسألك إلا نفسي (6) .
وقرئ: "جَاذِيَةً" بالذال المعجمة (7) ، والجذوّ أشد استيفازاً من الجثو؛ لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه (8) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/267).
(2) ... ذكره أبو حيان في البحر المحيط (8/50).
(3) ... عند الآية رقم: 68.
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:592)، والطبري (25/154). وذكره الماوردي (5/267)، والسيوطي في الدر (7/428) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره الماوردي (5/267).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/100).
(7) ... انظر هذه القراءة في البحر المحيط (8/50)، والدر المصون (6/132).
(8) ... انظر: اللسان (مادة: جذا).(1/258)
{ كل أمة تدعى إلى كتابها } وقرأت على شيخنا أبي البقاء ليعقوب من بعض طرقه: "كُلَّ أمَّةٍ" بالنصب (1) .
فمن رفع فعلى الابتداء، ومن نصب جعله بدلاً مما قبله.
قال ابن [عباس] (2) : تدعى إلى كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها (3) .
وقال الشعبي: تدعى إلى حسابها (4) . وهو قول الفراء وابن قتيبة (5) ، وهو يرجع إلى القول.
وقيل: إلى كتابها الذي أنزل على رسولها (6) .
{ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } قال ابن السائب: كتاب الأعمال الذي كتبته الحفظة (7) .
وقال مقاتل (8) : اللوح المحفوظ.
وقال ابن قتيبة (9) : المعنى: هذا القرآن يدلكم ويذكركم، فكأنه ينطق عليهم.
__________
(1) ... النشر (2/372)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:390).
(2) ... زيادة من زاد المسير (7/364).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/364).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... معاني الفراء (3/48)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:405).
(6) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/268)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/364).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... تفسير مقاتل (3/215).
(9) ... تفسير غريب القرآن (ص:405).(1/259)
{ إنا كنا نستنسخ } أي: نأمر الملائكة بكتب أعمالكم في الدنيا. هذا معنى قول علي بن أبي طالب عليه السلام (1) .
وقال أكثر المفسرين: نأمر الملائكة أن ينسخوا من اللوح المحفوظ في كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيه. قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل (2) .
وقال الحسن: ونستنسخ ما حفظته عليكم الملائكة (3) .
$¨Br'sù الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (25/156). وذكره السيوطي في الدر (7/430) وعزاه لابن جرير.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/365).
(3) ... ذكره الماوردي (5/268).(1/260)
قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ(1/261)
هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اجذب
فإن قيل: أين جواب "أما" في قوله: { وأما الذين كفروا } ؟
قلتُ: هو محذوف، تقديره: فيقال لهم: { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } .
فإن قيل: أين المعطوف عليه بالفاء؟
قلتُ: هو محذوف أيضاً، تقديره: ألم تأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تتلى عليكم.(1/262)
قوله تعالى: { والساعة لا ريب فيها } قرأ حمزة: "والساعةَ" بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع (1) ، فمن نصب عطف على "الوعد"، ومن رفع عطف على محل "إنَّ" واسمها.
{ قلتم } إنكاراً وتكذيباً: { ما ندري ما الساعة إن نظن } قيامها { إلا ظناً } .
وباقي الآية توكيد منهم لنفي علمهم بصحة كونها.
{ وقيل اليوم ننساكم } نترككم في النار { كما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي: كما تركتم الإيمان به والاستعداد له.
قال الزجاج (2) : والدليل على ذلك قوله تعالى: { ومأواكم النار } .
{ فاليوم لا يخرجون منها } وقرأ حمزة والكسائي: "يَخْرُجُون" بفتح الياء وضم الراء (3) .
{ ولا هم يستعتبون } يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي: يرضوه. وهو مُفسّر في المصابيح (4) وغيرها.
ثم حمد نفسه جَلَّت عظمته مُعَلِّماً لعباده كيف يحمدونه ويعظمونه فقال: { فلله الحمد } إلى آخر السورة.
والكبرياء: العَظَمَة.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/395)، والحجة لابن زنجلة (ص:662)، والكشف (2/269)، والنشر (2/372)، والإتحاف (ص:390)، والسبعة (ص:595).
(2) ... معاني الزجاج (4/436).
(3) ... الحجة للفارسي (3/395)، والحجة لابن زنجلة (ص:662)، والكشف (1/460)، والنشر (2/267)، والإتحاف (ص:390)، والسبعة (ص:595).
(4) ... هي سورة فصلت، عند الآية رقم: 24.(1/263)
وقيل: السلطان والشرف. والله تعالى أعلم.(1/264)
سورة الأحقاف
ijk
وهي أربع وثلاثون آية في المدني، وخمس في الكوفي (1) .
وهي مكية في قول ابن عباس وعامة المفسرين (2) .
واستثنى قتادة وابن عباس في رواية عنه قوله تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله } وما في حيزها (3) .
وضمّ مقاتل إلى ذلك قوله تعالى: { فاصبر كما صبر أولوا العزم ... الآية } (4) .
üNm (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:227).
(2) ... ذكره الماوردي (5/270)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/368)، والسيوطي في الدر (7/433) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت بمكة سورة حم الأحقاف، ومن طريق آخر عن ابن الزبير، وعزاه لابن مردويه.
(3) ... انظر: الماوردي (5/270)، وزاد المسير (7/368).
(4) ... انظر: زاد المسير، الموضع السابق.(1/265)
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح !%tوكٹ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا(1/266)
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ادب
قال الله تعالى: { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي: خلقاً ملتبساً بالحكمة.
وقال الكلبي: إلا للحق (1) .
قوله تعالى: { وأجل مسمى } أي: ما خلقنا ذلك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه، وهو يوم القيامة.
و"ما" في قوله: { عما أنذروا } موصولة أو مصدرية، بمعنى: عن إنذارهم ذلك اليوم.
وما بعده مُفسّر في فاطر (2) إلى قوله: { إيتوني بكتاب من قبل هذا } أي: من قبل هذا القرآن فيه برهان ما تدعون، { أو أثارة من علم } .
قال ابن عباس، ويروى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أو أثارة من علم": الخط (3) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/271).
(2) ... عند الآية رقم: 40.
(3) ... أخرجه أحمد (1/226 ح1992)، والطبراني في الكبير (10/299 ح10725)، والأوسط (1/90 ح269)، وابن أبي حاتم (10/3293). وذكره السيوطي في الدر (7/434) وعزاه لأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/267)
وقال مجاهد: بقيةٌ من علم تأثرونه عن غيركم (1) .
قال الزمخشري (2) : هو من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي: على بقية من شحم كانت بها من شحم [ذاهب] (3) .
وقال الحسن: أو أثارة شيء تستخرجونه وتثيرونه (4) .
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة: "أَثْرَةٍ" بسكون الثاء، على وزن قَطْرَة (5) .
وقرأ ابن مسعود وأبو رزين وابن عباس بخلاف عنه، وعكرمة وعمرو بن ميمون: "أثَرَة"، مثل: شَجَرَة.
قال أبو الفتح ابن جني (6) : الأَثَرَة والأَثَارَة التي تقرأ بها العامة: البقية، وما يؤثر. وهي من قولهم: أَثَرَ الحديث يَأْثُرُه أثْراً وأَثَرَة. وأما الأثْرَة ساكنة الثاء فهي أبلغ معنى؛ وذلك أنها الفعْلَة الواحدة من هذا الأصل، فهي كقولك:
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:593)، والطبري (26/3) بمعناه. وذكره الماوردي (5/271)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/369). وذكر نحوه السيوطي في الدر (7/435) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... الكشاف (4/298).
(3) ... في الأصل: ذهب. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (26/3). وذكره الماوردي (5/271).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/369)، والدر المصون (6/135).
(6) ... المحتسب (2/264).(1/268)
ائتوني بخبر واحد، أو حكاية [شاذة] (1) ، أي: قد قنعت منكم في الاحتجاج بهذا على [قلّته] (2) .
وقال الزمخشري (3) : قرئ: "أثَرَة" -يريد: بفتح الثاء- أي: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علمه لا إحاطة به لغيركم.
قلتُ: وهو معنى قول ميمون وقتادة وأبي سلمة بن عبدالرحمن: خاصة من علم (4) .
قال (5) : وقرئ: "أثرة" بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء، فالإثْرة -بالكسر- بمعنى: الأَثْرة. وأما الأثرة فالمرة من مصدر: [أثَرَ] (6) الحديث إذا رَوَاهُ. وأما الأُثْرة -بالضم-: فاسم ما يؤثر، كالخطبة: اسم ما يخطب [به] (7) .
قوله تعالى: { ومن أضل } أي: أشد ضلالاً { ممن يدعوا من دون الله من لا } .
__________
(1) ... في الأصل: شاهدة. والتصويب من المحتسب (2/264).
(2) ... في الأصل: قلة. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(3) ... الكشاف (4/298).
(4) ... أخرجه الطبري (26/2). وذكره السيوطي في الدر (7/435) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
(5) ... أي: الزمخشري في الكشاف.
(6) ... في الأصل: أثرت. والتصويب من الكشاف (4/298).
(7) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/269)
وقرأ ابن مسعود: "ما لا" (1) .
{ يستجيب له } يريد: الأصنام؛ لأن "ما" لمن لا يعقل. ويجوز أن يراد على قراءة العامة: كل من عُبدَ من دون الله من الجن والإنس والأصنام، فغلب ما يعقل.
وقيل: ويجوز أن يراد الأصنام وحدها، فأجريت مجرى من يعقل لوصفهم إياها بذلك. والجائز الثاني أظهر وأشهر في التفسير، على أن "ما" و"من" يتعاقبان.
{ وهم عن دعائهم غافلون } في محل الحال.
{ وإذا حشر الناس } يعني: يوم القيامة { كانوا لهم أعداء } يتبرؤون منهم { وكانوا بعبادتهم كافرين } جاحدين.
#sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/299).(1/270)
فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ازب
قال الزمخشري (1) : واللام في قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم } مثلها في قوله تعالى: { للذين آامنوا لو كان خيراً } [الأحقاف:11]، أي: لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا.
{ أم يقولون افتراه } إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سِحْراً إلى ذكر
__________
(1) ... الكشاف (4/299-300).(1/271)
قولهم: إن محمداً افتراه.
ومعنى الهمزة في "أم": للإنكار والتعجب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب، وذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه.
{ قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أي: لا تقدرون على دفع عذابه عني، فكيف أفتري عليه وأتعرض لعقابه؟
{ هو أعلم بما تفيضون فيه } أي: بما تقولون في القرآن { كفى به شهيداً بيني وبينكم } يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالتكذيب، { وهو الغفور الرحيم } .
قال الزجاج لما ذكر هاهنا الغفران والرحمة (1) : ليُعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فإن الله غفور رحيم به.
قوله تعالى: { قل ما كنت بدعاً من الرسل } وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة: "بَدَعاً" بفتح الدال (2) .
فالمعنى على قراءة الأكثرين: ما كنت أول من أرسل.
والبدْع والبديع من كل شيء: مبتدأه، ومنه: البدْعة؛ لأنه قول [ما لم] (3) يسبق إليه، و"بديع السموات": مبتدؤها على غير مثال سبق.
والمعنى على القراءة الأخرى: ما كنت ذا بدع، على حذف المضاف.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/439).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/57)، والدر المصون (6/136).
(3) ... زيادة على الأصل.(1/272)
وقيل: المعنى: ما كنت بدعاً من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه وأخبرُكم بكل ما تسألون عنه من المغيبات؛ فإن الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحي إليهم.
{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } قرأ ابن أبي عبلة وابن يعمر: "يَفْعَلُ" بفتح الياء (1) .
واختلفوا هل المراد نفي علمه بما يفعل به في الآخرة أم في الدنيا؟ على قولين:
أحدهما: في الآخرة، قال: ثم نزل بعدها: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [الفتح:2]، وقال: { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } [الفتح:5] فأعلمه ما يفعل به وبالمؤمنين (2) .
الثاني: في الدنيا، ثم في ذلك قولان:
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه فاستبشروا؛ لما كان يلحقهم من الأذى بسبب المشركين، ثم إنهم مكثوا بُرهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله! متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله: { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } يعني: لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال: إنما هو شيء رأيته في منامي، وما أتبع إلا ما
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/371)، والدر المصون (6/136).
(2) ... أخرجه الطبري (26/7)، وابن أبي حاتم (10/3293). وذكره السيوطي في الدر (7/435) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.(1/273)
يوحى إليّ. روي ذلك كله عن ابن عباس (1) .
وقال الحسن: ما أدري أُخْرَجُ كما أُخْرِجَ الأنبياء قبلي؟ أو أقتل كما قتلوا؟ وما أدري ما يفعل بكم أتعذبون أم تؤخرون؟ أتصدقون أم تكذبون (2) ؟.
وقال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها (3) ؟.
وقيل: المعنى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم فيما يستقبل من الزمان، ويقدر لي ولكم في قضاياه.
وقيل: هو نفي للدراية المفصلة.
ِ@è% أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص:395)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/372).
(2) ... أخرجه الطبري (26/7-8). وذكره السيوطي في الدر (7/437) وعزاه لابن جرير.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/104) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (7/372)، والسيوطي في الدر (7/435) وعزاه لابن المنذر.(1/274)
الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ اتتب
{ قل أرأيتم } خبروني، { إن كان من عند الله } يعني: القرآن { وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل } وهو عبد الله بن سلام، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعامة المفسرين (1) .
وقال سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام، وفيه نزلت: { وشهد
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:593)، والطبري (26/10-11). وذكره السيوطي في الدر (7/438) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد والضحاك، وعزاه لابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن زيد بن أسلم وقتادة، وعزاه لابن عساكر. ومن طريق آخر عن مجاهد وعطاء وعكرمة، وعزاه لابن سعد وابن عساكر.(1/275)
شاهد من بني إسرائيل على مثله } (1) .
فـ"المِثْل" على هذا: صلة، أي: شهد على صحته، وكونه من عند الله.
وقيل: المعنى: وشهد على ما يماثله في التوراة ويطابقه من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك.
وقيل: وشهد على مثل ما أقول أنه من عند الله، أو على نحو ذلك.
قال الزجاج (2) : والأجود أن يكون على مثل شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعني: كونه من عند الله. فيكون المقصود تقريع اليهود وتبكيتهم وإلزامهم الحجة بإسلام عالمهم وابن عالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبدالله بن سلام.
وروى الشعبي عن مسروق قال: والله ما نزلت في عبدالله بن سلام؛ لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبدالله بالمدينة، وإنما كانت محاجة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه، فأنزل الله تعالى هذه الآية (3) .
ومثل القرآن التوراة، فشهد موسى على التوراة، ومحمد على القرآن، وكلاهما مصدق الآخر.
فعلى هذا يكون المعنى: وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن، ومصدقة له في التوحيد والإخبار بما كان وما يكون، وناطقة بصحته ومخبرة بوجوده.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1387 ح3601)، ومسلم (4/1930 ح2483).
(2) ... معاني الزجاج (4/440).
(3) ... أخرجه الطبري (26/9). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/439) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/276)
والأول أشهر وأكثر وأحسن في انتظام الكلام ومطابقة المعنى.
فإن قيل: أين جواب الشرط في قوله: { إن كان من عند الله } ؟
قلتُ: هو محذوف. وفي تقديره أربعة أوجه:
أحدها: فمن أضلّ منكم؟ قاله الحسن (1) .
والثاني: أن التقدير: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد فآمن به، أو تؤمنون؟ قاله الزجاج (2) .
الثالث: تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي (3) .
الرابع: تقديره: ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . ذكره الواحدي (4) . واختاره صاحب الكشاف قال (5) : فالواو في قوله: { وكفرتم } عاطفة لـ"كفرتم" على فعل الشرط، كما عطفت "ثم" في قوله: { إن كان من عند الله ثم كفرتم به } [فصلت:52]، وفي قوله تعالى: { واستكبرتم } عاطفة لـ"استكبرتم" على "شهد شاهد"، [وأما] (6) الواو في قوله تعالى: { وشهد شاهد } فقال الزمخشري أيضاً (7) : قد عطفت جملة قوله: "شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم" على
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/274) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/105).
(2) ... معاني الزجاج (4/440).
(3) ... انظر قول أبي علي في: زاد المسير (7/374).
(4) ... الوسيط (4/105).
(5) ... الكشاف (4/303-304).
(6) ... في الأصل: فأما. والتصويب من الكشاف (4/303).
(7) ... الكشاف (4/304).(1/277)
جملة قوله: "إن كان من عند الله وكفرتم به".
ويجوز أن يكون الواو في قوله: "وكفرتم" واو الحال، وفي قوله: "وشهد شاهد" حالاً معطوفة عليها، على معنى: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وقد كفرتم به، والحال أنه قد شهد [حَبْر] (1) من بني إسرائيل، ومن تعرفونه بالمهارة في العلم، ودراسة الكتاب الأول على مثله، فآمن واستكبرتم، ألستم أظلم الناس [وأضلّهم] (2) ؟ ويكون ذلك تقريعاً لليهود وتوبيخاً لهم.
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } اختلفوا في هذه الآية أيضاً هل هي مكية أو مدنية؟
فإن قلنا: هي مكية، فالمعنى: وقال كفار قريش للضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان؛ كصهيب، وبلال، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، تعظماً عليهم واستكباراً: لو كان ما بادروا إليه خيراً ما سبقونا إليه.
قال أبو الزناد: أسلمت امرأة ضعيفة البصر، فقال الأشراف من قريش يهزؤون بها: والله لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا هذه إليه، فنزلت هذه الآية (3) .
وقال أبو المتوكل: لما أسلم أبو ذر استجاب قومه إلى الإسلام، قالت
__________
(1) ... في الأصل: خبر. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) ... في الأصل: وأظلمهم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/105)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/375).(1/278)
قريش: لو كان خيراً لم يسبقونا إليه (1) .
وإن قلنا: هي مدنية -قال الثعلبي (2) : وهو قول أكثر المفسرين- فقال الكلبي: "وقال الذين كفروا": يعني: أسد وغطفان، "للذين آمنوا": يعني: جهينة ومزينة، لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهمة ورُذَال الناس.
وقيل: هو قول اليهود عند إسلام ابن سلام وأصحابه.
فإن قيل: ما معنى قوله: "للذين آمنوا"؟
قلتُ: قد سبق في مواضع من هذا الكتاب التنظير (3) بهذه الآية، وأن المعنى: لأجل الذين آمنوا. ويجوز أن يكون من خطاب التلوين والرجوع من المخاطبة إلى المغايبة، فتكون اللام على بابها.
قوله تعالى: { وإذ لم يهتدوا به } أي: بالقرآن.
قال الزمخشري (4) : إن قلت: لا بد من عامل في الظرف في قوله: "إذ لم يهتدوا به" ومن متعلق بقوله: "فسيقولون"، وغير مستقيم أن يكون "فسيقولون" هو العامل في الظرف، لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، فما وجه هذا الكلام؟
قلتُ: العامل في "إذ" محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، كما حذف من قوله
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/274)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/375).
(2) ... تفسير الثعلبي (9/10).
(3) ... رُسمت في الأصل هكذا: التنيطير.
(4) ... الكشاف (4/304-305).(1/279)
تعالى: { فلما ذهبوا به } [يوسف:15]، وقولهم: حينئذ الآن، وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، فسيقولون هذا إفك قديم، فهذا المضمر صح به الكلام، حيث انتصب به الظرف، وكان قوله: "فسيقولون" [مسبباً] (1) عنه، كما صح بإضمار أن قوله تعالى: { حتى يقول الرسول } [البقرة:214] لمصادفة "حتى" مجرورها، والمضارع ناصبه.
وقولهم: { هذا إفك قديم } كقولهم: أساطير الأولين.
`دBur قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ اتثب
قوله تعالى: { ومن قبله كتاب موسى } أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى، و"كتاب موسى": مبتدأ، والظرف خبر مقدم عليه، وبه انتصب "إماماً" على الحال (2) ، كقولك: في الدار زيد قائماً.
__________
(1) ... في الأصل: سبباً. والتصويب من الكشاف (4/305).
(2) ... انظر: الدر المصون (6/137).(1/280)
وقال أبو عبيدة (1) : فيه إضمار، تقديره: أنزلناه إماماً ورحمة.
وقال الأخفش (2) : انتصب على القطع.
ومعنى: "إماماً": قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، "ورحمة" لمن آمن واتبعه.
{ وهذا } يعني: القرآن { كتاب مصدق } لكتاب موسى.
وقيل: مصدق لما تقدمه من كتب الله.
{ لساناً عربياً } حال من ضمير الكتاب في "مصدق"، والعامل فيه: "مصدق". ويجوز أن ينتصب عن "كتاب" لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة. ويجوز أن يكون مفعولاً لـ"مصدق" (3) ، أي: يصدق ذا لسان عربي، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قرأتُ لأبي جعفر يزيد بن القعقاع ونافع وابن عامر وابن فليح عن ابن كثير، وهبة الله عن اللهبي عن ابن كثير أيضاً، وللمفضل عن عاصم، وليعقوب الحضرمي: "لتنذر" بالتاء، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأتُ لباقي العشرة من جميع طرقهم اللاتي خرجها الإمام أبا طاهر أحمد بن علي بن عبيدالله بن سوار المقرئ رحمه الله في كتابه "المستنير"، وقرأتُ بجميع ما فيه على شيخنا العلامة أبي البقاء عبدالله بن الحسين اللغوي تلاوة، وأخبرني أنه قرأ بجميع ذلك وهو ما فيه على الشيخ أبي
__________
(1) ... لم أقف عليه في مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(2) ... انظر: معاني الأخفش (ص:285) وفيه: نصب؛ لأنه خبر معرفة.
(3) ... انظر: التبيان (2/234)، والدر المصون (6/137).(1/281)
الحسن علي بن المرحب البطائحي تلاوة، وأخبره أنه قرأ بجميع ما فيه على ابن سوار المصنف تلاوة: "لينذر" بالياء (1) ، يعني: الكتاب.
{ وبشرى } أي: وهو بشرى { للمحسنين } الموحدين.
وقيل: "وبشرى" في محل النصب عطفاً على "لتنذر" (2) ، فإنه في محل النصب؛ لأنه مفعول له.
¨bخ) الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/398)، والحجة لابن زنجلة (ص:662-663)، والكشف (2/271)، والنشر (2/372-373)، والإتحاف (ص:391)، والسبعة (ص:596).
(2) ... انظر: التبيان (2/234)، والدر المصون (6/137).(1/282)
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ(1/283)
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ اتدب
وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { بوالديه إحساناً } قرأ أهل الكوفة: "إحساناً". وقرأ الباقون: "حُسْناً" (1) . وقد سبق القول فيه إعراباً وتفسيراً.
قوله تعالى: { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } سبق ذكر اختلاف القراء فيه في سورة النساء في قوله تعالى: { أن ترثوا النساء كرهاً } [النساء:19]، ونصبه على الحال (2) . أي: ذات كُرْه، أو على أنه صفة للمصدر، أي: حملاً ذا كُرْه.
والمعنى: حملته على مشقة ووضعته على مشقة. وهذا خارج مخرج التعليل للإحسان.
قوله تعالى: { وحمله وفصاله } وقرأتُ ليعقوب: "وفَصْله" بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف (3) .
ومعنى الكلام: ومدة حمله وفصاله بالفطام عن أمه { ثلاثون شهراً } .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/397)، والحجة لابن زنجلة (ص:663)، والكشف (2/271)، والنشر (2/373)، والإتحاف (ص:391)، والسبعة (ص:596).
(2) ... انظر: التبيان (2/234)، والدر المصون (6/138).
(3) ... النشر (2/373)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:391).(1/284)
وبهذه الآية احتج علي عليه السلام وفقهاء الأمصار من بعده: على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن مدة الرضاع لمن أراد الإتمام مقدرة بحولين، فيتعين لأقل الحمل ستة أشهر.
وقال ابن إسحاق: حمله تسعة أشهر، [وفصاله] (1) من اللبن لأحد وعشرين شهراً (2) .
{ حتى إذا بلغ أشده } وهو زمن اكتهاله واشتداد قوته واستحكام عقله وتمييزه، وذلك إذا أربى على الثلاثين وناهز الأربعين.
وقال ابن قتيبة (3) : أشُدُّ الرجل غيرُ أشُدّ اليتيم؛ لأن أشد الرجل: الاكتهال والحُنْكَة -الحُنْكَة: فهم الشيء وإحكامه (4) - وأن يشتد رأيه وعقله، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة. وأشد الغلام: أن يشتد خَلْقُه ويتناهى نباته.
وقد ذكرنا الأشُدّ في الأنعام (5) ويوسف (6) .
{ قال رب أوزعني } مُفسّر في النمل (7) .
والمراد بالنعمة التي سأل ربه أن يوزعه شكرها: نعمة التوحيد
__________
(1) ... في الأصل: فصاله. والتصويب من الثعلبي (9/12).
(2) ... ذكره الثعلبي (9/12).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:254).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: حنك).
(5) ... عند الآية رقم: 153.
(6) ... عند الآية رقم: 22.
(7) ... عند الآية رقم: 19.(1/285)
والإسلام.
{ وأن أعمل صالحاً ترضاه } أي: وأوزعني أن أعمل صالحاً ترضاه، { وأصلح لي في ذريتي } اجعلهم محلاً ومقراً للصلاح ومظنة له.
فصل
ذهب ابن عباس وعامة المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه (1) ، ويؤيد ذلك تعذر إجرائها على العموم في كل إنسان؛ لأنه ليس كل من بلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني، ودعا بما أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية.
قال علي عليه السلام: هذه الآية نزلت في أبي بكر، أسلم أبواه جميعاً (2) .
وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه: نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني عشرة سنة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، [فنزلوا] (3) منزلاً فيه سِدْرة، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذلك محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد بعد عيسى تحتها إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق
__________
(1) ... ذكره الطبري (26/17)، والماوردي (5/278)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/377)، والسيوطي في الدر (7/443) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/107).
(3) ... في الأصل: فلما نزلوا. والمثبت من زاد المسير (7/377).(1/286)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره وحضوره (1) ، فلما نُبِّئَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثماني وثلاثون سنة- صدَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بلغ أربعين سنة قال: { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي } (2) . [فأجابه] (3) الله، فأعتق سبعة من المؤمنين، فكانوا يعذبون في الله، ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه، واستجاب له في ذريته فآمنوا. هذا كلام ابن عباس (4) .
وقال جمهور المفسرين: لما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا الله تعالى بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله تعالى فأسلم وأسلم [والداه] (5) وأولاده ذكورهم وإناثهم، ولم يتفق ذلك لأحد غيره من الصحابة (6) .
وقال الضحاك والسدي: نزلت في سعد بن أبي وقاص (7) . وقد ذكرنا قصته في موضعها (8) . والصحيح: الأول.
قوله تعالى: { أولئك الذين يتقبل عنهم } قرأ حمزة والكسائي وحفص:
__________
(1) ... في زاد المسير: وحضره.
(2) ... أسباب نزول القرآن للواحدي (ص:395-396).
(3) ... في الأصل: فأحبه. والتصويب من زاد المسير (7/378).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/378).
(5) ... في الأصل: والده. والتصويب من زاد المسير (7/378).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/378).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... في سورة العنكبوت، عند الآية رقم: 8.(1/287)
["نَتَقَبَّلُ"، و"نَتَجَاوَزُ"] (1) بنون مفتوحة فيهما، { أحسنَ } بالنصب. ومثلهم قرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وأبو عمران الجوني، إلا أنه بالياء فيهما (2) . وقرأ باقي القراء السبعة بالياء المضمومة فيهما، "أحسنُ" بالرفع (3) .
والأحسن بمعنى: الحسن.
وقوله تعالى: { في أصحاب الجنة } في محل الحال (4) ، على معنى: كائنين في جملة أصحاب الجنة ومنتظمين في زمرتهم.
{ وعد الصدق } مصدر مؤكد؛ لأن قوله: "يتقبل" و"يتجاوز" وعدٌ من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز.
"د%©!$#ur قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ
__________
(1) ... في الأصل: يتقبل ويتجاوز. وهو خطأ.
(2) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:391)، وزاد المسير (7/379).
(3) ... الحجة للفارسي (3/398-399)، والحجة لابن زنجلة (ص:664-665)، والكشف (2/272)، والنشر (2/373)، والإتحاف (ص:391)، والسبعة (ص:597).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/139).(1/288)
وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اتزب
قوله تعالى: { والذي قال لوالديه أف لكما } سبق القول على "أُفّ" في(1/289)
بني إسرائيل (1) . وذكرنا اختلاف القراء فيها، ولغات العرب.
{ أتعدانني } وقرأتُ لأبي عمرو من رواية القزاز عن عبد الوارث عنه: بفتح نون التثنية (2) ، وهي لغة شاذة. وعلته: استثقال اجتماع نونين وكسرتين.
وروى هشام: "أتعِدَانِّي" بنون واحدة مشددة على الإدغام (3) ، تحرياً للتخفيف أيضاً، كما تحرّاه من أسقط إحدى النونين.
{ أن أُخرج } أي: أُبعث وأُخرج من الأرض، { وقد خلت القرون من قبلي } .
قال مقاتل (4) : مضت فلم يبعث منهم أحد.
وقال أبو سليمان الدمشقي: مضت القرون مكذبة بهذا (5) .
{ وهما يستغيثان الله } يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له: { ويلك آمن } دعاء عليه بالثبور، ومقصودهما: استنقاذه من الهلكة وتحريضه على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
{ إن وعد الله حق } وقرئ: "أنَّ" بفتح الهمزة (6) ، على معنى: آمن بأن وعد الله حق.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 23.
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (6/139).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:392).
(4) ... تفسير مقاتل (3/224).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/381).
(6) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/62)، والدر المصون (6/140).(1/290)
فصل
اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، فذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه، وكان أبواه ألحّا عليه فيما دعواه إليه من الإيمان، فقال: أحيوا لي عبدالله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم ما يقولون (1) .
وقال مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر الصديق (2) .
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أنها أنكرت أن تكون الآية نزلت في عبدالرحمن إنكاراً شديداً (3) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد، عن موسى بن إسماعيل (4) ، حدثنا أبو عوانة (5) ، عن أبي بشر (6) ، عن يوسف بن ماهك (7) قال: ((كان مروان على
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3295-3296) عن السدي. وذكره الماوردي (5/279-280)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/380)، والسيوطي في الدر المنثور (7/445) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ... ذكره الماوردي (5/280)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/380).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/380)، والسيوطي في الدر (7/445) وعزاه لعبد الرزاق وابن مردويه من طريق ميناء.
(4) ... موسى بن إسماعيل المنقري مولاهم، أبو سلمة التبوذكي البصري، ثقة صدوق، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 10/296-297، والتقريب ص:549).
(5) ... الوضاح بن عبد الله اليشكري، مولى يزيد بن عطاء، أبو عوانة الواسطي البزاز، ثقة ثبت صدوق في الحديث، كان من سبي جرجان، ولد سنة اثنتين وعشرين ومائة، ومات في ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 11/103-105، والتقريب ص:580).
(6) ... بيان بن بشر الأحمسي البجلي، أبو بشر الكوفي، ثقة ثبت (تهذيب التهذيب 1/444، والتقريب ص:129).
(7) ... يوسف بن ماهك بن بُهزاد المكي، مولى قريش، ثقة عدل قليل الحديث، مات سنة ست ومائة. وقيل قبل ذلك (تهذيب التهذيب 11/370، والتقريب ص:611).(1/291)
الحجاز استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايَعَ له بعد أبيه. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: { والذي قال لوالديه أف لكما } . فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله تعالى أنزل عذري)) (1) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
وقال محمد بن زياد وغيره: كتب معاوية إلى مروان ليبايع الناس ليزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم، فقال مروان: هذا الذي يقول الله فيه: { والذي قال لوالديه أف لكما ... الآية } فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك، فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئتُ لسمّيته، ولكن الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله (2) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1827 ح4550).
(2) ... أخرجه النسائي (6/458 ح11491)، والحاكم (4/528 ح8483). وذكره السيوطي في الدر (7/444) وعزاه لعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه.(1/292)
وقال الزجاج (1) : قول من قال: أنها في عبد الرحمن باطل بقوله: { أولئك الذين حق عليهم القول } ، فأعلم الله تعالى أن هؤلاء لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين [وسرواتهم] (2) .
والتفسير الصالح: أنها نزلت في الكافر العاقّ.
وقال الحسن البصري: نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم (3) .
قوله تعالى: { في أمم } أي: في جملة أمم، أو مع أمم كافرة، { قد خلت } مضت { من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } .
وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوني: "أنَّهم" بفتح الهمزة (4) ، على معنى: لأنهم، أو بأنهم.
{ ولكل } من الجنسين المذكورين { درجات } منازل ومراتب { مما عملوا } أي: من جزاء أعمالهم في الخير والشر، أو من أجل ما عملوا.
وإنما قال: درجات، والنار دركات، على مذهبهم في التغليب.
{ وليوفيهم أعمالهم } تعليل، معلَّلُهُ محذوفٌ، تقديره: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم، قدَّر جزاءهم، فجعل لكلٍ درجات مما عملوا.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/443-444).
(2) ... في الأصل: وسراوتهم. والتصويب من معاني الزجاج (4/444).
(3) ... ذكره الماوردي (5/280)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/381).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/381)، والبحر المحيط (8/62).(1/293)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: "وليوفيهم" بالياء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: "ولنوفيهم" بالنون (1) . وعن ابن عامر [كالقراءتين] (2) .
tPِqtƒur يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ اثةب
قوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } العامل في الظرف محذوف، تقديره: اذكر، أو القول المضمر، تقديره: فيقال لهم، { أذهبتم
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/399)، والحجة لابن زنجلة (ص:665)، والكشف (2/272)، والنشر (2/373)، والإتحاف (ص:392)، والسبعة (ص:598).
(2) ... في الأصل: كاقرائتين.(1/294)
طيباتكم في حياتكم الدنيا } . والمراد بعرضهم على النار: تعذيبهم بها، كقولهم: عُرض بنو فلان على السيف؛ إذا قتلوا به.
وقيل: المراد عرض النار عليهم، من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريد: عرض الحوض عليها، فقلبوا.
ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها (1) .
قرأ ابن كثير: "أأذهبتم" بهمزتين، الأولى محققة والثانية ملينة من غير فصل، وحققهما ابن عامر في رواية ابن ذكوان، وليّن الثانية في رواية هشام، وفصل بينهما بألف الحلواني عن هشام أيضاً. وقرأ الباقون "أذهبتم" بهمزة واحدة على الخبر (2) .
قال الفراء والزجاج (3) : العرب توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهبت ففعلت كذا، وذهبت ففعلت.
والمراد بطيباتهم: ما كانوا فيه من اللذات والنعم المكفورة غير المشكورة.
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: لو شئت لدعوت بصَلائِق (4) وصِنَابٍ (5) وكَراكِرَ (6) وأسْنِمَة، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/309).
(2) ... الحجة للفارسي (3/401)، والحجة لابن زنجلة (ص:665)، والكشف (2/273)، والإتحاف (ص:392)، والسبعة (ص:598).
(3) ... معاني الفراء (3/54)، ومعاني الزجاج (4/444).
(4) ... الصلائق: جمع، واحدها: صليقة. وهو الخبز الرقيق (اللسان، مادة: صلق).
(5) ... الصنّاب: صِباغٌ يُتخذ منه الخردل والزبيب (اللسان، مادة: صنب).
(6) ... الكراكر: جمع، واحدها: كِرْكِرَة، وهي رحى زَوْر البعير والناقة، وهي إحدى الثَّفِنات الخمس. وقيل: هو الصَّدْر من كل ذي خف (اللسان، مادة: كرر).(1/295)
طيباتهم فقال: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } (1) .
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي [طيباتي] (2) .
وقال جابر بن عبد الله: اشتهى أهلي لحماً فمررت بعمر بن الخطاب فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهى أهلي لحماً، فاشتريت لحماً بدرهم، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه، أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } (3) .
وقال ثوبان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر كان آخر عهده بإنسان [من] (4) أهله [فاطمة] (5) ، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة عليها السلام، فلما قدم من غزوة أتاها، فإذا بمِسْحٍ على بابها، ورأى على الحسن والحسين عليهما السلام قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك فاطمة عليها
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/281)، والسيوطي في الدر (7/447).
(2) ... أخرجه الطبري (26/21). وذكر السيوطي في الدر (7/446) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وما بين المعكوفين في الأصل: بطيباتي. والتصويب من المصادر السابقة.
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:153)، وابن أبي شيبة (5/140 ح24524). وذكره السيوطي في الدر (7/446) وعزاه لأحمد في الزهد عن الأعمش قال: مر جابر... فذكر نحوه.
(4) ... في الأصل: عن. والتصويب من مصادر التخريج.
(5) ... زيادة من مصادر التخريج.(1/296)
السلام ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين وقطعتهما، فبكى الصبيان فقسمته بينهما نصفين، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما يبكيان، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ثوبان اذهب بذا إلى بني فلان -أهل بيت بالمدينة-، [واشتر] (1) لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي لا أحب أن يأكلوا طيباتهم في الحياة الدنيا (2) .
* وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا
__________
(1) ... في الأصل: فاشتر. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... أخرجه أبو داود (4/87 ح4213)، وأحمد (5/275 ح22417). وذكره السيوطي في الدر (7/448) وعزاه لأحمد والبيهقي في شعب الإيمان.(1/297)
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ(1/298)
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ اثخب
قوله تعالى: { واذكر أخا عاد } يعني: هوداً { إذ أنذر قومه بالأحقاف } قال ابن قتيبة (1) : واحد الأحقاف: حِقْف، وهو من الرمل: ما أشرف من كُثبانه واستطال وانحنى (2) .
قال قتادة: هي رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر (3) .
قال ابن إسحاق: كانوا ينزلون ما بين عُمَان وحضرموت واليمن كله (4) .
وقال ابن عباس: الأحقاف: وادٍ بين عُمَان ومَهْرة (5) .
وقال مقاتل (6) : في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرة، إليها تنسب الجمال، يقال: إبل مهرة ومهاري, وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم.
{ وقد خلت النذر } يعني: الرسل { من بين يديه ومن خلفه } يعني: من
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:407).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حقف).
(3) ... أخرجه الطبري (26/23). وذكره السيوطي في الدر (7/449) وعزاه لابن جرير.
(4) ... ذكره الماوردي (5/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/384).
(5) ... أخرجه الطبري (26/23). وذكره الماوردي (5/282).
... والمَهْرة: قال ياقوت (5/234): مخلاف بينه وبين عمان نحو شهر، وكذلك بينه وبين حضرموت.
(6) ... تفسير مقاتل (3/225، 226).(1/299)
قبل هود ومن بعده { ألا تعبدوا إلا الله } أي: أنذرهم بأن لا يعبدوا إلا الله، { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } .
وقوله تعالى: { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } اعتراض يشعر بأن الرسل الذين تقدموه والذين جاؤوا من بعده كانوا على سبيل واحد، من الإنذار والدعاء إلى توحيد الله عز وجل.
{ قالوا أجئتنا لتأفكنا } أي: لتصرفنا { عن } عبادة { آلهتنا } بالإفك.
قوله تعالى: { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم } قال ابن قتيبة (1) : العَارِض: السَّحاب.
وأنشد الأخفش قول أبي [كبير] (2) الهذلي:
[وإذا] (3) نظرتَ إلى أسِرَّةِ وجهه ... بَرَقَتْ كبرْق العَارِضِ المتهلل (4)
قال بعضهم: سمي بذلك؛ لأنه مار في السماء، والعارض: هو المار الذي لا يلبث (5) .
قال المفسرون: وكان قد حُبِسَ القطرُ عنهم، فبعث الله تعالى سحابة سوداء، فلما رأوها فرحوا وقالوا: { هذا عارض ممطرنا } ، فقال لهم هود:
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:407).
(2) ... في الأصل: كثير. وهو تصحيف. والصواب ما أثبتناه. وانظر: مصادر تخريج البيت.
(3) ... في الأصل: وإذ. والمثبت من مصادر التخريج.
(4) ... البيت لأبي كبير الهذلي، وهو في: تاج العروس (مادة: عرض)، وديوان الحماسة (1/21)، والقرطبي (2/342).
(5) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/283).(1/300)
{ بل هو ما استعجلتم به } (1) .
ثم بيّن ما هو فقال: { ريح فيها عذاب أليم } فجعلت الريح تحمل الفسطاط (2) وتحمل الظعينة (3) فترفعهما حتى ترى كأنها جرادة.
{ تدمر كل شيء } أي: تهلك كل شيء مرَّت به من الناس والدواب والأموال { بأمر ربها فأصبحوا لا تَرى إلا مساكنَهم } .
قرأ عاصم وحمزة وخلف ويعقوب: "لا يُرى" بياء معجمة من تحت مضمومة، "مساكنُهم" بالرفع. وقرأ الباقون من العشرة: بتاء معجمة من فوق مفتوحة، "مساكنَهم" بالنصب (4) .
فالقراءة الأولى على معنى: [لا] (5) يرى شيء إلا مساكنهم، ولذلك ذَكَّر الفعل؛ لأنه محمول على "شيء" المضمر، و"المساكن" بدل من "شيء". والقراءة الثانية على معنى: لا ترى يا محمد، أو لا ترى أيها السامع شيئاً إلا مساكنهم خالية ليس فيها أحد منهم.
والمراد: الإعلام أنها اجْتَثَّتْ أصلهم [واستأصلت] (6) شأفتهم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/25). وذكره الماوردي (5/283)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/384).
(2) ... الفسطاط: بيت من شعر (اللسان، مادة: فسط).
(3) ... الظعينة: الجمل يُظعن عليه (اللسان، مادة: ظعن).
(4) ... الحجة للفارسي (3/400)، والحجة لابن زنجلة (ص:666)، والكشف (2/274)، والنشر (2/373)، والإتحاف (ص:392)، والسبعة (ص:598).
(5) ... زيادة على الأصل.
(6) ... في الأصل: واستأصل.(1/301)
وقرأ علي عليه السلام، وأبو عبدالرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري؛ كقراءة عاصم وحمزة، إلا أنهم جعلوا بدل الياء تاء (1) ، على معنى: لا ترى بقايا ولا أشياء إلا مساكنهم.
ثم هدد كفار قريش بباقي الآية. وقد ذكرنا قصة إهلاكهم مستوفاة في سورة الأعراف (2) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم العطار، وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان، أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، أخبرنا عمرو (3) ، أن أبا النضر (4) حدّثه، عن سليمان بن يسار، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً حتى أرى منه لَهَوَاتِه (5) ، إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرِفَ في وجهه. قالت: يا رسول الله! [إن] (6) الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/385)، والدر المصون (6/142).
(2) ... عند الآية رقم: 65.
(3) ... عمرو بن الحارث بن يعقوب بن عبد الله الأنصاري، مولى قيس أبو أمية، ثقة فقيه حافظ، مات قبل الخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 8/13-14، والتقريب ص:419).
(4) ... سالم بن أبي أمية التميمي، أبو النضر المدني، مولى عمر بن عبد الله التيمي، كان ثقة ثبت كثير الحديث، يرسل كثيراً، مات في خلافة مروان بن محمد سنة تسع وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 3/372، والتقريب ص:226).
(5) ... اللهوات: جمع لَهَاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق (اللسان، مادة: لها).
(6) ... زيادة من الصحيح (4/1827).(1/302)
يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفَ في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) (1) .
ô‰s)s9ur مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1827 ح4551).(1/303)
الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ اثرب
قوله تعالى: { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } وقال الزمخشري (1) : "إنْ" نافية، أي: فيما ما مكناكم فيه، إلا أن "إنْ" أحسن في اللفظ؛ لما [فيه] (2) مجامعة "ما" مثلها من التكرير المستبشع. ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في "مهما": "ما ما" فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. ولقد أغثّ أبو الطيب في قوله:
لعمرُكَ مَا مَا بَانَ منكَ لِضَارِبِ ... ... ......................... (3)
وما ضرّه لو [اقتدى بعذوبة] (4) لفظ التنزيل، فقال:
__________
(1) ... الكشاف (4/312-313).
(2) ... في الأصل: في. والتصويب من الكشاف (4/312).
(3) ... صدر بيت للمتنبي، وعجزه: (بأقْتَلَ مما بَانَ منكَ لِعَائِبِ). انظر: ديوانه (ص:285)، وروح المعاني (26/27)، والدر المصون (6/142).
(4) ... في الأصل: افتدى بعبه. والتصويب من الكشاف (4/312).(1/304)
لعمرك [ما إن] (1) بان منك لضارب.
وقد جعلت "إنْ" صلة، مثلها [فيما] (2) أنشد الأخفش:
يُرَجِّي المرءُ [ما] (3) إنْ لا يَراهُ ... وتَعْرضُ دونَ أدناهُ الخُطُوبُ (4)
وتأولوه: ولقد مكّناهم في مثل ما مكّناكم فيه. والوجه هو الأول، ولقد جاء عليه غير آية من القرآن: { هم أحسن أثاثاً ورئياً } [مريم:74]، { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض } [غافر:82]، وهو أبلغ في التوبيخ، وأبلغ في الحث على الاعتبار.
قلتُ: والأول هو قول ابن عباس وعامة المفسرين (5) .
قال (6) : فإن قلتَ: بم انتصب: { إذ كانوا يجحدون } ؟
قلتُ: بقوله: { فما أغنى } .
فإن قلت: لم جرى مجرى التعليل؟
قلتُ: لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته،
__________
(1) ... في الأصل: إن ما. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: في. والتصويب من الكشاف (4/313)، ومصادر البيت.
(3) ... زيادة من مصادر البيت.
(4) ... البيت لجابر بن رألان الطائي، أو إياس بن الأرت. وهو في: الخزانة (3/567)، والقرطبي (16/208)، وروح المعاني (26/28)، والبحر (8/65)، والدر المصون (6/142).
(5) ... أخرجه الطبري (26/28)، وابن أبي حاتم (10/3296). وذكره السيوطي في الدر (7/451) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(6) ... أي: الزمخشري في الكشاف (4/313).(1/305)
وضربته إذا أساء؛ لأنك إذا ضربته في وقت إساءته؛ فإنما ضربته فيه [لوجود إساءته فيه] (1) ؛ إلا أن "إذ"، و"حيث"، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك.
ثم هدّد كفار مكة وزاد في تخويفهم فقال تعالى: { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } كديار ثمود، وعاد، ولوط، والمراد: أهل القرى، بدليل قوله: { لعلهم يرجعون } والمعنى: { وصرفنا } لأهل القرى { الآيات } ، جئناهم بها على ضروب مختلفة { لعلهم يرجعون } فلم يرجعوا.
{ فلولا } أي فهلا { نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة } يريد: أصنامهم، فإنهم كانوا يقولون: إنها تقربنا إلى الله وتشفع لنا عنده.
قال الزمخشري (2) : وأحد مفعولي "اتخذوا" المحذوف العائد على "الذين"، والمفعول الثاني: "آلهة"، و"قرباناً": حال.
وقال المصنف: ويجوز أن يكون "قرباناً": مفعولاً ثانياً (3) .
قال الزمخشري (4) : ولا يصح أن يكون "قرباناً" مفعولاً ثانياً و"آلهة" بدلاً منه؛ لفساد المعنى (5) .
__________
(1) ... في الأصل: لإساءته. والتصويب والزيادة من الكشاف (4/313).
(2) ... الكشاف (4/313).
(3) ... انظر: الدر المصون (6/143).
(4) ... الكشاف (4/313).
(5) ... قال أبو حيان في البحر المحيط (8/66): ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (6/143): ووجه الفساد -والله أعلم-: أن القربان اسم لما يتقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً، و"آلهة" بدلاً منه، لزم أن يكون الشيء المتقرب به آلهة، والفرض أنه غير الآلهة، بل شيء يتقرب به إليها، فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه؟ وهذا ما لا يجوز.(1/306)
قال المصنف: ولستُ أُبْعِدُ ما نفى صحته، معللاً بفساد معناه، وإن كان الأوجه ما قاله أولاً؛ لأن المشركين اتخذوا الأصنام قرباناً واتخذوها آلهة هي القربان عندهم.
