وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ(1/274)
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ اثخب
قوله تعالى: { ولا يأتل أولوا } وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري لأبي جعفر يزيد بن القعقاع: "ولا يَتَألَّ" على وزان: يَتَعَلَّ، وهي قراءة الحسن (1) ، ومعناهما واحد. يقال: آلَى يُؤلِي إيلاءً، وتألَّى يتألَّى تألِّياً، وَأْتَلَى يَأْتَلِي ائتِلاءً: إذا حَلَفَ (2) .
وقد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في حديث الإفك.
وقال ابن عباس: أقسمَ ناس من الصحابة، منهم أبو بكر، أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعونهم، فأنزل الله هذه الآية (3) .
والمعنى: لا يحلف أرباب { الفضل منكم والسعة } في الدنيا، { أن يؤتوا } .
__________
(1) ... النشر (2/331)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:323).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: ألا).
(3) ... أخرجه الطبري (18/102-103). وذكره السيوطي في الدر (6/163) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.(1/275)
قال ابن قتيبة (1) : معناه: أن لا يؤتوا، فحذف "لا".
{ أولي القربى } وهم مِسْطَح بن أثاثة، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكيناً، وكان مهاجراً، فذلك قوله: { والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } أمرٌ لهم بالتجاوز عن هذه الجريمة القبيحة؛ شكراً لله على ما أنعم عليهم به من الثناء المؤبد والثواب المخلد.
وفي قوله: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } إيذان بأن الحسنة تقابل في الجزاء بمثلها.
{ والله غفور } كثير المغفرة، فهو يقابل الغُفْران بأمثاله مضاعفاً إلى ما لا يعلمه إلا هو { رحيم } بالمؤمنين.
قوله تعالى: { إن الذين يرمون المحصنات } أي: العفائف { الغافلات } عما قُذِفْنَ به من الفاحشة، التّقيات القلوب، الطاهرات الجيوب، كعائشة رضي الله عنها، { المؤمنات } المصدّقات بما يجب التصديق به، { لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } .
فصل
اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية؛ فروى العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل قال: فَسَّرَ ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وهي مبهمة ليس (2) فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ: { والذين يرمون
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:302).
(2) ... في ب: فليس.(1/276)
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء -إلى قوله-: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة. قال: فَهَمَّ رجلٌ أن يقوم فيُقبِّلَ رأسه من حُسْنِ ما فَسَّر (1) .
وقال خصيف: قلتُ لسعيد بن جبير: من قذف مُحصَنةً لعنه الله؟ قال: لا، إنها في عائشة خاصة (2) .
وقال مقاتل (3) : هذه الآية في عبدالله بن أُبيّ بن سلول المنافق ورميه عائشة.
وقال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنها نزلت [في] (4) مشركي أهل مكة، بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت تَفْجُر، فنزلت هذه الآية (5) .
وقال قتادة وابن زيد: هي عامة في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن (6) .
فعلى قول أبي حمزة ومقاتل؛ لا إشكال في الآية. وعلى قول ابن عباس
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/104)، والطبراني في الكبير (23/153 ح234). وذكره السيوطي في الدر (6/165) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الطبري (18/103)، والطبراني في الكبير (23/151 ح226). وذكره السيوطي في الدر (6/164) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني.
(3) ... تفسير مقاتل (2/414).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/25).
(6) ... أخرجه الطبري (18/104) عن ابن زيد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/25). وهذا القول هو اختيار ابن جرير الطبري.(1/277)
وسعيد؛ تكون الآية محمولة على من قذف [عائشة بعد براءتها أو قذف] (1) أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أثنى الله تعالى عليهن وأذهب عنهن الرجس وطهَّرَهُنَّ تطهيراً، وأخبر أنهن طيبات، فيكون القاذف لهن معانداً لله تعالى ولرسوله، فيكون ملعوناً في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: { يوم تشهد } وقرأ حمزة والكسائي: "يشهد" بالياء (2) ، { عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } .
قال ابن السائب: ما تكلموا به من الفِرْيَة في قذف عائشة (3) .
{ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } الدِّين: الحساب، والحق: صفة، على معنى: يوفيهم الله الحساب الواجب.
وقرأ مجاهد والأعمش: "الحقُ" بالرفع (4) ، على الفصل بين الصفة والموصوف.
{ ويعلمون أن الله هو الحق المبين } قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبيّ [بن سلول] (5) كان يشكّ في الدين، فإذا كانت القيامة عَلِمَ حيث لا ينفعه علمه (6) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/196)، والحجة لابن زنجلة (ص:496)، والكشف (2/135)، والنشر (2/331)، والإتحاف (ص:324)، والسبعة (ص:454).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/314).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/26)، والدر المصون (5/215).
(5) ... ساقط من ب.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/314)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/26).(1/278)
قال صاحب الكشاف (1) : ولو فَلَيْتَ القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة لم تَرَ أن الله تعالى قد غَلَّظَ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مُفْتَنّة، ولو لم يُنزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القَذَفَة ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأنّ ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفِكُوا وبَهَتُوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك "أن الله هو الحق المبين"، فأوجز في ذلك وأشبع، وفصَّل وأجْمَل، وأكَّدَ وكَرَّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان، وإنما هو دونه، وما ذاك إلا لأمر.
وعن ابن عباس: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يُسأل عن تفسير القرآن، حتى سُئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قُبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة رضي الله عنها، وهذا [منه] (2) مبالغة وتعظيم لأمر الإفك (3) .
àM"sW خ7sƒّ:$# لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
__________
(1) ... الكشاف (3/227-228).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/141).(1/279)
لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ اثدب
قوله تعالى: { الخبيثات للخبيثين } قال أكثر المفسرين: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس، { والخبيثون } من الناس { للخبيثات } من القول، { والطيبات } من القول { للطيبين } من الناس، { والطيبون } من الناس { للطيبات } من القول (1) .
معناه: أن الخبيث من القول لا يليق ولا ينبغي أن يقال إلا للخبيث من الناس؛ لأنهم أهل له، وكذلك الطيب من القول، فكيف رميتم أيها القَذَفَة أم المؤمنين والمُفَضَّلَة على نساء العالمين ونسبتم إليها ما لا يجوز عليها.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/106-108)، وابن أبي حاتم (8/2560-2561)، والطبراني في الكبير (23/157-160). وذكره السيوطي في الدر (6/167-168) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، ومن عدة طرق.(1/280)
وقال الزجاج (1) : معناه: لا يتكلم بالخبيثات إلا [الخبيث] (2) من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيّبات إلا الطيّب من الرجال والنساء.
وقال ابن زيد: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء؛ أمثال عبدالله بن أبيّ والشاكّين في الدين، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، طيبها الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
{ أولئك } يعني: عائشة وصفوان. وقيل: "أولئك" إشارة إلى الطيبين والطيبات { مبرؤون مما يقولون } أي: مما يقول الخبيثون والخبيثات من الفرية، { لهم مغفرة } لذنوبهم { ورزق كريم } في الجنة.
قال بعض أهل المعاني: كل شيء وُصف بالكرم فهو مَرْضِيٌ في بابه، كما يقال: فرس كريم وسيف كريم، ومنه: كتاب كريم، أي: مَرْضِيٌ في جنسه من الكتب.
أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناده عن عبد الله بن أبي مليكة، أنه حَدَّثه ذكوان [حاجب] (4) عائشة، قال: (( جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة، فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبدالله بن عبدالرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن، فأكبّ عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا ابن عباس
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/37).
(2) ... في الأصل: الخبيثين. والتصويب من ب، والزجاج، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (18/108)، والطبراني (23/156 ح240). وذكره الماوردي (4/84)، والواحدي في الوسيط (3/314)، والسيوطي في الدر (6/168) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
(4) ... في الأصل: صاحب. والتصويب من ب، والمسند (1/276).(1/281)
[يستأذن] (1) ؟ فقالت -وهي تموت-: دعني من ابن عباس، فقال: يا أمَّتَاه، إن ابن عباس من صالحي بَنِيكِ يُسلِّمُ عليك ويُودِّعك، فقالت: ائذن له إن شئت، فأدْخَلته، فلما جلس قال: أبشري؟ فقالت: أيضاً، فقال: ما بينكِ وبين أن تَلْقَي محمداً - صلى الله عليه وسلم - والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كُنتِ أحبَّ نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إلا طَيِّباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله حتى يصبح في المنزل، وأصبح الناس ليس معهم ماء [فأنزل] (2) الله تعالى أن يتيمموا صعيداً طيباً، وكان ذلك في سببك، وما أنزل الله تعالى لهذه الأمة في الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سماوات، جاء به الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيها (3) الله عز وجل إلا تُلِيَ فيه آناء الليل وآناء النهار، قالت: دعني منك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لَوَدِدْتُ أني كنت نسياً منسياً )) (4) . هذا حديث صحيح أخرج البخاري طرفاً منه في صحيحه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد أعطيتُ تسعاً ما أعطيتها (5) امرأة؛ نزل جبريل بصورتي حين أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكْراً وما تزوج بكْراً غيري، ولقد قُبضَ وإن رأسه لفي حجري، ولقد قُبر في
__________
(1) ... زيادة من المسند، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: نزل. والتصويب من ب، والمسند (1/276).
(3) ... في ب: فيه.
(4) ... أخرج البخاري طرفاً منه (4/1779 ح4476)، وأحمد (1/276 ح2496).
(5) ... في ب: أعطيها.(1/282)
بيتي، ولقد حَفَّتِ الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصِدِّيقه، ولقد نزل عُذري من السماء، ولقد خُلقت طيبةً وعندي طيّب، ولقد وُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً (1) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
__________
(1) ... أخرجه أبو يعلى في مسنده (8/90 ح4626). وذكره الواحدي في الوسيط (3/314-315)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/241) وقال: رواه أبو يعلى وفي الصحيح وغيره بعضه. وفي إسناد أبي يعلى من لم أعرفهم.(1/283)
هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ اثزب
قوله تعالى: { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } سبب نزولها: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر رضي الله عنه بعد نزولها: يا رسول الله! أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن؟ فنزلت: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم... الآية } (1) .
قوله تعالى: { حتى تستأنسوا } جائز أن يكون من الاستئناس الذي هو
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/111) بأقصر منه. وذكره السيوطي في الدر (6/171) وعزاه للفريابي وابن جرير. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:334-335).(1/284)
خلاف الاستيحاش؛ لأن الذي يطرق باب غيره كالمستوحش لا يدري أيُؤذن له أم لا، فإذا أُذِنَ له استأنس.
فالمعنى: حتى يؤذن لكم، وهذا قول جمهور المفسرين.
وجائز أن يكون من الاستئناس الذي هو معنى الاستعلام، كما في قوله: { فإن آنستم منهم رشداً } [النساء:6]، وهو معنى قول الخليل: الاستئناس: الاستبصار، من قوله: { آنست ناراً } [طه:10].
وقال بعضهم: يجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرّف هل ثَمَّ إنسان يَأذنُ له.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس: "حتى تستأذنوا" (1) .
{ وتُسلموا على أهلها } وهو أن يقول (2) : السلام عليكم أأدْخُل.
وقال قوم: يبدأ بالاستئذان فيقول: أأدخل سلامٌ عليكم.
وقال قوم: إن وقع بصره على إنسان قَدَّم السلام، وإلا قَدَّم الاستئذان.
وقال بعض العلماء: الاستئذان يكون بالسلام فقط.
والأول أظهر؛ لما روي عن كلدة بن حنبل: (( أن صفوان بن أمية بعثه
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: تفسير الطبري (18/110).
... قال أبو حيان في البحر (6/410): روي عن ابن عباس أنه قال: { تستأنسوا } معناه: تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أنه قرأ: "حتى تستأذنوا"، فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (5/216): فسّره ابن عباس: حتى تستأذنوا، وليست قراءة.
(2) ... في ب: تقول.(1/285)
بِلَبن وجِدَايَةٍ وضَغَابيسَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى الوادي. قال: فدخلت عليه ولم أُسَلِّم ولم أستأذن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارْجع فقل: السلام عليكم أأدخُل؟ )) (1) . أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
والجِدَاية: الصَّغير من الظِّباء، والضَّغَابيس: صغار القِثَّاء، واحدها: ضغبوس.
قوله تعالى: { ذلكم خير } أي: أفضل من أن تدخلوا بغير إذن { لعلكم تذكرون } أن الاستئذان خير فتأخذوا به.
فصل
السُّنَّة أن يستأذن ثلاثاً؛ لما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع )) (2) .
ولا يستقبل الباب الذي يطرقه؛ خشية أن يقع نظره على ما يكرهه صاحب الدار.
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن بسر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر)) (3) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/414).
(2) ... أخرجه مسلم (3/1694 ح2153).
(3) ... أخرجه أبو داود (4/348 ح5186).(1/286)
فصل
قال عطاء: قلتُ لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرك أن ترى منهن عورة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن (1) .
وقالت زينب امرأة عبدالله بن مسعود: كان عبدالله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تَنَحْنَحَ وبَزَقَ؛ كراهية أن يَهْجِمَ منا على أمر يكرهه (2) .
قلت: وفي هذا دليل أنه يُكتفى في الاستئذان على المحارم في غير أوقات العورة بكل ما يقع الإعلام به؛ من نَحْنَحَةٍ وتسبيحٍ وتحميدٍ وتهليلٍ.
قوله تعالى: { فإن لم تجدوا فيها أحداً } أي: إن وجدتموها خالية ممن يعتبر إذنه شرعاً { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } أي: حتى تجدوا من يأذن لكم، { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } أي: انصرفوا ولا تقفوا على الباب مُلازمين له، فإن ذلك مما يؤذي ويجلب الكراهة.
ويلتحق بهذه الآداب ما يكرهه ذوو الألباب: من قَرْعِ الباب بشدة، ورفع الصوت، ونحوهما.
{ هو أزكى لكم } وأفضل من ملازمة الباب والارتقاب للإذن والجواب، لما فيه من البُعْد من الريبة.
{ والله بما تعملون } من الدخول بإذن وبغير إذن { عليم } وعليه مُجاز.
__________
(1) ... أخرجه نحوه الطبري (18/111-112)، ومالك في الموطأ (2/963)، والبيهقي في الكبرى (7/97) كلهم عن عطاء بن يسار. وذكره الواحدي في الوسيط (3/315)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/28).
(2) ... أخرجه أحمد (1/381 ح3615).(1/287)
قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة } قال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنية للسابلة (1) .
وقال ابن جريج: هي جميع البيوت التي لا ساكن لها؛ لأن الاستئذان شرع لأجل الساكن (2) .
{ فيها متاع لكم } أي: منفعة من الاستكان وإيواء الرَّحْل والمتاع.
وقال عطاء: هي البيوت الخَرِبَة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها (3) .
{ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } أي: ما تُظهرون وما تُضمرون.
@è% لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ اجةب
قوله تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } قيل: إنّ "مِنْ" صِلَة،
__________
(1) ... أخرج الطبري في تفسيره (18/114) عن قتادة قال: هي الخانات تكون لأهل الأسفار.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/29).
(3) ... أخرج الطبري في تفسيره (18/114) عند قوله: { فيها متاع لكم } قال عطاء: الخلاء والبول. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/29).(1/288)
وجوّزه الأخفش، وأبَاهُ سيبويه؛ لأنهم لم يُؤمروا بالغضّ مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما يحرم عليهم من الأجنبيات، ومن ذوات المحارم، وما (1) لا يظهر غالباً.
ويجوز النظر منهن إلى الرقبة والرأس واليدين والقدمين والساقين.
ويروى عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه لا يجوز أن ينظر منهن إلا إلى الوجه والكفَّين (2) .
أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة ثم يغضّ بصره، إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها)) (3) .
وأخرج الإمام أيضاً في كتاب الزهد (4) بإسناده عن مالك قال: بلغنا أن سليمان عليه السلام قال لابنه: يا بني! امش وراء الأسد والأسْوَد (5) ولا تمش وراء امرأة.
{ ويحفظوا فروجهم } قال أكثر المفسرين: المعنى: يحفظونها من الإفضاء إلى ما لا يحل.
وقال أبو العالية وابن زيد: يحفظونها من (6) أن تُرى، فيكون أمراً لهم (7) .
__________
(1) ... في ب: ما.
(2) ... انظر: الإنصاف (8/20).
(3) ... أخرجه أحمد (5/264 ح22332).
(4) ... أخرجه أحمد في: الزهد (ص:52).
(5) ... الأسود: نوع من الأفاعي.
(6) ... في ب: عن.
(7) ... ذكره الماوردي (4/90)، والواحدي في الوسيط (3/315) كلاهما من قول أبي العالية، وابن الجوزي في زاد المسير (6/30).(1/289)
وجوّز بعضهم إرادة المجموع، وهو الحفظ عن الإفضاء والإبداء.
{ ذلك } إشارة إلى غَضِّ أبصارهم وحِفْظِ فروجهم { أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } في الأبصار والفروج وغيرها.
@è%ur لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ئخgح !$t/#uن أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ ئخgح !$oYِ/r& أَوْ(1/290)
أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ £`خgح !$|،خS أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اجتب(1/291)
ثم إن الله تعالى أمر النساء بما أمر به الرجال فقال: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } فلا يحلّ للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سُرّته وفوق ركبته.
وروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه رواية أخرى: أنه لا يجوز لها النظر إلى الأجنبي حذراً من الافتتان (1) .
و ((لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمّ سلمة وميمونة بالاحتجاب من ابن أم مكتوم، فقالتا: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أفعمياوان أنتما، ألستما تُبصرانه؟)) (2) .
فإن قيل: لم قَدَّمَ الأمر بغضّ الأبصار على الأمر بحفظ الفروج وهو أهمّ؟
قلتُ: قدَّمه؛ لعموم البلوى فيه، وقلة التحرز منه، وكونه بريد الفجور، والوسيلة العظمى إلى ارتكاب المحظور.
قوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } اعلم أن الزينة ما تتزين به المرأة، وتنقسم إلى قسمين: زينةٍ خفيةٍ وزينةٍ ظاهرةٍ. فأما الزينة الخفية فلا يجوز إبداؤها للأجانب في حال التزين بها؛ كالسِّوَارين والدُّمْلُج
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (8/25).
(2) ... أخرجه أبو داود (4/63 ح4112)، والترمذي (5/102 ح2778) وقال: حديث حسن صحيح.
... قال أبو داود: هذا لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس: ((اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)).(1/292)
والخَلْخَال (1) والقُرْط والقِلادَة.
وأما الزينة الظاهرة المستثناة في الآية فيجوز إبداؤها للأجانب.
وقد اختلف العلماء فيها؛ فذهب ابن مسعود من الصحابة والإمامان أحمد والشافعي من الفقهاء: إلى أنها الثياب (2) .
وقد سمَّاها الله تعالى زينة في موضع آخر فقال: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [الأعراف:31]، فيجوز للأجنبي النظر إلى ثوب المرأة ما لم يكن رقيقاً يَصِفُ البشرة.
وقال ابن عباس: هي الكحل والخاتم (3) .
وزادها مجاهد: الخضاب (4) .
وقال ابن عباس في رواية أخرى: هي الكف والوجه (5) .
__________
(1) ... في ب زيادة قوله: والدملج. وهو تكرار.
(2) ... أخرجه الطبري (18/117)، وابن أبي شيبة (3/547). وذكره السيوطي في الدر (6/179) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر. وانظر: الفروع لابن مفلح (1/534).
(3) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (2/225 ح3031)، والطبري (18/118). وذكره السيوطي في الدر (6/179) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي.
(4) ... أخرجه الطبري (18/119). وذكره الواحدي في الوسيط (3/316)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/31).
(5) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (2/225 ح3030)، والطبري (18/118)، وابن أبي حاتم (8/2574). وذكره السيوطي في الدر (6/182) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.(1/293)
فإن قيل: إذا فُسِّرت الزينة بالحلي، فما الحكمة في النهي عن إبدائه؟
قلتُ: مبالغة في الأمر بالتستر، وليعلم أن النظر إذا لم يحلّ إلى الزينة لملابستها تلك المواضع، كان النظر إلى تلك المواضع أكثر إثماً وأكبر جُرماً.
قوله تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } الخُمُر: جمع خِمَار، وهو: ما تُغطي به المرأة رأسها (1) .
أمر الله سبحانه وتعالى النساء أن يَسْدُلْنَ مَقَانِعَهُنَّ (2) على جُيوبهن لِيَسْتُرن قِرْطَتَهُنَّ وأعناقَهنَّ وصُدورَهنّ.
{ ولا يبدين زينتهن } يعني: الخَفِيَّة { إلا لبعولتهن } أي: أزواجهن، { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن } يريد: إخوتهن، { أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن } يعني: المسلمات.
قال الإمام أحمد: لا يحلّ للمسلمة أن تكشف رأسها عند نساء أهل الذمة، واليهودية والنصرانية لا تقبّلان المسلمة (3) .
وقيل: المراد بنسائهن وما ملكت أيمانهن: مَنْ صَحِبْنَهُنَّ وخَدَمْنَهُنَّ من الحرائر والإماء، فالنساء كلهن سواء في حِلّ نظر بعضهن إلى بعض.
وعلماؤنا يقولون: المراد بما ملكت أيمانهن: الإماء دون العبيد.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا ينظر العبدمن مولاته غير الوجه
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: خمر).
(2) ... المِقْنَعَة: ما تَتَقَنَّعُ به المرأة من ثوب تُغطّي رأسها ومحاسنها (اللسان، مادة: قنع).
(3) ... انظر: المغني (8/155).(1/294)
والكفين (1) .
وقال أصحاب الشافعي: يجوز للمرأة أن تُظهر لمملوكها البالغ ما تُظهر لمحارمها (2) .
قال الشافعي: هو مَحْرَمٌ لها (3) ، وأبى ذلك إمامنا أحمد (4) ؛ لأنها بعرضيَّة أن يحل له نكاحها وهو أجنبي منها.
قال سعيد بن المسيب: لا تغُرَّنَّكُم آية النور، فإن المراد بها: الإماء (5) .
قوله تعالى: { أو التابعين } وهم الذين يتبعون القوم ويخدمونهم.
{ غير أولي الإربة من الرجال } قال قتادة: هو الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل (6) .
وقال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء (7) .
وقال عكرمة: هو العنّين (8) .
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (8/20).
(2) ... انظر: المهذب للشيرازي (2/34-35).
(3) ... انظر: المغني (3/98).
(4) ... انظر: الإنصاف (8/20).
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/538). وذكره السيوطي في الدر (6/184) وعزاه لابن أبي شيبة.
(6) ... أخرج نحوه الطبري (18/122) عن ابن عباس. وذكره الماوردي (4/95)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/33). وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/184) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس.
(7) ... أخرجه الطبري (18/122). وذكره الماوردي (4/95)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/33).
(8) ... ذكره الماوردي (4/95)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/33).(1/295)
وقال [ابن] (1) السائب: هو الشيخ الفاني (2) .
وقال أيضاً: هو الخادم (3) .
وقال ابن المنادي -من علمائنا-: هو الذي لا يكترث بالنساء؛ إما لكبرٍ أو لهرمٍ أو لصغرٍ (4) .
وأكثر القرّاء على خفض "غيرٍ" صفةً "للتابعين".
وقرأت لابن عامر وأبي بكر عن عاصم وأبي جعفر: "غيرَ" بالنصب على الاستثناء أو الحال (5) .
والإربة: الحاجة.
{ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } أي: لم يعرفوها.
فإن قيل: ما الحكمة في ترك ذِكْر العم والخال في هذه الآية مع كونهما من جملة المحارم؟
قلتُ: قد سُئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك، يريد: أن سائر من ذكر في هذه الآية من المحارم يشترك الأب وابنه في المحرمية إلا العم والخال، فربما وصفها لابنه حتى كأنه ينظر إليها. فلم
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/33-34).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/34).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/34).
(5) ... الحجة للفارسي (3/196-197)، والحجة لابن زنجلة (ص:496-497)، والكشف (2/136)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:324)، والسبعة (ص:454-455).(1/296)
يذكرهما مبالغة في تحقيق معنى الستر.
قوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن } يعني: ولا يَرْكُضْنَ بأرجلهنّ الأرض إذا مَشَيْنَ.
وقيل: لا يضربن [بإحدى] (1) الرِّجْلين على الأخرى.
{ ليعلم ما يخفين من زينتهن } نهى سبحانه وتعالى عن إظهار وَسْوسة الخلخال بعد أن نهى عن إبدائه، ليُعلم أن إبداء الأبدان أوْغَلُ في الإثم وأدْخَلُ في التحريم.
{ وتوبوا إلى الله جميعاً } من إرسال أبصاركم وإبداء الزينة لغير ذوي المحارم، وغير ذلك [من] (2) الآثام.
وقال ابن عباس: توبوا إلى الله مما كنتم تفعلونه في الجاهلية (3) .
{ أيها المؤمنون } وقرأت لابن عامر: "أيُّهُ المؤمنون" بضم الهاء، ومثله: { يا أيُّهُ الساحر } [الزخرف:49] و { أيُّهُ الثقلان } [الرحمن:31]. واتفقوا على إسقاط الألف من "أيها" في الوقف اتباعاً [للإمام، إلا أبا عمرو والكسائي] (4) فإنهما وقفا بالألف (5) .
فمن فتح الهاء في الوصل فلمراعاة الأصل؛ لأنه لما حذف الألف لالتقاء
__________
(1) ... في الأصل: إحدى. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/317) بلا نسبة.
(4) ... في الأصل: للإمام أبي عمرو والكساي. والتصويب من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (3/197)، والحجة لابن زنجلة (ص:497-498)، والكشف (2/136-137)، والإتحاف (ص:324)، والسبعة (ص:455).(1/297)
الساكنين أبقى الفتحة لتدل على الألف المحذوفة. ومن ضَمَّ الهاء حذف الألف في الوصل لالتقاء الساكنين، وأتبع حركة الهاء حركة الياء قبلها.
وقال أبو علي (1) : من قرأ: "أيها" بألف فلا نظير فيه؛ لأنها ها التي للتنبيه وُصلت بها "أيُّ". فأما ضَمُّ ابن عامر الهاء في هذه الثلاثة فلا يتّجه؛ لأن آخر الاسم هو الياء [الثانية] (2) من "أيُّ"، فينبغي أن يكون المضموم آخر الاسم. ولو جاز أن يُضَمَّ هذا من حيث كان مقترناً بالكلمة لجاز أن تُضَمَّ الميم من "اللهم".
وجوّد أبو علي قراءة من أثبت الألف في الوقف، وعلّته ما أشرنا إليه.
{ لعلكم تفلحون } تُسعدون في الدنيا والآخرة.
(#qكsإ3Rr&ur الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
__________
(1) ... الحجة (3/198).
(2) ... زيادة من الحجة (3/198).(1/298)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ(1/299)
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ اجحب
قوله تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم } وهم: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، أبكاراً كانوا أو ثيباً، يقال: رجل أيِّمٌ وامرأة أيِّم. وقد آمَ الرَّجُل وآمَتِ المرأة وتَأيَّما أيضاً تَأيُّماً. قال الشاعر:
فَأُبْنا وقد آمَتْ نساءٌ كثيرةٌ ... ... ونسوةُ سعدٍ ليسَ منهنّ أيِّمُ (1)
وقال آخر:
فإن تَنْكِحِي أنْكِحْ وإن تَتَأيَّمِي ... وإن كنتُ أفتى منكمُ أتأيَّمُ (2)
والأمر للندب والاستحباب.
__________
(1) ... البيت لرجل يهجو سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، انظر: مجمع الزوائد (9/154، والمعجم الكبير للطبراني (1/141)، والتمهيد لابن عبدالبر (19/77)، وسير أعلام النبلاء (1/115)، وتاريخ الطبري (2/431، 433).
(2) ... البيت من شواهد الكشاف (3/238)، ومجاز القرآن (2/65)، واللسان (مادة: أيم) والشطر الثاني فيه: (يدا الدهر ما تنكحي أتأيم)، والدر المصون (5/218)، والطبري (18/125)، والقرطبي (12/240)، وروح المعاني (18/147)، والتمهيد لابن عبد البر (19/ 80، 83)، والماوردي (4/97).(1/300)
والمعنى: زَوِّجُوا من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم.
{ والصالحين من عبادكم وإمائكم } أي: من عبيدكم، يقال: عَبْدٌ وعَبيدٌ وعِبادٌ (1) ، مثل: كَلْبٍ وكِلابٍ وكُلَيب.
وفي قراءة الحسن: "وعَبيدِكُم" (2) .
والمعنى: زَوِّجوا الصالحين من عبيدكم وإمائكم مراعاة لصلاحهم وتحصيناً لدينهم.
وفي هذا تنبيه على أثرة ذوي الدين والصلاح في باب النكاح، كما قال عليه الصلاة والسلام: (( اظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك )) (3) .
ومن استقرأ سير السلف وأخبارهم وقف على صفة [صفوة] (4) منهم من ذوي الزهادة والعبادة، آثروا الآجل على العاجل، وأعرضوا عن زهرة الدنيا وزخرفها، رغبة في ثواب الله تعالى ورهبة من عقابه، وقدَّمُوا أرباب الدين على أصحاب الدنيا؛ كأبي الدرداء وسعيد بن المسيب حين خطب إليهما ملوك بني أمية ابنتيهما.
وقيل: المراد بالصلاح هاهنا: القيام بحقوق النكاح.
ثم رجع إلى الإخبار عن الأحرار فقال: { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } .
__________
(1) ... في ب: وعباد وعبيد.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:324).
(3) ... أخرجه البخاري (5/1958 ح4802)، ومسلم (2/1086 ح1466).
(4) ... زيادة من ب.(1/301)
قال الزجاج (1) : حثَّ الله تعالى على النكاح وأعلم أنه سببٌ لنفي الفقر.
قال قتادة: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: ما رأيت مثل رجل لم يلتمس الغنى في الباه (2) ، والله تعالى يقول: { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } (3) .
{ والله واسع } ذو سعة لا يرزأه إغناء خلقه، { عليم } يبسط الرزق لمن يشاء ويقبض، على حسب علمه في خلقه.
قوله تعالى: { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } أي: ليجتهدوا في العِفَّة، وليحملوا أنفسهم عليها، وأنجع الأدوية المعينة على العفة: الصوم؛ لما أُخرج في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصُم، فإن الصوم له وِجاء )) (4) .
والباءة: كناية عن النكاح، وأصلها: المكان الذي يأوي إليه الإنسان. ومنه: مَبَاءَةُ الغنم، وهو الموضع الذي تأوي إليه بالليل، فسُمِّي النكاح بها؛ لأن من تزوج امرأة بوَّأها منزلاً وأوى إليها.
ومعنى استطاعتها: القدرة على الوصول إليها بالإنفاق والصِّداق
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/40).
(2) ... الباه: لغة في الباءة، وهو هنا: النكاح (اللسان، مادة: بوه).
(3) ... أخرجه عبد الرزاق (6/173 ح10393). وذكره السيوطي في الدر (6/188) وعزاه لعبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد.
(4) ... أخرجه البخاري (5/1950 ح4779)، ومسلم (2/1018 ح1400).(1/302)
وغيرهما.
والوِجَاء: دَقُّ الأُنْثَيَين (1) . والمعنى: أنه يقطع عنه غُلْمَةُ النكاح، كما يقطع الوِجاء.
{ حتى يغنيهم الله من فضله } فيعطيهم ما [يتوسلون] (2) به إليه من الصدقة والنفقة.
قوله تعالى: { والذين يبتغون الكتاب } يعني: يطلبون الكتابة، فيسألون مواليهم أن يبيعوهم أنفسهم بمال في الذمة، { مما ملكت أيمانكم } من العبيد والإماء، { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } .
قال ابن عمر وابن عباس: حيلة على الكسب، وقوةً على الاحتراف (3) .
قال الشافعي رضي الله عنه: أظهر معنى في الخير: الاكتساب مع الأمانة (4) .
وقال الحسن: دِيناً (5) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: وجأ).
(2) ... في الأصل: يتوسلوا. والتصويب من ب.
(3) ... أخرج الطبري في تفسيره (18/127) عن ابن عمر: أنه كره أن يكاتب مملوكه إذا لم تكن له حرفة قال: تطعمني أوساخ الناس. وذكره الماوردي (4/99)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/37).
... وأخرج عن ابن عباس قوله: { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } يقول: إن علمتم لهم حيلة ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين. وهذا القول هو اختيار الطبري (18/127).
(4) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/100)، ونص عليه الشافعي في كتابه الأم (8/31).
(5) ... ذكره الماوردي (4/99)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/37).(1/303)
وقال سعيد بن جبير: إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير (1) .
فصل
اختلف العلماء هل قوله تعالى: { فكاتبوهم } أمر إيجاب أو أمر استحباب؟
فذهب الأكثرون: إلى أنه أمر استحباب، وبه قال إمامنا وأبو حنيفة والشافعي (2) .
وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وعطاء وعمرو بن دينار: هو أمر إيجاب (3) .
وروي نحوه عن إمامنا (4) ؛ لما روي: أن (5) سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فشكاه إلى عمر رضي الله عنه، فعلاه بالدرّة وأمره بالكتابة (6) ، وقال: هي عزمة من عزمات الله تعالى، من سأل الكتابة كُوتب.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/37).
(2) ... انظر: المغني (10/333)، والمبسوط للسرخسي (7/207)، والطبري (18/127)، والماوردي (4/99)، والوسيط (3/319).
(3) ... انظر: الطبري (18/126)، وهذا القول هو الذي اختاره، والمغني (10/333)، والماوردي (4/99)، والوسيط (3/319).
(4) ... انظر: المغني (10/333).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: "ابن" بخط مغاير، وهو خطأ.
(6) ... أخرجه عبدالرزاق (8/372)، والطبري (18/126). وقد ذكره البخاري معلقاً (2/902). وذكره السيوطي في الدر (6/190) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك.(1/304)
فعلى هذا يجبر السيد على إجابته عند الطلب وتحقق الشرط.
قوله تعالى: { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قال ابن عباس: هذا خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أمرهم الله عز وجل أن يعطوا المكاتبين من سهم الرقاب (1) .
وقال غيره: هذا أمر للسادة أن يعطوا مكاتبيهم أو [يحطّوهم] (2) من كتابتهم شيئاً (3) . وقدّره إمامنا أحمد رضي الله عنه بالرُّبُع (4) ، وهو مروي عن علي رضي الله عنه ومجاهد (5) . ولم يقدّره الشافعي رضي الله عنه.
واختلف الأئمة الأربعة رضي الله عنهم في الإيتاء؛ هل هو واجب أو مستحب؟ فذهب إمامنا والشافعي إلى إيجابه، وذهب الآخران إلى استحبابه (6) .
وقد روي: (( أن عمر بن الخطاب كاتب غلاماً له يقال له: أبو أمية، فجاء بنجمه حين حَلَّ فقال: اذهب أبا أمية فاستعن به على مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين لو أخرته حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أمية إني
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/319)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/37).
(2) ... في الأصل: يعطوهم. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الماوردي (4/100)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/37).
(4) ... انظر: الإنصاف (7/477-478).
(5) ... أخرجه الطبري (18/129)، ومجاهد (ص:441). وذكره الماوردي (4/100)، والواحدي في الوسيط (3/319).
(6) ... انظر: المغني (10/342)، والإنصاف (7/446)، والأم (8/31)، والمبسوط للسرخسي (7/206)، والتمهيد لابن عبد البر (22/189).(1/305)
أخاف أن لا أُدْركَ ذلك، ثم قرأ: { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } . قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّيَ في الإسلام )) (1) .
ويؤيد ذلك: ما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية: أن صبيحاً مولى حويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً (2) .
فصل
ولا تصح الكتابة إلا من جائز التصرف، وإن كاتب المميز عبده بإذن وليه صَحَّ.
وقيل: لا يصح.
وإن كاتب السيد عبده المميز صَحّ عندنا (3) .
وعند أبي حنيفة وعند الشافعي: لا يصح. وعن مالك كالمذهبين.
وتنعقد الكتابة بقوله: كاتبتك على كذا، وإن لم يقل: فإذا أديت إليّ فأنت حُرّ.
وقيل: يشترط في حصول الحرّية قوله أو نيّته، وبه قال الشافعي.
ولا تصح إلا على عِوَضٍ معلوم مُنَجَّم نجمين فصاعداً.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2587)، والبيهقي في الكبرى (10/329 ح21460). وذكره السيوطي في الدر (6/192) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم والبيهقي.
(2) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:335)، والسيوطي في الدر (6/189) وعزاه لابن السكن في معرفة الصحابة.
(3) ... انظر: الإنصاف (7/448).(1/306)
وقال أبو حنيفة ومالك: تصح على نجم واحد، وروي نحوه عن إمامنا (1) .
وإذا أدى ما كوتب عليه أو أبرئ منه عتق، وما فضل في يده فهو له (2) .
فإن وجد السيد بالعِوَض عيباً فله أرْشُه أو قيمته، ولا يرتفع العتق (3) .
فصل
اختلف العلماء في جواز بيع رقبة المُكَاتَب، فذهب الأكثرون إلى عدم الجواز، وهو قول إمامنا في رواية أبي طالب عنه.
والمشهور عنه: الجواز (4) ، وبه يُفتي أصحابنا؛ لحديث بريرة.
ولأنه عِتْقٌ معلق بصفة أشبه التدبير.
فإذا قلنا: يجوز (5) البيع فالمشتري قائم مقام المكاتَب، فإن أدى إليه عَتَقَ وولاؤه له، وإن عجز عاد قِنّاً له.
فصل
والكتابة عقد لازم من الطرفين، فإن حل نَجْمٌ فلم يُؤده فللسيد الفسخ (6) .
وعن إمامنا رواية أخرى: أنه لا يُعَجَّزُ إلا بحلول نجمين (7) .
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (7/449).
(2) ... انظر: الإنصاف (7/451).
(3) ... انظر: الإنصاف (7/454).
(4) ... انظر: الإنصاف (7/470).
(5) ... في ب: بجواز.
(6) ... انظر: الإنصاف (7/475، 476).
(7) ... انظر: الإنصاف (7/476).(1/307)
فصل
وإن اختلفا في الكتابة فالقول قول من ينكرها، وإن اختلفا في قدر العِوَض فالقول قول المكاتَب مع يمينه؛ لأنه جاحد.
وعنه: القول قول السيد (1) .
وقال الشافعي: يتحالفان وينفسخ العقد، وهو اختيار صاحبنا أبي بكر، وحكاه عن إمامنا أحمد (2) .
قوله تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم } يعني: إمائكم { على البغاء } وهو الزنا.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: (( كان عبد الله بن أبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية )) (3) .
قال المفسرون: كان لعبد الله بن أبيّ جاريتان: مُعاذة ومُسَيْكَة، وكان يُكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم. فلما جاء الإسلام قالت معاذة لِمُسَيْكَة: إنّ هذا الأمر الذي نحن فيه إن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإن كان شراً فقد آن لنا أن نَدَعَهُ، فنزلت هذه الآية (4) .
قوله تعالى: { إن أردن تحصناً } أي: تَعَفُّفَاً عن الزنا. وإنما شرط إرادة
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (7/485-486).
(2) ... انظر: الإنصاف (7/486).
(3) ... أخرجه مسلم (4/2320 ح3029).
(4) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:336)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/38).(1/308)
التحصن؛ لأن الإكراه لا [يتأتّى] (1) إلا مع إرادة التحصن.
{ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } وهو كسبهن وثمن أولادهن من الفجور.
{ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } قال عامة المفسرين: المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم للمُكْرَهَات (2) .
ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: "فإن الله من بعد إكراههن غفور للمكرَهين والمكرَهات إذا تابوا وأنابوا".
فإن قيل: المكْرَهَة غير آثمة، فما معنى مغفرة الله لها؟
قلتُ: الظاهر أن الإكراه في حَقِّهِنّ لم تتحقق شرائطه المخلِّصة من الإثم؛ لأن ما يَعْرِض لهنّ من اللذة في أثناء الوطء، وما ينشأ لهن من الشهوة والغُلْمة يستزلهن عن استمرار العصمة المانعة من الإثم.
قوله تعالى: { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير (3) وأبو بكر: [بفتح الياء. وقرأ] (4) ابن (5) عامر وحمزة والكسائي وحفص: "مبيِّنات" [بكسر] (6) الياء فيهن (7) .
__________
(1) ... في الأصل: يأتي. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الطبري (18/133)، والواحدي في الوسيط (3/319).
(3) ... في هامش ب: في الأصل هذا متروك، والصواب ما ألحقته.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: وابن. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من ب. وفي هامشها: في الأصل: بفتح الياء، وهو سهو.
(7) ... أي في هذا الموضع، وفي الموضع الآتي وهو قوله تعالى: { لقد أنزلنا آيات مبينات } [46].(1/309)
بمعنى: موضحات للأحكام والحدود.
{ ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم } أي: شبهاً من حالهم بحالكم أيها المكذبون، { وموعظة } تذكرة وتخويفاً { للمتقين } .
وما أحسن ما لمح بعضهم من أن المعنى: ومثلاً من أمثال من قبلكم، أي: قصة عجيبة من قصصهم [كقصة] (1) يوسف ومريم.
يعني: [قصة] (2) عائشة رضي الله عنها، وموعظة ما وعظ به في الآيات، والمثل من نحو قوله: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [النور:2]، { لولا إذ سمعتموه } [النور:12] ولولا إذ سمعتموه } [النور:16]، { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً } [النور:17].
* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ
__________
(1) ... في الأصل: كقصية. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.(1/310)
شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اجخب
قوله تعالى: { الله نور السموات والأرض } قال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض (1) .
ويحقق هذا المعنى: أن النور هو الضياء الذي تتبين به الأشياء، والله سبحانه نور باعتبار أن الهدى من عنده.
قال ابن قتيبة (2) : معناه: بنوره يهتدي مَنْ في السموات والأرض.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/135)، وابن أبي حاتم (8/2593). وذكره السيوطي في الدر (6/197) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) ... تأويل مشكل القرآن (ص:328).(1/311)
وقيل: الله ذو نور وصاحب نور السموات والأرض.
وقرأ أبي بن كعب: "اللهُ نَوَّر" (1) بالتشديد، وجعله فعلاً ماضياً، "السموات" مفعول، "والأرض" بالنصب عطف على المفعول (2) .
{ مثل نوره } قال ابن عباس: مثل نور الله في قلب المؤمن (3) ، وهو القرآن والهدى الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ كمشكاة } وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب: "مثل نور من آمن به كمشكاة" (4) ، وهي الكُوَّة التي لا تَنْفُذ.
{ فيها مصباح } أي: سِراج.
{ المصباح في زجاجة } وقُرئ بالحركات الثلاث على [الزاي] (5) .
قال ابن جني (6) : في الزجاجة ثلاث لغات: زُجاجة، وزِجاجة، وزَجاجة، [وفي] (7) الجميع: زُجاج، وزِجاج، [وزَجاج] (8) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة: السموات.
(2) ... انظر قراءة أبيّ في: زاد المسير (6/40)، والدر المصون (5/219).
(3) ... أخرجه الطبري (18/137)، وابن أبي حاتم (8/2594). وذكره السيوطي في الدر (6/197) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ... انظر قراءة ابن مسعود وأُبي في: زاد المسير (6/40).
(5) ... في الأصل: الراء. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(6) ... المحتسب (2/109).
(7) ... في الأصل: في. والتصويب من ب، والمحتسب، الموضع السابق.
(8) ... زيادة من ب، والمحتسب، الموضع السابق.(1/312)
قال الزجاج (1) : النور في الزُّجاج وضوء النار فيه، أبْيَنُ منه في كل شيء.
ثم وصف الزجاجة فقال: { كأنها كوكب درّي } قرأ أبو عمرو والكسائي: "دِرِّيء" بكسر الدال والمد والهمز. وقرأ حمزة وأبو بكر كذلك إلا أنهما ضمَّا الدال. وقرأ الباقون بضمّ الدال وتشديد الياء من غير مدّ ولا همز (2) .
قال أبو علي (3) : تحتمل (4) هذه القراءة أن تكون نسبة إلى [الدُّرِّ] (5) ؛ لفرط ضيائه ونوره، كما أن الدُّرَّ كذلك.
قال (6) : ومن قرأ بكسر الدال والهمزة كان فِعِّيلاً من الدَّرْء، مثل: السِّكِّير (7) والفِسِّيق. والمعنى: أن الخفاء يدفع [عنه] (8) لتلألئه في ظهوره، فلم يَخْفَ كما خفي، نحو السُّها، وما لم يُضِئ من الكواكب.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/43-44).
(2) ... الحجة للفارسي (3/200)، والحجة لابن زنجلة (ص:499)، والكشف (2/137)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:324)، والسبعة (ص:455-456).
(3) ... الحجة (3/200).
(4) ... في الأصل زيادة: أن تكون.
(5) ... في الأصل: الدار. والتصويب من ب، والحجة (3/200).
(6) أي: أبو علي الفارسي في الحجة (3/200).
(7) في الأصل: الكسير. والتصويب من ب، والحجة، الموضع السابق.
(8) ... زيادة من ب، والحجة (3/200).(1/313)
قال (1) : ومن قرأ: "دُرِّيءُ" بضم الدال والهمز، كان فُعِّيلاً من الدَّرْء، وهو الدفع.
قلت: قد أنكر هذه القراءة الفراء والزجاج والمبرد وقالوا (2) : ليس في كلام العرب فِعِّيل.
قوله تعالى: { تَوَقَّد } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو والدال مع تشديد القاف، جعلاه فعلاً ماضياً على معنى: توقد المصباح.
وقرأ أهل الكوفة إلا حفصاً بضم التاء والدال مع التخفيف، جعلوه فعلاً مستقبلاً لم يُسم فاعله على معنى: تُوقَدُ الزجاجة.
قال الزجاج (3) : المقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف.
وقرأ الباقون: "يُوقَد" بياء مضمومة مع التخفيف وضَمِّ الدال (4) ، على معنى: يُوقَدُ المصباح.
{ من شجرة } أي: من زيت شجرة { مباركة } وهي شجرة الزيتون.
والذي يدلك على [المضاف] (5) المحذوف قوله: { يكاد زيتها يضيء } .
ومعنى بركتها: [كثرةُ] (6) منافعها؛ لأن الزيت إدامٌ ودهانٌ ودباغٌ وشفاءٌ
__________
(1) ... أي: أبو علي الفارسي في الحجة (3/200).
(2) ... معاني الفراء (2/252)، ومعاني الزجاج (4/44).
(3) ... معاني الزجاج (4/44).
(4) ... الحجة للفارسي (3/200-201)، والحجة لابن زنجلة (ص:500)، والكشف (2/138)، والنشر (2/325)، والإتحاف (ص:332)، والسبعة (ص:456).
(5) ... في الأصل: المصباح. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(6) ... في الأصل: كثيرة. والتصويب من ب.(1/314)
من كثير من الأمراض، وثَفَلُها (1) وحَطَبُها [وقودٌ] (2) ، ويُغسل برماده الإبريسم، إلى غير ذلك من المنافع.
ثم وصفها فقال: { زيتونة لا شرقية ولا غربية } أي: هي ضاحية للشمس لا يسترها شجر ولا جبل ولا كهف، فإذا طلعت الشمس أصابتها، وإذا غربت أصابتها، فزيتُها يكون أصفى. وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة وأكثر المفسرين (3) ، واختيار الزجاج (4) .
قال بعضهم: يريد: أن منبتها الشام، وأجود الزيت زيته.
قال ابن زيد: لأن الشام لا شرقي ولا غربي (5) .
وروي عن ابن عباس قال (6) : هي معتدلة ليست من شرق فيلحقها الحر، ولا في غرب فيضرّ بها البرد.
وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره (7) .
__________
(1) ... الثفل: ثُفْل كل شيء وثافِلُه: ما استقر تحته من كَدَره (اللسان، مادة: ثفل).
(2) ... في الأصل: ويوقد. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (18/142)، وابن أبي حاتم (8/2600). وذكره الواحدي في الوسيط (3/321)، والسيوطي في الدر (6/201) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن عكرمة والضحاك ومحمد بن سيرين، وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... انظر: معاني الزجاج (4/45).
(5) ... أخرجه الطبري (18/142).
(6) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/346).
(7) ... أخرجه الطبري (18/142)، وابن أبي حاتم (8/2601-2602). وذكره السيوطي في الدر (6/201) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/315)
ثم وصف صفاء زَيْتُها فقال: { يكاد زيتها يضيء } أي: يكاد زيت الزيتونة لصفائه وشدة لمعانه يضيء، { ولو لم تمسسه نار نورٌ على نور } أي: هذا الذي شُبِّه [به] (1) الحق نور متضاعف، بياضه فيه نور النار، والمصباح والزجاجة والمشكاة جامعة لهذا النور المضاعف مانعة من الانتشار الموجب للضعف.
{ يهدي الله لنوره } أي: لنوره المضيء في قلب المؤمن، { من يشاء } من عباده ممن وفقه لإصابة الحق.
{ ويضرب الله الأمثال للناس } أي: يبين الأشباه لهم تقريباً إلى أفهامهم وتسهيلاً لسبل الإدراك عليهم.