وقال صاحب الكشاف (1) : التقدير: فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله آلهة قرباناً، فـ"قرباناً" مفعول ثان قدم على المفعول الأول، أي: آلهة ذات قربان.
{ بل ضلّوا عنهم } غابوا عن نصرتهم { وذلك إفكهم } أي: وذلك الاتخاذ إفكهم كذبهم وافتراؤهم.
وقيل: الإشارة بقوله: "وذلك" إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي: وذلك أثر إفكهم وافترائهم الكذب على الله.
وقرأ سعد بن أبي وقاص وأبو عمران الجوني: "أفَّكَهم" بفتح الهمزة وقصرها وتشديد الفاء وفتحها وفتح الكاف (2) .
ومثل هذه القراءة قراءة ابن عباس، وأبي رزين، والشعبي، وأبي العالية، والجحدري، إلا أنهم لم يشددوا الفاء (3) ، على معنى: وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق وثناهم عنه، والقراءة التي قبلها في معناها، إلا أن التشديد
__________
(1) ... لم أقف عليه في الكشاف.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/386)، والدر المصون (6/143).
(3) ... مثل السابق.(1/307)
للمبالغة.
ومثل قراءة ابن عباس قرأ ابن الزبير، إلا أنه مدَّ الهمزة (1) ، على معنى: وذلك أصارهم إلى الإفك وأوقعهم فيه.
وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل بفتح الهمزة ومدها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف (2) ، على معنى: وذلك صارفهم عن الحق.
ّŒخ)ur صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/66)، والدر المصون (6/143).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/386-387)، والدر المصون (6/143).(1/308)
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اجثب
قوله تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } اختلف العلماء في سبب صرفهم إليه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال قوم: كان ذلك بسبب رجمهم بالشهب. فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: ((انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين(1/309)
الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب [فرجعت] (1) الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمرّ النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: { إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به } [الجن:1-2]، فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن } )) (2) .
وقال قوم: صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن. وهذا مذهب جماعة، منهم: قتادة.
وكان يقول: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني. فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود. قال: فدخل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شعباً يقال له: شعب الحجون، وخط على عبد الله خطاً ليثبته به. قال: فسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق (3) .
وفي صحيح مسلم من حديث علقمة قال: ((قلت لابن مسعود: هل
__________
(1) ... في الأصل: فرجت. والتصويب من الصحيحين.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1873 ح4637)، ومسلم (1/331 ح449).
(3) ... أخرجه الطبري (26/31).(1/310)
صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير [أو اغتيل] (1) ، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، قال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن. قال: [فانطلق] (2) بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم)) (3) .
فصل
واختلفوا في الموضع الذي استمعوا فيه القرآن على القولين:
أحدهما: أنه الحجون. قاله ابن مسعود وقتادة (4) .
والثاني: بطن نخلة. قاله ابن عباس ومجاهد (5) .
فصل
واختلفوا في عددهم ومساكنهم، فقال زر بن حبيش: كانوا تسعة، أحدهم:
__________
(1) ... في الأصل: واغتيل. والتصويب من مسلم (1/332).
(2) ... في الأصل: فانطق. والتصويب من مسلم (1/332).
(3) ... أخرجه مسلم (1/332 ح450).
(4) ... سبق عن قتادة في الحديث ما قبل السابق. وقد أخرجه الطبري (26/33) عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر (7/453) وعزاه لابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود.
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:595)، والطبري (26/33) عن مجاهد. وقد سبق قريباً عن ابن عباس من رواية البخاري ومسلم.(1/311)
زوبعة (1) .
وقال مجاهد: كانوا سبعة: ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين (2) .
وقال عكرمة: من جزيرة الموصل (3) .
وقال قتادة: من أهل نينوى (4) .
قال ابن عباس: كانوا سبعة نفر من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلاً إلى قومهم (5) .
فصل
النَّفَر: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والجمع: أنفار (6) .
وفي حديث أبي ذر: ((حين قدم مكة ينظر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسمع امرأتين يدعوان إسافاً ونائلة، فقال: أنكحوا إحداهما الأخرى، فقالتا: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا)) (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/31). وذكره الماوردي (5/286).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3297). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/453) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3296). وذكره السيوطي في الدر المنثور، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (26/31). وذكره الماوردي (5/286).
(5) ... أخرجه الطبري (26/31)، والطبراني في الكبير (11/256 ح11660) وفيه: تسعة نفر.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: نفر).
(7) ... أخرجه مسلم (4/1921 ح2473).(1/312)
وقرئ: "وإذ صرّفنا" بالتشديد (1) ، "يستمعون": يقصدون سماع القرآن، وفي هذا إيذان بأنهم قوم هداهم الله تعالى وألهمهم قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماع القرآن.
{ فلما حضروه قالوا أنصتوا } الضمير للقرآن. ويجوز أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - . ويؤيده قراءة ابن الزبير: { فلما قَضَى } بفتح القاف والضاد (2) ، أي: فلما فرغ وأتمّ قراءته { ولّوا إلى قومهم منذرين } مخوفين داعين إلى الهدي بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى } قال عطاء: كان دين أولئك الجن اليهودية، ولذلك قالوا: "من بعد موسى" (3) .
{ يا قومنا أجيبوا داعي الله } يعنون: محمداً - صلى الله عليه وسلم - . وهذا يدل على أن الله تعالى أرسله إلى الجن والإنس. وقد ذكرناه في سورة الأنعام.
{ وآمنوا به يغفر لكم مِنْ ذنوبكم } قيل: "مِنْ" هاهنا صلة. وقيل: للتبعيض، نظراً إلى أن بعض الذنوب وهو ما كان من مظالم العباد يتوقف على رضى الخصم.
{ ويجركم من عذاب أليم } وهو عذاب النار.
قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلاً من
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/66)، والدر المصون (6/144).
(2) ... وقرأ الجمهور: "قُضِيَ". وانظر قراءة ابن الزبير في: البحر المحيط (8/67)، والدر المصون (6/144).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/390)، والزمخشري في الكشاف (4/316).(1/313)
الجن، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم (1) .
فصل
اختلف العلماء في حكم مؤمني الجن؛ فذهب جماعة، منهم: الحسن، وأبو حنيفة، إلى أنه لا ثواب لهم سوى نجاتهم من النار (2) .
قال الحسن: ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم.
وذهب جماعة، منهم: مالك بن أنس، وابن أبي ليلى، إلى التسوية بينهم وبين الإنس في الثواب والعقاب؛ لاستوائهم في التكليف. وهو الصحيح.
قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون (3) .
َOs9urr& يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى
__________
(1) ... ذكره القرطبي (16/217)، والبغوي (4/175).
(2) ... انظر المصدرين السابقين، وفتح الباري (6/346).
(3) ... ذكره القرطبي (16/218).(1/314)
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ اجخب(1/315)
قوله تعالى: { ولم يَعْيَ بخلقهن } أي: لم يضعف عن إبداعهن ولم يعجز عن اختراعهن.
قال الزجاج وغيره (1) : يقال: عَيِيَ فلان بأمره؛ إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه، وأعييتُ: إذا تعبت (2) .
{ بقادر على أن يحيي الموتى } قال أبو عبيدة والأخفش (3) : الباء زائدة مؤكدة.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو الياسري: "يَقْدِرُ" بالياء من غير ألف (4) ، جعله فعلاً مضارعاً، وهي قراءة جماعة، منهم: الأعرج، وعاصم الجحدري. واختارها أبو حاتم؛ لأن دخول الباء في خبر "أن" يصح، لا يقال: ظننت أن زيداً بقائم، وساغ دخولها هاهنا في خبر "أن"؛ لاشتمال النفي أول الآية، على "أن" وما في خبرها.
قال الزجاج (5) : لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز.
ويؤيد قراءة العامة قراءة ابن مسعود: "قادر" بغير باء (6) ، على تقدير القدرة.
قوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق } فيه
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/43).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: عيا).
(3) ... مجاز القرآن (2/213)، ومعاني الأخفش (ص:286).
(4) ... انظر: النشر (2/355-356)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:392).
(5) ... معاني الزجاج (4/447).
(6) ... انظر هذه القراءة في: القرطبي (16/219).(1/316)
إضمار، فيقال لهم: أليس هذا بالحق، وهذا المضمر هو ناصب الظرف، و"هذا" إشارة إلى العذاب، بدليل قوله تعالى: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .
قوله تعالى: { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } أي: أولوا الجد والثبات والحزم في الأمور.
واختلفوا في "مِنْ" هاهنا؛ فقال ابن الأنباري: دخلت "مِنْ" للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: لبست الثياب من [الخَزّ] (1) ، والجباب من [القَزّ] (2) .
فعلى هذا القول يكون قوله: "أولوا العزم" صفة للرسل كلهم. وإلى هذا ذهب ابن زيد قال: لم يبعث الله تعالى رسولاً إلا كان من أولي العزم (3) .
والأظهر عند أكثر المفسرين: أنها للتبعيض.
ثم اختلفت عباراتهم في ذلك؛ فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي في آخرين: "أولوا العزم": نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين (4) ، وهم أصحاب الشرائع.
وعدّ منهم أبو العالية: هود عليه السلام (5) .
__________
(1) ... في الأصل: الحر. والمثبت من زاد المسير (7/392).
(2) ... انظر قول الأنباري في: زاد المسير (7/392). وما بين المعكوفين في الأصل: القر. والمثبت من زاد المسير.
(3) ... أخرجه الطبري (26/37).
(4) ... أخرجه الطبري (26/37). وذكره السيوطي في الدر (7/454) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
(5) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (9/8)، وفي شعب الإيمان (7/121). وذكره السيوطي في الدر (7/454) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر.(1/317)
وقال ابن جريج: منهم: إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان (1) .
وقال ابن السائب أيضاً: هم الذين أمروا بالجهاد والقتال (2) .
وقال الحسين بن الفضل: هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام، لقوله عقيب ذلك: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (3) .
وقال الحسن البصري: هم الذين لم تصبهم فتنة (4) .
وحكى الثعلبي في تفسيره قال (5) : قال بعضهم: كل الأنبياء أولوا العزم إلا يونس عليه السلام. ألا ترى أن نبينا عليه السلام نُهِيَ أن يكون مثله لعجلة ظهرت منه حين ولى من قومه مغاضباً، فابتلاه الله عز وجل بثلاث، سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكلهم، وسلط الحوت عليه فابتلعه.
قوله تعالى: { ولا تستعجل لهم } تسكين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لكفار قريش.
{ كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب إذا نزل بهم في الدنيا. وقيل: في الآخرة { لم يلبثوا } في الدنيا. وقيل: في قبورهم { إلا ساعة من نهار }
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/289)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/392)، والسيوطي في الدر (7/454) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/116).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/393).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/392).
(5) ... تفسير الثعلبي (9/25).(1/318)
استقصروا مدة أمدهم ولبثهم لما أفضوا إليه من العذاب الدائم والأهوال المتراكمة.
وقوله تعالى: { بلاغ } هو وقف التام.
والمعنى: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ، كقوله تعالى في آخر إبراهيم: { هذا بلاغ للناس } [إبراهيم:52].
وقرأ الحسن البصري: "بلاغاً" بالنصب (1) ، على معنى: بلغ بلاغاً.
قال الزجاج (2) : النصب في العربية جيد بالغ، إلا أنه يخالف المصحف.
وقرأ جماعة، منهم: أبو العالية، وأبو عمران، وأبو مجلز: "بَلِّغْ" (3) ، على الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ فهل يُهْلَكُ } وقرأ ابن محيصن: "يَهْلِكُ" بفتح الياء وكسر اللام (4) ، وروي عنه فتحها مع فتح الياء (5) ، وهي لغة شاذة.
{ إلا القوم الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله تعالى.
قال الزجاج (6) : ما في الرجاء لرحمة الله شيء أقوى من هذه الآية.
وقد روى الثعلبي (7) -رحمه الله تعالى- بإسناد لا بأس به: أن ابن عباس
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:393).
(2) ... معاني الزجاج (4/448).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/394)، والدر المصون (6/145).
(4) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:393).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/68)، والدر المصون (6/145).
(6) ... معاني الزجاج (4/448).
(7) ... أخرجه الثعلبي (9/27).(1/319)
رضي الله عنه قال: إذا تعسر على المرأة ولدها فليكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل وتسقى منها: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب السموات السبع ورب العرش العظيم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون" (1) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (5/39 ح23508).(1/320)
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - (1)
ijk
وهي أول سور المُفَصَّل في قول الأكثرين.
وفي حديث ثوبان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراة، وأعطاني المائين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني بالمفصل)) (2) .
قال بعض أهل العلم: سمي بذلك؛ لكثرة تفصيل سُوَرِه بالبسملة.
وهي تسع وثلاثون آية في المدني، وثمان في الكوفي (3) .
وهي مدنية في قول ابن عباس وأكثر المفسرين (4) ، واستثنى ابن عباس قوله تعالى: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ... الآية } فقال: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، فجعل ينظر إلى البيت ويبكي حزناً عليه (5) .
وقال الضحاك والسدي: هي مكية (6) . وليس بشيء؛ لأنك إذا تصفحت
__________
(1) ... وتسمى سورة القتال.
(2) ... أخرجه أحمد (4/107 ح17023) من حديث واثلة بن الأسقع بألفاظ متفاوتة، والثعلبي (9/68) عن ثوبان.
(3) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:228).
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (7/456) وعزاه لابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت سورة القتال بالمدينة. ومن نفس الطريق عزاه أيضاً للنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل قال: نزلت سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
(5) ... ذكره الماوردي (5/290)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/395).
(6) ... انظر: زاد المسير (7/395)، وكذلك حكى النسفي هذا القول الغريب في تفسيره (4/144).(1/321)
آياتها وجدتها مفسدة لهذا القول، شاهدة ببطلانه، وغير ممتنع أن تشتمل على آيات مكية، لكن إطلاق القول بنزولها كلها بمكة خطأ.
tûïد%©!$# كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا(1/322)
الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ اجب
قال الله تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أي: أعرضوا عن دين الإسلام، أو صدّوا الناس عنه.
قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر (1) .
وقيل: هم أهل الكتاب.
وقيل: بالعموم. وهو الصحيح.
{ أضلّ أعمالهم } أبطلها وأحبطها. وأعمال المشركين ما كانوا ينتحلونه من مكارم الأخلاق، ويتمسكون به من بقايا دين إبراهيم وإسماعيل؛ كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الضيف، وحفظ الجوار، ورعي الذِّمام.
وقيل: أضلّ أعمالهم التي أبرموها في نقض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بشيء؛ لقوله تعالى: { والذين آمنوا } إلى قوله: { كَفَّرَ عنهم سيئاتهم } ، فقابل الذين كفروا بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقابل صدود الكفار عن الحق
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/223).(1/323)
الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بإيمان المسلمين بما نزل عليه، وجعل جزاء الذين كفروا وصدّوا إبطال حسناتهم، وجزاء الذين آمنوا تكفير سيئاتهم، فجاء الكلام على أبدع نظم وأحسن تقسيم وأصح معنى، اللهم فلك الحمد على ما هديتنا إليه من إبراز رموز خطابك، ودللتنا عليه من إحراز كنوز كتابك.
قرأ ابن مسعود: "نَزَّلَ" بفتح النون والزاي والتشديد (1) .
وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران كذلك، إلا أنهم خففوا (2) .
وقرأ أبيّ بن كعب: "أُنْزِلَ" بضم الهمزة وكسر الزاي (3) .
وقرأتُ للعشرة من جميع طرقهم: "نُزِّل" بضم النون وتشديد الزاي، على البناء للمفعول.
{ وأصلح بالهم } قال قتادة والمبرد وغيرهما: يعني: حالهم وشأنهم (4) .
قال المفسرون: وذلك بما أعطاهم من النصرة والتمكن واستفحال الملك وجباية الأموال، فجمع لهم جزاء لهم على إيمانهم خير الدنيا والآخرة.
وقال الماوردي (5) : في قوله: { وأصلح بالهم } أربعة أقوال:
أحدها: أصلح شأنهم. قاله مجاهد (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/396).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (26/39). وذكره السيوطي في الدر (7/457) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(5) ... تفسير الماوردي (5/291-292).
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:597)، والطبري (26/39). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/457) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/324)
الثاني: أصلح حالهم. قاله قتادة (1) .
الثالث: أصلح أمرهم. قاله ابن عباس (2) .
وهكذا ترى معظم كتابه على هذا النمط يعدد أقوالاً حاصلها قول واحد.
قال: الرابع: أصلح قلبهم. حكاه النقاش، ومنه قول الشاعر:
فإنْ تُقْبِلِي بالودِّ أُقبلْ بمِثْلِه ... ... وإن تُدْبرِي أذهبْ إلى حَالِ بَاليَا (3)
وهو على هذا التأويل محمول على [إصلاح] (4) دينهم.
قوله تعالى: { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } قال الزجاج (5) : أي: الأمر ذلك. وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحق، ثم قال تعالى: { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أي: كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين، أي: كالبيان الذي ذكر.
وقال الزمخشري (6) : إن قلت: أين ضرب الأمثال؟
__________
(1) ... سبق تخريجه قبل قليل.
(2) ... أخرجه الطبري (26/39)، والحاكم (2/496). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/457) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه.
(3) ... البيت لسحيم، انظره في: الماوردي (5/292)، والقرطبي (16/224).
(4) ... في الأصل: صلاح. والمثبت من الماوردي (5/292).
(5) ... معاني الزجاج (5/5-6).
(6) ... الكشاف (4/319).(1/325)
قلتُ: في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة [الكفار] (1) ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين.
وقال غيره: "أمثالهم" أي: أمثال من كان قبلهم كيف أهلكهم الله عند تكذيب الرسل، أي: أمثاله لهم. وقد تكون الأمثال: الأوصاف.
#sŒخ*sù لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
__________
(1) ... في الأصل: الكافر. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.(1/326)
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ازب
قوله تعالى: { فإذا لقيتم الذين كفروا } يعني: في مراكز القتال، { فَضَرْبَ الرقاب } أي: الزموا أو اتبعوا ضرب الرقاب، كما قال:(1/327)
يا نفسُ صبراً على ما كانَ منْ مضَض ... ............................ (1)
أي: الزمي صبراً.
والمعنى: إذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم، غير أنه لما كان الغالب في قتل الإنسان ضرب عنقه صار عبارة عنه وإن لم يقتل ضرب عنقه، كما في قوله: { ذلك بما قدمت يداك } وأمثاله.
{ حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل وأغلظتموه، من الشيء الثَّخين؛ وهو الغليظ.
ويجوز أن يكون المعنى: حتى إذا أثخنتموهم بالقتل والجراح.
{ فشدّوا الوثاق } يريد: أسرهم لئلا يفلتوا منكم.
فالوَِثاق -بفتح الواو وكسرها-: اسم ما يوثق به (2) .
{ فإما منّاً بعد وإما فداءً } هما منصوبان بفعلين مضمرين، أي: فإما تَمُنُّون مَنّاً وإما تفدون فِدَاءً، فخُيّر بعد الأسر بين هذين الأمرين، وهما المنّ عليهم بالإطلاق أو الفداء بعِوَض.
فصل
اختلف العلماء في حكم الأسير؛ فذهب عامة أهل العلم، منهم: ابن عمر، والحسن، وعطاء، وابن سيرين، والإمامان أحمد والشافعي: إلى أن هذه
__________
(1) ... صدر بيت لحرّي بن ضمرة، وعجزه: (إذ لم أجد لفضول القول أقرانا)، وهو في: اللسان (مادة: مضض)، وتاج العروس (مادة: مضض).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: وثق).(1/328)
الآية محكمة (1) ، وأن الإمام مُخيّر في الأسير بين القتل والاسترقاق، والمنّ والفداء، ففي أي ذلك رأى المصلحة فعل؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، وفادى أسارى بدر، وقتل بني قريظة، ومنَّ [عَلَى ثمامة] (2) بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك دأب الخلفاء الراشدين من بعده.
وذهب جماعة، منهم: قتادة، والضحاك، وابن جريج، والسدي: إلى أن حكمه القتل أو الاسترقاق، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (3) ، قالوا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { فإما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم } (4) [الأنفال:57]، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في سورة براءة.
قوله تعالى: { حتى تضع الحرب أوزارها } قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين (5) .
وقال مجاهد: حتى لا يكون دينٌ إلا الإسلام (6) .
__________
(1) ... ورجّحه الطبري (26/42). وانظر: الماوردي (5/294)، وزاد المسير (7/397).
(2) ... في الأصل: مامة. وهو خطأ. وهو: ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة الحنفي، أبو أمامة. (انظر ترجمته في: الإصابة 1/410-411). وقول "على" زيادة على الأصل.
(3) ... انظر: المغني (9/179)، والأم (4/177)، والمبسوط للسرخسي (10/24).
(4) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:165)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:56).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/120)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/397).
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:597). وذكره الواحدي في الوسيط (4/120)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/397).(1/329)
وقال سعيد بن جبير: حتى يخرج المسيح عليه السلام (1) .
وقال الفراء (2) : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.
فالمعنى على هذا: حتى يضع أهل الحرب أوزارهم، وهي آلتهم وسلاحهم. ومنه قول الأعشى:
وأعددتُ للحربِ أوْزَارَها ... ... رِمَاحاً طِوَالاً وخَيْلاً ذُكُورا (3)
وقيل: المعنى: حتى تضع أوزار المشركين بأن يسلموا ويوحدوا الله تعالى.
والأول أصح.
قوله تعالى: { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } قال الزجاج (4) : "ذلك" في موضع رفع. المعنى: الأمر ذلك.
ويجوز أن يكون نصباً، على معنى: افعلوا ذلك. ولو يشاء الله لانتصر منهم فكفاكم أمرهم بغير قتال، ولكن شرع القتال وأمركم به { ليبلو بعضكم ببعض } فيجزي المؤمنين بالمثوبة ويجزي الكافرين بالعقوبة.
{ والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ أبو عمرو وحفص والمفضل عن
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/120)، والسيوطي في الدر (7/460) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... معاني الفراء (3/57).
(3) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:71)، واللسان (مادة: وزر)، وتهذيب اللغة (13/244)، والقرطبي (16/229)، والبحر (8/75)، والدر المصون (6/147)، وزاد المسير (7/397)، وروح المعاني (26/41)، وغريب القرآن (ص:409)، والماوردي (5/293).
(4) ... معاني الزجاج (5/7).(1/330)
عاصم ويعقوب: "قُتِلوا" بضم القاف وكسر التاء من غير ألف. وقرأ باقي القراء العشرة: "قاتلوا" (1) . والأولى اختيار [أبي] (2) حاتم.
ومثل أبي عمرو قرأ الحسن، إلا أنه شدد التاء (3) .
وقرأ عاصم الجحدري: "قَتَلوا" بفتح القاف والتاء والتخفيف (4) .
فالقراءة الأولى وقراءة الحسن يراد بهما الشهداء، وقراءة الأكثرين اختيار أبي عبيد، والثالث بمعنى: قتلوا المشركين في سبيل الله.
{ فلن يضل أعمالهم } كما أضل أعمال الكفار.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت يوم أحد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هُبَل (5) .
وقد ذكرنا ما قال الكفار، وماذا أجابهم المسلمون في ذلك اليوم في سورة آل عمران (6) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/402)، والحجة لابن زنجلة (ص:666)، والكشف (2/276)، والنشر (2/374)، والإتحاف (ص:393)، والسبعة (ص:600).
(2) ... في الأصل: أبو. وهو لحن.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/76)، والدر المصون (6/147).
(4) انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/76)، والدر المصون (6/147).
(5) ... أخرجه الطبري (26/44). وذكره السيوطي في الدر (7/461) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(6) ... عند الآية رقم: 143.(1/331)
{ سيهديهم } قال ابن عباس: إلى أرشد الأمور (1) .
وقيل: إلى محاجّة منكر ونكير (2) .
وقيل: إلى طريق الجنة (3) .
{ ويدخلهم الجنة } وقرأت لأبي عمرو [من] (4) رواية عبدالله بن عمر الزهري عن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي عنه: "ويُدْخِلْهُم" بالجزم؛ لتوالي الحركات (5) .
{ عرّفها لهم } قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها [أحداً] (6) .
قال مقاتل (7) : يمشي المَلَك الذي كان موكلاً بحفظ عمله في الدنيا، فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى. وإلى هذا المعنى ذهب قتادة والفراء وأبو عبيدة وجمهور المفسرين.
وروى عطاء عن ابن عباس أن المعنى: طيبها لهم (8) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/121)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/398).
(2) ... ذكره الماوردي (5/294)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/398).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... زيادة على الأصل.
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/76)، والدر المصون (6/148).
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:598)، والطبري (26/44). وذكره السيوطي في الدر (7/461) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وما بين المعكوفين زيادة من مصادر التخريج.
(7) ... تفسير مقاتل (3/234-235). وذكره السيوطي في الدر (7/462) وعزاه لابن أبي حاتم.
(8) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/121)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/398).(1/332)
قال ابن قتيبة (1) : وهو قول أصحاب اللغة. يقال: طعام معرَّف، أي: مطيَّب.
قوله تعالى: { إن تنصروا الله } أي: تنصروا دينه ورسوله { ينصركم } على عدوكم { ويثبت أقدامكم } عند القتال، أو على الإسلام.
وقرأ المفضل عن عاصم: "ويثبت" بالتخفيف (2) .
{ والذين كفروا فتعساً لهم } قال الزجاج (3) : التَّعْسُ في اللغة: الانحطاط والعُثُور، والنصب على معنى: أتعسهم الله تعساً.
وقال غيره (4) : يقال: تَعَسَهُ اللهُ وأتْعَسَهُ، ونقيض تَعْسَاً له: لعاً له.
قال الأعشى يصف ناقة:
بذاتِ لَوْثٍ عِفِرْنَاةٍ إذا عَثَرَتْ ... فالتَّعْسُ [أدنى لها منْ أنْ] (5) أقول لَعَا (6)
يريد: العثور والانحطاط أقرب لها من [الانتعاش] (7) .
واختلفت عبارات المفسرين في ذلك؛ فقال ابن عباس: بُعْداً لهم (8) .
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:410).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/399)، والدر المصون (6/148).
(3) ... معاني الزجاج (5/8).
(4) ... هو الزمخشري، انظر: الكشاف (4/322).
(5) في الأصل: أو دنى لها من. والتصويب والزيادة من مصادر البيت.
(6) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:105)، واللسان (مادة: لوث، تعس)، والبحر (8/71)، والطبري (7/112)، والقرطبي (6/358، 16/232)، والدر المصون (6/148)، والمحتسب (1/141).
(7) ... في الأصل: الإنعاش. والتصويب من الكشاف (4/322).
(8) ... ذكره القرطبي (16/232)، والبغوي (4/180).(1/333)
وقال الضحاك: خيبةً لهم (1) .
وقال السدي: حزناً لهم (2) .
وقال ابن زيد: شقاءً لهم (3) .
وقال ثعلب: هلاكاً لهم (4) .
{ ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } تعالى من القرآن وما اشتمل عليه من التكاليف { فأحبط أعمالهم } .
* أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى
__________
(1) ... ذكره القرطبي (16/232)، والبغوي (4/180).
(2) ... ذكره الماوردي (5/295) وفيه: خزياً لهم، والقرطبي (16/232).
(3) ... أخرجه الطبري (26/45). وذكره الماوردي (5/295).
(4) ... ذكره الماوردي (5/295).(1/334)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ اتجب
{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم }(1/335)
سبق تفسيره (1) .
{ دَمَّرَ الله عليهم } يقال: دَمَّرَهُ الله تعالى، أي: أهلكه، ودَمَّر عليه، أي: أهلك عليه ما يختص به. فالمعنى: أهلك الله تعالى عليهم أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وجميع ما يختص بهم.
ثم هدّد كفار هذه الأمة فقال تعالى: { وللكافرين أمثالها } أي: أمثال تلك العاقبة أو الهلكة أو السنة.
{ ذلك } الذي فعله من نصر المؤمنين وتدمير الكافرين { بأن الله مولى الذين آمنوا } وليُّهم وناصرُهم، { وأن الكافرين لا مولى لهم } لا ولي لهم ولا ناصر من عذاب الله.
قوله تعالى: { والذين كفروا يتمتعون } أي: يتمتعون بمتاع الحياة الدنيا، { ويأكلون كما تأكل الأنعام } أي: يأكلون غافلين غير متفكرين فيما يراد بهم.
{ والنار مثوى لهم } منزل ومقام لهم.
قوله تعالى: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } قد ذكرنا في آل عمران (2) اختلاف القراء في "كأيّن"، وأشرنا إلى معناها هناك. والمراد: أهل قرية، ولذلك قال: أهلكناهم.
قوله تعالى: { فلا ناصر لهم } حكاية حال؛ كقوله: { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [يس:9].
__________
(1) ... في سورة يوسف، عند الآية رقم: 109.
(2) ... عند الآية رقم: 146.(1/336)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً(1/337)
حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ اتخب
قوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه } أي: على حجة وبرهان واضح من الله. وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في قول أبي العالية (1) .
أو المؤمنون، في قول الحسن (2) .
{ كمن زين له سوء عمله } يعني: المشركين، { واتبعوا أهواءهم } في عبادة الأوثان.
قوله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون } مفسر في الرعد (3) .
{ فيها أنهار من ماء غير آسِن } قال أبو عبيدة والزجاج (4) : غير متغير الريح.
وقال ابن قتيبة (5) : غير متغيِّر الريح والطعم. والآجن نحوه.
وقرأ ابن كثير: "أَسِنٍ" بقصر الهمزة (6) ، وهما لغتان بمعنى واحد، وأنشد ليزيد بن معاوية:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/296)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/400).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... عند الآية رقم: 35.
(4) ... مجاز القرآن (2/215)، ومعاني الزجاج (5/9).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:410).
(6) ... الحجة للفارسي (3/402)، والحجة لابن زنجلة (ص:667)، والكشف (2/277)، والنشر (2/374)، والإتحاف (ص:393)، والسبعة (ص:600).(1/338)
لقدْ سَقَتْنِي رِضاباً غيرَ ذي أسنٍ ... كالمسكِ [فُتَّ] (1) على ماءِ العناقيد (2)
وقال أبو يعلى: يقال: أَسَنَ الماء يَأْسِنُ، ويَأْسُنُ أسْناً وأُسُوناً فهو آسِن، وأسِنَ يَأْسَنُ أسَناً وهو أسِن؛ إذا تغيّر (3) .
فمن قرأ: " آسن " على وزن فاعل، فهو اسم الفاعل من أَسَنَ يَأْسِنُ، كضَارب، من ضَرَبَ يَضْرِبُ.
ومن قرأ: " أسِن " على وزن فَعِل ، فهو من أسِنَ يَأْسَنُ كحَذِرَ ، من حَذِرَ يَحْذَرُ.
وقال مكي (4) : من قصر جعله اسم فاعل على "فَعِل"؛ لأنه غير متعدّ إلى مفعول؛ كحَذِر، وهو قليل. ومن مَدَّ بناه على فاعل، وهو الأكثر في فَعِلَ يَفْعَلُ، نحو: جَهِلَ يَجْهَلُ فهو جاهل، وعَلِمَ يَعْلَمُ فهو عالم.
قوله تعالى: { وأنهار من لبن } ، ثم وصفه فقال: { لم يتغير طعمه } يريد: كما تتغير ألبان الدنيا، { وأنهار من خمر لذة للشاربين } سبق تفسيره في الصافات عند قوله تعالى: { يطاف عليهم بكأس من معين } [الصافات:45].
قال الزمخشري (5) : قرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفة الخمر،
__________
(1) ... في الأصل: نمت. والتصويب من الكشاف (4/324).
(2) ... انظر البيت في الكشاف (4/324)، والقرطبي (10/22).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: أسن).
(4) ... الكشف (2/277).
(5) ... الكشاف (4/325).(1/339)
والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة، أي: لأجل لذة الشاربين.
قوله تعالى: { وأنهار من عسل مصفى } أي: ليس فيه عَكَر ولا كَدَر ولا شمع كعسل الدنيا. يشير بذلك إلى سلام لبن الجنة وخمرها وعسلها من الأقذاء والأكدار الملازمة لما في الدنيا من ذلك، بل هو لبن لم تشتمل عليه بطون اللقاح، وخمر لم تعصره الأقدام، وعسل لم تَجْرسه النحل.
{ ولهم } أي: للمتقين { فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم } لذنوبهم السالفة، { كمن هو خالد في النار } .
قال الزجاج (1) : المعنى: أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء، كمن زيّن له سوء عمله، وهو خالدٌ في النار.
وقال الفراء (2) : أراد: من كان من أهل النعيم كمن هو خالد في النار.
وقال غيره: وقع التشبيه على ما في الضمير، يقول: أمن هو في هذه الجنة الموصوفة، كمن هو خالد في النار؛ لأن قوله: { ولهم فيها من كل الثمرات } يؤذن بأنهم فيها.
وقال الزمخشري (3) : هو كلام في صورة الإثبات، ومعنى النفي والإنكار؛ لانطوائه تحت [حكم] (4) كلام مصدر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وهو قوله: { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله }
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/10).
(2) ... معاني الفراء (3/60).
(3) ... الكشاف (4/323-324).
(4) ... زيادة من الكشاف (4/324).(1/340)
[محمد:14] كأنه قيل له: [أمثل] (1) الجنة كمن هو خالد في النار، أي: كمثل جزاء من هو خالد في النار.
قال (2) : و"مثل الجنة": مبتدأ، وخبره: "كمن هو خالد". وقوله تعالى: { فيها أنهار } داخل في حكم الصلة كالتكرير لها، ألا ترى إلى صحة قولك: التي فيها أنهار. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي فيها أنهار، أو كأن قائلاً يقول: وما مثلها؟ فقيل له: فيها أنهار. وأن يكون في موضع الحال، أي: [مُستقرة] (3) فيها أنهار.
قوله تعالى: { وسقوا ماءً حميماً } سبق تفسيره، { فقطع أمعاءهم } جمع، واحده: مِعىً، مثل: قَفَا وأقْفَاء، وإِنَى وآناء.
Nهk÷]دBur مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى
__________
(1) ... في الأصل: مثل. والمثبت من الكشاف (4/324).
(2) ... أي: الزمخشري في الكشاف.
(3) ... في الأصل: مفسرة. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/341)
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ اتزب
قوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك } يعني: المنافقين كانوا يحضرون(1/342)
مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسمعون خطبته وحديثه ولا يعون ما يقول، ولا يلقون له بالاً؛ تهاوناً منهم به.
فإن قيل: "مِنْ" في قوله: "ومنهم" ما هي؟
قلتُ: "مِنْ" التي للتبعيض، أي: ومن الكفار. وقد تقدم ذكرهم في مواضع من أول السورة إلى هاهنا.
أو يكون المعنى: ومن هؤلاء المحكوم عليهم المخلدون في النار من يستمع إليك.
فإن قيل: هلاّ قال: ومنهم من يسمع، ليكون مطابقاً لحالهم، فإنهم كانوا يسمعون ولا يستمعون؟
قلتُ: أراد تحقيق نفاقهم وأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم يشاركونهم في استماع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والإصغاء إلى ما يقوله.
{ حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم } من أصحابك جرياً على عادتهم من النفاق واتهاماً لهم أنهم قوم شأنهم ضبط ما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحفظه وإتقانه { ماذا قال آنفاً } ولهذا المعنى خصوا بسؤالهم أولي العلم.
وهذان الدخلان والجواب عنهما والتقرير التالي لهما ما علمت أن أحداً من المفسرين ذكره، غير أن الإمام أبا الفرج ابن الجوزي رحمه الله قال (1) : وفي استفهامهم قولان:
أحدهما: أنهم لم [يعقلوا] (2) ما قال. ويدل عليه باقي الآية.
__________
(1) ... زاد المسير (7/402).
(2) ... في الأصل: يعقوا. والتصويب من زاد المسير (7/402).(1/343)
والثاني: أنهم قالوه استهزاء.
قرأ عكرمة وحميد وابن محيصن: "أَنِفاً" بقصر الهمزة، على وزن فَعِل. وبها قرأتُ لابن كثير من رواية ابن فرح عن البزي عنه (1) . وانتصابه على الظرف (2) .
والمعنى: ماذا قال الساعة.
قال الزجاج (3) : هو من قولك: استأنفت الشيء؛ إذا ابتدأتُه، وروضةٌ أُنُفٌ؛ [إذا] (4) لم تُرْعَ [بعد] (5) ، أي: لها أولٌ يُرعى.
والمعنى: ماذا قال في أول وقتٍ يقرُب منا.
قوله تعالى: { والذين اهتدوا } يريد: المؤمنين { زادهم هدى } أي: زادهم الله تعالى هدى.
وقيل: زادهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: زادهم استهزاء المنافقين هدى.
{ وآتاهم تقواهم } وقرأ ابن مسعود والأعمش: "[وأعطاهم] (6)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/403)، والنشر (2/374)، والإتحاف (ص:393-394)، والسبعة (ص:600).
(2) ... وأنكر أبو حيان في البحر (8/79) أن يكون منصوباً على الظرف، قال: والصحيح أنه ليس بظرف، ولا نعلم أحداً من النحاة عدّه في الظروف.
(3) ... معاني الزجاج (5/10). وانظر: اللسان (مادة: أنف).
(4) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(5) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: وأنطاهم. وانظر: المصادر التالية.(1/344)
تقواهم" (1) . والمعنى: أعانهم عليها.
وقال السدي: بَيَّن لهم ما يتقون (2) .
وقال أبو سليمان الدمشقي: أعطاهم التقوى مع الهدى، فاتقوا معصيته خوفاً من عقوبته (3) .
وقال سعيد بن جبير: المعنى: وآتاهم جزاء تقواهم (4) .
قوله تعالى: { فهل ينظرون إلا الساعة } أي: هل ينتظرون إلا الساعة، وقوله تعالى: { أن تأتيهم } بدل اشتمال من "الساعة" (5) .
قال الزجاج (6) : هذا من البدل المشتمل على الأول في المعنى، وهو نحو قوله: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم } [الفتح:25] المعنى: لولا أن تطؤؤا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات.
وقرأ أبي بن كعب وأبو الأشهب وحميد: "إنْ" بكسر الهمزة، ["تأتهم"] (7) بغير ياء بعد التاء (8) ، على استئناف الشرط والجزاء، والوقف على "الساعة".
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (4/325)، والقرطبي (16/240).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/239)، والماوردي في تفسيره (5/298) عن ابن زياد.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/403).
(4) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/181).
(5) ... انظر: التبيان (2/237)، والدر المصون (6/152).
(6) ... معاني الزجاج (5/11).
(7) ... في الأصل: تأتيهم. وانظر: المصادر التالية.
(8) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/403)، والدر المصون (6/152).(1/345)
قالوا: وكذلك هي في مصاحف أهل مكة. وجزاء الشرط قوله تعالى: { فأنى لهم } على معنى: أن تأتيهم الساعة فكيف لهم ذكراهم واتعاظهم وقد انقضت مدة التكليف؟. و"أشراطها": علاماتها.
قال المفسرون: ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامتها، وانشقاق القمر، والدخان، وغير ذلك (1) .
وقال ابن السائب: كثرة المال والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلّة الكرام، وكثرة اللئام (2) .
قوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله } خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد غيره، كما قررناه في مواضع. أو يكون المعنى: دُم على عملك.
{ واستغفر لذنبك } أي: اطلب المغفرة مني تواضعاً لي، وهضماً لنفسك، وخضوعاً لعزتي، واعترافاً بتقصيرك، مع كونك أكرم [الخلق] (3) عليّ وأكملهم لديّ بالنسبة إلى عظمتي، وما يجب لي عليك من مقابلة إحساني إليك.
{ وللمؤمنين } أي: واطلب مني المغفرة لمن تبعك على دينك من المؤمنين { والمؤمنات } .
{ والله يعلم متقلبكم ومثواكم } قال ابن عباس: "متقلبكم": منصرفكم
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/403).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/240).
(3) ... في الأصل: الحق. والصواب ما أثبتناه.(1/346)
لاشتغالكم بالنهار، "ومثواكم": مضجعكم بالليل للنوم (1) .
وقال عكرمة: "متقلبكم": من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، "ومثواكم": مقامكم في الأرض (2) .
وقال ابن كيسان: "متقلبكم": من ظهر إلى بطن، "ومثواكم": متقلبكم في القبور (3) .
والمقصود من ذلك: الحث على الخوف وطلب المغفرة من الله الذي لا يخفى عليه شيء من أحوال [الخلق] (4) .
قال سفيان بن عيينة وقد سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به فقال: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } فأمر بالعمل بعد العلم وقال: { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } [الحديد:20] إلى قوله: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } [الحديد:21] وقال: { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } [الأنفال:28] ثم قال بعد: { فاحذروهم } [التغابن:14]، [وقال تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ثم أمر بالعمل بعد] (5) .
مAqà)tƒur ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن ںwِqs9 ôMs9جh"çR
__________
(1) ... ذكره الطبري (26/54)، والماوردي (5/300).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/405).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/243)، والبغوي (4/183).
(4) ... في الأصل: الحق. والصواب ما أثبتناه.
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/242). وما بين المعكوفين زيادة منه.(1/347)
×ou'qك™ !#sŒخ*sù ôMs9ج"Ré& ×ou'qك™ ×pyJs3ّt'C tچد.èŒur $pkژدù مA$tFة)ّ9$# |M÷ƒr&u' tûïد%©!$# 'خû Nحkح5qè=è% ضعtچ¨B tbrمچفàZtƒ y7ّs9خ) tچsàtR ؤcسإ´َّyJّ9$# دmّn=tم z`دB دNِqyJّ9$# 4'n<÷rr'sù َOكgs9 اثةب ×ptم$sغ ×Aِqs%ur ش$rمچ÷è¨B #sŒخ*sù tPt"tم مچّBF{$# ِqn=sù (#qè%y‰|¹ ©!$# tb%s3s9 #Zژِچyz ِNçl°; اثتب ِ@ygsù َOçFّٹ|،tم bخ) ÷Lنêّٹ©9uqs? br& (#rك‰إ،ّےè? 'خû اعِ'F{$# (# qمèدeـs)è?ur ِNن3tB$ymِ'r& اثثب y7ح´¯"s9'ré& tûïد%©!$#(1/348)
مNكgoYyès9 ھ!$# ِ/àS£J|¹r'sù #'yJôمr&ur ِNèdtچ"|ءِ/r& اثجب
قوله تعالى: { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } قال المفسرون: [كان] (1) المسلمون يقولون اشتياقاً إلى الوحي وحرصاً على الجهاد: لولا، أي: هلاّ.
وكان أبو مالك الأشجعي يقول: "لا" صلة. والتقدير: لو نزلت سورة (2) .
{ محكمة } أي: مبينة، { وذكر فيها القتال } الأمر بالجهاد ذكراً محكماً [لا يحتمل من التأويل] (3) إلا وجهاً واحداً وهو وجوب القتال.
{ رأيت الذين في قلوبهم مرض } قال ابن [عباس] (4) : نفاق (5) ، { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } أي: تشخص أبصارهم جُبْناً وهلعاً، كما ينظر المغشي عليه عند نزول الموت به.
{ فأولى لهم } هذا وعيد لهم وتهديد، وهو أفعل، من الولي، وهو القرب.
وقال الأصمعي: معناه: وليك وقاربك ما تكره (6) .
__________
(1) ... في الأصل: كا.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/405).
(3) ... في الأصل: لاحتمل من التوائل. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4) ... زيادة على الأصل. وانظر: زاد المسير (7/405).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/405).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/126)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/406).(1/349)
ثم ابتدأ فقال تعالى: { طاعة وقول معروف } قال الخليل وسيبويه (1) : المعنى: طاعة وقولٌ معروف أمثل.
وقيل: هذا حكاية قولهم، أي: قالوا طاعة، أي: أمرنا طاعة وقول معروف. ويؤيده قراءة أبي بن كعب: "يقولون طاعة" (2) .
وذكر بعض المفسرين أنه متصل بما قبله (3) .
والمعنى: فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفاً.
قوله تعالى: { فإذا عزم الأمر } قال الحسن: جَدَّ. والعزم والجد لأصحاب الأمر، وإسناده إليه إسناد مجازي (4) . وقد سبق نظيره في سورة لقمان (5) .
والمعنى: فإذا جَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في القتال وتلبسوا به.
{ فلو صدقوا الله } أي: فلو صدقوا في الإيمان والجهاد وواطأت قلوبهم ألسنتهم { لكان خيراً لهم } .
وقوله تعالى: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } قال الزجاج (6) : "عَسَيْتُم" بفتح السين.
وقرأ نافع: "عَسِيتُم" (7) . واللغة الجيدة العالية (8) : "عَسَيْتُم" بفتح السين، ولو
__________
(1) ... انظر: الكتاب (1/141).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/81)، والكشاف (4/327).
(3) ... انظر: القرطبي (16/244)، وزاد المسير (7/406).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/406). وانظر: الكشاف (4/327).
(5) ... عند الآية رقم: 17.
(6) ... معاني الزجاج (5/13).
(7) ... الحجة لابن زنجلة (ص:139)، والكشف (1/303)، والنشر (2/230)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:394).
(8) ... في معاني الزجاج: البالغة.(1/350)
جاز "عَسِيتُم" لجاز أن يقال: "عَسِيَ ربكم أن يرحمكم".
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء ليعقوب من رواية رويس عنه: "تُوُلِّيتم" بضم التاء والواو وكسر اللام (1) ، وهي قراءة علي عليه السلام.
وقرأتُ عليه ليعقوب: "وتَقْطَعُوا" بفتح التاء وسكون القاف والتخفيف (2) .
واختلفوا في المخاطبين بذلك؛ فقيل: هم المنافقون، وهو الظاهر.
وقال ابن حيان: هم قريش (3) .
وقال بكر بن عبدالله المزني: الخوارج (4) .
وقال مقاتل (5) : منافقوا اليهود.
فعلى [هذا] (6) القول يكون من خطاب التلوين؛ لأنه كان يخبر عن المنافقين.
ثم التفت إليهم موبخاً لهم فقال: { فهل عسيتم إن توليتم } أي: أعرضتم
__________
(1) ... النشر (2/374)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:394).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الماوردي (5/302)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/407) حكاية عن الماوردي.
(4) ... ذكره الماوردي (5/302)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/407).
(5) ... تفسير مقاتل (3/238).
(6) ... زيادة على الأصل.(1/351)
عن دين الإسلام، وأظهرتم الرجوع إلى عبادة الأصنام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد في الأرض بالإغارة والنهب، وقطيعة الأرحام بالمقاتلة، ووأد البنات.
أو يكون المعنى: فهل عسيتم إن تأمرتم وتوليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بالجور والظلم وقطيعة الرحم. وهذا المعنى أكثر ما جاء في التفسير، وهو الذي يقتضيه قول ابن حيان وبكر، وعليه تدل الأحاديث والآثار.
والمعنى على قراءة علي عليه السلام: فهل عسيتم إن توليتكم ولاة ظلمة أن تفسدوا في الأرض بالخروج والقتال معهم، والإعانة لهم.
وأخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان (1) قال: حدثني معاوية بن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذاك. قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } )) (2) .
__________
(1) ... هو ابن بلال التيمي القرشي. تقدمت ترجمته.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1828 ح4552).(1/352)
وبهذا الإسناد قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن حمزة (1) ، حدثنا حاتم (2) ، عن معاوية قال: حدثني عمي أبو الحباب سعيد بن يسار، عن أبي هريرة بهذا ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اقرؤوا إن شئتم: { فهل عسيتم } )) (3) .
وبه قال البخاري: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أخبرنا معاوية بن أبي المزرد بهذا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اقرؤوا إن شئتم: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } )) (4) .
قلتُ: وعبدالله هو الإمام ابن المبارك، واسم أبي مزرد: عبد الرحمن بن يسار، يُعدّ في أهل المدينة.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أعمال بني آدم تعرض على الله عشية كل خميس، فلا يقبل عمل قاطع رحم)) (5) .
وفي حديث عبدالله بن أبي أوفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الرحمة لا تنزل
__________
(1) ... إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام المدني، أبو إسحاق، ثقة صدوق، كان يأتي الربذة كثيراً فيقيم بها ويتّجر بها، ويشهد العيدين بالمدينة، مات سنة ثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/101، والتقريب ص:89).