{ والله بكل شيء عليم } فهو أعلم (2) حيث يضع نوره.
فصل
اختلف العلماء في هذا المثل والمُمَثَّل ومَنِ المعنِيُّ بالمشكاة والمصباح والزّجاجة؛ فقال ابن عمر: "المشكاة": جوف محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و"الزجاجة": قلبه، و"المصباح": النور الذي جعل الله تعالى فيه، "لا شرقية ولا غربية": لا يهودي ولا نصراني، "توقد من شجرة مباركة": إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، "نور على
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في ب: يعلم.(1/316)
نور": جعل الله تعالى في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
قال كعب الأحبار: يكاد نور محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار (2) .
وقال محمد بن كعب القرظي: "المشكاة": إبراهيم، و"الزجاجة": إسماعيل، و"المصباح": محمد صلوات (3) الله عليهم أجمعين، "توقد من شجرة مباركة": وهي إبراهيم عليه السلام، "نور على نور": نبي من نسل نبي (4) .
وقال الضحاك: شبَّه عبد المطلب بالمِشْكَاة، وعبد الله بالزّجاجة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمصْباح كان في صلبهما، فوَرَث النبوة من إبراهيم عليه السلام (5) .
وقال أكثر المفسرين: هذا مثلٌ للمؤمن، فـ"المشكاة": قلبه، و"الزجاجة": صدره، و"المصباح": هو الإيمان والقرآن، "توقد من شجرة مباركة": وهي الإخلاص، "لا شرقية ولا غربية": بل هي مسلّمة مما يوجب نقصاً فيها، كذلك المؤمن قد أُجير وحُرس من الفتن القادحة في نور إيمانه، فإن أُعطي
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (12/317 ح13226)، والأوسط (2/235 ح1843). وذكره السيوطي في الدر (6/198) وعزاه للطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر.
(2) ... أخرجه الطبري (18/137)، وابن أبي حاتم (8/2603). وذكره السيوطي في الدر (6/198-199) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ... في ب: صلى.
(4) ... انظر: زاد المسير (6/44)، وتفسير البغوي (3/347).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/44)، والقرطبي (12/263).(1/317)
شكر، وإن ابتُلي صبر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى ولو لم يأته العلم، فإذا أتاه العلم ازداد نوراً على نوره الذي جُبل عليه (1) .
'خû بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/321)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/44)، والبغوي (3/347).(1/318)
مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ اجرب
قوله تعالى: { في بيوت } قال الزجاج (1) : "في" صلة قوله: كمشكاة في بيوت.
ويجوز أن تكون متصلة بقوله: { يسبح له فيها } ، وفيها على هذا الوجه تكرير، كقولك: زيد في الدار جالس فيها.
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يعني: المساجد (2) .
{ أذن الله } أي: أمر { أن ترفع } .
قال الحسن: تُعَظَّم (3) .
وقال مجاهد وقتادة: تُبنى (4) ، كقوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } [البقرة:127].
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/45).
(2) ... أخرجه الطبري (18/144)، وابن أبي حاتم (8/2604). وذكره السيوطي في الدر (6/202) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (18/145). وذكره السيوطي في الدر (6/202-203) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (18/145)، وابن أبي حاتم (8/2605)، ومجاهد (ص:443). وذكره السيوطي في الدر (6/202) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد.(1/319)
{ ويذكر فيها اسمه } قال ابن عباس: يُتْلَى فيها كتابه (1) .
والأظهر عمومه.
{ يسبح له فيها } يُصلَّى له فيها، { بالغدو والآصال * رجال } .
اختلفت الرواية عن ابن عباس في صلاة الغدو؛ [فروى] (2) عنه ابن أبي طلحة: أنها صلاة الفجر (3) .
وروى [عنه] (4) ابن أبي مليكة أنه قال: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، ثم قرأ: { يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال } (5) .
واخلتفوا في صلاة الآصال؛ فقال ابن السائب: صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء (6) .
وقال أبو سليمان: صلاة العصر (7) .
وقيل: هو التسبيح المعروف (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/145)، وابن أبي حاتم (8/2606). وذكره السيوطي في الدر (6/202) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... في الأصل: فرى. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/47).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (2/173 ح7796). وذكره السيوطي في الدر (6/206)، وعزاه لابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الايمان.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/47).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/47).(1/320)
وقرأ ابن عامر وأبو بكر: " يُسَبَّحُ" بفتح الباء، على ما لم يُسمّ فاعله (1) .
ثم فسّر من [يُسبح] (2) فقال: { رجال } كأنه قيل: من يُسبِّحُ؟ فقال: رجالٌ، أي: يسبّح رجال.
فعلى هذا يَحسُن الوقف على "الآصال".
ويجوز أن يرتفع "رجالٌ" بالابتداء، والخبر "في بيوت" (3) .
فعلى هذا لا يجوز الوقف على الآصال.
{ لا تلهيهم } أي: لا تشغلهم { تجارة ولا بيع عن ذكر الله } قيل: التجار الجلاّبون، يقال: تَجَرَ فلان في كذا؛ إذا جَلَبَه.
وقيل: التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح.
فإما أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خصّ البيع؛ لأنه في الإلهاء أدْخَلُ من قِبَل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة ألهتْه ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني؛ لأن هذا يقين وذاك مظنون.
وإما أن يسمَّى الشراء تجارة؛ إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما يقال: رُزق فلان تجارة رابحة؛ إذا اتجه له بيع صالح أو شراء.
قال ابن عباس في قوله: "عن ذكر الله" يريد: الصلوات الخمس (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/201)، والحجة لابن زنجلة (ص:501)، والكشف (2/139)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:325)، والسبعة (ص:456).
(2) ... في الأصل: فسر سبح. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: التبيان (2/156)، والدر المصون (5/221).
(4) ... أخرجه الطبري (18/147)، وابن أبي حاتم (8/2608). وذكره السيوطي في الدر (6/207) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. كلهم بلفظ: ((الصلاة المكتوبة)).(1/321)
وكان عمر رضي الله عنه في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال: فيهم نزلت: { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } (1) .
وقال أبو سليمان الدمشقي: "عن ذكر الله": باللسان (2) .
{ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } سبق تفسيره.
فإن قيل: لم حذفوا التاء من إقام الصلاة، فإن أصلها: إقامة الصلاة؟
قلتُ: لأنها عوضٌ من العين الساقطة للإعْلال، وأصلها: إقوام، فلما أضيفت جعلوا الإضافة مقام حرف العِوَض فأُسقطت، ومثله:
إن الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ وانْجَرَدُوا ... وأخْلَفُوك عِدَ الأمْرِ الذي وَعَدُوا (3)
أراد: عِدَةَ الأمر.
{ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار } جائز أن يراد بتقلُّبها: اضطرابها من الهول والفزع، فتبلغ القلوب الحناجر وتتقلب الأبصار إلى الزَّرَقِ بعد الكحل، والعَمَى بعد النظر.
وجائز أن يراد بذلك: تقلُّب أحوالها، فتفْقَهُ القلوب بعد أن كان (4) مطبوعاً
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/146) عن سالم بن عبدالله، وابن أبي حاتم (8/2607) عن ابن عمر. وذكره السيوطي في الدر (6/207-208) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/48).
(3) ... البيت للفضل بن العباس بن عتبة اللهبي. وهو في: اللسان (مادة: غلب، وعد، خلط)، والطبري (18/147)، والقرطبي (12/280)، وروح المعاني (10/111، 18/178).
(4) ... في ب: كانت.(1/322)
عليها، وتُبْصِر الأبصار بعد أن كانت محجوبة.
وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك، وتتقلب الأبصار [فتنظُر] (1) من أين يُؤتون كتبهم وأيّ ناحية يُؤخذ بهم؟.
قوله تعالى: { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } اللام متعلقة بـ "يسبح" أو بـ "يخافون" (2) .
والمعنى: ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم.
{ ويزيدهم من فضله } ما لم يستحقوه بأعمالهم، { والله يرزق من يشاء بغير حساب } مفسّر في البقرة (3) .
tûïد%©!$#ur كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
__________
(1) ... في الأصل: فينظرون. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/156)، والدر المصون (5/221).
(3) ... عند الآية رقم: 212.(1/323)
حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ احةب
ثم ضرب مثلاً لأعمال الكفار فقال: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } "الذين" مبتدأ "كفروا" صلة له، "أعمالهم" مبتدأ ثان، خبره "كسراب"، والجملة خبر الموصول.
والسراب: هو ما يُرى في الفَلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة على بُعدٍ، يتلألأ كأنه ماء (1) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: سرب).(1/324)
قال ابن قتيبة (1) : والآلُ: ما رأيتَه في أول النهار وآخره (2) . والقِيعَة والقاع واحد.
وقال الزجاج (3) : القِيعَة: جمع قاع، مثل: جَارٍ وجِيرَة، وهو ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، وفيه يكون السراب.
{ يحسبه الظمآن } (4) وهو العطشان الشديد العَطَش { ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } . كذلك الكافر يُقدّم أعمالاً يعتقد نفعها عند الله، ثم يَخيبُ في العاقبة أمله، ويرى خلاف ما حسب وقدّر.
{ ووجد الله عنده فوفّاه حسابه } أي: جزاء حسابه، أو موجب حسابه، { والله سريع الحساب } مُفسّر في البقرة عند قوله: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب } [202].
قوله تعالى: { أو كظلمات } قال أكثر المفسرين: هذا المَثَل لأعمال الكفار أيضاً (5) .
قال الزجاج (6) : أعلم الله عز وجل أن أعمال الكفار إن مُثِّلَتْ بما يوجد فمَثَلُها كمَثَلِ السَّراب، وإن مُثِّلَتْ بما يُرَى فهو كهذه [الظلمات] (7) التي
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:305).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: أول).
(3) ... معاني الزجاج (4/47).
(4) ... في الأصل زيادة قوله: ماء. وستأتي بعد.
(5) ... انظر: الطبري (18/150).
(6) ... معاني الزجاج (4/48).
(7) ... في الأصل: الظلما. والتصويب من ب.(1/325)
وَصَفَ.
وقيل: هذا مَثَلٌ لقلوب الكفار وتراكم الرَّينِ عليها.
{ في بحر لجي } عظيم اللُّجَّة.
قال ابن عباس والأكثرون: هو العميق الذي يبعد عُمْقُه (1) .
{ يغشاه موج } أي: يعلو ذلك البحر اللجي مَوْج، { من فوقه } أي: من فوق الموج { موج } . والمعنى: أنه يتبع الموج موج، فهو لعظم هيجه واضطراب موجه كأنه فوقه، من فوق ذلك الموج { سحاب } .
ثم ابتدأ فقال: { ظلمات } يعني: ظُلمة البحر وظلمة الموج الأول وظلمة الموج الذي فوقه وظلمة السحاب.
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء النحوي لابن كثير من رواية قنبل والشافعي عنه: "ظُلُمَاتٍ" بالجر، بدلاً من "ظلمات" الأولى.
وقرأتُ عليه له من رواية البزي وابن فليح: "سحابُ" بالرفع من غير تنوين، "ظلماتٍ" بالجر على الإضافة (2) .
أضاف السحاب إلى الظلمات؛ لتكوّنها وظهورها عندها.
{ إذا أخرج يده } يعني: إذا أخرج الواقع في البحر اللجي الموصوف بهذه الأوصاف يده { لم يكد يراها } .
وقيل: الضمير يعود إلى مضاف محذوف، تقديره: أو كذي ظلمات.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/322).
(2) ... الحجة للفارسي (3/204)، والحجة لابن زنجلة (ص:501-502)، والكشف (2/139)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:325)، والسبعة (ص:457).(1/326)
قوله تعالى: { لم يكد يراها } تأكيد لشدة الظلمة، ونفي لمقاربة الرؤية.
قال الحسن: لم يَراها ولم يقارب الرؤية (1) .
قال الفراء (2) : لأن أقل من هذه الظلمات لا يرى فيه الناظر يده.
وقال المبرد (3) : المعنى: لم يَرها إلا بعد الجهد.
قال الفراء (4) : وهذا كما تقول العرب: ما كدت أبلغ إليك، وقد بلغت. وهذا وجه العربية.
{ ومن لم يجعل الله له نوراً } قال ابن عباس: دِيناً وإيماناً (5) ، { فما له من نور } .
وزعم مقاتل (6) : أن هذه الآية نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، وكان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كَفَرَ بالإسلام لما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فصل
قال بعض المفسرين: أراد بالظلمات: أعمال الكافر، وبالبحر اللُّجّي:
__________
(1) ... ذكر الماوردي (4/111) نحوه، والواحدي في الوسيط (3/323).
(2) ... معاني الفراء (2/255).
(3) ... انظر قول المبرد في: زاد المسير (6/50).
(4) ... معاني الفراء (2/255).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/323)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/51).
(6) ... تفسير مقاتل (2/421). وفيه: أنها نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
... قال القرطبي (12/286): وكلاهما مات كافراً، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما.(1/327)
قلبه، وبالموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك، وبالسَّحاب: الختم والرَّين على قلبه (1) .
وقيل: المراد بالظلمات: ظلمة الشرك وظلمة المعاصي (2) .
قال أبي بن كعب في هذه الآية: الكافر يتقلب في خمسةٍ من الظُّلَم، فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره في الظلمات يوم القيامة في النار (3) .
َOs9r& تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/51).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه الحاكم (2/434 ح3510) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والطبري (18/151)، وابن أبي حاتم (8/2614). وذكره السيوطي في الدر من حديث طويل (6/197-198) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.(1/328)
(41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ احثب
قوله تعالى: { ألم تر } أي: ألم تعلم بطريق الوحي إليك أو الإنزال (1) عليك { أن الله يسبح له من في السموات والأرض } سبق تفسيره.
{ والطير صافات } عطف على موضع "مَنْ في السموات والأرض" (2) ، تقديره: ويسبح له الطير صافات باسطات أجنحتها في الهواء.
ووجه اختصاصها بالذِّكْر من بين الأشياء؛ كونها بين الأرض والسماء.
{ كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه } قال أكثر المفسرين: الصلاة لبني آدم، والتسبيح لما سواهم (3) .
والضمير في "عَلِمَ" لله، أي: كلٌ قد عَلِمَ الله صلاته وتسبيحه. وهذا اختيار الزجاج (4) .
وقيل: الضمير لـ"كل" على معنى: كلٌ قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه،
__________
(1) ... في ب: والإنزال.
(2) ... انظر: التبيان (2/158)، والدر المصون (5/225).
(3) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (5/1738)، والطبري (18/152)، وابن أبي حاتم (8/2616) كلهم عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (6/211) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة عن مجاهد.
(4) ... انظر: معاني الزجاج (4/48).(1/329)
وعرف ما قد كُلِّفَ من ذلك.
وقيل: المعنى: كلٌ قد عَلِمَ صلاة الله وتسبيحه.
{ والله عليم بما يفعلون } .
قوله تعالى: { ولله ملك السموات والأرض } قال ابن السائب: يعني: خزائن المطر والرزق والنبات لا يملكها غيره (1) .
{ وإلى الله المصير } بعد الموت.
َOs9r& تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/323).(1/330)
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ اححب
قوله تعالى: { ألم تر } : كالتي قبلها.
{ أن الله يزجي سحاباً } أي: يَسُوقه سَوْقاً رفيقاً، والسحاب يكون واحداً؛ كالعماء، ويكون جمعاً كالرّباب.
فإن قيل: إن كان واحداً فما وجه قوله: "بينه" فإنه لا يجوز أن يقول: زيدٌ المال بينه، حتى يقول: وبين عمرو؟
قلتُ: وجهه أن يقال معناه: ثم يؤلف ويضم بين أجزائه، كما في قول امرئ القيس:
........................ ... ... بين الدَّخُولِ فحَوْمَل (1)
قوله تعالى: { ثم يجعله ركاماً } أي: متراكماً بعضه فوقه بعض، { فترى
__________
(1) ... جزء من بيت لامرئ القيس، وأوله:
... ... ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
... انظر البيت في: ديوانه (ص:8)، والمثل السائر (1/237)، وخزانة الأدب (1/19)، وصبح الأعشى (2/307)، والقرطبي (17/16).(1/331)
الودق يخرج } وهو المطر { من خلاله } أي: من فوق (1) السحاب ومخارجه، وهو جمع خَلَل، كَجَبَل وجبال.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس: "مِنْ خَلَلِه" (2) .
{ وينزل من السماء من جبال فيها من برد } قال الزمخشري (3) : "مِن" الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، أو الأولتان للابتداء، والثالثة للتبعيض.
ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأولى مفعول "يُنزل": "مِنْ جبال"، أي: من بعض جبال.
وقال غيره: قوله تعالى: "فيها من برد" إن شئت كان التقدير: فيها شيء من برد، على قول سيبويه. وعلى قول الأخفش: فيها برد، فيكون "مِنْ" زائدة، ويكون موضع الجار [والمجرور] (4) رفعاً بالظرف.
ويجوز أن يكون "مِنْ بَرَد" تبييناً لـ"جبال"، التقدير: من جبال بَرَدٍ؛ لأن قولك جبال بَرَدٍ، وجبال من بَرَدٍ؛ كقولك: خَاتَمُ حديد، وخاتمٌ من حديد.
والمعنى على هذا: ينزل من السماء جبال برد.
ويجوز أن يكون قوله: "من جبال" بدلاً من "من السماء"، ويكون قوله: "من بَرَدٍ" مفعولاً، تقديره: وينزل من جبال في السماء برداً أو شيئاً من
__________
(1) ... في ب: فتوق.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:325).
(3) ... الكشاف (3/251).
(4) ... في الأصل: المجرور. والتصويب من ب.(1/332)
بَرَدٍ (1) .
قال ابن عباس: أخبر الله عز وجل أن في السماء جبالاً من بَرَدٍ (2) .
{ فيصيب به } أي: بالبَرَد { من يشاء } فيضُرُّه في زرعه وثمره، { ويصرفه عمّن يشاء } فلا يضرّه.
{ يكاد سنا برقه } أي: يقرُبُ ضوءُ بَرْقِ السحاب، { يذهب بالأبصار } أي: يخطفها لشدة لمعانه، ومثله: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } [البقرة:20].
وقرأت لأبي جعفر: "يُذهِبُ" بضم الياء وكسر الهاء (3) ، فتكون الياء زائدة، تقديره: يُذهب الأبصار.
فإن قيل: ما وجه قراءة طلحة بن مصرف: "سناء برقه" بالمد (4) ، مع أن السناء هو الشرف؟
قلتُ: يجوز أن يكون المراد: المبالغة في صفاء ضوئه، فأطلق عليه لفظة الشَّرَف، كما تقول: هذا ضوء كريم.
وقد ذكرنا فيما مضى أن العرب توقع الكرم على كل مختار في جنسه (5) .
__________
(1) ... انظر لما سبق: التبيان (2/158)، والدر المصون (5/226).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/323).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:325)، والنشر (2/332).
(4) ... انظر قراءة طلحة بن مصرف في: القرطبي (12/290).
(5) ... في سورة النور عند الآية رقم: 26.(1/333)
{ يقلب الله الليل والنهار } قال المفسرون: يأتي بهذا ويذهَب بهذا (1) .
ويجوز عندي أن يكون المراد بتقلبهما: تغاير أحوال الخلق فيهما ما بين موت وحياة، وقبض وبسط، وعز وذل، وغير ذلك.
ويدل على صحة هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - حاكياً عن ربه عز وجل أنه قال: ((يؤذيني ابن آدم يسُبُّ الدهر وأنا الدهر؛ بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار)) (2) .
أي: أنا الذي أقلب الليل والنهار بتصاريف أحوالهما الكائنة فيهما.
{ إن في ذلك } التقليب { لعبرة لأولي الأبصار } لدلالة لأرباب العقول على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعظَمَتِه.
ھ!$#ur خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2619). وذكره الطبري (18/154-155)، والواحدي في الوسيط (3/324)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/53)، والسيوطي في الدر (6/212) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1825 ح4549)، ومسلم (4/1762 ح2246).(1/334)
يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ احخب
قوله تعالى: { والله خلق كل دابة من ماء } قرأ حمزة والكسائي: "خالِقُ" بالألف وكسر اللام ورفع القاف، على اسم الفاعل، "كُلِّ" بالجر على الإضافة، كقوله: { الله خالق كل شيء } [الرعد:16]، وقرأ الباقون: "خَلَقَ كلَّ" على صيغة الفعل الماضي (1) ، ونصبوا كلاً؛ لأنه مفعول "خَلَقَ"، وهذا كقوله: { ألم تر أن الله خلق السموات والأرض } [إبراهيم:19]، وقوله: { وخلق كل شيء } [الأنعام:101]. والمعنى: كل دابة من الحيوان المشاهَد، فيخرج من ذلك الملائكة والجن، "مِنْ مَاء" يعني: النطفة.
ثم غَلَّبَ من يعقل فقال: { فمنهم من يمشي على بطنه } ؛ كالحيات والحيتان، { ومنهم من يمشي على رجلين } كابن آدم، { ومنهم من يمشي على أربع } كالأنعام والبهائم. فانظر إلى هذا الترتيب البديع الدَّال على العلم والحكمة، كيف بدأ أولاً بما هو أدل على القدرة الإلهية، وأعجب في إتقان الحكمة، وهو الماشي بغير آلة مشاهدة، ثم بالماشي على رجلين، ثم بالماشي على أربع.
فإن قيل: لم سمي الزحف على البطن مَشْيَاً؟
قلت: على وجه الاستعارة، كقولهم: فلان لا يتمشّى له أمر، وقولهم
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/202)، والحجة لابن زنجلة (ص:503-504)، والكشف (2/140)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:326)، والسبعة (ص:457).(1/335)
للشيء المستمر: ماشٍ. وهذا معنى قول الزجاج (1) .
قال أبو عبيدة (2) : جاز ذلك لكون الزاحف على بطنه خُلط بالماشي على قوائمه، فصار مثل قولهم: أكلتُ خُبْزاً ولَبَناً، ولا يقال: أكلت لبناً.
{ يخلق الله ما يشاء } من هذه الأنواع وغيرها، { إن الله على كل شيء } يعني: على إنشاء كل شيء من هذه الأشياء وغيرها { قدير } .
ô‰s)©9 أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا (# qممكٹ 'n<خ) "!$#
__________
(1) ... انظر: معاني الزجاج (4/50).
(2) ... مجاز القرآن (2/68).(1/336)
¾د&خ!qك™u'ur zNن3َsuٹد9 ِNوhuZ÷ t/ #sŒخ) ×,ƒجچsù Nهk÷]دiB tbqàتجچ÷èoB احرب bخ)ur `ن3tƒ مNçl°; ',ysّ9$# (# qè?ù'tƒ دmّs9خ) tûüدZدمُمB احزب 'خûr& Nحkح5qè=è% يعtچ¨B اPr& (# qç/$s?ِ'$# ÷Pr& ڑcqèù$sƒs† br& y#دts† ھ!$# ِNحkِژn=tم ¼م&è!qك™u'ur ِ@t/ y7ح´¯"s9'ré& مNèd ڑcqكJخ="©à9$# اخةب $yJ¯Rخ) tb%x. tAِqs% tûüدZدB÷sكJّ9$# #sŒخ) (# qممكٹ 'n<خ) "!$# ¾د&خ!qك™u'ur u/ن3َsuد9 ِNكgoY÷ t/ br& (#qن9qà)tƒ $uZ÷èدJy™ $uZ÷èsغr&ur y7ح´¯"s9'ré&ur مNèd(1/337)
tbqكsخ=ّےكJّ9$# اختب `tBur ئىدمƒ ©!$# ¼م&s!qك™u'ur |·ّƒs†ur ©!$# دmّ)Gtƒur y7ح´¯"s9'ré'sù مNèd tbrâ"ح !$xےّ9$# اخثب
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } .
قال المفسرون: نزلت في رجلٍ من المنافقين يقال له: بِشْر، وكان بينه وبين يهودي حُكومة، فدعا اليهودي المنافق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهما، فقال المنافق: إن محمداً يحيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فأنزل الله تعالى هذه الآيات (1) .
{ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك } أي: من بعد قولهم: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا.
{ وما أولئك } الذين هذا شأنهم { بالمؤمنين } .
{ وإذا دعوا إلى الله } أي: إلى كتاب الله { ورسوله ليحكم بينهم } الرسول.
__________
(1) ... انظر: تفسير الماوردي (4/115)، وأسباب النزول للواحدي (ص:337)، وزاد المسير (6/54).(1/338)
وقال بعض أهل المعاني (1) : معنى: "إلى الله ورسوله": إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيد وكَرَمُه، يريد: كرم زيد، ومنه قول الشاعر:
ومَنْهَلٍ منَ الفَلا في أوسَطِه ... ... غَلَّسْتُهُ قَبْلَ القَطَا وفُرَّطِه (2)
أراد: قبل فرط القطا.
قوله تعالى: { مذعنين } قال الزجاج (3) : الإذْعَان: الإسراعُ مع الطاعة.
قال الزمخشري (4) : "إليه" صلة "يأتوا"؛ لأن ["أتى" و"جاء" قد جاءا] (5) مُعَدَّيَيْن بـ"إلى"، أو يتصل بـ"مذعنين"؛ لأنه في معنى: مسرعين في الطاعة.
وما أوضح الدليل في هذه القصة على اعتصام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل البَحْتِ، ودورانه مع مُرِّ الحق، حيث استوى عنده فيه من يصافيه ومن ينافيه (6) .
{ أفي قلوبهم مرض } كفر ونفاق { أم ارتابوا } فيما جئتَ به من البيان الواضح، { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } في القضاء.
وهذا الاستفهام في معنى التوبيخ مبالغة في ذمهم.
ثم أضرب عن خوف الحَيْفِ فقال: { بل أولئك هم الظالمون } أي: لا
__________
(1) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (2/252-253).
(2) ... البيت من شواهد الكشاف (2/253)، والدر المصون (5/228)، ومجالس ثعلب (ص:313)، والبحر (6/429).
(3) ... معاني الزجاج (4/50).
(4) ... الكشاف (3/253).
(5) ... في الأصل: أتى وجاءا. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في ب: يصافيه وينافيه. قال القرطبي في تفسيره (12/294): في هذه الآية دليل على وجوب إجاعة الداعي إلى الحاكم.(1/339)
يخافون حَيْفَه لعلمهم بعدله في قضائه، وإنما هم الموصوفون بالظلم المعروفون به، حيث صدفوا عن أحكامك المُضِيَّة وأقضيتك المرضِيَّة، أو هم الظالمون بالكفر والفسق والكذب وجحد الحقوق.
قوله تعالى: { إنما كان قولَ المؤمنين } قال الفراء (1) : ليس هذا بخبر ماض، وإنما المعنى: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين { إذا دعوا إلى الله ورسوله } .
وقرأ الحسن: "قولُ" بالرفع. والقراءة المشهورة أولى؛ لأنه إذا ولي كان اسمان (2) ، فأولاهما بالاسمية أوْغَلُهُما في التعريف، و"أن يقولوا" أوْغَلُ من "قول المؤمنين"؛ لأنه لا يتطرق التنكير إليه. هذا معنى قول الزمخشري (3) .
{ ليَحْكُمَ بينهم } وقرأتُ لأبي جعفر: "ليُحْكَمَ" بضم الياء وفتح الكاف، على ما لم يُسَمَّ فاعله (4) .
{ أن يقولوا سمعنا وأطعنا } أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك، سواء كان الحق لهم أو عليهم.
{ وأولئك } يعني: الموصوفين بهذه الصفة { هم المفلحون } .
{ ومن يطع الله ورسوله } قال ابن عباس: فيما سَاءَه وسَرَّه (5) .
__________
(1) ... معاني الفراء (2/258).
(2) ... كذا في الأصل و ب، ولعل الصواب: لأنه إذا كان اسمان، بحذف كلمة: ولي. وعبارة الكشاف: لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف.
(3) ... الكشاف (3/254).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:326)، والنشر (2/227).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/325).(1/340)
وقال أيضاً: ومن يطع الله في فرائضه، ورسوله في سننه، { ويخش الله } فيما مضى من ذنوبه { ويتقه } فيما يستقبل، { فأولئك هم الفائزون } (1) .
قرأ الأكثرون: "ويتَّقْهِي" بكسر الهاء وصلتها بياء. وقرأ أبو جعفر وقالون عن نافع: بكسر الهاء من غير أن يبلغ بها ياء. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر: بسكون الهاء. وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء (2) .
فمن وصلها بياء فلحركة ما قبل الهاء.
قال أبو علي (3) : والوجه؛ لأن ما قبل الهاء مُتحركٌ، وحكمها إذا تحرك ما قبلها بالكسر أن تتبعها الياء في الوصل.
ومن قرأ بكسر الهاء فوجهه: أن الحركة ليست تلزم ما قبل الهاء، ألا ترى الفعل إذا رفع دخله الياء، وإذا دخلت الياء اختير حذف الياء بعد الهاء في الوصل، مثل: عليه وفيه.
ومن قرأ: "يتقْهِ" بسكون القاف وكسر الهاء؛ فقال ابن الأنباري: هي لغة من يقول: لم أرْ زيداً ولم أشترْ طعاماً، يسقطون الياء للجزم، ثم يُسكِّنُون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر:
قالت سُليمَى ... اشترْ لنا دقيقاً (4)
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/153) بلا نسبة.
(2) ... الحجة للفارسي (3/203)، والحجة لابن زنجلة (ص:503)، والكشف (2/140)، والإتحاف (ص:326)، والسبعة (ص:457-458).
(3) ... الحجة (3/203).
(4) ... الرجز للعذافر الكندي، وهو في شرح المفصل (11/194): قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً وهات خبز البُرّ أو سَويقا. وانظر: شرح شواهد الإيضاح (ص:258)، وشرح شواهد الشافية (ص:204، 205)، وتاج العروس (15/438)، والحجة للفارسي (1/63، 252)، وبلا نسبة في: الأشباه والنظائر (1/66)، وجمهرة اللغة (ص:1327)، والخصائص (2/240، 3/96)، وشرح شافية ابن الحاجب (2/298)، والمحتسب (1/361).(1/341)
* (#qكJ|،ّ%r&ur "!$$خ/ y‰ôgy_ ِNحkب]"yJ÷ƒr& ÷ûبُs9 ِNهksEِچtBr& £`م_مچ÷‚us9 @è% w (#qكJإ،ّ)è? ×ptم$sغ îpsùrمچ÷è¨B ¨bخ) ©!$# 7ژچخ7yz $yJخ/ tbqè=yJ÷ès? اخجب ِ@è% (#qمèدغr& ©!$# (#qمèدغr&ur tAqك™چ9$# cخ*sù (#ِq©9uqs? $yJ¯Rخ*sù دmّn=tم $tB ں@دiHنq Nà6ّn=tوur $¨B َOçFù=دiHنq bخ)ur çnqمèدـè? (#rك‰tGôgs? $tBur 'n?tم ةAqك™چ9$# wخ) à÷"n=t7ّ9$# عْüخ7كJّ9$#(1/342)
اخحب
قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن } قال المفسرون: لما بيّن الله تعالى كراهتهم لحكم الرسول قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : والله لو أمرتنا بالجهاد والخروج من ديارنا لخرجنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1) .
وعند قوله: { قل لا تقسموا } ؛ تمَّ الكلام.
{ طاعة معروفة } قال الزجاج (2) : تأويله: طاعة معروفة أفضل وأحسن من قَسَمِكُم بما لا تُصَدَّقُون فيه، فحذف خبر الابتداء للعلم به.
وقال غيره: يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: أمرُكُم والذي يُطلب منكم طاعة معروفة (3) .
{ إن الله خبير بما تعملون } من صالح وطالح، وعليه مجاز.
ثم أمرهم الله تعالى بالطاعة فقال: { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا } : هذا خطاب لهم. المعنى: فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين.
{ فإنما عليه ما حمّل } أي: ليس على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ما حمّله الله والقيام بأعباء الرسالة، وأداء ما استودعه من تبليغها، وقد فعل ذلك فلا ضرر عليه، { وعليكم ما حمّلتم } أي: ما كُلِّفْتُم من الإيمان والطاعة.
{ وإن تطيعوه تهتدوا } تُوَفَّقُوا لإصابة الحق.
قال بعض السلف: من أمَرَّ السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/326)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/56).
(2) ... معاني الزجاج (4/51).
(3) ... انظر: التبيان (2/158-159)، والدر المصون (5/230).(1/343)
ومن أمَرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لقوله تعالى: { وإن تطيعوه تهتدوا } (1) .
{ وما على الرسول إلا البلاغ المبين } سبق الكلام عليه فيما مضى.
y‰tمur ھ!$# tûïد%©!$# (#qمZtB#uن َOن3ZدB (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# َOكg¨Zxےخ=ّـtGَ،uٹs9 'خû اعِ'F{$# $yJں2 y#n=÷‚tGَ™$# ڑْïد%©!$# `دB ِNخgخ=ِ6s% £`uZإj3uKمs9ur ِNçlm; مNهks]ƒدٹ "د%©!$# 4س|سs?ِ'$# ِNçlm; Nهk¨]s9دd‰t7مٹs9ur .`دiB د‰÷èt/ ِNخgدùِqyz $YZّBr& سح_tRrك‰ç6÷ètƒ ںw ڑcqن.خژô³ç" 'خ1 $\"ّx© `tBur tچxےں2
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في: زاد المسير (6/57)، والآلوسي في روح المعاني (18/229)، ونسبه لأبي عثمان.(1/344)
y‰÷èt/ y7د9؛sŒ y7ح´¯"s9'ré'sù مNèd tbqà)إ،"xےّ9$# اخخب (#qكJٹد%r&ur no4qn=¢ء9$# (#qè?#uنur no4qx.¨"9$# (#qمèدغr&ur tAqك™چ9$# ِNà6¯=yès9 tbqçHxqِچè? اخدب ںw ¨ûtù|،ّtrB tûïد%©!$# (#rمچxےx. ڑْïج"ةf÷èمB 'خû اعِ'F{$# مNكg1urù'tBur â'$¨Y9$# }ّOخ6s9ur çژچإءyJّ9$# اخذب
قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } أخرج الحاكم في صحيحه من حديث أبي بن كعب قال: ((لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتْهُم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا في لأْمَتِهم. فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل، فنزلت هذه الآية)) (1) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/435 ح3512). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:338-339).(1/345)
قال أبو العالية: لما أظهر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قُرَى العرب وضعوا السلاح وأمِنُوا، ثم قبض الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، وكفروا النعمة -يعني: بقتل عثمان- فأدخل الله تعالى عليهم الخوف، فغيَّروا فغيَّر الله تعالى ما بهم (1) .
ومعنى: "ليستخلفنهم في الأرض": ليجعلنهم يخلفون مَنْ قَبلهم، واللام جواب قسم محذوف.
{ كما استَخْلَفَ } وقرأ أبو بكر عن عاصم: "استُخْلِفَ" على ما لم يُسَمَّ فاعله (2) .
والمعنى: كما استخلَف بني اسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة.
{ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } : وهو دين الإسلام.
قال ابن عباس: يُوَسِّع لهم في البلاد حتى يملكوها، [ويُظْهر] (3) دينهم على جميع الأديان (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/159-160)، وابن أبي حاتم (8/2629). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:338). وذكره السيوطي في الدر (6/215) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... الحجة للفارسي (3/205)، والحجة لابن زنجلة (ص:504)، والكشف (2/142)، والنشر (2/332)، والإتحاف (ص:326)، والسبعة (ص:458).
(3) ... في الأصل: ويظهروا. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/327).(1/346)
{ وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمناً } قرأتُ على الشيخ [أبي] (1) عبدالله محمد بن داود بن عثمان الدرنبدي الصوفي خادم الخليل عليه السلام بمسجد الخليل صلوات الله عليه، أخبركم الحافظ أبو [طاهر] (2) السلفي فأقرّ به، أخبرنا أبو عبدالله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي بأصبهان، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي النيسابوري، أخبرنا عبدالله بن إسحاق الخراساني ببغداد، حدثنا أبو سعيد عبدالرحمن -يعني: ابن محمد بن منصور- حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قيس، عن خباب قال: (( شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو [مُتوسِّدٌ] (3) بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستغفر الله لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: قد كان [من كان] (4) قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، ويُجاء بالمنشار (5) فيوضع على رأسه فينشر باثنين، فما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب فما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )) (6) .
__________
(1) ... زيادة على الأصل. وسيأتي ذكره في سورة القيامة.
(2) ... في الأصل: الطاهر. والمثبت من ب.
(3) ... في الأصل: متوسداً. والتصويب من ب، وصحيح البخاري (3/1322).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في ب: بالميشار.
(6) ... أخرجه البخاري (3/1322 ح3416).(1/347)
هذا حديث صحيح أخرجه البخاري عن محمد (1) ، [عن] (2) يحيى بن سعيد، فكأنني سمعته في طريقه من أبي الوقت.
وهكذا جاء في هذا الطريق: "ألا تستغفر الله لنا"، والمحفوظ: "ألا تستنصر الله لنا".
قوله تعالى: { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } كلام مستأنف أثنى الله به عليهم، لا محل له من الإعراب. كأن قائلاً قال لهم: يستخلفون ويؤمنون فقال: يعبدونني.
ويجوز أن يكون في محل الحال "من وعدهم" (3) ، أي: وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم.
قوله تعالى: { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } قال أهل التفسير: أول من كفر بهذه النعمة: قَتَلَةُ عثمان رضي الله عنه. فلما قتلوه غيّر الله تعالى ما بهم وأدخل عليهم الخوف، حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً متحابّين (4) .
فصل
وهذه الآية من جملة الدلائل الواضحة على صحة القول بخلافة الصدّيق وعمر وعثمان، وهي من الآيات الهوادم لمذهب الرافضة، ولكنهم من الذين
__________
(1) ... هو محمد بن المثنى.
(2) ... في الأصل: بن. والتصويب من ب، والصحيح.
(3) ... انظر: التبيان (2/159)، والدر المصون (5/231).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/327)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/59).(1/348)
حقَّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.
قوله تعالى: { لا تحسبن الذين كفروا } قرأ ابن عامر وحمزة: "لا يحسبنّ" بالياء، على معنى: لا يحسبن محمد الذين كفروا { معجزين } ، فحذف المفعول الأول.
وقرأ الباقون بالتاء، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
المعنى: لا تحسبن كفار مكة يعجزوننا ويفُوتُوننا هَرَباً.
$ygoƒr'¯"tƒ ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن مNن3Rةّ"tGَ،uٹد9 tûïد%©!$# ôMs3n=tB َOن3مZ"yJ÷ƒr& tûïد%©!$#ur َOs9 (#qنَè=ِ7tƒ zNè=çtّ:$# َOن3ZدB y]"n=rO ;N؛چtB `دiB ب@ِ7s% حo4qn=|¹ جچôfxےّ9$# tûüدnur tbqمèںزs? Nن3t/$uدO
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/205)، والحجة لابن زنجلة (ص:505)، والكشف (2/142)، والنشر (2/277)، والإتحاف (ص:326).(1/349)
z`دiB حouژچخg©à9$# .`دBur د‰÷èt/ حo4qn=|¹ دن!$t±دèّ9$# ك]"n=rO ;N؛u'ِqtم ِNن3©9 ڑ[ّs9 ِ/ن3ّn=tو ںwur ِNخgّٹn=tو 7y$uZم_ £`èdy‰÷èt/ ڑcqèù؛qsغ /ن3ّn=tو ِNà6àز÷èt/ 4'n?tم <ظ÷èt/ y7د9؛xx. كûخiüt7مƒ ھ!$# مNن3s9 دM"tƒFy$# ھ!$#ur يOٹخ=tو زOٹإ3ym اخرب #sŒخ)ur x÷n=t/ م@"xےôغF{$# مNن3ZدB zOè=كsّ9$# (#qçRةّ"tFَ،uù=sù $yJں2 tbxّ"tGَ™$# ڑْïد%©!$# `دB ِNخgخ=ِ6s% ڑپد9؛xx. كûخiüt7مƒ ھ!$# ِNà6s9 ¾دmدG"tƒ#uن ھ!$#ur يOٹخ=tو(1/350)
زOٹإ6ym اخزب ك‰دم؛uqs)ّ9$#ur z`دB دن!$|،دiY9$# سةL"©9$# ںw tbqم_ِچtƒ %[n%s3دR }ّٹn=sù ئخgّٹn=tو îy$oYم_ br& ڑئ÷èںزtƒ ئكgt/$uٹدO uژِچxî OM"y_خhژy9tFمB 7puZƒج"خ/ br&ur ڑئّےدے÷ètَ،o" ×ژِچyz ئكg©9 ھ!$#ur ىىدJy™ زOٹخ=tو ادةب
قوله تعالى: { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } السبب في نزول هذه الآية: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجّه غلاماً من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو، إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فرأى عمر على حالٍ كَرِهَ عمر أن يُرى عليها، فقال عمر: يا رسول الله! وددت أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية)) (1) .
والمعنى: ليستأذنكم في الدخول عليكم الذين ملكت أيمانكم من العبيد
__________
(1) ... انظر: تفسير الماوردي (4/120)، وأسباب النزول للواحدي (ص:339)، وزاد المسير (6/60).(1/351)
والإماء.
قال عطاء: ذلك على كل كبير وصغير (1) .
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: الأظهر أن يكون المراد: "العبيد": الصغار و"الإماء": الصغار؛ لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يضاف إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين (2) ؟.
{ والذين لم يبلغوا الحلم منكم } أي: من أحراركم من الرجال والنساء { ثلاث مرات } يريد: في اليوم والليلة.
ثم بيّنها فقال: { من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } لأنه مظنة حَلّ الأُزُر ووقت وضع الثياب للقائلة، { ومن بعد صلاة العشاء } لأنه وقت التجرد من الثياب المعدة لليقظة، والدخول في ثياب النوم، وإيواء الرجل إلى زوجته.
{ ثلاث عورات لكم } قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "ثلاثَ" بالنصب، بدلاً من "ثلاث مرات". وقرأ الباقون بالرفع (3) ، على معنى: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم.
وسُمّيت هذه الأوقات عورات؛ لأنها مظنة ظهور العورة فيها.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/328).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/61).
(3) ... الحجة للفارسي (3/205)، والحجة لابن زنجلة (ص:505)، والكشف (2/143)، والنشر (2/333)، والإتحاف (ص:326)، والسبعة (ص:459).(1/352)
وأصل العورة: الخَلَل، ومنه: أعْوَرَ المكان، وأعْوَرَ الفارس. والأعور: المختلُّ العَيْن (1) ، فسميت هذه عورات؛ لاختلال تَسَتُّرِ الناس وقلّة تحفُّظِهم فيها.
ثم عذَرَهم في ترك الاستئذان فيما عدا هذه الأوقات الثلاث فقال: { ليس عليكم } أيها المؤمنون الأحرار { ولا عليهم جناح } إثم ولا حرج { بعدهن } أي: بعد مُضِيِّ الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان، وهذا تمام الكلام.
ثم قال: { طوافون عليكم } أي: هم طَوَّافون عليكم للخدْمة، أو أنتم طوافون، { بعضكم } بدل من الضمير الذي في "طوّافُون" (2) ، أي: يطوف بعضكم { على بعض } ، وهذا خارج مخرج التعليل لجواب ترك الاستئذان؛ لأن البعضية تُوجبُ المخالطة والتَّطْواف.
{ كذلك يبين الله } أي: مثل هذا البيان الواضح يبين الله { لكم الآيات والله عليم } بما يُصلحكم، فاتبعوا أمره وأطيعوه، { حكيم } فارْعَوُوا عما نهاكم عنه واجتنبوه.
فصل
ذهب أكثر العلماء إلى القول بإحكام هذه الآية، قيل للشعبي: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله ما نُسخت؟ قلت: إن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان (3) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة، عور).
(2) ... التبيان (2/159)، والدر المصون (5/235).
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (4/44)، والطبري (18/163)، وابن أبي حاتم (8/2633). وذكره السيوطي في الدر (6/218) وعزاه لابن أبي شيبة.(1/353)
وقال سعيد بن جبير: والله ما نُسخت، ولكنها مما يتهاونُ به الناس (1) .
وروي عن سعيد بن المسيب: أنها منسوخة بالآية التي بعدها، وهو قوله تعالى: { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } (2) .
والأول أصح؛ [لأن معنى هذه] (3) الآية: "وإذا بلغ الأطفال منكم" أي: من الأحرار "الحلم فليستأذنوا" أي: في جميع الأوقات، { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني: الرجال الكبار الأحرار الذين من قبلهم في الوجود أو في بلوغ الحلم، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } [النور:27]، { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } .
قوله تعالى: { والقواعد من النساء } وهُنَّ العُجز، وهو جمع قاعِد بغير هاء، سميت بذلك؛ لقُعودها عن الحيض والولد.
قال ابن قتيبة (4) : حذفت الهاء ليدل على أنه قعودُ كبَر، كما قالوا: "امرأة [حامل] (5) " ليدلوا بحذف الهاء على أنه حَمْلُ حَبَلٍ. وقالوا في غير ذلك: امرأة قاعدةٌ في بيتها، وحاملةٌ على ظهرها.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/163). وذكره السيوطي في الدر (6/218) وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:134-135)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:48).
(3) ... في الأصل: لأن المعنى في هذه. والمثبت من ب.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:308).
(5) ... في الأصل: حال. والتصويب من ب.(1/354)
وقال الزجاج (1) : القاعدة: التي قعدت عن الزوج (2) ، وهو معنى قوله: { اللاتي لا يرجون نكاحاً } أي: لا يَطْمَعْنَ فيه.
{ فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } يعني: الثياب الظاهرة؛ كالملْحَفَة والجِلْباب، { غير متبرجات بزينة } أي: غير [مُظْهِرَاتٍ] (3) زينتهن الخفيَّة، ولا قاصدات بالوضع ذلك.
وأصل التبرج وحقيقته: تكلُّفُ إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينةٌ بارجٌ لا غطاء عليها، والبَرَجُ: سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها (4) .
{ وأن يستعففن } فلا يضعن ثيابهن الظاهرة { خير لهن } أزكى وأفضل؛ لما فيه من المبالغة في التستر، { والله سميع عليم } .
}ّٹ©9 'n?tم 4'yJôمF{$# سltچym ںwur 'n?tم ئltچôمF{$# سltچym ںwur 'n?tم اظƒجچyJّ9$# سltچym ںwur #'n?tم ِNà6إ،àےRr& br& (#qè=ن.ù's? .`دB ِNà6د?qمç/ ÷rr& دNqمç/ ِNà6ح !$t/#uن
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/53).
(2) ... في معاني الزجاج: الزواج.
(3) ... في الأصل: مظهارات. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: برج).(1/355)
÷rr& دNqمç/ ِNن3دG"yg¨Bé& ÷rr& دNqمç/ ِNà6دR؛uq÷zخ) ÷rr& دNqمç/ ِNà6د?؛uqyzr& ÷rr& دNqمç/ ِNà6دJ"uHùهr& ÷rr& دNqمç/ ِNà6دG"Hxه ÷rr& دNqمç/ ِNن3د9؛uq÷zr& ÷rr& دNqمç/ ِNà6دG"n="yz ÷rr& $tB OçFٍ6n=tB ے¼çmptدB$xے¨B ÷rr& ِNà6ة)ƒد‰|¹ ڑ[ّs9 ِNà6ّn=tو îy$oYم_ br& (#qè=à2ù's? $·èٹدJy_ ÷rr& $Y?$tGô©r& #sŒخ*sù OçFù=yzyٹ $Y?qمç/ (#qكJدk=|،sù #'n?tم ِNن3إ،àےRr& Zp¨ٹدtrB ô`دiB د‰Yدم "!$# Zpں2tچ"t7مB Zpt6حhٹsغ ڑپد9؛xں2 عْخiüt7مƒ ھ!$# مNà6s9 دM"tƒFy$# ِNà6¯=yès9 ڑcqè=ة)÷ès? ادتب(1/356)
قوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } قال ابن عباس: لما أنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [النساء:29] تحرّج المسلمون عن مُؤاكلة المرضى والعُمْي، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام، والأعرج والزَّمِن (1) لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت هذه الآية (2) .
فعلى هذا يكون المعنى: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن المسيب: كانوا -يعني: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا، فكانوا يَتَّقُون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فنزلت هذه الآية رُخصةً لهم (3) .
وقال مجاهد: كان قوم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن عندهم ما يُطعمون المريض والزَّمِن ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من
__________
(1) ... الزّمِن: يقال: رجل زَمِن أي: مبتلًى بَيِّنُ الزَّمَانَة، وهي العاهة (اللسان، مادة: زمن).
(2) ... أخرجه الطبري (18/168). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:339-340).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/329)، وأسباب النزول (ص:340)، والسيوطي في الدر (6/224) وعزاه لعبد بن حميد.(1/357)
سَمَّى الله عز وجل في هذه الآية، فتحرّج أهل الزَّمَانَة من ذلك وقالوا: إنما يذهبون بنا إلى غير بيوتهم (1) .