(2) ... حاتم بن إسماعيل المدني مولاهم، أبو إسماعيل، كان ثقةً مأموناً، كثير الحديث، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 2/110، والتقريب ص:144).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1828 ح4552).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1828 ح4552).
(5) ... أخرجه أحمد (2/483 ح10277)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/224 ح7965).(1/353)
على قوم فيهم قاطع رحم)) (1) .
وحديث أبي بكرة مذكور في سورة يونس عند قوله: { إنما بغيكم على أنفسكم } [يونس:23]، وقد سبق في أثناء كتابنا جملة من الأحاديث والآثار الحاضة على صلة الأرحام في البقرة عند قوله: { وبالوالدين إحساناً وذي القربى } ، وفي سورة الرعد (2) وغيرهما من المواضع، فتطلب ذلك وأمثاله في مظانه.
قوله تعالى: { أولئك } إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم { الذين لعنهم الله } أبعدهم عن كل خير لإفسادهم وقطعهم الأرحام، { فأصمّهم } عن سماع الحق والهدى { وأعمى أبصارهم } عن النظر إليه.
ںxsùr& tbrمچ/y‰tGtƒ ڑc#uنِچà)ّ9$# ôQr& 4'n?tم A>qè=è% !$ygن9$xےّ%r& اثحب ¨bخ) ڑْïد%©!$# (#r'‰s?ِ'$# #'n?tم Oدdجچ"t/÷ٹr& .`دiB د‰÷èt/ $tB tû¨üt7s? قOكgs9 "y‰كgّ9$# ك`"sـّO±9$#
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/223 ح7962).
(2) ... عند الآية رقم: 21.(1/354)
tAqy™ ِNكgs9 4'n?ّBr&ur َOكgs9 اثخب ڑپد9؛sŒ َOكg¯Rr'خ/ (#qن9$s% ڑْïد%©#د9 (#qèdجچx. $tB ڑ^¨"tR ھ!$# ِNà6مèدمZy™ 'خû اظ÷èt/ جچّBF{$# ھ!$#ur قOn=÷ètƒ إِسْرَارَهُمْ اثدب y#ّs3sù #sŒخ) قOكg÷F©ùuqs? èps3ح´¯"n=yJّ9$# ڑcqç/خژôطtƒ َOكgydqم_مr ِNèdtچ"t/÷ٹr&ur اثذب ڑپد9؛sŒ قOكg¯Rr'خ/ (#qمèt7¨?$# !$tB xفy‚َ™r& ©!$# (#qèdجچں2ur ¼çmtR؛uqôتح' xفt7ômr'sù َOكgn="yJôمr& اثرب
{ أفلا يتدبرون القرآن } يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر وأخبار ما كان ويكون، وما فيه من الدلائل بصدقك وشواهد رسالتك، { أم(1/355)
على قلوب أقفالها } "أمْ" بمعنى: بل. [وهمزة التقرير] (1) للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا [يتوصل إليها] (2) شيء من الهدى والمواعظ. وإنما نكّر القلوب؛ لأنه أراد أم على قلوب قاسية، أو أراد: [على] (3) بعض القلوب، وهي قلوب المنافقين. وإضافة الأقفال إليها إضافة تخصيص، أي: أقفالها المختصة بها، وهي أقفال الكفر والنفاق المبهمة التي لا يقدر على فتحها إلا الله تعالى.
قال خالد بن معدان: ما من الناس إلا من له أربعة أعين؛ عينان في وجهه لدنياه ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب، وما من أحد إلا ومعه شيطان مستبطن فقار ظهره عاطف عنقه على عاتقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيراً بصرت عيناه التي في قلبه، وما وعد الله تعالى من الغيب، وإذا أراد الله بعبد شراً طمس عليها، فذلك قوله: { أم على قلوب أقفالها } (4) .
قوله تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي: رجعوا إلى الكفر.
قال ابن عباس: هم المنافقون (5) .
وقال قتادة ومقاتل (6) : هم اليهود.
__________
(1) ... في الأصل: والهمزة للتقرير. والمثبت من الكشاف (4/328).
(2) ... في الأصل: يصل إليهم. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (26/57). وذكره السيوطي في الدر (7/502) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(5) ... أخرجه الطبري (26/58). وذكره السيوطي في الدر (7/503) وعزاه لابن جرير.
(6) ... أخرجه الطبري (26/58). وذكره مقاتل (3/239)، والماوردي (5/302).(1/356)
{ من بعد ما تبين لهم الهدى } أي: من بعد ما وضح الحق { الشيطان سوّل لهم } جملة من مبتدأ وخبر، وهذه الجملة خبر "إنَّ"، كقولك: إن زيداً عَمْرو ضربه.
والمعنى: الشيطان زين لهم ركوب العظائم.
قرأ أبو عمرو وزيد عن يعقوب: "وأُمْلِيَ" بضم الهمزة وكسر اللام وياء بعد اللام مفتوحة. وقرأ [يعقوب] (1) إلا زيداً وأبان عن عاصم كأبي عمرو، إلا أنهما سكّنا الياء. وقرأ باقي العشرة بفتح الهمزة واللام وألف بعدها (2) .
فأبو عمرو جعله فعلاً ماضياً لم يُسَمَّ فاعله، وهو الله تعالى، بدليل قوله: { وأملي لهم إن كيدي متين } [الأعراف:173]، وقوله: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [آل عمران:178]، وقوله: { فأمليت للكافرين } [الحج:44]، وقوله: { فأمليت للذين كفروا } [الرعد:32]، ويعقوب جعله مثل قوله: { وأملي لهم إن كيدي متين } [الأعراف:183] فيكون إخباراً من الله عن نفسه جلَّت عظمته، على معنى: وأنا أملي لهم، والباقون جعلوه فعلاً ماضياً والفاعل هو الله تعالى؛ كما قدمنا ذكره.
وقيل: الشيطان، على معنى: سوّل لهم ومَدَّ لهم في الأماني الباطلة والآمال الخائبة، حتى ماتوا على كفرهم.
__________
(1) ... زيادة على الأصل. وانظر: زاد المسير (7/409).
(2) ... الحجة للفارسي (3/404)، والحجة لابن زنجلة (ص:667-668)، والكشف (2/277-278)، والنشر (2/374)، والإتحاف (ص:394)، والسبعة (ص:600-601).(1/357)
والصحيح: أن الفاعل هو الله تعالى، فيكون الوقف حَسَناً على قوله: { سوَّل لهم } على اختلاف القراءات، إلا إذا قلنا: الفاعل هو الشيطان.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله } قال الزجاج (1) : الأمر ذلك، أي: ذلك الإضلال، يقول الذين ارتدوا على أدبارهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر.
فإن قلنا: إن الذين ارتدوا هم المنافقون، فالمعنى: قالوا للذين كرهوا ما نزل الله -وهم اليهود-: سنطيعكم في بغض محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والقعود عن نصرته. وهذا قول الضحاك والسدي (2) .
وإن قلنا: "إن الذين ارتدوا": هم اليهود، فالمعنى: قالوا للذين كرهوا ما نزل الله -وهم المنافقون-: سنطيعكم [في] (3) الأمر فنكتم ما علمناه من نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . قاله ابن جريج (4) .
وكانوا قالوا ذلك سراً فأفشاه الله تعالى عليهم وتوعدهم فقال تعالى: { والله يعلم إسرارهم } .
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "إسرارهم" بكسر الهمزة، وفتحها الباقون (5) .
فمن كسرها جعله مصدراً، من أسَرَّ يُسِرُّ [إسراراً] (6) ، ومن فتحها جعله
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/14).
(2) ... ذكره الماوردي (5/303)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/409) كلاهما عن السدي.
(3) ... زيادة من الماوردي (5/303).
(4) ... ذكره الماوردي (5/303)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/409).
(5) ... الحجة للفارسي (3/406)، والحجة لابن زنجلة (ص:669)، والكشف (2/278)، والنشر (2/374)، والإتحاف (ص:394)، والسبعة (ص:601).
(6) ... في الأصل: إسراً.(1/358)
جمع سِرٍّ، كعِدْلٍ وأعْدَال.
قال أبو علي (1) : كأنه السر، وإن كان مصدراً لاختلاف ضروبه،
[وجميع] (2) الأجناس يحسن جمعها مع الاختلاف. ولما كان السر يتناول جميع ضروبه أُفْرِدَ مرة وجُمِعَ أخرى.
والآية التي بعدها مفسرة في الأنفال (3) .
قوله تعالى: { ذلك } أي: ذلك الجزاء وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } من خالف نبيه وما خالف بشريعته، { وكرهوا رضوانه } وقرأ أبو بكر عن عاصم: "رُضوانه" بضم الراء (4) . وقد ذكرناه في أوائل آل عمران (5) .
قال المفسرون: كرهوا الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
÷Pr& |=إ،ym ڑْïد%©!$# 'خû Oخgخ/qè=è% يعtچ¨B br& `©9 ylجچّƒن† ھ!$# ِNهks]"tَôتr&
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/406).
(2) ... في الأصل: وجمع. والتصويب من الحجة (3/406).
(3) ... عند الآية رقم: 50.
(4) ... الحجة لابن زنجلة (ص:669)، والنشر (2/238)، والإتحاف (ص:394)، والسبعة (ص:202).
(5) ... عند الآية رقم: 15.(1/359)
اثزب ِqs9ur âن!$t±nS َOكgs3"oY÷ƒu'V{ OكgtGّùtچyèn=sù َOكg"yJإ،خ0 َOكg¨Ysùجچ÷ètGs9ur 'خû ا`َss9 ةAِqs)ّ9$# ھ!$#ur قOn=÷ètƒ ِ/ن3n="yJôمr& اجةب ِNن3¯Ruqè=ِ7uZs9ur 4س®Lym zOn=÷ètR tûïد‰خg"yfكJّ9$# َOن3ZدB tûïخژة9"¢ء9$#ur (#uqè=ِ7tRur ِ/ن.u'$t6÷zr& اجتب
قوله تعالى: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } أي: شكٌّ ونفاق { أن لن يخرج الله أضغانهم } أي: أن لن يبرز الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين أحقادهم الكامنة في صدورهم.
{ ولو نشاء لأريناكهم } قال الزجاج (1) : لعرَّفناكَهُم. تقول: قد أريتَكَ هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه. المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/15).(1/360)
{ فلعرفتهم بسيماهم } أي: بتلك العلامة { ولتعرفنهم في لحن القول } . قال الكلبي: في كذب القول (1) .
قال المفسرون: المعنى: ولتعرفنهم في مقصد كلامهم وفحواه، فإنهم يتعرضون [بتهجين] (2) أمرك والاستهزاء بدينك (3) .
وقال بعضهم (4) : اللَّحْن: أن تلحن بكلامك، أي: [تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له] (5) صاحبك، وذلك من أثر القدرة على التصرف في الكلام، والأخذ في أساليبه، وأنشدوا:
لقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب (6)
وقال آخر:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/304).
(2) ... في الأصل: يتجهيز. والمثبت من زاد المسير (7/411).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/411).
(4) ... هو الزمخشري، انظر: الكشاف (4/330).
(5) ... في الأصل: تمليه إلى نحو من الإيحاء ليفطن به. والتصويب من الكشاف (4/330).
(6) ... البيت للقتال الكلابي. انظر: ديوانه (ص:36)، واللسان (مادة: لحن)، والبحر (8/73)، والدر المصون (6/157)، والقرطبي (16/253).
... ولفظهم:
... ... ... ولقد وميت لكم لكيما تفهموا ... ... ولحنت لحناً ليس بالمرتاب
... وانظر البيت بنفس لفظ المصنف في: الكشاف (4/330).(1/361)
وحديثٌ ألذه هو [مما] (1) ... تشتهيه النفوس [يُوزن] (2) وزنا
منطِقٌ [صائب] (3) وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا (4)
[أي] (5) : تارة تأتي بالكلام على وجهه صائباً مسدوداً، وأخرى تحرّف فيه وتلحن، أي: تعدل على الجهة الواضحة متعمدة لذلك تلعباً بالقول، ومنه الحديث: ((لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته)) (6) ، أي: أنهض بها وأحسن تصرفاً فيها.
وبهذا التقدير يجوز أن يكون المراد: ولتعرفنهم في لحن القول الصادر ما ينبهه على أنه يوحى إليه في فحوى الكلام ما يستدل به عليهم.
والأول هو المعروف في التفسير.
قال الزجاج (7) : دلّ بهذا -والله أعلم- أن قول القائل وفعله قد يدل على نيته.
__________
(1) ... في الأصل: ما. والتصويب من مصادر تخريج البيت.
(2) ... في الأصل: وزنا فوس. والتصويب من مصادر تخريج البيت.
(3) ... في الأصل: صالب. والتصويب من مصادر تخريج البيت.
(4) ... البيتان لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري، انظر: اللسان (مادة: لحن)، والقرطبي (16/253)، وزاد المسير (7/411)، والبحر (8/73)، والدر المصون (6/157)، وروح المعاني (26/77).
(5) ... في الأصل: وأي.
(6) ... أخرجه البخاري (6/2555 ح6566)، ومسلم (3/1337 ح1713).
(7) ... معاني الزجاج (5/15).(1/362)
قال ابن جرير (1) : ثم بعد عرفه الله إياهم.
قال الزمخشري (2) : إن قلت: أي فرق بين اللامين في "فلعرفتهم" و"لتعرفنهم"؟
قلتُ: الأولى هي داخلة في جواب "لو" كالتي في "لأريناكهم" كررت في المعطوف، وأما اللام في "ولتعرفنهم" فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف.
قوله تعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } أي: ولنعاملنكم معاملة المبتلي، أي: المختبر، حتى نعلم علماً يتعلق به الجزاء [للمجاهدين] (3) منكم في سبيله، والصابرين على مشاق تكاليفنا.
{ ونبلُوَا } وقرأ يعقوب: "ونبلُوا" بسكون الواو (4) ، على معنى: ونحن نبلوا.
{ أخباركم } أي: نختبركم بالتكليف اختباراً يكشف للمؤمنين أحوالكم وضمائركم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "وليبلونكم حتى يعلم"، "ويبلوا" بالياء فيهن (5) .
سمعت شيخنا أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد رضي الله عنه يقول:
__________
(1) ... تفسير الطبري (26/60).
(2) ... الكشاف (4/330).
(3) ... في الأصل: المجاهدين. وبما أثبتناه يستقيم المعنى.
(4) ... النشر (2/375)، والإتحاف (ص:394).
(5) ... الحجة للفارسي (3/406)، والحجة لابن زنجلة (ص:670)، والكشف (2/278)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:394)، والسبعة (ص:601).(1/363)
قال إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت فضيلاً -يعني: ابن عياض- بليلة وهو يقرأ سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبكي ويردد هذه الآية: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } ، وجعل يقول: وتبلوا أخبارنا، إن بلوتَ أخبارنا فضحتنا، وهتكت أستارنا، إن بلوتَ أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا (1) .
وسمعته يقول: تزينتَ للناس وتصنعتَ لهم وتهيأتَ لهم، ولم تزل ترائي حتى عرفوك، فقالوا: رجل صالح، فقضوا لك الحوائج، [ووسعوا] (2) لك في المجلس، وعظموك خيبة لك، ما أسوأ حالك إن كان هذا شأنك (3) .
وسمعته يقول: إن قدرتَ أن لا تُعرف فافعل، وما عليك أن [لا] (4) تعرف، وما عليك إن لم يُثْنَ عليك، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً (5) .
¨bخ) z`ƒد%©!$# (#rمچxےx. (#r'‰|¹ur `tم ب@خ6y™ "!$# (#q-%!$x©ur tAqك™چ9$#
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/236 ح10143). وذكره أبو نعيم في حلية الأولياء (8/111).
(2) ... في الأصل: وسمعوا. والمثبت من حلية الأولياء (8/111).
(3) ... ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء (8/111).
(4) ... زيادة من الزهد للبيهقي (2/100).
(5) ... أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/100 ح148)، وذكره أبو نعيم في الحلية (8/88).(1/364)
.`دB د‰÷èt/ $tB tû¨üt7s? مNكgs9 3"y‰çlù;$# `s9 (#roژغطtƒ ©!$# $\"ّx© نفخ6َsمٹy™ur َOكgn="yJôمr& اجثب * $pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (# qمZtB#uن (#qمèدغr& ©!$# (#qمèدغr&ur tAqك™چ9$# ںwur (# qè=دِ7è? ِ/ن3n="uHùهr& اججب ¨bخ) tûïد%©!$# (#rمچxےx. (#r'‰|¹ur `tم ب@خ6y™ "!$# NèO (#qè?$tB ِNèdur ض'$Oےن. `n=sù tچدےَّtƒ ھ!$# َOçlm; اجحب ںxsù (#qمZخgs? (# qممô‰s?ur 'n<خ) ةOù=،،9$# قOçFRr&ur tbِqn=ôمF{$# ھ!$#ur ِNن3yètB `s9ur َOن.uژدItƒ ِNن3n="uHùهr&(1/365)
اجخب
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } قال ابن عباس: نزلت في المطعمين يوم بدر (1) .
وقال مقاتل (2) : في اليهود.
وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير (3) .
{ وسيحبط أعمالهم } التي يرجون بها الثواب.
وقيل: وسيحبط أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الإسلام وأهله.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } يحتمل عندي: أن يكون هذا خطاباً للمنافقين، فتكون منتظمة في سلك ما قبلها من الآيات المساوقة في المنافقين، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم جهراً، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول سراً كما أطعتموه جهراً، { ولا تبطلوا أعمالكم } من الجهاد والصلاة والصوم وغيرها من العبادات بالنفاق والكفر، فإنه لا يتقبل معهما عمل.
والذي عليه عامة المفسرين: أنها خطاب للمؤمنين.
واختلفوا في قوله: "ولا تبطلوا أعمالكم"؛ فقال الحسن: ولا تبطلوها
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/412).
(2) ... تفسير مقاتل (3/240).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/129)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/412) عن الواحدي.(1/366)
بالمعاصي والكبائر (1) .
وقال قتادة: الشر ينسخ الخير، والخير ينسخ الشر، والأعمال بخواتيمها (2) .
ويروى عن حذيفة في هذه الآية أنه قال: من أتى كبيرة مما أوعد الله تعالى عليها النار حطت ما قبلها من حسناته.
وقال مقاتل (3) : لا تبطلوها بالمن. وذلك أن قوماً أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتيناك طائعين فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا } [الحجرات:17].
وقال ابن السائب: لا تبطلوها بالرياء والسمعة (4) .
وهذا والذي قبله هو التفسير الصحيح.
ومن تصفح كتاب الله واستقرأ سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حصل له العلم والجزم بأن الحسنات يذهبن السيئات، ولا كذلك بالعكس، فإن الحسنات لا يذهبها بعد القضاء بكونها حسنات إلا الكفر، والمن والأذى، وهذا هو الأليق بفضل الله تعالى ورحمته، والأشبه بعدله جل وعز، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام حين قال له: ((أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية، فقال له عليه
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/306)، والواحدي في الوسيط (4/129)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/412).
(2) ... أخرجه الطبري (26/62). وذكره السيوطي في الدر (7/504) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... تفسير مقاتل (3/241).
(4) ... ذكره الماوردي (5/306)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/412).(1/367)
الصلاة والسلام: أسلمتَ على [ما] (1) سلف لك من خير)) (2) .
فلم يجعل كفره ومعاصيه مبطلة لتلك الأعمال الصالحة الموجودة منه حال كفره.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: هذه الآية تدل على أن من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما الصلاة والصيام فهو على سبيل الاستحباب (3) .
قوله تعالى: { فلا تهنوا } أي: لا تضعفوا { وتدعوا إلى السَّلْم } وقرأ حمزة وأبو بكر: "السِّلْم" بكسر السين (4) ، أي: لا تدعو الكفار ابتداء الصلح. وقد ذكرنا السَّلم في الأنفال (5) وغيرها.
قال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها في طلب الموادعة (6) .
{ وأنتم الأعلون } يجوز أن تكون الواو حالية. ويجوز أن تكون إخباراً خارجاً مخرج البشارة لهم بالاستعلاء والنصر على الأعداء.
__________
(1) ... زيادة من الصحيحين.
(2) ... أخرجه البخاري (2/773 ح2107)، ومسلم (1/113 ح123).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/413).
(4) ... الحجة للفارسي (3/407)، والحجة لابن زنجلة (ص:670)، والكشف (2/279)، والنشر (2/227)، والإتحاف (ص:395)، والسبعة (ص:601).
(5) ... عند الآية رقم: 61.
(6) ... أخرجه الطبري (26/63). وذكره السيوطي في الدر (7/505) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.(1/368)
{ والله معكم } بالنصر والمعونة فهو يكفيكم أمرهم، { ولن يتركم أعمالكم } .
قال الزجاج (1) : يُنقصكم شيئاً من ثوابكم.
وأنشد قطرب:
إن تترني من الإجارة شيئاً ... ... لا تفتني على الصراط بحقي (2)
وقال الزمخشري (3) : هو من وَتَرْتُ الرجل؛ إذا [قتلت] (4) له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم، أو حربته. وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله، من الوِتْر، وهو الفرد؛ فشَبَّهَ إضاعة عمل العامل [وتعطيل] (5) ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله)) (6) ، أي: أفرد عنهما [قتلاً] (7) ونهباً.
$yJ¯Rخ) نo4quٹysّ9$# $u÷R'‰9$# ز=دès9 ×qôgs9ur bخ)ur (#qمZدB÷sè?
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/16).
(2) ... انظر البيت في: الماوردي (5/306).
(3) ... الكشاف (4/332).
(4) ... في الأصل: قلت. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: تعطيل. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه البخاري (1/203 ح527)، ومسلم (1/435 ح626).
(7) ... في الأصل: مثلاً. والتصويب من الكشاف (4/332).(1/369)
(#qà)Gs?ur ِ/ن3د?÷sمƒ ِNن.u'qم_é& ںwur ِNن3ù=t"َ،o" ِNن3s9؛uqّBr& اجدب bخ) $ydqكJن3ù=t"َ،o" ِNà6دےَsمsù (#qè=y‚ِ7s? َlجچّƒن†ur ِ/ن3oY"tَôتr& اجذب َOçFRr'¯"yd دنIwàs¯"yd ڑcِqtمô‰è? (#qà)دےZçFد9 'خû ب@خ6y™ "!$# Nà6YدJsù `¨B م@y‚ِ7tƒ `tBur ِ@y‚ِ6tƒ $yJ¯Rخ*sù م@y‚ِ7tƒ `tم ¾دmإ،ّے¯R ھ!$#ur گسح_tَّ9$# قOçFRr&ur âن!#tچs)àےّ9$# cخ)ur (#ِq©9uqtGs? ِAد‰ِ7tFَ،o" $·Bِqs% ِNن.uژِچxî ¢OèO ںw (# qçRqن3tƒ /ن3n="sVّBr& اجرب(1/370)
قوله تعالى: { ولا يسألكم أموالكم } قيل: المعنى: لا يسألكم ربكم أموالكم.
وقيل: المعنى: ولا يسألكم محمد - صلى الله عليه وسلم - أموالكم.
والأول أظهر.
قال الماوردي (1) : المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله. ويفسد هذا المعنى ما بعده.
والصحيح: أن المعنى: لا يسألكم أموالكم كلها، إنما يطلب منكم ربع عشور أموالكم.
{ إن يسألكموها فيحفكم } أي: يجهدكم بالسؤال، والإحْفَاء: المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال: أحْفَاهُ في المسألة؛ [إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح] (2) ، وأحْفَى شاربه: اسْتَأْصَلَه (3) .
{ تبخلوا } جواب الشرط، { ويخرج أضغانكم } معطوف عليه (4) .
وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو: "ويخرج" بالياء والراء. وقرئ: بالتاء، "أضغانكم" بالرفع، لإسناد الفعل إليه (5) .
وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس بتاء مضمومة وفتح الراء، على البناء للمفعول، "أضغانكم" بالرفع (6) .
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/307).
(2) ... زيادة من الكشاف (4/332).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: حفا).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/158).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:395)، وزاد المسير (7/414).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/414)، والدر المصون (6/158).(1/371)
والضمير في "ويخرج" لله عز وجل.
ويؤيده قراءة يعقوب في رواية الوليد عنه: "ونُخْرِج" بالنون وضمها (1) .
وقيل: يخرج البخل أضغانكم.
والمعنى: ويخرج ما في قلوبكم من العداوة والحقد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى: { ها أنتم } مذكور في آل عمران (2) .
{ هؤلاء } قال الزمخشري (3) : هو موصول، بمعنى: الذين، صلته: { تدعون } ، أي: أنتم [الذين] (4) تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون.
ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: ما وصفنا؟ فقيل: تدعون { لتنفقوا في سبيل الله } أي: في الجهاد. وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء [واضطغنتم] (5) أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، { فمنكم من يبخل } بالنفقة في سبيل الله { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } لا يعود ضرر بخله إلا عليه. يقال: بخلت عليه وعنه.
{ والله الغني } عنكم وعن أموالكم { وأنتم الفقراء } إليه.
{ وإن تتولوا } قال قتادة: عن طاعته (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/414-415)، والدر المصون (6/158).
(2) ... عند الآية رقم: 66.
(3) ... الكشاف (4/333).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: واصطعتم. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه الطبري (26/66).(1/372)
وقال مجاهد: عن كتابه (1) .
وقال الكلبي: عن الصدقة (2) .
{ يستبدل قوماً غيركم } على خلاف ما أنتم عليه راغبين في الإيمان والعمل الصالح.
قال مجاهد: يستبدل من سائر الناس قوماً غيركم (3) .
قيل: هم الأنصار. وقيل: الفرس.
قال أبو هريرة: ((لما نزلت: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } كان سلمان إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذ سلمان وقال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً (4) بالثريا لتناوله رجال من فارس)) (5) .
وقيل: هم الملائكة.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/307) عن قتادة.
(2) ... ذكره الماوردي (5/307).
(3) ... أخرج مجاهد في تفسيره (ص:600) قال: يستبدل من يشاء بمن يشاء، والطبري (26/67) ولفظه: يستبدل قوماً غيركم من شاء.
(4) ... منوطاً: أي: معلقاً، يقال: نُطْتُ هذا الأمر به أنُوطُهُ وقد نِيطَ به فهو مَنُوط (اللسان، مادة: نوط).
(5) ... أخرجه الترمذي (5/384 ح3261). وأصله عند مسلم (4/1972 ح2546) ولفظه: لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله.(1/373)
قال الزجاج (1) : هو في اللغة -على ما أتَوَهَّمُ- فيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يقال للملائكة قوم، إنما يقال قوم للآدميين.
وقيل: إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة.
والمعنى -والله أعلم-: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم أطوع له منكم، كما قال تعالى: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ } [التحريم:5] إلى آخر القصة، فلم يتولّ جميع الناس.
{ ثم لا يكونوا أمثالكم } قال ابن جرير (2) : في البخل والإنفاق في سبيل الله.
وقال غيره: في المعصية وترك الطاعة (3) .
المعنى: بل يكونوا خيراً منكم.
ويروى عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: هي أحبُّ إليَّ من الدنيا (4) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/17).
(2) ... تفسير الطبري (26/66).
(3) ... ذكره الماوردي (5/308).
(4) ... ذكره الماوردي (5/308)، والقرطبي (16/258).(1/374)
سورة الفتح
ijk
وهي ثلاثون آية، [إلا آية] (1) في العدد المدني والكوفي (2) . وهي مدنية بإجماعهم.
$¯Rخ) فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا اجب
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبدالله بن مسلمة (3) ، عن مالك، عن زيد
__________
(1) ... في الأصل: الآية.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:229).
(3) ... عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، أبو عبد الرحمن المدني الحارثي، نزيل البصرة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 6/28-29، والتقريب ص:323).(1/287)
بن أسلم، عن أبيه: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر عمر، نَزَرْتَ (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحرّكت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصيح بي، فقلت: لقد نزل فيّ قرآن، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّمت عليه فقال: لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } )) (2) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: لما نزلت: { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [الأحقاف:9] قال اليهود: كيف نتبع رجلاً لا يدري ما يُفعل به، فاشتدَّ ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت هذه الآية: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } (3) .
وفي المراد بهذا الفتح أربعة أقوال: أنه فتح الحديبية. قاله أكثر العلماء (4) .
__________
(1) ... النَّزْر: الإلحاح في السؤال. ونَزَرَهُ نَزْرَاً: ألحَّ عليه في المسألة (اللسان، مادة: نزر).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1829 ح4553).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/418).
(4) ... أخرجه الطبري (26/69). وذكره الماوردي (5/309)، والسيوطي في الدر (7/508).(1/288)
وقال البراء بن عازب: نحن نعد الفتح بيعة الرضوان (1) .
قال جابر بن عبدالله: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية (2) .
وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وغلبت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس (3) .
وقال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظم من فتح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير (4) .
أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد قال: حدثني أحمد بن إسحاق (5) ، حدثنا عثمان بن عمر (6) ، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: (( { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1525 ح3919)، والطبري (26/71). وذكره السيوطي في الدر (7/508) وعزاه للبخاري وابن جرير وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الطبري (26/70). وذكره الماوردي (5/310).
(3) ... أخرجه الطبري (26/71). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/509) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/133)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/419).
(5) ... أحمد بن إسحاق بن الحصين بن جابر بن جندل السلمي، أبو إسحاق البخاري السرماري، كان يضرب بشجاعته المثل، وكان من الغزائين، ومن أهل الفضل والنسك مع لزوم الجهاد، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/11، والتقريب ص:77).
(6) ... عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي، أبو محمد، وقيل: أبو عدي، وقيل: أبو عبد الله البصري، ثقة، مات سنة تسع ومائتين (تهذيب التهذيب 7/129، والتقريب ص:385).(1/289)
لنا؟ فأنزل الله: { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } )) (1) .
وفي رواية مسلم عن أنس قال: ((لما نزلت: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله } إلى قوله: { فوزاً عظيماً } مرجعه من الحديبية، وهم مخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً)) (2) .
القول الثاني: أنه فتح مكة. رواه مسروق عن عائشة (3) ، وبه قال السدي (4) .
الثالث: أنه فتح خيبر. قاله مجاهد (5) .
[الرابع: القضاء له بالإسلام] (6) .
والذي يقتضيه النظر الصحيح والبحث المستقيم: عموم ذلك في هذه الأقوال وغيرها، وأنه بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بما قضى الله تبارك لهم في الظهور والاستعلاء بما سيفتح عليهم من مكة وخيبر وغيرهما.
فإن قيل: كيف يكون ذلك وهو بصيغة الماضي؟
قلتُ: هكذا تجد أكثر أخبار الله تعالى في كتابه العزيز يخرج للمستقبل في صيغة الماضي ليحقق كونه متيقن وجوده، واستواء الحالتين في علمه
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1530 ح3939).
(2) ... أخرجه مسلم (3/1413 ح1786).
(3) ... ذكره الماوردي (5/309)، والسيوطي في الدر (7/510) وعزاه لابن مردويه.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/423).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... زيادة من زاد المسير (7/423).(1/290)
جل وعلا. أو نقول: الفتح: القضاء، على ما سبق في غير موضع من كتابنا، وقضاء الله تعالى له بذلك قد تقضى ومضى، فلذلك أخبر به بصيغة الماضي.
قال ابن قتيبة (1) : المعنى: إنا قضينا لك قضاءً عظيماً.
قوله تعالى: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال صاحب الكشاف (2) : إن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟
قلتُ: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: [يَسَّرنا] (3) لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك، لنجمع لك بين عزّ الدارين، وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون علة للغفران من حيث إنه جهاد.
والمراد: ليغفر لك الله جميع ما فرط منك.
قال ابن عباس والشعبي ومقاتل (4) وعامة المفسرين: ما تقدم من الجاهلية وما بعدها (5) .
قال بعض العلماء: هذا على سبيل التوكيد، كما يقال: فلان يضرب من
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:412).
(2) ... الكشاف (4/334).
(3) ... في الأصل: بشرنا. والتصويب من الكشاف (4/334).
(4) ... تفسير مقاتل (3/244).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/423)، والسيوطي في الدر (7/512) وعزاه لابن المنذر عن عامر وأبي جعفر.(1/291)
يلقاه ومن لا يلقاه.
وقيل: ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك (1) . وفيه بُعْد.
أخبرنا الشيخان أحمد بن عبدالله وعلي بن أبي بكر قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف بن مطر [الفربري] (2) ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا ابن عيينة قال: حدثنا زياد أنه سمع المغيرة يقول: (( قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورّمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ )) (3) .
وبهذا الإسناد قال البخاري: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن يحيى، حدثنا حيوة، عن أبي الأسود (4) ، سمع عروة، عن عائشة: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب
__________
(1) ... ذكره القرطبي (16/263)، والبغوي (4/189) كلاهما عن عطاء الخراساني.
(2) ... في الأصل: القريري. وهو خطأ. انظر: ترجمته في: التقييد (ص:125)، وسير أعلام النبلاء (15/10-13).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1830 ح4556)، ومسلم (4/2171 ح2819).
(4) ... محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزي الأسدي، أبو الأسود المدني، يتيم عروة؛ لأن أباه كان أوصى به إليه، وكان جده الأسود من مهاجرة الحبشة، كان ثقة كثير الحديث، قدم مصر سنة ست وثلاثين ومائة، ومات سنة بضع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 9/273، والتقريب ص:493).(1/292)
أن أكون عبداً شكوراً. فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع )) (1) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن هارون بن معروف (2) ، عن [أبي] (3) صخر (4) ، عن (5) ابن قسيط (6) ، عن عروة.
قوله تعالى: { ويتم نعمته عليك } يعني: بالنبوة والفتح والمغفرة، { ويهديك صراطاً مستقيماً } مثل قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة:6].
{ وينصرك الله نصراً عزيزاً } قال الزجاج (7) : نصراً ذا عز لا يقع معه ذل.
uqèd الَّذِي أَنْزَلَ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1830 ح4557)، ومسلم (4/2172 ح2820).
(2) ... هارون بن معروف المروزي، أبو علي الخزاز الضرير، نزيل بغداد، ثقة ثبت، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 11/12، والتقريب ص:569).
(3) ... زيادة على الأصل. انظر: ترجمته في التعليق التالي.
(4) ... حميد بن زياد، وهو بن أبي المخارق المدني، أبو صخر الخراط، صاحب العباء، صدوق يهم، سكن مصر، ومات سنة تسع وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 3/36، والتقريب ص:181).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: أبي. وهو خطأ. انظر: صحيح مسلم (4/2172).
(6) ... يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي، أبو عبد الله المدني الأعرج، كان فقيهاً ثقة، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 11/299، والتقريب ص:602).
(7) ... معاني الزجاج (5/20).(1/293)
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ(1/294)
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ نotچح !#yٹ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا اذب
قوله تعالى: { هو الذي أنزل السكينة } أي: السكون والطمأنينة { في قلوب المؤمنين } بسبب الصلح بعد النطق والانزعاج لما ورد عليهم من صد المشركين إياهم عن البيت، حتى قال عمر: ((علام نعطي الدَّنِيَّة في ديننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني)) (1) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1832 ح4563)، ومسلم (3/1411 ح1785).(1/295)
وقال سهل بن حنيف: [اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل] (1) لو أستطيع أن أردّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم (2) .
ثم أوقع الله الرضى بما يجري في قلوب المسلمين، فسلَّموا وانقادوا راضين بقضاء الله وتقديره.
{ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض } يسلط بعضها على بعض على ما تقتضيه حكمته وعلمه.
قوله تعالى: { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } سبق آنفاً.
سبب نزولها: قال أهل المعاني (3) : كررت اللام في "ليدخل" بتأويل تكرير الكلام، مجازه: "إنا فتحنا لك ليغفر لك الله، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين".
قال مقاتل (4) : فلما سمع بذلك عبد الله بن أبيّ بذلك، انطلق في نفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، ما نحن إلا [كهم] (5) ، فما نحن عند الله؟ فنزلت: { ويعذب المنافقين والمنافقات... الآية } .
قال المفسرون: ظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمداً والمؤمنين.
قال الضحاك: ظنت أسد وغطفان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى
__________
(1) ... زيادة من صحيح البخاري.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1534 ح3953).
(3) ... انظر: الطبري (26/73).
(4) ... تفسير مقاتل (3/246).
(5) ... في الأصل: كهتم.(1/296)
الحديبية أنه سيقتل أو يهزم ولا يعود إلى المدينة سليماً، فعاد ظافراً (1) .
وقيل: هو ظنهم أن لله شريكاً، ولن يبعث الله أحداً عليهم (2) .
[ { دائرة السوء } ] (3) : مذكورة في براءة (4) .
!$¯Rخ) أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/312).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في الأصل: النبوة. وهو خطأ.
(4) ... عند الآية رقم: 98.(1/297)
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا اتةب
قوله تعالى: { إنا أرسلناك شاهداً } قال قتادة: شاهداً على أمتك بالبلاغ (1) .
وقيل: شاهداً بأعمالهم الصالحة والطالحة (2) .
وقيل: شاهداً مبيناً لهم ما أرسلناك به إليهم (3) ، وهو مثل قوله: { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [النساء:41]، وقوله: { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [البقرة:143].
قوله تعالى: { ليؤمنوا بالله ورسوله } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "ليؤمنوا... ويعزروه...، ويوقروه" بالياء فيهن، وهو الذي يقتضيه نظم الكلام. وقرأ الباقون بالتاء فيهن (4) ، على معنى: قل لهم: إنا أرسلناك لتؤمنوا.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/74). وذكره السيوطي في الدر (7/516) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... ذكره الماوردي (5/312).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... الحجة للفارسي (3/408)، والحجة لابن زنجلة (ص:671)، والكشف (2/280)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:395)، والسبعة (ص:603).(1/298)
وقد ذكرنا في
الأعراف (1) معنى التعزير عند قوله: { وعزروه ونصروه } .
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن السميفع: "ويُعززوه" بزاءين (2) ، على معنى: تجعلوه عزيزاً.
{ وتوقروه } أي: تُعظموه وتُبجلوه، والضمير يعود للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، في قول الضحاك وكثير من المفسرين (3) .
وجمهور القراء يختارون الوقف هاهنا تنبيهاً على عود الضمير إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتمييزاً له عن الضمير الراجع إلى الله تعالى في قوله: { ويسبحوه } ، فامتثل الصحابة رضوان الله عليهم ما نُدبوا إليه من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعزيره، حتى لقد قال عروة بن مسعود يوم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الحديبية من جهة قريش حين رجع إليهم: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلّك بها وجهه وجلده، وإن أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون النظر إليه تعظيماً له (4) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 157.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/427)، والدر المصون (6/160).
(3) ... ذكره الماوردي (5/313).
(4) ... أخرجه البخاري (2/976 ح2581).(1/299)
وقيل: الضمائر كلها لله تعالى.
قال الزمخشري (1) : من فَرَّقَ بين الضمائر فقد أبعد.
والمراد بتعزير الله: تعزير دينه وتعزير رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
{ ويسبحوه بكرةً وأصيلاً } أي: ينزهوا الله أو يصلُّوا له. وقد سبق في مواضع.
قوله تعالى: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وقرأ تمام بن العباس بن عبدالمطلب: "إنما يبايعون لله" (2) ، وهذه بيعة الرضوان يوم الحديبية.
وكان سببها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزل الحديبية أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة يقول: إنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي نذبحه وننصرف، فقالوا: لا كان هذا أبداً ولا يدخلها العام، فبلغ ذلك المسلمين أن عثمان قد قتل، فقالوا: لا نبرح حتى نناجزهم، فذلك حين دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى بيعة الرضوان، فبايعهم تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة.
وقال قتادة: ألفاً وخمسمائة (3) .
قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت (4) .
__________
(1) ... الكشاف (4/337).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/92)، والدر المصون (6/160).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1526 ح3922)، والطبري (26/87). وذكره السيوطي في الدر (7/522) وعزاه للبخاري وابن مردويه.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/427).(1/300)
وقال جابر بن عبد الله: بايعناه على أن لا نفرّ (1) . ومعناهما متقارب.
وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بشماله على يمينه وقال: هذه لعثمان، إنه ذهب في حاجة الله ورسوله، وجعلت الرسل تختلف بينهم، حتى انتظم الصلح، فكتبوا بينهم كتاباً اشتمل على ما اتفقوا عليه من الشروط، فلما قضي شأن الكتاب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، وكان مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بضعة وعشرين يوماً. -وقيل: عشرين ليلة-، ثم انصرف راجعاً (2) .
قوله تعالى: { إنما يبايعون الله } تنبيه لهم على الوفاء بما بايعوا عليه وإعلاماً لهم أن مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبايعة لله تعالى بواسطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
{ يد الله فوق أيديهم } قال ابن عباس: يد الله بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء (3) .
وقال السدي: يد الله فوق أيديهم عند المبايعة (4) .
وقال ابن السائب: نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة (5) .
وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم (6) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (3/1483 ح1856)، والترمذي (4/149 ح1591)، والطبري (26/87). وذكره السيوطي في الدر (7/523) وعزاه لمسلم وابن جرير وابن مردويه.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/422-423).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/427).
(4) ... انظر: الطبري (26/76) بلا نسبة. وذكره البغوي في تفسيره (4/190).
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/267-268)، والبغوي (4/190).
(6) ... ذكره الطبري (26/76) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/136)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/428).(1/301)
وقال الحسن: "يد الله": يعني به: محمد - صلى الله عليه وسلم - على أيديهم.
{ فمن نكث } أي: نقض البيعة { فإنما ينكث على نفسه } أي: ينقض على نفسه.
{ ومن أوفى بما عاهد عليهِ اللهَ } وقرأ حفص: "عَلَيْهُ اللهَ" بضم الهاء في "عليه" (1) .
{ فسيؤتيه } وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: "فسنؤتيه" بالنون (2) ، حملاً على قوله تعالى: { إنا أرسلناك } .
{ أجراً عظيماً } قال المفسرون: هو الجنة. وناهيك رضاه عنهم أجراً، فإنه أعظم نعيم الجنة، ألا تراه يقول لهم: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، وسخطه عز وجل على أهل النار أعظم عذابهم، فقد جاء أنهم يستغيثون: "عذبنا بما شئت ولا تسخط علينا".
مAqà)uy™ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/409)، والحجة لابن زنجلة (ص:672)، والكشف (2/280)، والإتحاف (ص:395)، والسبعة (ص:603).
(2) ... الحجة للفارسي (3/408)، والحجة لابن زنجلة (ص:672)، والكشف (2/280)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:395)، والسبعة (ص:603).(1/302)
فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا(1/303)
أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اتحب
قوله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب } وذلك حين استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ حول المدينة من الأعراب، حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية خوفاً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو صَدّ عن البيت، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم بعمرة وساق الهدي معه ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه كثيراً من الأعراب شكّاً ونفاقاً، فلما رجع أقبلوا إليه يعتذورن بالكذب ويقولون: { شغلتنا أموالنا } بإصلاحها { وأهلونا } بالقيام عليها، { فاستغفر لنا } .
قال ابن عباس: هم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والديل وأسلم (1) .
يريد: أن المنافقين المخلفين كانوا من هؤلاء القبائل، لا أنهم كلهم بهذه المثابة، فأكذبهم الله تعالى في اعتذارهم وطلبهم من رسوله الاستغفار لهم
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/429).(1/304)
بقوله تعالى: { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضَرّاً } وقرأ حمزة والكسائي: "ضُرّاً" بضم الضاد (1) .
قال أبو علي (2) : الضَّر -بفتح الضاد-: خلاف النفع، والضُّر -بضم الضاد-: سوء الحال. ويجوز أن يكونا لغتين في معنى، كالفَقْر والفُقْر، والضَّعف والضُّعف.
والمعنى: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً من قتل أو هزيمة، { أو أراد بكم نفعاً } من نصر أو غنيمة.
ثم أكذبهم وهدّدهم بقوله تعالى: { بل كان الله بما تعملون خبيراً } .
{ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول } أي: لن يرجع الرسول { والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } وقرأ ابن مسعود: "إلى أهْلِهِمْ" بغير ياء (3) ، ووجههما ظاهر.
{ وزين ذلك في قلوبكم } لما له عليكم من الشقاء، { وظننتم ظن السوء } وذلك أنهم قالوا: إنما محمد وأصحابه أكَلَة رأس، فأين تذهبون؟ انظروا ما يكون منهم { وكنتم قوماً بوراً } هلكى. وقد ذكرنا ذلك في الفرقان (4) .
مAqà)uy™ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/409)، والحجة لابن زنجلة (ص:672)، والكشف (2/281)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:396)، والسبعة (ص:604).
(2) ... الحجة للفارسي (3/409).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/93)، والدر المصون (6/161).
(4) ... عند الآية رقم: 18.(1/305)
مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا اتخب
قوله تعالى: { سيقول المخلفون } وهم الذين تخلفوا عن الحديبية { إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } أخبر الله تعالى نبيه أنه يفتح عليه خيبر، فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، وأخبره أن هؤلاء المخلفين يقولون له وقت انطلاقه إلى خيبر: { ذرونا نتبعكم } إلى خيبر لنشهد قتال أهلها، ومقصودهم الغنيمة لا الجهاد.
{ يريدون أن يبدلوا كلام الله } وقرأ حمزة والكسائي: "كَلِمَ الله" بكسر اللام من غير ألف (1) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/409)، والحجة لابن زنجلة (ص:672)، والكشف (2/281)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:396)، والسبعة (ص:604).(1/306)
قال الفراء (1) : الكلام: مصدر، والكَلِم: جمع كَلِمَة.
والمعنى: يريدون أن يبدلوا مواعيد الله باختصاص غنائم خيبر بأهل الحديبية. قاله ابن عباس (2) .
وقال مقاتل (3) : أمر الله نبيه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله تعالى وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المخلفين.
وقال ابن زيد: "كلام الله": قوله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } (4) [التوبة:83]. وتابعه على ذلك جماعة من المفسرين والمتأخرين. وهو موضع مزلة أقدام أقوام لم يترسخوا في علم النقل؛ لأن آية براءة نزلت في غزوة تبوك، وهي آخر غزاة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه كما تسمع وترى نزلت في عام الحديبية.
{ كذلكم قال الله من قبل } أن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية.
وقال مقاتل (5) وغيره: يشير إلى قوله: { قل لن تتبعونا } ، فأنكروا ورَدُّوا أن يكون الله حكم بذلك، وأضافوه إلى المسلمين، فذلك قوله تعالى: { فسيقولون بل تحسدوننا } المعنى: فذلك الذي يحملكم على ردعنا ومنعنا من
__________
(1) ... معاني الفراء (3/66).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/138)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/430).
(3) ... تفسير مقاتل (3/249).
(4) ... أخرجه الطبري (26/80). وذكره الماوردي (5/315).
(5) ... تفسير مقاتل (3/249).(1/307)
المسير معكم لئلا نشارككم في الغنيمة، فأكذبهم الله تعالى في نسبة الحسد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وردّ ذلك عليهم ملحقاً بهم عار الجهل، فقال تعالى: { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً } وهو فهمهم لأمور دنياهم دون أمور دينهم، كما قال تعالى: { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } [الروم:7].
@è% لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيد تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ(1/308)
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا اتذب
ثم إن الله الرحيم الكريم فتح لهم باب الإنابة ولم يؤيّسهم من الخير على تقدير الاستجابة، فذلك قوله تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب } وهم الذين تقدم ذكرهم، { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } فيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل فارس. قاله ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين (1) .
الثاني: أنهم فارس والروم. قاله الحسن (2) .
وعن مجاهد كالقولين (3) .
الثالث: أنهم هوازن وغطفان، وكان ذلك يوم حنين. قاله سعيد بن جبير
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/82)، وابن أبي حاتم (10/3300). وذكره السيوطي في الدر (7/519-520) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن جريج، وعزاه لابن المنذر.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:603)، والطبري (26/82). وذكره السيوطي في الدر (7/519) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:603)، والطبري (26/82).(1/309)
وقتادة (1) .
الرابع: أنهم بنو حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذاب، الذين حاربهم الصدّيق. قاله الزهري والكلبي ومقاتل (2) .
قال رافع بن خديج (3) : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم (4) .
وقال بعض العلماء: لا يجوز أن [تكون] (5) هذه الآية إلا في العرب؛ لقوله تعالى: { تقاتلونهم أو يسلمون } وفارس والروم إنما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية (6) .
وقوله تعالى: { أو يسلمون } عطف على قوله: "تقاتلونهم" (7) ، على معنى: حتى يكون أحد الأمرين: المقاتلة أو الإسلام.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/83). وذكره السيوطي في الدر (7/519-520) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن عكرمة وسعيد بن جبير، وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي.
(2) ... أخرجه الطبري (26/83). وذكره السيوطي في الدر (7/520) وعزاه لابن المنذر والطبراني عن الزهري. وانظر: تفسير مقاتل (3/250).
(3) ... رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن تزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، أبو عبد الله، ويقال: أبو رافع. شهد أحداً والخندق، مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين (تهذيب التهذيب 3/198، والتقريب ص:204).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/138)، وابن الجوزي في زاد المسير (27/432).
(5) ... زيادة من زاد المسير (7/432).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/432).
(7) ... انظر: التبيان (2/238)، والدر المصون (6/162).(1/310)
وفي حرف أبيّ بن كعب: "أو يسلموا" بغير نون (1) ، على معنى: إلى أن يسلموا، كقول امرئ القيس:
.................... ... ......... أو تموتَ فَتُعْذَرَا (2)
فصل
وفي هذه الآية حجة بالغة على صحة إمامة سيدي قريش: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأن الصدّيق رضي الله عنه هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة، وعمر رضي الله عنه هو الذي دعا إلى قتال فارس والروم.
{ فإن تطيعوا } قال ابن جريج: إن تطيعوا أبا بكر وعمر (3) .
{ يؤتكم الله أجراً حسناً } وهو الثناء في الدنيا والغنيمة والظهور على الأعداء.
{ وإن تتولوا } عن طاعتهما { كما توليتم من قبل } عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسير معه إلى الحديبية { يعذبكم عذاباً أليماً } وهو في الدنيا: الخزي والعار، وفي الآخرة: عذاب النار.
وكذلك فعل الله تعالى بأعدائهما من الرافضة الذين ينكرون إمامتهما ولا
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/94)، والدر المصون (6/162).
(2) ... جزء من بيت لامرئ القيس. وهو:
... ... ... ... فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول مُلْكاً أو نموت فنعذرا
... انظر: ديوانه (ص:66)، والكتاب (1/427)، والمقتضب (2/28)، والخصائص (1/236)، وابن يعيش (7/22)، والخزانة (3/601)، والأشموني (3/295)، والبحر (8/94)، والدر المصون (6/162).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/432).(1/311)
يرون طاعتهما، جعل العار شعارهم، والذلّ دثارهم، والنار مثواهم ودارهم، فما أحقهم بإنشاد ما قيل في غيرهم:
فلوْ نظَرَ الغرابُ إلى تميمٍ ... وما فيها من السَّوْءاتِ شَابَا (1)
اللهم فاحرسنا من عرض نفاقهم كما عافيتنا من مرض نفاقهم.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: فكيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى: { ليس على الأعمى حرج... الآية } (2) .
قرأ نافع وابن عامر: "نُدْخِلْهُ جنات... نُعَذِّبْه" بالنون فيهما. وقرأ الباقون بالياء فيهما (3) . ووجههما ظاهر.
* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا
__________
(1) ... البيت للعباس بن يزيد الكندي. وهو في: الأغاني (8/25)، وصبح الأعشى (2/208).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/273).
(3) ... الحجة للفارسي (3/409)، والحجة لابن زنجلة (ص:674)، والكشف (1/380)، والنشر (2/248)، والإتحاف (ص:396)، والسبعة (ص:604).(1/312)
(18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا اتزب
قوله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } وهي البيعة التي تقدم ذكرها بالحديبية.
وبهذه الآية سُمّيت بيعة الرضوان.
قال سلمة بن الأكوع: بينا نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيها الناس! البيعة البيعة، فصرنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت شجرة [سمرة] (1) ، فبايعناه (2) .
وقال عبد الله بن مغفل (3) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة يبايع الناس، وإني لأرفع أغصانها عن رأسه (4) .
{ فعلم ما في قلوبهم } من الصدق والوفاء والصبر عند اللقاء { فأنزل
__________
(1) ... زيادة من المصادر التالية.
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/386 ح36852)، والطبري (26/86)، وابن أبي حاتم (10/3300). وذكره السيوطي في الدر (7/521) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ... عبد الله بن مغفل بن عبد نهم بن عفيف بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذويب المزني، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الرحمن، سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة، وهو من أصحاب الشجرة، مات بالبصرة سنة ستين (تهذيب التهذيب 6/38، والتقريب ص:325).
(4) ... أخرج نحوه الطبري (26/94). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/434).(1/313)
السكينة عليهم وأثابهم } جازاهم على ذلك في العاجل { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر، في قول قتادة والأكثرين (1) .
وفتح هجر، في قول الحسن (2) .
وقيل: فتح مكة (3) .
والصحيح: الأول. فإن فتح خيبر كان عقيب انصرافهم من الحديبية، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فاقتسموها واتسعوا بها، فذلك قوله تعالى: { ومغانم كثيرة تأخذونها } .
مNن.y‰tمur اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/88). وذكره السيوطي في الدر (7/524) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. ومن طريق آخر عن الشعبي، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/342).
(3) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/316).(1/314)
مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا(1/315)
تَعْمَلُونَ بَصِيرًا اثحب
قوله تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وهو ما سيفتح عليهم إلى يوم [القيامة] (1) .
{ فَعَجَّل لكم هذه } الإشارة إلى خيبر، في قول الأكثرين.
وقال ابن عباس في رواية عنه: هو صلح الحديبية (2) .
{ وكفّ أيدي الناس عنكم } قال قتادة: هم اليهود، كانوا هموا أن يغتالوا عيال المسلمين بالمدينة، فكفهم الله تعالى عن ذلك (3) .
وقيل: هَمَّت أيضاً أسد وغطفان باغتيال عيال المسلمين (4) .
وقيل: فكفّ أيدي أهل خيبر وأيدي حلفائهم من أسد وغطفان، وكانوا أرادوا نصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا، على قول ابن عباس (5) .
"فكفّ أيدي الناس عنكم": أهل مكة.
{ ولتكون } هذه الكفة { آية للمؤمنين } عبرة لهم، يعرفون بها نعمة الله
__________
(1) ... زيادة على الأصل. وانظر: زاد المسير (7/435).
(2) ... أخرجه الطبري (26/89). وذكره الماوردي (5/317)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/435).
(3) ... أخرجه الطبري (26/90). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/525) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/435).
(5) ... ذكره الماوردي (5/317) بلا نسبة، والسيوطي في الدر المنثور (7/525) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.(1/316)
عليهم وحياطته لهم ونصره إياهم.
{ ويهديكم صراطاً مستقيماً } بصيرةً ويقيناً في الإسلام وثباتاً عليه.
قوله تعالى: { وأخرى لم تقدروا عليها } أي: ووعدكم أخرى، أو هو معطوف على "هذه"، أي: فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى، أو هو منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو { قد أحاط الله بها } (1) .
قال قتادة: فتح مكة (2) .
وقال ابن عباس والأكثرون: فارس والروم (3) .
"قد أحاط الله بها": قدر عليها.
وقيل: أحاط بها علماً أنها ستكون لكم.
قوله تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } أي: لو قاتلكم أيها المؤمنون مشركوا قريش يوم الحديبية لولوا الأدبار، لما قذفت في قلوبهم منكم من الهيبة والرعب.
{ ثم لا يجدون ولياً } نافعاً، { ولا نصيراً } مدافعاً.
{ سُنة الله } منصوب على المصدر، أي: سَنَّ الله غلبة رسوله والمؤمنين
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/163).
(2) ... أخرجه الطبري (26/92) ورجحه. وذكره الماوردي (5/318)، والسيوطي في الدر المنثور (7/526) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (26/91). وذكره الماوردي (5/318)، والسيوطي في الدر (7/526) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ومن طريق آخر عن علي وابن عباس، وعزاه لابن عساكر.(1/317)
سُنَّة، وهو قوله تعالى: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة:21].
قوله تعالى: { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيدكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } قال [أنس] (1) بن مالك: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلماً فأعتقهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
وقال ابن عباس: بعث أهل مكة أربعين رجلاً أو خمسين ليطيفوا بعسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، لعلهم يصيبون منهم أحداً، فأخذهم المسلمون فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة والنبل. فنزلت هذه الآية (3) .
وبطن مكة: الحديبية؛ لأن بعضها مضاف إلى الحرم. قاله أنس بن مالك (4) .
وقال السدي: هو وادي مكة (5) .
وقيل: التنعيم (6) .
"من بعد أن أظفركم عليهم" أي: بهم.
__________
(1) ... زيادة من صحيح مسلم (3/1442).
(2) ... أخرجه مسلم (3/1442 ح1808).
(3) ... أخرجه الطبري (26/94).
(4) ... ذكره الماوردي (5/318) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (7/438).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/438).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/438) حكاية عن أبي سليمان الدمشقي.(1/318)
{ وكان الله بما تعملون بصيراً } قرأ أبو عمرو: "يعملون" بالياء، على معنى: بما يعمل الكفار من الصد والكفر وغيرهما. وقرأ باقي القراء العشرة: "تعملون" بالتاء (1) ، على الخطاب للجميع، لتقدم ذكرهم في قوله تعالى: { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } .
مNèd الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/410)، والحجة لابن زنجلة (ص:674)، والكشف (2/282)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:396)، والسبعة (ص:604).(1/319)
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا اثدب
قوله تعالى: { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } يريد: أهل مكة، وما صنعوا عام الحديبية من صدّ المسلمين، وصدّ الهدي المقلد، وهو قوله تعالى: { والهدي } أي: وصدّوا الهدي.(1/320)
ويجوز أن يكون مفعولاً معه (1) ، أي: صدّوكم مع الهدي.
{ معكوفاً } نصب على الحال (2) ، ومعناه: محبوساً عن { أن يبلغ محله } وهو الموضع الذي يحل نحره به بطريق الأصالة. يريد: منى.
قوله تعالى: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } وهم المستضعفون بمكة { لم تعلموهمْ } أي: لم تعرفوهم وقت الْتحام الحرب وتلبس بعضكم ببعض { أن تطؤوهم } بدل اشتمال من "رجال" (3) .
ومعنى: "أن تطؤوهم": تدوسهم، وهو مجاز عن إهلاكهم، كما قيل:
وَوَطِئْتَنا وَطْأً على حَنَقٍ ... ... ........................ (4)
{ فتصيبكم منهم معرة } قال ابن زيد: إثم (5) .
وقال ابن إسحاق: غرم الدية (6) .
وقال الكلبي: كفارة قتل الخطأ (7) .
وقيل: عيب (8) ، فيقال: قتلوا أهل دينهم.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/163).
(2) ... انظر: التبيان (2/238)، والدر المصون (6/163).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... صدر بيت للحارث بن وعلة الذهلي، وعجزه: (وَطْءَ المُقَيَّدِ نَابتَ الهَرَم). انظر: شرح المفضليات (ص:549)، واللسان (مادة: وطأ، هرم)، وديوان الحماسة (1/71-73)، والبحر (8/98)، والدر المصون (6/164)، وروح المعاني (26/113).
(5) ... أخرجه الطبري (26/102). وذكره السيوطي في الدر (7/534) وعزاه لابن جرير.
(6) ... أخرجه الطبري (26/102). وذكره الماوردي (5/320).
(7) ... ذكره الماوردي (5/320)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/440).
(8) ... مثل السابق.(1/321)
وقوله: { بغير علم } متعلق بـ"أن تطؤوهم".
والمعنى: ولولا [كراهة] (1) أن تطأووا رجالاً ونساء من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم لا تعرفونهم فتصيبكم منهم معرّة غير عالمين بهم، لما كففنا أيدكم عن أهل مكة. فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقيل: الجواب: "لعَذَّبْنا".
وقوله تعالى: { لو تزيّلوا } كالتكرير لقوله: { ولولا رجال } ؛ لأنهما يرجعان إلى معنى واحد.
وقوله تعالى: { ليدخل الله في رحمته من يشاء } تعليل لما سيقت له الآية من كفّ أيديهم عنهم، على معنى: فعل الله ذلك ليدخل في الإسلام من أهل مكة من يشاء، وهم الذين أسلموا بعد الصلح.
قال ابن عباس: "لو تزيلوا" (2) : لو تفرقوا (3) .
وقال ابن قتيبة والزجاج (4) : لو تميزوا.
والمعنى: لو تميّز المسلمون من المشركين.
{ لعذبنا الذين كفروا منهم } بأيديكم أيها المكفوفون عنهم { عذاباً أليماً } بالقتل والسبي والأسر.
__________
(1) ... في الأصل: كرامة.
(2) ... في الأصل زيادة قوله: إليّ. وانظر النص في: زاد المسير (7/440).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/440).
(4) ... معاني الزجاج (5/27).(1/322)
قوله تعالى: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } يجوز أن يكون العامل في الطرف ما قبله، أي: لعذبناهم وقت جعلهم الحمية في قلوبهم. ويجوز أن يكون بإضمار: "اذكروا".
الحمية: الأَنَفَة، وذلك أنهم قالوا: لا والله لا يدخلون علينا وقد قتلوا بالأمس آبائنا وإخواننا وأبنائنا، ولا تتحدث العرب بذلك.
{ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } فلم يتداخلهم ما تداخل أولئك من الحمية، مع كونهم من سِنْخ (1) .. (2) نفوس أبيّة وعزة عربية، بل استسلموا واحتملوا الأذى، وأغضوا الجفون على القذى؛ طاعة لله ولرسوله.
{ وألزمهم كلمة التقوى } أخرج الترمذي من حديث أبيّ بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (("وألزمهم كلمة التقوى" قال: لا إله إلا الله)) (3) . وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي في آخرين (4) .
قال علي عليه السلام: كلمة التقوى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (5) .
__________
(1) ... السِّنْخ: الأصل من كل شيء (اللسان، مادة: سنخ).
(2) ... كلمة غير ظاهرة في الأصل.
(3) ... أخرجه الترمذي (5/386 ح3265).
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:603)، والطبري (26/105)، وابن أبي حاتم (10/3301). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/536-537).
(5) ... أخرجه الطبري (26/106) عن عطاء.
... وذكره السيوطي في الدر (7/537) وعزاه لابن جرير من طريق ابن جريج عن عطاء. وأما قول علي فهو كقول ابن عمر الآتي، وقد أخرجه الطبري (26/104)، والحاكم (2/500). وذكره السيوطي في الدر (7/536) وعزاه لابن جرير وأبي الحسين بن مروان في فوائده.(1/323)
وقال ابن عمر: هي: لا إله إلا الله والله أكبر (1) .
قال عطاء الخراساني: لا إله إلا الله، محمد رسول الله (2) .
وقال الزهري: كلمة التقوى: بسم الله الرحمن الرحيم (3) .
وقال مجاهد: الإخلاص (4) .
وقال الحسن البصري: الوفاء بالعهد (5) .
ومعنى إضافتها إلى التقوى: أنها سبب التقوى، أو كلمة أهل التقوى.
فإن قيل: ما معنى إلزامهم إياها؟
قلتُ: اتّصافهم بها وشدّة ملازمتهم لها.
فإن قيل: لِمَ سُمِّيت كلمة التقوى؟
__________
(1) ... أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5/497 ح9798)، والطبري (26/105). وذكره السيوطي في الدر (7/537) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي.
(2) ... أخرجه الطبري (26/105). وذكره السيوطي في الدر (7/537) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (26/106). وذكره السيوطي في الدر (7/537) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه مجاهد (ص:603)، والطبري (26/106). وذكره السيوطي في الدر (7/537) وعزاه لابن جرير.
(5) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/346).(1/324)
قلتُ: لأنهم يتّقون بها غضب الله وعذابه.
فإن قيل: ما من أحد إلا وهو حقيق بقول: لا إله إلا الله، فما معنى قوله تعالى: { وكانوا أحق بها وأهلها } ؟
قلتُ: هو إشعار بأن الله تعالى اصطفاهم لدينه وأخلصهم لمعرفته وأهَّلَهم لتوحيده، فكانوا أحق بها لموضع اصطفاء الله تعالى إياهم، حيث جعلهم من أهل السعادة.
وقال ابن عقيل في هذا الحرف كلاماً حسناً -لا يحضرني الآن-: حاصله راجع إلى أن العرب لموضع أنفتهم وحميتهم وغيرة نفوسهم، حتى أنك ترى الواحد منهم يخاطب الأمير كما يخاطب الحقير، أحق بتوحيد الله وتخصيصه بالخضوع والعبادة دون الأصنام من الأعاجم الذين لم يقاربوهم في العزة والأنفة.
ô‰s)©9 صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ(1/325)
ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا اثرب
قوله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأن قائلاً يقول له: { لتدخلن المسجد الحرام } إلى قوله تعالى: { لا تخافون } ، ورأى كأنه هو وأصحابه قد دخلوا مكة محلّقين ومقصّرين، فأخبر أصحابه بذلك ففرحوا، فلما خرجوا عام الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة ذلك العام، فلما رجعوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام القابل (1) .
والمعنى: لقد صدق الله رسوله فيما أراه في منامه.
وقوله تعالى: { بالحق } متعلق بـ"صدق" أو بـ"الرؤيا"، وهو قسمٌ باسمه الذي هو "الحق"، واللام في "لتدخلن" جواب القسم، أو جواب قسم محذوف
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/145)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/442-443).(1/326)
على الأول (1) .
فإن قيل: إنما يستثني من يجهل العاقبة، والله تعالى علم أنهم يدخلون مكة، فما معنى قوله: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ؟
قلتُ: قال أبو عبيدة وابن قتيبة (2) : "إنْ" بمعنى: "إذ". وقد سبق القول على ذلك في سورة البقرة.
وليس بالجواب السديد.
وقيل: الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم. حكاه الماوردي (3) .
وليس هذا القول أيضاً بشيء، ولا يندفع به الإشكال.
وحكى القاضي أبو يعلى: أنه على وجه الحكاية لما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه أن القائل قال: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" (4) .
والجواب المعتمد عليه: أن يقال: الاستثناء في مواعيد الله تعالى تأديبٌ للعباد، أو تثقيفٌ لهم، وتحضيض لهم على الاستثناء في مواعيدهم بأبلغ الطرق.
قال الزجاج (5) : يجوز -وهو حسن- أن يكون "إن شاء الله" جرى على ما أمر الله تعالى به، [في] (6) كل ما يُفعلُ مُتَوَقَعاً فقال تعالى: { ولا تقولن لشيء
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/239)، والدر المصون (6/165).
(2) ... تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص:419).
(3) ... تفسير الماوردي (5/322).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/443).
(5) ... معاني الزجاج (5/28).
(6) ... في الأصل: على. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/327)
إني فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله } [الكهف:23-24].
فإن قيل: معلوم قطعاً أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمه الناس، فما معنى إخبار المسلمين بذلك؟
قلتُ: ذكَّرهم بذلك ليزدادوا استسلاماً لأقضية الله فيهم، وطمأنينة على الصبر على ما منوا به من تمكين أعراضهم، وتفويضاً إلى العالم الحكيم أزمَّة أمورهم.
والمعنى: علم ما في تأخير دخولكم مكة وصلحكم إياهم على الوجه الذي أرادوه وكرهتموه من المصالح { ما لم تعلموا } .
{ فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر، في قول ابن عباس وعطاء وابن زيد ومقاتل (1) .
أو صلح الحديبية، في قول مجاهد والزهري وابن إسحاق (2) .
وقد سبق معنى إظهار هذا الدين على الدين كله في براءة (3) .
قوله تعالى: { وكفى بالله شهيداً } قال الحسن: شهيداً على نفسه أنه يظهر دينك (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/108). وانظر: تفسير مقاتل (3/253). وذكره السيوطي في الدر (7/538-539) وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:603)، والطبري (26/108). وذكره السيوطي في الدر (7/538) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن مجاهد.
(3) ... عند الآية رقم: 33.
(4) ... أخرجه الطبري (26/109).(1/328)
وقال مقاتل (1) : المعنى: وكفى بالله شهيداً أن [محمداً - صلى الله عليه وسلم - ] (2) رسولُ الله.
والأول أوجه.
س‰£Jpt'C رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/254).
(2) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.(1/329)
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا اثزب
قوله تعالى: { محمد رسول الله } مبتدأ وخبر. أو تقول: "محمد": مبتدأ، "رسول الله": عطف عليه عطف بيان، { والذين معه } : عطف عليه، { أشداء } وما في حيزه: الخبر. أو تقول: "محمد": خبر مبتدأ محذوف (1) ، أي: هو محمد. أي: الرسول الذي أرسله هو محمد.
وقرأ الشعبي وأبو رجاء وأبو المتوكل وعاصم [الجحدري] (2) : "محمداً رسولَ الله" بالنصب فيهما (3) . على معنى: ألزموا أو اتبعوا محمداً رسول الله.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/239)، والدر المصون (6/165-166).
(2) ... في الأصل: والجحدري. والصواب ما أثبتناه. وانظر: زاد المسير (7/445).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/445)، والدر المصون (6/166).(1/330)
قال ابن عباس: شهد له بالرسالة (1) .
{ والذين معه أشِدَّاءُ على الكفار } وقرأتُ لأبي حاتم عن يعقوب: "أشُدَّاء" بضم الشين.
قال الزجاج (2) : أشِدَّاء: جمع شديد، والأصل: أشدِدَاء، نحو قولك: نصيب وأنْصِبَاء، ولكن الدَّالَيْن تَحرَّكَتَا فأدغمت الأولى في الثانية.
{ رُحَماء بينهم } جمع رحيم. والمعنى: أنهم شداد صعاب على الكفار متراحمون فيما بينهم.
قال الحسن (3) : [بلغ] (4) من تشددهم على الكفار: أنهم كانوا [يتحرزون] (5) من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمسَّ أبدانهم؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه [وعانقه] (6) .
ثم وصفهم بكثرة الصلاة فقال: { تراهم ركعاً سجداً } ، ثم وصفهم بالإخلاص فقال: { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } وهذا عام في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عند جمهور المفسرين.
وروي عن الحسن أنه قال: "والذين معه": أبو بكر، "أشداء على الكفار":
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/146)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/445).
(2) ... معاني الزجاج (5/28).
(3) ... ذكر قول الحسن؛ الزمخشري في الكشاف (4/348).
(4) ... في الأصل: أبلغ. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: يتحرزن. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: وعنانقه. والتصويب من الكشاف (4/348).(1/331)
عمر، "رحماء بينهم": عثمان، "تراهم ركعاً سجداً": علي بن أبي طالب، "يبتغون فضلاً من الله ورضواناً": طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة (1) .
قوله تعالى: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } اختلف العلماء هل هذه السِّيما في الدنيا أم في الآخرة؟ على قولين:
أحدهما: في الدنيا.
قال ابن عباس: هو السمت الحسن (2) .
وقال مجاهد: الخشوع والوقار والتواضع (3) .
وقال الحسن: الصفرة (4) .
وقال سعيد بن جبير: أثر السهر (5) .
وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض (6) .
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/446).
(2) ... أخرجه الطبري (26/110)، وابن أبي حاتم (10/3301)، والبيهقي (2/286 ح3370). وذكره السيوطي في الدر (7/541-542) وعزاه لمحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.
(3) ... أخرجه الطبري (26/111)، وابن المبارك في الزهد (ص:56). وذكره السيوطي في الدر (7/542) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر.
(4) ... أخرجه الطبري (26/111).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/447).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/446).(1/332)
وقيل: السِّمَة التي تحدث في جبهة الساجد من كثرة السجود، يدل على ذلك قوله تعالى: { من أثر السجود } .
وكان كل واحد من العَلِيَّيْن: أبي الخلفاء علي بن عبد الله بن العباس، وزين العابدين علي بن الحسين بن علي، يسمى ذا الثَّفِنَات (1) ؛ لأن كثرة سجودهما أثَّرَ في جبهة كل واحد منهما أثراً يشبه ثَفِنَات البعير.
القول الثاني: أن هذه السِّيما في الآخرة.
قال عطية العوفي: هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة (2) . ونحوه عن الزهري (3) .
وقيل: هو نعتهم يوم القيامة غُرّاً مُحَجَّلين من أثر الوضوء (4) .
قوله تعالى: { ذلك مثلهم في التوراة } أي: صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هذه الصفة في التوراة. وهاهنا تم الكلام.
ثم أخبر عن صفتهم في الإنجيل فقال: { كزرع } وهذا قول الضحاك
__________
(1) ... الثَّفِنَة من البعير والناقة: هو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغَلُظ؛ كالركبتين وغيرهما (اللسان، مادة: ثفن).
(2) ... أخرج نحوه الطبري (26/110). وذكره الماوردي في تفسيره (5/323). وذكر نحوه السيوطي في الدر (7/542) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن نصر وابن جرير.
(3) ... انظر: زاد المسير (7/447).
(4) ... انظر: معاني الزجاج (5/29). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/447) حكاية عن الزجاج.(1/333)
وابن زيد (1) .
وقال مجاهد وغيره: مثلهم في التوراة والإنجيل واحد (2) .
ثم ذكر مثلهما في الكتابين فقال: { كزرع أخرج شَطْأَهُ } وقرأ ابن كثير وابن عامر: "شَطَأَهُ" بفتح الطاء (3) .
قال أبو علي (4) : هما لغتان، [كالشَّمْع والشَّمَع] (5) ، والنَّهْر والنَّهَر.
وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة: "شطَاءَه" بفتح الطاء وألف بعد الطاء مع المد والهمز (6) .
قال أبو عبيدة (7) : "شَطْأَهُ" أي: فراخه، يقال: أشْطَأَ الزَّرْعُ فهو مُشْطِئٌ، أي: مُفَرِّخ (8) .
{ فآزَرَه } وقرأ ابن عامر: "فَأَزَرَهُ" بقصر الهمزة (9) . والمعنى: فأزره الصغار الكبار وقوّاه ولحق به.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/113). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/448).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/410)، والحجة لابن زنجلة (ص:674)، والكشف (2/282)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:396)، والسبعة (ص:604).
(4) ... الحجة للفارسي (3/410).
(5) ... في الأصل: كالسمع والسمع. والمثبت من الحجة، الموضع السابق.
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/448)، والدر المصون (6/167).
(7) ... مجاز القرآن (2/218).
(8) ... انظر: اللسان (مادة: شطأ).
(9) ... الحجة للفارسي (3/410)، والحجة لابن زنجلة (ص:674-675)، والكشف (2/282)، والنشر (2/375)، والإتحاف (ص:397)، والسبعة (ص:605).(1/334)
{ فاستغلظ فاستوى } الجميع { على سوقه } جمع ساق. أي: قام على أصوله. وهذا مثلٌ لاستحكام الإسلام وقواة أهله واشتداد بعضهم ببعض، واستفحال أمرهم وسلطانهم بعد أن ظهر ضعيفاً كالطاقة من الزرع.
قال قتادة: في الإنجيل مكتوب: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (1) .
وقال ابن عباس: المراد بـ"الزرع": محمد - صلى الله عليه وسلم - ، "أخرج شطأه": [أبو بكر] (2) ، "فآزره" بعمر، "فاستغلظ" بعثمان، "فاستوى على سوقه" بعلي بن أبي طالب، { يعجب الزراع } يعني: المؤمنين، { ليغيظ بهم الكفار } وهو [قول عمر] (3) لأهل مكة: لا يعبد الله تعالى سراً بعد اليوم (4) .
وقوله: { ليغيظ بهم الكفار } تعليلٌ لما دل عليه تشبيههم بالزرع من اشتداد قوتهم وزيادة ترقيهم.
فصل
قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/114). وذكره السيوطي في الدر (7/543) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... زيادة من زاد المسير (7/449).
(3) ... في الأصل: قوله. والتصويب والزيادة من زاد المسير (7/449).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/449). وذكر نحوه السيوطي في الدر (7/544) وعزاه لابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "كزرع" قال: أصل الزرع: عبد المطلب، "أخرج شطأه": محمد - صلى الله عليه وسلم - ، "فآزره" بأبي بكر، "فاستغلظ" بعمر، "فاستوى" بعثمان، "على سوقه" بعليّ، "ليغيظ بهم الكفار".(1/335)
أصابته هذه الآية (1) .
وقال ابن إدريس: لا آمنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكفار -يعني: الرافضة-؛ لأن الله تعالى يقول: { ليغيظ بهم الكفار } (2) .
أخبرنا أبو علي بن الفرج المذكر في كتابه، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا الحسن بن علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان، أخبرنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثنا لوين (3) ، حدثنا يحيى بن المتوكل (4) ، عن كثير النواء (5) ، عن إبراهيم بن حسن [بن حسن] (6) بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال لي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يخرج من آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام)) (7) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/147)، والخلال في السنة (2/478 ح760)، وأبو نعيم في الحلية (6/327).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/449).
(3) ... محمد بن سليمان بن حبيب بن جبير الأسدي، أبو جعفر المصيصي العلاف، المعروف بلوين، كوفي الأصل، ثقة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 9/176، والتقريب ص:481).
(4) ... يحيى بن المتوكل العمري، أبو عقيل المدني، ويقال: الكوفي الحذاء الضرير، ضعيف، مات سنة سبع وستين ومائة (تهذيب التهذيب 11/237، والتقريب ص:596).
(5) ... كثير بن إسماعيل، ويقال: بن نافع النواء، أبو إسماعيل التيمي، مولى بني تيم الله الكوفي، ضعيف (تهذيب التهذيب 8/367، والتقريب ص:459).
(6) ... زيادة من المسند (1/103).
(7) ... أخرجه أحمد (1/103 ح808).(1/336)
وفي صحيح مسلم من حديث عروة، عن عائشة قالت: ((يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبّوهم)) (1) .
وقال سفيان الثوري رحمه الله: من قال: علي أحق بالولاية من أبي بكر وعمر فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، ولا أدري يرفع له عمل إلى السماء أم لا؟.
قال الزمخشري (2) : ويجوز أن يكون قوله: { ليغيظ بهم الكفار } تعليلاً لقوله: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك.
ومعنى { منهم } البيان، كقوله تعالى: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [الحج:30].
وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح (3) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2317 ح3022).
(2) ... الكشاف (4/350).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/450).(1/337)
وقال محمد بن جرير (1) : "منهم" يعني: من الشطء الذي أخرج الزرع، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة.
ورد الهاء والميم على معنى الشطأ لا على لفظه.
وقال أبو العالية في قوله: { وعملوا الصالحات } : أحبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - المذكورين في الآية. فبلغ قوله الحسن البصري رحمه الله، فارتضاه واستصوبه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... تفسير الطبري (26/115).(1/338)
سورة الحجرات
ijk
وهي ثماني عشرة آية (1) . وهي مدنية بإجماعهم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:230).(1/339)
لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ اجب
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } السبب في نزولها مع ما في حيزها: ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم بن عبدالله بن عبدالصمد، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي البغداديان قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: (( أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمِّرْ القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه: أمِّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: { يا أيها الذين(1/340)
آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله... } حتى انقضت الآية: { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } )) (1) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
قال ابن عباس: نهو أن يتكلموا بين يدي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقضي الله على لسان رسوله (3) .
وقال الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح (4) .
وقال قتادة: كان ناس يقولون (5) : لو أنزل فيَّ كذا، لو أنزل فيَّ كذا، فنزلت هذه الآية (6) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1834 ح4566).
(2) ... أخرجه الطبري (26/116)، وابن أبي حاتم (10/3302). وذكره السيوطي في الدر (7/546) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:605)، والطبري (26/116)، والبيهقي في الشعب (2/195 ح1516). وذكره السيوطي في الدر (7/547) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) ... أخرجه الطبري (26/117). وذكره السيوطي في الدر (7/547) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... من هنا يبدأ الجزء السادس من مخطوط المكتبة الظاهرية والذي يبدأ من أول الحجرات إلى آخر القرآن، وقد رمز لهذه النسخة بحرف (ب).
(6) ... أخرجه الطبري (26/117)، وابن أبي حاتم (10/3302). وذكره السيوطي في الدر (7/546) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/341)
قرأ يعقوب: "لا تَقَدَّمُوا" بفتح التاء والدال، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك، وابن سيرين، وقتادة. وقرأ باقي القراء العشرة: "تُقدِّموا" بضم التاء وكسر الدال (1) .
قال الفراء (2) : كلاهما صواب، يقال: قَدَمت وتقدَّمت.
وقال الزجاج (3) : كلاهما واحد.
وقال ابن جني (4) : المفعول على قراءة العامة محذوف.
والمعنى: لا تسبقوهما بالقول والفعل، ولا تقطعوا أمراً دونهما.
[وقيل] (5) : لا تمشوا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الثعلبي (6) : وكذلك بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء.
ودليل هذا التأويل: ما روى عطاء عن أبي الدرداء قال: ((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - أمشي أمام أبي بكر، فقال: تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، وما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير وأفضل من أبي بكر رضي الله عنه)) (7) .
__________
(1) ... انظر: النشر (2/375-376)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:397).
(2) ... معاني الفراء (3/69).
(3) ... معاني الزجاج (5/31).
(4) ... المحتسب (2/278).
(5) ... في الأصل: قيل. والمثبت من ب.
(6) ... تفسير الثعلبي (9/71).
(7) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (7/214).(1/342)
{ واتقوا الله } في التقدم بين يدي الله ورسوله { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأفعالكم.
قوله تعالى: { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } وبالإسناد قال البخاري: حدثنا [يسرة] (1) بن صفوان بن جميل اللخمي، حدثنا نافع (2) بن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: ((كاد الخيّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، قال: ما أردتُ خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي... الآية } . قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني: أبا بكر الصديق رضي الله عنه)) (3) .
__________
(1) ... في الأصل: بسرة. والتصويب من الصحيح (4/1833). وهو: يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي، أبو صفوان، وقيل: أبو عبد الرحمن الدمشقي البلاطي، كان ثقة، ولد سنة عشرة ومائة، ومات سنة خمس عشرة ومائتين (تهذيب التهذيب 11/331، والتقريب ص:607، وتهذيب الكمال 32/299-300).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: عن. وهو وهم. انظر: الصحيح (4/1833). ونافع: هو ابن عمر بن عبدالله بن جميل الجمحي. انظر: ترجمته في: التهذيب (10/365)، والتقريب (ص:558).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1833 ح4564).(1/343)
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد (1) ، حدثنا ابن عون (2) ، قال: أنبأني موسى بن أنس (3) ، عن أنس بن مالك: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته يبكي منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا -قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة- فقال: اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة)) (4) .
قوله تعالى: { ولا تجهروا له بالقول } وهو رفع الصوت عليه، ولا تظُنن أن المنهي عنه من ذلك ما قُصد به الاستخفاف، فإن ذلك كفر. والخطاب للمؤمنين.
ولأن رفع الصوت عنده حرام في كل حالة، فقد كان ذلك مشروعاً في الحرب وعند الحاجة، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((صوت أبي طلحة في الجيش خير من
__________
(1) ... أزهر بن سعد السمان، أبو بكر الباهلي البصري، ثقة مأمون، مات سنة ثلاث ومائتين (تهذيب التهذيب 1/177، والتقريب ص:97).
(2) ... عبد الله بن عون بن أرطبان المزني مولاهم، أبو عون البصري، ثقة ثبت فاضل، من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، مات سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 5/303-304، والتقريب ص:317).
(3) ... موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، قاضي البصرة، كان ثقة قليل الحديث (تهذيب التهذيب 10/298، والتقريب ص:549).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1833 ح4565).(1/344)
فئة)) (1) .
وقال للعباس عليه السلام يوم حنين: "اصرخ بالناس"، فصرخ: يا أصحاب السَّمُرة، وكان العباسُ أجهرَ الناس صوتاً (2) .
ويروى: أن غارةً أتتهم يوماً، فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته (3) .
بل المنهي عنه جهرٌ ينافي الهيبة والوقار، فندبهم إلى غضَّ أصواتهم عنده - صلى الله عليه وسلم - ؛ توقيراً وتعظيماً له - صلى الله عليه وسلم - .
وقال سعيد بن جبير والضحاك في قوله: { ولا تجهروا له بالقول } : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله (4) .
{ أن تحبط أعمالكم } قال الأخفش (5) : مخافة أن تحبط أعمالكم الصالحة.
وقيل: حبط الأعمال مجاز عن نقص المنزلة لا إسقاط العمل من أصله (6) .
قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } قال أبو بكر: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار، فأنزل الله في
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/112 ح12122).
(2) ... أخرجه مسلم (3/1398 ح1775).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (16/307).
(4) ... أخرجه الطبري (26/118) عن الضحاك. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/457).
(5) ... معاني الأخفش (ص:287).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/457).(1/345)
أبي بكر: { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ... الآية } (1) .
والغَضُّ مذكور في سورة لقمان (2) .
{ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } قال ابن عباس: أخلصها للتقوى من المعصية (3) .
وقال الزجاج (4) : اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما.
وقال ابن جرير (5) : اختبرها بامتحانه إياها فاصطفاها وأخلصها للتقوى.
¨bخ) الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... عند الآية رقم: 19.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/458).
(4) ... معاني الزجاج (5/33).
(5) ... تفسير الطبري (26/120).(1/346)
لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اخب
قوله تعالى: { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } هذا من تمام ما نزل في وفد بني تميم، على ما ذكرناه في حديث ابن الزبير.
قال جابر بن عبد الله: جاءت بنو تميم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادوا على الباب: يا محمد! اخرج، فإن مدحَنا زين وذمّنا شين، قال: فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحُه زين وذمه شين، فقالوا: نحن أناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بالشعر بُعثت ولا بالفخار أُمرت، ولكن هاتوا، فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدة ومالاً وسلاحاً، فمن أنكر علينا فضلنا وقولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وبفعال هو خير من فعالنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شماس -وكان خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قم فأجبه، فقام فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه، فقالوا: الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله، وعزاً لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا ماله ودمه، ومن أباها قتلناه، وكان رغمه في الله علينا هيناً. أقول قولي هذا(1/347)
وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
فقال الزبرقان لشاب من شبابهم: قم يا فلان فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقام الشاب فأنشد أبياتاً يفتخر فيها، أولها:
نحنُ الكرامُ فلا حيٌّ يُعادِلُنا ... فينا الرؤوسُ وفينا يُقسم الرّبع
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [قم] (1) يا حسان فأجبه، فقام حسان فأنشد أبياتاً منها:
إن الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهم ... قد شرعوا سُنَّةً للناس تُتَّبَع
ثم أنشد أبياتاً غيرها منها:
فأحياؤُنا من خير من وطِئَ الحصا ... وأمواتُنا من خير أهل المقابر
فقام الأقرع بن حابس فأنشد أبياتاً منها:
أتيناكَ كيما يعرفَ الناسُ فضلَنا ... إذا خالفُونا عند ذِكْرِ المكارم
وإنا رؤوسُ الناس من كل معشرٍ ... وأن ليسَ في أرضِ الحجاز [كَدَارِم] (2)
فأجابه حسان بن ثابت بأبيات منها:
فلا تجعلوا لله نِداً [وأسْلِمُوا] (3) ... ولا تَفْخَرُوا عند النبي بدارم
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: كدام. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: واسموا. والتصويب من ب.(1/348)
وإلا وربِّ البيتِ مالتْ أكفّنا ... على هَامِكُم بالمرْهَفَاتِ الصَّوارِم (1)
فقام الأقرع بن حابس فقال: ما أدري ما هذا! تكلم خطيبنا فكان خطيبكم أحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعركم أشعر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت هذه الآية (2) .
ويروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن قوله تعالى: { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } فقال: هم الجفاة من بني تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدَّجَّال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم (3) .
قال المفسرون: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نام للقائلة، فتأذى بأصواتهم، ولم يعلموا في أي حجرة هو، فكانوا يطوفون على الحجرات وينادونه.
قرأ أبو جعفر: "الحُجَرات" بفتح الجيم (4) ، وهي قراءة أبيّ بن كعب، وعائشة، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وأبي العالية، في آخرين.
وقرأ باقي القراء العشرة: "الحُجُرات" بضم الجيم. وأسكن الجيم أبو
__________
(1) ... انظر: ديوان حسان (ص:227). وانظر: الأبيات السابقة في: البحر (8/106-107).
(2) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:404-406)، والبغوي في تفسيره (4/211) مختصراً. وانظر: سيرة ابن هشام (5/251) وما بعدها، والبداية والنهاية (5/41) وما بعدها، وتاريخ الطبري (2/188) وما بعدها.
(3) ذكره ابن حجر في الإصابة (3/67 ح3176)، والسيوطي في الدر (7/553) وعزاه لابن منده وابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبدالله.
(4) ... انظر: النشر (2/376)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:397).(1/349)
[رزين] (1) ، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة (2) .
قال ابن قتيبة (3) : واحد الحُجُرات: حُجْرة، مثل: ظُلْمة وظُلُمات.
وقال الفراء (4) : وجه الكلام: أن تضم الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجَرَات، وربما خفّفوا. والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: { حتى تخرج إليهم } ؟
قلتُ: لأنه لو خرج إليهم لكان الأولى بهم والأليق بالأدب أن يصبروا حتى يخرج إليهم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ
__________
(1) ... في الأصل: زين. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/459)، والدر المصون (6/169).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:415).
(4) ... معاني الفراء (3/70).(1/349)
رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ارب
قوله تعالى: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً إلى بني المصطلق، فلما سمعوا به خرجوا ليتلقوه تعظيماً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحدثه الشيطان أنهم [يريدون] (1) قتله، وكان يعاديهم في الجاهلية، فرجع من الطريق إلى
__________
(1) ... في الأصل: يريدن. والتصويب من ب.(1/350)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهمَّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا: يا رسول الله! سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله، فبدا له الرجوع، فخشينا أنما يكون رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبت علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث خالد بن الوليد في خفية في عسكر، [وأمره] (1) أن يخفي عليهم قدومه، فقال له: انظر، فإن [كان] (2) رأيهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار، ففعل ذلك ووافاهم، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ صدقاتهم ولم ير منهم شيئاً إلا الطاعة والخير.
فانصرف خالد بن الوليد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ... الآية } (3) .
قوله تعالى: { فتبينوا } مذكور في سورة النساء (4) وتفسيره واختلاف القراء فيه.
__________
(1) ... في الأصل و ب: وأمرهم. وقد عدلت في هامش ب إلى: وأمره.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه أحمد (4/279)، والطبري (26/124)، وابن أبي حاتم (10/3303). وذكره الماوردي (5/328-329)، والسيوطي في الدر (7/555) وما بعدها من عدة طرق، فانظرها. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:407).
(4) ... عند الآية رقم: 94.(1/351)
{ أن تصيبوا } مفعول له (1) ، أي: [كراهة] (2) إصابتكم { قوماً } .
وقوله: { بجهالة } حال (3) ، كقوله تعالى: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم } [الأحزاب:25] يعني: جاهلين بحقيقة الأمر.
{ فتصبحوا } أي: فتصيروا { على ما فعلتم } من إصابتهم { نادمين } .
ثم وعظهم وخوفهم فقال: { واعلموا أن فيكم رسول الله } معناه: اجتنبوا الكذب وغيره من أسباب الفسق، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم، أفتأمنون أن يفضحكم الله تعالى بإطلاعه عليكم.
ثم قال تعالى: { لو يطيعكم في كثير من الأمر } مما تخبرونه به من الباطل { لعنتم } لوقعتم في العنت. وهو الضَّرر. وقيل: الإثم والهلاك.
{ ولكن الله حبب إليكم } (4) أيها المؤمنون المتحرزون من أسباب الفسق { الإيمان وزينه في قلوبكم } وحسنه عندكم بما ألهمكم من الهدى والبراهين الشاهدة بصحته.
{ وكرَّه إليكم الكفر والفسوق } قال ابن عباس: يريد: الكذب (5) .
{ والعصيان } جميع معاصي الله، { أولئك هم الراشدون } المهتدون إلى محاسن الأمور.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (6/169).
(2) ... في الأصل: كرهة. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: البحر المحيط (8/109).
(4) ... في الأصل زيادة قوله: "الإيمان". وستأتي بعد.
(5) ... ذكره القرطبي (16/314)، والبغوي (4/212).(1/352)
ثم أخبر الله تعالى أن ذلك بفضل منه فقال تعالى: { فضلاً من الله ونعمة } قال الزجاج (1) : منصوب مفعول له. والمعنى: [فعل] (2) الله ذلك بكم للفضل والنعمة عليكم.
{ والله عليم } بمن يحبب إليه الإيمان ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، { حكيم } في تدبيره وقضائه وتقديره.
bخ)ur بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/35).
(2) ... في الأصل: فضل. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.(1/353)
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اتةب
قوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } السبب في نزولها: ما أخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، وكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا [أنه] (1) أنزلت فيهم: { وإن طائفتان ... الآية } )) (2) .
قلتُ: واسم الرجل الذي غضب للنبي - صلى الله عليه وسلم - : عبدالله بن رواحة رضي الله عنه.
والقول على: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } كالقول على { هذان
__________
(1) ... في الأصل: أن. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه البخاري (2/958 ح2545)، ومسلم (3/1424 ح1799).(1/354)
خصمان اختصموا } [الحج:19].
وقرأ جماعة منهم: ابن مسعود، وأبيّ بن كعب: "اقتتلا" (1) .
{ فأصلحوا بينهما } بالدعاء إلى كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما { فإن بغت إحداهما على الأخرى } بطلب ما ليس لها، غير راضية بما أوجبه كتاب الله لها وعليها، { فقاتلوا التي تبغي } أي: تستطيل بغير الحق، { حتى تفيء إلى أمر الله } أي: ترجع إلى طاعته { وأقسطوا } اعدلوا في الإصلاح بينهما، { إن الله يحب المقسطين } .
{ إنما المؤمنون إخوة } في الدين.
قال الزجاج (2) : أعْلَمَ اللهُ تعالى أن الدين يجمعهم، وأنهم إخوة، إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب؛ لأنهم جميعاً ولد آدم وحواء، ولو اختلفت أديانهم لافترقوا في النسب، وإن كانوا في الأصل لأب وأم، ألا ترى أنه لا يرث الابن المؤمن من الأب الكافر، ولا الحميم المؤمن من نسيبه الكافر.
{ فأصلحوا بين أخويكم } قرأ الأكثرون على التثنية. وقرأ أبيّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ويعقوب في آخرين: "بين إخْوَتِكُم" بكسر الهمزة وسكون الخاء وتاء مكسورة (3) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/463)، والدر المصون (6/170).
(2) ... معاني الزجاج (5/36).
(3) ... النشر (2/376)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:397).(1/355)
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو رزين، [وأبو] (1) عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي: "إِخوانكم" بكسر الهمزة وألف بعد الواو ونون مكسورة (2) .
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو الياسري بهذه الأوجه الثلاثة لأبي عمرو.
والقراءتان تدلك على أن المراد بقراءة العامة الجمع وإن كان بصيغة التثنية.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه (3) ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (4) .
وقال بكر بن عبدالله المزني (5) : امش ميلاً وعد مريضاً، وامش ميلين وأصلح بين اثنين، وامش ثلاثة أميال وزُرْ أخاً في الله تعالى (6) .
__________
(1) ... في الأصل: أبو. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:397)، وزاد المسير (7/464).
(3) ... في الصحيحين: يسلمه.
(4) ... أخرجه البخاري (2/862 ح2310)، ومسلم (4/1996 ح2580).
(5) ... في هامش الأصل: قوله: قال بكر... إلخ، هو حديث أخرجه السيوطي في الجامع من رواية ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن مكحول مرسلاً، اللفظ بعينه.
(6) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" (ص:152) من حديث مكحول.(1/356)
فصل
وفي هاتين الآيتين دليل واضح على أن الباغي لا يخرج عن الإيمان، وقد سُئل علي عليه السلام -وهو القدوة في قتال أهل البغي- عن الخوارج: أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما (1) حالهم؟ فقال: إخواننا بغوا علينا (2) .