وقال الحسن البصري: نزلت في إسقاط الجهاد عن أهل الزّمانة المذكورين في الآية (2) .
فعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله: { ولا على المريض حرج } .
ثم ابتدأ كلاماً آخر لا تعلق له بالأول إلا فيما وقع فيه الاشتراك من نفي الحرج فقال: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } أي: من أموال عيالكم وأزواجكم.
وقيل: الخِطَاب للخَدَم والأولاد والزوجة ومن يشتمل عليه مَنزلُ الرَّجُل، أذنَ الله لهم في الأكل من مال صاحب البيت.
ونَسَبَ البيوت إليهم؛ لاختصاصهم بها.
وقيل: أراد: أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فَنَسَبَ إلى الآباء؛ لأن الولد وماله لأبيه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أحَلُّ ما أكَلَ الرجل من كَسْبه، وإن ولده من كَسْبه)) (3) .
فإن قيل: هلاَّ ذكر الأولاد؟
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في سننه (7/275)، والطبري (18/169)، وابن أبي حاتم (8/2645). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:340)، والسيوطي في الدر المنثور (6/223-224) وعزاه لعبدالرزاق وابن أبي شيبة وإبراهيم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/64).
(3) ... أخرجه أبو داود (3/288 ح3528)، وابن ماجه (2/723 ح2137).(1/358)
قلتُ: إن لم يكن المراد بقوله: { من بيوتكم } بيوت الأولاد، أو يكون الكلام متضمناً لهم، [وإلا] (1) فالإذن في الأكل من بيوت من عَدَّدَ من القرابة في الآية مع بُعْدِهِم إذنٌ في جواز الأكل من بيوت الأولاد مع قُربهم بطريق الأولى.
قوله تعالى: { أو ما ملكتم مفاتحه } يعني: خزائنه، وقد سبق ذكر المفاتح في الأنعام (2) .
قال ابن عباس: هو وكيل الرجل وقَيِّمُه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه، ويشرب من لبن ماشيته (3) .
فعلى هذا؛ المراد بملك المفاتح: كونها في يده وحفظه وتحت تصرفه.
ويؤيد هذا المعنى قراءة سعيد بن جبير: "مُلِّكْتُم" بضم الميم وكسر اللام وتشديدها (4) .
وقال الضحاك: يعني: بيوت عبيدكم (5) ؛ لأن بيت العبد لمولاه.
وقرأ أنس بن مالك وقتادة: "مِفْتَاحَه" (6) ، واحد المفاتيح التي تُفْتَحُ بها
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... آية رقم: 59.
(3) ... أخرجه الطبري (18/170)، وابن أبي حاتم (8/2648). وذكره الواحدي في الوسيط (3/330)، والسيوطي في الدر (6/224) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/65)، والدر المصون (5/236).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/65).
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/65)، والدر المصون (5/236).(1/359)
الأغلاق.
{ أو صديقكم } الصَّدِيق يكون واحداً ويكون جَمْعاً، وكذلك الخليطُ والقَطِين، والتقدير: أو بيوت أصدقائكم.
وكان الحسن وقتادة يَرَيَان الأكل من طعام الصديق بغير إذنه جائزاً (1) .
ويروى: أن الحسن دخل يوماً إلى داره، فرأى حَلْقَةً من أصدقائه يأكلون من طعامه، فتهلّل وجهه سروراً بهم، وضحك وقال: هكذا وجدناهم -يعني: خير الأمة وأشرف الناس همّة أكابر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وكانوا يتعاشرون بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، حتى أن سعد بن الربيع الأنصاري قال لأخيه في الله وصديقه عبدالرحمن بن عوف: اختر إحدى زوجتيّ حتى أنزل لك عنها، وخذ شَطْرَ مالي، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، [دلّوني] (3) على السوق (4) .
وحسْبُك بالصديق منزلة وحُرْمة: أن جعله الله تعالى بمنزلة النفس والأب والأم والأخ والعم والأقارب.
وقال ابن عباس: الصديق أكثر من الوالدين، فإن الجهنَّميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات وإنما قالوا: { فما لنا من شافعين * ولا صديق
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/330)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/66).
(2) ... ذكره الآلوسي في روح المعاني (18/220).
(3) ... في الأصل: ودلوني. والتصويب من ب، وصحيح البخاري (2/722).
(4) ... أخرجه البخاري (2/722 ح1944).(1/360)
حميم } (1) [الشعراء:100-101].
وما أحسن ما قال بعضهم وقد قيل له: أيما أحب إليك صديقك أو أخوك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي (2) .
قال قتادة وأكثر المفسرين: كان الرجل من بني ليث -حي من كنانة- يتحرَّج أن يأكل وحده، فربما قعد والطعام بين يديه ينتظر من يؤاكله نهاره إلى الليل، فإن لم يجد أَكَلَ ضرورة، فأنزل الله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } (3) .
وقال عكرمة: كان قوم من الأنصار إذا نزل عليهم ضيف لم يأكلوا إلا معه، فنزلت هذه الآية (4) .
وهذه كانت شيمة الكرماء من العرب. قال:
يا ابنةَ عبداللهِ وابنةَ مالكٍ ... ويا ابنةَ ذي البُرْدَين والفَرس الورْد
إذا ما صنعتِ الزّاد فالتمسي له ... أكِيلاً فإني لستُ آكُلُهُ وحْدِي
أخاً طَارقاً أو جَارَ بيتٍ فإنني ... أخافُ مَلامَاتِ الأحاديث من بعدي
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/124).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (12/316).
(3) ... أخرجه الطبري (18/172)، وابن أبي حاتم (8/2649). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:341)، والسيوطي في الدر (6/225) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(4) ... أخرجه الطبري (18/172). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:341)، والسيوطي في الدر (6/225) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح.(1/361)
وإني لعبدُ الضيفِ من غير ذلّة ... وما فيَّ إلا تلك منْ شِيَمِ العَبْد (1)
ومعنى الآية: ليس عليكم جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين.
والأشتات: جمع شَتَت.
{ فإذا دخلتم بيوتاً } من هذه البيوت وغيرها، { فسلموا على أنفسكم } أي: على أهل دينكم، وليسلم بعضكم على بعض.
قال قتادة: إذا دخلت إلى بيتك فسلِّم على أهلك، فهم أحق من سلّمت عليه، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حُدِّثنا أن الملائكة تردُّ عليه (2) .
{ تحية } ثابتة ومشروعة { من عند الله } .
قال الزجاج (3) : "تحية" منصوبة على المصدر؛ لأن قوله: "فسلِّمُوا" يعني: فحيُّوا تحية من عند الله.
{ مباركة } [بالأجر] (4) والثواب، { طيبة } حسنة جميلة.
{ كذلك يبين الله لكم الآيات } أي: مثل هذا التفصيل والبيان يفصل لكم معالم دينكم، { لعلكم تعقلون } أوامره ونواهيه وآدابه.
__________
(1) ... الأبيات لحاتم الطائي. انظر: ديوان الحماسة (2/309-310)، والأغاني (14/73) ونسبه لقيس بن عاصم.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2651). وذكره السيوطي في الدر (6/228) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي.
(3) ... معاني الزجاج (4/55).
(4) ... في الأصل: الأجر. والتصويب من ب.(1/362)
$yJ¯Rخ) ڑcqمZدB÷sكJّ9$# tûïد%©!$# (#qمZtB#uن "!$$خ/ ¾د&خ!qك™u'ur #sŒخ)ur (#qçR$ں2 ¼çmyètB #'n?tم 9گِDr& 8ىدB%y` َO©9 (#qç7ydُtƒ 4س®Lym çnqçRةّ"tGَ،o" ¨bخ) tûïد%©!$# y7tRqçRةّ"tFَ،o" ڑپح´¯"s9'ré& tûïد%©!$# ڑcqمZدB÷sمƒ "!$$خ/ ¾د&خ!qك™u'ur #sŒخ*sù x8qçRxّ"tGَ™$# اظ÷èt7د9 ِNخgدRù'x© bsŒù'sù `yJدj9 |MّOد© ِNكg÷YدB ِچدےَّtGَ™$#ur مNçlm; ©!$# cخ) ©!$# ض'qàےxî زOدm' ادثب
قوله تعالى: { وإذا كانوا معه على أمر جامع } أي: على أمر من أمور الطاعة يجتمع له الناس؛ كالجمعة والعيد والجهاد، أو خطب جليل يفتقر(1/363)
انتظام المصلحة فيه إلى انضمام العلماء وذوي الرأي للمشورة وإرهاب العدو، { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } .
قال المفسرون: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رقى المنبر يوم الجمعة وأراد رجل أن يخرج لحاجة، قام حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأذن له إذا رآه، فكان يأذن لمن شاء منهم (1) .
وقيل: نزلت في حفر الخندق، وكان قوم يتسللون بغير إذنه (2) .
ثم زاد الله تعالى ذلك توكيداً بقوله: { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } على حسب ما تقتضيه أغراضك السليمة وآراؤك المستقيمة.
ثم أمره بالاستغفار لهم تعريضاً لهم بالمنع عن طلب الإذن إلا لأمر لا بد لهم منه، وجبراً لما فاتهم من جواهر أنفاسه النفيسة فقال: { واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } .
w (#qè=yèّgrB uن!$tمكٹ ةAqك™چ9$# ِNà6oY÷ t/ دن!%tوك‰x. Nن3إز÷èt/ $Vز÷èt/ ô‰s% مNn=÷ètƒ ھ!$# ڑْïد%©!$# ڑcqè=¯=|،tFtƒ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/331)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/67-68).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/69).(1/364)
ِNن3ZدB #]Œ#uqد9 ح'xَsuٹù=sù tûïد%©!$# tbqàےد9$sƒن† ô`tم ے¾حnحگِDr& br& ِNهkz:ٹإءè? îpuZ÷Fدù ÷rr& ِNهkz: إءمƒ ë>#xtم يOٹد9r& ادجب Iwr& cخ) ! $tB 'خû دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur ô‰s% مNn=÷ètƒ !$tB َOçFRr& دmّn=tم uQِqtƒur ڑcqمèy_ِچمƒ دmّs9خ) Nكgم¥خm7t^مsù $yJخ/ (#qè=دHxه ھ!$#ur بe@ن3خ/ >نَسx" 7Lىخ=tو ادحب
قوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } فتجعلوا رجوعكم عن مجمعه بغير إذن كغيره من المجامع.
وقال ابن عباس: معناه: احذروا دعاء رسول الله عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجِب، ليس كدعاء غيره (1) .
__________
(1) ... أخرج نحوه الطبري (18/177)، وابن أبي حاتم (8/2655). وذكره الماوردي (4/128)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/68). وبنحوه ذكره السيوطي في الدر (6/231) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بلفظ الطبري، وابن أبي حاتم. وهذا القول هو اختيار الطبري.(1/365)
وقال مجاهد وقتادة: المعنى: لا تدْعُوه كما يدعوا بعضكم بعضاً: يا محمد، ولكن فخّموه وشرفوه، وقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لِين وتواضع (1) .
وقرأ الحسن: "لا تجعلوا دعاء الرسول نبيّكم" (2) ، أبدل "النبي" من "الرسول".
{ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } قال الزمخشري (3) : أدخل "قد" ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة [عن الدين والنفاق] (4) ، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن "قد" إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى: "ربما" فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فإنْ يُمْسِ مَهجُور الفِنَاءِ فربما ... أقامَ به بعدَ الوُفُود وفُود (5)
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/177)، وابن أبي حاتم (8/2655)، ومجاهد (ص:445). وذكره السيوطي في الدر (6/231) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، ومن طريق آخر عن قتادة وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:327).
(3) ... الكشاف (3/265).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... البيت لأبي عطاء السندي يرثي ابن هبيرة. انظر: أمالي القالي (1/272)، والخزانة (9/539)، والدر المصون (5/239)، والبحر المحيط (6/437)، والنظائر للسيوطي في النحو (2/83)، واللسان (مادة: عهد).(1/366)
ونحوه قول زهير:
أخِي ثِقةٍ لا تُهْلِكِ الخمْرَ مالَه ... ولكنه قد تُهْلِكُ المالَ نائلُه (1)
والتَّسلُّل: الخروج في خفية (2) .
واللواذ: الملاوَذة، وهو أن يَلُوذ الواحد منهم بغيره ليستتر به عند تسلله (3) .
ونصبها على الحال (4) ، أي: يتسللون مُلاوذين.
قال المفسرون: كان المنافقون تثقل عليهم خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لما تشتمل عليه من الطعن عليهم وذكر مثالبهم وما أعدّ لهم من العذاب، فإذا أمكنت الواحد منهم الفرصة والخروج في خفية فَعَل (5) .
{ فليحذر الذي يخالفون عن أمره } قال مجاهد (6) : عن أمر الله (7) .
وقال قتادة: عن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - (8) .
__________
(1) ... البيت لزهير، وهو في: الدر المصون (5/239)، والبحر (6/437)، وروح المعاني (18/226).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: سلل).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: لوذ).
(4) ... انظر: التبيان (2/160)، والدر المصون (5/238).
(5) ... ذكره الماوردي (4/128)، والواحدي في الوسيط (3/331)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/69).
(6) ... في الأصل زيادة قوله: قال.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/69).
(8) ... ذكره الماوردي (4/129)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/69).(1/367)
قال الأخفش: "عن" زائدة.
وقال غيره: المعنى: يعرضون عن أمر دينه وطاعته.
{ أن تصيبهم فتنة } كفر وضلالة.
وقال مجاهد: بلاء في الدنيا (1) .
وقال جعفر بن محمد: سلطان جائر يُسلّط عليهم (2) .
{ أو يصيبهم عذاب أليم } في الآخرة.
وقيل: القتل في الدنيا.
وقيل: زلازل وأهوال.
ثم عظّم سبحانه وتعالى نفسه فقال: { ألا إن لله ما في السموات والأرض } يعني: خَلْقاً ومُلْكَاً وعِلْمَاً، فكيف يخفى عليه تسلّلهم وأحوالهم.
{ قد يعلم ما أنتم عليه } من الإيمان والنفاق وغيرهما، { ويوم يرجعون إليه } يعني: القيامة، { فينبئهم بما عملوا } من الخير والشر ويجازيهم عليه، { والله بكل شيء } من أعمالهم وغيرها { عليم } .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/332).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (12/323).(1/368)
سورة الفرقان
ijk
وهي سبع وسبعون آية، وهي مكية (1) .
واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات من قوله: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله: { غفوراً رحيماً } فقالوا: نزلت بالمدينة (2) .
x8u'$t6s? الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ
__________
(1) البيان في عد آي القرآن (ص:194).
(2) الماوردي (4/130)، والبحر المحيط (6/439).(1/297)
دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا اجب
قوله تبارك وتعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } "الفرقان": القرآن، وهو مصدر فَرَقَ بين الشيئين؛ إذا فَصَلَ بينهما (1) ، فسُمِّي بذلك؛ لأنه فَرَّقَ بين الحق والباطل.
وقرأ ابن الزبير: "على عباده"، وهي قراءة صحيحة (2) .
المعنى: لأن الفرقان وإن كان منزلاً على محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده، لكنه منزل على العباد باعتبار أنه نُزّل عليهم لمصالحهم، كما قال: { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [الأنبياء:10].
{ ليكون } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: القرآن.
والأول أظهر، والقائلون به أكثر.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: فرق).
(2) ... انظر قراءة ابن الزبير هذه في: البحر المحيط (6/440).(1/298)
{ للعالمين } الجن والإنس { نذيراً } منذراً مخوفاً من عذاب الله.
قوله تعالى: { الذي له ملك السموات والأرض } جائز أن يكون في محل الرفع على البدل من { الذي نزَّل } ، وجائز أن يكون في محل النصب على المدح (1) ، ولا يقال على وجه الرفع فُصِلَ بين البدل والمبدل منه؛ لأنا نقول: لم نفصل (2) بينهما؛ لأن المبدل منه صلته "نزَّلَ".
وقوله: "ليكون" تعليل له، وكأن المبدل منه لم يتم إلا به.
{ ولم يتخذ ولداً } كما زعم أهل الكتابين والمشركون، { ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء } أحدثه وأوجده، { فقدَّره تقديراً } أي: هَيّأه وسَوّاه لما يصلح له.
وقال أكثر المفسرين: المعنى: فقدَّر له تقديراً من الأجل والرزق (3) .
ثم ذكر ما صنعه المشركون بعد أن أنار لهم براهين وحدانيته وعظيم سلطانه فقال: { واتخذوا من دونه آلهة } يعني: الأصنام { لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً } أي: دفع ضر عنها ولا جلب نفع إليها.
{ ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً } أي: لا تميت أحداً ولا تحييه ولا تنشره بعد موته.
tA$s%ur الَّذِينَ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/160)، والدر المصون (5/241).
(2) ... في ب: يفصل.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/333)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/72) بلا نسبة.(1/299)
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ادب
{ وقال الذين كفروا } يعني: النضر بن الحارث وأصحابه، { إن هذا } إشارة إلى القرآن؛ { إلا إفك افتراه } كذبٌ اختلقه محمد، { وأعانه عليه قوم آخرون } .
قال مقاتل وغيره (1) : أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى،
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/430). وانظر: الوسيط (3/334)، وزاد المسير (6/72-73).(1/300)
ويسار، وجبر مولى عامر بن الحضرمي، وكانوا من أهل الكتاب.
وهذا عامر بن الحضرمي (1) أول قتيل قُتِلَ يوم بدر كافراً، وأخوه عمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله مسلم، وكان ماله أول مال خُمِّس، قتل يوم نخلة، وهما أخوا العلاء بن الحضرمي (2) رضي الله عنه، وأختهم الصعبة بنت الحضرمي، كانت تحت أبي سفيان بن حرب وطلّقها، وخلف عليها [عبيد الله] (3) بن عثمان التيمي، فولدت له طلحة بن عبيدالله. قال ذلك كله ابن الكلبي.
ولا يختلف أهل العلم أنهم من حضرموت، وكانوا حلفاء بني أمية.
قال الله تعالى: { فقد جاؤوا } يعني: النضر وأصحابه { ظلماً وزوراً } .
قال الزجاج (4) : المعنى: فقد جاؤوا بظُلْم وزُور، فلما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب. والزُّور: الكذب.
وقال صاحب الكشاف (5) : "جاء وأتى" يستعملان في معنى فعل، فيُعَدَّيان تعْديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلماً، كما تقول: جئت المكان.
وظُلْمُهم: أنهم جعلوا العرب تتلقَّنُ من العجم كلاماً عربياً أعجز فصحاء العرب الإتيان بسورة مثله.
__________
(1) ... انظر ترجمته في: الإصابة (3/579)، وتهذيب التهذيب (8/159) في ترجمة أخيه العلاء.
(2) ... انظر: ترجمته في: تهذيب التهذيب (8/159).
(3) ... في الأصل: عبيد. والتصويب من ب.
(4) ... معاني الزجاج (4/58).
(5) ... الكشاف (3/269).(1/301)
{ وقالوا أساطير الأولين } أي: ما سطّره المتقدمون من نحو أحاديث رستم، واسفنديار، { اكتتبها } أي: أمر أن تُكتب له؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - أمياً لا يكتب ولا يقرأ.
ويجوز أن يكون من الكَتْب، وهو الجمع. المعنى: جمعها وضمَّها إليه.
{ فهي تُملى عليه } أي: تُقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها { بكرةً وأصيلاً } أي: غدوةً وعشياً، يريد: طرفي النهار على ما هي عادة اللذين يتصدون لحفظ العلوم أول النهار ودراستها آخره.
{ قل } يا محمد { أنزله } يعني: القرآن (1) { الذي يعلم السر في السموات والأرض } فهو يجازيكم على ما تُسرُّون من الكيد لرسوله، مع علمكم ببطلان ما تُلقونه وتختلقونه، { إنه كان غفوراً رحيماً } لم يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم إياها، لمكابرتكم وعنادكم.
(#qن9$s%ur مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ
__________
(1) ... في ب: الفرقان.(1/302)
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(1/303)
(11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا اتحب
{ وقالوا } يعني: المشركين { ما لهذا الرسول } سَمُّوهُ رسولاً على وجه السخرية منهم والطَّنْز (1) ، كقول فرعون: { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [الشعراء:27].
{ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } أنكروا أن يكون الرسول بشراً يأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعيشة.
يعنون: أنه يجب أن يكون مَلَكاً مستغنياً عن ذلك.
__________
(1) ... الطَّنْز: السخرية (اللسان، مادة: طنز).(1/304)
ثم تنزلوا إلى اقتراح كون الرسول بشراً مصحوباً بمَلَك يعينه ويشهد بصدقه، فذلك قولهم: { لولا أنزل إليه مَلَكٌ فيكون معه نذيراً } .
ثم تنزلوا إلى اقتراح رسول يُلقى إليه كنز من السماء يغنيه عن التردد في الأسواق.
ثم تنزلوا إلى اقتراح رسول له بستان يأكل منه يُغنيه عن المَشْي في الأسواق ابتغاء الرزق، فذلك قوله: { أو يُلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } .
قال المفسرون: قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : سَلْ ربك أن يبعث معك مَلَكاً يُصدِّقُكَ بما تقول حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً، ويجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً يغنيك بها عن طلب المعيشة، فنزلت هذه الآية (1) .
وقرأ حمزة والكسائي: "نَأْكُلُ منها" بالنون (2) .
قال أبو علي (3) : المعنى: يكون له علينا مزيَّة في الفضل بأكلنا من جنّته.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { ويجعل لك قصوراً } .
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر: "ويجعلُ" بالرفع على الاستئناف والإخبار بأن الله يجعل ذلك لرسوله لا محالة. وقرأ الباقون بالجزم (4) ، عطفاً
__________
(1) ... انظر: الطبري (18/183-184)، والوسيط (3/335).
(2) ... الحجة للفارسي (3/207)، والحجة لابن زنجلة (ص:507)، والكشف (2/144)، والنشر (2/333)، والإتحاف (ص:327)، والسبعة (ص:462).
(3) ... الحجة (3/207).
(4) ... الحجة للفارسي (3/207-208)، والحجة لابن زنجلة (ص:508)، والكشف (2/144)، والنشر (2/333)، والإتحاف (ص:327)، والسبعة (ص:462).(1/305)
على موضع "جعل".
{ بل كذبوا بالساعة } المعنى: بل أتَوْا بأعجب من ذلك، وهو تكذيبهم بالساعة مع وضوح آياتها وظهور [بيّناتها] (1) ، { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً } .
{ إذا رأتهم } أنَّثَ حملاً على المعنى؛ لأن السعير: النار المتلظّية، والرؤية هاهنا مَجاز، ومعناها: المقابلة، حتى كأنها تراهم، وقريب منه قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تتراءا ناراهما)) (2) .
ومنه قولهم: داري تنظر إلى دارك.
{ من مكان بعيد } قال السدي ومقاتل (3) : من مسيرة خمسمائة عام (4) .
{ سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } أي: سمعوا صوت غليانها، وشبّه ذلك بصوت المتغيظ.
وقال الزجاج (5) : غليان تَغَيُّظٍ.
قال عبيد بن عمير (6) : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي مرسل ولا مَلَكٌ
__________
(1) ... في الأصل: بيانها. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه أبو داود (3/45 ح2645)، والترمذي (4/155 ح1604).
(3) ... تفسير مقاتل (2/430) وفيه: مسيرة مائة سنة.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2667). وذكره السيوطي في الدر (6/238) وعزاه لابن أبي حاتم. ولفظهما: من مسيرة مائة عام.
(5) ... معاني الزجاج (4/59).
(6) ... عبيد بن عمير: مولى سيدنا ابن عباس (تقريب التهذيب ص:377).(1/306)
مُقَرَّب إلا خرّ لوجهه (1) .
وقال بعض المفسرين: المعنى: سمعوا فيها تغيُّظَ المعذّبين وزفيرهم (2) .
وقيل: يجوز أن يكون المعنى: إذا رأتهم الزبانية تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم.
{ وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً } قال المفسرون: تضيق عليهم كما يضيق الزُّجُّ (3) على الرمح (4) .
{ مقرّنين } موثّقين في السلاسل والأغلال، أو مقرّنين مع شياطينهم، { دعوا هنالك ثبوراً } الثّبور: الهلاك، ودعواه أن يقال: وا ثُبوراه.
{ لا تدعوا } على إضمار القول، تقديره: فيقال لهم: لا تدعوا { اليوم ثبوراً واحداً } يشير إلى أن هلاكهم أكثر من أن يدعوه مرة واحدة.
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أول من يُكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها من خلفه ذريته من بعده وهو ينادي: وا ثبوراه، وهم ينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار فيقول: يا ثبوراه،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/187)، وابن أبي حاتم (8/2668). وذكره السيوطي في الدر (6/239) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:310). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/75).
(3) ... الزُّجُّ: الحديدة التي تُركَّبُ في أسفل الرمح، والجمع: زِجَجَة، بوزن عِنَبَة (اللسان: مادة: زجج).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2668). وذكره السيوطي في الدر (6/240) وزاد نسبته لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/307)
ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم: { لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } )) (1) .
ِ@è% أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا اتدب
قوله تعالى: { قل أذلك خير } إشارة إلى ما تقدم ذكره من السعير، وصفة عذاب أهله خير { أم جنة الخلد التي وعد المتقون } قال الزجاج (2) : قد يقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان، فلذلك وقع التفضيل بينهما.
{ كانت لهم جزاء ومصيراً } أي: ثواباً ومصيراً يصيرون إليه يوم
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/249 ح13628). وقال عنه الهيثمي في مجمعه (10/392): رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح غير علي بن زيد وقد وثق.
(2) ... معاني الزجاج (4/60).(1/308)
القيامة.
وإنما قال: "كانت" لأن ما [وعد] (1) الله وجوده فهو في تحققه كالذي [كان] (2) ووُجد، أو يكون المعنى: كانت لهم في اللوح المحفوظ، أو في علم الله تعالى.
{ لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك } أي: كان ذلك على ربك { وعداً } أي: موعوداً { مسؤولاً } مطلوباً سألوه لأنفسهم في الدنيا وسألتْه لهم [الرسل] (3) والملائكة، مثل قولهم: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } [البقرة:201]، { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [آل عمران:194]، وقول الملائكة: { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } [غافر:8].
وقيل: مسؤولاً واجباً. تقول العرب: لأعطينَّك ألفاً وعداً مسؤولاً، بمعنى: أنه واجب لك فتسأله.
tPِqtƒur يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا
__________
(1) ... في الأصل: عد. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل: الرسول. والتصويب من ب.(1/309)
السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا اتزب
قوله تعالى: { ويوم نحشرهم } قرأ ابن عامر: "نحشرهم"، { وما يعبدون من دون الله فنقول } بالنون فيهما. وقرأ ابن كثير وحفص: "يحشرهم... فيقول" بالياء فيهما. وقرأ الباقون: "نحشرهم" بالنون،(1/310)
"فيقول" بالياء (1) .
فمن قرأهما بالياء حمله على قوله: { كان على ربك } ، ومن قرأ: "نحشرهم" بالنون "فيقول" بالياء، فقد أفرد بعد أن جمع. ومن قرأهما بالنون أجراهما على لفظ الجمع للواحد العظيم.
قال مجاهد: "وما يعبدون من دون الله" يعني: عيسى وعزيراً والملائكة (2) .
وقال عكرمة والضحاك: يعني: الأصنام (3) .
قال ابن السائب: يُنطقها الله (4) .
ويجوز أن يكون عامّاً في الجميع.
قال صاحب الكشاف (5) : إن قلت [كيف] (6) صح استعمال "ما" في العقلاء؟
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/208)، والحجة لابن زنجلة (ص:508-509)، والنشر (2/333)، والإتحاف (ص:328)، والسبعة (ص:462-463).
(2) ... أخرجه الطبري (18/189)، وابن أبي حاتم (8/2672)، ومجاهد (ص:448). وذكره السيوطي في الدر (6/241) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/336)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/78).
(4) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/163).
(5) ... الكشاف (3/273).
(6) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/311)
قلتُ: هو [موضوع] (1) على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك إذا رأيت شبحاً من بعيد: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت: مَنْ هو؟
{ فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } فأمرتموهم بعبادتكم { أم هم ضلوا السبيل } والمقصود من هذا السؤال: تبكيت العابدين وتوبيخهم، وإظهار فضيحتهم، وزيادة حسرتهم عند تبرُّئهم منهم.
{ قالوا سبحانك } نزَّهُوا الله تعالى أن تكون معه آلهة، أو هو خارج مخرج التعجب مما قيل لهم، { ما كان ينبغي لنا } أي: ما يصحُّ ولا يصلح لنا { أن نتخذ من دونك } أولياء ونعبدهم.
المعنى: فكيف يصح لنا أن نُحمِّلَ غيرنا على أن يتولّونا دونك.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء العكبري وأبي عمرو الياسري لأبي جعفر: "أن نُتخَذ" بضم النون وفتح الخاء (2) ، على البناء للمفعول، وهي قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وزيد بن علي وجعفر بن محمد ومجاهد وأبي عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة.
ثم ذكروا سبب تركهم الإيمان فقالوا: { ولكن متعتهم وآباءهم } أطلْتَ أعمارهم ووسّعت أرزاقهم، { حتى نسوا الذكر } تركوا القرآن فلم يؤمنوا به ولم ينزجروا بمواعظه، { وكانوا قوماً بوراً } قال ابن عباس: هلكى (3) .
__________
(1) ... في الأصل: موضع. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... النشر (2/333)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:328).
(3) ... أخرجه الطبري (18/190)، وابن أبي حاتم (8/2673). وذكره السيوطي في الدر (6/242) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/312)
قال أبو عبيدة (1) : يقال: رجلٌ بورٌ وقومٌ بورٌ، لا يُجمع ولا يُثنّى، وأنشد قول ابن الزبعرى:
يا رسولَ المليكِ إنّ لساني ... ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُور (2)
قال (3) : وقد سمعنا برجل بَائِر، ورأيناهم ربما جمعوا فاعلاً على فُعْل، نحو: عائذٍ وعُوْذ.
قال المفسرون: فيقال حينئذ للكفار: { فقد كذبوكم بما تقولون } أي: قد كذبكم المعبودون في قولكم أنهم آلهة (4) .
وقرأت لابن كثير من رواية ابن شنبوذ عن قنبل: "بما يقولون" بالياء (5) ، أي: كذبوكم بقولهم: { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } .
{ فما يستطعيون } أي: فما يستطيع المعبودون { صرفاً } للعذاب عنكم
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/72-73).
(2) ... البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي، وقيل: لأبي سفيان بن الحارث، وهو في: اللسان (مادة: بور)، ومجاز القرآن (2/73)، وغريب القرآن (ص:311)، والطبري (13/219، 18/191)، والقرطبي (13/11، 16/269)، وروح المعاني (18/250، 26/100)، والماوردي (4/137)، وزاد المسير (6/79).
(3) ... أي: أبو عبيدة.
(4) ... ذكره الطبري (18/192)، وابن أبي حاتم (8/2673)، والواحدي في الوسيط (3/337)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/79).
(5) ... الحجة للفارسي (3/209)، والحجة لابن زنجلة (ص:509-510)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:328)، والسبعة (ص:463).(1/313)
{ ولا نصراً } لكم.
وقيل: المعنى: فلا يستطيع الكفار صرفاً للعذاب عنهم ولا نصراً لأنفسهم.
وقرأ حفص: "تستطيعون" بالتاء (1) ، على معنى: فما تستطيعون أيها الكفار صرفاً للعذاب عنهم.
وحكى ابن قتيبة (2) عن يونس البصري أنه قال: الصَّرفُ: الحيلة، من قولهم: إنه يتصرَّف، أي: يحتال.
{ ومن يظلم منكم } بالشرك { نذقه } وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وأبو الجوزاء: "يذقه" بالياء (3) ، على معنى: يذقه الله تعالى، أو يذقه الظلم، { عذاباً كبيراً } عظيماً شديداً.
!$tBur أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/209)، والحجة لابن زنجلة (ص:510)، والكشف (2/145)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:328)، والسبعة (ص:463).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:311).
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/79).(1/314)
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا اثةب
قوله تعالى: { وما أرسلنا قبلك من المرسلين } قال الزجاج (1) : فيه محذوف، تقديره: وما أرسلنا قبلك [رسلاً] (2) من المرسلين، فحذفت "رسلاً"؛ لأن قولك: "من المرسلين" يدل عليها.
{ إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } قال الزجاج (3) : هذا احتجاج عليهم في قولهم: { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ، فقيل لهم: كذلك كان مَنْ خَلا من الرسل، فكيف يكون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بِدْعاً منهم؟.
فإن قيل: لم كُسرت "إنّ" في قوله: { إلا إنّهم } ؟
قلتُ: قد أجاب عن ذلك ابن الأنباري بجوابين:
أحدهما: أن تكون فيها واو الحال مضمرة، فكُسرت بعدها "إنّ" للاستئناف، فيكون التقدير: إلا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأُضمرت الواو كما أُضمرت في قوله: { أو هم قائلون } [الأعراف:4]، والتأويل: أو وهم قائلون.
والثاني: أن تكون كُسرت لإضمار "مَنْ" قبلها، فيكون التقدير: وما
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/62).
(2) ... في الأصل: مرسلاً. والتصويب من ب، والزجاج، الموضع السابق.
(3) ... معاني الزجاج (4/62).(1/315)
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا من إنهم ليأكلون. قال الشاعر:
فظلُّوا ومنهُم دَمْعُهُ سابقٌ له ... ......................... (1)
أراد: مَنْ دَمْعُه.
قوله تعالى: { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } أي: ابتلاء واختباراً، فأبلينا الفقير بالغني، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح. هذا قول الحسن (2) .
وقال غيره: هو ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فإذا أراد الشريف أن يُسْلِم ورأى الوضيع قد أَسْلَمَ قبله أنِفَ وقال: أُسْلِم [فتكونُ] (3) له السابقة والفضل عليَّ، فيقيم على كُفره. فذلك افتتان بعضهم ببعض، وهذا اختيار الفراء والزجاج (4) .
وقال مقاتل (5) : هذا في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش، كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمداً من موالينا ورذالتنا، فقال الله تعالى [لهؤلاء] (6) الفقراء الضعفاء: { أتصبرون } يعني: على الأذى
__________
(1) ... صدر بيت لذي الرمة، وعجزه: (وآخَرُ يَثني دمعة العين بالمهل). انظر: البيت في: ديوانه (1/141)، والدر المصون (2/372)، والطبري (5/117)، وزاد المسير (6/80)، والبحر (3/282).
(2) ... أخرجه الطبري (18/194)، وابن أبي حاتم (8/2675). وذكره السيوطي في الدر (6/243) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب.
(3) ... في الأصل: ليكون. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: معاني الفراء (2/265)، ومعاني الزجاج (4/62).
(5) ... تفسير مقاتل (2/433).
(6) ... في الأصل: لهذا. والتصويب من ب، وتفسير مقاتل، الموضع السابق.(1/316)
والاستهزاء.
وعلى قول الحسن: يكون الخطاب للفقير والأعمى والسقيم (1) .
وعلى القول الآخر: الخطاب للرؤساء، على معنى: أتصبرون على سبق الموالي والأتْبَاع (2) .
وحقيقة هذا الاستفهام: الطلب واستدعاء الصبر منهم.
{ وكان ربك بصيراً } بمن يصبر ويجزع.
* وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/81).
(2) ... مثل السابق.(1/317)
لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا اثحب
قوله تعالى: { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } أي: لا يخافون البعث، والرجاء: الخوف في لغة تهامة. وقد سبق ذكره (1) .
وقيل: المعنى: لا يأملون لقاءنا بالخير؛ لأنهم كَفَرَة.
{ لولا أنزل علينا الملائكة } فكانوا رسلاً إلينا أو شاهدين بصدقك، { أو نرى ربنا } فيخبرنا أنك رسوله.
قال الله تعالى: { لقد استكبروا في أنفسهم } أضمروا الكبر فيها والعناد، كما قال تعالى: { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [غافر:56].
{ وعتَوْا عتواً كبيراً } أي: تجاوزوا الحدّ في الظلم وغَلَوا فيه.
__________
(1) ... في سورة يونس عند الآية رقم: 7.(1/318)
قوله تعالى: { يوم يرون الملائكة } العامل في الظرف مضمر، تقديره: اذكر، أو ما دلّ عليه قوله تعالى: { لا بشرى } ، و { يومئذ } على هذا [للتكرير] (1) . وقوله تعالى: { للمجرمين } إما متناولٌ لهم بعمومه لانتظامهم في سلك المجرمين، وإما واقع موقع الضمير، تقديره: لا بشرى يومئذ لهم.
قوله تعالى: { ويقولون حجراً محجوراً } اختلفوا في القائلين؛ فقال ابن عباس: هم الملائكة يقولون: حراماً محرّماً أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله (2) .
وقال مقاتل (3) : إذا خرج الكفار من قبورهم [تقول] (4) لهم الملائكة: حراماً محرّماً عليكم أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى، كما يبشر المؤمنون.
وقال قوم: القائلون هم المشركون إذا عاينوا العذاب (5) .
قال ابن فارس (6) : كان الرجل إذا لقي من يخافُه في الشهر الحرام قال: حِجْراً، أي: حرام عليك إيذائي، فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة
__________
(1) ... في الأصل و ب: التكرير. والتصويب من الكشاف (3/278). وهو قول الزمخشري في الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/338). وهذا القول هو اختيار الطبري (19/2).
(3) ... تفسير مقاتل (2/434).
(4) ... في الأصل: يقول. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/82).
(6) ... معجم مقاييس اللغة (2/139).(1/319)
قالوا: حِجْراً محجوراً، [يظنون] (1) أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.
قوله تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل } أي: قصدنا وعمدنا إلى ما عملوا من أعمال الخير، { فجعلناه هباءً منثوراً } ؛ لأن الشرك لا يُتقبَّلُ معه عمل.
واختلفوا في الهباء؛ فقال علي عليه السلام: هو ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوة مثل الغبار (2) ، وهذا قول أكثر المفسرين واللغويين.
وقال ابن عباس: هو ما تنسفه الرياح وتُذريه من التراب وحطام الشجر (3) .
وقال في رواية أخرى: هو الشرر الذي يطير من النار إذا أضرمت (4) .
وقال مقاتل (5) : هو ما سطع من حوافر الدواب.
قال بعضهم: لم يَكْفِ أن شَبَّهَهُم بالهباء حتى جعله متناثراً متفرقاً.
قوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } أفضل منزلاً في الجنة { وأحسن مقيلاً } موضع قائلة.
__________
(1) ... في الأصل: يظنوا. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2679). وذكره السيوطي في الدر (6/246) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/83).
(4) ... أخرجه الطبري (27/169)، وابن أبي حاتم (10/3329). وذكره السيوطي في الدر (6/246) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) ... تفسير مقاتل (2/434).(1/320)
قال الأزهري (1) : القَيْلُولَة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ، وإن لم يكن مع ذلك نوم. والدليل على ذلك: أن الجنة لا نوم فيها.
قال ابن مسعود وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ثم قرأ ابن مسعود: "ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم" (2) . هكذا يقرؤها ابن مسعود.
tPِqtƒur تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
__________
(1) ... تهذيب اللغة (9/306).
(2) ... أخرجه الحاكم (2/436 ح3516) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والطبري (23/65)، وابن أبي حاتم (8/2680). وذكره السيوطي في الدر (6/247) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود.(1/321)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا اثزب
قوله تعالى: { ويوم تشقق السماء بالغمام } عطف على قوله: { يوم يرون الملائكة } (1) .
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "تشّقق" بتشديد الشين، وقرأ الباقون بتخفيفها (2) .
فمن شدّد قال: الأصل: "تَتَشَقَّق"، ثم أدغم التاء في الشين. ومن خفّف حذف التاء الثانية استخفافاً؛ لاجتماع المِثْلَين ولم يُدغِم.
قال ابن عباس وغيره: المعنى: أن السماء تتفتَّح بغمام يخرج منها تَنزلُ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/162).
(2) ... الحجة للفارسي (3/210)، والحجة لابن زنجلة (ص:510)، والكشف (2/145)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:328)، والسبعة (ص:464).(1/322)
فيه الملائكة، وهو غمام أبيض رقيق مثل الضباب. ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تِيههم، وهو الذي قال الله عز وجل: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة } (1) [البقرة:210].
قال الفراء (2) : المعنى: تَشَقَّقُ السماء [عن] (3) الغمام، وعلى وعن والباء في هذا الموضع بمعنى واحد؛ لأن العرب تقول: رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس، والمعنى واحد.
وقال أبو علي الفارسي (4) : المعنى: تشَقَّق السماء وعليها غمام. كما تقول: ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه. أي: وعليه سلاحه.
وقال الزمخشري (5) : لما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تُشَقُّ به السماء.
{ ونزل الملائكةُ } (6) لإظهار العدل وبأيديهم صحائف أعمال العباد { تنزيلاً } .
وقرأ ابن كثير: "ونُنْزِلُ" بنونين مع التخفيف، من الإنْزال، "الملائكةَ"
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/6)، وابن أبي حاتم (8/2682) كلاهما عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (1/580) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(2) ... معاني الفراء (2/267).
(3) ... في الأصل: من. والتصويب من ب.
(4) ... الحجة (3/210).
(5) ... الكشاف (3/280).
(6) ... في الأصل زيادة: تنزيلاً. وستأتي بعد.(1/323)
بالنصب (1) .
{ الملك يومئذ } قال الزجاج (2) : المعنى: المُلْكُ الذي هو الملك حقاً للرحمن.
وقال غيره: { الحق } : الثابت؛ لأن كل مُلْك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا مُلْكَه سبحانه وتعالى.
{ وكان يوماً على الكافرين عسيراً } صعباً شديداً عظيم المشقة.
وفي تخصيص ذلك بالكافرين بشارة ظاهرة بسهولة ذلك اليوم على المؤمنين. وفي الحديث (3) : ((أن يوم القيامة يهون على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا)).
قوله تعالى: { ويوم يعضّ الظالم على يديه } عطف على ما قبله (4) .
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: "الظالم": عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس (5) . والألِفُ [واللام] (6) للعهد. ويجوز أن تكون للجنس، فيشمل
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/210)، والحجة لابن زنجلة (ص:510-511)، والكشف (2/145-146)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:328-329)، والسبعة (ص:464).
(2) ... معاني الزجاج (4/65).
(3) ... في هامش ب: هو من حديث أبي سعيد، خرجه أحمد في المسند وغيره: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا )) (مسند أحمد 3/75 ح11735).
(4) ... الدر المصون (5/253).
(5) ... أخرجه الطبري (19/8)، وابن أبي حاتم (8/2683-2684)، ومجاهد (ص:451).
(6) ... في الأصل: اللام. والتصويب من ب.(1/324)
عقبة وغيره.
قال عطاء: يأكل يديه [حتى] (1) يذهبا إلى المرفقين، ثم يَنْبُتان فلا يزال هكذا، كلما نبتت يداه أكلهما ندامة على ما فعل (2) .
وقيل: عضّ اليدين مَجاز عن نهاية الحسرة والندامة.
{ يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول } (3) يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - { سبيلاً } طريقاً إلى الهدى والنجاة من الرَّدى.
{ يا ويلتا } وقُرئ:"يا ويلتي" بالياء على الأصل (4) .
{ ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } يعني: أمية بن خلف. وقيل: أُبيّ بن خلف.
{ لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } قال مجاهد وأكثر المفسرين: سبب نزول هذه الآية: (( أن عقبة بن أبي معيط دعا قوماً فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام، فأكلوا، وأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل، فقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك أُبيّ بن خلف، وكان خليلاً له، فقال: صَبَوْتَ يا عقبة؟ فقال: لا والله ما صبوت، ولكنه أبى أن يأكل طعامي وهو في بيتي، فاستحييتُ أن يخرج من منزلي لم يَطْعَم من طعامي، فقلت ذلك وليس من نفسي، فقال: وجهي من وجهك حرام إن لقيت
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/339)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/86).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: { سبيلا } وستأتي.
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:329).(1/325)
محمداً فلم تطأ قفاه وتبزُق في وجهه وتلطم عينه، فوجده يوماً ساجداً، فنالَ منه بعض ما أراد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا قتلتك، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد )) (1) .
وأما أمية بن خلف أخوه فقتل يوم بدر، ويروى نحو ذلك عن الشعبي (2) ، إلا أنه جعل مكان أُبيّ أخاه أمية. والله أعلم.
{ وكان الشيطان للإنسان } يريد: الكافر { خذولاً } يخذله ويتبرأ منه في الآخرة.
والأكثرون على أن هذا ابتداء كلام من الله تعالى. ويجوز أن يكون من تمام كلام الظالم.
فإن قيل: لم كنّى عنهما؟
قلتُ: ليأتي بصيغة شاملة لهما ولمن هو في مثل حالهما.
فصل
ومن تلمّح هذه القصة ونظر بعين بصيرته وإيمانه ما آل إليه أمر هذا المخذول، ظهر له ضرر معاشرة الفسَقَة والفَجَرَة.
قال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خيرٌ لك من أن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/8)، وابن أبي حاتم (8/2683-2686). وذكره السيوطي في الدر (6/250-253) وعزاه لأبي نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:344).
(2) ... أخرجه الطبري (19/8).(1/326)
تأكل الخبيص مع الفُجّار (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثلُ الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تَبْتَاعَ منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) (2) . هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن ابن العلاء أيضاً.
tA$s%ur الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (13/27).
(2) ... أخرجه البخاري (5/2104 ح5214)، ومسلم (4/2026 ح2628).(1/327)
بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا اجتب
قوله تعالى: { وقال الرسول } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، { يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } .
قال ابن عباس: هجروا القرآن وهجروني وكذبوني (1) .
وقيل: هو من هَجَرَ؛ إذا هَذَى (2) ، أي: جعلوه مهجوراً فيه، كقولهم: هذا سحر وباطل، وأساطير الأولين.
قال مقاتل وأكثر المفسرين (3) : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك شاكياً من قومه إلى الله تعالى حين كذبوه.
فإن قيل: ما الحكمة في حكاية هذه الشكاية؟
قلتُ: تخويف المشْكُوِّ منه من سرعة انتقام المشْكُوِّ إليه، على ما أُلِفَ وعُرِفَ منه من نصر أوليائه وكسر أعدائه.
فعزّاه الله تعالى ووعده النصر فقال: { وكذلك جعلنا } أي: وكما جعلنا لك عدواً من قومك جعلنا { لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً } لك إلى طريق استئصالهم { ونصيراً } ناصراً لك عليهم.
وقيل: إن هذا يقوله يوم القيامة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/339).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: هجر).
(3) ... تفسير مقاتل (2/436). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/87).(1/328)
المعنى: ويقول الرسول.
tA$s%ur الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا اجحب
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا } يريد: كفار قريش.
وقيل: اليهود.
{ لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } كما نزّل التوراة والإنجيل، و"نزِّلَ" هاهنا بمعنى: "أنْزِل"؛ كخُبِّرَ بمعنى: أُخْبِر، وإلا كان متناقضاً، وهذا(1/329)
أيضاً من جملة اقتراحاتهم الدالة على عنَتِهِم، وهو أحد الأسباب التي كانوا يتعللون بها إذا شَرِقُوا بالحق الواضح، وراموا معارضته بالشبهة الباطلة.
قوله تعالى: { كذلك } متعلق بفعل مضمر، أي: أنزلناه كذلك مُنجماً، { لنثبت به فؤادك } أي: لنُقوِّي به قلبك حتى تَعيه وتحفظه، فاللام من صلة الفعل المضمر، والكاف صفة المقدَّر الذي دَلَّ عليه "أنزلناه". هذا قول أبي إسحاق الزجاج والأكثرين (1) .
وقال الفراء (2) : التقدير: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك الكتاب، يريد: التوراة، فالكاف من صلة قوله: "لولا نُزِّلَ" أي: لولا نزل مثل ذلك التنزيل، فقال الله تعالى: { لنثبت به فؤادك } .
قال أبو الحسن الأصبهاني صاحب كشف المشكلات على هذا القول (3) : اللام عنده في "لنثبت" لام القسم، والنون معها مقدّرة تظهرُ إذا فُتحت، وتسقط إذا كُسرت.
وعندي: أن اللام متعلقة بما دل عليه قولهم: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، معناه: لِمَ أُنزلَ متفرقاً؟ فقال: لنثبت به فؤادك.
{ ورتّلناه } عطف على محذوف، تقديره: فرقناه ورتبناه ورتلناه، { ترتيلاً } أي: جئنا به آية بعد آية، وطائفة بعد طائفة، على حسب الوقائع والحوادث على ما تقتضيه حكمتنا.
__________
(1) ... انظر: معاني الزجاج (4/66).
(2) ... معاني الفراء (2/267).
(3) ... كشف المشكلات (2/171).(1/330)
{ ولا يأتونك بمثل } أي: يجيئونك بمثل يضربونه لك عند الخصام ليتوصَّلُوا به إلى إطفاء نور رسالتك، { إلا جئناك بالحق } بالأمر الثابت الصحيح الذي تَنْقَادُ له العقول المطلقة من قيد الهوى لنردّ (1) به كذبهم، { وأحسن تفسيراً } بياناً وكشفاً.
قوله تعالى: { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم } قال مقاتل: هم كفار مكة قالوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: هم شر خلق الله (2) ، فقال الله تعالى: { أولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً } من سبيل المؤمنين وطريقهم.
ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة؛ ليكون مطابقاً لسبب النزول؛ لأن الحامل للكفار على قولهم احتقار المؤمنين.
أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه، أخبرنا عبدالجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، حدثنا محمد بن إبراهيم المحاملي، أخبرنا محمد بن إبراهيم البوشنجي، أخبرنا أحمد بن حنبل، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن أنس: (( أن رجلاً قال: يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يُمشيه على وجهه يوم القيامة )) (3) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري عن عبدالله بن محمد، عن يونس بن محمد.
__________
(1) ... في ب: لترُدَّ.
(2) ... انظر قول مقاتل في: الوسيط (3/340)، وزاد المسير (6/89).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1784 ح4482، 5/2390 ح6158)، ومسلم (4/2161 ح2806)، وأحمد (3/229 ح13416).(1/331)
وأخرجه مسلم أيضاً.
ô‰s)s9ur آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ(1/332)
ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا احةب
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً } ظهيراً ومعيناً له على تبليغ الرسالة وشريكاً له في النهوض بأعبائها.
{ فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } يريد: فرعون والقِبْط، { فدمرناهم تدميراً } أهلكناهم إهلاكاً، وفيه إضمار تقديره: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميراً.
فإن قيل: كيف وصفهم بالتكذيب قبل التبليغ؟
قلتُ: لأنهم كذبوا أنبياء الله من قبل وكذبوا كُتُبَه.(1/333)
قوله تعالى: { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } قال الزجاج (1) : يجوز أن [يراد] (2) به نوح وحده، وقد ذكر بلفظ الجنس، كما يقال: فلان يركب الدواب وإن لم يركب إلا دابة واحدة.
{ وجعلناهم للناس آية } عبرة لمن بعدهم، { وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً } سوى ما أصابهم في الدنيا.
{ وعاداً وثمود وأصحاب الرس } قال ابن قتيبة (3) : كل بئر لم تُطْوَ فهي رَسٌّ.
قال ابن عباس في رواية: هي بئر كانت بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار، فنُسبوا إليها (4) .
قال كعب: هم الذين قتلوا أصحاب يس الذي قال: "يا قوم اتبعوا المرسلين"، ورسُّوه في بئر لهم يقال له: الرَّسّ (5) .
قال الزجاج (6) : رَسُّوه: أي: دَسُّوه فيها.
وقال قتادة: حُدثنا أن أصحاب الرَّسّ كانوا أهل فلج (7) اليمامة، قتلوا
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/67-68).
(2) ... في الأصل: يرد. والتصويب من ب، والزجاج (4/67).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:313).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/340)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/90).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/340-341). وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/257) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(6) ... معاني الزجاج (4/68).
(7) ... في هامش ب: فَلَج: بفتح أوله وثانيه وجيم: مدينة بأرض اليمامة لبني جعدة وقيس وكعب، وكل ماء يجري من عين سيحاً فهو فَلَج.(1/334)
نبيهم فأهلكهم الله تعالى (1) . قيل: إنهم كانوا بقية ثمود قوم صالح.
وقال سعيد بن جبير وغيره: [هم] (2) أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، وكانوا مُبتلين بالعنقاء، وهي أكبر (3) ما تكون من الطير، سُميت بذلك؛ لطول عُنُقِها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له: فتح، وكانت تنْقَضُّ على صبيانهم فتختطفهم إن [أعوزها] (4) الصيد، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأُهلكوا (5) .
وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر قعوداً عليها، وكانت لهم مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فوجّه الله إليهم شعيباً فتمادوا في طغيانهم، فانهارتْ البئر فخُسف بهم (6) .
وقيل: هم أصحاب الأخدود.
ويروى عن علي عليه السلام: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة، فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهوذا بن يعقوب، فحفروا له بئراً وألقوه فيها،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/14)، وابن أبي حاتم (8/2695). وذكره السيوطي في الدر (6/256) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في ب: أعظم.
(4) ... في الأصل: أعزها. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/90) بأقصر منه، وأبو حيان في البحر (6/457)، والآلوسي في روح المعاني (19/20).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/341)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/90).(1/335)
فهلكوا (1) .
{ وقروناً بين ذلك كثيراً } المعنى: وأهلكنا قروناً بين ذلك المذكور كثيراً.
{ وكُلاً } منصوب بفعل مضمر، أي: بيّنا كُلاً (2) ، على معنى: بيّنا أحوالهم؛ لأن ضَرْبَ المثل يُبيّن أحوالهم.
{ وكلاً تَبَّرْنا تَتْبيراً } التَّتْبير: التكسير والتفتيت، ومنه: التِّبْر: وهو كُسَارُ الذهب والفضة (3) .
قوله تعالى: { ولقد أتوا على القرية } يعني: كفار مكة على القرية { التي أمطرت مطر السوء } وهي [سَدُوم] (4) -قرية قوم لوط التي رُميت بالحجارة-، { أفلم يكونوا يرونها } في أسفارهم فتُحدث لهم رؤيتهم إياها
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/90).
... وقد ذكر الطبري بعض هذه الأخبار في تفسيره (19/14)، ثم عقب عليها بقوله: والصواب من القول في ذلك قول من قال: هم قوم كانوا على بئر، وذلك أن الرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك، ومنه قول الشاعر:
... ... ... ... سبقت إلى فرط باهل ... ... تنابلة يحفرون الرساسا
... يريد أنهم يحفرون المعادن، ولا أعلم قوماً كانت لهم قصة بسبب حفرة ذكرهم الله في كتابه إلا أصحاب الأخدود، فإن يكونوا هم المعنيين بقوله: { وأصحاب الرس } فإنا سنذكر خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلى سورة البروج، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبراً إلا ما جاء من جملة الخبر عنهم أنهم قوم رسوا نبيهم في حفرة.
(2) ... انظر: الدر المصون (5/255).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: تبر).
(4) ... في الأصل: سندوم. والتصويب من ب.(1/336)
اعتباراً وانزجاراً (1) .
ثم ذكر السبب الموجب لتمردهم واجتراءهم على التكذيب فقال: { بل كانوا لا يرجون نشوراً } أي: لا يخافون.
وقيل: لا يتوقّعون بعثاً بعد الموت.
وقال الزجاج (2) : الذي عليه أهل اللغة: أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإنما المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير فركبوا المعاصي.
#sŒخ)ur رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
__________
(1) ... في ب: وازدجاراً.
(2) ... معاني الزجاج (4/69).(1/337)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا اححب
قوله تعالى: { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هُزُءاً } (1) مهزوءاً به، أو موضع هزء، أو ذا هزء.
ثم ذكر ما يقولونه من الاستهزاء فقال: { أهذا الذي بعث الله رسولاً } وهو على إضمار القول، تقديره: قائلين أهذا الذي بعثه الله رسولاً.
{ إن كاد ليضلنا } "إنْ" هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، { عن آلهتنا } أي: عن عبادة آلهتنا، فحذف المضاف { لولا أن صبرنا عليها } أي: على عبادتها.
وفي هذه الآية دليل واضح على قوة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبذله غاية وسعه في استعطافهم واستمالتهم إلى الإسلام.
__________
(1) ... وقرأ حفص: "هُزُواً"، انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:329).(1/338)
{ وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً } أهم أم المؤمنون. وهذا وعيد شديد لهم.
قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } استفهام في معنى التعجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من فرط جهلهم، حيث تركوا عبادة من خلقهم ورزقهم، وأطاعوا أهواءهم في عبادة أحجار لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تعلم من عَبَدَها وأطاعها ممن رفضها وأضاعها، يتنقَّلُون عنها ذهاباً مع ميل أنفسهم في استحسان حَجَر.
قال سعيد بن جبير: كان أهل الجاهلية يعبدون الحَجَر، فإذا رأوا أحسن أخذوه وتركوا الأول (1) .
{ أفأنت تكون عليه وكيلاً } المعنى: لست عليه وكيلاً ولا حفيظاً تحفظه من اتّباع هواه.
{ أم تحسب أن أكثرهم } [يعني: أهل مكة. و"أم" هاهنا منقطعة، المعنى: بل أتحسب أن أكثرهم] (2) { يسمعون أو يعقلون } سلبهم الله تعالى وصْفَي السمع والعقل؛ لعدم انتفاعهم بهما.
{ إن هم إلا كالأنعام } ليس لهم [هَمٌّ] (3) إلا الأكل والشرب وركوب أهوائهم، أو يكون الجامع بينهم وبين الأنعام في الشَّبَه أنهم يسمعون الصوت
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2699). وذكره الطبري (19/17) بلا نسبة، والسيوطي في الدر (6/260) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... زيادة من ب.(1/339)
ولا يفهمون المعنى.
{ بل هم أضل سبيلاً } من الأنعام؛ لأنها تهتدي لمراعيها وتجتنب ما يؤذيها، وتنقاد لأربابها الذين يقومون بعَلَفِها وينهضون بكُلَفها.
ِNs9r& تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا احذب
قوله تعالى: { ألم تر إلى ربك } إلى صُنْع ربك وقدرته، { كيف مد الظل } أي: بسطه، والمراد بالظل هاهنا: ما كان منه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.(1/340)
{ ولو شاء لجعله ساكناً } مقيماً لا يزول ولا يتحرك بطلوع الشمس، { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } ؛ لأن الأشياء تُعْرَف بأضدادها، فلولا الشمس ما عُرف الظل، ولولا النور ما عُرفت الظُّلْمَة.
وقيل: معنى كون الشمس دليلاً: أن الناس يستدلّون بها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان، وزائلاً ومتّسعاً ومتقلّصاً، فيبْنُون على حسب حاجاتهم إلى الظل.
{ ثم قبضناه } أي: قبضنا الظل بطلوع الشمس { إلينا قبضاً يسيراً } أي: خفياً على مهل، فتنسخه الشمس شيئاً فشيئاً لمصالح العباد، ولو قُبِضَ دفعة واحدة لتعطلت أكثر منافع الخلق بالظل والشمس جميعاً.
قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً } ساتراً بظلمته الأشياء مشتملاً عليها اشتمال اللباس على لابسه { والنوم سباتاً } .
قال الزجاج (1) : السُّبَات: أن ينقطع عن الحركة والتروُّح في بدنه، أي: جعل نومكم راحةً لكم.
{ وجعل النهار نشوراً } قال ابن عباس: ينتشرون فيه لابتغاء الرزق (2) .
وقال الزمخشري (3) : السُّبات: الموت، والمسْبُوت: الميت؛ لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله: { وهو الذي يتوفاكم بالليل } [الأنعام:60].
فإن قلت: هلاَّ فسرته بالراحة؟
__________
(1) ... معاني الزجاج (5/272).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/342)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/94).
(3) ... الكشاف (3/288-289).(1/341)
قلتُ: النشور في مقابلته يأباه إباء العَيُوف الورد وهو مُرنّق.
قلتُ: والعَيُوف: الناقة الكارهة للماء، والمُرنّق: المكدّر. يقال: في عيشه ترنِيق، أي: تكدير.
وعلى التحقيق: لم يأت الزمخشري بشيء؛ لأنه إن أراد حقيقة الموت فذاك محال، وإن أراد به الموت المجازي، فهو الذي قاله الزجاج وغيره، وإطلاق اسم الراحة عليه من باب تسمية الشيء بما يلازمه ويجاوره، والتفسير المذكور في النشور يعكر (1) على أصل مقصوده بالإبطال؛ لأنه [رام] (2) المقابلة بين الموت والحياة، فإذا لم يفسر النشور بها انحلّت الرابطة بينهما، على أني أقول: المقصود من هذه السياقة امتنان الله تعالى على عباده بالنِّعَم المذكورة، فإذا فُسِّر السُّبات بالموت مع قطع النظر عما ذكرناه اختلَّ المعنى وبطل المقصود، فتفهَّم ذلك.
uqèdur الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
__________
(1) ... في هامش ب: أصل العكر: من الاعتكار، وهو الازدحام والكثرة. وقيل: هو العادة والدَّيْدَن، وكأنه هاهنا بمعنى الرجوع. (انظر: اللسان، مادة: عكر).
(2) ... في الأصل: أصل. والتصويب من ب.(1/342)
طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا اخةب
وما بعده مفسر في الأعراف (1) إلى قوله تعالى: { ماءً طهوراً } .
قال الأزهري (2) : الطَّهُور في اللغة: الطَّاهِر المطهِّر، والطَّهُور: ما يُتَطَهَّر به؛ كالوضوء الذي يُتوضأ به، والفُطور الذي يُفْطَرُ عليه.
{ لنحيي به بلدةً ميتاً } وقرأتُ لأبي جعفر: "مَيِّتاً" بالتشديد (3) ، هنا وفي الزخرف (4) وقاف (5) .
__________
(1) ... آية رقم: 57.
(2) ... تهذيب اللغة (6/172).
(3) ... النشر (2/224)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:329).
(4) ... آية رقم: 11.
(5) ... آية رقم: 11.(1/343)
فإن قيل: فما بالُ الصفة غايرت الموصوف فجاءت بلفظ التذكير، والموصوفُ مؤنثٌ؟
قلتُ: البلدة في معنى البلد أو المكان، والمعنى: لنحيي به بلداً ميتاً بالجدب فيصير مُهْتَزَاً بأنواع النبات.
قال كعب: المطر روح الأرض (1) .
{ ونُسْقِيَه } وقرأتُ لعاصم من رواية المفضل عنه: "ونَسْقِيَه" بفتح النون (2) ، من سقى وأسقى.
وقد سبق القول عليه في الحِجْر (3) .
والمعنى: نُسقي من ذلك بعض الذي خلقنا.
ثم فسّر ذلك البعض فقال: { أنعاماً وأناسي كثيراً } .
فإن قيل: لم خصَّ الأنعام من بين سائر الحيوانات بالذِّكْر؟
قلت: لأنها معظم أموالهم، ومتعلق آمالهم، ومادة متاعهم، وانتفاعهم في سهلهم وبقاعهم (4) ، فكان الإنعام عليهم بسقي الأنعام التي لهم، كالإنعام عليهم بسقيهم.
فإن قيل: لم بدأ بذكر الأنعام وقدَّمه على الأناسي؟
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (13/56).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:329).
(3) ... آية رقم: 22.
(4) ... في ب: ويَفَاعِهِم.(1/344)
قلت: لأنها السبب في بقائهم، فكان [لها] (1) مرتبة التقديم في الذِّكْر، أو لأنها إذا سُقيت لأجلهم كانوا هم أولى وأجدر أن يُسْقَوا.
قال الزجاج (2) : الأناسي: جمع إنْسِي، مثل: كُرْسي وكَرَاسِي. ويجوز أن يكون جمع إنسان، وتكون الياء بدلاً من النون، الأصل: أنَاسِين، مثل: سَرَاحين.
فعلى هذا الوجه الثاني الذي ذكره الزجاج؛ يكون قد أدغم الياء في الياء.
قال الزمخشري (3) : ونحوه: ظرابيّ في ظَرِبان، على قلب النون ياء، والأصل: ظَرَابِين.
قلتُ: الظَّرِبَان: دُويبةٌ شديدٌ نتنُ ريحها، وقد قيل: إنها إذا وصلت إلى معاطن الإبل تفرّقت الإبل من نَتْنِها، وإن مَرّ بها إنسان وقت إرسالها الريح عبقت الرائحة بثوبه حتى يَخْلُق، وأنشدوا:
كأنَّ ريحَ دَبِراتٍ خَمْسِ ... ... وظَربَانٌ بينهن يَفْسِي
ريحُ ثَناياها بُعيدَ النَّعْس (4)
وقد قرأ أبو مجلز: "وأناسِيَ" (5) ، بحذف ياء أفاعيل، كقولك: أناعم في أناعيم.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... معاني الزجاج (4/71).
(3) ... الكشاف (3/290).
(4) ... في هامش ب: كأنه أراد هاهنا بالنعس: النوم.
(5) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/94-95).(1/345)
قوله تعالى: { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } أي: صرَّفنا المطر بين الأناسي مرة لهؤلاء [ومرة لهؤلاء] (1) ليتفكروا في قدرتي وعظمتي فيحذروا، وفي نعمتي عليهم وإحساني إليهم فيشكروا.
وقرأ حمزة والكسائي: "ليذكروا" بالتخفيف (2) ، { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } .
قال جمهور المفسرين: هم الذين يقولون: مُطِرْنا بنَوْء (3) كذا وكذا (4) .
قال الزجاج (5) : جعلهم بذلك كافرين.
قال صاحب الكشاف (6) : إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي [والأنواء] (7) من خلق الله: فهو كافر، وإن كان يرى أن الله تعالى خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر.
وفي الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني قال: ((صلى لنا رسول
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/212)، والحجة لابن زنجلة (ص:511)، والكشف (2/47)، والنشر (2/307)، والإتحاف (ص:329).
(3) ... النوء: النجم إذا مال للمغيب كانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها فتقول: مطرنا بنوء كذا (اللسان، مادة: نوء).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/343) بلا نسبة، والسيوطي في الدر (6/264) وعزاه لسنيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج عن مجاهد.
(5) ... معاني الزجاج (4/71).
(6) ... الكشاف (3/292).
(7) ... في الأصل: الأنواء. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/346)
الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (1) .
ِqs9ur شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/290 ح810)، ومسلم (1/83 ح71).(1/347)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا اخحب
قوله تعالى: { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } يتضمن إعلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكرامته على ربه وتفضيله على سائر الرسل (1) ، حيث قَصَرَ الرسالة إلى الخلق كافة عليه؛ لتتوفر دواعيه - صلى الله عليه وسلم - على الشكر، ويستشعر الصبر على ما حُمّل من أعباء الرسالة وأثقال النبوة.
{ فلا تطع الكافرين } فيما يدعونك إليه [ويراودونك] (2) عليه. وهذا من باب الإلهاب والتهييج، { وجاهدهم به } أي: بالقرآن { جهاداً كبيراً } .
قوله تعالى: { وهو الذي مرج البحرين } قال الزجاج (3) : خلّى بينهما. تقول: مَرَجْتُ الدابةَ وأمْرَجْتُها؛ إذا خَلَّيْتُها تَرْعَى (4) ، ومنه الحديث: ((مَرَجَتْ عهودهم وأماناتهم)) (5) .
__________
(1) ... في ب: رسله.
(2) ... في الأصل: ويراودنك. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الزجاج (4/72).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: مرج).
(5) ... أخرجه أبو داود (4/123 ح4342)، وابن ماجه (2/1307 ح3957).(1/348)
[قال المفسرون: المعنى: أرسلهما في مجاريهما (1) .
{ هذا عذب فرات } مُفْرِطُ العذوبة] (2) حتى يضرب إلى الحلاوة، { وهذا ملح أجاج } مفرط في الملوحة.
{ وجعل بينهما برزخاً } حاجزاً من قدرته يمنعهما التمازج مع التمازج، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى.
{ وحجراً محجوراً } قال الفراء (3) : أي حراماً محرّماً أن يغلب أحدُهما صاحبه.
وقال الزمخشري (4) : هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ، وقد فسّرناها.
وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأنَّ كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول: حجراً محجوراً، كما قال الله تعالى: { لا يبغيان } [الرحمن:20]، فانتفاء البغي ثَمَّ كالتعوُّذ هاهنا، جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه، وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.
قوله تعالى: { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً } قال
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/343)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/96).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... معاني الفراء (2/270).
(4) ... الكشاف (3/292-293).(1/349)
علي عليه السلام (1) : "النسب": ما لا يحلّ نكاحه، و"الصِّهْرُ": ما يحلّ نكاحه (2) .
وقال الضحاك وقتادة ومقاتل (3) : النَّسَب سبعة، والصِّهْر خمسة، وقرؤوا: { حرمت عليكم أمهاتكم -إلى قوله تعالى-: من أصلابكم } (4) [النساء:23].
قال طاووس: الرضاعة من الصِّهْر (5) .
وقال ابن قتيبة (6) : "فجعله نسباً" أي: قَرابة النسب، "وصِهْراً" أي: قَرابة النكاح.
وقال صاحب الكشاف (7) : قَسَمَ البشر قسمين: ذوي نسب، أي: ذكوراً يَنْتَسِبُ إليهم، فيقال: فلان بن فلانة، وفلانة بنت فلان. وذوات صِهْر، أي: إناثاً يُصاهَرُ بهنّ، ونحوه: { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [القيامة:39].
وقال ابن سيرين: نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة،
__________
(1) ... ساقط من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/97).
(3) ... تفسير مقاتل (2/440).
(4) ... أخرجه الطبري (19/26) عن الضحاك. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/97).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2710). وذكره الماوردي (4/151)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/97).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:314).
(7) ... الكشاف (3/293).(1/350)
فهو ابن عمه وزوج ابنته، فكان نسباً وصِهْراً (1) .
{ وكان ربك قديراً } لا يمتنع عليه ما أراد.
فصل
قال أهل اللغة: كل شيء من قِبَل الزوج مثل: الأب والأخ، فهم الأحْماء، واحدهم: حِمىً، مثل: قِفاً، وحَمُو مثل أبو. قال الشاعر:
......................... ... ... هيَ ما كنَّتِي وتزعُمُ أني لها حَمُو (2)
وحمؤ بسكون الميم والهمز، وحَمٌ مثل أبٌ، وحَمَاةُ المرأة: أمُّ زوجها، لا لغة فيها غير هذه، وكل شيء من قبل المرأة فهم الأختان، والصِّهْر يجمع ذلك كله (3) .
وحكى ابن فارس (4) عن الخليل قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إلا أَخْتَان، ولأهل بيت المرأة إلا أَصْهار. ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم.
قال المعافى بن زكريا: ذهب قوم إلى التداخل والاشتراك، وهو أصح المذهبين عندي.
وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: محمدٌ النبي أخي
__________
(1) ... ذكره أبو حيان في البحر المحيط (6/464).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حما).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... معجم مقاييس اللغة (3/315).(1/351)
وصهري. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أبو زوجته. ويدلك على ذلك (1) قولهم: أصهرَ فلانٌ إلى فلانٍ، وبين القوم مُصاهرة.
قال غيره: فسمّيت المناكح صِهْراً؛ لاختلاط الأنساب بها، كما يختلط الشيء إذا صُهِرَ، والصَّهَرُ: إذابة الشيء (2) .
tbrك‰ç6÷ètƒur مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ
__________
(1) ... في ب: هذا.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: صهر).(1/352)
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ادةب
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم } : سبق تفسيره، { وكان الكافر على ربه ظهيراً } أي: معيناً للشيطان ومُظاهراً له على ربه بالعداوة.
وقيل: هو على حذف المضاف، أي: على أولياء ربه ظهيراً.(1/353)
وقيل: "ظهيراً": ذليلاً مهيناً، من قولك: ظهرتُ به؛ إذا جعلته وراء ظهركَ ولم تلتفت إليه (1) .
وجمهور المفسرين يقولون: هو أبو جهل لعنه الله (2) .
وقيل: يجوز أن يريد بالظَّهير: الجماعة؛ كقوله: { والملائكة بعد ذلك ظهير } [التحريم:4]، [ويريد] (3) بالكافر: الجنس، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور الله تعالى.
قوله تعالى: { وما أرسلناك إلا مبشراً } (4) أي: مبشراً بالجنة لمن أطاعك، { ونذيراً } بالنار لمن عصاك.
{ قل ما أسألكم عليه من أجر } أي: ما أطلب منكم على تبليغ ما أُرسلت به من جزاء فتتهموني [وتقولوا] (5) : إنما أراد ما عندنا من الأموال، { إلا من شاء } استثناء منقطع، على معنى: لكن من شاء، { أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } بإنفاق ماله في مرضاته فعل ذلك.
قال صاحب الكشاف (6) : مثال: "إلا من شاء"، والمراد: إلا فعل من شاء،
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: ظهر).
(2) ... أخرجه الطبري (19/27)، وابن أبي حاتم (8/2711). وذكره السيوطي في الدر (6/67) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الشعبي وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن عطية وعزاه لابن المنذر.
(3) ... في الأصل: أو يريد. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: { ونذيراً } ، وستأتي بعد.
(5) ... في الأصل: وتقوا. والتصويب من ب.
(6) ... الكشاف (3/293).(1/354)
واستثنائه عن الأجر، قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت لك، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوَّره هو بصورة الثواب، وسماه باسمه، فأفاد فائدتين:
إحداهما: قَلْعُ شُبْهَةِ الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثواباً فإني أطلب الثواب.
والثانية: إظهار الشفقة البالغة، وأنك إن حفظت مالك اعتدَّ بحفظك ثواباً.
قوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } أمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يفوض أمره إليه، معتصماً به من كيد الكَفَرة ومكرهم، ومستكفياً به من شرهم، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت، هو الذي ينبغي أن يُسْتَنَد إليه ويُعْتَمَد عليه.
قال بعض السلف: لا يصح لذي عقل أن يَثِقَ بعد هذه الآية بمخلوق، وصحبتُ شيخاً من العاملين لله [والمتنسّكين] (1) بالعلم والمتمسكين بالورع في سفر بطريق الشام، فنزلنا قريةً فعرفه بها رجل من ذوي اليسار، فقال: أنتم الليلة أضيافي، فقال له الشيخ: وليلة غدٍ أضياف من نكون؟ يشير بذلك إلى نفي الاعتماد على من هو بعَرَضِيَّةِ الفناء والنفاد، ووجوب الاستناد في طلب القُوت إلى الحي الذي لا يموت.
وسمعتُ الشيخ أبا الخطاب بن هلال الرسعني -جدّ أولادي لأمهم-
__________
(1) ... في الأصل: المتنسكين. والتصويب من ب.(1/355)
يقول: عجبتُ لمن يرائي تراباً أن يطلب منه ثواباً.
وما بعده ظاهر مفسر إلى قوله تعالى: { الرحمن فاسئل به خبيراً } ، قرأ الأكثرون: "الرحمنُ" بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، خبره ما بعده، بشرط أن يكون الضمير في "به" للرحمن.
الثاني: أنه خبر لقوله: { الذي خلق السموات } .
الثالث: أنه بدلٌ من المستكنّ في "استوى" (1) .
وقُرئ: "الرحمنِ" بالجر (2) ، صفة "للحي الذي لا يموت".
واختلفوا في المعنى؛ فقال ابن السائب معناه: فاسأل الخبير بذلك، يعني: بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش (3) .
وقيل: الباء بمعنى: "عن"، والضمير للرحمن، أي: فاسأل عن الرحمن خبيراً.
قال علقمة:
فإنْ تسألوني بالنساءِ فإنني ... ... بصيرٌ بأدْوَاءِ النساءِ طَبيبُ (4)
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/164)، والدر المصون (5/260).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/260)، والبحر (6/465)، وهي قراءة زيد بن علي.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/344).
(4) ... البيت لعلقمة بن عبدة. انظر: السبع الطوال (ص:335)، والهمع (2/22)، والمفضليات (ص:773)، واللسان (مادة: طبب)، والبحر (6/466)، والقرطبي (13/63)، وزاد المسير (6/98، 8/358)، وروح المعاني (19/38).(1/356)
أي: عن النساء.
فعلى هذا؛ إما أن يراد بالخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيره بخطابه، كقوله تعالى: { فإن كنت في شك } [يونس:94].
فإن كان المراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالخبير هو جبريل عليه السلام، في قول ابن عباس (1) .
وقال مجاهد: هو الله عز وجل، على معنى: فسلني فإني الخبير (2) .
وإن أريد به غيره، فالمعنى: فاسأل رجلاً خبيراً، أي: عالماً بما تسأله عنه.
وقيل: الضمير في "به" يرجع إلى ما دلَّ عليه "فاسأل"، وهو السؤال، كما قال:
إِذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... ... ........................... (3)
أي: إلى السفه، ودل عليه السفيه.
المعنى: فاسأل بسؤالك [خبيراً] (4) أيها الإنسان.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/98).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/98-99).
(3) ... صدر بيت، وعجزه: (وخَالَفَ والسفيهُ إلى خِلاف). انظر: الخصائص (3/49)، والمحتسب (1/170)، ومجالس ثعلب (1/60)، وأمالي ابن الشجري (1/68)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (1/244)، وأمالي المرتضى (1/145)، والهمع (1/65)، والخزانة (5/226)، والبحر المحيط (3/133)، والدر المصون (2/272، 4/148)، والطبري (4/189)، والقرطبي (4/290)، وزاد المسير (1/512)، وروح المعاني (12/164).
(4) ... زيادة من ب.(1/357)
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم } يعني: لكفار مكة { اسجدوا للرحمن } لا للصنم، { قالوا وما الرحمن } فأنكروه وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مُسيلمة الكذاب.
قال الزجاج (1) : "الرحمن": اسم من أسماء الله تعالى، مذكور في الكتب الأولى، ولكنهم لم يكونوا يعرفونه من أسماء الله تعالى، فلما سمعوه أنكروه، فقالوا: "وما الرحمن"؟
{ أنسجد لما تأمرنا } وقرأ حمزة والكسائي: "يأمرنا" بالياء (2) ، على معنى: لما يأمرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
و"ما" إن كانت مصدرية فلا حاجة إلى إضمار، وإن كانت بمعنى: الذي، فالتقدير: لما يأمرنا به. والاستفهام في معنى الإنكار، أي: لا نفعل ذلك.
{ وزادهم } ذكر الرحمن { نفوراً } عن الإيمان.
وكان سفيان الثوري رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه إلى السماء ثم يقول: إلهي زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً (3) .
x8u'$t6s? الَّذِي جَعَلَ فِي
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/73).
(2) ... الحجة للفارسي (3/212-213)، والحجة لابن زنجلة (ص:511-512)، والكشف (2/146)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:329)، والسبعة (ص:466).
(3) ... ذكره القرطبي في تفسيره (13/64)، والنسفي (2/287).(1/358)
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ادثب
قوله تعالى: { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } قال ابن عباس: يريد: بروج النجوم، يعني: منازلها الاثني عشر (1) .
وقد ذكرناها في الحِجْر (2) .
وقال الحسن ومجاهد: هي النجوم الكبار (3) .
وسميت بالبروج التي هي القصور العالية؛ لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسُكَّانِها، واشتقاق البرج من التبرُّج، وهو الظهور.
{ وجعل فيها سراجاً } يعني: الشمس.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/344)، والسيوطي في الدر (6/269) وعزاه للخطيب في كتاب النجوم.
(2) ... عند الآية رقم: 16.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/344).(1/359)
وقرأ حمزة والكسائي: "سُرُجاً" بضم السين والراء من غير ألف (1) ، وهي قراءة أصحاب ابن مسعود.
قال الزجاج (2) : أراد الشمس والكواكب العِظَام.
قال الماوردي (3) : لما اقترن بضوء الشمس وَهْجُ حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولما عُدم ذلك في القمر جعله نوراً فقال: { وقمراً منيراً } .
قوله تعالى: { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } هو فِعْلَة، من المخالفة، أي: كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض وهذا أسود. وهذا قول ابن عباس وقتادة (4) .
وقال مجاهد -في رواية عنه- وأهل اللغة: المعنى: أن أحدهما يخالف صاحبه (5) ، ومنه: { واختلاف الليل والنهار } [البقرة:164]. وأنشدوا قول زهير:
بها العينُ والآرامُ يمشينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُها ينهضنَ منْ كُلِّ مَجْثَمِ (6)
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/213)، والحجة لابن زنجلة (ص:513)، والكشف (2/146)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:466).
(2) ... معاني الزجاج (4/74).
(3) ... تفسير الماوردي (4/153).
(4) ... أخرجه الطبري (19/31) عن مجاهد، وابن أبي حاتم (8/2718) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/270) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(5) ... أخرجه الطبري (19/31)، وابن أبي حاتم (8/2719). وذكره السيوطي في الدر (6/270) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... البيت لزهير، انظر: شرح ديوان زهير (ص:5)، واللسان (مادة: خلف)، والقرطبي (7/242، 13/65)، والطبري (2/63، 19/32)، وزاد المسير (6/100)، وروح المعاني (19/42)، والماوردي (4/154)، وغريب القرآن (ص:314)، ومجاز القرآن (2/8).(1/360)
{ لمن أراد أن يذكّر } : يعتبر ويتَّعِظ.
وقرأ حمزة: "يَذْكُرَ" بالتخفيف (1) ، من الذِّكْر.
{ أو أراد شكوراً } قال الحسن رحمه الله: من فاته عمله من التذكّر والشكر بالنهار كان له في الليل مُسْتَعْتَبٌ، ومن فاته بالليل كان له في النهار مُسْتَعْتَبٌ (2) .
كٹ$t7دمur الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/213)، والحجة لابن زنجلة (ص:513)، والكشف (2/147)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:466).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2719)، والطبري (19/31) بنحوه. وذكره السيوطي في الدر (6/271) وعزاه لعبد بن حميد.(1/361)
وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِن عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ادذب
قوله تعالى: { وعباد الرحمن } مبتدأ، خبره: { الذين يمشون على الأرض هوناً } . ويجوز أن يكون "الذين يمشون" صفة لـ"عباد الرحمن"، والخبر: { أولئك يجزون الغرفة } (1) .
قال ابن قتيبة (2) : نسبهم الله تعالى إليه لاصطفائه إياهم.
ومعنى: "هَوْناً" مشياً رويداً، فهو صفة مصدر أو حال (3) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/165)، والدر المصون (5/262).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:315).
(3) ... انظر: الدر المصون (5/262).(1/362)
قال مجاهد: يمشون بالسكينة والوقار (1) .
وقال الحسن: يمشون علماء [حلماء] (2) . (3) .
{ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } قال علي بن فضال: لم ينتصب "سلاماً" على أنه حكاية، إذ لو كان حكاية لكان مرفوعاً، كما في قوله: { قال سلام } [هود:69].
وإنما المعنى: أنهم قالوا قولاً يسلمون به.
قال سيبويه (4) : المعنى: قالوا سداداً من القول.
قال سيبويه (5) : ولم يؤمر المسلمون في ذلك الوقت بالقتال، قال: وهي منسوخة بآية القتال.
قال علي بن فضال: لم يتكلم سيبويه في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية.
قلتُ: والصحيح أنها محكمة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/33)، وابن أبي حاتم (8/2721)، ومجاهد (ص:456)، والبيهقي في الشعب (6/346 ح8454). وذكره السيوطي في الدر (6/272) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) ... في الأصل: حكماء. والمثبت من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (19/34)، وابن أبي حاتم (8/2720).
(4) ... انظر: الكتاب (1/325).
(5) ... انظر: الكتاب (1/325).(1/363)
قال الحسن: لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم [حَلُمُوا] (1) . (2) .
قوله تعالى: { والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً } قال الزجاج (3) : كل من أدركه الليل فقد باتَ يبيتُ، نَامَ أو لم يَنَمْ، يقال: باتَ فلانٌ قَلِقاً.
والمعنى: يبيتون لربهم سُجداً في الصلاة وقياماً فيها.
وقال (4) ابن عباس: من صلّى ركعتين أو أكثر بعد العشاء قد بَاتَ لله ساجداً وقائماً (5) .
قال الحسن البصري: هذا وصف نهارهم وليلهم (6) .
قوله تعالى: { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً } لازماً دائماً، ومنه: الغريم؛ لإلحاحه وملازمته.
وللمفسرين في معنى الغرام عبارات ترجع إلى معنى واحد، وهو الهلاك اللازم، وأنشد الزجاج (7) :
__________
(1) ... في الأصل: حملوا. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (19/35)، وابن أبي حاتم (8/2723)، والبيهقي في الشعب (6/345 ح8452). وذكره السيوطي في الدر (6/273) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب.
(3) ... معاني الزجاج (4/75).
(4) ... في ب: قال.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/345).
(6) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/375).
(7) ... معاني الزجاج (4/75).(1/364)
ويومَ النِّسَارِ ويومَ الجِفَار ... ... كانَا عَذَاباً وكانَا غَرَاما (1)
النِّسَار والجِفَار: وقعتان من وقائع العرب، وأنشد غيره:
إنْ يُعاقِبْ يكنْ غَراماً وإن ... ... يُعْطِ جَزيلاً فإنه لا يُبَالي (2)
قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم (3) .
{ إنها ساءت مستقراً ومقاماً } أي: بئست موضع قرار وموضع إقامة هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إنَّ، وجعلها خبراً لها، ونَصَبَ "مستقراً ومقاماً" على الحال أو التمييز (4) .
وقوله: "إن عذابها" و"إنها ساءت" يجوز أن يكون حكاية لقولهم، وأن يكون من كلام الله تعالى.
قوله تعالى: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } قرأ نافع وابن
__________
(1) ... البيت للطرماح بن حكيم الخارجي. انظر البيت في: اللسان (مادة: غرم)، والدر المصون (5/262)، والبحر المحيط (6/470)، والقرطبي (17/219)، والطبري (19/36)، وزاد المسير (6/274)، وروح المعاني (19/45).
(2) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:167)، ومجاز القرآن (2/80)، واللسان (مادة: جزل)، والدر المصون (5/262)، والبحر (6/470)، والماوردي (4/155)، والقرطبي (13/72)، والطبري (19/35، 27/200)، وزاد المسير (2/316)، وروح المعاني (19/45).
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/58 ح34188، 7/188 ح35204)، والطبري (19/36)، وابن أبي حاتم (8/2723). وذكره السيوطي في الدر (6/274) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... انظر: التبيان (2/165)، والدر المصون (5/262).(1/365)
عامر: "يُقْتِروا" بضم الياء وكسر التاء، من أقْتَرَ يُقْتِرُ (1) .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء, وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء (2) .
قال أبو عبيدة (3) : هُنَّ ثلاث لغات، معناها: لم يُضَيِّقُوا في الإنفاق.
{ وكان } يعني: إنفاقهم { بين ذلك } أي: بين الإسراف والإقتار { قواماً } أي: عدلاً قصداً بين الغلو والتقصير، كما قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [الإسراء:29].
قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعّم واللذّة، ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يَسُدُّ عنهم الجوع ويُقوِّيهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويُكِنُّهُم من الحر والبرد (4) .
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/213-214)، والحجة لابن زنجلة (ص:513-514)، والكشف (2/147)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:466).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.
(3) ... لم أقف عليه في مجاز القرآن.
(4) ... أخرجه الطبري (19/38)، وابن أبي حاتم (8/2725). وذكره السيوطي في الدر (6/275) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) ... ذكره السيوطي في الدر (6/275) وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن في قوله: { لم يسرفوا ولم يقتروا } أن عمر بن الخطاب...(1/366)
قال (1) ابن عباس رضي الله عنه والحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج: الإسراف: النفقة في معصية الله وإن قلّ، والإقتار: منع حق الله (2) .
وقرئ شاذاً: "قِواماً" بكسر القاف (3) .
قال ثعلب: القَوام -بفتح القاف-: الاستقامة والعدل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرُّ (4) .
قال الزمخشري (5) : والمنصوبان -أعني: { بين ذلك قواماً } -: جائز أن يكونا خبرين معاً، وأن يجعل "بين ذلك" لغواً، و"قواماً" مُسْتَقِراً، وأن يكون الظرف خبراً، و"قواماً" حال مؤكدة.
وقد تَبعَ الزمخشري عبارة سيبويه، فإنه كان يُسَمِّي الظرف إذا وقع خبراً: مُسْتَقِراً، وإذا لم يقع خبراً: لغواً.
tûïد%©!$#ur لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
__________
(1) ... في ب: وقال.
(2) ... أخرجه الطبري (19/37). وذكره السيوطي في الدر (6/275) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر (6/471)، والدر المصون (5/264).
(4) ... انظر قول ثعلب في: زاد المسير (6/103).
(5) ... الكشاف (3/299).(1/367)
بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا اذتب
قوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } السبب في نزولها: ما أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خَلَقَكَ؟ قلتُ: ثم أي؟ قال:(1/368)
أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلتُ: ثم أي؟ قال: أن تُزَانِيَ [حليلة] (1) جارك، فأنزل الله تعالى تصديقها: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } )) (2) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: ((أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَسنٌ، لو تخبرنا أنَّ لما عملناه كَفَّارةً، فنزلت: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر... الآية)) (3) .
{ ومن يفعل ذلك } قال مقاتل (4) : هذه الخصال، { يلق أثاماً } .
قال الخليل وسيبويه: جزاء الأثام (5) .
قال ابن فارس (6) : الأَثَامُ -مقصورٌ-: الإثم، ويقال: العقوبة. وأنشد ابن قتيبة (7) :
جَزى اللهُ ابن عُروةَ حيثُ أمْسَى ... ... عَقُوقاً والعُقُوقُ له أَثَامُ (8)
__________
(1) ... في الأصل: بحليلة. والمثبت من الصحيحين، و ب.
(2) ... أخرجه البخاري (6/2739 ح7094)، ومسلم (1/91 ح86).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1811 ح4532)، ومسلم (1/113 ح122).
(4) ... انظر: تفسير مقاتل (2/442)، والوسيط (3/346).
(5) ... انظر: تهذيب اللغة للأزهري (15/160).
(6) ... مجمل اللغة (1/169).
(7) ... تفسير غريب القرآن (ص:315).
(8) ... البيت لبلعاء بن قيس الكناني، ويقال: لشافع الليثي وهو في: تهذيب اللغة (15/161)، والطبري (19/40)، واللسان، (مادة: أثم)، والقرطبي (13/76)، والبحر المحيط (6/472)، والدر المصون (5/264)، ومجاز القرآن (2/81)، والماوردي (4/158)، وزاد المسير (6/105)، والحجة للفارسي (3/216).(1/369)
وقال مجاهد وكثير من المفسرين: الأثام: واد في جهنم من دم وقَيْح (1) .
{ يضاعف له العذاب يوم القيامة } بشركه ومعاصيه، { ويخلد فيه مهاناً } ذليلاً حقيراً.
قرأ الأكثرون: "يُضاعفْ ويخلُدْ" بالجزم على البدل من "يَلْقَ"، ومثله قول الشاعر:
متى تأْتِنَا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأجَّجَا (2)
فأبدل: "تلمم" من "تأتنا".
وقرأ أبو بكر عن عاصم بالرفع على الاستئناف والقطع.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين وإسقاط الألف، غير أن ابن كثير جَزَمَ، وابن عامر رَفَعَ (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري عن مجاهد (19/44) ولفظه: وادياً في جهنم، وكذا في تفسير مجاهد (ص:456). وذكره السيوطي في الدر (6/277) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... البيت لعبد الله بن الحر، وهو في: اللسان (مادة: نور)، والقرطبي (1/384)، وزاد المسير (6/105)، وروح المعاني (19/48)، والدر المصون (5/48)، والبحر (6/472)، والحجة للفارسي (3/216)، وخزانة الأدب (9/90)، وشرح الأشموني (ص:440)، وشرح المفصل (10/20)، والكتاب (3/86)، والمقتضب (2/63)، وجمع الهوامع (2/128).
(3) ... الحجة للفارسي (3/215)، والحجة لابن زنجلة (ص:514)، والكشف (2/147)، والنشر (2/334)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:467).(1/370)
وقرأتُ لعاصم من رواية أبي زيد عن المفضل عنه: "ويُخْلَدْ" (1) بضم الياء وفتح اللام والجزم (2) .
قوله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } قال ابن عباس: قرأناها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سنتين: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ... الآية } ، ثم نزلت: { إلا من تاب ... الآية } ، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرِحَ بشيء فرحه بها، وبـ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } (3) [الفتح:1-2].
وقال ابن عباس: لما نزلت: { والذين لا يدعون... الآية } قال المشركون: ما يغني عنا إسلامنا وقد عَدَلْنا بالله وقَتَلنا النفس التي حرم الله وأتينا [الفواحش] (4) ؟! فنزلت: { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } (5) .
{ فأولئك يبدل الله سيئآتهم حسنات } وقرأتُ لعاصم من رواية أبان عنه: "يُبْدِلُ" بسكون الباء والتخفيف.
واختلف العلماء في معنى التبديل ومتى يكون؛ فقال ابن عباس والحسن
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: "فيه".
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (6/472).
(3) ... أخرجه الطبراني في الكبير (12/217 ح12935).
... قال الهيثمي في مجمعه (7/84): رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف بن مهران وقد وثقا وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات.
... وذكره السيوطي في الدر (6/279) وعزاه لابن المنذر والطبراني وابن مردويه.
(4) ... في الأصل: الفوحش. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1785 ح4487).(1/371)
وسعيد بن جبير المعنى: فأولئك يُبدّل الله قبائح أعمالهم بمحاسنها، فيبدلهم بالشرك إيماناً، وبالفجور إحصاناً، [وبِقَتْلِ] (1) المؤمنين المشركين (2) .
فعلى هذا: يكون التبديل واقعاً في الدنيا.
وقال سلمان الفارسي وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين: هذا التبديل كائن في الآخرة (3) .
قال عمرو بن ميمون: يُبدل الله تعالى سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات، حتى إن العبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي (4) .
وقال الحسن: ودَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذنوب، فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: { فأولئك يبدل الله سيئآتهم حسنات } (5) .
ويدل على صحة هذا المذهب: ما أخبرنا به أبو علي بن عبدالله بن الفرج في كتابه، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي بن المذهب،
__________
(1) ... في الأصل: بقتل. والتصويب من ب.
(2) ... أخرج نحوه ابن أبي حاتم (8/2734). وذكره السيوطي في الدر (6/280) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2735) عن علي بن الحسين، والطبري بنحوه (19/47) عن سعيد بن المسيب. وذكره السيوطي في الدر (6/280) وعزاه لعبد بن حميد عن علي بن الحسين.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/107)، والسيوطي في الدر (6/281) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/107).(1/372)
أخبرنا [أبو بكر القطيعي قال: أخبرنا] (1) عبدالله بن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد (2) ، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فتُعرض عليه ويخبأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا، وهو مُقرّ لا ينكر، وهو مشفق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة قال: فيقول: إن لي ذنوباً ما أراها، قال: فلقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتى بدتْ نواجذه)) (3) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن نمير عن أبيه عن الأعمش.
قوله تعالى: { ومن تاب } أي: ترك الذنوب نادماً على ما سلف منها، { وعمل صالحاً } فيما يستقبله، { فإنه يتوب إلى الله متاباً } أي: متاباً مرضياً مُكَفِّراً لخطاياه.
وقيل: المعنى: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعاً حسناً.
وقال ابن عباس: المعنى: "ومن تاب" ممن لم يقتل ولم يَزْنِ، "وعمل صالحاً" يريد: الفرائض، "فإنه يتوب إلى الله متاباً" [قال] (4) : يريد: أني فضّلتهم وقدّمتهم على من قاتل نبيي واستحلّ محارمي (5) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... المعرور بن سويد الأسدي، أبو أمية الكوفي، تابعي ثقة، كثير الحديث، عاش مائة وعشرين سنة (تهذيب التهذيب 10/207، والتقريب ص:540).
(3) ... أخرجه مسلم (1/177 ح190)، وأحمد (5/157 ح21430).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/347-348)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/108).(1/373)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا اذحب
قوله تعالى: { والذين لا يشهدون الزور } قال أكثر المفسرين: هو الشرك (1) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/48)، وابن أبي حاتم (8/2737) عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (6/282) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك.(1/374)
قال الزجاج (1) : الزور في اللغة: الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله.
وروي عن ابن عباس: أنه صنم كان للمشركين (2) .
وقال قتادة: مجالس الباطل بما يوهم أنه حق.
وقال علي بن أبي طلحة: يعني: شهادة الزور (3) .
فعلى هذا: هو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وقال محمد بن الحنفية: اللهو والغناء (4) .
وقال الربيع بن أنس: أعياد المشركين (5) .
وعن مجاهد: كهذين القولين (6) .
وقال ابن جريج: هو الكذب (7) .
وقال عمرو بن قيس: مجالس الخنا (8) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/425، و 4/77).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/109)، والسيوطي في الدر (6/282) وعزاه لابن مردويه.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/348)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/109).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2737). وذكره السيوطي في الدر (6/283) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2737). وذكره السيوطي في الدر (6/282) وعزاه للخطيب عن ابن عباس.
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2737).
(7) ... أخرجه الطبري (19/49).
(8) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2737). وذكره السيوطي في الدر (6/283) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/375)
{ وإذا مرّوا باللغو } وهو ما يجب أن يُلْقَى ويُطْرَح.
قال الحسن: المعاصي كلها (1) .
وقال مجاهد ومقاتل (2) : أذى المشركين وشتمهم (3) .
{ مرّوا كراماً } أي: مرّوا مرّ الكرماء مُعرضين عنهم، مُكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم؛ كقوله تعالى: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } [القصص:55].
قال عيسى - صلى الله عليه وسلم - : إياكم ومجالسة الخطّائين (4) .
قوله تعالى: { والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم } أي: وعظوا بالقرآن { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } .
قال ابن قتيبة (5) : لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوْها.