فصول: تتضمن أحكام البغاة
الفصل الأول:
الخارجون على الإمام ثلاثة أقسام: قسم لا تأويل لهم، فهؤلاء قطّاع طريق، وقد ذكرنا أحكامهم في المائدة، وكذلك إن كان لهم تأويل لكنهم عدد يسير لا منعة لهم؛ لأن علياً رضي الله عنه لم يُجْر ابن ملجم مجرى البغاة (3) .
القسم الثاني: [الخوارج] (4) الذين يُكفّرون أهل الحق، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويستحلون دماء [المسلمين] (5) ، فذهب عامة الفقهاء إلى أن حكمَهم حكمُ البغاة؛ لأن علياً رضي الله عنه قال: "إخوانُنا بغوا علينا"، وقال: "لا تبدؤوهم بالقتال". وكذلك عمر بن عبدالعزيز، من غير نكير، فكان
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: هم.
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/535 ح37763)، والبيهقي في الكبرى (8/173 ح16490) وفيهما: سئل علي عن أهل الجمل.
(3) ... انظر: المغني (9/3).
(4) ... في الأصل: الخارجون. والمثبت من ب.
(5) ... في الأصل: المسلمون. والتصويب من ب.(1/357)
إجماعاً (1) .
وذهبت طائفة من علماء الحديث إلى أنهم كفار، حكمهم حكم المرتدين؛ لما روى أبو سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأين ما لقيتهم فاقتلهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)) (2) .
وفي لفظ: ((لا يجاوز إيمانهم حناجرهم؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (3) .
فعلى هذا؛ يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسراهم واتباع مدبرهم، ومن قُدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل (4) .
القسم الثالث: قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ وراموا خلعه، ولهم مَنَعَة وشوكة، فهؤلاء بغاة وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم، للآية التي نحن في تفسيرها (5) .
ولأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة، وقاتل علي رضي الله عنه أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام يوم صفّين.
ولا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن اعْتَلُّوا بمَظْلَمَةٍ أزالها،
__________
(1) ... انظر: المغني (9/3-4).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1927 ح4770).
(3) ... أخرجه البخاري (3/1219 ح3166)، ومسلم (2/741 ح1064).
(4) ... انظر: المغني (9/4).
(5) ... انظر: المغني (9/5).(1/358)
أو شبهة كشفها؛ لأن علياً عليه السلام راسل عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير يوم الجمل: ما الذي أقدمكم؟ فاعتلّوا بطلب دم القتيل ظلماً أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأنهم خرجوا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، آخذين على أيدي الظَّلَمَة الفَجَرَة الذين قتلوا عثمان وانحازوا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، فأجابهم إلى ذلك طالباً منهم موافقتهم ومعاضدتهم، حتى يأخذوا على أيديهم ويقتلوهم، فانتظم أمر الفريقين على ذلك، فلما [أحسّ] (1) القتلة بما انتظم الأمر عليه انتهزوا الفرصة وغفلة الجيشين، فرشقوهم بالنبل، فقال طلحة والزبير: ما هذا؟ فقيل: عليٌّ يقاتلكم، فعبّوا أصحابهم للقتال، فقال علي: ما هذا؟ فقيل: طلحة والزبير قد تهيأوا لقتالك، فنشبت الحرب بينهم يومئذ.
وروى عبد الله بن شداد: أن علياً عليه السلام لما اعتزلته الحرورية بعث عبد الله بن عباس إليهم فقاضاهم إلى كتاب الله، وجَرَتْ بينهم مناظرة معروفة عند أهل العلم، فرجع منهم أربعة آلاف (2) .
الفصل الثاني:
إذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر ولم يجهز على جريح، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم يسب لهم ذرية (3) .
قال أبو أمامة: شهدت صفِّين، فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا
__________
(1) ... في الأصل: حسّ. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: المغني (9/5).
(3) ... انظر: المغني (9/6).(1/359)
يطلبون مولياً، ولا يسلبون قتيلاً (1) .
ولأن المقصود دفعهم، فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل.
ومن لم يُقاتل منهم لم يُقتل؛ لأن علياً رضي الله عنه قال يوم الجمل: إياكم وصاحب البرنس -يريد محمد بن طلحة السجاد- وكان حضر طاعةً لأبيه، ولم يقاتل (2) .
ومن قتل أحداً ممن مُنع من قتله ضمنه؛ لأنه قتل معصوماً لم يؤمر بقتله، وهل يقاد به؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقاد؛ لأنه [قَتَلَ] (3) مكافئاً عمداً.
والثاني: لا يقاد به؛ لتمكن الشبهة الدارئة [لوجوب] (4) القصاص.
الفصل الثالث:
من أتلف من الفريقين على الآخر مالاً أو نفساً حال التحام الحرب لم يضمنه.
قال الزهري: كانت الفتنة العظمى وفيهم البدريون، فأجمعوا على أن لا يجب حدّ على رجل ارتكبَ فَرْجاً حراماً بتأويل القرآن، ولا يُقتل رجلٌ سفكَ دماً حراماً بتأويل القرآن، ولا يُغرم ما أتلفه بتأويل القرآن (5) ؛ لأن العادل
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/498 ح33278)، والحاكم (2/167 ح2660).
(2) ... انظر: المغني (9/6).
(3) ... في الأصل: قاتل. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: لحوب. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: المغني (9/9).(1/360)
مأمور بالإتلاف، فلم يضمن، كما لو قتل الصائل عليه.
والبغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل، فلم يُضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب؛ كأهل العدل (1) .
ولأن تضمينهم ذلك يفضي إلى تنفيرهم عن الطاعة، فسقط كأهل الحرب.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يلزم البغاة ضمان ما أتلفوا على أهل العدل؛ لأنهم أتلفوه بغير حق فضمنوه، كقطّاع الطريق (2) .
الفصل الرابع:
إذا استولى البغاة على بلد فأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتُسب بذلك؛ لأن علياً رضي الله عنه لم يتبع ما فعله أهل البصرة وأخذوه.
وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري (3) .
ومن ادّعى دفع زكاته إليهم قُبل منه بغير يمين؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم (4) .
ومن ادّعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم لم يُقبل إلا ببينة؛ لأنها
__________
(1) ... انظر: المغني (9/8).
(2) ... انظر: المغني (9/9).
(3) ... انظر: المغني (9/13).
(4) ... مثل السابق.(1/361)
عوض، فأشبهت الأجرة (1) .
ومن ادّعى دفع خراجه إليهم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يُقبل؛ لأنه أجرة الأرض.
ولأنه خراج، أشبه الجزية.
والثاني: يُقبل؛ لأن الدافع مسلم، فقُبل قوله [فيه] (2) كالزكاة (3) .
فإن ولّوا قاضياً يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لم ينفُذ حكمه؛ لاختلال وصف العدالة، وإن كان عدلاً مجتهداً كان كقاضي أهل العدل، لكنه إن كتب إلى قاضي أهل العدل استُحب ألا يَقبل كتابه؛ إرغاماً له وكسراً لقلوبهم (4) .
الفصل الخامس:
إذا اقتتلت طائفتان من المسلمين فالعادلة منهما من كان الإمام معها، فإن لم [يكن] (5) مع إحداهما فهما [ظالمتان، يلزم كل طائفة منهما] (6) ضمان ما أتلفت على الأخرى (7) . والله تعالى أعلم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر: المغني (9/13).
(4) ... انظر: المغني (9/13).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... في الأصل: طائفتان يلزم واحدة. والتصويب من ب.
(7) ... انظر: المغني (9/7).(1/362)
آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ اتتب
قوله تعالى: { لا يسخر قوم من قوم } القوم: الرجال الذين يقومون بالأمور، [ولذلك] (1) قال: { ولا نساء من نساء } ، وقد ذكرنا ذلك في أوائل البقرة.
__________
(1) ... في الأصل: وكذلك. والتصويب من ب.(1/363)
وقوله تعالى: { عسى أن يكونوا خيراً منهم } و"خيراً منهم" (1) كلام مستأنف موقعه موقع جواب مستخبر عن علة النهي، ولولا ذلك لكان حقه أن يوصل [بالفاء] (2) .
والسبب في نزولها: ما روى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوماً يريد الدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبت مجلساً، فجلس مغضباً، ثم قال للرجل: من أنت؟ فقال: أنا فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة، فذكر أماً له كان يُعيّر بها في الجاهلية، فأغْضى الرجل ونكس رأسه، فنزلت هذه الآية (3) .
وقال الضحاك: نزلت في وفد تميم حين استهزؤوا بفقراء المسلمين؛ لما رأوا من رثاثة حالهم (4) .
قوله تعالى: { ولا نساء من نساء } نزل على سبب آخر، وهو ما روي عن أنس بن مالك: ((أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - عيّرن أم سلمة بقصرها، فنزلت هذه الآية)) (5) .
وقال ابن عباس: نزلت في امرأتين من [أزواج] (6) النبي - صلى الله عليه وسلم - سخرتا من
__________
(1) ... في ب: منهن.
(2) ... في الأصل: بالتاء. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:409)، وزاد المسير (7/465).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/465).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/466).
(6) ... في الأصل: أزاج. والتصويب من ب.(1/364)
أم سلمة، وذلك أنها ربطت حَقْوَيْها بسَبَنِيَّة (1) -وهو ثوب أبيض- [وسدلت] (2) طرفها خلفها. فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تَجُرُّ خلفها، كأنه لسان كلب (3) .
وروي عنه أيضاً: أن صفية بنت حيي أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن النساء يعيرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلاّ قلت: أبي هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين. فأنزل الله تعالى هذه الآية (4) .
قوله تعالى: { ولا تلمزوا أنفسكم } سبق تفسير اللمز (5) فيما مضى.
والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم، فإن المؤمنين كنفس واحدة.
{ ولا تنابزوا بالألقاب } أخرج الترمذي في جامعه وأبو داود -واللفظ له- عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: ((فينا نزلت هذه الآية بني سلمة، قال: قدم علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس منا رجل إلا وله اسمان [أو ثلاثة] (6) ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا فلان، فيقولون: مه يا رسول الله، إنه يغضبُ من هذا
__________
(1) ... السَّبَنِيَّة: ضَرْبٌ من الثياب تتخذ من مُشاقة الكتان أغلظ ما يكون. وقيل: منسوبة إلى موضع بناحية المغرب، يقال له: سَبَن (اللسان، مادة: سبن).
(2) ... في الأصل: وشد. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:409).
(4) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:409-410).
(5) ... في سورة التوبة، عند الآية رقم: 58.
(6) ... في الأصل: وثلاثة. والتصويب من سنن أبي داود (4/290)، و ب.(1/365)
الاسم، فأنزلت [هذه] (1) الآية: { ولا تنابزوا بالألقاب } )) (2) .
قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو لمن أسلم: يا يهودي، يا نصراني، يا كلب، يا حمار (3) .
فأما الألقاب الحسنة التي لا تقتضي غيظاً [ولا] (4) أذى ولا كذباً؛ كالصِّدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وسيف الله لخالد، وأمثال ذلك، فغير مكروهة ولا منهي عنها.
قوله تعالى: { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي: بئس الاسم أن يقول: يا يهودي وقد أسلم، أو يا فاسق وهو طائع.
{ ومن لم يتب } عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب { فأولئك هم الظالمون } .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
__________
(1) ... زيادة من سنن أبي داود (4/290)، و ب.
(2) ... أخرجه أبو داود (4/290 ح4962)، والترمذي (5/388 ح3268).
(3) ... أخرجه الطبري (26/133)، وابن أبي حاتم (10/3304). وذكره السيوطي في الدر (7/564) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء. ومن طريق آخر عن ابن مسعود، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4) ... في الأصل: أو. والتصويب من ب.(1/366)
وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ اتثب
قوله تعالى: { اجتنبوا كثيراً من الظن } قال الزجاج (1) : هو أن تظن بأهل الخير سوءاً. فأما أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم.
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً، [أو يدخل] (2) مدخلاً لا يريد به [سوءاً] (3) ، فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءاً (4) .
قال القاضي أبو يعلى بن الفراء رضي الله عنه: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْهَ عن جميع الظن، والظن على أربعة أضرب: محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إليه.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/36-37).
(2) ... في الأصل: ويدخل. والمثبت من ب.
(3) ... في الأصل: سواء. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/469).(1/367)
فأما المحظور: فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب حسن الظن بالله تعالى، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور.
وأما الظن المأمور به: فهو ما لم ينتصب عليه دليل يوصل إلى العلم به، وقد تُعُبّدنا بتنفيذ الحكم فيه [والاقتصار] (1) على غالب الظن، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العدول، وتحرّي القِبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات، التي لم يرد بمقاديرها توقيف.
وأما الظن المباح: كالشاكّ في الصلاة إذا كان إماماً، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحري والعمل على ما يغلب على ظنه، فإن فعله كان مباحاً، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزاً.
وأما الظن المندوب إليه: فهو إحسانُ الظن بالأخ المسلم، يُندبُ إليه ويُثاب عليه.
وأما ما روي في الحديث: ((احترسوا من الناس بسوء الظن)) (2) ، فالمراد: الاحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرَّاق (3) .
{ إن بعض الظن إثم } وهو الظن الذي نُهي عن مُسَاكنته.
{ ولا تجسسوا } وقرأ أبو رزين، والحسن، والضحاك، وابن سيرين،
__________
(1) ... في الأصل: والإقصار. والمثبت من ب.
(2) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (1/189 ح598).
(3) ... ذكر قول أبي يعلى هذا: ابن الجوزي في زاد المسير (7/469-470).(1/368)
وأبو رجاء: بالحاء (1) .
قال أبو عبيدة (2) : هما واحد وهو التبحث، ومنه: الجاسوس.
وقيل: [التجسس] (3) -بالجيم-: البحث عن عورات الناس، [وبالحاء] (4) : الاستماع لحديث القوم (5) .
أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن ثابت المعروف بابن الطالباني الفقيه الحنبلي رحمه الله بقراءتي عليه وقراءة غيري، قال: أخبرنا أبو منصور بن مكارم بن أحمد بن سعد المؤدب الموصلي، أخبرنا الشيخ نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان، أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم السرّاج، أخبرنا أبو طاهر هبة الله بن إبراهيم بن أنس، حدثنا أبو الحسن علي بن عبدالله بن طوق، حدثنا أبو جابر زيد بن عبدالعزيز بن حيان، حدثنا محمد بن عبدالله بن عمار (6) ، حدثنا المعافى بن عمران (7) ، عن ابن لهيعة، حدثنا عبدالرحمن
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:398)، وزاد المسير (7/471).
(2) ... مجاز القرآن (2/220).
(3) ... في الأصل: التجسيس. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: والحاء. والتصويب من ب. وانظر: زاد المسير (7/471).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/471).
(6) ... محمد بن عبد الله بن عمار بن سوادة الأزدي الغامدي، أبو جعفر البغدادي المخرمي، نزيل الموصل، كان ثقة صاحب حديث، وأحد الحفاظ المكثرين، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 9/236، والتقريب ص:489).
(7) ... المعافى بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مخاشن بن سلمة بن مالك بن فهم الأزدي الفهمي، أبو مسعود النفيلي الموصلي، رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وجالس العلماء، ولزم الثوري وتأدب بآدابه، وتفقه به، وأكثر عنه وعن غيره، وكان زاهداً فاضلاً، شريفاً كريماً عاقلاً، مات سنة خمس أو ست وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 10/180، والتقريب ص:537).(1/369)
الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسَّسُوا ولا تحسَّسُوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى)) (1) .
وأخبرنا به عالياً أبو العباس الخضر بن كامل بن سالم الدمشقي، قراءة عليه وأنا أسمع يوم السبت الثامن والعشرين من شوال سنة ست وستمائة بظاهر دمشق، أخبرنا أبو الدر ياقوت بن عبدالله التاجر مولى ابن البخاري، أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن عبدالله بن [هزارمرد] (2) الصريفيني، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبدالرحمن المخلص، حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، حدثنا عبيدالله بن محمد العيشي (3) ، حدثنا
وهيب (4) ، عن عبدالله بن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والظن... فذكر الحديث)) (5) ، وجعل بدل قوله: "ولا تحاسدوا":
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/1976 ح4849)، ومسلم (4/1985 ح2563).
(2) ... في الأصل: زارمرد. والتصويب من ب.
(3) ... عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى التميمي، أبو عبد الرحمن البصري، المعروف بالعيشي، والعائشي، وبابن عائشة؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة، ثقة صدوق، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 7/41، والتقريب ص:374).
(4) ... وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، صاحب الكرابيس، ثقة ثبت لكنه تغير قليلاً بأخرة، مات سنة خمس وستين ومائة (تهذيب التهذيب 11/149، والتقريب ص:586).
(5) ... أخرجه مسلم (4/1985 ح2563).(1/370)
"ولا تنافسوا.
قوله تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضاً } القول على هذه الجملة تحصره ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في ماهية الغيبة
وهي ما أخبرنا به أبو علي حنبل بن عبدالله بن الفرج في كتابه قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، أخبرنا عبدالله قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عفان (1) ، حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم، حدثنا العلاء (2) ، عن أبيه (3) ، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أنه قيل له: ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) (4) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة [بن] (5) سعيد، [عن] (6) إسماعيل، عن
__________
(1) ... عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار، أبو عثمان البصري، مولى عزرة الأنصاري، ثقة ثبت، مات سنة عشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 7/205-208، والتقريب ص:393).
(2) ... العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، أبو شبل المدني، مولى الحرقة، من جهينة، كان ثقة، مات سنة بضع وثلاثين (تهذيب التهذيب 8/166، والتقريب ص:435).
(3) ... عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، مولى الحرقة، تابعي ثقة (تهذيب التهذيب 6/269، والتقريب ص:353).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2001 ح2589)، وأحمد (2/384 ح8973).
(5) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: بن. والتصويب من ب.(1/371)
العلاء.
وفي هذا تنبيه على [أن] (1) الفاسق المستهتر لا غيبة له؛ لأنه لو كره [ما يُقال] (2) فيه ما أظهره وأشاعه على نفسه.
وفي حديث بهز بن حكيم (3) ، عن أبيه (4) ، عن جده (5) ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس للفاسق غيبة)) (6) .
وأخبرنا الشيخان أبو عبدالله محمد بن أحمد بن هبة الله، وأبو الرجاء عبدالهادي بن أحمد بن علي بن قاسم (7) الهمذانيان، إجازة [من] (8) همذان،
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: عما يقول يقال. والتصويب من ب.
(3) ... بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، أبو عبد الملك القشيري، ثقة صدوق، مات قبل الستين ومائة (تهذيب التهذيب 1/437، والتقريب ص:128).
(4) ... حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، والد بهز، تابعي صدوق (تهذيب التهذيب 2/387، والتقريب ص:177).
(5) ... معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري، صحابي نزل البصرة ومات بخراسان (تهذيب التهذيب 10/185، والتقريب ص:537).
(6) ... أخرجه الطبراني (19/418 ، ح 1011)، قال الهيثمي (1/149): فيه العلاء بن بشر ضعفه الأزدي. والبيهقي في شعب الإيمان (7/109 ، ح 9665) وقال: قال أبو عبد الله (يعني الحاكم): غير صحيح. وأخرجه أيضاً: القضاعي (2/202 ، ح 1185) .
(7) ... عبد الهادي بن أحمد بن علي بن قاسم الحطبي، أبو الرجاء الهمداني. حدث عن أبي المحاسن نصر بن المظفر البرمكي، كان شيخ مسنّ صحيح السماع، ويكتب طبقة السماع على البرمكي (تكملة الإكمال 2/514).
(8) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب.(1/372)
أن أبا المحاسن نصر بن المظفر البرمكي الجرجاني (1) أخبرهم قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور، أخبرنا أبو القاسم عيسى (2) ، حدثنا أبي أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير (3) قال: قرئ على أبي علي إسماعيل بن العباس الوراق (4) وأنا أسمع، حدثكم الفضل بن يعقوب (5) ، حدثنا أبو
__________
(1) نصر بن المظفر بن الحسين بن أحمد بن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك، أبو المحاسن البرمكي الجرجاني الأصل الهمذاني، أكثر الأسفار ودخل خراسان وبخارى ودمشق، وتوفي بهمذان سنة تسع وأربعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/263، والتقييد ص:465).
(2) ... عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير، أبو القاسم، أملى مجالس عن البغوي وطبقته. كان يرمى بشيء من رأي الفلاسفة ولم يصح ذا عنه، توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة (لسان الميزان 4/402، وميزان الاعتدال 5/384، وتاريخ بغداد 11/179).
(3) ... علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير البغدادي، أبو الحسن، الكاتب مرة للمقتدر وللقاهر، ولد سنة نيف وأربعين ومائتين، وكان كثير الصدقات والصلوات، مجلسه موفور بالعلماء، توفي في آخر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وله تسعون سنة (سير أعلام النبلاء 15/298-301).
(4) ... إسماعيل بن العباس بن عمر بن مهران البغدادي، أبو علي الوراق، ثقة، ولد في سنة أربعين ومائتين، وتوفي راجعاً من الحج في الطريق في المحرم سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/74، وتاريخ بغداد 6/300).
(5) ... الفضل بن يعقوب بن إبراهيم بن موسى الرخامي، أبو العباس البغدادي، ثقة حافظ صدوق، مات في أول جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين ومائتين (تهذيب التهذيب 8/259، والتقريب ص:447).(1/373)
[عصام] (1) العسقلاني (2) ، حدثنا أبو سعد الساعدي (3) ، عن أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)) (4) .
وقال سعيد بن جبير: إذا قلت في الرجل خلفه ما تقوله في وجهه فليس بغيبة.
الفصل الثاني: في الزجر عن الغيبة
وبالإسناد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد (5) ، حدثني أبي (6) ، حدثنا واصل مولى أبي عيينة (7) ، حدثني خالد بن عرفطة (8) ، عن طلحة بن
__________
(1) ... في الأصل: عاصم. والتصويب من مصادر الترجمة. انظر: التعليق التالي.
(2) ... هو رواد بن الجراح، أبو عصام العسقلاني، أصله من خراسان، صدوق اختلط بأخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد (تهذيب التهذيب 3/249، والتقريب ص:211).
(3) ... أبو سعد الساعدي. روى عن أنس بن مالك. قال أبو حاتم: مجهول، وقال الدارقطني: مجهول يترك حديثه (تهذيب التهذيب 12/117، والتقريب ص:643).
(4) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (10/210).
(5) ... عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري مولاهم التنوري، أبو سهل البصري، كان ثقة مأمون، مات سنة ست وسبع ومائتين (تهذيب التهذيب 6/291، والتقريب ص:356).
(6) ... عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري مولاهم التنوري، أبو عبيدة البصري، كان ثقة ثبت حجة، رمي بالقدر ولم يثبت عنه، توفي بالبصرة في المحرم سنة ثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 6/391-392، والتقريب ص:367).
(7) ... واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي البصري، ثقة صدوق، صالح الحديث (تهذيب التهذيب 11/93، والتقريب ص:579).
(8) ... خالد بن عرفطة، روى عن حبيب بن سالم، والحسن البصري، وطلحة بن نافع. ... روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وعبد الله بن زياد بن درهم، وقتادة، وواصل مولى أبي عيينة (تهذيب الكمال 8/130، والتقريب ص:189).(1/374)
نافع (1) ، عن جابر بن عبد الله قال: ((كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس)) (2) .
وبالإسناد قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر (3) قال: أخبرنا أبو بكر (4) -يعني: ابن عياش-، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله [بن] (5) جريج (6) ، عن أبي برزة الأسلمي (7) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا معشر من
__________
(1) ... طلحة بن نافع القرشي مولاهم، أبو سفيان الواسطي، ويقال: المكي الإسكاف، صدوق (تهذيب الكمال 13/438-440، والتقريب ص:283).
(2) ... أخرجه أحمد (3/351 ح14826).
(3) ... الأسود بن عامر شاذان، أبو عبد الرحمن الشامي، نزيل بغداد، ثقة صدوق، مات أول سنة ثمان ومائتين (تهذيب التهذيب 1/297، والتقريب ص:111).
(4) ... أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط المقرئ، مولى واصل الأحدب، كان من العُبّاد الحفّاظ المتقنين، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، ومات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 12/37-39، والتقريب ص:624).
(5) ... في الأصل: عن. والمثبت من ب. وانظر مسند أحمد (4/420).
(6) ... سعيد بن عبد الله بن جريج الأسلمي البصري، مولى أبي برزة، روى عن مولاه، وعن نافع مولى ابن عمر، ومحمد بن سيرين، وعنه الأعمش، وعزرة بن ثابت، وحوشب بن عقيل، وأبان بن أبي عياش (تهذيب التهذيب 4/46، والتقريب ص:237).
(7) ... نضلة بن عبيد، أبو برزة الأسلمي، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أسلم قبل الفتح، وكان من ساكني المدينة ثم البصرة، شهد مع علي فقاتل الخوارج بالنهروان، وغزا بعد ذلك خراسان فمات بها بعد سنة أربع وستين (تهذيب التهذيب 10/399، والتقريب ص:563).(1/375)
آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) (1) .
وقال أسامة بن شريك (2) : سمعت الأعاريب يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل علينا جُناح في كذا وكذا؟ فقال: ((عبادَ الله! وَضَعَ الله تعالى الحرج إلا امرؤ اقترض من عرض أخيه فذاك الذي حرج)) (3) .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربى الربا استطالةُ الرجل في عرض أخيه)) (4) .
قرأتُ على أبي القاسم بن أبي الفرج اليعقوبي، أخبركم أبو القاسم يحيى بن أسعد فأقرَّ به قال: أخبرنا أبو العز بن كادش، أخبرنا أبو علي الجازري، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا أبو حاتم (5) ، عن العتبي (6) ، عن أبيه قال: كان أبو
__________
(1) ... أخرجه أحمد (4/420).
(2) ... أسامة بن شريك الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد، له صحبة وأحاديث، تفرد بالرواية عنه زياد بن علاقة (تهذيب التهذيب 1/184، والتقريب ص:98).
(3) ... أخرجه الحميدي في مسنده (2/363 ح824).
(4) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/395 ح5522).
(5) ... سهل بن محمد بن عثمان، أبو حاتم السجستاني النحوي المقرئ، صدوق فيه دعابة، مات سنة خمس وخمسين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/226، والتقريب ص:258).
(6) ... محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي، أبو عبد الرحمن العتبي البصري، العلامة الأخباري، مات سنة ثمان وعشرين ومئتين (سير أعلام النبلاء 11/96).(1/376)
حنظلة يقول: إنه لينبغي لك أن يدلك عقلك على ترك القول في أخيك، ففيه خلال ثلاث: أما واحدةٌ فلعلك أن تذكره بما هو فيك، أو لعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فما هذا جزاء العافية أن تجحد الشكر عليها، [أو لعلك] (1) تذكره بما فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، أما كنت تسمع: [ارحم] (2) أخاك، واحمد الله الذي عافاك (3) .
الفصل الثالث: في كفارتها
روى سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا اغتاب أحدكم أخاه من خلفه فليستغفر الله، فإن ذلك كفارة له)) (4) .
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كفارة من اغتبت أن تستغفر الله)) (5) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى ضرب للغيبة مثلاً فقال تعالى: { أيحب أحدكم
__________
(1) ... في الأصل: ولعلك. والمثبت من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في: صفة الصفوة (3/176).
(4) ... ذكره ابن عدي في الكامل (3/247)، وابن حجر في اللسان (3/79) في ترجمة سليمان بن عمرو بن عبدالله. قال ابن عدي: وهذه الأحاديث عن أبي حازم كلها مما وضعه سليمان بن عمرو عليه.
(5) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص:171)، وفي كتاب الغيبة والنميمة (ص:131).(1/377)
أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فنهى سبحانه وتعالى عن الاغتياب، ثم حذر منه بأوكد الأسباب فقال: { أيحب أحدكم } يعني مع الإباء البشري والتنزه عن الخلق البهيمي أن يأكل لحم إنسان من جنسه، ثم جعله أخاً له ليجمع إلى كراهية الإنسان لحم من لا يقتات بمثله كون المأكول أخاً له يحنو عليه ويفتديه من المكاره بنفسه، ثم جعل ذلك الأخ ميتاً، إذ كان أكل الميت من لحوم الطير المشتهاة لا تقبله النفس ولو شارفت من الطَّوي الموت، فكيف إذا كان بشراً، ثم قسيماً في النسب وأخاً.
قال قتادة: كما يمتنع أحدكم من أكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع أن يغتابه (1) .
قال الماوردي (2) : استعمل أكل اللحم مكان الغيبة؛ لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر:
وإن أكَلُوا لحمي وفرْتُ لحومهم ... وإنْ هَدمُوا مجدي بنيتُ لهم مجدا (3)
قوله تعالى: { فكرهتموه } وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري: "فَكُرِّهْتُمُوه" بضم الكاف وتشديد الراء (4) .
قال الفراء (5) : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/335).
(2) ... تفسير الماوردي (5/335).
(3) ... البيت للمقنع الكندي، وهو في: الأغاني (17/111)، وديوان الحماسة (2/38)، وجمهرة الأمثال (2/206)، والماوردي (5/335)، والقرطبي (16/335).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/472)، والدر المصون (6/171).
(5) ... معاني الفراء (3/73).(1/378)
قال الزجاج (1) : تأويله: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً، كذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائباً.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ں@ح !$t7s%ur لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ اتجب
قوله تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } أي: من آدم وحواء. هذا استنزال للعرب عما أَلِفُوهُ من التفاخر بالأحساب، وتعريض لهم بالزجر عن الاستسخار واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة، حيث أعلمهم أنهم من أب واحد وأم واحدة.
{ وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } لا لتتفاخروا.
قال جمهور المفسرين واللغويين: الشُّعُوب: جمع شَعْب -بفتح الشين- وهو الحي العظيم، مثل: ربيعة ومضر، والقبائل دونها؛ كبكر من ربيعة،
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/37).(1/379)
وتميم من مضر. سميت بذلك؛ لتَشَعُّبِ القبائل منها.
وقال مجاهد: الشُّعوب: النسب الأبعد، والقبائل: النسب الأقرب (1) .
وقيل: الشُّعوب: [عرب] (2) اليمن من قحطان، والقبائل: ربيعة ومضر وسائر عدنان (3) .
وروى عطاء عن ابن عباس: الشُّعوب: الموالي، والقبائل: العرب (4) .
وقال قوم: هم من لا يعرف لهم نسب؛ كالهند والترك.
وقرأ الأكثرون: "لِتَعَارَفُوا"، وشَدَّد التاء مجاهد وأبو المتوكل وابن محيصن (5) .
وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: "لِتَعْرِفوا" بغير ألف وكسر الراء وسكون العين (6) ، من عرف يعرف، والمفعول محذوف على هذه القراءة.
وقرأ أبو نهيك والأعمش: "لِتَتَعَرَّفُوا" بتاءين مفتوحة الراء مُشدَّدة من غير ألف (7) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:608)، والطبري (26/139). وذكره السيوطي في الدر (7/579) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... في الأصل: العرب. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الماوردي في تفسيره (5/336).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/158)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/474).
(5) ... انظر: النشر (2/232-233)، والإتحاف (ص:398).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/474)، والدر المصون (6/172).
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (7/474)، والدر المصون (6/171).(1/380)
وفي قوله تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } إعلام أن ارتفاع المنازل عند الله تعالى بالتقوى لا بالنسب.
قرأتُ على الشيخ أبي الحسن علي بن ثابت الطالباني الفقيه الحنبلي رحمه الله، أخبركم أبو منصور بن مكارم المؤدب فأقرَّ به، أخبرنا أبو القاسم نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان، أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم السراج، أخبرنا أبو طاهر هبة الله بن إبراهيم بن أنس، أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن عبدالله بن طوق، حدثنا أبو جابر زيد بن عبد العزيز بن حيان، حدثنا محمد بن عبدالله بن عمار، حدثنا المعافى بن عمران رحمه الله، عن موسى بن خلف، عن أبي المقدام (1) ، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((منْ سرَّه أن يكون أكرمَ الناس فليتقِ الله عز وجل)) (2) .
وبهذا الإسناد قال: حدثنا المعافى، عن هشام [بن] (3) سعد (4) ، حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله قد أذهب
__________
(1) ... هشام بن زياد بن أبي يزيد القرشي، أبو المقدام بن أبي هشام المدني، مولى عثمان، ضعيف متروك الحديث (تهذيب التهذيب 11/36، والتقريب ص:572).
(2) ... أخرجه الحارث في مسنده (2/967 ح1070) مطولاً، والشهاب في مسنده (1/234 ح367)، وأبو نعيم في الحلية (3/218).
(3) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب، وسنن أبي داود. وانظر ترجمته في التعليق التالي.
(4) ... هشام بن سعد المدني، أبو عباد، ويقال: أبو سعد القرشي مولاهم، صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع، مات سنة ستين ومائة (تهذيب التهذيب 11/37، والتقريب ص:572).(1/381)
عنكم [عُبَّيَةَ] (1) الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، [أو ليكُونُنَّ] (2) أهونَ على الله من الجِعْلان التي تدفع بأنفها النَّتن)) (3) .
وقال رجل لعيسى بن مريم: أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال: أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم (4) .
* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ
__________
(1) ... في الأصل: غيبة. والتصويب من ب، وسنن أبي داود. وعُبَيَّة الجاهلية: الكِبْر (اللسان، مادة: عبب).
(2) ... في الأصل: وليكونن. والتصويب من ب، وسنن أبي داود.
(3) ... أخرجه أبو داود (4/331 ح5116). والجِعْلان: جمع، واحده: جُعَل. وهو: حيوان معروف يشبه الخنفساء (اللسان، مادة: جعل).
(4) ... أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/451).(1/382)
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا(1/383)
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ اترب
قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } قال المفسرون: نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة، قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في سنة مجدبة، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنّون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك. فنزلت هذه الآية (1) .
قال الزجاج (2) : الإسلام: إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/141-142). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/475-476)، والسيوطي في الدر (7/583) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
(2) ... معاني الزجاج (5/38).(1/384)
وبذلك يحقن الدم، فإن [كان] (1) مع ذلك الإظهار اعتقاد [وتصديق] (2) بالقلب فذلك الإيمان. والذي هذه صفته مؤمن مسلم. فأما من أظهر قبول الشريعة فهو في الظاهر مسلم، وفي الباطن غير مُصدق، فقد أخرجه الله من الإيمان بقوله: { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي: لم تصدقوا بما أسلمتم تعوذاً من القتل.
{ وإن تطيعوا الله ورسوله } قال ابن عباس: إن تخلصوا الإيمان (3) .
{ لا يَأْلِتْكُم من أعمالكم شيئاً } قرأ أبو عمرو: "يألتكم" بهمزة بعد الياء، من أَلَتَ يَأْلِتُ أَلْتاً، مثل: ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْباً، وحجته: { ما ألتناهم من عملهم من شيء } [الطور:21].
وقرأ الباقون "يَلِتْكُم" بغير همز (4) ، من لاَتَ يَلِيتُ، مثل: بَاعَ يَبِيعُ. وحُجتهم: أنها مكتوبة في المصحف بغير ألف. ومعناهما واحد.
قال ابن عباس: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً (5) . [وأنشدوا] (6) قول الحطيئة:
__________
(1) ... زيادة من ب، ومن معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل و ب: أو تصديق. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/160)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/477).
(4) ... الحجة للفارسي (3/414)، والحجة لابن زنجلة (ص:676)، والكشف (2/284)، والنشر (2/376)، والإتحاف (ص:398)، والسبعة (ص:606).
(5) ... ذكره الماوردي (5/338).
(6) ... في الأصل: وأنشد. والمثبت من ب.(1/385)
أبلغْ سَراةَ بني سعدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرِّسَالةِ لا أَلْتاً ولا كَذِبَا (1)
أي: لا نقصاناً ولا كذباً.
وقيل: المعنى: لا نمنعكم من ثواب أعمالكم شيئاً، وأنشدوا قول رؤبة:
وليلةٍ ذاتِ نَدىً سريتُ ... ... ولم يَلِتْنِي عنْ سُرَاهَا ليتُ (2)
والمعنى متقارب.
ثم نعت الله تعالى المؤمنين في الآية التي تليها.
قال المفسرون: لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، وعرف [الله] (3) غير ذلك منهم، فأنزل الله تعالى: { قل أتعلمون الله بدينكم } (4) .
علم هاهنا بمعنى: أعلم، ولذلك دخلت الباء في "بدينكم".
{ والله يعلم ما في السموات وما في الأرض } فهو يعلم ما أنتم عليه لا يحتاج إلى إخباركم. وفيهم نزل: { يمنون عليك أن أسلموا } فإنهم قالوا:
__________
(1) ... البيت للحطيئة. انظر: ديوانه (ص:7)، والمحتسب (2/290)، واللسان (مادة: ألت)، والبحر (8/104)، والدر المصون (6/172)، والقرطبي (16/349)، والطبري (27/27)، والدر المنثور (7/584)، وروح المعاني (26/168)، والماوردي (5/338).
(2) ... البيت لرؤبة. وهو في: المحتسب (2/290)، واللسان (مادة: ليت)، والطبري (26/143)، والقرطبي (16/349)، وزاد المسير (7/477)، والبحر (8/104)، والدر المصون (6/172)، والماوردي (5/338).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/477).(1/386)
أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان (1) .
قرأ ابن كثير: { والله بصير بما يعملون } بالياء على لفظ الغيبة؛ لتقدم ذكرها في قوله: { يمنون } .
وقرأ الباقون بالتاء (2) ، حملاً على قوله: { قل لا تمنوا } وما في حيزه . والله أعلم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/145)، وابن أبي حاتم (10/3306)، والنسائي في الكبرى (6/467 ح11519)، والطبراني في الأوسط (8/78 ح8016). وذكره السيوطي في الدر (7/585) وعزاه لابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن عبدالله بن أبي أوفى. ومن طريق آخر عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن.
(2) ... الحجة للفارسي (3/414-415)، والحجة لابن زنجلة (ص:677)، والكشف (2/284)، والنشر (2/376)، والإتحاف (ص:398)، والسبعة (ص:606).(1/387)
سورة ق
ijk
وهي [خمس وأربعون] (1) آية في العددين (2) .
وهي مكية في قول عامة المفسرين. واستثنى ابن عباس وقتادة آية واحدة، وهي قوله تعالى: { ولقد خلقنا السموات والأرض } (3) .
ْX وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
__________
(1) ... في الأصل و ب: أربع وخمسون. وهو خطأ. وقد صححت في هامش الأصل: خمس وأربعون.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:231).
(3) ... انظر: الماوردي (5/339)، وزاد المسير (8/3)، والإتقان (1/53).(1/389)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ اخب
قال الله تعالى: { X والقرآن المجيد } قرأ الأكثرون: "قافْ" [بسكون] (1) الفاء. ونصبها أبو عبدالرحمن وأبو رجاء وأبو المتوكل وأبو الجوزاء، ورفعها أبو رزين وقتادة، وكسرها الحسن وأبو عمران الجوني (2) .
وقد سبق القول على علل ذلك في سورة "ص"، وعلى الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به (3) .
وقال قتادة: من أسماء القرآن (4) .
__________
(1) ... في الأصل: بكسر. والتصويب من ب.
(2) ... انظر هذه القراءات في: زاد المسير (8/3-4)، والدر المصون (6/174)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:398).
(3) ... أخرجه الطبري (26/147). وذكره السيوطي في الدر (7/589) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (26/147). وذكره السيوطي في الدر (7/589) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.(1/390)
وقال مجاهد والفراء والزجاج (1) : معناه: قضي الأمر، كما قيل في "حم": حُمّ الأمر (2) .
وقال الضحاك: هو اسم للجبل المحيط بالأرض (3) ، وهو من زمردة خضراء، عليه كتفا السماء، وخضرة السماء منه (4) .
قال ابن عباس: خلق الله تعالى جبلاً يقال له: قاف، يحيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا (5) أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فتحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية (6) .
وقال أبو العالية: هو افتتاح اسم قدير (7) .
وقال القرظي: افتتاح كل اسم لله أوله قاف، مثل: قدير، وقاهر، وقريب (8) .
__________
(1) ... معاني الفراء (3/75)، ومعاني الزجاج (5/41).
(2) ... ذكره الماوردي (5/339).
(3) ... ذكره الطبري (26/147) بلا نسبة، والماوردي (5/339).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/4).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: إذا.
(6) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "العقوبات" (ص:32)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1489 ح9803). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/589) وعزاه لابن أبي الدنيا في العقوبات وأبي الشيخ في العظمة.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/4).
(8) ... مثل السابق.(1/391)
وقال أبو بكر الوراق: معناه: قف عند أمرنا ونهينا (1) .
وقيل: معناه: قل يا محمد (2) .
والمجيد: [الكريم] (3) ، في قول ابن عباس وعامة المفسرين (4) .
فإن قيل: أين جواب القسم؟
قلتُ: قال الأخفش (5) : جوابه محذوف، تقديره: والقرآن المجيد لتبعثن. ويدل عليه قوله تعالى: { أإذا متنا } .
وقيل: جوابه: إن محمداً رسول الله، بدليل قوله تعالى: { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } (6) .
وقال ابن كيسان: جوابه: { ما يلفظ من قول } (7) .
وقيل: { قد علمنا } أي: لقد علمنا، فحذف اللام؛ كقوله تعالى: { قد أفلح من زكاها } (8) [الشمس:9].
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/5).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/5) حكاية عن الثعلبي.
(3) ... في الأصل: والكريم. والمثبت من ب.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3307)، والطبري (26/147). وذكره السيوطي في الدر (7/589) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(5) ... معاني الأخفش (ص:287).
(6) ... ذكره الماوردي (5/340).
(7) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/3).
(8) ... انظر: زاد المسير (8/5).(1/392)
وقال أهل الكوفة: جوابه: { بل عجبوا } وهو مفسر في "ص" (1) إلى قوله تعالى: { شيء عجيب } ، أي: معجب (2) .
{ أءذا متنا وكنا تراباً } فيه إضمار، تقديره: نبعث، فحذفه لدلالة الكلام عليه.
{ ذلك رجع بعيد } رد إلى الحياة بعيد غير كائن.
{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي: ما تأكله من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وتشرب من دمائهم.
وقال قتادة: قد علمنا من يموت منهم (3) .
{ وعندنا } بذلك وبغيره { كتاب حفيظ } محفوظ من التبديل والتغيير، أو حافظ لأسمائهم وعدتهم، وهو اللوح المحفوظ.
{ بل كذبوا بالحق لَمَّا جاءهم } وقرأ عاصم الجحدري: "لِمَا" بكسر اللام وتخفيف الميم (4) ، أي: عند مجيئه إياهم.
قال ابن جني (5) : هو كقولهم: أعطيته ما سأل لطِلْبَتِهِ، أي: عند طلبته ومع طِلْبَتِهِ، وكذلك في التاريخ: لخَمْس خَلَوْن، أي: عند خمس خلون، أو مع خمس خلون، فيرجع ذلك بالمعنى إلى قراءة العامة.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 4.
(2) ... انظر: زاد المسير (8/6).
(3) ... أخرجه الطبري (26/149). وذكره الماوردي (5/340).
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (8/121)، والدر المصون (6/175).
(5) ... المحتسب (2/282).(1/393)
و"الحق": القرآن.
{ فهم في أمر مريج } ملتبس مختلط. ومنه الحديث: ((مَرِجَتْ عهودهم وأمانتهم)) (1) .
قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم (2) .
قال الزجاج في معنى اختلاط أمرهم هاهنا (3) : [هو] (4) أنهم كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرة شاعر، ومرة ساحر، ومرة معلم، وللقرآن أنه سحر، ومرة مفترى، فكان أمرهم ملتبساً مختلطاً عليهم.
َOn=sùr& يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (4/123 ح4342)، وابن ماجه (2/1307 ح3957)، والحاكم (2/171 ح2671).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/163).
(3) ... معاني الزجاج (5/42).
(4) ... في الأصل: هم. والتصويب من ب.(1/394)
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ اتتب
ثم دلّهم على البعث، وقدرته عليه بما يشاهدونه من عجائب المخلوقات وعظائمها، فقال تعالى: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } بناءً(1/395)
عجيباً متناسباً، لا يفتقر إلى علاقة ولا دعامة، { وزيناها } بالشمس والقمر والنجوم، { وما لها من فروج } صدوع وشقوق. فإن [في] (1) ذلك أثر القدرة الباهرة والحكمة البالغة.
{ والأرض مددناها } بسطناها { وألقينا فيها رواسي } جبالاً ثوابت، وأنشدوا:
رَسَا أصْلُه تحت الثَّرَى وسَمَا به ... إلى النجم فرعٌ لا يُنالُ طويل (2)
{ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } أي: من كل نوع حسن يبهج الناظر إليه. تقول: أبْهَجَنِي هذا الأمر؛ إذا سرَّك.
قوله تعالى: { تبصرةً وذكرى } مفعول له (3) .
قال الزجاج (4) : أي فعلنا ذلك ليبصر به ويدل على القدرة.
{ لكل عبد منيب } قال قتادة: تائب إلى ربه (5) .
وقال السدي: مخلص (6) .
{ ونزلنا من السماء ماء } يعني: المطر { مباركاً } كثير الخير والبركة، { فأنبتنا به جنات } بساتين { وحبَّ الحصيد } وهو كل ما يحصد، [حُصِدَ أو
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... البيت للسموأل بن عادياء، وهو في: الماوردي (5/342)، والمستطرف (1/292)، وديوان الحماسة (1/29).
(3) ... انظر: التبيان (2/241)، والدر المصون (6/175).
(4) ... معاني الزجاج (5/43).
(5) ... أخرجه الطبري (26/152) بلفظ: مقبل بقلبه إلى الله. وذكره الماوردي (5/342).
(6) ... ذكره الماوردي (5/342).(1/396)
لم] (1) يُحْصَد.
و"الحصيد": نعتٌ "للحَبّ"، إلا أنه خُرِّجَ مخرج الإضافة، كقولهم: بارحة الأولى أو حب النبت الحصيد. وقد سبق نظائر هذا في مواضع.
{ والنخل باسقات } أي: [طوالاً] (2) { لها طلع } وهو أول ما يبدو من ثمار النخل { نضيد } منضود متراكم، وذلك قبل أن يتفتح، فإذا خرج من أكمامه وتفرَّق فليس بنضيد.
{ رزقاً للعباد } مفعول له (3) .
ôMt/Ox. قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ 8ى 7è? كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
__________
(1) ... في الأصل: حصداً ولم. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: طولاً. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: التبيان (2/241)، والدر المصون (6/176).(1/397)
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ اتخب
وتُبَّع: هو تبع الحميري، المذكور في الدخان (1) .
وما لم أذكره مُفسَّر إلى قوله تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول } أي: أعجزنا عن ابتداء الخلق، وكانوا يقرون بأن الله خلقهم وينكرون إعادتهم بعد الموت، فدلَّهم بالنشأة الأولى على صحة الثانية.
{ بل هم في لَبْس } أي: في شَكٍّ { من خلق جديد } يريد: البعث.
ô‰s)s9ur خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
__________
(1) ... عند الآية رقم: 37.(1/398)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ اترب
قوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } قال الواحدي (1) : "ونحن أقرب إليه" بالعلم، "من حبل الوريد": وهو عرق يتفرق في البدن، مخالطٌ للإنسان في جميع أعضائه، وذلك أن أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله تعالى شيء.
وقال الزجاج (2) : الوريد: عرق في باطن العنق، وهما وريدان.
قال الفراء (3) : الوريد: عرق بين الحلقوم [والعِلْباوين (4) .
والعِلْباوان: العصبان الصفراوان] (5) في متن العنق.
والحَبْل: هو الوريد، والقول فيه كالقول في: "وحَبَّ الحصيد".
ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه مع علمه بالإنسان وقربه منه قد وكل به ملكين يحفظان عليه أقواله إلزاماً للحجة عليه، وتحقيقاً لمعنى العدل، فقال تعالى: { إذ يتلقى المتلقيان } .
قال الزجاج (6) : هما كاتباه الموكَّلان به، يتلقيان ما يعمله فيثبتانه عليه.
__________
(1) ... الوسيط (4/165).
(2) ... معاني الزجاج (5/44).
(3) ... معاني الفراء (3/76).