وقال الزجاج (6) : تأويله: إذا تُليت عليهم خرُّوا سجداً وبكياً، سامعين مبصرين لما أُمروا به ونُهُوا عنه، ودليل ذلك قوله تعالى: { وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجداً وبكياً } [مريم:58]. ومثل هذا من الشِّعْر:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/50). وذكره السيوطي في الدر (6/284) وعزاه لابن جرير.
(2) ... تفسير مقاتل (2/443).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/110).
(4) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/178).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:315).
(6) ... معاني الزجاج (4/77-78).(1/376)
بأيدي رجالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهُم ... ... ولم يَكْثُرِ القتلى بها حينَ سُلَّتِ (1)
وتقديره: بأيدي رجال شَامُوا سُيوفهم وقد كثرت القتلى.
ومعنى "لم يشيموا سيوفهم": لم يَغْمِدُوها.
فالتأويل: والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم خرُّوا ساجدين سامعين مبصرين.
وقريب من قول الزجاج قول صاحب الكشاف (2) : ليس هو بنفي للخرور وإنما هو [إثبات] (3) له، ونفي للصَّمَم والعَمَى، كما تقول: لا يلقاني زيد مُسَلِّماً، هو نفيٌ للسلام لا للِّقاء.
والمعنى: أنهم إذا ذُكّروا بها أكَبُّوا عليها حرصاً على استماعها، وأقبلوا على المذَكِّر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية.
قوله تعالى: { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين } قال الزمخشري (4) : إن قلت: "مِنْ" في قوله: { من أزواجنا } ما هي؟
قلتُ: يحتمل أن تكون بيانيّة، كأنه قيل: هَبْ لنا قرة أعين، ثم بُينت القُرَّة وفُسِّرت بقوله: "من أزواجنا".
قرأ الحرميان وابن عامر وحفص: "وذرِّيَّاتِنا" على الجمع. وقرأ
__________
(1) ... البيت للفرزدق. وهو في: اللسان (مادة: خرر، شيم)، وروح المعاني (18/168).
(2) ... الكشاف (3/301).
(3) ... في الأصل: إيثار. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... الكشاف (3/302).(1/377)
الباقون: "وذرِّيَّتِنَا" على التوحيد (1) .
فمن جَمَعَ حمله على لفظ الأزواج، ومن وَحَّدَ أراد الجمع أيضاً، فإن لفظ الذرية يصلح للواحد والجمع. قال الله تعالى: { ذرية ضعافاً } [النساء:9] فاكتفى عن الجمع لما كان جمعاً.
قال الفراء (2) : القُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينُه قُرَّة.
والمعنى: هب لنا من أزواجنا وذرياتنا أعقاباً يعملون بطاعتك تقرُّ بهم نفوسنا.
قال محمد بن كعب القرظي: ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله (3) .
وقال الحسن: والله ما طلب القوم إلا أن يطاع الله فتَقَرَّ أعينهم (4) .
وقيل: المعنى: سألوا الله أن يُلْحِقَ بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتمّ سرورهم.
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن نفير عن أبيه قال: ((جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرَّ به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/216)، والحجة لابن زنجلة (ص:515)، والكشف (2/148)، والنشر (2/335)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:467).
(2) ... معاني الفراء (2/274).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/349).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/111).(1/378)
فاستغضب، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيراً، ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوام كَبَّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يُجيبوه ولم يُصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدّقين لما جاء به نبيكم، فقد كُفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أشدّ حال بُعث عليها نبيٌ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرّق بين الحق والباطل، وفرّق بين الوالد وولده، إن كان الرجل ليرى والده وولده وأخاه كافراً، وقد فتح الله عليه قفْل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقرّ عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها لَلّتي قال الله عز وجل: { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } )) (1) .
قوله تعالى: { واجعلنا للمتقين إماماً } قال ابن عباس: أئمة يقتدى بنا (2) .
فإن قيل: كيف وَحَّدَ وهو يرجع إلى جماعة؟
قلتُ: اكتفى بالواحد عن الجمع؛ لدلالته على الجنس وعدم اللبس، كقوله تعالى: { ثم يخرجكم طفلاً } [غافر:67].
ويجوز أن يكون التقدير: اجعل كل واحد منا إماماً. ويجوز أن يكون مصدراً، من أَمَّ فلان فلاناً إماماً، كما تقول: قام قياماً، وصام صياماً. ذكر
__________
(1) ... أخرجه أحمد (6/2 ح23861).
(2) ... أخرجه الطبري (19/53).(1/379)
مجموع ذلك الزمخشري (1) وعلي بن فضال.
وقال مجاهد: المعنى: اجعلنا مؤتمّين بالمتقين مقتدين بهم (2) .
فعلى هذا يكون من مقلوب الكلام، أي: اجعل المتقين لنا إماماً.
والأول وجه الكلام.
أخبرنا الشيخ عبدالعزيز ابن منينا قراءة عليه وأنا أسمع بباب البصرة قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد، المعروف بقاضي المارستان الأنصاري، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن إبراهيم بن [مخلد] (3) البزاز، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير (4) إملاءً، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق (5) ، حدثنا محمد بن الحسين (6) ، حدثني إسماعيل بن إبراهيم
__________
(1) ... الكشاف (3/302).
(2) ... أخرجه الطبري (19/53). وذكره السيوطي في الدر (6/284-285) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... في الأصل: خلد. والتصويب من ب، وتاريخ بغداد (14/410).
(4) ... جعفر بن محمد بن نصير، أبو محمد الخلدي، حج ستين حجة، أسند جعفر الخلدي عن الحارث بن أبي أسامة وغيره، وسمع الكثير من الحديث، ولقي جماعة من المشايخ كالجنيد وغيره، وتوفي في يوم الأحد لتسع خلون من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة (صفة الصفوة 2/468-469).
(5) ... أحمد بن محمد بن مسروق، أبو العباس الصوفي، ويعرف بالطوسي، كان معروفاً بالخير والصلاح، توفي في يوم الأحد لعشر بقين من سنة تسع وتسعين ومائتين، وسنّه أربع وثمانون سنة -على ما ذكر-، ودفن في مقابر باب حرب (تاريخ بغداد 5/100-102).
(6) ... محمد بن الحسين بن شيخ، أبو جعفر البرجلاني، صاحب التواليف في الرقائق، من أهل بغداد، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 11/112، وميزان الاعتدال 6/117).(1/380)
الترجماني (1) قال: سمعت أبا جعفر المحوَّلي (2) ، وكان عابداً عالماً، يقول: حرام على قلب محبٍ للدنيا (3) أن يسكنه الورع الخفي، وحرام على نفسٍ عليها زبانية الناس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرام على كل عالمٍ لم يعمل بعلمه أن يتخذه المتقون إماماً (4) .
ڑپح´¯"s9'ré& يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي
__________
(1) ... إسماعيل بن إبراهيم بن بسام البغدادي، أبو إبراهيم الترجماني، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/237، والتقريب ص:105).
(2) ... نسبة إلى باب المحول من بغداد، سكن به فنسب إليه.
(3) ... في تاريخ بغداد: صحب الدنيا.
(4) ... أخرجه الخطيب البغدادي في: تاريخ بغداد (14/410). وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/390).(1/381)
لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا اذذب
قوله تعالى: { أولئك } يعني: الموصوفين بهذه الصفات من قوله: { الذين يمشون } .. إلى هاهنا، { يجزون الغرفة } قال ابن عباس: الجنة (1) .
وقال غيره: يريد: غرف الجنة، وهي العلالي، فَوَحَّدَ لما ذكرناه أولاً في "إماماً".
{ بما صبروا } على أذى المشركين وجهادهم حين أمروا بالجهاد، وعلى طاعة الله وعن معصيته.
{ ويَلْقَون فيها } قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "ويَلْقَوْن" بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، من لَقَى يَلْقَى، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو "تحيةً".
وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف (2) ، حملاً على الفعل الذي قبله؛ ليقع اللفظ بهما على وزن واحد.
{ تحيةً وسلاماً } قال ابن عباس: يُحيّي بعضهم بعضاً بالسلام، ويرسل
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2743) عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (6/285) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/112) عن ابن عباس.
(2) ... الحجة للفارسي (3/217)، والحجة لابن زنجلة (ص:515)، والكشف (2/148)، والنشر (2/335)، والإتحاف (ص:330)، والسبعة (ص:468).(1/382)
إليهم الربّ عز وجل بالسلام (1) .
{ خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً } سبق تفسيره.
قوله تعالى: { قل ما يعبأ بكم ربي } قال ابن عباس: ما يصنع بكم ربي (2) .
قال الزجاج وغيره من أهل اللغة (3) : تقول: ما عبَأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي [وزن] (4) ولا عددته شيئاً.
{ لولا دعاؤكم } أي: لولا إيمانكم (5) ، المعنى: لولا دعاؤه [إياكم] (6) .
وقيل: لولا عبادتكم (7) . رويا عن ابن عباس.
فالمعنى على هذا: أي مقدار لكم عند الله، لولا أنه خلقكم لتوحدوه وتعبدوه.
وقال ابن قتيبة (8) : في الآية إضمار، تقديره: ما يعبأ بعذابكم ربي لولا ما
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/349) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/112).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... معاني الزجاج (4/78).
(4) ... في الأصل: رزق. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه الطبري (19/55)، وابن أبي حاتم (8/2745). وذكره السيوطي في الدر (6/286) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(6) ... في الأصل: إيمانكم. والتصويب من ب.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/113).
(8) ... تأويل مشكل القرآن (ص:438).(1/383)
تدعونه [من دونه] (1) من الشريك والولد.
قوله تعالى: { فقد كذبتم } خطابٌ لأهل مكة في قول جمهور المفسرين. والخطاب بقوله: "يعبأ بكم ربي" للمؤمنين، وقيل: للكافرين.
قال صاحب الكشاف (2) : الخطاب يتوجه إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون، ومنهم مكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب.
{ فسوف يكون لزاماً } أي: فسوف يكون العذاب لزاماً (3) لكم.
قال ابن مسعود وأبي بن كعب في آخرين: هو يوم بدر (4) .
وهذا معنى قول ابن مسعود: خمس قد مضين: الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم (5) .
فالمعنى: أنهم قُتلوا في يوم بدر ولزمهم العذاب مُتَّصِلاً بعذاب الآخرة. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... زيادة من تأويل مشكل القرآن، الموضع السابق.
(2) ... الكشاف (3/303).
(3) ... في ب: لازماً.
(4) ... أخرجه الطبري (19/56-57)، وابن أبي حاتم (8/2746). وذكره السيوطي في الدر (6/287) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن السدي وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن ابن مسعود وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1785 ح4489)، ومسلم (4/2157 ح2798).(1/384)
سورة الشعراء
ijk
وهي مائتا آية وست وعشرون في المدني وسبع في الكوفي.
قال ابن عباس وقتادة: هي مكية، إلا أربع آيات نزلت بالمدينة، من قوله: { والشعراء يتبعهم الغاوون } إلى آخرها (1) .
$Oû،غ (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ
__________
(1) ... أخرجه النحاس في ناسخه (ص:607). وذكره الماوردي (4/163)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/114)، والسيوطي في الدر (6/288) وعزاه للنحاس.(1/385)
(5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ازب
قوله تعالى: { طسم } قرأ حمزة والكسائي بإمالة الطاء في أوائل السور الثلاث، وأظْهر النون من هجاء سين عند الميم حمزة وأبو جعفر على أصله في تقطيع الحروف (1) ، وقد نبّهنا على عِلَلِ ذلك فيما مضى.
ووجه إدغام النون من سين في الميم: اشتراك الحرفين في الغُنَّة.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/219)، والحجة لابن زنجلة (ص:516)، والكشف (1/66)، والنشر (2/19، 70)، والإتحاف (ص:331)، والسبعة (ص:470).(1/386)
ولأنه يُدغم في غير هذا فدُغم في هذا.
ووجه الإظهار: أن الحروف المقطّعة مبنيّة على الانفصال والوقف عليها، ولذلك لم تُعرب، فجرت على حكم الوقف عليها.
واختلف العلماء في تأويلها؛ فقال بعضهم: هي حروف من كلمات.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم الله تعالى به (1) .
وقال مجاهد: اسم السورة (2) .
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن (3) .
واختلف أرباب القول الأول في تأويله؛ فقال علي عليه السلام: لما نزلت "طسم" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((الطاء طور سيناء، والسين الإسكندرية، والميم مكة)) (4) .
وقال ابن عباس في رواية: الطاء طيبة، والسين بيت المقدس، والميم مكة (5) .
وقال جعفر الصادق عليه السلام: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/58)، وابن أبي حاتم (8/2747). وذكره الماوردي (4/163).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/350)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/115).
(3) ... أخرجه الطبري (19/58)، وابن أبي حاتم (8/2747). وذكره السيوطي في الدر (6/288) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/115).
(5) ... مثل السابق.(1/387)
المنتهى، والميم محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقال القرظي: أقسم الله بِطَوْلِهِ وسنائه وملكه (2) .
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { ألا يكونوا مؤمنين } أي: خيفةَ أو خشيةَ ألا يكونوا مؤمنين.
ثم أخبر أنه لو شاء أن يَضْطرَّهم بآية مُلْجِئةٍ لفعل ذلك فقال: { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية } .
قال قتادة: لو شاء لأنزل عليهم آية يَذِلُّون بها، فلا يلْوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله، فذلك قوله: { فظلت أعناقهم لها خاضعين } (3) .
فإن قيل: كيف عطف "فظلَّت" وهو ماض على "نُنَزِّل" وهو مضارع؟
قلت: قد أجاب عنه الزجاج فقال (4) : معناه: فتظلُّ؛ لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل، كقوله: إن تأتِنِي أكرمْتُك، معناه: أُكْرِمْك.
فإن قيل: كيف جاز وقوع "خاضعين" خبراً عن الأعناق؟
قلتُ: عنه أجوبة:
أحدها: أن أصل الكلام: فظلُّوا لها خاضعين، فأُقْحِمَتِ الأعناق لبيان موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلام على أصله.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/164)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/115).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/350)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/115).
(3) ... أخرجه الطبري (19/59)، وابن أبي حاتم (8/2750). وذكره السيوطي في الدر (6/288-289) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(4) ... معاني الزجاج (4/82).(1/388)
وقريبٌ منه قول الزجاج (1) : لما لم يكن الخضوع إلا بخضوع الأعناق، جاز أن يخبر عن المضاف إليه، كما قال الشاعر:
رأتْ مَرَّ السنينَ أخذْنَ مِنّي ... ... كَمَا أَخَذَ السِّرارُ من الهلال (2)
أخبر عن السنين وإن كان أضاف إليها المرور.
الثاني: أن الأعناق لما وُصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء، جُمع جَمع من يعقل؛ كقوله: { رأيتهم لي ساجدين } [يوسف:4].
الثالث: [أن] (3) المراد بالأعناق: الرؤساء والأكابر، فإنهم يُسَمَّون بذلك، كما يُسَمَّون رؤوساً وصدوراً ونواصي، قال الشاعر:
........................... ... في محْفلٍ من نَواصِي الخيلِ مَشْهُود (4)
الرابع: أن الأعناق: الجماعات. تقول: جاء عُنُقٌ من الناس، أي: جماعة، المعنى: [فظلَّتْ جماعاتهم] (5) للآية، خاضعين ذليلين خاشعين.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/82).
(2) ... هو لجرير، والبيت من شواهد النحو، وهو في ديوانه (ص:426)، والطبري (4/37، 12/157، 13/163، 19/62)، واللسان (مادة: خضع)، والقرطبي (7/264، 9/133، 13/90)، وزاد المسير (4/185، 6/116).
... والسرار: اختفاء الهلال آخر الشهر وأخذ السرار منه، يعني: نحوله كلما دنا لآخر الشهر. والشاهد أنه أعاد الضمير على "السنين" المضاف إليه.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... عجز بيت لأم قيس الضَّبّية، وصدره: (وَمَشْهَدٍ قَدْ كَفَيْتُ الغائِبينَ بِهِ). انظر: اللسان، مادة: (نصا)، وروح المعاني (12/138).
(5) ... في الأصل: فظلت أعناقهم أي: جماعاتهم. والمثبت من ب.(1/389)
الخامس: أن المعنى: فظلت أعناقهم لها خاضعين هم، فأضمرهم.
وما بعده مفسرٌ في أول الأنعام (1) وأول الأنبياء (2) إلى قوله تعالى: { أو لم يروا } يعني: المكذبين { إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } أي: من كل صنف ونوع حسن مما لا يقدر أحد على إنباته.
{ إن في ذلك } الإنبات المشار إلى كثرته والإحاطة به بكلمتي "كَمْ" و"كُلِّ" { لآية } لدلالة على عظمة الله ووحدانيته وقدرته على إحياء الموتى [وإيجاد] (3) ما توعدهم به، { وما كان أكثرهم مؤمنين } (4) أعلم الله سبحانه وتعالى أن أكثرهم لا يؤمن.
{ وإن ربك لهو العزيز } (5) المنتقم من أعدائه ومكذبي أنبيائه { الرحيم } بأهل طاعته ومصدقي أنبيائه.
ّŒخ)ur نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 4-5.
(2) ... عند الآية رقم: 2.
(3) ... في الأصل: وإجاد. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل زيادة: أي.
(5) ... في الأصل زيادة: { الرحيم } . وستأتي بعد.(1/390)
يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)(1/391)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) اثثب
قوله تعالى: { وإذ نادى ربك } أي: واتل عليهم يا محمد قصة { موسى } وحديثه مع فرعون والقبط وأقاصيص الأمم السالفة ليعتبروا بذلك.
{ أن ائت القوم الظالمين } يعني: القبط الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وعبادة فرعون، وظلموا بني إسرائيل باسترقاقهم واستخدامهم في الأعمال الشاقة، وسَوْمِهم سُوء العذاب، بذبح الأبناء واستحياء النساء.
ثم بيّن القوم الظالمين فقال: { قوم فرعون } .(1/392)
وقوله: { ألا يتقون } كلام مستأنف خارج مخرج التعجب لموسى من فرط جهلهم وظلمهم، وكونهم مع ذلك آمنين مطمئنين لا يخافون بطش الله تعالى وانتقامه، وسنّته في أمثالهم من الظَّلَمَة والفجرة.
فإن قيل: ما وجه قراءة من قرأ: "يَتَّقُونِ" بكسر النون (1) ؟
قلتُ: الأصل: "يتقونَنِي"، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء اكتفاء بالكسرة، أو على معنى: يا هؤلاء اتقون، كقوله تعالى: { ألا يا اسجدوا } [النمل:25] على قراءة الكسائي.
فإن قيل: ما وجه قراءة حماد بن سلمة: "ألا تتّقون" بالتاء (2) على المخاطبة؟
قلتُ: هو على إضمار القول، تقديره: أرأيت القوم الظالمين، فقل لهم: ألا تتقون، وإضمار القول كثير. وقد ذكرناه في مواضع.
أو هو على طريقة الالتفات إليهم بالجَبْهِ والتوبيخ، ونظيره: أن تشكوا جانياً إلى بعض أخصائه ثم تُقبل عليه عند احتداد مزاجك وغضبك وأنت في شكايتك [قائلاً] (3) : ألا تستحي! ألا تتَّقِي الله!. ذكر الأول أبو الفتح ابن جني (4) ، والثاني الزمخشري (5) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/269).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/269).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... المحتسب (2/127).
(5) ... الكشاف (3/308).(1/393)
{ قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري } بتكذيبهم إياي { ولا ينطلق لساني } للعقدة التي فيه، فاعتلَّ بثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق صدره، وحبْسَة لسانه.
قرأ الأكثرون: "يضيقُ" و"ينطلقُ" بالرفع، عطفاً على "أخافُ".
وقرأت ليعقوب الحضرمي: "ويضيقَ"، "ولا ينطلقَ" بالنصب فيهما (1) ، عطفاً على "يكذبون".
فإن قيل: على قراءة يعقوب؛ الخوف يكون لأمر متوقع، وحبْسَةُ اللسان في موسى وصف لازم له، فكيف قال: إني أخاف أن لا ينطلق لساني؟
قلتُ: لا يخلو إما أن يكون هذا القول من موسى بعد أن أُجيبت دعوته وحُلَّتْ عقدته أو قبله، فإن كان بعده زال الإشكال. وإن كان قبله فالمعنى: إني أخاف زيادة العُقْلَة التي لا يجامعها انطلاق اللسان.
فلما مَهَّدَ موسى عليه السلام العُذْرَ بين يدي مسألته، سأل ربه أن يؤيده بأخيه فقال: { فأرسل إلى هارون } أي: ابعث إليه جبريل واجعله رسولاً.
ثم استدْفَعَ ربه المحذور الذي كان يخافه بسبب قتل القبطي فقال: { ولهم عليَّ ذنب } أي: ولهم عليّ دعوى ذنب أو تَبِعَة ذنْب، وهو قتل القبطي الذي وكزه فقضى عليه، { فأخاف أن يقتلونِ } به.
فآمَنَهُ الله تعالى وأعطاه أمنيته بصيغةٍ تدلُّ على الدَّفْعِ وتُؤذنُ بالزَّجْر فقال: { كلا } أي: ارتدعْ يا موسى عن الإقامة على هذا الظن، فإني من
__________
(1) ... النشر (2/335)، والإتحاف (ص:331).(1/394)
ورائك بالحفظ والرعاية.
{ فاذهبا بآياتنا } أي: انطلق أنت وهارون [بمعجزاتنا] (1) { إنا معكم مستمعون } ما تقولان ويُقال لكما.
فإن قيل: هما اثنان، فكيف قال: "إنا معكم"؟
قلتُ: هو على معنى (2) الخطاب لهما ولمن عساه أن يكون معهما ومُنْضَمَاً إليهما، أو هو على مذهبهم في خطاب الواحد العظيم، أو الاثنين العظيمين بلفظ الجمع.
{ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } قال ابن قتيبة (3) : الرسول يكون بمعنى الجميع، كقوله: { هؤلاء ضيفي } [الحجر:68].
قال الزجاج (4) : المعنى: إنا رسالة، أي: ذوو رسالة رب العالمين، قال الشاعر:
لقد كَذَبَ الواشون ما بُحتُ عندهم ... بسِرٍّ ولا أرْسَلْتُهُم برسُول (5)
أي: برسالة.
وقال صاحب الكشاف (6) : يجوز أن يُوحَّدَ؛ لأن حكمهما لتساندهما،
__________
(1) ... في الأصل: بمعزاتنا. والتصويب من ب.
(2) ... ساقط من ب.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:316).
(4) ... معاني الزجاج (4/85).
(5) ... هو لكثيّر عزة، وهو في: اللسان (مادة: رسل)، والطبري (19/65)، والقرطبي (13/93، 18/262)، والماوردي (4/166)، وزاد المسير (6/118)، وروح المعاني (15/105، 19/67).
(6) ... الكشاف (3/311).(1/395)
واتفاقهما على شريعة واحدة [واتحادهما لذلك] (1) ، وللأُخُوَّة كان حكمهما واحداً، فكأنهما رسول واحد، أو أريد أن كل واحد منا رسول رب العالمين.
{ أن أرسل } أي: بأن أرسل { معنا بني إسرائيل } فاسألاه أن يخلي عنهم وأن يُطلقهم من الاستعباد وسوم العذاب وذبح الأولاد.
فلما بَلَّغا فرعون الرسالة أقبل على موسى فقال: { ألم نربّك فينا وليداً } صبياً صغيراً، سُمّي بذلك؛ لقرب عهده بالولادة، { ولبثت فينا من عمرك سنين } .
قال ابن عباس: ثماني عشرة سنة (2) .
وقال مقاتل (3) : ثلاثين سنة.
{ وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني: قتْله خبّازه القبطي.
وقرأ الشعبي: "وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ" (4) .
قال ابن جني (5) : والفِعْلَة كناية عن الحال التي يكون عليها، كالرِّكْبَة والمِشْيَة.
قال الزجاج (6) : الفتْح أجود وأكثر؛ لأنه يريد: قَتَلْتَ قَتْلَتَكَ على مذهب
__________
(1) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/351)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/119).
(3) ... تفسير مقاتل (2/447).
(4) ... انظر قراءة الشعبي في: الدر المصون (5/270).
(5) ... المحتسب (2/127).
(6) ... معاني الزجاج (4/86).(1/396)
المرّة الواحدة. وقراءة الشعبي على معنى: قتلت القِتْلَةَ التي قد عرفتها؛ لأنه قتله بِوَكْزِه، يقال: جلسْتُ جَلْسَةً، يريد: مرّة واحدة، وجلستُ جِلسة [بالكسر] (1) يريد: هيئة الجلوس.
قوله: { وأنت من الكافرين } جائز أن يكون في محل النصب على الحال (2) ، على معنى: قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين الذين تُكفِّرُهم الآن، أو وأنت كذلك من الكافرين بنعمتي.
وجائز أن يكون كلاماً مستأنفاً خارجاً مخرج التوبيخ لموسى والحكم عليه بكفر النعمة والتربية. وهذا معنى قول ابن عباس وأكثر المفسرين (3) .
وقيل: المعنى: وأنت من الكافرين بإلهيتي.
{ قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين } قال ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين: المعنى: وأنا من الجاهلين (4) ، يريد: وأنا من الجاهلين بمعالم النبوة وشرائع الهدي.
أو يكون المعنى: وأنا من الفاعلين فِعْلَ أولي الجهل والسَّفَه، كما قال يوسف لإخوته: { إذ أنتم جاهلون } [يوسف:89].
__________
(1) ... في الأصل: باكسر. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: الدر المصون (5/270).
(3) ... انظر: الطبري (19/66)، وابن أبي حاتم (8/2754)، والدر المنثور (6/291).
(4) ... أخرجه الطبري (19/67)، وابن أبي حاتم (8/2755)، ومجاهد (ص:459). وذكره السيوطي في الدر (6/291) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن قتادة وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/397)
وقال أبو عبيدة (1) : وأنا من الناسين، كقوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } [البقرة:282].
{ ففررت منكم لما خفتكم } أي: هربت منك ومن ملئك المؤتمرين بي ليقتلون، { فوهب لي ربي حكماً } علماً وفهماً. وقيل: نبوةً، { وجعلني من المرسلين } .
قوله تعالى: { وتلك نعمة تمنّها عليّ } إشارة إلى خصلة مبهمة يفسرها قوله: { أن عبّدت بني إسرائيل } .
ومحل: "أن عبدت" الرفع؛ لأنه عطف بيان لـ"تلك"، أو هو في محل النصب بنزع الحرف الخافض (2) .
واختلف العلماء في تأويل الآية: فتأوّلها الأكثرون على إنكار النعمة التي امتنّ بها فرعون على موسى، والتقدير: أتلك نعمة تمنّها عليّ أن استعبدت أهلي وأخذت أموالهم وذبحت أبناءهم، حتى ألجأت أمي إلى قذفي في اليمّ حتى أفضيتُ إليك، فربيتني لسبب يعد مثله نقمة لا نعمة.
وتأوّلها قوم على الاعتراف بنعمته، على معنى: هي نعمة تمنها أن عبدت بني إسرائيل ولم تستعبدني كما استعبدتهم، ونظيره في الكلام: أن تضرب أحد عبديك فيقول المتروك: هذه نعمة عليّ أن ضربت فلاناً، أي: وتركتني، لكنه حذف [للعلم] (3) به، وهذا معنى قول الفراء (4) .
__________
(1) ... انظر: مجاز القرآن (1/83).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/271).
(3) ... في الأصل: العلم. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: معاني الفراء (2/279).(1/398)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ مNن3ح !$t/#uن الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ(1/399)
اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ اجةب
{ قال فرعون وما رب العالمين } قال محمد بن إسحاق: استوصفه إلهه الذي أرسله إليه (1) .
فأجابه موسى بما يدل عليه من مخلوقاته فقال: { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } [وإنما] (2) ثَنَّى والسموات والأرض جمع ذهاباً إلى [الجنسين] (3) .
قال الزمخشري (4) : فإن قلت: ما معنى: { إن كنتم موقنين } وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟
قلت: معناه: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نَفَعَكُم هذا الجواب، وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به؛ لظهوره وإنارة دليله.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2756).
(2) ... في الأصل: ونما. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: الجنس. والتصويب من ب.
(4) ... الكشاف (3/314).(1/400)
{ قال } يعني: فرعون { لمن حوله } من أشراف قومه، قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساورة، وكانت للملوك خاصة { ألا تستمعون } هذه المقالة. قَصَدَ الخبيث بذلك إغراءهم بموسى، وأنه قد جاء بأمر شنيع وقول فظيع تجب المبادرة إلى إنكار مثله، فلم يُعرِّجْ موسى على تلبيسه وتدليسه، وأخذ في [الإفصاح] (1) بالحجة وإيضاح المحجَّة فقال: { ربكم ورب آبائكم الأولين } فعمَّ أولاً بقوله: { رب السموات والأرض وما بينهما } ، وخصَّ ثانياً بذكر أنفسهم وآبائهم؛ لأن أقرب ما ينظر فيه العاقل نفسه وما نشأ عنه وتولد منه، مع ما في ذلك من تنبيههم على نعم الله تعالى عليهم وإحسانه إليهم.
فلما [اشتدّت] (2) على اللعين مسالك الجواب أخذ في السفه فـ { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } .
وقوله: "إن رسولكم" تهكّم [من] (3) اللعين، وقد سبق ذكر أمثاله، فلم يحفل نبي الله موسى بهَذَيَان السفيه، بل أخذ في تأكيد حجته فـ { قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } يريد: مشرق النيّرين والكواكب [ومغربها] (4) ، وخصّهما بالذِّكر في جهة الاحتجاج مع دخولهما
__________
(1) ... في الأصل: الإصاح. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: استدلت. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: ومغربهما. والتصويب من ب.(1/401)
في عموم الحجة الأولى؛ لظهور دلالتهما على عظمة الله تعالى [وقدرته] (1) .
قال صاحب الكشاف (2) : لايَنَ أولاً بقوله: "إن كنتم موقنين"، فلما رأى منهم شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عَرْض الحُجَج خاشن وعارض: "إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون"، بقوله: "إن كنتم تعقلون".
ثم أخذ المخذول في تهديد موسى بعد انقطاعه وسفههه فـ { قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } أي: لأحبسنك مع من حبسته في السجن.
{ قال أوَ لَوْ جئتك بشيء مبين } أي: ظاهر تعرف به صدقي، يريد: المعْجز الذي أُيِّدَ به، وفيه إضمار، تقديره: أتفعل بي ذلك.
والواو في "أوَ لَوْ" واو الحال دخلت عليه همزة الاستفهام (3) .
tA$s% فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ
__________
(1) ... في الأصل: قدرته. والتصويب من ب.
(2) ... الكشاف (3/314).
(3) ... انظر: الدر المصون (5/272).(1/402)
بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا(1/403)
جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ(1/404)
الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ اختب(1/405)
وما بعده مُفَسَّرٌ في الأعراف (1) إلى قوله تعالى: { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } يعني: وقت الضحى يوم الزينة.
{ وقيل للناس } يعني: أهل مصر، { هل أنتم مجتمعون } . وهذا قول بعضهم لبعض.
قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية (2) .
قال الزمخشري (3) في قوله: "هل أنتم مجتمعون" المراد به منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرّك همته ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً:
هل أنتَ باعثُ دينارٍ لحاجَتِنا ... أو عبْد ربّ أخا عَوْن بن مخراق (4)
يريد: ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطئ به.
قلتُ: سيبويه يرويه (5) : "عبدَ رَبِّ" بالنصب، عطفاً على محل
__________
(1) ... عند الآية رقم: 106.
(2) ... أخرجه الطبري (19/72). وذكره السيوطي في الدر (6/293) وعزاه لابن جرير.
(3) ... الكشاف (3/317).
(4) ... البيت ينسب لجابر بن رألان السنبسي، ونسب أيضاً لجرير، ولتأبط شراً. وقيل: إنه مصنوع. انظر البيت في: الخزانة (3/476)، والعيني (3/563)، والطبري (1/263)، والقرطبي (15/259)، وروح المعاني (19/77)، والكشاف (3/317).
... والاستفهام هنا للاستحثاث.
... ودينار وعبد رب: رجلان. وأراد: عبد ربه، ولكنه ترك الإضافة وهو يريدها. والشاهد في البيت: نصب "عبد رب" حملاً على موضع "دينار".
(5) ... انظر: الكتاب (1/171).(1/406)
"دينار"، كأنه قال: باعثٌ ديناراً أو عبدَ ربّ، ولهذا نصب "أخا عون"، ولو كان عطفاً على لفظ "دينار" لقال: أخي عون.
{ لعلنا نتبع السحرة } في دينهم { إن كانوا هم الغالبين } .
قال الزمخشري (1) : الغرض الكلي: أن [لا] (2) يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية؛ لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى.
وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أرادوا بالسَّحَرَة: موسى وأخاه (3) ، فيكون تهكّماً واستهزاءً بهما.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { قالوا لا ضير } أي: لا ضَرَرَ علينا فيما تنالنا به من عذاب الدنيا.
قال ابن قتيبة (4) : هو من ضَارَه يَضُوره ويَضِيره، بمعنى: ضَرَّه.
{ إنا إلى ربنا منقلبون } فيجازينا بصبرنا على عذابك إيانا ظلماً وعدواناً، فنفوا ضرر ما توعدهم به من العذاب في جانب ما يرجونه في مقابلته من الثواب.
وقيل: المعنى: لا ضير علينا فيما تتوعدنا به؛ لأنه لا بُدَّ لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت، [والقتل] (5) أهون أسبابه.
__________
(1) ... الكشاف (3/317).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/124).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:317).
(5) ... في الأصل: والتقتل. والتصويب من ب.(1/407)
{ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا } أي: لأن كنا { أول المؤمنين } من رعية فرعون، أو من أهل المشهد بما جاء به موسى.
فإن قيل: فما وجه قراءة من قرأ: "إن كنا" بالكسر مع تحققهم [أنهم] (1) أول المؤمنين؟
قلتُ: جائز أن يكون بمعنى إذ، كقوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } [البقرة:278]. وقيل: هو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره المتحقق لصحته، ونظيره قول القائل لمن يؤخر جُعْله: إن كنت عملت لك فَوَفِّني حَقِّي، وأنشد أبو الفتح ابن جني (2) في معنى هذا:
فَإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ ... ... فَلَسْنا عَلى الإِسْلامِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ
* وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... المحتسب (2/128). والبيت لعبد الرحمن بن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل.(1/408)
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا tbqفàح !$tَs9 (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) اخزب
وما بعده مُفسر في طه (1) إلى قوله: { إنكم متبعون } يتبعكم فرعون وجنوده ليَحُولوا بينكم وبين الخروج من مصر.
{ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } قوماً يحشرون الجنود لإدراك بني إسرائيل.
{ إن هؤلاء } محكيٌ بعد قول مضمر، تقديره: قال إن هؤلاء، يعني: بني إسرائيل { لشرذمة قليلون } .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 77.(1/409)
قال المبرد: الشرْذِمة: القِطْعَةُ من الناس (1) .
وقال غيره: الشِّرذمة: الطائفة القليلة، ومنه ثوبٌ شراذم؛ للذي بَلِيَ وتقطَّع قِطَعاً.
وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً، فاستقلّهم فرعون بالنسبة إلى جنوده، فإنه خرج إليهم في جيش كانت مقدمته سبعمائة ألف.
قال ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث (2) .
{ وإنهم لنا لغائظون } لمراغمتهم إيانا وقلة اهتمامهم بأمرنا.
وقال مقاتل (3) : وإنهم لنا لغائظون بقتلهم أبكارنا.
وقال ابن جرير (4) : يحتمل (5) أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حُليهم.
قال الزجاج (6) : يقال: قد غاظني فلان، ومن قال: أغاظني؛ فقد لَحَن.
ونقل غيره: تقول: غاظني الشيء وأغاظني؛ إذا أغضبك (7) .
{ وإنا لجميع حذرون } وقرأ أهل الكوفة وابن عامر: "حاذرُون" (8) . قيل:
__________
(1) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (3/353).
(2) ... أخرجه الطبري (1/277)، وابن أبي حاتم (8/2771). وذكره السيوطي في الدر (6/300-301) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... تفسير مقاتل (2/452).
(4) ... تفسير الطبري (19/76-77).
(5) ... في ب: ويحتمل.
(6) ... معاني الزجاج (4/92).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: غيظ).
(8) ... الحجة للفارسي (3/221)، والحجة لابن زنجلة (ص:517)، والكشف (2/151)، والنشر (2/335)، والإتحاف (ص:332)، والسبعة (ص:471).(1/410)
إنهما بمعنى واحد.
قال أبو عبيدة (1) : يقال: رجل حَذِرٌ وحَذُرٌ وحَاذِرٌ.
وقيل: إن الحاذر: المستعدّ الذي يُحدد حذره ويتهيأ لما يخافه، والحَذِر: [المتيقّظ] (2) المخلوق كذلك.
قال الزجاج في التفسير (3) : إن معنى: "حاذرون": مُؤْدُون، أي: ذوو أداة، أي: سلاح، والسلاح أداة الحرب، فالحاذر: المستَعِدُّ، والحذِرُ: المتيقِّظ.
وقرأ ابن أبي [عمّار] (4) : "حَادِرُون" بالدال المهملة (5) .
قال ابن جني (6) : الحادِرُ: القوي الشديد، ومنه: الحادرة الشاعر.
قوله تعالى: { فأخرجناهم } يعني: فرعون وقومه { من جنات وعيون } .
قال مقاتل (7) : بساتين وأنهار جارية.
{ وكنوز } قال مجاهد: سماها كنوزاً؛ لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/86).
(2) ... في الأصل: المستيقظ. والتصويب من ب.
(3) ... معاني الزجاج (4/92).
(4) ... في الأصل: عامر. والتصويب من ب.
(5) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/274).
(6) ... المحتسب (2/128).
(7) ... تفسير مقاتل (2/452).(1/411)
الله (1) .
{ ومقام كريم } سبق تفسيره في مواضع.
والمراد: المجالس البهيّة الشريفة.
قال الضحاك: يعني: المنابر (2) .
وقيل: السرر في الحجال.
{ كذلك } جائز أن يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، [أي] (3) : الأمر كذلك وكما وصفنا. وجائز أن يكون منصوباً، على معنى: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. وجائز أن يكون مجروراً على أنه وصف لـ"مقام" الذي كان لهم (4) .
{ وأورثناها بني إسرائيل } ، وذلك أن الله تعالى ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد أن أغرق فرعون وجنوده، وملَّكهم ما كان لهم من الأموال والمساكن.
وقال ابن جرير (5) : [ملكوها] (6) ولم يرجعوا إليها، وإنما سكنوا الشام.
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/387).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3288) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/298) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... انظر: الدر المصون (5/274).
(5) ... تفسير الطبري (1/314).
(6) ... في الأصل: مكلوها. والتصويب من ب.(1/412)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً(1/413)
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ادرب
{ فأتبعوهم مشرقين } أي: أدركوا موسى وأصحابه حين شرقت الشمس، أي: طلعت.
قال الزجاج (1) : يقال: أشرقنا؛ أي: دخلنا في وقت طلوع الشمس. وقد سبق ذلك في سورة الحجْر (2) .
{ فلما تراءى الجمعان } أي: تقابلا بحيث يرى أحدهما الآخر { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } فقال موسى ثقة بالله وبنصره إياه: { كلا } أي: ارتدعوا وازدجروا فلن يدركونا، { إن معي ربي } بالمعونة والنصر { سيهدين } إلى طريق النجاة.
{ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } فيه إضمار، تقديره: فضربه فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط، { فكان كل فِرْق } أي: كل جزء انفرق منه.
وقرئ شاذاً: "كل فِلْقٍ" (3) ، والمعنى واحد.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/92).
(2) ... عند الآية رقم: 73.
(3) ... وهي قراءة أبي المتوكل وأبي الجوزاء وعاصم الجحدري. انظر: زاد المسير (6/126)، والدر المصون (5/276).(1/414)
{ كالطود العظيم } أي: [كالجبل] (1) العظيم.
{ وأزلفنا ثَم الآخرين } أي: وأزلفنا حيث انفلق البحر الآخرين.
قال الزجاج (2) : "وأزلفنا": قرَّبْنا الآخرين من الغَرق، وهم أصحاب فرعون.
وقال أبو عبيدة (3) : "أزلفنا": جَمَعْنَا ثَمَّ الآخرين، قال: ومن ذلك سميت [مزدلفة] (4) جَمْع.
قال الزجاج (5) : وكلا القولين حسنٌ جميل؛ لأن جمعهم تقريبُ بعضهم من بعض. وأصل الزُّلْفَى في الكلام العربي: القُرْبَى.
وذكر أبو الفتح في المحتسب (6) : أن "الآخرين": موسى وأصحابه.
ولا أعلم أحداً من المفسرين ذكر هذا الوجه الذي ذكره، وهو بعيد من التحقيق.
وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعبدالله بن الحارث: "وأزْلَقْنَا" بالقاف (7) ، على معنى: [أزلَلْنا] (8) أقدامهم وأذهبنا عزّهم، كما قال:
__________
(1) ... في الأصل: كاجبل. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (4/93).
(3) ... مجاز القرآن (2/87).
(4) ... في الأصل: مزلفة. والتصويب من ب.
(5) ... معاني الزجاج (4/93).
(6) ... المحتسب (2/129).
(7) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/127)، والدر المصون (5/276).
(8) ... في الأصل: أزلنا. والتصويب من ب.(1/415)
تَدارَكتُما عَبْساً وقد ثُلَّ عرشُها ... وذبيان إذ زلَّتْ بأقدامها النَّعْل (1)
وجائز أن تكون القدرة الإلهية جعلت مسالك البحر مزلقة لهم ومدحضة لخيلهم، بعد أن كانت قُبيل ذلك يَبَسَاً لبني إسرائيل.
{ وأنجينا موسى ومن معه أجمعين } من فرعون وجنوده، { ثم أغرقنا الآخرين } وقد ذكرنا قصتهم في البقرة.
{ إن في ذلك } أي: في إهلاك فرعون وقومه بالتِطَامِ البحر عليهم بعد انفراقه اثني عشر طريقاً بضربة موسى بعصاه، { لآية } لعبرة لهم ولمن بعدهم. { وما كان أكثرهم مؤمنين } بوحدانية الله تعالى.
قال المفسرون: ولم يكن آمن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون، وخِرْبيلُ مؤمن آل فرعون، وفنَّة الماشطة، ومريم بنت موشما التي دلّت على عظام يوسف (2) .
{ وإن ربك لهو العزيز } المنتقم من أعدائه { الرحيم } بأوليائه.
م@ّ?$#ur عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
__________
(1) ... البيت لزهير. انظر: القرطبي (7/220)، وروح المعاني (19/89)، واللسان (مادة: عرش، ثلل) وفيه: "الأحلاف" بدل: "عبساً".
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/354-355)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/127).(1/416)
تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ اذذب
قوله تعالى: { واتل عليهم } أي: اقرأ يا محمد على قومك { نبأ إبراهيم } خبره مع أبيه وقومه، وحُسْن مجادلته إياهم على إثبات الوحدانية لله ونفي إلهية الأصنام.(1/417)
{ إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون } كان عليه السلام يعلم أنهم يعبدون الأصنام، لكنه استنطقهم؛ تمهيداً لما سَيُورده عليهم في معرض الاحتجاج على إيصال ما انتحلوه معبوداً من دون الله.
{ قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين } مقيمين على عبادتها نهاراً.
{ قال هل يسمعونكم } فيه إضمار، تقديره: هل يسمعون دعاءكم أو ندائكم، { إذ تدعون } .
وقرأ سعيد بن جبير وقتادة وعاصم الجحدري: "يُسْمِعُونكم" بضم الياء وكسر الميم (1) .
قال أبو الفتح ابن جني (2) : المفعول [هنا] (3) محذوف، أي: [هل] (4) يُسْمِعُونكم إذ تدعون جواباً عن دعائكم؟ يقال: دعاني فأَسمعتُه، أي: أسمعته جواب كلامه ودعائه.
قال (5) : وأما قراءة الجماعة: "يَسْمَعُونَكُم" فإنَّ "سمعْتَ" بابُها أن يتعدى إلى ما كان صوتاً [مسموعاً] (6) ؛ كقولك: سمعتُ كلامك، وسمعتُ حديثك، فإن وقعتْ على جوهرٍ [تعدت] (7) إلى مفعولين، ولا يكون الثاني منهما إلا
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/128)، والدر المصون (5/276).
(2) ... المحتسب (2/129-130).
(3) ... في الأصل و ب: من هذا. والتصويب من المحتسب (2/129).
(4) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(5) ... أي: ابن جني في المحتسب.
(6) ... زيادة من المحتسب (2/129).
(7) ... في الأصل و ب: تعدى. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.(1/418)
صوتاً، كقولك: سمعتُ زيداً يُحدِّثُ، ولا يجوز: سمعتُ زيداً يقُوم؛ لأن القيام ليس من المسموعات.
قال (1) : وأما قوله: "هل يَسْمَعُونَكُم إذ تدعون" فإنه على حذف المضاف، وتقديره: [هل] (2) يسمعون دعاءكم؟ ودلّ عليه قوله: "إِذْ تَدْعُون".
{ أو ينفعونكم أو يضرون } أي: هل ينفعونكم إن عبدتموهم، أو يضرونكم إن لم تعبدوهم. فألجأهم الانقطاع عند ظهور الحجة عليهم إلى الاعتصام بتقليد الآباء فقالوا: { بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدوٌ لي } أي: أعداء، أو كل واحد منهم عدو لي إن اتخذتهم آلهة وعبدتهم، { إلا رب العالمين } استثناء منقطع.
وقال ابن زيد: هو استثناء متصل؛ لأنهم [كانوا] (3) يعبدون الله تعالى مع آلهتهم (4) .
"د%©!$# خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي
__________
(1) ... أي: ابن جني في المحتسب.
(2) ... زيادة من المحتسب (2/130).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/128).(1/419)
هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ارثب
قوله: { الذي خلقني فهو يهدين } يريد هدايته بعد إتمام خلقه ونفخ الروح فيه، إلى كل ما يصلحه، وإلا فَمَنْ هداه إلى الاغتذاء بامتصاص الدم في ظُلَمِ الأحشاء وكيفية الرَّضْع بعد الوضع.
وقال المفسرون: يريد: فهو [يهدين] (1) إلى الدين والرشد لا أصنامكم (2) .
{ والذي هو يطعمني ويسقين } أي: يرزقني الطعام والشراب.
{ وإذا مرضت فهو يشفين } أضاف الخير المحض إلى الله تعالى، واستعمل معه حُسْن الأدب، فلذلك لم يقل: "أمْرَضَنِي". ومنه في قصة الخضر: { فأردت أن أعيبها } [الكهف:79]، [وقوله] (3) : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } [الكهف:82].
__________
(1) ... في الأصل: هدين. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/355)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/129).
(3) ... في الأصل: قوله. والتصويب من ب.(1/420)
فأضاف إرادة العيب إلى نفسه، والإرادة الثانية إلى الرب عز وجل.
فإن قيل: فما باله أضاف الإماتة إلى الله عز وجل في قوله: { والذي يميتني ثم يحيين } ؟
قلت: ليُقرِّرَ عندهم أن المميت هو الله عز وجل، وأنه لا أثر للأسباب التي يضيفون ما يترتب عليها إليها إلا بتقدير الله عز وجل، فإن القوم كانوا ضُلالاً عُبَّاد أوثان لا يهتدون إلى واجب القول في ذلك وأمثاله، ولذلك عقّبه بقوله: { ثم يُحْيين } يرشدهم إلى أنه يبعثهم بعد موتهم ليجازيهم على أفعالهم وأقوالهم.
{ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } أي: أرجو أن يغفر لي ما عساه يصدر مني، من صغيرة، فإن الأنبياء معصومون من الكبائر والرذائل.
وقال الحسن: هي قوله للكوكب: { هذا ربي } (1) [الأنعام:76].
وقال أكثر المفسرين: هي الكذبات الثلاث (2) ، وقد ذكرناها في سورة الأنبياء (3) .
قال صاحب الكشاف (4) : فإن قلت: لم علّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/355).
(2) ... وهي: قوله: { إني سقيم } ، وقوله: { بل فعله كبيرهم هذا } ، وقوله لسارة: هي أختي.
(3) ... عند الآية رقم: 63.
(4) ... الكشاف (3/325).(1/421)
وإنما تُغْفَرُ في الدنيا؟
قلتُ: لأن [أثرها] (1) يتبين يومئذ، وهو الآن خفي [لا] (2) يُعلم.
قلت: ويجوز أن تقع المغفرة يوم الدين، فإن ذلك لا يمنع منه نقل ولا عقل. وقد صح في حديث النجوى: ((وأنا أغفرها لك اليوم)) (3) . وقد ذكرت الحديث في سورة هود عليه السلام (4) .
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: ((يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يَصِل الرحم ويُطعم، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) (5) .
ةb>u' هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ
__________
(1) ... في الأصل: أكثرها. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: ولا. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه البخاري (2/862 ح2309)، ومسلم (4/2120 ح2768).
(4) ... (ص: 145).
(5) ... أخرجه مسلم (1/196 ح214).(1/422)
جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ارزب
قوله: { رب هب لي حكماً } قال ابن عباس: معرفةً بالله تعالى وبحدوده وأحكامه (1) .
وقال مقاتل (2) : يعني: الفهم والعلم.
{ وألحقني بالصالحين } وفّقني لعمل يَنْظِمُني في جملتهم ويُدخلني في زمرتهم، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فقال في موضع آخر: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة:130].
{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي: ثناءً حسناً في الذين يأتون من بعدي إلى يوم القيامة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/356).
(2) ... تفسير مقاتل (2/455).(1/423)
{ واجعلني من ورثة جنة النعيم } مفسرٌ فيما مضى.
فإن قيل: لم خصّ أباه بسؤال المغفرة له في قوله: { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } ؟
قلت: للموعدة التي وعدها إياه، على أنه قد قيل: إن أمه كانت مؤمنة، وقد حكيناه في آخر إبراهيم (1) عن الحسن البصري.
{ ولا تخزني يوم يبعثون } أي: لا تفضحني يوم يبعث الخلق لفصل القضاء.
ويجوز أن يعود الضمير في "يبعثون" إلى "الصالحين"، على معنى: يوم يبعث الضالون وأبي منهم وفيهم.
{ يوم لا ينفع مال ولا بنون } [بدل] (2) من "يوم يبعثون" (3) .
{ إلا من أتى الله بقلب سليم } قال الحسن: سليم من الشرك (4) .
وقال سعيد بن المسيب: "بقلب سليم" أي: صحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض (5) . وهذه الأقوال متحدة في المعنى.
وقال الجنيد: "سليم" بمعنى: لديغ من خوف الله (6) .
وقيل: سليم من البدعة، مطمئن على السنّة (7) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 41.
(2) ... في الأصل: يدل. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: التبيان (2/168)، والدر المصون (5/278).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2783).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/356)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/130).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/131).
(7) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (7/171) من قول أبي عثمان النيسابوري، وابن الجوزي في زاد المسير (6/131) وعزاه للثعلبي.(1/424)
قال الزمخشري (1) : التقدير: "إلا" حال "من أتى الله بقلب سليم". وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنىً إلا غنى من أتى الله بقلب سليم؛ لأن غنى الرجل في دِينه سلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه، ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، إذ لو لم تقدّر المضاف لم يتحصّل للاستثناء معنى.
دMxےد9ّ-é&ur الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ
__________
(1) ... الكشاف (3/325-326).(1/425)
وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ(1/426)
الرَّحِيمُ اتةحب
قوله تعالى: { وأزلفت الجنة } أي: قُرّبت { للمتقين } الذين جعلوا طاعة الله حاجزة بينهم وبين المعصية، وما أزلفت لهم إلا ليتعجلوا الراحة والاغتباط بالنظر إلى ما أُعِدَّ لهم من النعيم، ومثله: { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } [ق:31].
{ وبرّزت الجحيم للغاوين } كُشفت وأُظهرت لهم ليتعجلوا الشقاء والغمّ بالنظر إلى ما أُعِدَّ لهم من العذاب، كما قال: { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا } [الملك:27].
{ وقيل لهم } على سبيل التوبيخ: { أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم } يمنعونكم من العذاب { أو ينتصرون } يمتنعون هم منه.
{ فكبكبوا فيها } قال الزجاج (1) : طُرِحَ بعضهم على بعض. وحقيقة ذلك في اللغة: تكرير الانكباب، كأنه إذا أُلقِيَ ينكبُّ مرة بعد أخرى حتى يستقرَّ فيها.
قال ابن قتيبة (2) : أصل الحرف: "كُبِّبُوا"، من قولك: كَبَبْتُ الإناء، فأبدل من الباء الوسطى كافاً؛ استثقالاً لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا: "كُمْكِمُوا" من "الكُمَّة"، والأصل: كُمِّموا.
قال السدي: "فكبكبوا" يعني: الآلهة، { هم والغاوون } يعني:
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/94).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:418).(1/427)
المشركين (1) .
وقال قتادة ومقاتل (2) : الغاوون: الشياطين (3) .
{ وجنود إبليس أجمعون } يعني: ذريته كلهم.
وقيل: أتباعه من الجن والإنس (4) .
{ قالوا } يعني: عَبَدَة الأوثان { وهم فيها يختصمون } مع آلهتهم: { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } .
قال الزجاج (5) : معناه: والله ما كنا إلا في ضلال مبين.
وقال الفراء (6) : تالله لقد كنا.
والذي عليه حُذَّاق نُحاة البصرة: أنها المخففة من الثقيلة، على ما سبق في نظائره.
{ إذ نسويكم برب العالمين } في العبادة والتعظيم.
ولقد حدثني بعض من شاهد عُبَّاد الأصنام بالهند: أن منهم من يَحُجُّ إلى الصنم الأعظم المدعو: "سُومَنَات" زاحفاً على إسْته، ومنهم من يَحُجُّ إليه
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2785). وذكره السيوطي في الدر (6/308) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم.
(2) ... تفسير مقاتل (2/456).
(3) ... أخرجه الطبري (19/88)، وابن أبي حاتم (8/2786). وذكره السيوطي في الدر (6/309) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/132).
(5) ... معاني الزجاج (4/94).
(6) ... لم أقف عليه في معاني الفراء.(1/428)
زاحفاً على وجهه مسيرة شهر أو أكثر، فإذا وقع نظر الواحد منهم على القبّة التي فوق الصنم المحجوج إليه خَرَّ له ساجداً مراراً قبل وصوله إليه؛ تكريماً له وتعظيماً، فسبحان من حَجَبَ تلك القلوب عن النظر إلى أنوار دلائل التوحيد [بغير] (1) أغشية التقليد.
{ وما أضلنا إلا المجرمون } أي: الرؤساء الكبراء الذين كانوا يقتدون بهم في الضلال.
وقال مقاتل (2) : يعنون: الشياطين.
{ فما لنا من شافعين } يقولون ذلك إذا رأوا الأنبياء والأولياء والملائكة والعلماء يشفعون في أهل التوحيد.
{ ولا صديق حميم } قريب يودّنا ونودّه. وقد روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم؟ فيقول الله عز وجل: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } )) (3) .
{ فلو أن لنا كَرَّةً } أي: رجْعة إلى الدنيا. و"لو" هاهنا في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كَرَّة. ويجوز أن تكون على أصلها، والجواب محذوف،
__________
(1) ... كلمة غير مقروءة في الأصل و ب. ولعل الصواب كما أثبتناها.
(2) ... تفسير مقاتل (2/456).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/357)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/132). وقد وردت أحاديث كثيرة في شفاعة الرجل للرجل في مجمع الزوائد تدول حول هذا المعنى بأسانيد مختلفة بعضها صحيح وبعضها فيه كلام (مجمع الزوائد 10/381 باب شفاعة الصالحين).(1/429)
تقديره: لفعلنا كذا وكذا.
{ فنكون من المؤمنين } المُصَدِّقين بالوحدانية والرسالة.
{ إن في ذلك } الذي قصصنا عليك من نبأ إبراهيم ومجادلة قومه { لآية } لمن بعدهم ودلالة على رسالتك.
ôMt/Ox. قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ(1/430)
(111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ اتتخب
قوله تعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين } قد ذكرنا فيما مضى أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع (1) الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل ويؤمن بهم.
قال الزجاج (2) : دخلت التاء، و"قوم" مذكر؛ لأن المراد بالقوم: الجماعة. والمعنى: كذبت جماعة قوم نوح.
وقال الزمخشري (3) : القوم: مؤنثة، وتصغيرها: قُويمة.
{ إذ قال لهم أخوهم نوح } أي: أخوهم في النسب، كقولهم: يا أخا تميم،
__________
(1) ... في ب: بجميع.
(2) ... معاني الزجاج (4/95).
(3) ... الكشاف (3/328).(1/431)
أي: يا واحداً منهم، ومثله:
لا يَسْألونَ أخاهُم حين يندبُهُم ... في النَّائباتِ على ما قالَ بُرهانا (1)
وما بعده ظاهرٌ أو مفسرٌ إلى قوله: { واتبعك الأرذلون } وقرأتُ ليعقوب الحضرمي: "واتْبَاعُكَ" بقطع الهمزة وسكون التاء وضم العين وألف قبلها (2) .
قال الزجاج (3) : هي في العربية قويَّة جيّدة؛ لأن واو الحال (4) تصحب الأسماء أكثر في العربية؛ لأنك تقول: جئتكَ وأصحابُكَ الزَّيْدون، ويجوز: وصَحِبَكَ الزيدون، والأكثر: جئتك وقد صحبك الزيدون.
قال عكرمة: أرادوا المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز (5) .
وقال ابن عباس والضحاك وعكرمة: أرادوا الحاكَة والأساكِفَة وأرباب الحرف الدنيَّة (6) .
وهذا جهل منهم وفرْط عُتوٍ، فإن الصناعات لا [أثر] (7) لها في باب الديانات.
__________
(1) ... انظر البيت في: القرطبي (13/119)، والكشاف (3/328)، وروح المعاني (10/110، 19/107، 28/36).
(2) ... النشر (2/335)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:333).
(3) ... معاني الزجاج (4/95).
(4) ... في الأصل و ب زيادة: أن.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/357)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/134).
(6) ... مثل السابق.
(7) ... في الأصل: أكثر. والتصويب من ب.(1/432)
وإذا استقرأت أتباع الرسل السابقين إلى مناصرتهم والإيمان بهم وجدتهم في الغالب الضعفاء والمساكين، حتى صار ذلك أمارةً لهم وعلامة على صدقهم، ولهذا قال هرقل في حديثه مع أبي سفيان لما قال له: (( من يتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، قال: هم أتباع الرُّسُل )) (1) .
{ قال وما علمي بما كانوا يعملون } أراد عليه السلام انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم ونَفَى اطّلاعه على [سرائرهم] (2) وضمائرهم؛ لأن مقصودهم بقولهم: "واتبعك الأرذلون" تحقير شأنهم، وأن إيمانهم لم يصدر عن نظر صحيح ورأي مستقيم، كما قالوا في موضع: { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } [هود:27]، فاكتفى منهم نوح بظاهر أمرهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فذلك قوله: { إن حسابهم إلا على ربي } (3) أي: ما حسابهم فيما يعملون من خير وشر إلا على ربي { لو تشعرون } ذلك. المعنى: ولكنكم قوم جهلة.
{ وما أنا بطارد المؤمنين } ذهاباً مع شهوتكم ورغبة في استنزالكم عن مقام الأنَفَة والحميّة عن اتّباعي وهم أتباعي، فإني لم أُكَلِّفْ سوى تبليغ الرسالة، وهو قوله: { إن أنا إلا نذير مبين } أي: نذير للخلق مبين للحق.
(#qن9$s% لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1658 ح4278)، ومسلم (3/1395 ح1773).
(2) ... في الأصل: أسرارهم. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: "لو تشعرون". وستأتي بعد.(1/433)
يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ اتثثب
{ قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } قال الضحاك: من(1/434)
المشتومين (1) .
وقال قتادة: المضروبين بالحجارة (2) .
وقال مقاتل (3) : المقتولين بالرجم.
فشكا إلى ربه حين توعدوه، وسأله الحكم بينه وبينهم فقال: { رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحاً } أي: اقض بيني وبينهم قضاء يكون سبب هلاكهم، ونجاتي ونجاة المؤمنين.
{ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } أي: المملوء، تقول: شحنتُ الإناء؛ إذا ملأتَه (4) . وكانت سفينة نوح مملوءةً حيواناً.
ôMt/Ox. عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي
__________
(1) ... ذكره الطبري (19/91) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (3/358)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/134).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2789). وذكره السيوطي في الدر (6/311) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... تفسير مقاتل (2/457).
... ويؤيد هذا القول ما جاء في لسان العرب، مادة: (رجم): أن الرجم يأتي بمعنى: القتل، والشتم، واللمس، والطرد.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: شحن).(1/435)
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ(1/436)
وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ اتجخب
وما بعده إما مُفسر فيما مضى وإما ظاهرٌ إلى قوله تعالى: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } .
قال ابن عباس وأهل اللغة: الرِّيع: المكان المرتفع (1) ، وفيه لغة بفتح الراء، وهي قراءة جماعة، منهم عاصم الجحدري (2) . قال الشاعر:
................... ... ريعٌ يلُوحُ كأنه سَجْل
والسجل: الثوب الأبيض.
والآية: العلامة.
قال سعيد بن جبير: كانوا يبنون بروج الحمام عبثاً (3) .
وقال الضحاك: كانوا يبنون في المواضع المرتفعة؛ ليشرفوا على المارّة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم (4) .
__________
(1) ... ذكره الطبري (19/93)، والواحدي في الوسيط (3/358) كلاهما بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/135).
(2) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/135).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/358)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/135).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/358)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/136).(1/437)
وقال ابن عباس: يريد: يبنون ما لا يسكنون (1) .
أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال: ((مررتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقٍ من طُرُق المدينة فرأى قبّة من لَبن، فقال: لمن هذه؟ فقلت: لفلان، فقال: أما [إنّ] (2) كُلَّ بناء كَلٌّ على صاحبه يوم القيامة إلا ما كان في مسجد، ثم مَرَّ فلم يَرَها فقال: ما فَعَلَتِ القبة؟ قلتُ: بلغ صاحبها ما قلتَ فهدمها، فقال: رحمه الله (3) )) (4) .
وجاء من طريق آخر عن أنس: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عن صاحب القبة، فشكى ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنْكِرُ نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما حَدَثَ فيّ وما صنعت؟ فأخبروه، فرجع إلى قبته فسواها بالأرض، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كل بناءٍ يُبنى وَبَالٌ على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه)) (5) .
قوله تعالى: { وتتخذون مصانع } قال الزجاج (6) : واحد المصانِع: مَصْنَعة ومَصْنَع، وهي التي تُتخذ للماء.
قال قتادة: مصانع الماء تحت الأرض (7) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/358)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/135).
(2) ... زيادة من ب، ومسند أحمد (3/220).
(3) ... ساقط من ب.
(4) ... أخرجه أحمد (3/220 ح13325).
(5) ... أخرجه أبو داود (4/360 ح5237).
(6) ... معاني الزجاج (4/96).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/136).(1/438)
وقال مجاهد: قصوراً مشيدة (1) .
قال أبو [عبيدة] (2) : كل بناء مَصنعة.
{ لعلكم تخلدون } قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المعنى: كأنكم تخلدون (3) ، وكذلك هي في قراءة أبي بن كعب.
وقال الفراء وابن قتيبة (4) : كيما تخلدون.
وقال الزجاج (5) : المعنى: [لأنْ تَخْلدوا] (6) ، أي: تتخذون مباني للخلود لا تُفَكِّرون في الموت.
وقال الزمخشري (7) : "لعلكم تخلدون": ترجون الخلود في الدنيا.
{ وإذا بطشتم } أي: إذا بطشتم بسيف أو سوط { بطشتم جبارين } بطش الجبابرة الذين يقتلون ويضربون على الغضب والظنَّة.
قال الحسن: يبادرون تعجيل العذاب (8) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/95)، وابن أبي حاتم (9/2794)، ومجاهد (ص:463). وذكره السيوطي في الدر (6/313)، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... مجاز القرآن (2/88). وفي الأصل: عبيد. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (19/96)، وابن أبي حاتم (9/2795). وذكره السيوطي في الدر (6/313) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(4) ... معاني الفراء (2/281)، وتفسير غريب القرآن (ص:319).
(5) ... معاني الزجاج (4/96).
(6) ... في الأصل: المعنى: لا تخلدون. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) ... الكشاف (3/331).
(8) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/331).(1/439)
ثم ذكّرهم نِعَم الله عليهم مخوفاً لهم فقال: { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } ، ثم فسّره فقال: { أمدّكم بأنعام وبنين } .
فإن قيل: لم خصَّ الأنعام والبنين والجنان والعيون بالذكر دون النقدين؟
قلت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والذي يُتزين به ما ظهر من المال لا ما خفي منه.
فإن قيل: أي زينة في الأنعام؟
قلت: فيها غاية الزينة والتجمل، لا سيما إذا راحت من مراعيها ممتدّة الأسنام والضروع تتناوَح بالرُّغاء والثُّغَاء.
فإن قيل: كيف قَرَنَ البنين بالأنعام؟
قلت: لما فيهم من الإعانة على القيام بحفظها ورعايتها.
فإن قيل: المقصود من هذا وعظهم وتخويفهم، فكان من المناسب الأمر بالتقوى مقروناً بما يزعجهم من التهديد بالعقاب دون التذكير بالنِّعَم.
قلت: قد جمع بين الأمرين:
أحدهما: التذكير بالنِّعَم ليبعث هِمَمَهُم على شكر المُنْعِم عليهم والمُحْسِن إليهم، وفي ضمن ذلك تخويفهم من سلبها عنهم.
الثاني: التخويف المذكور في قوله: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ، وهو العذاب الذي أهلكوا به.
وقيل: عذاب يوم القيامة.
(#qن9$s% سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ(1/440)
لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا(1/441)
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ اتخثب
{ قالوا سواء علينا } أي: مُعادلٌ عندنا { أوَعظْت أم لم تكن من الواعظين } .(1/442)
{ إن هذا إلا خلق الأولين } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام، على معنى: ما هذا الذي تدعو إليه وتحُضُّ عليه إلا كَذِبُ الأولين، تقول: خلقتُ الحديث واختلقتُه؛ إذا افتعلته وكذبته (1) .
قال الزجاج (2) : وفيه وجه آخر: معناه: خُلِقْنا كما خُلِقَ من قبلنا، نحيا كما حَيُوا ونموت كما ماتوا ولا نُبعث؛ لأنهم أنكروا البعث.
وقرأ الباقون: "خُلُق" بضم الخاء واللام (3) ، أي: ما هذا الذي نحن عليه من الدين والاعتقاد إلا عادة الأولين، كما قال كفار قريش: إنا وجدنا آباءنا على أمة.
{ وما نحن بمعذبين } كما تزعم يا هود.
{ فكذبوه فأهلكناهم } بالريح.
وقد ذكرنا ذلك في قصتهم (4) في الأعراف (5) .
وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله: { أتتركون فيما هاهنا آمنين } استفهام في معنى الإنكار لأن يتركوا مخلدين فيما هم فيه من النعيم والرفاهية، آمنين من العذاب والموت.
وقوله: { في جنات وعيون * وزروع } تفسير لقوله: { فيما هاهنا
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: خلق).
(2) ... معاني الزجاج (4/97).
(3) ... الحجة للفارسي (3/224)، والحجة لابن زنجلة (ص:518)، والكشف (2/151)، والنشر (2/335-336)، والإتحاف (ص:333)، والسبعة (ص:472).
(4) ... في ب: وقد ذكرنا قصتهم.
(5) ... عند الآية رقم: 65.(1/443)
آمنين } .
{ ونخل طلعها هضيم } الطَّلْع: الثَّمرة، والهضيم: النضيج الرّخص الليّن.
وقال الضحاك: الهضيم: الحِمْل الكثير الذي يركب بعضه بعضاً (1) .
يشير إلى أنه إذا كَثُرَ الحمل هَضُمَ، أي: صَغُر، وإذا قلّ جاء ممتلئاً كباراً.
وقال صاحب الكشاف (2) : الطَّلْعَة هي التي تَطْلُعُ من النخلة، كنَصْلِ السيف، في جوفه شماريخُ القِنْو. والقِنْو: اسم للخارج من الجِذْع، كما هو بعُرْجونه وشماريخه.
والهَضِيم: اللطيف الضَّامِر، من قولهم: كَشْح هضيم، وطلعُ إناث النخل فيه لطفٌ، وفي طلع الفحاحيل (3) جَفَاء، وكذلك طلْع البَرْني ألطف من طلْع اللون. [فذكّرهم] (4) نعمة الله عليهم في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه؛ لأن الإناث ولادة التمر، والبرني أجود التمر وأطيبه.
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً فرهين } أي: أشِرين.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: "فَرِهِين" بغير ألف. وقرأ الباقون
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/100)، وابن أبي حاتم (9/2802).
(2) ... الكشاف (3/332-333).
(3) ... أي: ذكر النخل.
(4) ... في الأصل و ب: يذكرهم. والتصويب من الكشاف (3/332).(1/444)
بألف (1) ، يقال: فَرِح وفَارِح، ويقال: إن الهاء من "فَرِهِين" مبدلة من الحاء.
وقال أبو علي الفارسي (2) : من قرأ: "فَرِهِين" فمعناه: مَرِحين. ومن قرأها: "فارهين" معناه: حَاذِقين، أي: عارفينَ بنحْتِها.
{ ولا تطيعوا أمر المسرفين } بالشرك والمعاصي.
قال مقاتل (3) : هم التسعة الذين عقروا الناقة.
{ الذين يفسدون في الأرض } يعني: بالكفر والمعاصي { ولا يصلحون } فيها بالإيمان والطاعة.
(# qن9$s% إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/224)، والحجة لابن زنجلة (ص:519)، والكشف (2/151)، والنشر (2/336)، والإتحاف (ص:333)، والسبعة (ص:472).
(2) ... الحجة (3/224-225).
(3) ... تفسير مقاتل (2/460).(1/445)
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ(1/446)
إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا(1/447)
الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ اتذخب
{ قالوا إنما أنت من المسحرين } ممن يسحر كثيراً مرة بعد مرة.
وقيل: ممن له سَحْرٌ، [أي] (1) : رئة، على أن ما أنت من البشر.
قال ابن عباس: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب (2) . وقد سبق هذا التفسير في سورة سبحان (3) .
وكأن التفسير هاهنا أظهر لقولهم: { ما أنت إلا بشر مثلنا } .
{ فائت بآية إن كنت من الصادقين } في قولك أنك رسول الله إلينا.
{ قال هذه ناقة لها شرب } أي: نصيب من الماء معروف، { ولكم شرب
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... أخرجه الطبري (19/103).
(3) ... عند تفسير الآية رقم: 47.(1/448)
يوم } .
قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار، وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم (1) .
{ ولا تمسوها بسوء } ضربٍ ولا عقر ولا غير ذلك { فيأخذكم عذاب يوم عظيم } . وصف ذلك اليوم بالعظم؛ لحلول العذاب العظيم فيه.
{ فعقروها فأصبحوا نادمين } ندم خوف من العقاب، لا ندم توبة وإنابة إلى الله.
وجائز أن يكون ندم توبة، لكن لم ينفعهم لفوات محله.
{ فأخذهم العذاب } وقد ذكرناه مع ما أهملنا تفسيره هاهنا في الأعراف (2) .
قوله تعالى: { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } يعني: فروج النساء.
قال مجاهد: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال (3) .
{ بل أنتم قوم عادون } مفرطون في الظلم والتعدي.
{ قالوا لئن لم تنته يا لوط } عن نهينا وتقبيح أمرنا { لتكونن من
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/360)، والسيوطي في الدر (6/316) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) ... عند الآية رقم: 73.
(3) ... أخرجه الطبري (19/105)، وابن أبي حاتم (9/2808)، ومجاهد (ص:465). وذكره السيوطي في الدر (6/317) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/449)
المخرجين } أي: من جملة الذين أخرجناهم من بين أظهرنا.
{ قال إني لعملكم من القالين } أي: المُبْغضين، والقِلَى: البغض الشديد، كأنه بغضٌ يقلي الفؤاد.
z>Ox. أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا(1/450)
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ اترحب
قوله تعالى: { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة: "الأيكة" بالألف واللام مع الهمز والجر. وقد ذُكر في الحجْر (1) .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "أصحاب ليكة" هنا وفي صاد (2) بغير همز مع فتح الهاء، على وزن فَعْلَة (3) .
قال الزجاج (4) : أهل المدينة يفتحون الهاء على ما جاء في التفسير أن اسم المدينة كان "لَيْكَة"، قال: وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أهل المدينة والفَتْح؛ لأن "ليْكَة" لا تنصرف. وذَكَر أنه اختار ذلك لموافقة
__________
(1) ... عند الآية رقم: 78.
(2) ... عند الآية رقم: 13.
(3) ... الحجة للفارسي (3/225)، والحجة لابن زنجلة (ص:519)، والكشف (2/32)، والنشر (2/336)، والإتحاف (ص:333)، والسبعة (ص:473).
(4) ... معاني الزجاج (4/98).(1/451)
الكتاب مع الذي جاء في التفسير أنها اسم المدينة.
قال الزمخشري (1) : من قرأ بالنصب وزعم أن "لَيْكَة" بوزن لَيْلَة: اسم بلدٍ، فتوهُّم [قَادَ] (2) إليه خط المصحف، حيث وُجدت مكتوبة في هذه السورة وسورة صاد بغير ألف، وفي المصحف أشياء كُتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كُتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، وقد كُتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة.
{ إذ قال لهم شعيب } قال مقاتل (3) : لم يكن شعيب عليه السلام من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: "أخوهم"، وإنما أُرسل إليهم بعد أن أُرسل إلى مدين، وهو من نسل مدين، فلذلك قال هناك: "أخوهم".
وكان محمد بن جرير الطبري (4) يذهب إلى أن أصحاب الأيكة هم أصحاب مدين.
قوله تعالى: { أوفوا الكيل } قال صاحب الكشاف (5) : الكيل ثلاثة أضرب: وافٍ، وطفيفٍ، وزائدٍ، [فأمر بالواجب] (6) الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف.
{ ولا تكونوا من المخسرين } أي: الذين ينقصون الكيل والوزن. يقال:
__________
(1) ... الكشاف (3/337).
(2) ... في الأصل: فاد. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... تفسير مقاتل (2/462).
(4) ... تفسير الطبري (19/107).
(5) ... الكشاف (3/337).
(6) ... في الأصل و ب: فالواجب. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/452)
أخسَرْتُ الكيلَ والوزن؛ إذا نقصته (1) . ومنه: { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [المطففين:3].
وقد سبق ذكر القِسْطاس في "بني إسرائيل" (2) .
قوله تعالى: { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } قال ابن قتيبة (3) : الجبلّة: الخَلْق، يُقال: جُبِلَ فلانٌ على كذا أي: خُلِقَ (4) .
قال الشاعر:
والموتُ أعظمُ حادثٍ ... ... مما يَمُرُّ على الجبلّه (5)
(# qن9$s% إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: خسر).
(2) ... عند الآية رقم: 35.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:320).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: جبل).
(5) ... انظر البيت في: القرطبي (13/136)، والماوردي (4/186)، وزاد المسير (6/142).(1/453)
مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ اتزتب
قوله تعالى: { وما أنت إلا بشرٌ مثلنا } قال الزمخشري (1) : فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟
قلت: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مُنَافٍ للرسالة عندهم: التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون [مُسَحَّراً ولا يجوز أن يكون] (2) بشراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنىً واحد، وهو كونه
__________
(1) ... الكشاف (3/338).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/454)
مسحَّراً. ثم قَرَّر بكونه بشراً مثلهم.
قوله تعالى: { فأسقط علينا كِسْفاً من السماء } أي: طائفة منه.
وقرأ حفص: "كِسَفاً" بفتح السين (1) هنا وفي سبأ (2) ، وهو جمع كِسْفَة، نحو قِطَعٍ وسِدَرٍ، وقد ذُكر في "بني إسرائيل" (3) .
قال صاحب الكشاف (4) : فإن قلت: كيف كرَّرَ في هذه السورة في أول كل قصةٍ وآخرها ما كَرَّر؟
قلت: كل قصة منها كتنزيلٍ برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تُفتَتَح بما افتُتِحت به صاحبتها وأن تُختتم بما اختُتمت به.
[ولأن] (5) في التكرير [تقريراً] (6) للمعاني (7) في الأنفس، وتثبيتاً لها في الصدور.
ولأن هذه القصص طُرِقَت بها آذان وُقْرٌ عن الإنصات للحق، وقلوبٌ غُلْفٌ عن تدبُّره، فكُوثرت بالوعظ والتذكير، ورُوجعت بالترديد والتكرير
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/70)، والحجة لابن زنجلة (ص:520)، والكشف (2/51)، والنشر (2/309)، والإتحاف (ص:334)، والسبعة (ص:385).
(2) ... عند الآية رقم: 9.
(3) ... عند الآية رقم: 92.
(4) ... الكشاف (3/339).
(5) ... في الأصل: وأن. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من الكشاف (3/339).
(7) ... في ب: اللمعاني. وهو سهو.(1/455)
لعل ذلك يفتح أذْناً، أو يَفْتُقَ ذهْناً، أو يصقُلَ عَقْلاً طال عهده بالصقل، أو يجلو فهماً قد غطّى عليه تراكم الصدأ.
¼çm¯Rخ)ur لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ اتزخب
قوله تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين } يعني: القرآن.
{ نزل به الروح الأمين } وهو جبريل عليه السلام.
وقرأ أبن عامر وأهل الكوفة إلا حفصاً: "نَزَّلَ" بالتشديد، "الروحَ الأمينَ" بالنصب (1) ، على معنى: نزّل رب العالمين به الروح الأمين.
{ على قلبك } قال الزجاج (2) : ومعنى "على قلبك": نزل عليك فوعاه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/225-226)، والحجة لابن زنجلة (ص:520-521)، والكشف (2/151-152)، والنشر (2/336)، والإتحاف (ص:334)، والسبعة (ص:473).
(2) ... معاني الزجاج (4/100).(1/456)
قلبك وثَبَتَ فلا ينساه أبداً ولا شيئاً منه، كما قال الله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى } [الأعلى:6].
قوله تعالى: { بلسان عربي مبين } الباء متعلقة بـ"نَزَلَ"، أو بقوله: { لتكون من المنذرين } ، على معنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي، وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.
¼çm¯Rخ)ur لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ اتززب
قوله تعالى: { وإنه } قال أكثر المفسرين (1) : المعنى: وإن القرآن، يعني:
__________
(1) ... ذكره الطبري (19/113)، والواحدي في الوسيط (3/362).(1/457)
ذكْره وخبره { لفي زبر الأولين } .
وقيل: وإن معانيه لفي الكتب النازلة من السماء على الرسل.
وقيل: وإن محمداً لفي كتب الأولين، كما قال تعالى: { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } [الأعراف:157].
قوله تعالى: { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } "آية" خبر كان، و"أن يعلمه": اسمها (1) ، على معنى: أو لم يكن لهم عِلْمُ عُلماء بني إسرائيل أنه النبي المنعوت في الكتب المتقدمة، المبعوث في آخر الزمان، آية وعلامة على صدقه ونبوّته.
وقرأ ابن عامر: "تَكُنْ" بالتاء، "آيةٌ" بالرفع (2) .
قال مكي (3) : رفع "الآية"؛ لأنها اسم كان، و"أن يعلمه" خبر كان. وفي هذا التقدير قبحٌ في العربية؛ لأنه جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة، والأحسن أن تُضمر القصة، فيكون التأنيث محمولاً على تأنيث القصة، و"أن يعلمه" ابتداء، و"آية" خبر الابتداء، والجملة خبر كان، فيصير اسم كان معرفة، و"آية" خبر ابتداء، وهو "أن يعلمه"، تقديره: أو لم تكن لهم القصة علم علماء بني إسرائيل به آية.
قوله تعالى: { ولو نزلناه } يعني: القرآن { على بعض الأعجمين } جمع
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/170)، والدر المصون (5/288).
(2) ... الحجة للفارسي (3/226)، والحجة لابن زنجلة (ص:521)، والكشف (2/152)، والنشر (2/336)، والإتحاف (ص:334)، والسبعة (ص:473).
(3) ... الكشف (2/152).(1/458)
أعْجَم، والأنثى: عَجْمَاء.
وقرأ الحسن: "الأعجميين" (1) .
قال الزجاج (2) : الأعْجَم: الذي لا يُفْصِح، وكذلك الأعجمي، [فأما العجمي فالذي] (3) من جنس العَجَم، أفْصَحَ أو لم يُفْصِح.
قوله تعالى: { فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } يشير إلى شدة شكيمتهم في الكفر والعناد، وأنه لو نَزَلَ هذا القرآن على رجل أعجمي لا يفصح به فضلاً عن أن يقدر على نَظْم مثله لكفروا به، وتمحَّلُوا لجحودهم أعذاراً كما فعلوا، وقد جاءهم به أفصح العرب لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصدقهم لهجةً، وأثبتهم حجة.
y7د9؛xx. سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
__________
(1) ... الإتحاف (ص:334).
(2) ... معاني الزجاج (4/102).
(3) ... في الأصل: وأما العجمي الذي. والتصويب من ب، والزجاج (4/102).(1/459)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ اثةزب
قوله تعالى: { كذلك سلكناه } أي: مثل هذا السلك سلكنا الشرك والتكذيب { في قلوب المجرمين } .(1/460)
قال الزجاج (1) : جعل الله تعالى مُجازاتهم أن طَبَعَ على قلوبهم وسَلك فيها الشرك.
{ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } وذلك عند معاينة سلطان الموت، حيث لا ينفعهم الإيمان.
{ فيأتيهم } يعني: العذاب الأليم { بغتة وهم لا يشعرون } .
{ فيقولوا } عند نزوله: { هل نحن منظرون } مُؤَخَّرُون لنُؤمن ونُصدِّق.
قال مقاتل (2) : فلما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا: فمتى هو؟ تكذيباً واستهزاء، فقال الله تعالى: { أفبعذابنا يستعجلون } ، استفهام في معنى التبكيت لهم والإنكار عليهم.
{ أفرأيت إن متعناهم } بأعمار ممتدة { سنين } قال مقاتل (3) : عُمُرَ الدنيا.
{ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون } من العذاب.
{ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } استفهام في معنى الإنكار، أي: لا يغني عنهم تمتُّعهم شيئاً.
قال ميمون بن مهران للحسن البصري: عظني! فقرأ له هذه الآية، فقال له ميمون: لقد وعظتَ فأبلغتَ (4) .
قوله تعالى: { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } نظير لقوله تعالى:
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/102).
(2) ... تفسير مقاتل (2/465).
(3) ... تفسير مقاتل (2/465).
(4) ... ذكره الآلوسي في روح المعاني (19/131).(1/461)
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [الإسراء:15] إشارة أنه لا يهلكهم حتى يتقدم إليهم بالإنذار على ألسنةِ الرسل.
{ ذكرى } قال الزمخشري (1) : "ذكرى" منصوبة بمعنى: تذكرة؛
[إما] (2) لأن "أنذر" و"ذكِّر" متقاربان، فكأنه قيل: مُذَكِّرون تذكرة، وإما لأنها حال من الضمير في "منذرون"، أي: ينذرونهم ذوي تذكرة، وإما لأنها مفعول له؛ على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، أو مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى، والجملة اعتراضية، أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها.
ووجه آخر: وهو أن تكون "ذكرى" متعلقة بـ"أهلكنا" مفعولاً له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم، { وما كنا ظالمين } فنهلك قوماً غير ظالمين.
قال (3) : وهذا الوجه عليه المعوّل.
$tBur تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا
__________
(1) ... الكشاف (3/343).
(2) ... في الأصل: وإما. والتصويب من ب، والكشاف (3/343).
(3) ... أي: الزمخشري.(1/462)
يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي(1/463)
السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اثثةب
قوله تعالى: { وما تنزلت به الشياطين } رد لقول كفار قريش: إنما يجيء بالقرآن الشياطين فيلقونه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ وما ينبغي لهم وما يستطيعون } لأنهم مرجومون بالشُّهب، قد حيل بينهم وبين خبر السماء، وهو قوله: { إنهم عن السمع لمعزولون } .
{ فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين } قال ابن عباس: يُحذّر به غيره، يقول: أنت أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك (1) . وقد سبق القول في نظائره.
قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } يعني: الأدْنَيْن.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } فقال: يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! لا أُغْني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أُغْني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً)) (2) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/364).
(2) ... أخرجه البخاري (3/1012 ح2602)، ومسلم (1/192 ح206).(1/464)
قوله تعالى: { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي: ألِنْ جانبك للمؤمنين من عشيرتك وغيرهم وأظهر لهم الشفقة والمودة.
{ فإن عصوك } يعني: عشيرتك { فقل إني بريء مما تعملون } من الكفر والمعاصي.
{ وتوكل } وقرأ نافع وابن عامر: "فتوكل" بالفاء (1) .
قال أبو علي (2) : من قرأ بالواو عطف على قوله: { فقل إني بريء مما تعملون } .
ومن قرأ: "فتوكل" بالفاء جعلها جملة مستأنفة مقطوعة عما (3) قبلها.
{ على العزيز } المنتقم من أعدائك، { الرحيم } بأوليائك.
{ الذي يراك حين تقوم } قال ابن عباس: [حين] (4) تقوم إلى الصلاة (5) .
وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك (6) .
وقال الحسن: حين تخلو (7) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/226)، والحجة لابن زنجلة (ص:522)، والكشف (2/153)، والنشر (2/336)، والإتحاف (ص:334)، والسبعة (ص:473).
(2) ... لم أقف عليه في الحجة.
(3) ... في ب: مما.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2827). وذكره الماوردي (3/188). وذكره السيوطي في الدر (6/330) وعزاه لابن أبي حاتم.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/148).
(7) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2828). وذكره الماوردي (3/189).(1/465)
وهذا في التحقيق قول واحد؛ لأن المقصود الذي يراك حين تقوم في جوف الليل متهجداً [خالياً] (1) بربك مناجياً له.
{ وتقلبك في الساجدين } أي: ويرى تقلبك في الساجدين المصَلِّين من أصحابك. فالمعنى: يراك منفرداً ومع الجماعة. هذا قول قتادة وأكثر المفسرين (2) .
وروي عن ابن عباس أن المعنى: وتقلبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك في هذه الأمة (3) .
وقال الحسن: المعنى: ويرى ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين (4) .
{ إنه هو السميع } لما تقول ويقال لك، { العليم } بأحوالك.
ِ@yd أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
__________
(1) ... في الأصل: خايلاً. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2829) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (6/331) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/365).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/149).(1/466)
كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ اثثذب
قل { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك } كذّاب معروف بالكذب، { أثيم } فاجر.
وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنتم تعرفونه بالأمانة والبِرّ وصدق اللهجة، وتشهدون له بذلك من قبْل الرسالة.(1/467)
قوله تعالى: { يلقون السمع } في محل النصب على الحال، أو في محل (1) الجر صفة لـ"كل أفاك". ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً (2) ، كأنه قيل: [لم تنزّلُ على] (3) الأفّاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت.
والمعنى: يُلقون ما سمعوه إلى الكهنة.
{ وأكثرهم كاذبون } أي: أكثر الشياطين كاذبون فيما يوحونه إليهم.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((تخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم [يقرفون] (4) فيه ويزيدون)) (5) .
وقيل: المعنى (6) : وأكثر الكهنة كاذبون يفترون على الشياطين ويتقوّلون عليهم ما لم يوحوه إليهم.
قوله تعالى: { والشعراء يتبعهم الغاوون } قال ابن عباس: كان رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه. فنزلت هذه الآية (7) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... انظر: الدر المصون (5/292-293).
(3) ... في الأصل: لم تتنزل إلا على. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: يقترفون. والتصويب من ب، ومسلم (4/1750).
(5) ... أخرجه مسلم (4/1750 ح2229) من حديث طويل.
(6) ... في الأصل زيادة قوله: وأكثرهم.
(7) ... أخرجه الطبري (19/127)، وابن أبي حاتم (9/2833). وذكره السيوطي في الدر (6/333) وعزاه لابن مردويه.(1/468)
وقال ابن عباس أيضاً: يريد: [شعراء] (1) المشركين (2) .
قال مقاتل (3) : منهم: عبد الله بن الزبعرى السهمي، وأبو سفيان بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزة عمرو بن عبدالله، كلهم من قريش، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم.
{ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } مجازٌ عن ذهابهم في كل فن من فنون الشعر، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في القول، حتى أنهم يُفضِّلُون الجبان على الشجاع، والشحيح على الجواد، ويُفسّقون العدل، ويُعدّلون الفاسق، ويقولون: فعلنا ولم يفعلوا، وقلنا ولم يقولوا، فذلك قوله: { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } .
ويروى: أن سليمان بن عبدالملك سمع الفرزدق ينشد:
فَبتْنَ بجانبيَّ مُصَرَّعَاتٍ ... ... وَبتُّ أفُضُّ أغلاقَ الخِتَام (4)
فقال سليمان: قد وجب عليك الحَدُّ، فقال الفرزدق: يا أمير المؤمنين، قد
__________
(1) ... في الأصل: شعر. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/365)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/150).
(3) ... تفسير مقاتل (2/467).
(4) ... البيت للفرزدق، انظر: ديوانه، واللسان (مادة: غلق، ختم)، والطبري (30/107)، والقرطبي (13/148)، وروح المعاني (19/152).(1/469)
درأ الله عني الحدَّ بقوله: { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } .
قرأتُ على أبي القاسم علي بن أبي منصور الموصلي، أخبركم ابن بَوْش فأقرَّ به قال: أخبرنا أبو العز بن كادش، أخبرنا الجازري، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثني أبو عبدالله أحمد بن فراس الشامي، حدثنا الجهم بن بدر، قال الكرماني (1) في خَلُوب جارية الرشيد شِعْراً، فبلغ الرشيد، فوجّه إليه وأقعد الرشيد خلوب خلف سِتْر، ومرّ الكرماني بالفضل بن الربيع فقال: إن أمير المؤمنين قد وجّه إليّ فأنشده إن استنشدني، قال: نعم بعد الأمان، فلما دخل قال الرشيد: أنت الكرماني؟ قال: نعم، قال: أنشدني؟ قال: في الزهد، قال: لست هناك، قال: ففي المديح، قال: ولا، قال: فما أنشدك يا أمير المؤمنين؟ قال: شعرك في خَلُوب، قال: بعد الأمان يا أمير المؤمنين، فأنشده قوله فيها حتى بلغ:
لَوْ لَمْ أذقْها طابَ لي حُبُّها ... ... لكنَّني ذقْتُ فلا ذقْتُ
فخرجت خَلُوب من وراء الستر فقالت: والله يا أمير المؤمنين ما ذُقْتُهُ ولا ذاقني، ولا رأيته ولا رآني، وقد أقرّ بالزنا، فحُدَّهُ يا أمير المؤمنين، قال: يا خَلُوب، قد أعطيناه الأمان، قالت: الأمان في حدٍّ من حدود الله؟ قال: قد سمعت يا كرماني، قال: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: { والشعراء يتبعهم الغاوون } إلى قوله تعالى: { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } قال: صدقت، وأمر
__________
(1) ... في هامش ب: كرمان: بالفتح ثم السكون، وربما كسرت الكاف. ذكره في المعجم قال: والفتح أشهر (انظر: معجم البلدان 4/454).(1/470)
له بثلاثين ألف درهم.
ثم إن الله سبحانه وتعالى استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين ذِكْرُ الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من قول الشعر، فقال: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا } أي: انتصروا من شعراء المشركين بهجْوِهِم والردّ عليهم، { من بعد ما ظلموا } لأنهم بدأوهم بالهجاء.
وفي الصحيحين من حديث حسان بن ثابت قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أُهجهم أو هاجهم وروح القدس معك)) (1) .
فصل
لا خلاف بين أهل العلم في جواز قول الشعر ما لم يشتمل على إثم أو مكروه، والضابط لذلك قول عائشة رضي الله عنها: (( الشعر كلام، فمنه حسن ومنه قبيح، فَخُذِ الحسن وَدَعِ القبيح )) (2) .
قال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علي أشعر الثلاثة (3) .
ثم توعد الله تعالى شعراء المشركين فقال: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } .
وقرأ أبي بن كعب وابن عباس في آخرين: "أي مُنْفَلَتٍ ينفلتون" بالفاء
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1176 ح3041)، ومسلم (4/1933 ح2486).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/366).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/366-367)، وابن عبد البر في الاستيعاب (3/1225).(1/471)
والتاء (1) .
قال الزجاج (2) : "أيّ" منصوبة بقوله: "ينقلبون"، لا بقوله: "سيعلم"؛ لأن "أيّاً" وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها (3) .
قال مكحول: أوحى الله تعالى إلى موسى: قل لبني إسرائيل تجنبوا الظلم، فوعزتي وجلالي إن له عندي مغبَّةَ سَوْء. قال موسى: يا رب وما مغبّته؟ قال: أن (4) أُثْكِلُ فيه الولد، وأُقَصِّرُ فيه الأجل، ثم الثواء بعد ذلك النار.
وقال شريح: سيعلم الظالمون حظَّ من نقصوا، إن الظالم [ينتظر] (5) العقاب والمظلوم ينتظر النصر (6) .
قال ابن عباس في قوله تعالى: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } : إلى جهنم والسعير (7) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/152)، والدر المصون (5/293).
(2) ... معاني الزجاج (4/105).
(3) ... أي: إن "أي" مفعول مطلق، أيْ ينقلبون أيّ انقلاب.
(4) ... ساقطة من ب.
(5) ... في الأصل: ينظر. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/152).
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/367).(1/472)
سورة النمل
ijk
وهي ثلاث وتسعون آية، وهي مكية بإجماعهم.
ûغ تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ(1/473)
الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ادب
قوله تعالى: { طس } قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، أقسم الله تعالى به (1) .
وقال في رواية أخرى: هو اسم الله الأعظم (2) .
وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن (3) .
وقيل: الطاء من لطيف، والسين من سميع (4) .
{ تلك آيات القرآن وكتاب مبين } سبق القول عليه في سورة الحجْر (5) .
قوله تعالى: { هدى وبشرى } في محل الرفع، على معنى: هي هدى، أو على البدل من "آيات"، أو نقول: "تلك" مبتدأ، "آيات القرآن" خبره، "هدى" خبر بعد خبر.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/131)، وابن أبي حاتم (9/2838).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2838). وذكره السيوطي في الدر (6/340) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2838). وذكره السيوطي في الدر (6/340) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/154).
(5) ... عند الآية رقم: 1.(1/474)
ويجوز أن يكون في محل النصب على الحال، والتقدير: تلك آيات القرآن هادياً ومبشراً، والعامل فيها ما في "تلك" من معنى الإشارة (1) .
فإن قيل: { وهم بالآخرة هم يوقنون } ما محلها؟
قلت: إما أن تكون في محل الحال، فتكون من جملة صلة الموصول، وإما أن تكون جملة اعتراضية، فتكون الصلة تامة عند قوله: { ويؤتون الزكاة } ، المعنى: وهؤلاء الذين يؤمنون ويقيمون ويؤتون هم الموقنون بالآخرة (2) .
وما لم يُفسَّر (3) هاهنا فهو مُفسرٌ فيما مضى إلى قوله: { أولئك الذين لهم سوء العذاب } وهو أقبحه وأشدّه.
والمراد: ما أصابهم من الذلّ والصغار والقتل والأسْر في يوم بدر وغيره.
{ وهم في الآخرة هم الأخسرون } أي: هم أشد الناس خساراً؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار، [وفاتهم] (4) ما لم يكن ليتهيأ لغيرهم من أنهم لو آمنوا لكانوا شهداء على جميع الأمم.
قوله تعالى: { وإنك لتلقى القرآن } أي: لتؤتاه ويُلْقَى عليك فتتلقاه، { من لدن حكيم عليم } أي: من عند أيّ حكيم وأيّ عليم، وهذا معنى مجيئهما
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/171)، والدر المصون (5/294-295).
(2) ... قال الزمخشري في الكشاف (3/352): وهو الوجه.
(3) ... في ب: أفسره.
(4) ... في الأصل: فاتهم. والتصويب من ب.(1/475)
نكرتين.
ّŒخ) قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ 5>$pkإ¶خ/ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا(1/476)
تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ اتتب
قوله تعالى: { إذ قال موسى لأهله } أي: اذكر يا محمد إذ قال موسى لامرأته: { إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر } عن الطريق، { أو آتيكم بشهاب قبس } .
قرأ أهل الكوفة: "بِشِهَابٍ" بالتنوين، وقرأ الباقون بالإضافة (1) .
قال الزجاج (2) : من نوَّن جعل "قَبَس" من صفة الشهاب.
وقال غيره: "قبس" بدل من "شهاب".
ومن أضاف؛ فقال الفراء (3) : هو مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف الاسمان، كقوله تعالى: { ولدار الآخرة } [يوسف:109].
وأبى هذا القول نُحاة البصرة وقالوا: الشيء لا يُضاف إلى نفسه وإنما يضاف إلى غيره لتخصُّصه أو تعرُّفه، فأما قوله تعالى: { ولدار الآخرة }
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/228)، والحجة لابن زنجلة (ص:522-523)، والكشف (2/154)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:335)، والسبعة (ص:478).
(2) ... معاني الزجاج (4/108).
(3) ... معاني الفراء (2/286).(1/477)
فتقديره: ولدار الساعة الآخرة، على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، ومثله: { وحب الحصيد } [ق:9] أي: وحَبّ النبت الحصيد.
ومن كلامهم: صلاة الأولى، ومسجد الجامع، والتقدير فيهما: صلاة الفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع.