(4) ... جاء في اللسان (مادة: علب): العلباء -ممدود-: عَصَبُ العُنُق. قال الأزهري: الغليظ خاصة، وهما عِلْبَاوان يميناً وشمالاً بينهما مَنْبِتُ العُنُق.
(5) ... في الأصل: العلياويين العلياوان العصبتان الصفروان. والتصويب من ب.
(6) ... معاني الزجاج (5/44).(1/399)
المعنى: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، [فدل] (1) أحدهما على الآخر.
قال غيره (2) : فحذف المدلول عليه. كقول الشاعر:
نحنُ بما عندنا وأنتَ بما عِنْـ ... ... ـدَكَ راضٍ والرأيُ مختلف (3)
والمراد بالقعيد هاهنا: الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم.
قال مجاهد: عن اليمين كاتب الحسنات، وعن الشمال كاتب السيئات (4) .
{ ما يلفظ من قول } أي: ما يتكلم من كلام يلفظه، أي: يلقيه من فمه { إلا لديه رقيب } حافظ موكل به { عتيد } حاضر معه ملازم له.
وروى أبو أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، فكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة
__________
(1) ... في الأصل و ب: يمل. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... انظر: معاني الزجاج (5/44).
(3) ... البيت نُسب لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، ونُسب أيضاً لقيس بن الخطيم، ولدرهم بن زيد. انظر: الكتاب (1/75)، ومعاني الفراء (1/434)، وملحقات ديوان قيس (ص:173)، والمقتضب (3/112، 4/73)، وأمالي ابن الشجري (1/310)، والهمع (2/109)، والأشموني (3/152)، والبحر المحيط (5/65)، والدر المصون (2/572، 3/478).
(4) ... أخرجه الطبري (26/159). وذكره السيوطي في الدر (7/593) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.(1/400)
[وأراد] (1) صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة)) (2) .
فصل
اختلفوا هل يكتبان عليه جميع أقواله وأفعاله؟ فذهب قوم إلى أنهم يكتبون جميع ما يصدر منه؛ قال مجاهد: حتى أنينه في مرضه (3) .
وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يوزر فيه (4) .
وقال الضحاك: مجلسهما على الحنك (5) .
وكان الحسن يعجبه أن ينظف [عَنفقته] (6) .
فصل
وفي هذه الآية ما يزجر المكلف عن إطلاق لسانه فيما لا يعنيه.
ويروى أن علياً رضي الله عنه (7) سمع رجلاً يَشتم رجلاً، فقال له: يا
__________
(1) ... في الأصل: وأرد. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبراني (8/247 ، ح 7971) ، قال الهيثمي (10/208) : فيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (5/390 ، ح 7049) .
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (2/443 ح10830). وذكره السيوطي في الدر (7/596) وعزاه لابن المنذر.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/11).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/12).
(6) ... ذكره القرطبي (17/10). وما بين المعكوفين في الأصل: عنفته. والتصويب من ب، وتفسير القرطبي.
(7) ... في ب: عليه السلام.(1/401)
هذا إنك تُمْلِي على كاتبيك كتاباً إلى ربك، فانظر على من تُمْلِ وإلى من تَكْتُب.
وقال مخلد بن الحسين (1) : ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة (2) .
وكان وهب بن منبه يَعُدُّ كلامه كل يوم ويحفظه.
وقال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من [فمك، فإنما] (3) جعل لك أذنان لتسمع أكثر مما تتكلم به.
وقال خارجة بن مصعب (4) : صحبت ابن عون أربعاً وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة (5) .
قرأتُ على الشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة، أخبركم أبو الوقت عبد الأول بن عيسى فأقرَّ به.
وأخبرنا الشيخ أبو القاسم بن عبدالله العطار قال: أخبرنا أبو الوقت قال:
__________
(1) ... مخلد بن الحسين الأزدي المهلبي، أبو محمد البصري، نزيل المصيصة، ثقة صالح، مات سنة إحدى وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب 10/65، والتقريب ص:523).
(2) ... ذكره أبو نعيم في: حلية الأولياء (8/266)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/266).
(3) ... في الأصل: قلبك فما. والتصويب من ب.
(4) ... خارجة بن مصعب بن خارجة الضبعي، أبو الحجاج الخراساني السرخسي، متروك، وكان يدلس عن الكذابين، توفي سنة ثمان وستين ومائة، وهو ابن ثمان وتسعين سنة (تهذيب التهذيب 3/67، وتهذيب الكمال 8/16-22، والتقريب ص:186).
(5) ... أخرجه البيهقي في الشعب (4/267 ح5042).(1/402)
أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد الله بن منير (1) ، عن أبي النضر (2) ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار (3) ، عن أبيه (4) ، عن أبي صالح (5) ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل لا يلقي لها بالاً يرفعه الله تعالى بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) (6) . انفرد بهذا البخاري.
وأخرجاه من طريق يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن العبد [ليتكلم] (7) بالكلمة
__________
(1) ... عبد الله بن منير، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة عابد، مات سنة إحدى وأربعين(تهذيب التهذيب 6/39، والتقريب ص:325).
(2) ... هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي، أبو النضر البغدادي الحافظ، خراساني الأصل، ولقبه قيصر، ثقة ثبت، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة، ومات في ذي القعدة سنة خمس أو سبع ومائتين (تهذيب التهذيب 11/18، والتقريب ص:570).
(3) ... عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار العدوي، مولى ابن عمر، صدوق يخطئ (تهذيب التهذيب 6/187، والتقريب ص:344).
(4) ... عبد الله بن دينار العدوي، أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة صدوق، مات سنة سبع وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 5/177، والتقريب ص:302).
(5) ... هو ذكوان السمان الزيات. تقدمت ترجمته.
(6) ... أخرجه البخاري (5/2377 ح6113).
(7) ... في الأصل: يتكلم. والمثبت من الصحيح، ومن ب.(1/403)
يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (1) .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال: كُفَّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)) (2) .
وأخرج الإمام أحمد من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: ((قلت يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل: ربي الله ثم استقم. قال: قلت: يا رسول الله ما أخْوَفُ ما تخوف عليّ؟ قال: فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا)) (3) .
ôNuن!%y`ur سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2377 ح6112).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/11 ح2616)، والنسائي في الكبرى (6/428 ح11394)، وابن ماجه (2/1314 ح3973).
(3) ... أخرجه أحمد (3/413).(1/404)
×,ح !$y™ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ اثثب
قوله تعالى: { وجاءت سكرة الموت بالحق } أي: جاءت غمرته وشدته التي تغشى الإنسان فتذهب بعقله، بالحق الثابت من أمر الآخرة، فأبانت له ما كان يجهله من ذلك.
وقيل: جاءت بحقيقة الموت.
وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق وابن عباس والحسن: "سَكْرَةُ الحقِّ بالموت" (1) .
قال محمد بن جرير الطبري (2) : لهذه القراءة وجهان:
أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الله بالموت.
والثاني: أن السكرة هي الموت أضيفت إلى نفسها، كقوله تعالى: { إن هذا لهو حق اليقين } [الواقعة:95]، فيكون المعنى: وجاءت السكرة الحق [بالموت] (3) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/12)، والكشاف (4/389).
(2) ... تفسير الطبري (26/160-161).
(3) ... زيادة من ب، والطبري (26/161).(1/405)
ويروى: أن عائشة رضي الله عنها أنشدت عند أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين احتُضر:
لعمرُكَ ما يُغني الثَّرَاءُ عن الفتى ... [إذا] (1) حَشْرَجَتْ يوماً وضَاقَ بها الصدر (2)
فقال لها أبو بكر: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله: "وجاءت سكرة الحق بالموت" (3) .
وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: "وجاءت سكرات" على الجمع، وتقديم "الحق"، ومثلهما قرأ أبي بن كعب وسعيد بن جبير: "سكرات" (4) .
قوله تعالى: { ذلك } أي: فيقال للإنسان ذلك { ما كنت منه تحيد } .
قال ابن عباس: تكره (5) .
وقال الضحاك: تَرُوغ (6) .
وقال الحسن: تهرب (7) .
__________
(1) ... في الأصل: إذ. والمثبت من ب.
(2) ... البيت لحاتم الطائي، انظر: اللسان (مادة: حشرج)، والماوردي (5/348)، والقرطبي (17/230)، والطبري (13/30)، وروح المعاني (29/146).
(3) ... أخرجه الطبري (26/160). وذكره السيوطي في الدر (7/599) وعزاه لأحمد وابن جرير عن عبدالله بن اليمني مولى الزبير بن العوام.
(4) ... انظر هاتان القراءتان في: زاد المسير (8/12).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/167)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/13).
(6) ... انظر: الطبري (26/161) بلا نسبة.
(7) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/223).(1/406)
وأصل الحَيْد: المَيْل، يقال: حَادَ يَحيدُ حَيْداً، وأنشدوا قول طرفة:
أبا مُنذرٍ رُمْتَ الوفاءَ فهبتَهُ ... وحِدتَ كما حَادَ البعيرُ عن الدَّحْضِ (1)
قوله تعالى: { ونفخ في الصور } مذكورٌ في الأنعام (2) .
والمراد: نفخة البعث.
{ ذلك يوم الوعيد } قال مقاتل (3) : يعني بالوعيد: عذاب الآخرة.
والمعنى: ذلك يوم وقوع الوعيد.
ويجوز أن يكون الموعود، فصُرف وأضيف.
قوله تعالى: { وجاءت كل نفس مَعَها سائق وشهيد } أي: وجاءت ذلك اليوم كل نفس معها، ولغة بني تميم "مَعْها" بإسكان العين، سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد لها وعليها، وهما من الملائكة في قول جمهور المفسرين.
قال ابن السائب: السائق الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات (4) .
وقيل: السائق: القرين من الشياطين، والشهيد: العمل.
وقيل: الجوارح.
والآية عامة في قول عامة المفسرين.
__________
(1) ... البيت لطرفة، وهو في: تاج العروس (مادة: دحض)، والقرطبي (11/6، 17/13).
(2) ... عند الآية رقم: 73.
(3) ... تفسير مقاتل (3/270).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/167)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/13).(1/407)
وقال الضحاك: خاصة في الكفار (1) .
{ لقد كنت } على إضمار القول، تقديره: فيقال: لقد كنت أيها الإنسان.
وقيل: الخطاب: للكافر. وهو قول ابن عباس (2) .
والمعنى: لقد كنت في دار الدنيا.
{ في غفلة من هذا } الذي صرت إليه، { فكشفنا عنك غطاءك } وهي الأكِنَّة الصادّة له عن النظر، { فبصرك اليوم حديد } أي: حادٌّ ثاقب.
قال مجاهد: وذلك حين ينظر إلى لسان الميزان حين توزن حسناته وسيئاته (3) .
وقال [مقاتل] (4) : حديدٌ شاخصٌ لا يَطْرُف.
وقال الزجاج (5) : علمُك اليوم نافذ، لم يرد به حقيقة البصر.
[وقال] (6) ابن زيد: هذه الآية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - (7) ، على معنى: لقد كنت في غفلة عن الرسالة والوحي، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي، فبصرك اليوم،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/163). وذكره الماوردي (5/349).
(2) ... أخرجه الطبري (26/163)، وابن أبي حاتم (10/3309). وذكره السيوطي في الدر (7/600) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/14).
(4) ... في الأصل: قتادة. والمثبت من ب، وزاد المسير (8/14). وانظر: تفسير مقاتل (3/271).
(5) ... معاني الزجاج (5/45).
(6) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (26/163-164). وعقب الآلوسي على هذا القول في روح المعاني (26/184) فقال: ولعمري أنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق.(1/408)
أي: عملك في الدنيا حديد.
والقول الأول أظهر وأشهر.
وتؤيده قراءة الجحدري: "لقد كنتِ" بكسر التاء، "عنكِ غطاءكِ فبصركِ" بكسر الكاف فيهنّ، على المخاطبة للنفس (1) .
tA$s%ur قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/124)، والدر المصون (6/178).(1/409)
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اثزب
{ وقال قرينه } قال الحسن وقتادة: هو الملك الشهيد عليه (1) .
وقال مجاهد: قرينه الذي قُيض له من الشياطين (2) ، يقول: هذا الذي وكلتني به من بني آدم، قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.
قال الزجاج (3) : "ما" رفع بـ"هذا"، و"عتيد" صفة لـ"ما" فيمن جعل "ما" في مذهب النكرة. المعنى: هذا شيء لديّ عتيد.
ويجوز أن يكون رفعه بإضمار "هو"، تقديره: هذا شيءٌ [لدي] (4) هو عتيد.
ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلاً من "ما"، المعنى: هذا عتيد.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/164). وذكره الماوردي (5/350).
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:611). وذكره السيوطي في الدر (7/600) وعزاه للفريابي.
(3) ... معاني الزجاج (5/45).
(4) ... في الأصل: لديه. والمثبت من ب.(1/410)
قوله تعالى: { ألقيا في جهنم } خطاب للسائق والشهيد.
وقال مقاتل (1) : الخطاب لخازن النار.
فإن قيل: فما وجه مخاطبته بصيغة الاثنين؟
قلتُ: العرب تأمر الواحد بلفظ الاثنين، فتقول: قوما واضربا زيداً يا رجل، وأنشدوا:
فإنْ تَزْجُراني يا ابنَ عفَّانَ أنْزَجِرْ ... وإنْ تَتْرُكاني أحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا (2)
قال الزجاج (3) : [ومثله] (4) :
قِفَا نَبْكِ من ذكرَى حبيبٍ ومنزل ... ........................... (5)
وقال المازني: كان الأصل: ألق ألق، فناب ألقيا عن ألق ألق؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل، فكان تثنية الفاعل نائباً عن تكرار الفعل.
وقال قوم: أصله: ألقين، فأبدل من النون ألفاً، كقوله:
.......................... ... ... ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللهَ فاعبُدَا (6)
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/271).
(2) ... البيت لأبي ثروان، سويد بن كراع العكلي، وهو في: اللسان (مادة: جزز)، والطبري (26/165)، والقرطبي (17/16)، والماوردي (5/350)، وزاد المسير (8/16)، والدر المصون (6/178)، وروح المعاني (26/185).
(3) ... معاني الزجاج (5/46).
(4) ... في الأصل: مثله. والمثبت من ب.
(5) ... أول معلقة امرئ القيس (انظر: ديوانه ص:8).
(6) ... عجز بيت للأعشى، وصدره: وإياك والميْتات لا تقربنها، انظر: ديوانه (ص:17)، والكتاب (3/510)، وأمالي ابن الشجري (1/384)، وابن يعيش (9/39).(1/411)
قوله تعالى: { مناع للخير } قال قتادة: للزكاة المفروضة (1) .
وقال الضحاك: مناع لدخول الناس في الإسلام (2) .
ويقال: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه من الدخول في الإسلام (3) .
{ الذي جعل مع الله إلهاً آخر } إن كان مبتدأ فخبره: "فألقياه". ويجوز أن يكون منصوباً على البدل من "كل كفار"، ويكون قوله: "فألقياه" توكيداً (4) .
قوله تعالى: { قال قرينه ربنا ما أطغيته } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين: هذا قول قرينه الذي قيض له من الشياطين (5) ، يتبرأ منه يوم القيامة ويقول: ما أكرهته على الضلال.
{ ولكن كان في ضلال بعيد } عن الهدى، فهو كقوله: { وقال الشيطان لما قضي الأمر... الآية } [إبراهيم:22].
وقال سعيد بن جبير: "قرينه": المَلَك الذي يكتب السيئات. يقول الكافر: رب إنه زاد عليّ في الكتابة، فيقول المَلَك: "ربنا ما أطغيته" أي: ما زدت
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/166). وذكره السيوطي في الدر (7/601) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/17).
(3) ... ذكره الماوردي (5/352)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/17).
(4) ... انظر: الدر المصون (6/179).
(5) ... أخرجه الطبري (26/167). وذكره السيوطي في الدر (7/600) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن جريج وعزاه لابن المنذر.(1/412)
عليه، ولا كتبت إلا ما قال وعمل (1) .
فحيئنذ يقول الله تعالى: { لا تختصموا لدي } أي: لا تختصموا عندي، { وقد قدمت إليكم بالوعيد } على ألسنة رسلي.
{ ما يبدّل القول لديّ } ذكروا في معناه قولين:
أحدهما: لا يبدل ما وعدته من ثواب وعقاب. وهو قول الأكثرين (2) .
والثاني: ما يُغَيَّر عندي قول ولا يحرّف عن وجهه؛ لأني أعلم الغيب. وهذا قول الكلبي (3) ، واختيار الفراء وابن قتيبة والواحدي (4) .
{ وما أنا بظلاّم للعبيد } فأزيد على إساءة المسيء، أو أنقص من حسنات المحسن، أو أعاقب على غير ذنب.
فإن قيل: نسبة الظلم إلى الله عز وجل أمر مُحال، فإنه لو عَذَّبَ الطائع لم يكن ظالماً، فما معنى نفيه عنه بلفظ يُوهم نسبته إليه، على تقديرٍ ما؟
قلتُ: الظلم الشرعي الذي هو التصرف على الوجه الذي ليس للمخلوق التصرف عليه مُحال نسبته إليه؛ لأن الله تعالى كيف فعل وتصرّف فله ذلك.
والمراد في هذه الآية وأمثالها: نفي الظلم اللغوي الذي هو وضع الشيء في غير موضعه، على معنى: وما أنا بظلاّم أضع العقوبة في غير
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/18).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... معاني الفراء (3/79)، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ص:327)، والوسيط للواحدي (4/168).(1/413)
موضعها، بل إنما أضعها وأُوقِعُها بمستحقها من الكفرة والفجرة، على ما تقتضيه حكمتي وعدلي.
فإن قيل: لو قال: "وما أنا بظالم" كان أبلغ في تحقيق معنى العدل، لنفيه أصل الظلم، فما باله عدل عنه إلى "ظلام"، ومقتضاه نفي الكثرة لا الأصل؟
قلتُ: إذا كان المعنى: وما أنا بظلاّم، أو ما ربك بظلاّم للعبيد فيعذبهم على غير جُرْم، كان النفي بصيغة التكثير أنفى للظلم، وأدلَّ على تحقيق معنى العدل من حيث المعنى، لدلالة مفهومه على تكثير الظلم، على تقدير العذاب على غير جرم، فنزّه نفسه سبحانه وتعالى عن الظلم قليله وكثيره بأبلغ الطرق، منبهاً على أن القليل منه كثير بالنسبة إليه جلّت عظمته.
وهذان الدخلان والجواب عنهما لم أُسْبَق إليهما، فإن يكن ذلك صواباً فمن فضل الله تعالى، وإن لم يكن ذلك فالله المسؤول التجاوز عني برحمته وكرمه.
وبعد أن سطرت الدخلين والجواب عنهما وجدت الزمخشري (1) قد تعرّض للدخل الثاني، وأجاب عنه بنحوٍ [مما] (2) ذكرته، لكن في جوابي زيادةَ بَسْط وتقرير لم يتعرّض له.
tPِqtƒ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ
__________
(1) ... انظر: الكشاف (4/392).
(2) ... في الأصل: ما. والمثبت من ب.(1/414)
هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ اجخب
قوله تعالى: { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قرأ نافع وأبو بكر والمفضل عن عاصم: "يقول" بالياء، على معنى: يقول الله لجهنم.(1/415)
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: "يقال لجهنم" (1) .
وقرأ باقي العشرة: "نقولُ" بالنون (2) . وانتصاب "يوم" بـ"ظلام"، أو بقوله: "ونفخ في الصور".
وقال الزجاج (3) : نصب "يوم" على وجهين:
أحدهما: على معنى: ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم.
وعلى معنى: أنذرهم يوم نقول لجهنم.
قال (4) : والله عز وجل عالم هل امتلأت أم لم تمتلئ، وإنما السؤال توبيخ لمن أُدخلها وزيادة في مكروهه، [ودليلٌ] (5) على تصديق هذا قوله تعالى: { لأملأن جهنم منك وممن تبعك } [ص:85].
وأما "هل من مزيد" ففيه وجهان عند أهل اللغة:
أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فتقول: هل من مزيد، أي: هل بقي فيَّ موضع لم يمتلئ، أي: قد امتلأتُ.
ووجه آخر: تقول: "هل من مزيد" تغيظاً [على من عصى الله، كما قال عز وجل: { سمعوا لها تغيظاً] (6) وزفيراً } [الفرقان:12].
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:398).
(2) ... الحجة للفارسي (3/416)، والحجة لابن زنجلة (ص:677-678)، والكشف (2/285)، والنشر (2/376)، والإتحاف (ص:398)، والسبعة (ص:607).
(3) ... معاني الزجاج (5/46-47).
(4) ... أي: الزجاج.
(5) ... في الأصل: وبدليل. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من معاني الزجاج (5/47).(1/416)
فأما قولها هذا ومخاطبتها، فالله تعالى جعل فيها ما به تُميِّزُ وتخاطب، كما جعل فيما خلق أن يسبح بحمده، وكما جعل في النملة أن قالت: { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [النمل:18].
وقد زعم قوم أنها امتلأت فصارت صورتها صورة من لو ميَّزَ لقال: هل من مزيد، [كما] (1) قال الشاعر:
امتلأَ الحوضُ، وقال: قَطْنِي ... مَهْلاً رُويداً قد ملأتَ بطني (2)
وليس هنالك قول. وهذا لا يشبه ذلك؛ لأن الله تعالى جلّ ذكره قد أعلمنا أن المخلوقات تُسبّح، وأنا لا نفقه تسبيحها، فلو كان ذلك إنما هو أن تَدُلَّ على أنها مخلوقة كُنَّا نفقه تسبيحها. هذا كله كلام الزجاج.
وقال غيره: المزيد إما مصدر وإما اسم مفعول، كالمبيع.
قرأتُ على الشيخ أبي القاسم عبدالله بن الحسين بن عبدالله بن رواحة الأنصاري، أخبركم أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن سلفة الأصبهاني فأقرّ به، أخبرنا الرئيس أبو عبدالله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي الأصبهاني، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد المزكي النيسابوري بها، أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن أنس
__________
(1) ... زيادة من ب، ومن معاني الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: قطط، قطن)، وتاج العروس (مادة: قطط)، والماوردي (5/353)، والقرطبي (2/31، 15/344، 17/18)، وروح المعاني (5/149، 18/119).(1/417)
بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها فتقول: قط قط، ويزوَى بعضها إلى بعض، ولا يزال في الجنة فضلٌ حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنه فضول الجنة)) (1) . رواه البخاري عن آدم.
قوله تعالى: { وأزلفت الجنة للمتقين } أي: قُرِّبَتْ لهم حتى يَرَوْها قبل أن يدخلوها، إكراماً لهم، وتعجيلاً لأسباب السرور والنعيم لهم، { غير بعيد } توكيد لمعنى قربها. ونصب "غير" على الظرف، أي: مكاناً غير بعيد، أو على الحال، وتذكيره على حذف الموصوف المذكر، تقديره: شيئاً غير بعيد، أو لكونه على صفة المصادر؛ كالزئير والصليل، ويقال لهم: { هذا } الذي ترونه { ما توعدون } وقرأ ابن كثير: "يوعدون" بالياء على المغايبة (2) .
والمعنى: ما يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل.
{ لكل أوّاب } رَجَّاع عن معاصي الله إلى طاعته.
قال مجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر منها (3) .
وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب (4) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (6/2453 ح6284)، ومسلم (4/2188 ح2848).
(2) ... الحجة للفارسي (3/330)، والحجة لابن زنجلة (ص:678)، والكشف (2/285)، والنشر (2/376)، والإتحاف (ص:398)، والسبعة (ص:555).
(3) ... أخرجه الطبري (26/172) عن مجاهد، وابن أبي شيبة (7/163) من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير. وذكره السيوطي في الدر (7/604) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر.
(4) ... أخرجه الطبري (15/70)، وابن أبي حاتم (10/3310)، والبيهقي في الكبرى (7/154 ح13647)، وشعب الإيمان (5/408 ح7095). وذكره السيوطي في الدر (7/604) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.(1/418)
وقد ذكرنا الأوّاب في بني إسرائيل (1) .
قال مقاتل (2) : "حفيظ": حافظ لأمر الله.
قوله تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب } في موضع جر بدل من "أوّاب". ويجوز أن يكون مرفوعاً على الابتداء، والخبر: "أدخلوها" تقديره: يقال لهم: ادخلوها (3) .
ويجوز أن يكون منادى، وقد حذف حرف النداء للقرب. وقد سبق تفسيره في سورة الأنبياء (4) .
{ وجاء بقلب منيب } راجع إلى طاعة الله.
{ ادخلوها بسلام } أي: بسلامة من الهموم والعذاب، أو ادخلوها مصحوبين بالسلام من الله والملائكة. وقد ذكرنا ذلك في مواضع.
{ ذلك يوم الخلود } في الجنة.
{ لهم ما يشاؤون فيها } قال المفسرون: وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاؤوا، ثم يزيدهم الله تعالى من عنده ما لم يسألوا، فذلك قوله: { ولدينا مزيد } .
وفي حديث علي عليه السلام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله تعالى: { ولدينا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 25.
(2) ... تفسير مقاتل (3/272).
(3) ... انظر: التبيان (2/242)، والدر المصون (6/180).
(4) ... عند الآية رقم: 9.(1/419)
مزيد } قال: يتجلّى لهم (1) .
وقال أنس بن مالك: يتجلى لهم الرب عز وجل في كل جمعة (2) .
ويروى: أن السحاب يمرّ بأهل الجنة فيمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عز وجل: { ولدينا مزيد } (3) .
ِNx.ur أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/169)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/21).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3310). وذكره السيوطي في الدر (7/605) وعزاه للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي في البعث والنشور.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/21) حكاية عن الزجاج. وانظر: معاني الزجاج (5/47).(1/420)
بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ احةب
ثم هدَّد كفار مكة بالآية التي تليها.
قوله تعالى: { فنقبوا في البلاد هل من محيص } قرأ جمهور القراء: "فنَقَّبُوا" بفتح النون والقاف مع التشديد.
وقرأ بالتخفيف: العُمَران؛ ابن الخطاب وابن عبدالعزيز، وقتادة (1) .
قال قتادة: ساروا وطوَّفُوا (2) .
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (3/417)، والسبعة (ص:607). وانظر قراءة العُمرين وقتادة في: زاد المسير (8/21).
(2) ... ذكره الماوردي (5/355).(1/421)
وقال ابن جريج: اتخذوا فيها طرقاً ومسالك (1) ، وأصله من النَّقْب، وهو الطريق، وأنشدوا:
وقد نقَّبْتُ في الآفاق حتى ... ... رضيتُ من الغنيمةِ بالإيَاب (2)
وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع: بكسر القاف (3) ، على الأمر، بمعنى: التهديد والوعيد.
"هل من محيص" استفهام في معنى الإنكار.
قال الزجاج (4) : طوَّفوا وفتَّشوا فلم يروا محيصاً من الموت.
وقال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركاً (5) .
وهذا تخويفٌ لكفار مكة [وإعلام] (6) لهم أنهم على مِثْل سبيل من كان قبلهم، لا يجدون مفرّاً من الموت المفضي بهم إلى عذاب الله.
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:99)، ومجاز القرآن (2/224)، والماوردي (5/355)، والبحر (8/127)، والدر المصون (6/181)، والطبري (26/176)، والقرطبي (17/22)، وزاد المسير (8/22)، وروح المعاني (26/191)، واللسان (مادة، نقب).
(3) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:398).
(4) ... معاني الزجاج (5/48).
(5) ... أخرجه الطبري (26/177). وذكره السيوطي في الدر (7/608) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر.
(6) ... في الأصل: وإعلاماً. والمثبت من ب.(1/422)
{ إن في ذلك } الذي ذكر من إهلاك القرى { لذكرى } لتذكرة وموعظة { لمن كان له قلب } قال ابن عباس: عقل (1) .
قال الفراء (2) : وهذا جائز في العربية أن تقول: ما لك قلب، وما معك قلبك، أي: ما عقلُك معك.
وقال ابن قتيبة (3) : لما كان القلبُ محلَّ العقل كَنَّى عنه به.
وقيل: كَنَّى به عن النفس المميزة. المعنى: لمن كانت له حياة.
وقيل: المعنى: لمن كان له قلب واعٍ؛ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قَلْبَ له.
{ أو ألقى السمع } أصغى إلى مواعظ القرآن وزواجره. تقول العرب: ألْقِ سَمْعَكَ إليَّ، أي: استمع مني.
{ وهو شهيد } حاضر القلب غير ساهي ولا لاهي.
قوله تعالى: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } سبق تفسيره.
{ وما مسنا من لغوب } تعب ونصب.
قال المفسرون: قالت اليهود: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/22).
(2) ... معاني الفراء (3/80).
(3) ... تأويل مشكل القرآن (ص:115).(1/423)
فيه شيئاً، فأكذبهم الله تعالى بقوله: { وما مسنا من لغوب } (1) .
{ فاصبر على ما يقولون } من الكذب والبهت.
قال المفسرون: هذا كان قبل الأمر بالقتال.
وقيل: الصبر مأمور به على كل حال، [فلا] (2) نسخ (3) .
{ وسبح بحمد ربك } أي: سبح حامداً ربك، { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } .
قال ابن عباس: صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر (4) .
وفي الصحيحين [من حديث] (5) جرير بن عبد الله قال: ((كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، لا تُضَامُون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [فافعلوا] (6) ، وقرأ: { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
الغروب } )) (7) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/356)، والواحدي في الوسيط (4/170)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/22).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:167)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:57).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/171)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/23).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... زيادة من صحيح البخاري.
(7) ... أخرجه البخاري (1/203 ح529)، ومسلم (1/439 ح633).(1/424)
قوله تعالى: { ومن الليل فسبحه } قال مقاتل (1) : صلاة المغرب والعشاء.
وقال مجاهد: صلاة الليل كله (2) .
{ وأدبار السجود } قرأ نافع وابن كثير وحمزة: "وإِدْبَار" بكسر الهمزة، مصدر أدْبَر. وقرأ الباقون بفتحها، جمع دُبُر (3) .
أخرج البخاري من حديث مجاهد عن ابن عباس قال: ((أمَرَهُ أن يسبح في أدبار الصلوات كلها. يعني: قوله: { وأدبار السجود } )) (4) .
وقال عمر وعلي والحسن بن علي وأبو هريرة والحسن ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة: هو الركعتان بعد المغرب (5) .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إدبار النجوم: الركعتين قبل الفجر، وإدبار السجود: الركعتين بعد المغرب)) (6) .
وقال ابن زيد: النوافل بعد المفروضات (7) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/273).
(2) ... أخرجه الطبري (26/180). وذكره السيوطي في الدر (7/610) وعزاه لابن جرير.
(3) ... الحجة للفارسي (3/416)، والحجة لابن زنجلة (ص:678)، والكشف (2/285)، والنشر (2/376)، والإتحاف (ص:398)، والسبعة (ص:607).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1836 ح4571).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:613)، والطبري (26/180-182). وذكره السيوطي في الدر (7/611) وعزاه لابن مردويه عن أبي هريرة. ومن طريق آخر عن عمر بن الخطاب، وعزاه لابن المنذر ومحمد بن نصر في الصلاة. ومن طريق آخر عن إبراهيم النخعي وعزاه لابن جرير. وأخرج عن مجاهد وقتادة والشعبي والحسن مثله.
(6) ... أخرجه الترمذي (5/392 ح3275).
(7) ... أخرجه الطبري (26/182). وذكره الماوردي (5/357)، والسيوطي في الدر (7/610) وعزاه لابن جرير.(1/425)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ(1/426)
يَخَافُ وَعِيدِ احخب
قوله تعالى: { واستمع يوم ينادي المنادي } أي: واستمع حديث يوم ينادي المنادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به لا ظرف.
والمنادي: إسرافيل عليه السلام.
قال المفسرون: يقف على صخرة بيت المقدس وينادي: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتفرقة، والشعور المتمزقة، إن الله تعالى يأمركن [أن] (1) تجتمعن لفصل القضاء (2) . وهذه هي النفخة الأخيرة.
والصخرة: وسط الدنيا، وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً (3) .
{ يوم يسمعون الصيحة بالحق } بدل من "يوم ينادي المنادي (4) " (5) .
والمعنى: يوم يسمعون الصيحة بالحق، بالأمر الثابت الذي لا مِرْيَةَ فيه، وهو البعث.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (26/183). وذكره الواحدي في الوسيط (4/172)، والسيوطي في الدر (7/611) وعزاه لابن جرير عن كعب. ومن طريق آخر عن يزيد بن جابر، وعزاه لابن عساكر والواسطي في فضائل بيت المقدس.
(3) ... انظر: الطبري (26/183)، وابن أبي حاتم (10/3310).
(4) ... انظر: التبيان (2/243)، والدر المصون (6/182).
(5) ... حصل سهو من ناسخ الأصل، فقدم بعض العبارات وأخّر البعض من قوله تعالى: { يوم يسمعون الصيحة بالحق } إلى قوله: تقهرهم على ما تريد. وقد أثبتنا ذلك من ب.(1/427)
{ ذلك يوم الخروج } من القبور.
قوله تعالى: { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً } بدل أيضاً من "يوم ينادي المنادي" (1) .
ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: { وإلينا المصير } أي: يصيرون إلينا في ذلك اليوم.
و"سراعاً" نصب على الحال، تقديره: فيخرجون سراعاً (2) .
{ ذلك حشر علينا يسير } هَيِّن.
ثم عزَّى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: { نحن أعلم بما يقولون } أي: بما يقول كفار مكة من تكذيبك والاستهزاء بك، { وما أنت عليهم بجبار } بمسلط تقهرهم على ما تريد.
قال ابن عباس: لم تُبعث لتُجبرهم على الإسلام، إنما بعثت مُذكِّراً، وذلك قبل أن يُؤمر بقتالهم (3) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/243)، والدر المصون (6/182).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الطبري (26/185) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (4/172)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/25).(1/428)
{ فذكر بالقرآن } عِظْ به { من يخاف وعيد } .
وقرأ يعقوب: "وعيدي" بياء في الحالين (1) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُذكّر بالقرآن من يخاف ومن لا يخاف، لكنه خصَّ الخائفين من وعيده بالنار لمن عصاه بالذِّكْر؛ لموضع انتفاعهم به. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر: النشر (2/376)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:399).(1/429)
سورة الذاريات
ijk
وهي ستون آية في العددين (1) . وهي مكية بإجماعهم.
دM"tƒح'؛©%!$#ur ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ادب
قال الله تعالى: { والذاريات ذرواً } قال الزجاج (2) : جاء في التفسير عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: أن ابن الكواء سأله عن تفسير الذاريات فقال: الرياح. قال: { فالحاملات وقراً } ؟ فقال عليه السلام: السحاب. قال:
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:232).
(2) ... معاني الزجاج (5/51).(1/430)
{ فالجاريات يسراً } ؟ قال: الفلك. قال: { فالمقسمات أمراً } ؟ قال عليه السلام: الملائكة (1) .
قال الزجاج (2) : والمفسرون جميعاً يقولون بقوله في هذا.
قال (3) : "والذاريات" مجرور على القسم. المعنى: أحلف بالذاريات وبهذه الأشياء. والجواب: { إنما توعدون لصادق } .
وقال قوم: المعنى: ورب الذاريات ذرواً، كما قال: { فورب السماء والأرض إنه لحق } [الذاريات:23].
والذاريات: من ذرَتِ الريح تذْرُو؛ إذا فرّقت التراب وغيره. يقال: ذرَتِ الريح وأذرَتْ بمعنى واحد، ذرَّت فهي ذارِيَة، وهُنَّ ذاريات، وأذرَتْ فهي مُذْرِية ومُذْرِيات للجماعة. هذا كله كلام الزجاج.
وقال غيره: للعرب أيمانُ يُجْرونها على ما استمرت به عادتهم، كحلفهم بعَمْرو الإنسان، وسير الجمال، وركض الخيل، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والأشجار، وغير ذلك مما يستعظمونه، فخوطبوا بما يفهمون، ألا ترى إلى قول أمية بن أبي الصلت:
لعمرو أدْمَاء جمالية ... حَجَّ عليها رجلٌ أشيب
فحلف بحياة ناقته.
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/506 ح3736)، والضياء في الأحاديث المختارة (2/122 ح494) بأطول منه.
(2) ... معاني الزجاج (5/51).
(3) ... أي الزجاج.(1/431)
وقال آخر:
أما ودماءٍ لا تزالُ كأنها ... على اللاتِ والعزى وبالنَّسْر عندما (1)
فحلف بالدماء.
وهذا أكثر من أن يحصى.
فقوله تعالى: { والذاريات } يمين برب القدرة على إذراء الرياح، وكذلك: والمرسلات، والنازعات، والطور، والنجم، وسائر ما ذكر في القرآن من الأيمان. ولا خلاف بين العلماء أن "الذاريات": الرياح. و"ذرواً" نصب على المصدر (2) .
وأما "الحاملات" فهي السحاب. "وقراً" مفعول به (3) ، على معنى: تحمل ثقلاً من الماء.
و"الجاريات": السفن، "يسراً": أي: تجري جرياً ذا يُسْر، أي: سهولة.
وقد قيل: إن "الجاريات": السحاب [أيضاً] (4) ، تجري حيث سيرها الله تعالى.
قال الأعشى:
__________
(1) ... البيت لعمرو بن عبد الجن القضاعي، ويروى: "مائرات تخالها"، بدل: "لا تزال كأنها". انظر: خزانة الأدب (7/214، 217)، واللسان (مادة: نسر، عزز، قنن، لوي)، والإنصاف (1/318)، وسر صناعة الإعراب (1/360)، والحجة للفارسي (2/182).
(2) ... انظر: التبيان (2/243)، والدر المصون (6/183).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... زيادة من ب.(1/432)
كأنَّ [مِشْيَتَها] (1) من بيتِ جارتها ... مشيُ السحابةِ لا ريثٌ ولا عجل (2)
وأما "المقسمات" فالمشهور عندهم: أنها الملائكة، يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به.
قال ابن السائب ومقاتل (3) : هم أربعة: جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة، وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل [وهو] (4) صاحب
[الصور] (5) واللوح، وعزرائيل وهو قابض الأرواح.
قال الحسن: المقسمات: السحاب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد (6) .
وقيل: إن المقسمات: الكواكب السبعة التي أقسم الله تعالى بها فقال تعالى: { فلا أقسم بالخنس * الجواري الكنس } [التكوير:15-16] فإنها ضُمّنت أحكام العالم.
والصحيح: الأول.
قوله تعالى: { إنما توعدون } يعني: من البعث والجزاء، من الثواب
__________
(1) ... في الأصل: شملتها. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: ديوانه (ص:30)، واللسان (مادة: مور)، والطبري (27/20)، والقرطبي (13/94، 17/31، 17/63)، والماوردي (5/361)، وزاد المسير (8/48)، وروح المعاني (27/29)، والدر المصون (6/196).
(3) ... ذكره مقاتل (3/275)، والماوردي (5/361).
(4) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب.
(5) ... في الأصل: الصوت. والمثبت من ب.
(6) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (4/398).(1/433)
والعقاب { لصادق } حق.
{ وإن الدين } الجزاء والحساب { لواقع } كائن لا محالة.
دن!$uK،،9$#ur ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ اتحب
ثم أقسم بالسماء التي هي من عجائب مخلوقاته، ودلائل عظمته، وقدرته، وحكمته فقال: { والسماء ذات الحبك } .(1/434)
قال الزجاج (1) : جاء في التفسير: أنها ذات الخلق الحسن. وأهل اللغة يقولون: ذات الحبك: ذات الطُّرُق الحسنة. والمحبوك في اللغة: ما أُجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء أو في الرمل إذا أصابته الريح فهو حُبُك، واحدها: حِبَاكٌ، مثل: مِثال ومُثُل، ويكون واحدها: حَبيكة، مثل: طريقة وطُرُق.
قلتُ: وإلى أصل هذه الكلمة في اللغة ترجع أقوال المفسرين.
قال ابن عباس وقتادة والربيع: ذات الخلق الحسن السوي (2) .
قال عكرمة: ألم تر إلى النسَّاج إذا نسج الثوب، قيل: ما أحسن حبكه (3) ؟.
وقال سعيد بن جبير: ذات الزينة (4) .
وقال الحسن: حُبكَت بالنجوم (5) .
وقال مجاهد: هو المتقن البنيان (6) .
وقال الضحاك: ذات الطرائق ولكنها بعيدة من العباد فلا يرونها (7) .
قال (8) : ومنه: حبك الرمل والماء؛ إذا ضربتهما الريح، وحبك الشعر
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/52).
(2) ... أخرجه الطبري (26/189 و 190) دون لفظ: السوي.
(3) ... أخرجه الطبري (26/190).
(4) ... أخرجه الطبري (26/189).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... أخرجه مجاهد (ص:616)، والطبري (26/190).
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/174) عن مقاتل والكلبي.
(8) ... أي: الضحاك. وانظر: الماوردي (5/363).(1/435)
الجعد. ومنه الحديث في صفة الدجال: [رأسه] (1) حبك حبك، يعني: الجعودة (2) .
وقال أبو صالح وابن زيد: ذات الشدة (3) .
وقد اختلف القراء في هذا الحرف اختلافاً كثيراً، [فقرأه] (4) العامة بضم الحاء والباء، ومثلهم قرأ ابن عباس وأبي بن كعب وأبو رجاء وابن أبي عبلة، غير أنهم أسكنوا الباء (5) ، وهي لغة بني تميم، كرُسْل وعُمْد في رُسُل وعُمُد.
ومنهم من فتح الباء جمع حُبْكَة، مثل: طُرْفَة وطُرَف، ونبقة ونبق (6) .
وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رزين: "الحِبِك" بكسر الحاء والباء (7) ، مثل: إبل وإطل، وهو قليل في الكلام.
وقرأ عثمان بن عفان والشعبي وأبو العالية بكسر الحاء وسكون الباء على التخفيف (8) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... أخرجه أحمد (5/410)، والطبري (26/190).
(3) ... أخرجه الطبري (26/190) عن ابن زيد. وذكره الماوردي (5/362) عن أبي صالح.
(4) في الأصل: قرأ. والتصويب من ب.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/28)، والدر المصون (6/184).
(6) ... في ب: وبُرْقَة وبُرَق.
(7) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/28)، والدر المصون (6/184).
(8) ... مثل السابق.(1/436)
وقرأ ابن مسعود وعكرمة: بفتح الحاء والباء (1) ، جمع حَبَكَة، مثل: عَقَبَة وعَقَبٍ.
وقرأ أبو الدرداء وأبو الجوزاء وأبو المتوكل وأبو عمران والجحدري بفتح الحاء وكسر الباء (2) .
وعن الحسن في هذا الحرف اختلاف واسع، ليس هذا موضع استقصائه، والجميع يرجع إلى معنى واحد، وهو ما ذكرناه.
قوله تعالى: { إنكم لفي قول مختلف } جواب القسم الثاني.
والمعنى: إنكم لفي قول مختلف في شأن رسولي وما بعثته به ما بين [شرك وإيمان] (3) ، وشك وإيقان، قد فرقتم القول فيه وفي القرآن، هذا يقول: ساحر وسحر، وهذا يقول: شاعر وشعر، وهذا يقول: مجنون، وهذا يقول: معلم، وهذا يقول: أساطير الأولين.
{ يؤفك عنه من أفك } قال الحسن: يصرف عنه من صرف (4) .
وقد سبق ذكر الإفك وحقيقته في مواضع.
والضمير في "عنه" يعود إلى ما دلّ [عليه] (5) قوله: { إنكم لفي قول مختلف } من الحق، أو الإيمان، أو الصواب، أو الرسول، أو القرآن، وأمثال
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/29)، والدر المصون (6/184).
(3) ... في الأصل: شك إيمان. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (26/191). وذكره الماوردي (5/363).
(5) ... زيادة من ب.(1/437)
ذلك.
وجوَّز بعضهم عود الضمير في "عنه" إلى القول المختلف، ولا تكون عنه هاهنا بمنزلة [قولهم] (1) : صرفته عن كذا، إنما المعنى: أُتي من أفك عن جهة القول المختلف، أي: ما وقع به وقع عن هذه الجهة، والمفعول هو الذي يقتضيه "أفك"، أي: أفك عن كذا وعن الحق عن جهة القول المختلف.
قوله تعالى: { قتل الخرّاصون } أي: لُعن الكذابون أو المرتابون.
قال ابن الأنباري: القتل إذ أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك (2) .
وقال الزجاج (3) : تقول: قد تَخَرَّصَ عليَّ فُلانٌ الباطل.
قال (4) : ويجوز أن يكون الخرّاصون الذين إنما يظنون الشيء لا [يُحِقُّونه فيعملون] (5) لما لا يدرون صحته.
قال الفراء (6) : المعنى: لُعن الكذابون الذين قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساحر وكاذب وشاعر، فخرصوا بما لا علم لهم به.
{ الذين هم في غمرة } من الجهالة والعمى { ساهون } غافلون.
{ يسألون أيان يوم الدين } أي: يقولون يا محمد متى يوم الدين. وهذا
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/174)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/30).
(3) ... معاني الزجاج (5/52).
(4) ... أي: الزجاج.
(5) ... في الأصل: يحققونه فيعلمون. والمثبت من ب.
(6) ... معاني الفراء (3/83).(1/438)
سؤال استهزاء وتكذيب لا سؤال استرشاد وتصديق، ولذلك عُوملوا في الجواب بما يُعامل به أمثالهم من المستهزئين والمكذبين، فقيل: { يوم هم } أي: يقع ويكون جزاؤهم على الاستهزاء يوم هم (1) .
وقرأ ابن أبي عبلة: "يومُ" بالرفع (2) ، على معنى: هو يوم هم.
{ على النار يفتنون } يحرّقون ويعذّبون.
ومنه قيل للحرة السوداء: فتين، كأنها أُحرقت بالنار.
{ ذوقوا فتنتكم } في محل [الحال] (3) على معنى: [مقولاً] (4) لهم: ذوقوا فتنتكم، أي: حريقكم وعذابكم، تقول الخَزَنة لهم ذلك تحقيراً وتصغيراً وإيصالاً للعذاب إلى حاسّة سمعهم؛ لأنها أحد الأسباب الموصلة للألم إلى القلب.
وقال ابن عباس: ذوقوا تكذيبكم (5) ، على حذف المضاف، أي: جزاء تكذيبكم.
{ هذا الذي كنتم به } في الدنيا { تستعجلون } تكذيباً واستهزاءاً.
وهذه الجملة مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون "هذا" بدلاً من "فتنتكم" (6) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة: على النار يفتنون. وستأتي بعد قليل. وانظر: ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/134)، والدر المصون (6/185).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: مفعولاً. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (26/195). وذكره الماوردي (5/364).
(6) ... انظر: التبيان (2/243)، والدر المصون (6/185).(1/439)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ ب@ح !$،،=دj9 وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)(1/440)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ اثجب
قوله تعالى: { آخذين ما آتاهم ربهم } قال الزجاج (1) : "آخذين" نصب على الحال (2) . المعنى: المتقين في جنات وعيون في حال أخذ ما آتاهم ربهم.
{ إنهم كانوا قبل ذلك } يعني: في الدنيا { محسنين } موحدين طائعين.
وقال سعيد بن جبير: آخذين بما أمرهم ربهم، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم. وروي نحوه عن ابن عباس (3) .
وفي نظم الكلام على هذا اضطراب (4) ، ولقد راجعتُ فيه بعض العلماء فقال: هو على حذف المضاف، تقديره: ثواب عملهم بالفرائض.
ويحتمل عندي أن يكون التقدير: إن المتقين في حكمي وعلمي في جنات وعيون، باعتبار ما يؤولون إليه والحكم لهم بذلك في حال كونهم آخذين قابلين ما أمرهم به ربهم، عاملين به، ولهذا قيل في التفسير: كانوا قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/53).
(2) ... انظر: التبيان (2/243)، والدر المصون (6/185).
(3) ... أخرجه الطبري (26/196).