وقال الزمخشري (1) : الشِّهاب: الشُّعْلة، والقَبَس: النار المقبوسة، وإضافة الشهاب إلى القبس؛ لأنه يكون قبساً وغير قبس.
{ لعلكم تصطلون } أي: تستدفئون من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء.
{ فلما جاءها نودي أن بورك } (2) "أنْ" هي المفسرة؛ لأن النداء فيه معنى القول، والتقدير: قيل له: بورك.
{ من في النار } قال ابن عباس والحسن: أي قُدِّسَ من في النار، وهو الله عز وجل (3) .
{ ومن حولها } من الملائكة.
والمعنى: قُدِّسَ من ناداه من النار؛ لأن الله تعالى لا يَحِلُّ في شيء.
وقيل: "بُورك" فُوعِلَ من البركة، وهو على حذف المضاف، على معنى: بُورك من في طلب النار، فتكون تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيّا آل إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه،
__________
(1) ... الكشاف (3/354).
(2) ... في الأصل زيادة: في النار. وهو خطأ.
(3) ... أخرجه الطبري (19/133)، وابن أبي حاتم (9/2845). وذكره السيوطي في الدر (6/341) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.(1/478)
في قوله تعالى: { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [هود:73].
وقيل: "مَنْ" زائدة؛ كقول الشاعر:
فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرنا ... حُبُّ النبي محمدٍ إيانا (1)
والتقدير: بورك (2) في النار، وهذا معنى قول مجاهد (3) .
وقيل: المعنى: بورك من في النار من الملائكة، ومن حولها وهو موسى؛ لأنه كان بالقُرب منها ولم يكن فيها.
وقيل: المعنى: بورك في مكان النار، وهو عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي، ومن حولها من أرض الشام، كما قال تعالى: { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } [الأنبياء:71].
وحقيق لتلك الأرض أن تكون بالبركة موصوفة؛ لأنها مَقَرُّ الأنبياء ومستودَعُهُم، أحياءً وأمواتاً، ومهبط الوحي والملائكة.
قوله تعالى: { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } الضمير في "إنه" ضمير الشأن، "أنا الله" مبتدأ وخبر، "العزيز الحكيم" صفتان للخبر (4) .
وقال الفراء (5) : الهاء في "إنه" عِمَادٌ.
__________
(1) ... البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه، انظر: الطبري (1/179، 4/150)، وروح المعاني (1/185).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: من.
(3) ... أخرجه الطبري (19/134)، وابن أبي حاتم (9/2845). وذكره السيوطي في الدر (6/341) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... انظر: التبيان (2/172)، والدر المصون (5/297).
(5) ... معاني الفراء (2/287).(1/479)
وقال السدي: هي كناية عن المنادي؛ لأن موسى قال: من هذا الذي يناديني؟ فقيل: إنه أنا الله (1) .
قوله تعالى: { وألق عصاك } عطف على { أن بورك } (2) ، وفيه إضمار تقديره: فألقاها.
{ فلما رآها تهتز كأنها جَانٌّ } قال الفراء (3) : وهي الحية التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة.
وقال الزجاج (4) : "تهتز": تتحرّك كما يتحرك الجانّ في الخفة، وهي في صورة الثعبان العظيم من الحيات.
{ ولّى مدبراً ولم يعقّب } قال قتادة: لم يلتفت (5) .
وقال الزجاج (6) : يرجع.
وقال غيره (7) : يقال: عَقَّبَ [المقاتل] (8) ؛ إذا كرّ بعد الفرار (9) . قال
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/156).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/297).
(3) ... معاني الفراء (2/287).
(4) ... معاني الزجاج (4/109).
(5) ... أخرجه الطبري (19/136)، وابن أبي حاتم (9/2848). وذكره السيوطي في الدر (6/342) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... معاني الزجاج (4/109).
(7) ... هو قول الزمخشري، انظر: الكشاف (3/355).
(8) ... في الأصل: القاتل. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(9) ... انظر: اللسان (مادة: عقب).(1/480)
الشاعر:
فما عَقَّبُوا إذْ قيلَ هلْ من معقِّبٍ ... ولا نَزَلُوا يوم الكريهةِ مَنْزلا (1)
{ يا موسى لا تخف إني لا يخاف لديّ المرسلون } قال ابن عباس: لا يخاف عندي من أرسلته (2) .
قوله تعالى: { إلا من ظلم } استثناء متصل (3) ، على معنى: إلا من ظلم منهم نفسه، بأن فرطت منه صغيرة يجوز مثلها على الأنبياء؛ كالذي فرط من يونس وداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام.
والمراد -والله تعالى أعلم-: التعريض لموسى بِوَكْزِهِ القبطي، وسماه ظلماً كما قال موسى: { رب إني ظلمت نفسي } [القصص:16].
{ ثم بدّل حُسْناً بعد سوء } وفيه إضمار، تقديره: فإنه يخاف، وحذف لدلالة ما قبله عليه.
وقال أكثر المفسرين: هو استثناء منقطع (4) .
المعنى: لكن من ظلم ثم بدّل حسناً ندماً وتوبةً وعملاً صالحاً بعد سوء { فإني غفور رحيم } .
وحكى الفراء (5) : أن "إلاّ" بمعنى الواو، تقديره: ومن ظلم.
__________
(1) ... انظر البيت في: البحر المحيط (7/55)، والدر المصون (5/298)، وروح المعاني (19/163)، والكشاف (3/355).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/369).
(3) ... وهو اختيار الطبري في تفسيره (19/137).
(4) ... انظر: التبيان (2/172)، والدر المصون (5/298).
(5) ... معاني الفراء (2/287).(1/481)
وقرأ أبي بن كعب وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري: "ألاَ مَنْ ظُلِمَ" بحذف التنبيه (1) .
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو الياسري لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه: "حَسَناً" بفتح الحاء والسين (2) .
ِ@إz÷ٹr&ur يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/157).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:335).(1/482)
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ اتحب
قوله تعالى: { وأدخل يدك في جيبك } وهو ما جِيبَ من القميص، أي: قُطِعَ.
قال ابن جرير (1) : إنما أمر بإدخال يده في جيبه؛ لأنه كان حينئذ عليه مدرعة من صوف ليس لها كُمّ.
{ في تسع آيات } أي: في جملة تسع آيات، وقد ذكرناها في بني إسرائيل (2) .
{ إلى فرعون وقومه } أي: مبعوثاً أو مرسولاً إليهم، { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة } بينة واضحة.
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين: "مَبْصَرَة" (3) .
قال أبو الفتح ابن جني (4) : قد كَثُرَت المَفْعَلَة [بمعنى الشِّياع والكثرة] (5) في الجواهر والأَحداث، كقولهم: أرض مَضَبَّةٌ: كثيرة الضباب، ومَحْيَاة:
__________
(1) ... تفسير الطبري (19/138).
(2) ... عند الآية رقم: 101.
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (5/52)، والدر المصون (5/300).
(4) ... المحتسب (2/136).
(5) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.(1/483)
كثيرة الحيّات، ومَحْواة أيضاً، ومَفْعَاة: كثير الأفاعي.
وأما الأَحداث؛ كقولك: البطْنَة مَوْسَنَة، وأكل الرطب [مَوْرَدَة] (1) ، ومنه: المَسْعَاة والمَعْلاة.
وقال الزمخشري (2) : هي نحو مَجْبَنَة ومَبْخَلَة [ومَجْفَرَة] (3) ، أي: مكاناً يكثر فيه التبصر.
قال الزمخشري (4) : جعل [الإبصار لها وهو في الحقيقة] (5) لمتأملها؛ لأنهم لابسوها، وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولي العقل، وأن يراد أيضاً (6) فرعون وقومه؛ لقوله: { واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } ، أو جُعلت كأنها تبصر فتهدي؛ لأن العُمْي لا تقدر على الاهتداء، فضلاً عن أن تَهْدِي غيرها، ومنه قولهم: كلمة عَيْنَاء، وكلمة عَوْرَاء؛ لأن الكلمة الحسنة تُرشد، والسيئة تُغوي.
__________
(1) ... في الأصل: مورودة. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
... ومَوْرَدَة: محمّة، مِن وردته الحمّى: أخذته لوقت. والقياس: مورِدة -بكسر الراء-، وهي مضبوطة كذلك بالقلم في "اللسان"، لكن كلام ابن جني يفيد أنها مفتوحتها، فقد يكون فيها لغتان، وقد يكون الكسر تحريفاً في اللسان. (راجع اللسان، مادة: ورد).
(2) ... الكشاف (3/357).
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... الكشاف (3/356).
(5) ... في الأصل: الإبصار وهي الحقيقة. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الكشاف: إبصار.(1/484)
{ قالوا هذا } إشارة إلى ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام { سحر مبين } .
{ وجحدوا بها } أي: [بالآيات] (1) ، { واستيقنتها أنفسهم } هذه واو الحال، و"قد" بعدها مضمرة، تقديره: وجحدوا (2) بالآيات وقد استيقنتها أنفسهم.
{ ظلماً وعلواً } أي: شركاً وتكبراً عن اتباع موسى.
ô‰s)s9ur آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ
__________
(1) ... في الأصل: الآيات. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل و ب زيادة: بها وقد بعدها مضمرة تقديره: وجحدوا. وهو تكرار.(1/485)
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ اتذب
قوله تعالى: { ولقد آتينا داود وسليمان علماً } قال ابن عباس: علماً بالقضاء، وبكلام الطير والدواب، وتسبيح الجبال (1) .
{ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } بالعلم والنبوة، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجن والإنس.
وفي هذه الآية دليلٌ ظاهرٌ وبرهانٌ باهرٌ على شرف العلماء وإنافة محلهم، ودلائل شرفهم النقلية والعقلية كثيرة، ولو لم يكن لهم من مراتب الإنافة إلا أن الله تعالى فضّلهم على الكافّة، فقال: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [المجادلة:11]. اللهم فألبسنا من مدارعه أضفاها، وأوردنا من مشاربه (2) أصفاها.
قوله تعالى: { وورث سليمان داود } يعني: ورث منه النبوة والملك
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/370)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/159) بلا نسبة.
(2) ... في ب: مشارعه.(1/486)
والعلم دون سائر بنيه، وكان له تسعة عشر ذَكَرَاً، فخُصَّ بذلك من بينهم.
{ وقال } ذاكراً لإحسان الله تعالى إليهم وشاكراً لأنعمه عليهم { يا أيها الناس علّمنا منطق الطير } أي: فُهِّمْنا لغة الطير.
قال قتادة: والنمل من الطير (1) .
ويروى: أن سليمان عليه السلام مَرَّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه ويميل ذَنَبَه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء (2) .
وصاحت فَاخِتَةٌ (3) يوماً فقال: إنها تقول: ليت ذا الخلْقَ لم يُخْلَقُوا (4) .
وصاح طاووس (5) فقال: يقول: كما تدين تدان (6) .
وصاح هُدْهُدٌ (7) فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين (8) .
وصاح طِيْطَوَى (9) فقال: يقول: كل حي ميت، وكل جديد بَال (10) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2855). وذكره السيوطي في الدر (6/347) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره القرطبي (13/165)، والمناوي في فيض القدير (1/87).
(3) ... الفَاخِتَة: واحدة الفواخِت، وهي ضربٌ من الحمام المطوّق (اللسان، مادة: فخت).
(4) ... ذكره القرطبي (13/165)، والمناوي في فيض القدير (1/87).
(5) ... الطاووس: طائر حسن (اللسان، مادة: طوس).
(6) ... ذكره القرطبي (13/165).
(7) ... الهدهد: طائر معروف، وهو مما يقرقر (اللسان، مادة: هدد).
(8) ... ذكره القرطبي (13/165-166).
(9) ... الطيطوى: ضربٌ من الطير معروف (اللسان، مادة: طيط).
(10) ذكره القرطبي (13/166)، والمناوي في فيض القدير (1/102).(1/487)
وصاح خُطَّافٌ (1) فقال: قدموا خيراً تجدوه (2) .
وصاحت رَخَمَةٌ (3) فقال: تقول: سبحان ربي الأعلى، ملأ سمائه وأرضه (4) .
وصاح قُمْرِيٌ (5) فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى (6) .
وقال: الحِدَأة (7) تقول: كل شيء هالك إلا الله (8) .
والقَطَاة (9) تقول: من سكت سلم (10) .
والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همّه (11) .
والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين (12) .
والنسر يقول: يا ابن آدم عِشْ ما شئت آخرُك الموت (13) .
__________
(1) ... الخُطّاف: طائر معروف، وقيل: هو العصفور الأسود، وهو الذي تدعوه العامة: عصفور الجنة، وجمعه: خطاطيف (اللسان، مادة: خطف).
(2) ذكره القرطبي (13/166).
(3) الرَّخَمَة: طائر أبقع على شكل النِّسْر خِلْقَة إلا أنه مُبقَّعٌ بسواد وبياض (اللسان، مادة: رخم).
(4) ذكره القرطبي (13/166).
(5) القُمْري: طائر يشبه الحمام القُمْر البيض (اللسان، مادة: قمر).
(6) ذكره القرطبي (13/166).
(7) ... الحدأة: طائر معروف يصيد الجرذان (اللسان، مادة: حدأ).
(8) ... ذكره القرطبي (13/166).
(9) ... القطاة: طائر معروف، سمي بذلك لثِقَل مشيه (اللسان، مادة: قطا).
(10) ذكره القرطبي (13/166).
(11) ذكره القرطبي (13/166).
(12) ذكره القرطبي (13/166)، والمناوي في فيض القدير (1/380).
(13) ذكره القرطبي (13/166)، والمناوي في فيض القدير (1/102).(1/488)
والعُقاب (1) يقول: في البُعد من الناس أُنْس (2) .
والضِّفْدَع يقول: سبحان ربي القدوس (3) .
قوله: { وأوتينا من كل شيء } قال الزجاج (4) : من كل شيء يجوز أن يُؤتاه الأنبياء والناس.
وقيل: أراد بقوله: "وأوتينا من كل شيء": كثرة ما أوتي، كما تقول: فلان يقصده كل أَحَدٍ، ويعلم كل شيء، يريد: كثرة قُصَّادِهِ ورجوعه إلى غزارةٍ في العلم واستكثارٍ منه. ومثله قوله: { وأوتيت من كل شيء } [النمل:23].
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب الزهد (5) بإسناده عن ابن أبي نجيح قال: قال سليمان عليه السلام: ((أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعُلّمنا ما عُلّم الناس وما لم يُعَلَّمُوا، فلم نجد شيئاً أفضل من ثلاثةٍ: كلمة الحلم في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله تعالى في السر والعلانية)) (6) .
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال: أعطي سليمان
__________
(1) ... العُقاب: طائر من العِتاق (اللسان، مادة: عقب).
(2) ... ذكره القرطبي (13/166).
(3) ذكره القرطبي (13/166).
(4) معاني الزجاج (4/111).
(5) ... في الأصل زيادة قوله: له.
(6) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:51).(1/489)
عليه السلام مُلْك مشارق الأرض ومغاربها، فَمَلَكَ (1) أهلَ الدنيا كلَّهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأُعطي علم كل شيء، وفي زمانه صُنعت الصنائع العجيبة فذلك قوله تعالى: { علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } (2) .
قوله تعالى: { إن هذا لهو الفضل المبين } أي: الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا.
قال بعضهم: هو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (3) .
قوله تعالى: { وحشر لسليمان جنوده } أي: وجُمع له جنوده { من الجن والإنس والطير } كل صنف على حِدَةٍ، وكان ذلك في مسير له.
وقد روي: أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سُرِّيَّة (4) .
وقد نَسَجَت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسَم فرسخاً في فرسخ، وكان
__________
(1) ... في ب: وملك.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/643 ح4139). وذكره السيوطي في الدر (6/345) وعزاه للحاكم في المستدرك.
(3) ... أخرجه الترمذي (5/308 ح3148).
(4) ... أخرجه الحاكم (2/644 ح4141)، والطبري (19/141) كلاهما عن محمد بن كعب. وذكره السيوطي في الدر (6/345) وعزاه للحاكم عن محمد بن كعب.(1/490)
يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحول الناس الجن والشياطين، والطير تُظله بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، ويأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرُّخَاء فتسير به. فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك (1) .
فروي: أنه مرّ بحرَّاث فقال الحرَّاث: سبحان الله! لقد أُوتي آل داود ملكاً عظيماً، فألقَتْهُ الريح إليه فنزل ومشى إلى الحرَّاث فقال: لتسبيحة واحدة خير مما أوتي آل داود (2) .
قوله تعالى: { فهم يوزعون } أي: يحبس أولهم على آخرهم؛ لئلا يتخلف منهم أحد.
قال ابن قتيبة (3) : أصل الوَزْع: الكَفُّ والمنع، يقال: وزَعتُ الرجل، أي: كَفَفْتُه (4) .
#س¨Lym إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ
__________
(1) ... انظر: الوسيط (3/372-373)، والقرطبي (13/168).
(2) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/59) عن وهب بن منبه. وذكره السيوطي في الدر (6/346) وعزاه لعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:323).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: وزع).(1/491)
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ اتزب
قوله تعالى: { حتى إذا أتوا على واد النمل } أي: أشرفوا عليه.(1/492)
قال كعب: هو وادٍ بالطائف (1) .
وقال قتادة: بالشام (2) .
{ قالت نملة يا أيها النمل } أي: صاحتْ بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوماً عبّر عنه بالقول، ولما كان النمل ينطق كنطق الآدميين [أجري مجرى الآدميين] (3) فقيل: { ادخلوا } .
واختلفوا في صفة النملة فقيل: كانت كهيئة النعجة.
وقيل: كانت صغيرة.
وظاهر القرآن يدل على أنها كانت أنثى.
ويروى: أن قتادة دخل الكوفة فالتفّ عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً -وهو غلامٌ حَدَثٌ-، فقال: سلُوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى، فسألوه فلم يُحِرْ جواباً، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت ذلك؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: { قالت نملة يا أيها النمل } ، ولو كان ذكراً لقال: قال نملة (4) . وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/199)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/161).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2857). وذكره السيوطي في الدر (6/347) وعزاه لابن أبي حاتم.
... وقد ردّ ابن كثير في تفسيره قول من قال: أن الوادي بالشام، فقال: ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها (تفسير ابن كثير 3/360).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... وردّ هذا أبو حيان في البحر المحيط (7/59) فقال: ولحوق التاء في "قالت" لا يدل على أن النملة مؤنث، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة، لأن نملة، وإن كان بالتاء، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما كان كذلك، كالنملة والقملة، مما بينه في الجمع وبين واحده من الحيوان تاء التأنيث، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق، لا دالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس.(1/493)
في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذَكَرٌ وحمامة أنثى، وهو وهي (1) .
قوله تعالى: { لا يحطمنّكم } أصل الحَطْم: الكَسْر.
قال الفراء (2) : هذا نهي فيه ظرفٌ من الجزاء.
وقال الزمخشري (3) : يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون [نهياً] (4) بدلاً من الأمر. والذي جوّز أن يكون بدلاً منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحْطِمَكُم، [على] (5) طريقة: لا أرينَّك هاهنا.
{ سليمان وجنوده } أراد: لا [يحطمنّكم] (6) جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي وإشفاقِها.
{ وهم لا يشعرون } أي: لا يعلمون بحطْمِكُم ووطئكم (7) .
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/361).
(2) ... لم أقف عليه في معاني الفراء.
(3) ... الكشاف (3/361).
(4) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: يحطنكم. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(7) ... قال الآلوسي (19/177): وهذا يشعر بأدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده. وليت من طعن في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله تعالى عنهم تأسّى بها فكفّ عن ذلك وأحسن الأدب.(1/494)
وقال ابن عباس: المعنى: وأصحاب سليمان لا يشعرون بكلام النملة (1) . فيكون كلاماً مستأنفاً أخبر الله تعالى به أن أصحاب سليمان لا يعلمون ما قالت النملة، مُعَرِّضاً بتفضيل سليمان وامتيازه على الخلق بإحاطته بقولها.
قال مقاتل (2) : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال.
قال بعض العلماء: الآية من عجائب القرآن؛ لأنها بلفظة "يا": نادتْ، "أيها": نَبَّهَت، "النمل": عَيَّنَت، "ادخلوا": أمَرَت، "مساكنكم": نَصَّتْ، "لا يحطمنكم": حَذَّرت، "سليمان": خصّت، "وجنوده": عَمّت، "وهم لا يشعرون": عَذَرَت (3) .
قوله تعالى: { فتبسّم ضاحكاً من قولها } "ضاحكاً" حال مُقدَّرة (4) ، والتقدير: فتبسّم مُقَدِّراً الضحك، ولا يكون محمولاً على الظاهر، أعني: الحال المطلق؛ لأن التبسّم غير الضحك.
وقال الزجاج (5) : "ضاحكاً": حال مؤكدة؛ لأن تبسَّم بمعنى ضَحِكَ.
وقال صاحب الكشاف (6) : أي: تبسّم شارعاً في الضحك، آخذاً فيه،
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/162).
(2) ... تفسير مقاتل (2/472).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/162).
(4) ... انظر: التبيان (2/172)، والدر المصون (5/304).
(5) ... معاني الزجاج (4/112).
(6) ... الكشاف (3/361-362).(1/495)
بمعنى: أنه قد [تجاوز] (1) حَدَّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدتْ نواجذه؛ فالغرض: المبالغة في وصف ما وُجد منه من الضحك النبوي، وإلا فبدُوِّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب -يريد: القهقهة-.
وقرأ ابن السميفع: "ضَحِكاً" (2) .
فإن قلت: ما أضحكه من قولها؟
قلت: شيئان: إعجابه بما دلّ عليه قولها من ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها: { وهم لا يشعرون } . يعني: أنهم لو شعروا لم يفعلوا، وسروره بما آتاه الله [مما] (3) لم يؤت أحداً: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحُكْلِ (4) الذي هو مَثَلٌ في الصغر والقلّة، ومن إحاطته بمعناه. ولذلك اشتمل دعاؤه على [استيزاع] (5) الله شكر ما أنعم [به] (6) عليه من ذلك، فقال: { رب أوزعني أن أشكر نعمتك } .
__________
(1) ... في الأصل: جاوز. والمثبت من ب، والكشاف (3/361).
(2) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/304).
(3) ... في الأصل و ب: ما. والمثبت من الكشاف (3/362).
(4) ... الحُكْلُ من الحيوان: ما لا يُسمع له صوت كالذرّ والنمل (اللسان، مادة: حكل).
(5) ... في الأصل: استرجاع. والتصويب من ب، والكشاف (3/362).
(6) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/496)
قال الزجاج (1) : تأويله في اللغة: كُفَّنِي عن الأشياء إلا عن شُكْر نعمتك.
{ التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ } قال الزجاج (2) : إنما أدْرَجَ ذكر والديه؛ لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، [خصوصاً] (3) النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقياً نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما بسببه.
ويحتمل عندي: أن يكون سأل ربه أن يُلهمه شكر نعمته عليه ونعمته على والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه.
y‰O)xےs?ur الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ڑْüخ7ح !$tَّ9$# (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ اثتب
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/112-113).
(2) ... لم أقف عليه في المطبوع من معاني الزجاج.
(3) ... في الأصل: خصوصة. والتصويب من ب.(1/497)
قوله تعالى: { وتفقد الطير } أي: طلب ما فُقد منه، { فقال ما لي لا أرى الهدهد } هذا من مقلوب الكلام، أي: ما للهدهد لا أراه، وجاز مثل ذلك لوضوح المعنى، كما تقول العرب: ما لي أراك مكتئباً، أي: مَا لَكَ.
{ أم كان من الغائبين } قال: معناه: بل كان من الغائبين.
وقال الزمخشري (1) : "أم" هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: ما لي لا أراه، على معنى: أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضْرَبَ عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحّة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاءٌ؟
قال ابن عباس: نزل سليمان مَنْزِلاً ولم يدْر ما بُعْد الماء، وكان الهدهد يدلُّه على الماء إذا أراد أن ينزل، فلما فَقَدَهُ سأل عنه، وذلك أن الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة (2) .
ويروى: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن الهدهد يرى مسقاة الماء وأن الصبيّ يضعُ له الفخ فيُغطّي عليه شيئاً من التراب فيجيء فيقعُ فيه؟ فقال: ويحك، أما علمت أن القَدَر يحول دون البَصَر (3) .
وقال بعض المفسرين: إنما طلبه؛ لأن الطير كانت تظلهم من الشمس،
__________
(1) ... الكشاف (3/362).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/373).
(3) ... أخرجه الحاكم (2/440 ح3525) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبري (19/144)، وابن أبي شيبة (6/336 ح31852)، وابن أبي حاتم (9/2859-2860). وذكره السيوطي في الدر (6/348-349) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس.(1/498)
فأخَلَّ الهدهد بمكانه فطلعت الشمس عليهم من الخلل (1) .
ثم إنه توعده على غيبته فقال: { لأعذبنّه عذاباً شديداً } قال ابن عباس: أراد نَتْفَ ريشه (2) .
وقيل: نَتْفَ ريشه (3) وصَهْره في الشمس مَطْلِياً بالقطران.
وقيل: إيداعه القَفَص.
وقيل: التفريق بينه وبين إلْفِه.
وقيل: حشْره مع غير جنسه (4) .
{ أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } حجة ظاهرة في إقامة عذره.
قرأ ابن كثير: "ليأتينَّني" بنونين، إحداهما مشددة على الأصل، والباقون كرهوا اجتماعهن، فحذفوا النون التي تصحب ياء المتكلم (5) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/201)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/164).
(2) ... أخرجه الحاكم (2/440 ح3525)، والطبري (19/145)، وابن أبي حاتم (9/2862). وذكره السيوطي في الدر (6/349) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والحاكم وصححه.
(3) ... قال السيوطي في الإكليل (ص:201): ويستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشيء أو إسراعها أو نحو ذلك، وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب نتف ريشه.
(4) ... ذكر هذه الأقوال كلها ابن الجوزي في: زاد المسير (6/164).
(5) الحجة للفارسي (3/232)، والحجة لابن زنجلة (ص:524)، والكشف (2/154-155)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:335)، والسبعة (ص:479).(1/499)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ(1/500)
وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) اثدب
قوله تعالى: { فَمَكُثَ غير بعيد } وقرأ عاصم بفتح الكاف (1) ، وهما لغتان، والفتح أقيس؛ لأن اسم الفاعل منه: ماكِث. قال الله تعالى: { ماكثين فيه أبداً } [الكهف:3]، وقال تعالى: { إنكم ماكثون } [الزخرف:77]. وهذا يدل ظاهراً أنه من فَعَلَ -بالفتح-؛ لأن مكان الفاعل من فَعُلَ -بالضم- فعيل، نحو: ظريف وشريف وكريم، من ظَرُفَ وشَرُفَ وكَرُمَ.
والمعنى: فمكث غير زمان بعيد.
وكان سليمان عليه السلام قال للعُقاب: عَلَيَّ بالهدهد، فارتفع فرآه مقبلاً فانصبّ عليه فقال: بالذي قوّاك عليّ وأقدرك إلا ما (2) رحمتني، فتركه وقال: ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك عذاباً شديداً أو ليذبحنك، فقال: أَوَما استثنى؟ قال: بلى، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحه وأقبل يجُرُّهما على الأرض تواضعاً لسليمان عليه السلام، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله! اذكر وقوفك بين يدي الله، فارْتعد سليمان عليه السلام
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/233)، والحجة لابن زنجلة (ص:525)، والكشف (2/155)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:335)، والسبعة (ص:480).
(2) ... ساقط من ب.(1/501)
وعفى عنه، ثم سأله فقال: ما الذي بطَّأ بك؟ { فقال أحطت بما لم تحط به } ، أي: علمت شيئاً من جميع جهاته (1) .
قال صاحب الكشاف (2) : كافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمّة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاءً له في علمه، [وتنبيهاً] (3) على أن في أدنى خلق الله وأضعفه من أحاط علماً بما لم يُحِطْ به؛ لتَتَحَاقَرَ إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعْظِمْ بها فتنة. وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحدٌ أعلم منه.
{ وجئتك من سبأ } قرأ أبو عمرو والبزي: "سبأَ" بالفتح من غير تنوين على أنه اسم للقبيلة أو المدينة.
قال قتادة: هي أرض باليمن يقال لها: مأرب (4) .
ومَنَعَه الصّرف: التعريف والتأنيث.
قال الشاعر:
ما سَبَأَ الحاضرينَ مأربَ إذ ... يَبنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا (5)
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/363).
(2) ... الكشاف (3/364).
(3) ... في الأصل: وتنبهاً. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (19/152) من حديث طويل، وابن أبي حاتم (9/2864). وذكره السيوطي في الدر (6/350) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... البيت للنابغة الجعدي. انظر: الكتاب (3/253)، ومجاز القرآن (2/147)، واللسان (مادة: سبأ)، والدر المصون (5/305، 404)، والقرطبي (13/181، 14/283)، والماوردي (4/203).(1/502)
وقرأ قنبل بإسكان الهمزة كأنه نوى الوقف، وقرأ الباقون بالجر والتنوين (1) ، وجعلوه اسماً للأب، وهو سبأ بن يُشْجُب ابن قحطان، أو اسماً للحي أو للمكان أو الموضع، فصرفوه. وكذلك اختلافهم في سورة سبأ (2) .
{ بنبأ يقين } أي: خبر ثابت صادق لا ريبة (3) فيه.
ثم ذكره فقال: { إني وجدت امرأة تملكهم } يعني: بلقيس بنت شراحيل، وقيل: بنت الهَدْهَاد، ملكة سبأ، وكان أبوها ملك اليمن قد ولده أربعون ملكاً، ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على المُلْك، وكانت هي وقومها مَجُوساً يعبدون الشمس. وضمير المفعول في "تمْلِكُهُم" راجع إلى سبأ، فإن أريد القبيلة فلا إشكال، وإن أريد المدينة فالمراد: تملك أهلها.
{ وأوتيت من كل شيء } قال عطاء: من زينة الدنيا من المال والجنود (4) .
{ ولها عرش عظيم } قال قتادة: كان عرشها من ذهب قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/233)، والحجة لابن زنجلة (ص:525)، والكشف (2/155)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:335-336)، والسبعة (ص:480).
(2) ... عند الآية رقم: 15.
(3) ... في ب: مرية.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/375).
(5) ... أخرجه الطبري (19/160). وذكره الماوردي (4/204)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/165).(1/503)
قال مقاتل (1) : كان (2) ارتفاعه ثمانين ذراعاً في عرض ثمانين.
قال الزمخشري (3) : ومن نَوْكَى (4) القُصَّاص من يقف على قوله: { ولها عرش } ثم يبتدئ: { عظيم * وجدتها } يريد: أمر عظيم أن وجدتها { وقومها يسجدون للشمس } فرَّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهو مسخ كتاب الله.
فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟
قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم.
فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين مَحَطِّهِ وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟
قلت: لعل الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما السلام.
فإن قلت: فمن أين للهدهد التهدّي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/473).
(2) ... في ب: وكان.
(3) ... الكشاف (3/365-366).
(4) ... الأنْوَك: الأحمق. وجمعه: النَّوْكَى، والنَّوَاكَةُ: الحماقة، ونَوْكَى: حمقى (اللسان، مادة: نوك).(1/504)
[له] (1) وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟
قلت: لا يَبْعُدُ أن يُلهمه الله تعالى ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرِّجاحُ العقول يهتدون لها.
قوله تعالى: { ألا يسجدوا لله } وقرأ ابن مسعود: "هَلاَّ يسجدوا لله" (2) .
قال الزجاج (3) : المعنى: فصدهم عن السبيل؛ لئلا يسجدوا لله.
وقال الفراء (4) : فزين لهم الشيطان أعمالهم؛ لئلا يسجدوا.
وقرأ الكسائي: "أَلاَ يَا اسجدوا" [بحرف] (5) التنبيه وحرف النداء، والأمر بالسجود (6) .
قال أبو عبيدة (7) : هذا أمرٌ من الله مستأنف، يعني: ألا يا أيها الناس اسجدوا لله.
قال أبو علي الفارسي (8) وابن فضّال: العرب تحذف المنادى وتَدَعُ
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/366).
(2) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/166).
(3) ... معاني الزجاج (4/115).
(4) ... معاني الفراء (2/290).
(5) ... في الأصل: بحذف. والتصويب من ب.
(6) ... الحجة للفارسي (3/234)، والحجة لابن زنجلة (ص:526-527)، والكشف (2/156)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:336)، والسبعة (ص:480).
(7) ... انظر: مجاز القرآن (2/93).
(8) ... انظر: الحجة (3/234-235).(1/505)
حرف النداء ليدلَّ عليه، قال الشاعر:
يا لَعْنَةُ الله والأقوامِ كُلِّهِمِ ... والصالحينَ على سَمْعَانَ مِنْ جَار (1)
والتقدير: يا قوم أو يا هؤلاء لعنة الله.
قال [الزجاج] (2) : ومثله: قول ذي الرمة (3) :
ألا يا اسْلَمِي يا دَارَ ميٍّ على البلَى ... ... ولا زالَ مُنْهلاً بجرعائِكِ القَطْرُ
وقال العجاج (4) :
يا دَارَ سَلْمَى يا اسْلَمِي ثم اسْلَمِي ... ... ............................
وقال أبو علي (5) : في هذه القراءة حذفت الألف من "يا" في الوصل؛ لالتقاء الساكنين. وإذا وقف على هذه القراءة: "ألا يا" ويبتدئ: "اسجدوا" فيرد الألف من "يا" التي سقطت في الوصل لالتقاء الساكنين.
__________
(1) ... انظر البيت في: أمالي ابن الحاجب (ص:448)، وخزانة الأدب (11/197)، والكتاب (2/219)، وابن الشجري (1/325، 2/154)، وابن يعيش (2/24)، وهمع الهوامع (1/74، 2/70)، والحجة للفارسي (3/234)، والدر المصون (5/308).
(2) ... معاني الزجاج (4/115-116). وفي الأصل: الزجا.
(3) ... البيت لذي الرمة، انظر: ديوانه (ص:290)، والهمع (1/111)، والأشموني (1/37)، والدر المصون (5/307).
(4) ... صدر بيت للعجاج، وعجزه: (بسَمْسَمٍ أو عن يمين سَمْسَم). انظر: ديوانه (ص:58)، وهو في ملحقات ديوان رؤبة (ص:183)، وابن يعيش (1/890)، والخصائص (2/196)، ومجاز القرآن (2/94)، والدر المصون (5/308)، واللسان (مادة: سمسم).
(5) ... انظر: الحجة (3/234-235).(1/506)
قوله تعالى: { الذي يخرج الخبء في السموات والأرض } قال الزجاج (1) : جاء في التفسير: أن الخبء هاهنا: القَطْرُ من السماء، والنبات من الأرض.
قال ابن قتيبة (2) : هو من خبَأْتُ الشيء؛ إذا أخفيتَه.
وقال غيره: سُمِّيَ المخبوء بالمصدر وهو النبات والمطر وغيرهما، مما خبأه الله عز وجل من غيوبه.
{ ويعلم ما يخفون وما يعلنون } وقرأ الكسائي وحفص بالتاء فيهما على المخاطبة (3) .
وفي قوله: { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } إشارة إلى تضاؤل عرش بلقيس بالنسبة إليه.
وقرأ الضحاك وابن [محيصن] (4) : "العظيمُ" بالرفع (5) ، صفةً لله عز وجل.
قال ابن زيد: من قوله: { أحطت بما لم تحط به } إلى هاهنا من كلام الهدهد (6) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/116).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:324). وانظر: اللسان (مادة: خبأ).
(3) ... الحجة للفارسي (3/235)، والحجة لابن زنجلة (ص:528)، والكشف (2/158)، والنشر (2/337)، والإتحاف (ص:336)، والسبعة (ص:480-481).
(4) ... في الأصل: محيصين. والتصويب من ب.
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:336).
(6) ... أخرجه الطبري (19/151). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/166).(1/507)
ويجوز أن يكون كلامه تَمَّ عند قوله: { من دون الله } ، والله أعلم.
فصل
قال الفراء والزجاج (1) : من قرأ: "ألا يا اسجدوا" بالتخفيف فهو موضع سجود، ومن شدَّد فليس بسجدة.
وهذا غير مستقيم؛ لأنه موضع سجدة بإجماع العلماء المشهورين لا نعرف بينهم فيه خلافاً. وعلته: أن [مواضع] (2) السجدة إما أمْرٌ بها، كقوله تعالى: { واسجد واقترب } [العلق:19]، أو مدح لمن أتى بها، كسجدة الأعراف وسجدة الرعد، أو ذمٌ لمن تركها؛ كقوله تعالى: { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } [الانشقاق:21]، وأكثر سجدات القرآن لم يقارنها الأمر بالسجود.
* قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
__________
(1) ... معاني الفراء (2/290)، ومعاني الزجاج (4/115).
(2) ... في الأصل: موضع. والتصويب من ب.(1/508)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ اجتب
فلما فرغ الهدهد من كلامه استبعد سليمان أن يكون في الأرض ذو سلطان سواه، فـ { قال } للهدهد: { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } .
ثم إنه كتب كتاباً وختمه بخاتمه، ثم دفعه إلى الهدهد وقال: { اذهب بكتابي هذا فألْقِهِ إليهم } . قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة: "فألْقِهْ" بسكون الهاء، وكَسَرَها قالون من غير إشباع، والباقون وَصَلُوها بياء (1) .
قال الزجاج (2) : إثبات الياء أجود الأوجه، ومن أسكن الهاء فغالط؛ لأن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/235-236)، والحجة لابن زنجلة (ص:528)، والكشف (2/159)، والإتحاف (ص:336)، والسبعة (ص:481).
(2) ... معاني الزجاج (4/116-117).(1/509)
الهاء ليست بمجزومة، وليس له وجه (1) من القياس.
وقال غيره: من سكن الهاء نوى الوقف وهو بعيد.
وقال الأخفش: هي لغة، ولم يحْكِها سيبويه، وإنما جاء مثل هذا في ضرورة الشعر، وقد أشبعنا في مثل هذا فيما مضى.
{ ثم تَوَلَّ عنهم } أي: تَنَحَّ عنهم حتى تكون قريباً منهم في مكان تتوارى فيه لتسمع ما يقولون.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: { فانظر ماذا يرجعون } ثم تولّ عنهم راجعاً إليَّ.
قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها، فقرأته وأخبرت قومها (2) .
وقال مقاتل (3) : حمله في منقاره حتى وقف على رأس المرأة، فَرَفْرَفَ ساعة والناس ينظرون، فرفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، فلما رأت [الكتاب ورأت] (4) الخاتم أرعدت وخضعت، وخضع من معها من الجنود.
ثم قالت: { يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم } وصفتْه بالكَرَم؛ لأنه كان مختوماً (5) .
__________
(1) ... في معاني الزجاج (4/117): ولها وجه.
(2) ... ذكره الماوردي (4/205)، والواحدي في الوسيط (3/376)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/167).
(3) ... تفسير مقاتل (2/474).
(4) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/376)، والسيوطي في الدر (6/353) وعزاه لابن مردويه.(1/510)
وقيل: لأنها حسبته من عند الله تعالى حيث رأته مع الهدهد (1) . رويا عن ابن عباس.
وقيل: لأنها رأته مُصَدَّراً ببسم الله الرحمن الرحيم (2) .
وقال الزجاج (3) : "كريم": حسن.
وقيل: وَصَفَتْه بالكَرَم؛ لكونه من ملك كريم.
{ إنه من سليمان } كأنه قيل لها: ممن هو الكتاب؟ فقالت: إنه من سليمان.
وقرئ شاذاً: "أنَّه من سليمان وأنَّه" بفتح الهمزة فيهما (4) ؛ تعليلاً لكريم الكتاب.
{ ألا تعلوا عليَّ } لا تتكبروا عليَّ ولا تأنفوا (5) من الانقياد إليّ.
وقرأ ابن عباس: "تَغْلُوا" بالغين المعجمة (6) ، من الغلو، وهو مجاوزة الحدّ.
فإن قيل: ما محل: "أن لا تعلوا" من الإعراب؟
قلت: "أنْ" في موضع الرفع على البدل من "كتاب كريم"، أو على معنى: ألْقِيَ عَلَيّ أن لا تعلوا. ويجوز أن يكون في موضع النصب، على
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/168).
(2) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (7/206).
(3) ... معاني الزجاج (4/117).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/311).
(5) ... في ب: وتأنفوا.
(6) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/168)، والدر المصون (5/312).(1/511)
معنى: ألقي إليَّ كتاب بأن لا تعلوا (1) .
[وفسّر] (2) سيبويه (3) والخليل "أنْ" في هذا الموضع في تأويل أي، على معنى: أي لا تعلوا عليّ، ومثله: { وانطلق الملأ منهم أن امشوا } [ص:6]، وفسّرها: أي امشوا.
قوله تعالى: { وأتوني مسلمين } أي: مُنْقادين لأمري.
قال قتادة: كذلك كانت الأنبياء تَكْتُبُ جُمَلاً لا تطيل (4) .
ثم جمعت أشراف قومها للمشورة وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً، كل واحد على عشرة آلاف.
وقال مجاهد: كانوا ألف قَيْل (5) ، تحت يدي كل قَيْلٍ ألف مقاتل (6) .
ôMs9$s% يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/173)، والدر المصون (5/312).
(2) ... في الأصل: فسر. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الكتاب (3/162).
(4) ... أخرجه الطبري (19/152)، وابن أبي حاتم (9/2874). وذكره السيوطي في الدر (6/354) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... القَيْل: الملكُ من ملوك حمير دون الملك الأعلى، بمثابة القائد للجيش (اللسان، مادة: قول).
(6) ... أخرجه الطبري (19/154)، وابن أبي حاتم (9/2871). وذكره السيوطي في الدر (6/356) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/512)
#¶گِDr& حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيد وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ اجخب
فـ { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } أي: أشيروا عَلَيَّ ما أصنع في هذا الخَطْب الجليل الذي نزل بي: { ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون } أي:(1/513)
ما كنتُ فاصلَةً وباتّةً أمراً حتى تحضرون.
{ قالوا نحن أولوا قوة } في أجسادنا وبعَدَدنا وعُدَدنا، { وأولوا بأس شديد } أي: شجاعة وبلاء في الحروب، وهو كلام يلوح منه ميلهم إلى المحاربة، { والأمر إليك } في القتال وتركه وغير ذلك، { فانظري ماذا تأمرين } وهذا إذعان منهم بالطاعة لها كيف تصرفت الأحوال، واعتراف أنها أكملهم رأياً وأحسنهم تدبيراً.
{ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } يعني: إذا دخلوها عَنْوة أفسدوها بخرابها [وقتل] (1) أهلها، { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } بالقهر والاسترقاق والأسْر، وهذا زجرٌ لهم عما توسَّمته من الميل إلى مقاتلة من لا قِبَلَ لهم به.
قوله تعالى: { وكذلك يفعلون } جائز أن يكون من تمام كلامها. وجائز أن يكون من قول الله تعالى؛ لأنها قد أخبرت أنهم يفسدون، فليس في التكرير بقولها: "وكذلك يفعلون" كبير فائدة. وهذا اختيار الزجاج (2) .
{ وإني مرسلةٌ إليهم بهدية } قال ابن عباس: إنما أرسلت بالهدية لتعلم أنه إن كان نبياً لم يُرد الدنيا، وإن كان مَلِكاً فسيرضى بالحَمْل (3) .
{ فناظرة بم يرجع المرسلون } أي: بما يكون منه حتى [أعمل] (4)
__________
(1) ... في الأصل: قتل. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: معاني الزجاج (4/119).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/170).
(4) ... في الأصل: أعلم. والتصويب من ب.(1/514)
بمقتضى ذلك.
قال ابن جرير (1) : إنما سقطت الألف في "بم"؛ لأن العرب إذا كانت "ما" بمعنى "أي" ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا ألفها تفريقاً بين الاستفهام والخبر، كقوله: { عم يتساءلون } [النبأ:1]، { قالوا فيم كنتم } [النساء:97]، وربما أثبتوا فيها الألف.
قال الشاعر:
على ما قَامَ يشتمُنا لَئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمَاد (2)
قال ابن عباس: بعثت ثلاث لبنات من ذهب، في كل لبنة مائة رطل، وثلاثين وصيفاً، وثلاثين وصيفةً، وألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبت إليه: إني قد بعثت إليك بهدية فاقبلها، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة، فميّز بين الجواري والغلمان، فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه، فقال له: انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال [لَبِناً] (3) من ذهب، فانطلق، فبعث الشياطين فقطعوا اللَّبِن من الجبال وطَلُوه بالذهب وفرشوه، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر، فلما جاءت الرسل قال بعضهم لبعض: كيف تدخلون على هذا الرجل بثلاث لبنات وعنده ما رأيتم؟ فقال رئيسهم:
__________
(1) ... تفسير ابن جرير الطبري (19/156).
(2) ... البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه. وهو في: اللسان (مادة: قوم)، والقرطبي (13/200)، وزاد المسير (6/172)، وروح المعاني (22/229، 30/3).
(3) ... زيادة من ب.(1/515)
إنما نحن رسل، فدخلوا [عليه] (1) فوضعوا اللَّبِن بين يديه، فقال: أتمدونني بمال (2) .
$£Jn=sù جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ اجذب
قوله تعالى: { فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال } قرأ حمزة: "أتمدونّي" بنون مشددة على الإدغام لاجتماع المثلين، فتُمَدُّ الواو لالتقاء الساكنين.
__________
(1) ... في الأصل: إليه. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/170).(1/516)
وقرأ الباقون بنونين ظاهرتين على الأصل (1) ، الأولى علامة الرفع في الفعل، والثانية هي التي تدخل مع الياء في ضمير المتكلم المنصوب.
والمراد بالمال: لَبِنَات الذهب، والوُصَفاء والوصائف، وقد ذكرنا عددهم عن ابن عباس.
وقال مجاهد: كانوا مائتي غلام ومائتي جارية (2) .
وقال وهب: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية (3) .
فإن قيل: بأيّ طريق توصّل إلى معرفتهم؟
قلت: روي عن سعيد بن جبير: أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفه، وعكست الجارية ذلك (4) .
وقال قتادة: بدأ الغلمان بغسل ظهور السواعد قبل بطونها، والجواري على العكس (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/236-237)، والحجة لابن زنجلة (ص:528-529)، والكشف (2/160)، والإتحاف (ص:336-337)، والسبعة (ص:482).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/377)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/171).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/171).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2877). وذكره الماوردي (4/210). وذكره السيوطي في الدر (6/358) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2878). وذكره الماوردي (4/209). وذكره السيوطي في الدر (6/358) وعزاه لابن أبي حاتم.
... قال ابن كثير في تفسيره (3/364): والله أعلم أكان ذلك أم لا، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. والظاهر أن سليمان عليه السلام لم ينظر إلى ما جاؤوا به بالكلية، ولا اعتنى به، بل أعرض عنه.(1/517)
قوله تعالى: { فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم } أي: ما آتاني الله من الجنود واستفحال المُلْك وطاعة الجن والإنس وسائر الحيوان والنبوة والعلم وزينة الدنيا.
قال المفسرون: ضَرَبَ الجن لَبِنَ الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه، وجعلوا حول الميدان حائطاً شُرَفُهُ من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللَّبِن، ثم قعد سليمان على سريره والكراسي من جانبيه، واصطفَّت الشياطين صفوفاً والجن صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطير (1) كذلك، فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب تَرُوثُ على اللَّبِن، فتقاصرت إليهم نفوسهم وأمر بِرَدِّ هديتهم (2) .
قوله تعالى: { بل أنتم بهديتكم تفرحون } قال الزمخشري (3) : أضْرَبَ عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح، إلا أن يُهدى إليهم حظٌ من الدنيا [التي] (4) لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المُهْدِي، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن
__________
(1) ... في ب: والطيور.
(2) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/212).
(3) ... الكشاف (3/371).
(4) ... في الأصل: الذي. والتصويب من الكشاف (3/371).(1/518)
تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها.
قوله تعالى: { ارجع إليهم } خطاب للرسول. وقيل: للهدهد، على معنى: ارجع إليهم حاملاً كتاباً آخر، { فلنأتينهم بجنودٍ لا قِبَلَ لهم بها } أي: لا طاقة لهم بها. وحقيقته: ليس لهم من يقابل جنودي.
{ ولنخرجنهم منها } أي: من بلدتهم { أذلة } قد ذهب عنهم عز المُلْك والسلطان، { وهم صاغرون } أذلّاء.
tA$s% يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ(1/519)
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ احةب
فلما رجع إليهم الرسول وأخبرها بما شاهد من عجائب مُلْكه وسلطانه ودلائل نبوته وحكمته، عرفت حينئذ أنه مؤيد بالرسالة، فأخذت في المسير إليه، وأمرت بعرشها فجعل من وراء سبعة أبواب ووكلت بحفظه [الحرس] (1) ، وشخصت إلى سليمان، فأخبر جبريل عليه السلام سليمان بمسيرها إليه، فلما كانت منه على مسيرة فرسخ، قال سليمان لجنوده: { أيكم يأتيني بعرشها } .