(4) ... يعني: حسب الظاهر.(1/441)
قوله تعالى: { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } الهجوع: النوم في الليل، وخصّه بعضهم بالقليل من النوم (1) ، وأنشدوا:
قد حَصَّتِ البيضةُ رأسِي فما ... أطعمُ نَوماً غيرَ تَهْجَاع (2)
و"ما" مع الفعل بتأويل المصدر، التقدير: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم، فيكون هجوعهم بدلاً من الواو في "كانوا"، أي: كان هجوعهم قليلاً من الليل. أو صلة زائدة، على معنى: كانوا يهجعون قليلاً من الليل، فـ"يهجعون" على هذا خبر "كان"، و"قليلاً" ظرف. أو صفة مصدر، على معنى: هجوعاً قليلاً. ويجوز أن يكون تقدير المصدرية: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم، وارتفاعه بـ"قليلاً" على الفاعلية، ويجوز أن تكون "ما" موصولة، تقديره: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعون فيه، وارتفاعه أيضاً بـ"قليلاً" على الفاعلية (3) .
وهذا المعنى المستفاد من هذا الإعراب على الأوجه الثلاثة في "ما" مذهب الحسن والأحنف بن قيس والزهري (4) .
وقال ابن عباس: كانوا قلَّ ليلة تَمرُّ بهم إلا صَلُّوا فيها (5) . فيكون "الليل" على هذا القول اسماً للجنس.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: هجع).
(2) ... البيت لأبي قيس بن الأسلت. وهو في: اللسان (مادة: هجع)، والقرطبي (9/208، 17/35)، وروح المعاني (12/259)، والأغاني (17/120)، والعين (3/14).
(3) ... انظر: التبيان (2/243-244)، والدر المصون (6/186).
(4) ... انظر: الطبري (26/197-198)، والماوردي (5/365)، وزاد المسير (8/32).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/175).(1/442)
وقال عطاء: ذلك حين أمروا بقيام الليل، ثم نزلت الرخصة (1) .
وقيل: إن "ما" نافية.
ثم اختلف القائلون بذلك في توجيه الآية على مسلكين: فذهب قوم، منهم: الضحاك ومقاتل (2) ، إلى أن الوقف على قوله: { كانوا قليلاً } على معنى: كانوا من الناس قليلاً، ثم استأنفوا فقالوا: { من الليل ما يهجعون } أي: ما ينامون البتة (3) .
وهذا وإن كان حسناً من حيث المعنى، غير أنه مدخول من حيث صنعة الإعراب؛ لما فيه من تقديم خبر النفي على حرف النفي، قالوا: لا يجوز: [زيداً] (4) ما ضربت (5) .
وذهب قوم إلى أن المعنى: كانوا ما يهجعون قليلاً من الليل، أي: كانوا يسهرون في قليل من الليل.
قال أنس بن مالك: يصلون ما بين المغرب والعشاء، ونظيره: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } (6) [السجدة:16].
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (2/47 ح6300). وذكره السيوطي في الدر (7/615) وعزاه لابن أبي شيبة وابن نصر وابن المنذر.
(2) ... انظر: تفسير مقاتل (3/276).
(3) ... انظر: الطبري (26/199)، والماوردي (5/365)، وزاد المسير (8/31).
(4) ... في الأصل: زيد. والمثبت من ب.
(5) ... انظر: التبيان (2/243-244)، والدر المصون (6/185-186).
(6) ... أخرجه أبو داود (2/35 ح1322)، والنسائي في الصغرى (1/478 ح841)، والطبري (26/196)، والحاكم (2/507 ح3737)، والبيهقي في الكبرى (3/19 ح4524). وذكره السيوطي في الدر (7/615) وعزاه لأبي داود وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه.(1/443)
ويرد عليه الذي ورد على الوجه الذي قبله من حيث الإعراب، وفيه خلل من حيث المعنى.
قال صاحب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات (1) : لا يجوز أن تكون "ما" نافية؛ لأنها لو كانت نافية تَرَدَّدَ الأمر في قوله: "من الليل"، فإما أن تكون صفة لـ"قليل" وذلك لا يجوز؛ لأن "قليلاً" ظرف زمان، فلا يصح كونه خبراً للواو في "كانوا"؛ لأنهم جُثَثٌ، وظرف الزمان لا يكون خبراً للجُثَّة، وإن قُدِّرت: كانوا ما يهجعون قليلاً من الليل، أو قُدِّرت: كانوا قليلاً ما يهجعون من الليل، فكنت قد قدمت "ما" في حيز النفي على حرف النفي، وهو ممتنع.
فإذاً: الوجه أن يكون "ما يهجعون" بدلاً أو صلة زائدة.
قوله تعالى: { وبالأسحار هم يستغفرون } قال الحسن: مدُّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار (2) .
{ وفي أموالهم حق } أي: نصيب، { للسائل } وهو المستجدي، { والمحروم } المتعفف الذي لا يسأل.
وقيل: هو المُحَارِف الذي لا يكاد يكسب.
__________
(1) ... كشف المشكلات (2/329).
(2) ... أخرجه الطبري (26/198)، وابن أبي شيبة (2/47 ح6298). وذكره السيوطي في الدر (7/616) وعزاه لابن أبي شيبة وابن نصر وابن جرير وابن المنذر.(1/444)
وقيل: هو الذي ليس له شيء في الفيء.
والأول قول قتادة والزهري (1) ، والثاني قول ابن عباس (2) ، والثالث قول إبراهيم النخعي (3) .
وأصل المحروم في اللغة: الممنوع، من الحرمان، وهو المنع (4) ، كأنه الذي مُنِعَ وحُرِمَ الرزق.
وسُئل عمر بن عبد العزيز عن المحروم فقال: الكلب (5) .
وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلم ما المحروم (6) ، ولقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة، فما أنا اليوم بأعلم مني يومئذ.
وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس: ((يا أنس! ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: يا رب ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، قال: فيقول: وعزتي لأقربنَّكم وأبعدنَّهم. قال أنس: وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية: { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } )) (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (26/202). وذكره السيوطي في الدر (7/617) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(2) ... أخرجه الطبري (26/201)، وابن أبي حاتم (10/3312). وذكره السيوطي في الدر (7/616) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (26/203). وذكره السيوطي في الدر (7/617) وعزاه لابن أبي شيبة.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: حرم).
(5) ... ذكره الماوردي (5/367)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/33).
(6) ... أخرجه الطبري (26/204). وذكره السيوطي في الدر (7/617) وعزاه لعبد بن حميد.
(7) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (5/108 ح4813)، والصغير (2/13 ح693). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/62) وعزاه للطبراني في الصغير والأوسط، قال: وفيه الحارث بن النعمان، وهو ضعيف. وذكره السيوطي في الدر (7/618) وعزاه للعسكري في المواعظ وابن مردويه.(1/445)
قوله تعالى: { وفي الأرض آيات } علامات ودلالات على الصانع وقدرته وعظمته وحكمته؛ من إجراء أنهارها، وإخراج ثمارها، وإرساء جبالها، وانقسامها إلى حَزن وسهل، وبر وبحر، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على قدرة خالقها، { للموقنين } بالله تعالى.
{ وفي أنفسكم } أيضاً آيات، إذ كنتم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن نفخت فيكم الأرواح وصرتم بشراً ناطقاً، سميعاً بصيراً، فاهماً، ذوي ألسنة مختلفة، وطبائع غير مؤتلفة، وصور متباينة، وألوان متغايرة.
{ أفلا تبصرون } آيات الأرض وآيات أنفسكم، [فتستدلوا] (1) بالصنعة على الصانع، وبهذه العجائب على قدرة مكوّنها على بعثكم بعد إماتتكم.
{ وفي السماء رزقكم } وقرأ أبيّ بن كعب وحميد: "أرزاقكم" على الجمع (2) ، أي: سبب أرزاقكم أو رزقكم (3) ، وهو المطر الذي تخرج به الحبوب التي تقتاتونها (4) . وهذا قول عامة المفسرين (5) .
__________
(1) ... في الأصل: وتستدلوا. والمثبت من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/33-34)، والبحر المحيط (8/135).
(3) ... في ب: رزقكم أو أرزاقكم.
(4) ... في ب: الحبوب فتقتاتونها.
(5) ... أخرجه الطبري (26/205)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1261). وذكره السيوطي في الدر (7/619) وعزاه لابن النقور والديلمي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لأبي الشيخ وابن جرير.(1/446)
وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن محيصن وأبو نهيك: "رازقكم" (1) ، يعني: الله عز وجل.
{ وما توعدون } من الثواب والعقاب، والخير والشر.
وقال مجاهد: "وما توعدون": الجنة (2) .
{ فورب السماء والأرض إنه لحق } قال الزجاج (3) : المعنى: إن الذي ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، { مثل ما أنكم تنطقون } أي: كما أنكم تنطقون.
فَشَبَّهَ تحقيق ما أخبر عنه كتحقيق نطق الآدمي ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: "مثلُ" بالرفع صفة لـ"لحق"، أي: إنه لحق مثل نطقكم. وقرأ الباقون: "مثلَ" بالنصب (4) .
قال مكي (5) : حجتهم ثلاثة أوجه:
__________
(1) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:399)، وزاد المسير (8/34).
(2) ... أخرجه الطبري (26/206) عن الضحاك. ولفظ مجاهد: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } يقول: الجنة في السماء، وما توعدون من خير أو شر. وذكره الواحدي في الوسيط (4/176)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/34).
(3) ... معاني الزجاج (5/54).
(4) ... الحجة للفارسي (3/418)، والحجة لابن زنجلة (ص:679)، والكشف (2/287)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:399)، والسبعة (ص:609).
(5) ... الكشف (2/287-288).(1/447)
الأول: أن يكون مبنياً على الفتح لإضافته إلى اسم غير متمكِّن، وهو "أن"، كما بُنِيَتْ "غير" لإضافتها إلى "أن" في قوله:
لم يمنعِ الشُّربَ منها غير أن نَطَقَتْ ... ... ..................... (1)
الوجه الثاني: أن تجعل "ما" و"مثل" اسماً واحداً، وتبنيه على الفتح، وهو قول المازني، فهو عنده كقول الشاعر:
وتَدَاعَى مِنْخَراهُ بِدَمٍ ... مثلَ ما أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَل (2)
فبنى "مثلاً" لَمَّا جعلها و"ما" اسماً واحداً.
الوجه الثالث: أن تنصب "مثلاً" على الحال من النكرة، وهي "حق". وهو قول الجرمي (3) .
والأحسنُ أن يكون حالاً من المضمر المرفوع في "لحقّ"، وهو العامل في المضمر وفي الحال، وتكون "ما" على هذا زائدة، و"مثل" مضاف إلى "أنكم" ولم يتعرّف بالإضافة لما ذكرنا أولاً، والحال من النكرة قليلٌ في
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: حمض)، والدر المصون (6/187)، والحجة للفارسي (2/404، 3/419). والحُمّاض: بقلة برّيّة تنبت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء، وهي من ذكور البقول (اللسان، مادة: حمض).
(3) ... هو: صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمي، أخذ النحو عن الأخفش، وقرأ كتاب سيبويه عليه، ولقي يونس، وكان رفيقاً للمازني، وأخذ اللغة عن أبي زيد وطبقته، وكان ورعاً، وله تصانيف. توفي سنة 225هـ (انظر: إنباه الرواة 2/80، ونزهة الألباء ص:143، ومراتب النحويين ص:75).(1/448)
الاستعمال. وقد حكى الأخفش (1) في قوله تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا } [الدخان:4-5] أن "أمراً" الثاني حال من "أمر" الأول، وهو نكرة. والأحسن أن يكون حالاً من الضمير في "حكيم" وهو بمعنى محكم (2) .
سمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه يقول: أخبرنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى المديني إجازة، أخبرنا أبو الفتح عبدالرزاق بن محمد بن الشرابي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المذكر، حدثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور، حدثنا أبو رجاء محمد بن أحمد، حدثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي (3) قال: سمعت الأصمعي يقول: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها، إذ طلع أعرابي جَلْفٌ جافٍ على قَعُود (4) له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلّم، وقال لي: ممن الرجل؟ قلتُ: من بني الأصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلتُ: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ [فقلت] (5) : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه
__________
(1) ... معاني الأخفش (ص:284).
(2) ... في الكشف: يحكم.
(3) ... العباس بن الفرج الرياشي، أبو الفضل البصري النحوي، مولى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، كان عالماً باللغة، قدم بغداد وحدّث بها، مات سنة سبع وخمسين ومائتين بالبصرة، قتله الزنج (تهذيب التهذيب 5/106، والتقريب ص:293).
(4) ... القَعود من الإبل: ما اتخذه الراعي للركوب وحمل الزاد والمتاع (اللسان، مادة: قعد).
(5) ... في الأصل: قال. والتصويب من ب.(1/449)
الآدميون؟ قلتُ: نعم، قال: اتل عليّ شيئاً منه، قلتُ له: انزل عن قَعُودك، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله سبحانه وتعالى: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } ، قال: يا أصمعي! هذا كلام الرحمن؟ قلتُ: إي والذي بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق إنه لكلامه، أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطّعها بجلدها وقال: أعنّي على تفريقها، ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل (1) ، وولى مدبراً نحو البادية وهو يقول: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } (2) ، فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي.
فلما حججتُ مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي نحيلٌ مصفارٌ، فسلّم عليّ وأخذ بيدي فأجلسني من وراء المقام وقال [لي] (3) : اتل عليّ كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } صاح الأعرابي: وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم. يقول الله تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } ، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله، من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدقوه حتى ألجأوه إلى اليمين؛ قالها ثلاثاً وخرجت
__________
(1) ... في كتاب التوابين (ص:274): الرحل.
(2) ... في الأصل: ورزقكم في السماء وما توعدون. والمثبت من ب.
(3) ... زيادة من ب، والثعلبي (9/115)، والتوابين (ص:275).(1/450)
فيها نفسه (1) .
ِ@yd أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
__________
(1) ... أخرجه الثعلبي في تفسيره (9/115)، وابن قدامة في كتاب التوابين (ص:273-274).(1/451)
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ اجةب
قوله تعالى: { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } الاستفهام بمعنى تفخيم شأن القصة، والتنبيه على أن العلم بهذا الحديث لا طريق له سوى الوحي.
وقد سبق أن الضيف في الأصل مصدر، فلذلك يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وهم الملائكة الذين جاؤوه بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في سورة هود (1) . ووصفهم بالإكرام؛ لأن خير البرية إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خَدَمَهُم بنفسه وخَدَمَتْهم زوجه سارة عليهما السلام، وعجّل لهم القِرى بذبح العجل، أو لأنهم [مكرمون] (2) عند الله. قال الله عز وجل: { بل عباد مكرمون } [الأنبياء:26].
{ إذ دخلوا عليه } الظرف منصوب بـ"مكرمين" على تفسير إكرامهم بخدمة إبراهيم وتعجيل القِرى، وإلا فهو منصوب بإضمار: "اذكروا"، بما
__________
(1) ... عند الآية رقم: 70.
(2) ... في الأصل: مكرومون. والتصويب من ب.(1/452)
في "ضيف" من معنى الفعل (1) .
{ قوم منكرون } قال الزجاج (2) : ارتفع على معنى: [أنتم] (3) قوم منكرون.
قال ابن عباس: لم يعرفهم (4) .
وقال أبو العالية: أنكر في ذلك الزمان وفي تلك الأرض السلام الذي هو من شعائر الإسلام (5) .
وقيل: أنكرهم؛ لأنه رأى فيهم صورة الملائكة وصورة البشر.
وقيل: لأنهم دخلوا عليه بغير استئذان.
{ فراغ إلى أهله } عَدَلَ إليهم في خِفْيَةٍ من ضيفه، وهذا من فُتوّته ومروءته وحسن أدبه وعشرته، فإن مبادرة الضيف بالقِرى وإخفاء ذلك منه لئلا يكفه عنه ويمنعه منه؛ [من] (6) شيم الأكارم وخصال المكارم.
{ فجاء بعجل سمين } قال قتادة: كان عامّة مال نبي الله: البقر (7) .
"فجاء بعجل" والمعنى: جاء به مَشْوِيّاً، بدليل قوله تعالى في هود: { جاء
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/244)، والدر المصون (6/188).
(2) ... معاني الزجاج (5/54).
(3) ... في الأصل: أأنتم. والتصويب من ب، ومن معاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/178)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/36).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/36).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... أخرجه الطبري (26/208). وذكره السيوطي في الدر (7/620) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/453)
بعجل حنيذ } [هود:69].
{ فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون } أنكر عليهم ترك الأكل وحثَّهم عليه.
{ وبشروه بغلام عليم } وهو إسحاق عليه السلام، لقوله تعالى: { فأقبلت امرأته } ، [وقولها] (1) في هود: { وهذا بعلي شيخاً } [هود:72].
[ويروى] (2) عن مجاهد: أنه إسماعيل (3) . وليس بشيء.
قال ابن قتيبة (4) : لم تُقْبِل من موضع إلى موضع، وإنما هو كقولك: أقْبَلَ يشتمني، أي: أخذ في شتمي.
{ في صَرَّة } أي: في صيحة، ومنه: صَرَّ الجُنْدُب (5) ، وصَرَّ القلم والباب.
وقيل: في جماعة، ومنه: المُصَرَّاة وصُرَّة الدراهم.
والأول هو التفسير الصحيح. ومحله النصب على الحال (6) . [أي] (7) : جاءت صارَّة.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: ويرى. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:619)، والطبري (26/208)، وابن أبي حاتم (10/3312). وذكره السيوطي في الدر (7/620) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:421).
(5) ... الجُنْدُب: الذَّكر من الجراد (اللسان، مادة: جدب).
(6) ... انظر: التبيان (2/244)، والدر المصون (6/189).
(7) ... زيادة من ب.(1/454)
قال قتادة: تأوَّهَت (1) .
وقال الفراء (2) : قالت: يا ويلتا.
{ فصكّت وجهها } قال ابن عباس: لَطَمَتْه (3) .
ومعنى الصَّكُّ: ضرب الشيء بالشيء (4) .
قال ابن السائب ومقاتل (5) : جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجباً.
{ وقالت عجوز عقيم } [أي: أنا عجوز عقيم] (6) فكيف ألِدُ؟
{ قالوا كذلك قال ربك } أي: مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك، { إنه هو الحكيم } فيما يدبّره { العليم } بما يقدّره. فأيقن [حينئذ أنهم] (7) ملائكة أرسلهم الله تعالى إليه.
* قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/37).
(2) ... معاني الفراء (3/87).
(3) ... أخرجه الطبري (26/209)، وابن أبي حاتم (10/3312). وذكره السيوطي في الدر (7/620) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: صكك).
(5) ... تفسير مقاتل (3/278). وانظر: الطبري (26/210) بلا نسبة.
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... في الأصل: أنهم حينئذ. والمثبت من ب.(1/455)
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(1/456)
(39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ(1/457)
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ احدب
فـ { قال } لهم: { فما خطبكم } أي: ما شأنكم { أيها المرسلون } .
{ فأخرجنا من كان فيها } أي: في قرى قوم لوط { من المؤمنين } ، وذلك قوله تعالى: { فأسْرِ بأهلك } [هود:81].
{ فما وجدنا فيها غير بيت } أي: غير أهل بيت { من المسلمين } يعني: لوطاً وبنتيه. وصفهم الله بالإسلام والإيمان جميعاً؛ لأن كل مؤمن مسلم.
{ وتركنا فيها آية } علامة { للذين يخافون العذاب الأليم } ، وما لم نفسره في هاتين القصتين مُفسّر في هود (1) .
قوله تعالى: { وفي موسى } معطوف على { وفي الأرض آيات } ، أو على قوله: { وتركنا فيها آية } ، على معنى: وجعلنا في موسى آية (2) .
{ فتولى بركنه } أي: أعرض بما كان يتقوى به من جنده وملكه، كقوله: { أو آوي إلى ركن شديد } [هود:80].
وقيل: أعرض بجانبه.
__________
(1) ... عند الآيات: 69-83.
(2) ... وهذا هو الظاهر. وأما القول الأول -أي: أنه معطوف على: "وفي الأرض آيات"-؛ فقال أبو حيان في البحر (8/139): وهذا بعيد جداً، ينزه القرآن عن مثله.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (6/190): ووجه استبعاده له بُعْد ما بينهما، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلك.(1/458)
و"اليم" مذكور في الأعراف (1) ، و"المُليم" في الصافات (2) .
قوله تعالى: { وفي عاد } معطوف أيضاً، { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } وهي التي لا تُنتج خيراً، لا تُنشئ مطراً، ولا تُلقح شجراً، بل هي ريح هلاك وعذاب.
ثم وصفها فقال: { ما تذر من شيء أتت عليه } من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم { إلا جعلته كالرَّميم } .
قال الفراء (3) : الرَّميم: نبات الأرض إذا يبس ودِيسَ.
قوله تعالى: { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } تفسيره قوله: { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } [هود:65] وذلك حين عقروا الناقة.
{ فأخذتهم الصاعقة } وقرأ الكسائي: "الصَّعْقَةُ" بسكون العين من غير ألف (4) .
قيل: هما لغتان في الصاعقة [التي] (5) تنزل وتحرق.
وقيل: الصاعقة هي التي تنزل، والصَّعْقَة: الزَّجْرَة، وهي الصوت عند نزول الصاعقة.
{ وهم ينظرون } يرون ذلك عياناً.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 136.
(2) ... عند الآية رقم: 142.
(3) ... معاني الفراء (3/88).
(4) ... الحجة للفارسي (3/422)، والحجة لابن زنجلة (ص:680)، والكشف (2/288)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:399)، والسبعة (ص:609).
(5) ... زيادة من ب.(1/459)
وقيل: [ينتظرونه] (1) ، على ما ذكرناه في قصتهم.
{ فما استطاعوا من قيام } أي: فما قدروا على نهوضٍ من تلك الصرعة.
{ وما كانوا منتصرين } ممتنعين من العذاب.
قوله تعالى: { وقوم نوح } قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث وأهل الكوفة إلا عاصماً: "وقومِ" بخفض الميم. وروى عبد الوارث: "وقومُ" بالرفع (2) ، وقرأ الباقون من العشرة بنصبها (3) .
فالجر على معنى: وفي قوم نوح، وهكذا يقرأ ابن مسعود، والرفع على الابتداء، والنصب على معنى: واذكر قوم نوح. أو هو عطف على المعنى؛ لأن معنى: "فأخذتهم الصاعقة": أهلكناهم، التقدير: وأهلكنا قوم نوح. أو عطف على معنى: فنبذناهم في اليم، أي: فأغرقناهم وأغرقنا قوم نوح. وهذا الوجه اختيار الزجاج (4) .
uن!$uK،،9$#ur بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا
__________
(1) ... في الأصل: ينظرونه. والمثبت من ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/40)، والدر المصون (6/191).
(3) ... الحجة للفارسي (3/422)، والحجة لابن زنجلة (ص:680-681)، والكشف (2/289)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:400)، والسبعة (ص:609).
(4) ... معاني الزجاج (5/57).(1/460)
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ اختب
قوله تعالى: { والسماء بنيناها بأَيْدٍ } وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة المفسرين واللغويين: بقوة (1) .
والأيْد والأداء: القول، وقد آدَ يَئِيدُ فهو أيْد (2) .
{ وإنا لموسعون } قال الحسن: لموسعون الرزق بالمطر (3) .
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:621)، والطبري (27/7)، وابن أبي حاتم (10/3313). وذكره السيوطي في الدر (7/623) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لآدم بن أبي إياس والبيهقي.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: أيد).
(3) ... ذكره الماوردي (5/373)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/41).(1/461)
وقال ابن زيد: لموسعون السماء (1) .
وقال الزجاج (2) : لموسعون ما بين السماء والأرض.
وقال الواحدي (3) : وإنا لذو سعة لخلقنا.
المعنى: قادرون على رزقهم لا نعجز عنه، والموسع ذو الوسع والسعة، وهو الغنى والجدة.
{ والأرض فرشناها } بسطناها { فنعم الماهدون } أي: فنعم الماهدون نحن.
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي: ومن كل شيء من الحيوان خلقنا ذكراً وأنثى.
وقال الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، فعدَّد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له (4) .
{ لعلكم تذكرون } أي: فعلنا ذلك إرادة أن تتذكروا فتعرفوا عظمة الله وقدرته ووحدانيته وتشكروا نعمته.
ولما عرّف عباده عظمته وحكمته ووحدانيته وقدرته وإحسانه إليهم
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... معاني الزجاج (5/57).
(3) ... الوسيط (4/180).
(4) ... أخرج نحوه الطبري (27/8) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (7/623) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.(1/462)
وإنعامه عليهم، بعد أن قصَّ عليهم أخبار الأمم المكذبة في الأيام الخالية، أمرَهم بالمبادرة إلى ثوابه والهرب من عقابه، فقال تعالى: { ففروا إلى الله } أي: إلى طاعته من معصيته، { إني لكم منه } أي: من الله { نذير مبين } .
ثم زجرهم عن الشرك فقال: { ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر... الآية } .
y7د9؛xx. مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ(1/463)
يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي tbrك‰tمqم ادةب
قوله تعالى: { كذلك } أي: الأمر كذلك، أو الأمر مثل ذلك. والإشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحراً ومجنوناً. ثم فسره فقال: { ما أتى... الآية } .
قوله تعالى: { أتواصوا به } الضمير للقول، على معنى: أتَواصَى الأولون والآخرون بهذا القول حتى اتفقوا عليه. والاستفهام للتوبيخ.
ثم أضرب عن ذلك فقال: { بل } أي: لم يتواصوا به، وأثبت لهم الاشتراك في الطغيان فقال: { هم قوم طاغون } .
{ فتولَّ عنهم } أعرض عن هؤلاء الذين دَأَبْتَ في مناصحتهم ودعائهم إلى توحيدنا وهم يعاندونك ويباعدونك، وهذا تهديد لهم، { فما أنت بملوم } إذا(1/464)
بذلت مجهودك في تبليغ رسالتنا ونهضت بأعباء دعوتنا.
{ وذكِّرْ } أي: لا تدع مع ذلك التذكير والموعظة.
قال ابن عباس وجمهور المفسرين: لما نزلت هذه الآية: { فتولَّ عنهم } حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، حتى نزلت الآية الثانية: { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } (1) .
قال مقاتل (2) : عِظْ كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من في علم الله أنه يؤمن.
وقيل: تنفعهم في دينهم.
قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال علي عليه السلام: لآمرهم أن يعبدون (3) . واختاره الزجاج (4) .
وقال ابن عباس: ليقرّوا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً (5) .
وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة والقاضي أبو يعلى (6) : هذا خاص في المؤمنين.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/11) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (7/624) وعزاه لابن جرير عن قتادة.
(2) ... تفسير مقاتل (3/280).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/42).
(4) ... معاني الزجاج (5/58).
(5) ... أخرجه الطبري (27/12)، وابن أبي حاتم (10/3313). وذكره السيوطي في الدر (7/624) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(6) ... معاني الفراء (3/89)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:422). وانظر: زاد المسير (8/42).(1/465)
قال سعيد بن المسيب: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني (1) .
قال القاضي أبو يعلى: معنى هذا: الخصوص؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار يخرجون من هذا، بدليل قوله تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } [الأعراف:179]، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة (2) .
وقال جماعة من أهل المعاني: ما خلقتهم إلا ليخضعوا ويذلوا لي، وكلّ الخلق خاضعٌ ذليلٌ لعزة الله تعالى (3) .
{ ما أريد منهم من رزق } أي: ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد أن يطعموا أحداً من خلقي.
وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأن الخلق عيال الله, فمن أطعم عيال الله فقد أطعم الله، ومنه الحديث: ((استطعمتك فلم تطعمني)) (4) .
{ إن الله هو الرزاق } وقرأ الضحاك وابن محيصن: "الرَّازق" (5) .
قال الخطابي (6) : المُتَكَفِّلُ بالرِّزْقِ، القائم على كل نَفْسٍ بما يُقيمُها من قُوتِها، والمتين: الشديد القوة.
وقرأ أبو رزين وقتادة وأبو العالية والأعمش وقتيبة عن الكسائي:
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/42).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/43).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/181).
(4) ... أخرجه مسلم (4/1990 ح2569).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:400).
(6) ... شأن الدعاء (ص:54، 77).(1/466)
"المتينِ" بكسر النون (1) .
قال الزجاج (2) : جعل "المتين" صفة للقوة؛ لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة. فالمعنى: ذو [الاقتدار] (3) الشديد.
قوله تعالى: { فإن للذين ظلموا } يعني: مشركي مكة { ذَنُوباً } نصيباً من العذاب { مثل ذَنُوب أصحابهم } الذين كانوا على مثل رأيهم في الشرك وتكذيب الرسل.
قال الفراء وابن قتيبة والزمخشري (4) : الذَّنُوب: الدَّلْوُ العظيمة. وهذا تمثيل، أصله في السُّقَاة يتقسّمون [الماء] (5) ، فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال:
لنا ذنوبٌ ولكمْ ذنوبُ ... ... فإن أبيتمْ فلنا [القَليبُ] (6)
والذَّنُوب يذكر ويؤنث.
{ فلا يستعجلون } بالعذاب، فإني قد أمهلتهم إلى يوم القيامة، يدل عليه
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:400).
(2) ... معاني الزجاج (5/59).
(3) ... في الأصل: الأقدار. والتصويب من ب.
(4) ... معاني الفراء (3/90)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:423)، والكشاف للزمخشري (4/409).
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... في الأصل: الذنوبيين. وهو وهم. والمثبت من ب، ومصادر البيت.
... وانظر البيت في: اللسان (مادة: ذنب)، والطبري (27/14)، والقرطبي (17/57)، والماوردي (5/375)، وزاد المسير (8/44).(1/467)
قوله تعالى: { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } وهو يوم القيامة.
وقيل: يوم بدر. والله تعالى أعلم.(1/468)
سورة الطور
ijk
وهي سبع وأربعون آية في العدد المدني، وتسع في الكوفي (1) . وهي مكية بإجماعهم.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة (2) ، عن أم سلمة قالت: ((شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور)) (3) . هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وبهذا الإسناد قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان قال: حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:233).
(2) ... زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمها أم سلمة، ولدت بأرض الحبشة، ماتت في ولاية طارق على المدينة سنة ثلاث وسبعين (تهذيب التهذيب 12/450، والتقريب ص:747).
(3) ... أخرجه البخاري (1/177 ح452)، ومسلم (2/927 ح1276).(1/469)
يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } كاد قلبي أن يطير.
قال سفيان: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، لم أسمعه زاد الذي قالوا)) (1) .
ح'q'ـ9$#ur (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1839 ح4573).(1/470)
الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اتدب
قوله تعالى: { والطور } هو الجبل الذي كَلَّمَ الله تعالى عليه موسى عليه(1/471)
الصلاة والسلام. وقد ذكرناه في البقرة (1) .
{ وكتاب مسطور } روى أبو صالح عن ابن عباس: أنه اللوح المحفوظ (2) .
ويرد على هذا القول إشكال لم أرهم تعرّضوا لذكره فضلاً عن جوابه، وهو أنه وصف الكتاب بقوله: { في رَقٍّ } .
واللوح المحفوظ بنص ابن عباس: دُرَّةٌ بيضاء (3) .
وقال ابن السائب: هو ما كتبه الله تعالى لموسى وهو يسمع صرير القلم (4) .
والأظهر في التفسير: أن الكتاب المسطور: كَتْبُ أعمال بني آدم.
قال مقاتل (5) : تخرج إليهم أعمالهم يومئذ.
[ { في رَقٍّ منشور } يعني: أديم الصحف.
قال الثعلبي (6) : ونظيره] (7) قوله (8) : { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه
__________
(1) ... عند الآية رقم: 63.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/45).
(3) ... أخرجه الحاكم (2/516 ح3771)، والطبراني في الكبير (10/260 ح10605)، وأبو الشيخ في العظمة (2/492 ح42)، والطبري (27/135). وذكره السيوطي في الدر (7/699) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ في العظمة والحاكم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/59)، والبغوي (4/236).
(5) ... تفسير مقاتل (3/282).
(6) ... تفسير الثعلبي (9/123-124).
(7) ... زيادة من ب.
(8) ... في الأصل: وقوله تعالى. والتصويب من ب.(1/472)
منشوراً } [الإسراء:13]، وقوله: { وإذا الصحف نشرت } [التكوير:10].
وقيل: هو ما كتبه الله تعالى للخلق من السابقة والعاقبة.
وحكى الماوردي قولين آخرين (1) :
أحدهما: أنه التوراة.
والآخر: أنه القرآن.
والرّق: الصحيفة.
وقيل: الجلد الذي يُكتب فيه.
والمنشور: المبسوط.
{ والبيت المعمور } قال الحسن: هو البيت الحرام (2) .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور: أنه بيت في السماء، يسمى: الضُّرَاح.
قال ابن عباس: هو على سمت البيت الحرام، حتى لو سقط لسقط عليه، يحجه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم [لا] (3) يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى: الضُّرَاح (4) .
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/377).
(2) ... ذكره الماوردي (5/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/47).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/417 ح12185)، وعبد الرزاق (5/28 ح8874)، والأزرقي (1/91 ح36). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/627) وعزاه للطبراني وابن مردويه بسند ضعيف.(1/473)
والضُّراح: بالضاد المعجمة. قال ابن فارس (1) : هو بيت في السماء.
وقال الربيع بن أنس: أنه كان في الأرض في موضع الكعبة في [زمان] (2) آدم، حتى كان زمان نوح، فأمرهم أن يحجوا إليه، فعصوه، فلما طغى الماء رُفع فجعل في سماء الدنيا حذاء البيت الحرام، وبوأ الله تعالى لإبراهيم الكعبة حيث كان (3) .
واختلفوا في أيّ سماء هو؛ فروى أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه في السماء السابعة (4) .
وحديث مالك بن صعصعة المخرج في الصحيحين يدل عليه (5) .
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه في السماء الدنيا (6) .
__________
(1) ... معجم مقاييس اللغة (3/348).
(2) ... في الأصل: زمن. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (5/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/47).
(4) ... أخرجه مسلم (1/146 ح162)، والطبري (27/17). وذكره السيوطي في الدر (7/629) وعزاه لابن جرير.
(5) ... أخرجه البخاري (3/1173 ح3035)، ومسلم (1/149 ح164).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3314)، والعقيلي في الضعفاء (2/59 ح497). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/47)، والسيوطي في الدر (7/627) وعزاه لابن المنذر والعقيلي وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف.
... قال ابن كثير في تفسيره (4/240): هذا حديث غريب جداً تفرد به روح بن جناح هذا، وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعيد الدمشقي، وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ، منهم: الجوزجاني، والعقيلي، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وغيرهم. قال الحاكم: لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري.(1/474)
وروي عن علي رضي الله عنه: أنه في السماء السادسة (1) . والله تعالى أعلم.
والمعنى: أنه معمور بمن يغشاه ويحجه من الملائكة، أو من الناس؛ إن قلنا هو البيت الحرام.
{ والسقف المرفوع } قال علي عليه السلام: هو السماء (2) . وإليه ذهب جماهير العلماء.
وقال الربيع بن أنس: هو العرش (3) .
{ والبحر المسجور } قال علي عليه السلام: هو بحر تحت العرش، ماؤه غليظ، يُمْطَر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً، فينبُتون في قبورهم (4) . وهذا قول ابن السائب ومقاتل (5) وجمهور العلماء.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/16).
(2) ... أخرجه الطبري (27/18)، وابن أبي حاتم (10/3314)، والحاكم (2/508 ح3743)، وأبو الشيخ في العظمة (3/1030 ح548)، والبيهقي في الشعب (3/437). وذكره السيوطي في الدر (7/629) وعزاه لابن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/634 ح62). وذكره الماوردي (5/378)، والسيوطي في الدر (7/629) وعزاه لأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (27/20)، وابن أبي حاتم (10/3315). وذكره الواحدي في الوسيط (4/185)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/47)، والسيوطي في الدر المنثور (7/629) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم، كلهم بلفظ: بحر في السماء تحت العرش.
(5) ... انظر: تفسير مقاتل (3/282).(1/475)
وقال الماوردي (1) : هو بحر الأرض، قال: وهو الظاهر.
وأما المسجور؛ فقال أبو صالح وابن السائب وقتادة وعامة اللغويين: هو الممتلئ (2) .
وقال مجاهد: الموقد ناراً (3) .
قال شمر بن عطية (4) : هو بمنزلة التنور المسجور (5) .
وقال ابن عباس في رواية عطية وذي الرمة الشاعر وأبو العالية: هو اليابس الذي [قد] (6) ذهب ماؤه ونضب (7) .
قال الحسن: [تُسجر البحار] (8) حتى يذهب ماؤها، فلا يبقى فيها
__________
(1) ... تفسير الماوردي (5/378).
(2) ... أخرجه الطبري (27/19). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/630) وعزاه لابن جرير عن قتادة.
(3) ... أخرجه مجاهد (ص:624)، والطبري (27/19). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/630) وعزاه لابن جرير.
(4) ... شمر بن عطية الأسدي الكاهلي الكوفي، كان ثقة صدوق، وله أحاديث صالحة (تهذيب التهذيب 4/319، والتقريب ص:268).
(5) ... أخرجه الطبري (27/19).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... أخرج الطبري (27/19) عن ابن عباس في قوله: { والبحر المسجور } قال: سجره حين يذهب ماؤه ويفجر. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/48). وبمعناه السيوطي في الدر (7/630) وعزاه للشيرازي في الألقاب من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله: { والبحر المسجور } قال: الفارغ.
(8) ... في الأصل: يسجر البحر البحار. والمثبت من ب.(1/476)
قطرة (1) .
وجاء في الحديث: أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فتُسْجَرُ بها نار جهنم (2) .
ويروى أن علياً عليه السلام سأل يهودياً: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. قال علي: ما أراه إلا صادقاً، لقوله تعالى: { والبحر المسجور } (3) .
وهذا كله ينزع إلى قول مجاهد، ويشهد له بالصحة [والاعتبار] (4) .
وقال الربيع بن أنس: المسجور: المختلط العذب بالملح (5) . ومنه: عين سَجْرَاء؛ إذا خالطت بياضها حُمرة (6) .
قال المفسرون: أقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته.
وجواب القسم: { إن عذاب ربك لواقع } أي: لكائن.
{ ما له من دافع } أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد -تصنيف أبيه- بإسناده، عن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا
__________
(1) ... ذكره البخاري معلقاً (4/1838). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/48).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/48).
(3) ... أخرجه الطبري (27/18)، وابن أبي حاتم (10/3315). وذكره السيوطي في الدر (7/630) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة.
(4) ... في الأصل: والاعتبارة. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/48).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: سجر).(1/477)
ومالك بن دينار إلى الحسن، فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ، فلما بلغ هذه الآية: { إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } بكى الحسن وبكى أصحابه، وجعل مالك يضطرب حتى غُشي عليه (1) .
ثم بين زمان وقوعه فقال: { يوم تمور السماء مَوْراً } المَوْر: تحرّكٌ في تموّج.
قال ابن عباس: تدُور دَوْراً (2) .
قال الضحاك: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى (3) .
وقال أبو عبيدة (4) : تتكفَّأ بأهلها. ومنه بيت الأعشى:
كأنّ مِشْيَتَها من بيت جارتها ... [مَورُ] (5) السحابةِ لا رَيثٌ ولا عَجَل (6)
والمعنى متقارب.
ودخول الفاء في قوله: "فويل"؛ لتضمن الكلام معنى المجازاة، مَجَازُه: إذا كان هذا { فويل يومئذ للمكذبين } .
__________
(1) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء (ص:89 ح92)، والثعلبي في تفسيره (9/126).
(2) ... أخرجه الطبري (27/21) عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/48) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر (7/631) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(3) ... أخرجه الطبري (27/21).
(4) ... مجاز القرآن (2/231).
(5) ... في الأصل: مشي. والمثبت من ب. وانظر: مجاز القرآن، الموضع السابق.
(6) ... سبق تخريجه.(1/478)
وما لم أذكره مُفسّر إلى قوله تعالى: { يوم يدعّون } أي: يدفعون دفعاً عنيفاً، ومنه: { يدعّ اليتيم } [الماعون:2].
قال مقاتل (1) : تُغَلُّ أيديهم إلى أعناقهم، وتُجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يُدفعون إلى جهنم دفعاً على وجوههم، حتى إذا دنوا منها قال لهم خَزَنَتها: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } في الدنيا.
{ أفسحرٌ هذا } الذي تشاهدونه من النار. وكانوا يقولون للرسل: سَحَرَة، فقيل لهم توبيخاً وتصغيراً وتبكيتاً وتهكّماً: أفسحر هذا، { أم أنتم لا تبصرون } اليوم كما كنتم لا تبصرون في الدنيا.
{ اصلوها } قاسوا شدتها وحرِّها { فاصبروا } على العذاب { أو لا تصبروا سواء عليكم } الصبر والجزع، { إنما تجزون } اليوم { ما كنتم تعملون } في الدنيا من الكفر والتكذيب والمعاصي.
¨bخ) الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/283).(1/479)
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ اثةب
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما للمؤمنين فقال: { إن المتقين في جنات ونعيم } فائدة التنكير: التعظيم، تقديره: في أي جنات وأي نعيم.
{ فاكهين } مذكور في يس (1) . ونصبه على الحال (2) .
{ ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } عطف على قوله: { في جنات } . ويجوز أن تكون الواو في "ووقاهم" حالية بإضمار "قد".
{ كلوا واشربوا } على إضمار القول، تقديره: يقال لهم: كلوا واشربوا.
{ هنيئاً } صفة مصدر محذوف، تقديره: أكلاً وشرباً هنيئاً مأمون العاقبة من الأمراض والتخم.
قال زيد بن أرقم: ((جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم! تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال: والذي نفسي بيده، إن الرجل منهم يؤتى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع. قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة؟ فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 55.
(2) ... انظر: التبيان (2/245)، والدر المصون (6/197).(1/480)
كان كذلك ضمر له بطنه)) (1) .
ثم ذكر حالهم عن الأكل والشرب فقال: { متكئين على سرر } وهو جمع سرير، { مصفوفة } بعضها إلى جانب بعض.
وباقي الآية مذكور في آخر الدخان (2) .
tûïد%©!$#ur آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا
__________
(1) ... أخرجه أحمد (4/367).
(2) ... عند الآية رقم: 54.(1/481)
لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ اثرب
قوله تعالى: { والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم } قرأ أبو عمرو: "وأتْبَعْنَاهم" بقطع الهمزة وفتحها وسكون التاء وتخفيفها ونون وألف، "ذرياتهم" على الجمع، والتاء مكسورة في اللفظ على إضافة الفعل(1/482)
إلى الله تعالى، إجراء [للكلام] (1) على سَنَن واحد؛ لأن قبله "وزوجناهم"، وبعده "ألحقنا بهم" "وما ألتناهم" و"ذرياتهم" نصب بوقوع الفعل عليهم، والتاء غير أصلية، فلفظ النصب فيها كلفظ الخفض؛ لأنها تاء جماعة المؤنث، كالمسلمات والصالحات.
وقرأ الباقون: "واتَّبعتهم" بوصل الألف وتشديد التاء وبعد العين تاء ساكنة، على إضافة الفعل إلى الذرية، "ذريَّتُهم" على التوحيد والرفع (2) .
ووافق ابن عامر أبا عمرو في جمع "ذرياتهم"، غير أنه رفع بإسناد الفعل إليهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "ألحقنا بهم ذرياتهم" على الجمع. وقرأ الباقون "ذُرَيَّتهم" على التوحيد ونصب التاء (3) .
والذرية لفظ واقع على الواحد والجمع، والمراد هاهنا: الجمع.
والباء في "بإيمان" للسببية. المعنى: ألحقنا بهم ذرياتهم بسبب إيمانهم، ليتكامل حُبُورُهُم وسرورهم بانضمام ذريتهم إليهم، وإن لم تكن ذريتهم من أهل تلك الدرجات التي بلغتها الآباء بأعمالهم، كما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله يرفع ذرية المؤمن حتى يلحقهم به، وإن كانوا دونه في العمل
__________
(1) ... في الأصل: الكلام. والمثبت من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/424)، والحجة لابن زنجلة (ص:681-682)، والكشف (2/290)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:400)، والسبعة (ص:612).
(3) ... انظر: المصادر السابقة.(1/483)
لتقرّ بهم (1) عينُه، ثم قرأ: { والذين آمنوا... الآية } )) (2) .
وقد أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث علي عليه السلام، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ: { والذين آمنوا واتبعتهم... الآية } )) (3) .
وقيل: بسبب إيمان الذرية، فيكون معنى التنكير في "إيمان" على القول الأول: التعظيم لذلك الإيمان، أي: بإيمان عظيم المحل كامل الأوصاف، وعلى القول الثاني على معنى: بشيء من إيمان الذرية.
قال صاحب كشف المشكلات (4) : الباء في "بإيمان" (5) حال، إما من الفاعل، أو من المفعول، أو منهما جميعاً.
قرأ ابن كثير: "وما ألِتْنَاهُم" بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ: إسقاط الهمزة (6) .
وقرأ الباقون من العشرة: "وما أَلَتْنَاهُم" بفتح اللام مع الهمزة (7) .
__________
(1) ... في ب: به.
(2) ... أخرجه الطبري (27/24) موقوفاً على ابن عباس، وكذا ابن أبي حاتم (10/3316). وذكره السيوطي في الدر (7/632) وعزاه للبزار وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً.
(3) ... أخرجه أحمد (1/134 ح1131).
(4) ... كشف المشكلات (2/335).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: ضم.
(6) ... النشر (2/377)، والإتحاف (ص:400).
(7) ... الحجة للفارسي (3/425)، والحجة لابن زنجلة (ص:682)، والكشف (2/291)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:400-401)، والسبعة (ص:612).(1/484)
قال أبو علي وغيره (1) : هما لغتان، أَلَتَ يَأْلِتُ، مثل: ضَرَبَ يَضْرِب، وألِتَ يَألَتُ مثل: عَلِمَ يَعْلَمُ.
وقرأ ابن السميفع: "آلَتْنَاهُم" بمد الهمزة مع فتح اللام (2) .
وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري: "ولَتْنَاهُم" بواو مفتوحة من غير همز مع فتح اللام (3) .
قال ابن جني (4) : يقال: أَلَتَهُ يُؤْلِتُهُ إِيلاتاً، وَلاَتَهُ يَلِيتُهُ لَيْتاً. ويقال أيضاً: [وَلَتَهُ] (5) يَلِتُهُ وَلْتاً بمعناه.
وقد ذكرنا المعنى في سورة الحجرات (6) .
{ كل امرئ بما كسب رهين } أي: مرهون.
قال مقاتل (7) : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مُرتَهن في النار، والمؤمن لا يكون مُرتَهَناً؛ لقوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } [المدثر:38-39]، فاستثنى المؤمنين.
وقيل: هو على عمومه، على معنى: كل أحد مرتهن (8) عند الله بالعمل
__________
(1) ... انظر: الحجة للفارسي (3/414).
(2) ... انظر هذه القراءة في: النشر (2/377)، وزاد المسير (8/51).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... المحتسب (2/290).
(5) ... في الأصل: وليته. والتصويب من ب.
(6) ... عند الآية رقم: 14.
(7) ... تفسير مقاتل (3/284).
(8) ... في ب: مرهون.(1/485)
الصالح، الذي هو مطالب به، فإن عمل صالحاً خلَّص نفسه، وإلا أوْبَقَها.
قوله تعالى: { وأمددناهم } أي: زدناهم في وقت بعد وقت.
قال ابن عباس: زيادة غير الذي كان لهم (1) .
{ يتنازعون فيها كأساً } يتعاطونها.
قال الزجاج (2) : يتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا. وأنشد أبو عبيدة (3) [للأخطل] (4) :
نازعْتُه طَيِّبَ الرّاح الشَّمُول وقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وحانتْ وقعةُ الساري (5)
والكأس مُفسّرة في الصافات (6) .
قوله تعالى: { لا لغو فيها ولا تأثيم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح فيهما من غير تنوين. وقرأ الباقون بالرفع والتنوين فيهما (7) .
فمن فتح أراد النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/187)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/51).
(2) ... معاني الزجاج (5/63).
(3) ... مجاز القرآن (2/232-233).
(4) ... في الأصل: الأخطل. والتصويب من ب.
(5) ... البيت للأخطل. انظر: ديوانه (ص:142)، والبحر (8/147)، والدر المصون (6/200)، والماوردي (5/382)، والطبري (27/28)، والقرطبي (17/68)، وزاد المسير (8/52)، والأغاني (15/102).
(6) ... عند الآية رقم: 45.
(7) ... الحجة للفارسي (3/425)، والحجة لابن زنجلة (ص:683)، والنشر (2/377)، والإتحاف (ص:401)، والسبعة (ص:612).(1/486)
ومن رفع جعل "لا" بمنزلة "ليس"، وهكذا اختلافهم في قوله تعالى: { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } [البقرة:254]، وقوله: { لا بيع فيه ولا خلال } [إبراهيم:31]. وقد ذكرنا ذلك في مواضعه، ونبهنا على علة الفتح والرفع في قوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق } [البقرة:197].
قال ابن قتيبة (1) : المعنى: لا تَذهب بعقولهم، فيلغُوا ويرفُثوا فيأثموا، كما يكون ذلك في خمر الدنيا.
{ ويطوف عليهم غلمان لهم } أي: مملوكون مخصوصون بهم، { كأنهم } في الحسن وصفاء اللون والبياض { لؤلؤ مكنون } مستور مصون في أصدافه، لم تمسه الأيدي.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله! هذا الخادم فكيف بالمخدوم؟ فقال: والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب (2) .
وكان الحسن إذا تلا هذه الآية روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك.
قوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } قال ابن عباس: [يتذاكرون] (3) ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف، وهو قوله تعالى: { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } خائفين من العذاب، { فَمَنَّ الله علينا } بالمغفرة
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:425).
(2) ... أخرجه الطبري (27/29). وذكره السيوطي في الدر (7/634) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... في الأصل: يتذاكون. والتصويب من ب.(1/487)
والأمن { ووقانا عذاب السموم } (1) .
قال الحسن ومقاتل (2) : السَّمُوم: اسم من أسماء جهنم.
وقال الزجاج (3) : عذاب سموم جهنم، وهو ما يوجد من لفحها وحرّها.
أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن القاسم بن محمد قال: غدوتُ يوماً، وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة أسلّم عليها، فوجدتها ذات يوم تصلي السبحة وهي تقرأ: { فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم } وترددها وتبكي، فقمتُ حتى مللت، ثم ذهبت السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي تقرؤها وترددها وتبكي وتدعو (4) .
{ إنا كنا من قبل } أي: من قبل لقاء الله والرجوع إليه، حين كنا في الدنيا { ندعوه } نُوَحِّده ونعبده.
وقيل: ندعوه أن يقينا عذابه.
{ إنه هو البر الرحيم } قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي: "أَنه" بفتح الهمزة، على معنى: ندعوه لأنه، وقرأ الباقون من العشرة: "إِنه" بكسرها على الاستئناف (5) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/188)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/53).
(2) ... ذكره مقاتل (3/285)، والواحدي في الوسيط (4/188)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/53) عن الحسن.
(3) ... معاني الزجاج (5/64).
(4) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه الثعلبي في تفسيره (9/130).
(5) ... الحجة للفارسي (3/426)، والحجة لابن زنجلة (ص:683-684)، والكشف (2/291)، والنشر (2/378)، والإتحاف (ص:401)، والسبعة (ص:613).(1/488)
قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه: البَرُّ: الصادق في وعده (1) .
وقال في رواية ابن أبي طلحة: البَرُّ: اللطيف (2) .
وقال الخطابي (3) : البَرُّ: العَطُوفُ على عباده، المُحْسِنُ إليهم، الذي عَمَّ بِرُّهُ جميع خلقه.
ِچإe2xsù فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/53).
(2) ... أخرجه الطبري (27/30)، وابن أبي حاتم (10/3317). وذكره السيوطي في الدر (7/635) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... شأن الدعاء (ص:89).(1/489)
أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ اجحب
قوله تعالى: { فذكِّرْ } أي: عِظْ بالقرآن وخَوِّف به.
ثم نفى عنه ما قرفوه به فقال تعالى: { فما أنت بنعمة ربك } أي: بإنعامه عليك { بكاهن } تخبرهم بالمغيبات من غير وحي. والكاهن: الذي له رِئيٌّ من الجن يخبره بالأمور المغيَّبة (1) ، يقال: كَهَنَ يَكْهَنُ كِهَانَةً، مثل: كَتَبَ يَكْتُبُ كِتابةً.
واعلم أن "أم" هاهنا في أوائل هذه الآي من قوله تعالى: { أم يقولون شاعر } إلى قوله: { أم لهم إله غير الله } منقطعة، بمعنى: بل والهمزة.
قال أبو الفتح (2) : هذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا [فيه] (3) : أن "أم" المنقطعة بمعنى: بل، للترك والتحول، إلا أن ما بعد "بلْ" متيقَّن، وما بعد "أمْ" مشكوك فيه ومسؤول عنه، كقول علقمة:
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: كهن).
(2) ... المحتسب (2/291-292).
(3) ... زيادة من المحتسب (2/291).(1/490)
هلْ ما علمتَ وما استودعتَ مكتومُ ... أم حبلُها إذْ نَأتْكَ اليومَ مَصْرُوم (1)
أي: بل أيقولون شاعر، بل أتأمرهم، بل أهم قوم طاغون، أخرجه مخرج الاستفهام، وإن كانوا عنده قوماً طاغين؛ تلعُّباً بهم، وتهكماً عليهم، [وهذا] (2) كقول الرجل لصاحبه الذي لا يشك في جهله: أجاهل أنت؟ توبيخاً له، وتقبيحاً عليه.
قوله تعالى: { أم يقولون شاعر } أي: هو شاعر { نتربص به ريب المنون } .
قال ابن عباس: ننتظر به الموت (3) ، وأنشد:
تَرَبَّصْ بها ريبَ المنون لعلَّها ... تُطَلَّقُ يَوْماً أوْ يموتُ حَلِيلُها (4)
وقال مجاهد وابن قتيبة (5) : حوادث الدهر. وأنشد ابن قتيبة قول أبي ذؤيب الهذلي:
__________
(1) ... البيت لعلقمة بن عبدة الفحل. انظر: ديوانه (ص:17)، والكتاب (3/178)، والمقتضب (3/290)، والمحتسب (2/290)، وشرح المفصل لابن يعيش (4/18)، والهمع (2/233)، والبحر (5/371)، والدر المصون (4/237)، والأغاني (10/203، 206، 210).
(2) ... في الأصل: هذا. والتصويب من ب، والمحتسب (2/291).
(3) ... أخرجه الطبري (27/31)، وابن أبي حاتم (10/3317).
(4) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: ربص)، والبحر المحيط (2/186، 8/148)، والدر المصون (1/551، 6/201)، والقرطبي (3/108، 17/72).
(5) ... أخرجه الطبري (27/31). وانظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:425). وذكره السيوطي في الدر (7/636) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.(1/491)
أمِنَ [المنون] (1) ورَيْبِه تَتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ (2)
وقال غيره: المنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى الموت، سميا بذلك؛ لأنهما ينقضان الأمل، ويقطعان (3) الأجل.
قوله تعالى: { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } قال المفسرون: كانت عظماء قريش تُوصف بالأحلام والعقول، فأزرى الله حلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل (4) .
قيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، [أي] (5) : لم يصحبها التوفيق (6) .
قرأ مجاهد: "بل هم قوم طاغون" (7) .
قال ابن عباس: حملهم طغيانهم على تكذيبك (8) .
{ أم يقولون تقوله } افتعله من تلقاء نفسه { بل لا يؤمنون } فلذلك
__________
(1) ... في الأصل: المون. والتصويب من ب.
(2) ... البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو في: اللسان (مادة: منن)، والأغاني (6/280، 286)، والماوردي (5/384)، والبحر (8/148)، والدر المصون (6/201)، والقرطبي (16/170، 17/72)، وزاد المسير (8/54).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: الآن. وانظر: ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/54).
(5) ... زيادة من زاد المسير (8/55).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/54-55).
(7) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/149)، والدر المصون (6/201).
(8) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/189).(1/492)
يرمونك (1) بهذه المطاعن البعيدة من أخلاقك الكريمة، وأوصافك الحميدة.
ثم تحداهم بقوله تعالى: { فليأتوا بحديث مثله } أي: مثل القرآن في رصانة مبانيه وصحة معانيه.
وقرأ أبو رجاء وأبو نهيك والجحدري: "بحديثِ مثله" بغير تنوين على الإضافة (2) ، على معنى: بحديث مثل محمد، أي: بحديث رجل من العرب مثل محمد، { إن كانوا صادقين } أنه تقوَّله.
÷Pr& خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: بذلك. وانظر: ب.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/55)، والدر المصون (6/201).(1/493)
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ احجب
{ أم خُلقوا } قدّروا هذا التقدير العجيب الذي هم عليه، { من غير شيء } أي: من غير مُقَدَّرٍ [خَلَقَهم] (1) وأوجدهم، { أم هم الخالقون } الذين خلقوا
__________
(1) ... في الأصل: لخلقهم. والمثبت من ب.(1/494)
أنفسهم حتى استنكفوا عن توحيدي، وجعلوا الصنم نديدي.
وقيل: المعنى: أم خلقوا من غير أب وأم، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفهمون.
وقيل: "مِنْ" بمعنى اللام، تقديره: أم خلقوا لغير شيء، على معنى: أخُلقوا باطلاً لا يُحاسبون ولا يُكلفون، أم هم الخالقون فلا يؤمرون ولا ينهون.
والآية التي تليها ظاهرة.
{ أم عندهم خزائن ربك } قال ابن عباس: يريد: المطر والرزق (1) .
وقال عكرمة: النبوة (2) .
وقيل: عِلْم ما يكون من الغيب (3) .
والمعنى: أعندهم مفاتيح الملك فيتخيروا للرسالة من شاؤوا.
{ أم هم المصيطرون } المسلطون الغالبون.
وقال عطاء: أرباب قاهرون (4) ، [فيتصرفوا] (5) كيف شاؤوا على حسب إرادتهم.
قرأ قنبل وهشام: "المسيطرون" بالسين. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي،
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/56).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/56).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/56) حكاية عن الثعلبي.
(4) ... ذكره القرطبي (17/75)، والبغوي (4/241).
(5) ... في الأصل: فيتصروا. والتصويب من ب.(1/495)
وقرأ الباقون بالصاد (1) ؛ لأجل الطاء، ليعمل اللسان عملاً واحداً في [الإطباق] (2) والاستعلاء.
والسين هو الأصل؛ لجواز نقل الصاد إليها، ولو كانت الصاد هي الأصل لم تُنقل إلى السين؛ لأن الأقوى لا يُنقل إلى الأضعف، والصاد أقوى من السين؛ لما فيها من الاستعلاء والإطباق. وكلها لغات أشرنا إلى عللها فيما مضى.
قوله تعالى: { أم لهم سُلّم يستمعون فيه } أي: مصعد ومرتقاً يرتقون فيه إلى السماء لاستماع الوحي، { فليأت مستمعهم } (3) أي (4) : إن ادعى ذلك { بسلطان مبين } كما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - على صحة رسالته بحجة ظاهرة.
والآية التي بعدها كقوله تعالى: { فاستفتهم ألربك البنات } [الصافات:149].
{ أم تسألهم أجراً } أي: أتسألهم (5) جُعْلاً على ما جئتَهم به ودعوتَهم إليه؟
{ فهم من مغرم مثقلون } أثقلهم ذلك الغرم وقدحهم حتى زهدهم في اتباعك.
{ أم عندهم الغيب } وهو اللوح المحفوظ { فهم يكتبون } ما فيه حتى
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/426)، والحجة لابن زنجلة (ص:684)، والكشف (2/292)، والنشر (2/378)، والإتحاف (ص:401)، والسبعة (ص:613).
(2) ... في الأصل: الإباق. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: بسلطان مبين. وستأتي بعد. وانظر: ب.
(4) ... غير موجودة في ب.
(5) ... في الأصل زيادة قوله: أجراً أي. وانظر: ب.(1/496)
قالوا: لا نُبعث، وإن بُعثنا لم نُعذب.
وقيل: المعنى: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم، حتى قالوا: نتربص به ريب المنون.
{ أم يريدون كيداً } لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يوم دار الندوة، { فالذين كفروا } إشارة إليهم. وقيل: إلى كل كافر { هم المكيدون } المجزيّون بكيدهم، يريد: أن ضرر كيدهم عائد عليهم وراجع إليهم.
{ أم لهم إله غير الله } يرزقهم ويحفظهم.
ثم نزّه نفسه بقوله تعالى: { سبحان الله عما يشركون } .
bخ)ur يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ(1/497)
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ احزب
ثم ذكر عنادهم وقسوة قلوبهم فقال: { وإن يروا كِسْفاً من السماء ساقطاً } أي: وإن يروه (1) ساقطاً عليهم { يقولوا } لفرط عنادهم { سحاب مركوم } بعضه فوق بعض ممطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم.
ثم هددهم فقال: { فذرهم حتى يلاقوا } وقرأ أبو جعفر وعبدالوارث: "يَلْقُوا" (2) ، { يومهم الذي فيه يَصْعَقُون } .
__________
(1) ... أي: الكِسْف. والكسف: القطعة (اللسان، مادة: كسف).
(2) ... النشر (2/370)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:401).(1/498)
وقرأ ابن عامر وعاصم: "يُصْعَقُون" بضم الياء (1) .
والمراد: يوم هلاكهم وموتهم.
وقيل: يوم القيامة، فيكون المراد بصعقهم: غشيتهم، كقوله: { وخرَّ موسى صعقاً } [الأعراف:143].
قوله: { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } وهو عذاب القبر (2) .
وقيل: ما أصابهم يوم بدر (3) . رويا عن ابن عباس.
وقال الحسن: مصائبهم في الدنيا (4) .
قوله تعالى: { واصبر لحكم ربك } أي: اصبر لحكم ربك بإمهالهم وتمكنهم من أذاك { فإنك بأعيننا } قال الزجاج (5) : بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك.
وهذا من المواضع التي يقول أكثر المفسرين: أنها منسوخة (6) . ولا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/426)، والحجة لابن زنجلة (ص:684)، والكشف (2/292)، والنشر (2/379)، والإتحاف (ص:401)، والسبعة (ص:613).
(2) ... أخرجه الطبري (27/37). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/636) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/191) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (8/60).
(4) ... ذكره الماوردي (5/386).
(5) ... معاني الزجاج (5/68).
(6) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:169)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:58)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:474).(1/499)
يصح؛ لما ذكرنا في نظائره.
{ وسبح بحمد ربك حين تقوم } قال ابن عباس: صلّ لله حين تقوم من منامك (1) .
وقال عطاء ومجاهد: قل: سبحانك اللهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك (2) .
وقال الضحاك: قل سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك، حين تقوم في الصلاة (3) .
وهذا أحد الترجيحات لمذهب إمامنا أحمد وأبي حنيفة، فإنهما يستحبان
__________
(1) ... ذكره الطبري (27/38)، والواحدي في الوسيط (4/191).
... وهذا القول هو اختيار الطبري في تفسيره، قال: وهذا أولى الأقوال بالصواب؛ لأن الجميع مجمعون على أنه غير واجب أن يقال في الصلاة: سبحانك وبحمدك، وما روي عن الضحاك عند القيام إلى الصلاة، فلو كان القول كما قال الضحاك لكان فرضاً أن يقال؛ لأن قوله: "وسبح بحمد ربك" أمر من الله تعالى بالتسبيح، وفي إجماع الجميع على أن ذلك غير واجب الدليل الواضح على أن القول في ذلك غير الذي قاله الضحاك.
... فإن قال قائل: ولعله أريد به الندب والإرشاد؟!
... قيل: لا دلالة في الآية على ذلك، ولم تقم حجة بأن ذلك معني به ما قاله الضحاك فيجعل إجماع الجميع على أن التسبيح عند القيام إلى الصلاة مما خير المسلمون فيه دليلاً لنا على أنه أريد به الندب والإرشاد.
(2) ... أخرجه مجاهد (ص:626)، وابن أبي حاتم (10/3317) عن عطاء. وذكره السيوطي في الدر (7/637) وعزاه للفريابي وابن المنذر.
(3) ... أخرجه الطبري (27/38)، وابن أبي شيبة (1/210 ح2402). وذكره السيوطي في الدر (7/637) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر.(1/500)
الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام [بهذا (1) .
قال زيد بن أسلم] (2) : صَلِّ صلاة الظهر حين تقوم من نوم القائلة (3) .
{ ومن الليل فسبحه } قال مقاتل (4) : صلاة المغرب [والعشاء.
{ وإدبار] (5) النجوم } يعني: الركعتين قبل صلاة الفجر، في قول علي عليه السلام وجمهور المفسرين (6) .
وقال الضحاك وابن زيد: هي صلاة الغداة (7) .
وقرأ يعقوب في رواية زيد عنه: "وأدبار" بفتح الهمزة (8) . وقد أشرنا إلى ذلك في آخر قاف. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر: المغني (1/282)، وبدائع الصنائع (1/470).
(2) ... في الأصل: وبهذا قال زيد بن أرقم. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الطبري (27/38)، والماوردي (5/387).
(4) ... تفسير مقاتل (3/288).
(5) ... بياض في الأصل. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (27/39). وذكره الماوردي (5/488)، والسيوطي في الدر (7/638) وعزاه لابن مردويه عن أبي هريرة. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(7) ... أخرجه الطبري (27/39). وذكره السيوطي في الدر (7/638) وعزاه لابن جرير عن الضحاك.
(8) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:401-402)، وزاد المسير (8/60-61).(1/501)
سورة النجم
ijk
وهي [إحدى] (1) وستون آية في المدني، واثنتان في الكوفي (2) . وهي مكية بإجماعهم.
واستثنى ابن عباس ومقاتل وقتادة آية، وهي قوله تعالى: { الذين يجتنبون كبائر الإثم... الآية } (3) .
قال مقاتل (4) : هذه أول سورة أعلنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة.
ةOôf¨Y9$#ur إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى احب
__________
(1) ... في الأصل: أحد. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:234).
(3) ... انظر: الإتقان (1/53)، والماوردي (5/389)، وزاد المسير (8/62).
(4) ... تفسير مقاتل (3/289).(1/502)
قال الله تعالى: { والنجم إذا هوى } اختلف العلماء في تفسيره على خمسة أقوال:
أحدها: أنه الثريا، وهو اسم غالب لها (1) .
قال ابن قتيبة (2) : العرب تسمي الثريا -وهي ستة أنجمٍ-: نجماً.
وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي، يَمتحن به الناسُ أبصارهم.
والمعنى: والنجم إذا سقط وغاب.
الثاني: أنه النجم من نجوم القرآن (3) ، فإنه نزل نُجُوماً متفرقة، على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب. والقولان عن مجاهد.
الثالث: أنه النجم الذي تُرمى به الشياطين إذا هوى وانقضّ للرجم (4) . وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس.
الرابع: أنه اسم جنس، يريد: النجوم إذا غربت أو تناثرت يوم القيامة. رُوي عن مجاهد (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/40-41) وهو اختياره، وابن أبي حاتم (10/3318). وذكره السيوطي في الدر (7/640) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن المنذر.
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:427).
(3) ... أخرجه الطبري (27/40). وذكره الماوردي (5/389)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/62)، والسيوطي في الدر (7/641) وعزاه لابن جرير عن مجاهد.
(4) ... ذكره الماوردي (5/389)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/62).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/63).(1/503)
الخامس: أنها الزهرة. قاله السدي (1) .
وقد روى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا: كانت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عتبة بن أبي لهب، فأراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمداً فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد! هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثم تَفَلَ في وجهه، وردّ عليه ابنته فطلَّقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك. قال: وأبو طالب حاضر، فَوَجَمَ (2) لها، وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك، ثم خرجوا إلى الشام ونزلوا منزلاً، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال: هذه أرض مَسْبَعَة (3) ، فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معاشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا [له] (4) أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها، وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلني، ومات مكانه (5) . ففي ذلك يقول حسان بن ثابت:
مَنْ يَرْجِعُ العامَ إلى أهلهِ ... ... فما أكيلُ السَّبُعِ بالرَّاجِعِ (6)
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/389)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/63).
(2) ... الوُجوم: السكوت على غيظ. والواجم: الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. وقيل: الوجوم: الحزن (اللسان، مادة: وجم).
(3) ... أرض مَسْبَعَة: أي: ذات سباع (اللسان، مادة: سبع).
(4) ... ساقط من ب.
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/83).
(6) ... البيت لحسان بن ثابت. انظر: حياة الحيوان للدميري (2/446)، والقرطبي (6/50)، والكشاف (4/419)، وروح المعاني (30/262).(1/504)
قوله تعالى: { ما ضل صاحبكم } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - . وهذا جواب القسم، والخطاب لقريش.
والمعنى: ما ضل عن طريق الهدى { وما غوى } .
{ وما ينطق عن الهوى } أي: ما يتكلم بالباطل. وهذا تكذيب لهم حيث زعموا أنه جاء بالقرآن من تلقاء نفسه، ثم أكد ذلك بقوله: { إن هو إلا وحي يوحى } أي: ما القرآن إلا وحي من الله تعالى أوحاه إليه.
وربما احتج بهذه الآية من لم يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ولا حجة فيها؛ لأنه إذا كان مأذوناً له في الاجتهاد فهو من الوحي.
¼çmuH©>tم شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا(1/505)
رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى اترب
{ علمه شديد القوى } وهو جبريل - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ومن آثار قوته: اقتلاعه قرى قوم لوط حاملاً لها على جناحه، رافعاً لها إلى السماء، وصياحه بثمود فأصبحوا جاثمين.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/42) عن قتادة، ومن طريق آخر عن الربيع، ومن طريق آخر عن مجاهد.(1/506)
{ ذو مِرَّة } حصافة في عقله ورأيه، ومتانة في دينه.
وقال أكثر المفسرين: ذو شِدَّة في خلقه.
{ فاستوى * وهو } أي: استوى جبريل ومحمد { بالأفق الأعلى } ، ليلة أسري بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . فتكون الواو في "وهو" عاطفة على الضمير في "استوى" غير مؤكد، كقول الشاعر:
ألمْ تَرَ أنَّ النبْعَ يَصْلُبُ عُودُه ... ... ولا يَسْتَوي والخِرْوَعُ المتَقَصِّفُ (1)
وعليه حملوا أيضاً قوله تعالى: { أئذا كنا تراباً وآباؤنا } [النمل:67].
وقيل: فاستوى جبريل، أي: استقام وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية التي جُبل عليها، فإنه كان يتمثل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هبط عليه في صورة رجل، فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينظره في صورته الملكيّة التي خلق عليها، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.
قال مجاهد: "الأفق الأعلى": مطلع الشمس (2) .
وقال غيره: إنما قيل: الأعلى؛ لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض، لا في الهواء (3) .
قال المفسرون: سأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جبريلَ أن يريه نفسه في صورته
__________
(1) ... البيت لجرير، انظر: شرح ديوانه (1/379)، ومعاني الفراء (3/95)، وتفسير ابن كثير (4/249)، والطبري (27/43)، والقرطبي (17/85).
(2) ... ذكره الماوردي (5/392)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/65)، والسيوطي في الدر (7/644) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/65).(1/507)
التي خُلق عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض، ومرة في السماء. فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغشياً عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين، فضمّه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه. وأما في السماء فعند سدرة المنتهى (1) .
وفي الصحيحين من حديث عائشة: ((ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين)) (2) .
فعلى هذا القول، يكون الواو في "وهو" للحال.
قوله تعالى: { ثم دنا فتدلى } قال الفراء (3) : المعنى: ثم تدلى فدنا، ولكنه جائز أن تُقدّم أيّ الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحداً، تقول: دنا فقرُب وقرُب فدنا، وشَتَم فأساء وأساء فشتم.
وقال الزجاج (4) : "دنا" بمعنى: قَرُبَ، "فتدلى": زاد في القُرْب. ومعنى اللفظين واحد.
وفي المشار إليه بقوله: "دنا" ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الله عز وجل. ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال:
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/193).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1840 ح4574)، ومسلم (1/159 ح177).
(3) ... معاني الفراء (3/95).
(4) ... معاني الزجاج (5/70).(1/508)
((دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)) (1) .
وقال ابن عباس: دنا ربه فتدلى (2) . وهو اختيار مقاتل قال (3) : دنا الرب عز وجل من محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.
القول الثاني: أنه محمد - صلى الله عليه وسلم - دنا من ربه عز وجل. قاله القرظي (4) .
الثالث: أنه جبريل عليه السلام (5) .
قال الحسن وقتادة: دنا بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فتدلى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) .
ويقال: "تدلّى": تعلّق عليه في الهواء. ومنه: تدلّت الثمرة، ودلّى رجليه من السرير. والدَّوالي: الثمر المعلَّق (7) . ويقال: هو مثل القِرِلَّى، إن رأى خيراً تدلى، وإن [لم] (8) يره تولى.
والقِرِلَّى: طائر من طير الماء، إحدى رجليه أطول من الأخرى.
{ فكان قاب قوسين } القَابُ والقِيب، والقَادُ والقِيد، والقَاسُ والقِيس:
__________
(1) ... أخرجه البخاري (6/2731 ح7079). ولم أقف عليه عند مسلم.
(2) ... أخرجه الطبري (27/45). وذكره السيوطي في الدر (7/645) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.
(3) ... تفسير مقاتل (3/289).
(4) ... ذكره الماوردي (5/393)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/66).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/193)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/66).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: دلا).
(8) ... زيادة من ب.(1/509)
المقدار.
وقرأ ابن مسعود وأبو رزين: "قَادَ قوسين" بالدال (1) .
والمعنى: فكان مقدار مسافة قُربه مثل قاب قوسين.
قال الكسائي: هي لغة حجازية، يقال: كان مني قاب قوسين، وقيد قوسين (2) .
قال ابن قتيبة (3) : قدر قوسين عربيتين.
قال ابن عباس: هي القوس التي يرمى بها (4) . وهو قول مجاهد وعكرمة (5) .
وقال ابن مسعود: قدر ذراعين (6) . ويروى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس (7) .
قال الواحدي (8) : فيكون المراد بالقوس على هذا القول: ما ينقاس به الشيء.
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/66).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/193).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:428).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/193-194)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/67).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه الطبري (27/45). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/645) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(7) ... انظر: الطبري (27/45)، والدر المنثور (7/652).
(8) ... الوسيط (4/194).(1/510)
قال ابن السكيت: قَاسَ الشيء يَقُوسُه قَوْساً، لغة في قَاسَهُ يَقِيسُهُ قِياسَاً؛ إذا قَدَّرَه (1) .
ويحتمل عندي أن يكون الحديث وتفسير ابن مسعود تفسيراً لقاب قوسين، فإنه بمقدار ذراعين تقريباً.
قال الكسائي: أراد بالقوسين قوساً واحداً (2) .
ويقال: القاب: ما بين المَقْبَض والسِّيَة، فكل قوس له قابان (3) .
قال ابن قتيبة: السِّية: ما عُطف من طرفي القوس (4) .
{ أو أدنى } قال مقاتل (5) : بل أدنى.
وقيل: المعنى: كان على ما تقدّرونه أنتم قدر قوسين أو أقل. وهذا مِثلُ قوله تعالى: { أو يزيدون } [الصافات:147].
قوله تعالى: { فأوحى إلى عبده } أي: أوحى الله تعالى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - { ما أوحى } كفاحاً. وهذا قول من قال: كان ليلة المعراج.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: فأوحى جبريل إلى عبدِ الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه (6) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: قيس).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/67).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: قوب).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: سيا).
(5) ... تفسير مقاتل (3/289).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/195).(1/511)
وقالت عائشة والحسن وقتادة: فأوحى إلى عبده جبريل ما أوحى (1) .
وقوله: "ما أوحى" تفخيم للوحي الذي أوحي إليه.
قال سعيد بن جبير: أوحى إليه: { ألم يجدك يتيماً فآوى } [الضحى:6] إلى قوله: { ورفعنا لك ذكرك } (2) [الشرح:4].
وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك (3) .
قوله تعالى: { ما كذب الفؤاد ما رأى } وقرأ أبو جعفر وهشام: "ما كَذَّبَ" بالتشديد (4) ، على معنى: ما أنكر فؤاده ما رأتْ عيناه بل صدَّقه.
ومعنى الآية على قراءة الأكثرين: ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير، بل رأى شيئاً فصدق به، يقال: كذَبَه -بالتخفيف-؛ إذا قال له الكذب (5) .
قال ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة وجمهور المفسرين: رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه بعيني رأسه (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (27/47). وذكره الماوردي (5/393).
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/246).
(3) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (9/139).
(4) ... الحجة للفارسي (4/4)، والحجة لابن زنجلة (ص:685)، والكشف (2/294)، والنشر (2/379)، والإتحاف (ص:402)، والسبعة (ص:614).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: كذب).
(6) ... أخرجه الطبري (27/48). وذكره الواحدي في الوسيط (4/195)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/68)، والسيوطي في الدر (7/647) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.(1/512)
وكان الحسن يحلف بالله: لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه تبارك وتعالى (1) .
وقال ابن مسعود وعائشة: رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها (2) .
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه (3) قال: أخبرنا أبو محمد العباس بن محمد بن العباس، ويعرف بعباسة، قال: أخبرنا محمد بن سعيد، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي، حدثنا أبو علي بن حبيش المقرئ، أخبرنا علي بن زنجويه، حدثنا سلمة، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا ابن عيينة، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبدالله بن الحارث قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: إنا نحن بني هاشم نقول: إن محمداً رأى ربه مرتين، فقال: تعجبون أن الخُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليهم أجمعين، قال: فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال، فقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما، فكلّم (4) موسى ورآه محمد عليهما الصلاة [والسلام] (5) . (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/195).
(2) ... أخرجه مسلم (1/159 ح177).
(3) ... في ب: الطوسي كتابة.
(4) ... في ب: فكلمه.
(5) ... زيادة على الأصل.
(6) ... أخرجه الترمذي (5/394 ح3278)، والحاكم (2/309 ح3114)، والثعلبي في تفسيره (9/141). وذكره السيوطي في الدر (7/647) وعزاه لعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن الشعبي.(1/513)
قال [مجالد] (1) : وقال الشعبي: وأخبرني مسروق أنه قال لعائشة: يا أماه! هل رأى محمد ربه قط؟ قالت: إنك لتقول قولاً إنه ليقف منه شعري. قال: قلت: رويداً، فقرأتُ عليها: { والنجم إذا هوى } إلى قوله: { قاب قوسين أو أدنى } فقالت: رويداً أين يذهب بك؟ إنما رأى جبريل عليه السلام في صورته، مَنْ حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، والله تعالى يقول: { لا تدركه الأبصار } [الأنعام:103]، ومَنْ حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، والله تعالى يقول: { إن الله عنده علم الساعة... الآية } [لقمان:34]، ومن حدثك أن محمداً قد كتم شيئاً من الوحي فقد كذب، والله يقول: { بلغ ما أنزل إليك من ربك... الآية } (2) [المائدة:67].
قال عبدالرزاق: فذكرت هذا الحديث لمعمر فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من [ابن] (3) عباس (4) .
قوله تعالى: { أفتمارونه على ما يرى } قرأ حمزة والكسائي: "أفتَمْرُونَه" بفتح التاء وسكون الميم من غير ألف (5) ، على معنى: أفتجحدونه، يقال:
__________
(1) ... في الأصل: مجاهد. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الترمذي (5/394 ح3278)، والثعلبي في تفسيره (9/141)، والطبري (27/51). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/647) وعزاه لعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ذكره الثعلبي في تفسيره (9/141)، والنووي في شرحه على صحيح مسلم (3/5).
(5) ... الحجة للفارسي (4/3)، والحجة لابن زنجلة (ص:685)، والكشف (2/294)، والنشر (2/379)، والإتحاف (ص:402)، والسبعة (ص:614-615).(1/514)
مَرَيْتَهُ حَقَّه؛ إذا جحدته (1) ، وأنشدوا:
لئنْ جحدتَ (2) أخَا صِدْقٍ ومكرُمَةٍ ... ... لقدْ مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكَا (3)
وقيل: المعنى: أفتغلبونه في المراء، من مَارَيْتُه فَمَرَيْتُه. قالوا: ولما فيه من معنى الغلبة، عُدّي بـ"على"، كما تقول: غلبتُه على كذا، وهذه القراءة اختيار أبي عبيد، وبها قرأ علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، ومسروق، والنخعي، وخلف، ويعقوب. ومثل هذه القراءة قراءة طلحة بن مصرّف، وسعيد بن جبير، غير أنهما ضمّا التاء (4) ، على معنى: أفتُوقِعُونه في المِرْيَة والشك.
وقرأ الأكثرون: "أفتمارونه" من المِرَاء، وهو الملاحاة والمجادلة، واشتقاقه من: مَرَيْتُ النَّاقَةَ (5) ، كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.
{ ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة أخرى من النزول.
قال ابن عباس: رأى محمد ربه، وذاك أنه كان يتردد لأجل الصلوات،
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: مرا).
(2) ... في ب: هجرت.
(3) ... البيت لم أعرف قائله. وهو في: البحر (8/157) وفيه: "سخرت" بدل: "جحدت"، والدر المصون (6/206)، والقرطبي (17/93)، وروح المعاني (27/49)، والكشاف (4/421).
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر (8/157)، والدر المصون (6/206).
(5) ... مَرَيْتُ الناقة: أي: مسحت ضرعها لِتَدِرَّ (اللسان، مادة: مرا).(1/515)
فرآه مرة أخرى في بعض تلك المرات (1) ، وهو قول كعب أيضاً على ما حكيناه آنفاً.
وقال ابن مسعود وعائشة: هذه الرؤية لجبريل أيضاً (2) ، فإنه رآه على صورته مرتين، كما ذكرناه.
قالت عائشة: أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقال: هو جبريل (3) .
والسِّدْرَةُ: شجرة النَّبْق.
وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: نَبقُها مثل قِلال هَجَر (4) ، وورقها مثل آذان الفيلة (5) .
وهي فوق السماء السابعة، على ما في حديث مالك بن صعصعة (6) .
قال مقاتل (7) : هي عن يمين العرش. قال: ولو أن ورقة من ورقها وُضِعَتْ في الأرض، لأضاءت لأهل الأرض [نوراً] (8) ، تحمل الحُليّ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/68).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/69).
(3) ... أخرجه الطبري (27/50).
(4) ... القِلال: جمع قُلَّة، وهي الجرة العظيمة (اللسان، مادة: قلل)، وهَجَر: قرية قرب المدينة (معجم البلدان 5/393).
(5) ... أخرجه البخاري (3/1173 ح3035).
(6) ... أخرجه البخاري، الموضع السابق، ومسلم (1/149 ح164).
(7) ... تفسير مقاتل (3/290).
(8) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.(1/516)
والحُلل والثمار من جميع الألوان.
وفي أفراد مسلم من حديث ابن مسعود: أنها في السماء السادسة (1) . وقد ذكرنا الحديث بتمامه عند قوله: { آمن الرسول } في البقرة (2) .
قال المفسرون: سميت سدرة المنتهى؛ لأن إليها ينتهي ما يُصْعَدُ به من الأرض، فيُقبض منها، وإليها ينتهي ما يَهبط من فوقها فيُقبض منها، وإليها ينتهي علم الملائكة (3) .
وقيل: إليها تنتهي أرواح الشهداء، وأرواح من مات على منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي حديث أبي هريرة قال: لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه سدرة المنتهى، ينتهي إليها كلُّ أحد من أمتك على سنّتك (4) .
{ عندها جنة المأوى } قال ابن عباس: هي عن يمين العرش، وهي منزل الشهداء (5) ، نظيره: { فلهم جنات المأوى نزلاً } [السجدة:19].
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/157 ح173).
(2) ... آية رقم: 285.
(3) ... أخرجه مسلم (1/157 ح173)، والنسائي في الصغرى (1/548 ح1001)، وابن أبي شيبة (6/312 ح31697)، وأحمد (1/387 ح3665، 1/422 ح1011)، والطبري (27/52) كلهم من حديث ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر (7/649) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود.
(4) ... أخرجه الطبري (27/53).
(5) ... أخرجه الطبري (27/55). وذكره السيوطي في الدر (7/651) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/517)
وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك: "عِنْدَه" (1) على ضمير المذكر.
وقرأ جماعة؛ منهم: علي، وأنس، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومحمد بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو العالية: "جَنَّهُ المأوى" (2) ، أي: سَتَرَه بظلاله ودخل فيه.
وقيل: عندها أدركه المبيت، والضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال [ثعلب] (3) : يريد: "أجنّه" وهي شاذة (4) .
قوله تعالى: { إذ يغشى السدرة ما يغشى } لم أر أحداً ذكر بماذا يتعلق الظرف هاهنا، ولا يخلو من أمرين؛ إما أن يتعلق بـ"رآه" على معنى: رأى محمد جبريل عليهما السلام، أو رأى ربه، "إذ يغشى السدرة ما يغشى".
قال عطية: غشيها الجبار عز وجل.
وفي [الحديث] (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((غشيها نور الخلاق، وغشيتها الملائكة من حب الله عز وجل، أمثال الغربان يقعن على الشجر)) (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (8/69).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير، الموضع السابق، والدر المصون (6/207). وقد ردّت عائشة هذه القراءة، وتبعها جماعة، وقالوا: أجَنَّ الله من قرأها.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/70).
(5) ... في الأصل: حديث. والمثبت من ب.
(6) ... أخرجه الطبري (27/56) من حديث الربيع.(1/518)
وفي الحديث أيضاً: يغشاها رفرف من طير خضر (1) .
وقال ابن مسعود: يغشاها فراش من ذهب (2) .
وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها (3) .
وإما أن يتعلق بقوله: { ما زاغ البصر وما طغى } أي: ما مال بصر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تجاوز ما رأى، أو ما أمر به حين غشي السدرة ما غشيها من التهاويل والأنوار والملائكة.
قال - صلى الله عليه وسلم - : ((انتهيتُ إلى السدرة وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى، فأعرف ثمرها [وورقها] (4) ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتاً وزمرداً، حتى ما يستطيع أحد أن يصفها)) (5) .
قوله تعالى: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال ابن مسعود: رأى رفرفاً أخضر [من] (6) الجنة قد سدّ الأفق (7) .
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/97).
(2) ... أخرجه مسلم (1/157 ح173).
(3) ... أخرجه مسلم (1/146 ح162).
(4) ... في الأصل: ووقها. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه أحمد (3/128 ح12323)، والطبري (27/54) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6) ... في الأصل: في. والمثبت من ب.
(7) ... أخرجه البخاري (4/1841 ح4577)، وأحمد (1/449 ح4289)، والطبراني في الكبير (9/216 ح9051)، والطبري (27/57). وذكره السيوطي في الدر (7/651) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معاً في الدلائل.(1/519)
قال الضحاك: سدرة المنتهى (1) .
وقال عبدالرحمن بن زيد: رأى جبريل في صورته (2) .
قال ابن جرير (3) : رأى من أعلام ربه وأدلته الكبرى.
مLنê÷ƒuنtچsùr& اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (17/98).
(2) ... أخرجه الطبري (27/57).
(3) ... تفسير الطبري (27/57).(1/520)
سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى اثدب
قال الزجاج (1) : لما قصّ الله تعالى هذه القصص قال: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } كأن المعنى -والله أعلم-: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العزة شيء.
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/72).(1/521)
قرأ رويس عن يعقوب، وروى هبة الله عن اللهبي: "اللاَّتَّ" بتشديد التاء، وهي قراءة ابن عباس، وأبي رزين، وأبي عبدالرحمن السلمي، ومجاهد، وأبي صالح، والضحاك، وابن السميفع، والأعمش في آخرين، واتفقوا على الوقف بالتاء اتباعاً للمصحف، وكذلك "مناة" إلا الكسائي، فإنه وقف على الهاء في الموضعين.
وقرأ الأكثرون والباقون من العشرة بتخفيف التاء (1) .
فمن شدّد التاء قال: هو رجل كان يَلُتُّ السَّويق (2) للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
قال أبو صالح: كان بالطائف وكان يقوم على آلهتهم، ويَلُتُّ لهم السويق، فلما مات عبدوه (3) .
وقال الزجاج (4) : زعموا أن رجلاً كان يَلُتُّ السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمّي الصنم: اللاتّ -بالتشديد-.
وجمهور القراء على تخفيف التاء، وهو اسم صنم لثقيف، وكانوا يشتقون لآلهتهم أسماء من أسماء الله تعالى، فقالوا من الله: اللاّت، وكذلك اختار الكسائي الوقف على الهاء (5) .
__________
(1) ... النشر (2/379)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:402).
(2) ... السَّويق: ما يُتَّخذ من الحنطة والشعير (اللسان، مادة: سوق).
(3) ... أخرجه الطبري (27/59). وذكره السيوطي في الدر (7/653) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... معاني الزجاج (5/73).
(5) ... قال ابن الجزري في النشر (2/379): وما وقع في كتب بعضهم من أن الكسائي وحده يقف بالهاء والباقون بالتاء؛ فَوَهْمٌ لعله انقلب عليهم من "الّلات".(1/522)
قال الخطابي (1) : صَرَفَهُ الله إلى اللاَّتِ صيانةً لهذا الاسم، وذَبّاً عنه.
وقالوا من العزيز: العُزّى، وهي تأنيث الأعز.
قال مجاهد: وهي سَمُرة بنخلة لغطفان يعبدونها (2) .
وهي التي بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد فقطعها، فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:
يا عزُّ كفرانكِ لا سُبحانكِ ... ... إني رأيتُ الله قد أهانَكِ (3)
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، واضعة يدها على رأسها، تدعو بالويل، فقتلها خالد، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: تلك العُزّى، ولن تُعبد أبداً (4) .
قرأ ابن كثير والشموني: ["ومناءة"] (5) بالمد والهمز. وقرأ الباقون من العشرة بغير مد ولا همز (6) ، وهما لغتان، والتي هي قراءة الأكثرين هي (7)
__________
(1) ... شأن الدعاء (ص:31).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (4/199) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (8/72).
(3) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: عزز)، والقرطبي (17/100)، وروح المعاني (27/55)، والبحر (8/158).
(4) ... أخرجه النسائي (6/474 ح11547).
(5) ... في الأصل: ومناء. والمثبت من ب.
(6) ... الحجة للفارسي (4/5)، والحجة لابن زنجلة (ص:685)، والكشف (2/296)، والنشر (2/379)، والإتحاف (ص:403)، والسبعة (ص:615).
(7) ... ساقط من ب.(1/523)
أعلى اللغتين.
قال أبو عبيدة: لم أسمع فيه المد.
وقال أبو علي (1) : لعل "مناءة" -بالمد- لغة، ولم أسمع بها عن أحد من رواة اللغة.
وقال بعض العلماء: أصلها: الهمز، من النَّوْء، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها، وأنشدوا:
ألا هلْ أتى زيدُ بن عبدِ مناءةٍ ... على الشيء فيما بيننا ابنُ تميم (2)
وقال جرير في اللغة العالية:
أزَيْدَ مناةَ تُوعِدُ يا ابنَ تَيْمٍ ... ... تَبَيَّنَ أيْنَ تَاهَ بكَ الوعيدُ (3)
قال الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة (4) .
وقال قتادة: بل كانت للأنصار (5) .
قال صاحب الكشاف (6) : سميت بذلك؛ لأن دماء المناسك [كانت] (7)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (4/5).
(2) ... البيت لهوبر الحارثي. انظر: ديوان أبي تمام (3/344)، واللسان (مادة: شظي، مني)، والبحر المحيط (8/159)، والدر المصون (6/208)، والقرطبي (17/102)، وروح المعاني (27/55). ويروى البيت: "الشنء" و "النأي" بدل: "الشيء".
(3) ... البيت لجرير. انظر: ديوانه (ص:126)، والبحر (8/159)، والدر المصون (6/208)، والحجة للفارسي (4/5).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/72).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... الكشاف (4/424).
(7) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق. وفي نسخة ب: كأنها. وكتب على الهامش: صوابه: كانت.(1/524)
تمنى عندها، أي: تُراق.
قال الثعلبي (1) : العرب لا تقول للثالثة الأخرى، وإنما الأخرى نعتٌ للثانية.
واختلفوا في وجهها؛ فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله تعالى: { مآرب أخرى } [طه:18] ولم يقل: أُخَر.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.
وقال الزمخشري (2) : "الأخرى" ذم، وهي المتأخرة [الوضيعة] (3) المقدار. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للاّت والعزى.
قال أبو علي (4) : التقدير: أفرأيتم جعلكم اللات والعزى ومناة بنات الله، فحذف.
قال ابن السائب (5) : قال مشركوا قريش: الملائكة والأصنام بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بُشِّرَ بالأنثى كره، فقال الله تعالى منكراً عليهم: { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } جائرة ظالمة، من ضَازَهُ يَضِيزُهُ
__________
(1) ... تفسير الثعلبي (9/146). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/72).
(2) ... الكشاف (4/424).
(3) ... في الأصل: الوضعية. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... لم أقف عليه في الحجة للفارسي.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/73).(1/525)
ويَضُوزُه (1) .
قال صاحب [كشف المشكلات] (2) : أصله: ضُوْزَى، فُعلى نقلت إلى فِعْلى، لا بد من هذا التقدير؛ لأن حمله على فِعْلى كما هو في اللفظ يوجب خروجاً عن كلامهم، إذ ليس فِعْلى من أبنية الصفات، إنما جاء فِعْلى في الصفات في حرفين أو ثلاثة.
قال مكي (3) : فلما كُسر أوله انقلبت الواو ياء.
وإن جعلته من: ضَازَ يَضِيزُ، فالياء في "ضيزى" غير منقلبة من واو، بل هي أصلية.
وقرأ ابن كثير: "ضِئْزَى" بالهمز (4) ، من ضَأَزَهُ يَضْأَزُه؛ إذا ظلمه (5) ، قال الشاعر:
ضأزت بنو أسد بحكمهم ... ... إذ يجعلون الرأس كالذنب (6)
قال أبو علي (7) : لا ينبغي أن يكون ابن كثير أراد بضئزى فُعلى؛ لأنه لو
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: ضيز).
(2) ... كشف المشكلات (2/338). وما بين المعكوفين في الأصل: الكشاف. والتصويب من ب.
(3) ... الكشف (2/295).
(4) ... الحجة للفارسي (4/5)، والحجة لابن زنجلة (ص:685-686)، والكشف (2/295)، والنشر (1/395)، والإتحاف (ص:403)، والسبعة (ص:615).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: ضيز).
(6) ... البيت نُسب لامرئ القيس، وليس في ديوانه، وهو في: البحر (8/152)، والدر المصون (6/209)، والقرطبي (17/102)، وروح المعاني (27/57).
(7) ... الحجة للفارسي (4/6).(1/526)
أراد ذلك لكان "ضُوزَى"، ولم يرد به أيضاً فِعلى صفة؛ لأن هذا البناء لم يجئ صفة، ولكن ينبغي أن يكون أراد المصدر، مثل: الذكرى، فكأنه قال: قسمةٌ ذات ظلم. فعلى هذا يكون وجه قراءته.
قوله تعالى: { إن هي } يريد: الأصنام، أي: ما هي { إلا أسماء } ليس تحتها في الحقيقة مسميات، { سميتموها } أي: سَمَّيتُم بها، تقول: سميتُه زيداً وسميتُه بزيد.
{ ما أنزل الله بها من سلطان } سبق تفسيره.
{ إن يتبعون } في عبادتها واعتقاد إلاهيّتها { إلا الظن } أي: الوَهْم { وما تهوى الأنفس } أي: تميل إليه وتشتهيه، { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } البيان الواضح بتحقيق الحق، وإبطال الباطل.
ثم أبطل ما كانوا يعتقدونه من شفاعتها فقال: { أم للإنسان ما تمنى } هي "أم" المنقطعة، والهمزة للإنكار.
والمعنى: ليس للكافر ما تمنى من شفاعة الآلهة.
وقيل: هو قولهم: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [فصلت:50].
وقيل: هو [قول] (1) العاص بن وائل: { لأوتين مالاً وولداً } [مريم:77].
وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي (2) .
{ فلله الآخرة والأولى } أي: هو مالكهما، فهو يتصرف فيهما بالعطاء
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكر هذه الأقوال الزمخشري في: الكشاف (4/424).(1/527)