إن قيل: ما أراد بذلك؟
قلت: يجوز أن يكون مراده بذلك: أن يُرِيَهَا بعض ما خصَّه الله به تعالى
__________
(1) ... في الأصل: والحرس. والتصويب من ب.(1/520)
به من كرامته وإجراء العجائب على يديه، وأن يُطلِعَهَا على عظيم قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه، لتتوفر دواعيها إلى الإسلام. ويحتمل أنه أراد معاجلتها بأخذه والاستيلاء عليه قبل أن يحرّمه عليه الإسلام، ألا تراه يقول: { قبل أن يأتوني مسلمين } . وهذا معنى قول قتادة (1) .
{ قال عفريت من الجن } وقرأ أبيّ بن كعب بفتح العين (2) ، وقرأ ابن مسعود: "عِفرَاةٌ" بكسر العين وألف بدل الياء (3) ، والوقف عليها على هذه القراءة بالهاء.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو الياسري للكسائي من رواية ابن أبي شريح عنه: "عِفْريّةٌ" بكسر العين وفتح الياء (4) ، والوقف عليها أيضاً بالهاء.
قال ابن قتيبة (5) : العِفْريتُ: الشديد الوثيق.
وقال الزجاج (6) : هو النافذُ في الأمر المبالغُ فيه مع خُبْثٍ وَدَهَاءٍ.
{ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي: من مجلسك الذي تجلس فيه
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/160)، وابن أبي حاتم (9/2883). وذكره السيوطي في الدر (6/359) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... وهي قراءة الضحاك وأبي العالية وابن يعمر وعاصم الجحدري أيضاً. انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/174).
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/174).
(4) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/174)، والدر المصون (5/314).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:324).
(6) ... معاني الزجاج (4/120).(1/521)
لفصل القضاء، وكان يجلس فيه من غُدْوَةٍ إلى نصف النهار.
وإني عليه لقوي } على حمله، { أمين } على ما فيه من الذهب والجواهر، فقال سليمان: أريد أعجل من ذلك، فـ { قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو آصف بن بَرْخِيّا، وكان صدّيقاً عالماً، وكان كاتباً لسليمان.
وقال [عبدالله] (1) بن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام (2) .
وقيل: جبريل عليه السلام (3) .
قال ابن عباس وجمهور المفسرين: "عِلْم الكتاب": اسم الله الأعظم (4) .
قال مجاهد: قال: يا ذا الجلال والإكرام (5) .
وقال ابن السائب: قال: يا حي يا قيوم (6) .
{ أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } حسيراً إذا أَدَمْتَ النظر.
وقال الزجاج (7) : هو مقدار (8) ما تفتح عينيك ثم تَطْرِف.
__________
(1) ... في الأصل: عبدالرحمن. والتصويب من ب. انظر ترجمته في: التهذيب (5/327)، والتقريب (ص:319).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2885). وذكره السيوطي في الدر (6/360) وعزاه لابن أبي حاتم.
... قال ابن كثير في تفسيره (3/365): وهو غريب جداً.
(3) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (7/210).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/175).
(5) ... أخرجه الطبري (19/163)، وابن أبي حاتم (9/2886)، ومجاهد (ص:472). وذكره السيوطي في الدر (6/361) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/175).
(7) ... معاني الزجاج (4/121).
(8) ... في ب: بمقدار.(1/522)
وقيل: المعنى: قبل أن يأتيك أقصى من تنظر إليه.
قال ابن عباس: دعا آصف، فبعث الله تعالى إليه الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يَخُدُّونَ الأرض خَدّاً، حتى انخرقت الأرض بالعرش بين يدي سليمان عليه السلام (1) .
وقال سعيد بن جبير: قال آصف لسليمان: انظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه (2) .
{ فلما رآه مستقراً عنده } أي: فلما رأى العرش ثابتاً بين يديه، { قال } شاكراً لله تعالى ومثنياً عليه: { هذا من فضل ربي ليبلوني } ليختبرني { أأشكر } فضله { أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأنه يرتبط بالشكر نعمة الله عليه ويستمدّ المزيد ويؤدي فرض الشكر، ويتخلّص من إثم الكفر.
قال بعضهم: الشكر قيدُ النعمة الموجودة، وصيدٌ للنعمة المفقودة (3) .
{ ومن كفر } بترك الشكر، { فإن ربي غني } عن شكره { كريم } [يرزقه] (4) مع كفره.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/174).
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/337 ح31857). وذكره السيوطي في الدر (6/361) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(3) ... ذكره المناوي في فيض القدير (1/192)، والبغوي في تفسيره (3/42).
(4) ... في الأصل: برزقه. والتصويب من ب.(1/523)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ(1/524)
صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اححب
قال العلماء بالتفسير: كرهت الجن أن يتزوج سليمان بلقيس خوفاً أن تُفضي إليه بأسرارهم؛ لأنها كانت بنت جنية، وخافوا أن يولد له منها ولد يجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجوا من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكٍ هو أشد وأفظع فَنَزَكُوها (1) وأساؤوا القول فيها وقالوا: إنها شعراء الساقين، وأنّ رجلها كحافر الحمار، وأنّ في عقلها شيئاً، فاختبر عقلها بتنكير عرشها واتخذ الصرح لينظر إلى ساقها ورجْلها، فذلك قوله: { قال نكروا لها عرشها } أي: غيّروا صفته (2) .
قال ابن عباس: جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح
__________
(1) ... في هامش ب: أي: طعنوا عليها وعابوها. ومنه: ليسوا بنزَّاكين، يقال: نَزَكْتُ الرَّجُلَ؛ إذا عِبْتُه (انظر: اللسان، مادة: نزك).
(2) ... روى نحوه الطبري (19/169) عن محمد بن كعب القرظي. وذكره الواحدي في الوسيط (3/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/176)، والسيوطي في الدر المنثور (6/363) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.(1/525)
الفضة، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب، والياقوت مكان الزبرجد، والدر مكان اللؤلؤ، وقائمتي الزبرجد مكان قائمتي الياقوت (1) .
وقال قتادة: جعلوا أسفله أعلاه، ومقدمه مؤخره، وزادوا فيه ونقصوا منه (2) .
{ ننظر أتهتدي } إلى معرفته { أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك } قال مجاهد: جعلت تعرفُ وتُنكر، وعجبت من حضور عرشها عند سليمان، فقالت: { كأنه هو } (3) .
قال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن قلت: هو، خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: كأنه هو (4) .
قال المفسرون: قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب والحرس (5) .
قوله تعالى: { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } جائز أن يكون من كلام سليمان، وجائز أن يكون من كلام بلقيس.
فإن كان من كلام سليمان عليه السلام؛ فالمعنى: وأوتينا العلم بالله تعالى وبقدرته وصحة ما جاء من عنده من قبل علمها، أو يكون المعنى: أوتينا
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/177).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2890). وذكره السيوطي في الدر (6/362) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/379).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/177).(1/526)
العلم بإسلامها من قبل مجيئها.
وإن كان من قول بلقيس؛ فالمعنى: وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة التي شاهدناها من أمر الهدهد، وحدثتنا به رسلنا من قبل هذه الآية.
"وكنا مسلمين": مستسلمين لأمر سليمان، مذعنين لنبوته منقادين لطاعته.
قوله تعالى: { وصدّها ما كانت تعبد من دون الله } أي: وصَدَّها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس.
قال الزجاج (1) : صَدَّها عن الإيمان [العادَة] (2) التي كانت عليها؛ لأنها نَشَأَتْ ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشمس، فصدّتها العادَة، وبَيَّنَ عادتها بقوله: { إنها كانت من قوم كافرين } .
وقال الزمخشري (3) : وقيل: المعنى: وصدها الله تعالى -أو سليمان- عما كانت تعبد، بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
وقرأ سعيد بن جبير: "أنها" بفتح الهمزة (4) ، على معنى: لأنها كانت، أو هو بدل من فاعل صدّ.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/122).
(2) ... في الأصل: العبادة. والتصويب من ب، والزجاج، الموضع السابق.
(3) ... الكشاف (3/374).
(4) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/178)، والدر المصون (5/316).(1/527)
{ قيل لها ادخلي الصرح } قال الزجاج (1) : الصَّرْحُ في اللغة: القَصْرُ والصَّحْنُ، يقال: هذه ساحة الدار، وصرحة (2) الدار، وباحة الدار، وقاعة الدار. هذا كله في معنى الصَّحْن.
قال مقاتل (3) : كان قصراً من قوارير بُنِيَ على الماء وتحته السَّمَك.
قال مجاهد: كانت برْكَة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير (4) .
واختلفوا في السبب الذي صُنع لأجله الصرح؛ فقال جماعة منهم محمد بن كعب القرظي: أراد أن ينظر إلى قدمها وساقها لما قيل عنها (5) .
وقال وهب بن منبه: أراد أن يريها مُلْكاً هو أعزّ من مُلْكِها (6) .
وقال ابن جرير (7) : فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء.
{ فلما رأته حسبته لجة } وهي معظم الماء { وكشفت عن ساقيها } لدخول الماء، فرآها أحسن الناس قَدَماً إلا أنها شعْراء الساقين.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/122).
(2) ... في معاني الزجاج: وصحنة.
(3) ... تفسير مقاتل (2/478).
(4) ... أخرجه الطبري (19/169)، وابن أبي حاتم (9/2893)، ومجاهد (ص:473). وذكره السيوطي في الدر (6/362-363) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (19/169). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/178).
(6) ... أخرجه الطبري (19/168)، وابن أبي حاتم (9/2895) عن يزيد بن رومان.
(7) ... تفسير ابن جرير الطبري (19/168).(1/528)
وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة، دلَّتْها الشياطين عليها.
{ قال إنه صرح ممرد من قوارير } أي: مُمَلَّسٌ من قوارير، { قالت } حين رأت الأمور الخارقة للعادة الدالة على نبوة سليمان: { رب إني ظلمت نفسي } بعبادة غيرك، الآية.
وقيل: حسبت أن سليمان أراد تغريقها حين قال لها: ادخلي الصرح، فحسبته لُجَّة، فقالت: رب إني ظلمت نفسي بسوء ظني بسليمان.
فصل
اختلفوا هل تزوّجها سليمان؟ فقال أكثر المفسرين: تزوّجها وأقرّها على ملكها، وأمر الجن فبنوا لها سَيْلَحِين وغُمْدان، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له (1) .
وقال قوم: زوَّجها بتُبَّع وسلَّطه على اليمن.
ô‰s)s9ur أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/180).(1/529)
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ احذب
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله } : سبق تفسيره (1) .
{ فإذا هم فريقان } "هم" مبتدأ، "فريقان": خبره، { يختصمون } : حال من الضمير في "فريقان"، أو وصف لـ"فريقان" (2) .
والمعنى: فإذا هم فريقان مؤمنون وكافرون، يختصمون في رسالة صالح وما جاء به.
__________
(1) ... في سورة الأعراف آية رقم: 73.
(2) ... انظر: التبيان (2/173).(1/530)
{ قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة } وهي العقوبة، وكان الذين كذبوه قالوا له: إن كنت صادقاً فائتنا بالعذاب، { قبل الحسنة } وهي الرحمة والعافية، { لولا تستغفرون الله } أي: هلاّ تسألون الله مغفرة لكفركم وذنوبكم بدل استعجالكم بالعذاب، { لعلكم ترحمون } .
{ قالوا اطيرنا } أصلها: تطيَّرنا، فأدغموا التاء في الطاء ثم اجتلبوا الألف توصُّلاً إلى النطق بالساكن، وقد سبق ذكر نظائره.
والمعنى: تشاءمنا { بك وبمن معك } نسبوا ما أصابهم من القحط والغلاء إلى صالح عليه السلام [تَطَيُّراً] (1) به.
{ قال إنما طائركم عند الله } قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم (2) ، وقد ذكرناه في الأعراف (3) .
{ بل أنتم قوم تفتنون } أي: تُبْتَلُون بالخير والشر.
ڑc%x.ur فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
__________
(1) ... في الأصل: تطائراً. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/380).
(3) ... عند الآية رقم: 131.(1/531)
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ اخجب
قوله تعالى: { وكان في المدينة } يريد: الحِجْر { تسعة رهط } .(1/532)
قال الزمخشري (1) : إنما جاز تمييز التسعة بالرَّهْط؛ لأنه في معنى الجماعة. [والفرق بين الرَّهْط] (2) والنَّفَر: أن الرَّهْطَ من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة، والنَّفَرُ من الثلاثة إلى التسعة، وكانوا من أبناء أشرافهم، عتاة، وهم الذين سعوا في عقر الناقة.
قال وهب: أسماؤهم: الهذيل بن عبد رب، عنم (3) بن غنم، رئاب (4) بن مهرج، عمير بن كُرْدُبة، عاصم بن مخرمة، سُبيط بن صدقة، سمعان بن صفي (5) ، قُدار بن سالف (6) .
{ يفسدون في الأرض } ، وفي قوله: { ولا يصلحون } إيذان بأنهم كانوا عن الصلاح بمعْزِل، إذ من المفسدين من يَنْدُرُ منه عمل صالح.
{ قالوا } أي: قال بعضهم لبعض { تقاسموا بالله } أي: تحالفوا به.
وجائز أن يكون قوله: "تقاسموا" خبراً في محل الحال، على معنى: قالوا متقاسمين بالله (7) .
{ لنبيتنه وأهله } أي: لنقتُلَنّ صالحاً وأهله ليلاً.
__________
(1) ... الكشاف (3/376).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الكشاف: غنم.
(4) ... في الكشاف: رباب.
(5) ... في الكشاف: صيفي.
(6) ... وقد ذكر أسماءهم ابن أبي حاتم (9/2900)، والسيوطي في الدر (6/370)، والماوردي في تفسيره (4/219) مع اختلاف في الأسماء.
(7) ... انظر: الدر المصون (5/319).(1/533)
وقرأ حمزة والكسائي: "لتُبَيِّتُنَّه" بالتاء بدل النون وضم التاء الثانية (1) .
{ ثم لنقولن } قرأها أيضاً بالتاء بدل النون وضم اللام الثانية (2) .
فعلى القراءة الأولى: يكون المتكلمون قد أدخلوا أنفسهم مع المقتسمين، كما في قوله تعالى: { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } . وعلى القراءة الثانية لم يُدْخِلوا أنفسهم معهم.
وقرأ مجاهد كحمزة والكسائي، إلا أنه بالياء فيهما (3) . فيتعين على قراءته أن يكون قوله: "تقاسموا" خبراً لا أمراً.
{ ثم لنقولن لوليه } أي: لولي دَمِه { ما شهدنا مهلك أهله } مُفسرٌ في سورة الكهف (4) على حسب اختلاف القراء فيه.
فعلى قراءة من فتح الميم واللام -وهو أبو بكر-: الأهل فاعلون في المعنى؛ لأنه مصدر هَلَكَ يَهْلِكُ هلاكاً ومَهْلَكاً، إلا على لغة بني تميم، فإنهم يقولون: هلكني الأمر، بمعنى: أهلكني، فتكون في موضع نصب.
ومن ضمّ الميم وفتح اللام -وهم أكثر القراء-: فهو مصدر، من أهْلَكَ، والأهل في موضع نصب، على معنى: ما شهدنا إهلاك أهله.
قوله تعالى: { ومكروا مكراً } وهو ما أخفوه من تدبير قتل صالح وأهله،
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/239)، والحجة لابن زنجلة (ص:530)، والكشف (2/161-162)، والنشر (2/338)، والإتحاف (ص:337)، والسبعة (ص:483).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.
(3) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/181-182)، والدر المصون (5/319).
(4) ... عند الآية رقم: 59.(1/534)
{ ومكرنا مكراً } جازيناهم على مكرهم، { وهم لا يشعرون } بمكر الله تعالى بهم.
{ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } ، ثم استأنف فقال: { إنا دمرناهم } وقرأ أهل الكوفة: "أنَّا" بفتح الهمزة (1) ، ويقوي هذه القراءة [قراءة] (2) أبي بن كعب: "أنْ دمرناهم" (3) .
قال أبو علي الفارسي (4) : من قرأ: "أنّا" بفتح الهمزة، فإن جعل "كان" من قوله: "كيف كان عاقبة مكرهم" هي التامة، جاز في قوله: "أنّا دمرناهم" أمران:
أحدهما: أن يكون بدلاً من قوله: "عاقبة مكرهم".
والآخر: أن يكون محمولاً على مبتدأ مضمر، كأنه قال: هو أنّا دمرناهم، أو ذاك أنّا دمرناهم.
وإن جعل "كان" المقتضية للخبر، جاز في قوله: "أنّا دمرناهم" أمران أيضاً:
أحدهما: أن يكون بدلاً من اسم "كان" الذي هو "العاقبة"، فإذا حملته على هذا كان "كيف" في موضع خبر "كان".
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/241)، والحجة لابن زنجلة (ص:532)، والكشف (2/163)، والنشر (2/338)، والإتحاف (ص:338)، والسبعة (ص:484).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/320).
(4) ... الحجة (3/241).(1/535)
والآخر: أن يكون خبر "كان"، ويكون موضعه نصباً، كأنه: كان عاقبة مكرهم تدميرهم، ويكون "كيف" في موضع حال (1) .
قال الزمخشري (2) : يجوز أن يكون منصوباً، على معنى: لأنّا دمرناهم.
قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح عليه السلام يحرسونه، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتْهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم (3) .
وقال مقاتل (4) : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح، فَجَثَمَ عليهم الجبل فأهلكهم.
وقال قتادة: رماهم الله تعالى بصخرة فقتلتهم (5) .
قوله تعالى: { وقومهم أجمعين } يعني: ودمَّرْنا قومهم بصيحة جبريل.
{ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } "خاويةً" نصب على الحال (6) ، والعامل فيها ما دل عليه "تلك".
وقرأ عيسى بن عمر: "خاويةٌ" بالرفع (7) ، على خبر المبتدأ المحذوف.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/174)، والدر المصون (5/320).
(2) ... الكشاف (3/378).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/381)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/182).
(4) ... تفسير مقاتل (2/480).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2902).
(6) ... انظر: التبيان (2/174)، والدر المصون (5/321).
(7) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/321).(1/536)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) ِNن3Yخ r& لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ(1/537)
مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اخرب
قوله تعالى: { ولوطاً } أي: واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً. ويدل عليه قوله: { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً } .
{ إذ قال لقومه } بدل على الأول، وظرف على الثاني (1) .
{ أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } من بصر القلب، على معنى: وأنتم تعلمون أنها فاحشة.
وقيل: وأنتم يُبْصِرُ بعضكم بعضاً.
قال الزمخشري (2) : كانوا في ناديهم يرتكبونها مُعَالنين بها، لا [يتستّر] (3) بعضهم من بعض خَلاعةً ومَجانَةً، وانهماكاً في المعصية، وكأنّ [أبا] (4) نواس [بنى] (5) على مذهبهم قوله:
وَبُحْ باسْمِ ما تأتي وذَرْني من الكُنَى ... ... فلا خَيْرَ في اللذَّاتِ مِنْ دُونها سِتْر (6)
وقيل: وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/321).
(2) ... الكشاف (3/378).
(3) ... في الأصل: يستتر. والمثبت من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: أبو. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... انظر البيت في: روح المعاني (15/308).(1/538)
{ بل أنتم قوم تجهلون } قال ابن عباس: تجهلون النعمة وعاقبة العصيان (1) .
وقيل: المعنى: تفعلون فعل الجاهلين.
وما لم أذكره في تفسير هذه القصة مذكور في الأعراف (2) ، [و { قدرناها } مذكور] (3) في الحِجْر (4) .
ب@è% الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ t,ح !#y‰tn ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/381)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/183).
(2) ... عند الآية رقم: 81.
(3) ... في الأصل: وقد ذكرناها مذكر. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(4) ... عند الآية رقم: 60.(1/539)
تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ادةب
ثم إن الله عز وجل أمر نبيه أن يتلو عليهم هذه الآيات الناطقة بالبراهين القاطعة بوحدانية الله تعالى وعظمته وحكمته وقدرته، وأن يستفتحها بتحميده، والسلام على من اصطفاهم من عبيده، فقال: { قل الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى } فصار ذلك سُنَّةً وأدباً للعلماء والفقهاء والوعّاظ والخطباء والبلغاء والأدباء، يفتتحون به كتبهم ومسائلهم وخطبهم ورسائلهم.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر)) (1) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أما إن ربك يحب الحمد )) (2) . وهذا الذي ذكرته قول عامة المفسرين.
وقد قيل: إن الأمر بالحمد خطاب للوط عليه السلام، أُمر أن يحمد الله تعالى على هلاك من كذَّبه، وأن يُسلّم على المصطفين المؤمنين.
والأول أصح.
قال ابن عباس في قوله: { وسلامٌ على عباده الذين اصطفى } : هم الرسل
__________
(1) ... أخرجه ابن ماجه (1/610 ح1894).
(2) ... أخرجه أحمد (3/435)، والحاكم (3/712 ح6575).(1/540)
الذين اصطفاهم الله تعالى لرسالته (1) .
قال عكرمة: اصطفى الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالخُلَّة، وموسى عليه السلام بالكلام، ومحمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية (2) .
وقال ابن عباس في رواية أخرى: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم (3) ، وهو قول السدي (4) .
وقال في رواية أخرى: هم الذين وحّدوه وآمنوا به (5) .
وقال في رواية أخرى: هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (6) .
{ آلله خيرٌ أما يشركون } قرأ أبو عمرو وعاصم: "يشركون" بالياء، حملاً على ما قبله وبعده من ألفاظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء (7) ، على معنى: قل يا محمد للكفار آلله خيرٌ أما تشركون.
والمعنى: آلله خيرٌ لمن عبده وأطاعه، أم الأصنام لعابديها.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/184).
(2) ... أخرجه الطبري (27/48)، والطبراني في الكبير (11/332) كلاهما من طريق عكرمة عن ابن عباس، والحاكم في المستدرك (2/629) بدون لفظة: "ومحمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية" وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(3) ... أخرجه الطبري (20/2)، وابن أبي حاتم (9/2906). وذكره السيوطي في الدر (6/370) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2906).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/185).
(6) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/425) من قول الكلبي.
(7) ... الحجة لابن زنجلة (ص:533)، والكشف (2/163-164)، والنشر (2/338)، والإتحاف (ص:338).(1/541)
قوله تعالى: { أمن خلق السماوات والأرض } تقديره: ما يشركون خير أمّن خلق السماوات والأرض.
وقال الزمخشري (1) : إن قلت: ما الفرق بين أم وأم في { أما يشركون } ، و { أمن خلق } ؟
قلت: تلك متصلة؛ لأن المعنى: أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال: آلله خير أم الآلهة؟ قال: بل أمن خلق السموات والأرض [خير] (2) ؟ تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خيرٌ من جماد لا يقدر على شيء.
وقرأ الأعمش: "أَمَنْ خلق" بالتخفيف، ووجهه: أن تجعل بدلاً من "الله"، كأنه قال: أمَنْ خلق السموات والأرض خير أما تشركون؟.
والحدائق: جمع حديقة، وهو البستان عليه حائط من الإحْدَاق، وهو الإحاطة.
{ ذات بهجة } أي حسن ومنظر يبتهج به من يراه (3) .
{ ما كان لكم } أي: ما ينبغي لكم { أن تنبتوا شجرها } ؛ لأنكم لا تقدرون عليه.
ثم قال مستفهماً منكراً: { أإله مع الله } أي: هل معه معبودٌ سواه أعانه على ما أنشأه، { بل هم قومٌ يعدلون } بالله غيره، ويجعلون له شريكاً.
__________
(1) ... الكشاف (3/380).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في ب: رآه.(1/542)
أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ادتب
قوله تعالى: { أمن جعل } وما [بعده] (1) بدل من { أمّنْ خَلَقَ } .
ومعنى: { جعل الأرض قراراً } : دحاها وسوّاها للاستقرار عليها، { وجعل خلالها } أي: فيما بينها { أنهاراً وجعل لها رواسي } جبالاً ثوابت، { وجعل بين البحرين } العذب والملح { حاجزاً } مانعاً من قدرته، كقوله تعالى: { وجعل بينهما برزخاً } [الفرقان:53].
`¨Br& يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/543)
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ادثب
{ أَمَّن يجيب المضطر إذا دعاه } المُضْطَرُّ: المكروب الذي أحوجه [مرض أو فقر] (1) أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله.
وقيل: المضطر: المُذْنِبُ إذا استغفر.
{ ويكشف السوء } يعني: الضر، { ويجعلكم خلفاء الأرض } تتوارثون سكناها قرناً بعد قرن، { أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } "ما" زائدة، وقليلاً صفة مصدر مضمر، أي: تذكُّراً قليلاً تذكَّرون، فحذف الموصوف.
والمعنى: نفي التذكُّر، والقلَّة تستعمل في معنى النفي، وقد سبق تقريره فيما مضى.
قرأ أبو عمرو وهشام: "يذكّرون" بالياء، حملاً على قوله تعالى: { بل أكثرهم لا يعلمون } ، وقرأ الباقون بالتاء (2) ، اعتباراً بقوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض } .
__________
(1) ... في الأصل: المرض أو الفقر. والمثبت من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/242)، والحجة لابن زنجلة (ص:534)، والكشف (2/164)، والنشر (2/338-339)، والإتحاف (ص:338)، والسبعة (ص:484).(1/544)
أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ادجب
{ أَمَّن يهديكم في ظلمات البر والبحر } فيرشدكم إلى مقاصدكم بالنجوم والعلامات إذا جنَّ عليكم الليل مسافرين في البر والبحر.
`¨Br& يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي(1/545)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا $¨Zح r& لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ(1/546)
عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ اذحب
وما بعده ظاهر أو مُفَسَّرٌ إلى قوله تعالى: { بل أدْرَكَ علمهم في الآخرة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "أدْرَكَ" على وزن أفعل.(1/547)
وروي عن عاصم: "بل ادَّرَكَ" بوصل الألف وتشديد الدال وفتحها، على وزن افْتَعَلَ، من أدْرَكَ.
وقرأ الباقون: "بل ادَّارَكَ" بوصل الألف أيضاً وألف قبل الراء والتشديد (1) .
فمن قرأ: "أدْرَكَ" كان المعنى: بل بلغ علمهم، واجتمع يوم القيامة حين عاينوا ما كانوا يشُكُّون فيه من أمر الآخرة. هذا مجموع قول ابن عباس والسدي ومقاتل (2) وعامة المفسرين (3) .
ومن قرأ: "بل ادَّارك" (4) فأصلها: تدارك، فأدغموا التاء في الدال، على معنى: تَلاحَقَ علمهم في الآخرة وتكامل.
{ بل هم } اليوم { في شك منها } أي: من الساعة، { بل هم منها } أي: من علمها { عَمُون } وهو جمع عَمٍ، وهو الأعمى القلب.
قال صاحب الكشاف (5) : فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟
قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون [أن] (6) القيامة كائنة، ثم بأنهم يَخْبطُون في شكٍ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/243)، والحجة لابن زنجلة (ص:535)، والكشف (2/164)، والنشر (2/339)، والإتحاف (ص:339)، والسبعة (ص:485).
(2) ... تفسير مقاتل (2/483).
(3) ... انظر: الطبري (20/7)، وابن أبي حاتم (9/2914)، والوسيط (3/383).
(4) ... في الأصل: الدرك. وهو خطأ. والتصويب من ب.
(5) ... الكشاف (3/384).
(6) ... في الأصل: بأن. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/548)
ومرية، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { قل عسى أن يكون ردف لكم } قال ابن قتيبة (1) : معناه: تَبِعَكم، واللام زائدة، تقديره: كأنه قال: رَدِفَكم.
وقال الزمخشري (2) : زيدت اللام للتأكيد، كالباء في قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة:195]، أو ضمن معنى فعلٍ يتعدى باللام، نحو: دنا لكم وأزِفَ لكم.
وكانوا يستعجلون بالعذاب الذي توعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تكذيباً واستهزاءً، فأخبرهم الله تعالى أنه قد قَرُبَ منهم بعض ما استعجلوا به من العذاب، وهو قتلهم وأسرهم يوم بدر.
وقيل: عذاب القبر، وادّخر لهم عذاب الآخرة.
{ وإن ربك لذو فضل على الناس } قال مقاتل (3) : لم يعجل على أهل مكة بالعذاب، { ولكن أكثرهم لا يشكرون } ذلك.
{ وإن ربك ليعلم ما تكنّ صدورهم } أي: ما تُخفيه من معاندتك ومعاداتك، { وما يعلنون } من ذلك.
$tBur مِنْ 7pt7ح !%yٌ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:326).
(2) ... الكشاف (3/385-386).
(3) ... تفسير مقاتل (2/484).(1/549)
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ(1/550)
عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ارتب
قوله تعالى: { وما من غائبة } قال الواحدي وابن الجوزي (1) : المعنى: وما من جملة غائبة.
وقال صاحب الكشاف (2) : سُمّي الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما [بمنزلتها] (3) في العافية والعاقبة، ونظائرهما: النطيحة والرّميّة [والذبيحة] (4) ، وأنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، [كالرّاوية] (5) في قولهم: ويل للشاعر من راوية السوء. كأنه قال: ما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا [وقد] (6) علمه الله تعالى وأحاط به وأثبته في اللوح.
قوله تعالى: { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } قال ابن السائب: إن أهل الكتاب اختلفوا وصاروا شيعاً وأحزاباً،
__________
(1) ... الوسيط (3/384)، وزاد المسير (6/189).
(2) ... الكشاف (3/386).
(3) ... في الأصل: بمنزلة ما، والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: الذبيحة. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: كالروية. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: قد. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/551)
فأنزل الله تعالى القرآن بياناً لما (1) اختلفوا فيه، لو أخذوا به وأسلموا (2) .
{ وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } سبق تفسيره (3) .
{ إن ربك يقضي بينهم بحكمه } قال أكثر المفسرين: يقضي بين أهل الكتاب.
ويجوز أن يكون المعنى: يقضي بين المؤمنين والكافرين بالقرآن.
وقد تقدم ذكر الفريقين، ويعني "بحُكْمه": بعدْلِه.
وقيل: أراد بحكمته. ويدل عليه قراءة أبي المتوكل وعاصم الجحدري: "بحِكَمِهِ" بكسر الحاء وفتح الكاف (4) ، جمع حِكْمَة.
{ وهو العزيز } الغالب فلا يرد حكمه وقضاؤه، { العليم } بما يقضي بين المختلفين.
وفي قوله: { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } أوضح بيان وأنور برهان، على أن المحق حقيق بالوثوق بالله تعالى، خليق بالاعتماد عليه، وأنه جدير بالنصر، وإن قلَّت أنصاره.
قوله تعالى: { إنك لا تسمع الموتى } هذا مثلٌ للكفار، شبَّههم الله تعالى لعدم إصاختهم إلى الحق وإفراط إعراضهم عنه بالموتى الذين فقدوا آلة
__________
(1) ... في ب: فنزل القرآن ببيان ما.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/384)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/189) وفيه: فلو أخذوا به لسلموا.
(3) في سورة يونس آية رقم: 57.
(4) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/189)، والدر المصون (5/327).(1/552)
السماع، وكذلك شبههم أيضاً بالصُّمِّ فقال: { ولا تسمع الصم الدعاء } ، ثم أكّد ذلك بقوله: { إذا ولوا مدبرين } ؛ لأنهم في هذه الحالة أبعد عن إدراك النداء.
وقرأ ابن كثير: "ولا يَسْمَعُ" بياء مفتوحة مع فتح الميم، "الصُّمُ" بالرفع، على الإخبار عنهم (1) .
{ وما أنت بهادِ العُمْيِ } وقرأ حمزة: "وما أنت تَهْدِي" بالتاء وفتحها (2) ، مثل: ترمي، و"العُمْيَ" بالنصب، ونظيره: { أفأنت تهدي العُمْيَ } [يونس:43].
والمعنى: وما أنت بقادر على هداية الكفار لتوغلهم في الضلال وشدة عنادهم.
{ إن تسمع } سماع إفهام وانتفاع { إلا من يؤمن بآياتنا } يُصدِّق بالقرآن، { فهم مسلمون } مخلصون في توحيد (3) الله تعالى، من قوله: { بلى من أسلم وجهه لله } [البقرة:112]، أو { فَهُم مسلمون } : مستسلمون منقادون انقياد خضوع لجلال الله تعالى وعظمته.
* وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/245)، والحجة لابن زنجلة (ص:536)، والكشف (2/165)، والنشر (2/339)، والإتحاف (ص:339)، والسبعة (ص:486).
(2) ... الحجة للفارسي (3/245)، والحجة لابن زنجلة (ص:537)، والكشف (2/166)، والنشر (2/339)، والإتحاف (ص:339)، والسبعة (ص:486).
(3) ... في ب: توحّد.(1/553)
دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ارثب
قوله تعالى: { وإذا وقع القول عليهم } قال ابن عباس: حق العذاب عليهم (1) ، وذلك عند مقاربة الساعة ومجيء أشراطها، { أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } .
قال الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام.
وفي صحيح مسلم من إفراده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. قال عبد الله بن عمرو: أيتهما خرجت قبل فالأخرى منها قريب)) (2) .
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر، ويقول هذا: يا كافر، ويقول هذا: يا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/385)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/190).
(2) ... أخرجه مسلم (4/2260 ح2941).(1/554)
مؤمن)) (1) .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((تَسِمُ المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه: مؤمن، وتَسِمُ الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه: كافر)) (2) .
وقال عبد الله بن عمرو: [تَنْكُتُ] (3) في وجه الكافر نُكْتَةً سوداء، فتفشو في وجهه فيسودّ وجهه، [وتَنْكُتُ] (4) في وجه المؤمن نُكْتَةً بيضاء فتفشو في وجهه حتى يبيضّ وجهه، فيعرف الناس المؤمن والكافر، ولكأني بها قد خرجت عقب ركب من الحاج (5) .
فصل: يشتمل على صفة الدابة وموضع خروجها
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أنه ذكر الدابة فقال: طولها ستون ذراعاً، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب )) (6) .
وروى حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أنها ذات وَبَرٍ وريش )) (7) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/340 ح3187).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/192).
(3) ... في الأصل: تكتب. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: وتكتب. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (20/15-16). وذكره السيوطي في الدر (6/379) وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... أخرجه الحاكم (4/530 ح8490)، ولفظه: ((لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب))، والطبري (20/14).
(7) ... أخرجه الطبري (20/15). وذكره السيوطي في الدر (6/380) وعزاه لابن جرير.(1/555)
وروي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (( هي دابة ذات زَغَبٍ وريش، لها أربع قوائم )) (1) .
وقال وهب بن منبه: وجهها وجه رجل، وسائر خلقها كخلق الطير (2) .
وأكثر الأحاديث والآثار تُؤذن أنها تخرج من الصفا، وهو قول ابن مسعود وابن عمر، وعامة المفسرين (3) .
قال سوادة: كنت مع ابن عباس بمكة فبينما هو على الصفا إذ قَرَعَ الصفا بعصاه وهو محرم قد عصب رأسه بشِراك وهو يقول: إن [الدابة] (4) لتسمع قَرْعَ عَصَايَ هذه (5) .
وقال حذيفة بن أسيد: للدابة ثلاث خَرَجَاتٍ؛ خَرْجَةٌ في بعض البوادي ثم تَنْكَتِم، وخَرْجَةٌ في بعض القرى ثم تَنْكَتِم، فبينما الناس عند أعظم المساجد -يعني المسجد الحرام- إذ ارتفعت الأرض فانطلق الناس هُرّاباً فلا يفوتونها، حتى إنها لتأتي الرجل وهو يصلي فتقول: أتتعوذُ بالصلاة! والله ما كنتَ من أهل الصلاة، فتخْطِمُهُ، وتجلو وجه المؤمن (6) .
__________
(1) ... أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (2/665 ح1862)، وابن أبي حاتم (9/2925). وذكره السيوطي في الدر (6/381) وعزاه لسعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/191).
(3) ... أخرجه الطبري (20/14-15)، وابن أبي حاتم (9/2925).
(4) ... في الأصل: الدبة. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن حبان في الثقات (4/340)، والواحدي في الوسيط (3/385).
(6) ... أخرجه الطيالسي في مسنده (1/144 ح1069)، والحاكم (4/531 ح8491) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبري (20/14-15)، وابن أبي حاتم (9/2923). وذكره السيوطي في الدر (6/381) وعزاه للطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب.(1/556)
فصل
اختلف القراء في قوله تعالى: { تكلمهم } فقرأ الأكثرون بالتشديد.
قال قتادة ومقاتل (1) : تُكلّمهم بالعربية فتقول: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (2) .
قال بعض المحققين: قولها: "بآياتنا" حكاية لقول الله تعالى، أو هو على معنى: بآيات ربنا، أو ساغ ذلك لموضع اختصاصها بالله وأَثَرَتِها عنده، وكونها من خواص خلقه، كما يقول بعض خواص الملك: بلادنا وخيلنا، وإنما هي بلاد مولاه وخيله.
وقال السدي: تُكلمهم ببطلان الأديان، سوى دين الإسلام (3) .
وقيل: كلامها قولها: هذا مؤمن وهذا كافر.
وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري: "تَكْلِمُهُم" بفتح التاء وسكون الكاف وكسر اللام وتخفيفها (4) ، من الكَلْم، وهو الجَرْح.
والمراد به: الوَسْم بالعصا والخاتم.
ويجوز أن يكون المراد على قراءة من قرأ بالتشديد ما هو المراد على
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/485).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/385-386).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/193).
(4) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/193)، والدر المصون (5/328).(1/557)
قراءة من خفّف، وهو الجَرْح على معنى التكثير.
وروي (1) عن ابن عباس قال: كل ذلك والله تفعل، تُكَلِّمُ المؤمن وتَكْلِمُ الكافر، أي: تجرحه (2) .
قوله تعالى: { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } قرأ أهل الكوفة: "أنَّ الناس" بالفتح، وكسرها الباقون (3) .
فمن فتح فعلى معنى: تكلّمهم بأن الناس، وهكذا قرأها ابن مسعود.
ومن كسر فعلى إضمار القول، أو لأن الكلام قولٌ، أو هو حكاية منها بقول الله تعالى.
tPِqtƒur نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ
__________
(1) ... في ب: ويروى.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2926). وذكره السيوطي في الدر (6/378)، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... الحجة للفارسي (3/246)، والحجة لابن زنجلة (ص:538)، والكشف (2/167)، والإتحاف (ص:339-340)، والسبعة (ص:486-487).(1/558)
تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اردب
قوله تعالى: { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } أي: جماعة، يعني: الرؤساء والقادة في الكفر.
قال ابن عباس: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يساقون من (1) بين يدي أهل مكة، وكذلك تُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار (2) .
__________
(1) ... ساقط من ب.
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/390).(1/559)
وقيل: يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.
{ فهم يوزعون } يُحبسون ويُكَفُّ أولهم لآخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار.
{ حتى إذا جاؤوا } يعني: إلى موقف الحساب { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً } الواو في "وَلَمْ" للحال، كأنه قال: أكذبتم بآياتي جاهلين بها غير ناظرين في معانيها ولا متّفقين فيها.
{ أم ماذا كنتم تعملون } في الدنيا، والمراد من هذا السؤال: تبكيتهم، فإنهم لم يعملوا إلا التكذيب، فلا سبيل لهم إلى إنكاره.
{ ووقع القول عليهم بما ظلموا } أي: وجب العذاب عليهم بما أشركوا وعصوا { فهم لا ينطقون } بحجة يُماحِلُون بها عن أنفسهم، أو لا ينطقون لما يَبْغَتُهم من أهوال القيامة وشدائدها، كقوله تعالى: { هذا يوم لا ينطقون } [المرسلات:35].
قوله تعالى: { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً } قد سبق القول على معنى ذلك (1) . { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } .
tPِqtƒur يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ
__________
(1) ... في سورة يونس عند الآية رقم: 67.(1/560)
اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ازةب
قوله تعالى: { ويوم ينفخ في الصور } قال ابن عباس: يريد: النفخة(1/561)
الأولى (1) .
{ ففزع من في السموات ومن في الأرض } (2) وذلك حين يصعقون ويموتون لشدة الخوف، { إلا من شاء الله } وهم الشهداء، في قول ابن عباس وأبي هريرة وأكثر المفسرين (3) .
وقال مقاتل (4) : هم جبريل، وميكال، [وإسرافيل] (5) ، وملك الموت.
وقال الضحاك وأبو إسحاق بن شاقلا: هم الذين خُلقوا للبقاء، [كالحور] (6) العين، وخَزَنة النار، وحَمَلَة العرش (7) .
{ وكلٌ آتُوه داخرين } أصلها: آتِيُونَه، فاعِلُونه، فلما انضمت الياء وقبلها كسرة استُثْقِل ذلك فيها، فألقيت حركة الياء على التاء وحذفت كسرة التاء،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/386)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/195).
(2) ... قال ابن جرير الطبري (20/20): فإن قال قائل: وكيف قيل: "فَفَزِعَ"، فجعل فزع وهي فعل مردودة على "ينفخ"، وهي يَفْعُلُ؟
... قيل: العرب تفعل ذلك في المواضع التي تصلح فيها "إذا"، لأن "إذا" يصلح معها فعل ويفعل، كقولك: أزورك إذا زرتني، وأزورك إذا تزورني، فإذا وضع مكان "إذا" "يوم" أجرى مجرى "إذا".
(3) ... أخرجه الطبري (20/19)، وابن أبي حاتم (9/2930) كلاهما من حديث طويل عن أبي هريرة. وذكره السيوطي في الدر (6/384) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير عن أبي هريرة.
(4) ... تفسير مقاتل (2/486).
(5) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: كاحور. والتصويب من ب.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/195).(1/562)
فاجتمع ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وكانت أولى بالحذف؛ لأن الواو تدل على الجمع، وحذفت النون للإضافة، والهاء في موضع خفض لإضافة اسم الفاعل إليها.
[والمعنى] (1) : وكلٌ يأتون الله تعالى يحضرون الموقف.
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم: "أَتَوْهُ" بالقَصْر وفتح التاء، جعلاه فعلاً ماضياً (2) .
{ داخرين } : صاغرين ذليلين.
قوله تعالى: { وترى الجبال تحسبها جامدة } أي: واقفة.
قال ابن قتيبة (3) : هذا يكون إذا نُفِخ في الصُّور، تُجْمَعُ الجبال وتُسَيَّر، فهي لكثرتها تُحْسَبُ جامدة.
{ وهي تمرّ مرّ السحاب } أي: تسير سَيْرَ السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، كالجيش العظيم إذا تحركت يحسبها الناظر واقفة، كما قال النابغة يصف جيشاً:
بأرْعَنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسِبُ أنهم ... وُقوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ (4)
__________
(1) ... في الأصل: المعنى. والتصويب من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/246)، والحجة لابن زنجلة (ص:538-539)، والكشف (2/167)، والنشر (2/339)، والإتحاف (ص:340)، والسبعة (ص:487).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:327).
(4) ... البيت للنابغة الجعدي، انظر: ديوانه (ص:187)، واللسان (مادة: صرد)، وتأويل المشكل (ص:6)، والدر المصون (5/329)، والطبري (20/21)، والقرطبي (13/242)، وزاد المسير (6/196)، وروح المعاني (9/180، 20/34).(1/563)
والأرْعَن: الجبل الكثيف.
{ صنع الله } قال الزجاج (1) : هو منصوب على المصدر؛ لأن قوله: { وترى الجبال تحسبها جامدة } دليل على الصَّنْعَة، فكأنه قال: صَنَعَ الله تعالى ذلك صُنْعاً.
{ الذي أتقن كل شيء } أحكمه وأبرمه، { إنه خبير بما يفعلون } أي: بما يفعل العباد، طائعهم وعاصيهم.
وقرأ نافع وابن عامر في رواية عنه وأهل الكوفة: "تفعلون" بالتاء، على المخاطبة للعباد (2) .
قوله تعالى: { من جاء بالحسنة } مفسّر في آخر الأنعام (3) .
{ فله خير منها } وهو الثواب المضاعف الدائم.
وقيل: المعنى: فله خير حاصل من جهتها، وهو الجنة.
{ وهم من فزع يومئذ آمنون } قرأ أهل الكوفة: "فَزَعٍ" بالتنوين، وقرأ نافع وأهل الكوفة: "يومَئذٍ" [بفتح الميم. وقرأ الباقون: "فَزَعِ" بغير تنوين على الإضافة، "يومِئذٍ" بخفض] (4) الميم (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/130).
(2) ... الحجة للفارسي (3/247)، والحجة لابن زنجلة (ص:539)، والكشف (2/169)، والنشر (2/339)، والإتحاف (ص:340)، والسبعة (ص:487).
(3) ... آية رقم: 160.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... الحجة للفارسي (3/247)، والحجة لابن زنجلة (ص:540)، والكشف (2/169)، والنشر (2/340)، والإتحاف (ص:340)، والسبعة (ص:487).(1/564)
قال الفراء (1) : الإضافةُ أعجب إليّ في العربية؛ لأنه فَزَعٌ معلوم، ألا ترى إلى قوله تعالى: { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [الأنبياء:103] فصيّره معرفةً، فإذا أضفْتَ وكان معرفةً كان أحب إليّ.
واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال (2) : هي أعمّ التأويلين، فيكون الأمن [من] (3) فزعٍ من جميع ذلك اليوم.
قال أبو علي الفارسي (4) : إذا نوّن يجوز [أن يُعْنى به فزع واحد، ويجوز] (5) أن يُعْنى به الكثرة؛ لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإن كانت مفردة الألفاظ، كقوله تعالى: { إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير } [لقمان:19]، وكذلك إذا أضيفت يجوز أن يُعْنى [به] (6) مفرد، ويجوز أن يُعْنى [به] (7) كثرة.
وعلى هذا: القراءتان سواء، فإن أريد به الكثرة: فهو شامل لكل فزع يكون يوم القيامة، وإن أريد به الواحد: فهو المشار إليه بقوله: { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [الأنبياء:103].
__________
(1) ... معاني الفراء (2/301).
(2) ... لم أقف عليه في مجاز القرآن.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... الحجة (3/248).
(5) ... زيادة من ب، والحجة، الموضع السابق.
(6) ... في الأصل: بها. والتصويب من ب، والحجة، الموضع السابق.
(7) ... زيادة من الحجة (3/248).(1/565)
قال أبو علي (1) : من قرأ: "فَزَعٍ" بالتنوين، "يومَئذ" بفتح الميم، جاز في انتصاب يومئذ: أن يكون منتصباً بالمصدر، كأنه: وهم من أن يفزعوا يومَئِذْ. وجاز أن يتعلق باسم الفاعل كأنه: وهم آمنون يومَئِذٍ من فزعٍ.
قال (2) : ومن كسر الميم من "يومِئذ" في [المواضع] (3) الثلاثة في هود (4) وهاهنا وفي سأل سائل (5) ؛ فلأن يوماً اسمٌ معربٌ أضيف إليه ما أضيف من الخزي والعذاب والفزع، فانجرّ بالإضافة، ولم يَفْتَح اليوم، فتبنيه لإضافته إلى المبني؛ لأن المضاف منفصلٌ من المضاف إليه، ولا تلزمه الإضافة، فلما لم تلزم الإضافة المضاف لم يلزم فيه البناء.
ومن فتح الميم فقال: { من خزي يومَئذ } ، و { من عذاب يومَئذ } مع أنه في موضع جر؛ فلأن المضاف يكتسي من المضاف إليه التعريف والتنكير.
ومعنى الاستفهام والجزاء في نحو: غلامَ مَنْ تضربُ؟ وغلامَ مَنْ تضربْ أضرِبْه، فلما كان يكتسي من المضاف إليه هذه الأشياء اكتسى منه أيضاً البناء، فبُنيَ اليومَ لإضافته إلى مبني.
فأما من أضاف "من فَزَعِ يَومِئذْ" ولم ينوّن الفزع، فإنه عرّفه بالإضافة إلى اليوم؛ [لأن] (6) المراد به من فزع يوم مخصوص، وهو يوم القيامة،
__________
(1) ... الحجة (3/247-248).
(2) ... أي: أبو علي الفارسي في الحجة (2/403-406).
(3) ... في الأصل: الموضع. والتصويب من ب.
(4) ... عند الآية رقم: 66.
(5) ... عند الآية رقم: 11.
(6) ... في الأصل: ولأن. والتصويب من ب.(1/566)
فكأنه: وهم من فزع يوم القيامة آمنون، فهذا معرفةُ مخصوص.
ومن نوَّنَ الفَزَعَ ونَكَّرَه فكأنه فَصَلَ ولم يُضِفْ؛ لأنه لما جاء الفزع الأكبر دلّ ذلك على ضروب منه، وإذا نوّن فقد وقع الأمن من جميع ذلك، أكثره (1) وأوسطه وأدونه؛ لأن النكرة تعمّ والمعرفة تخصّ. هذا كله كلام أبي علي.
قوله تعالى: { ومن جاء بالسيئة } قال المفسرون: هي الشرك (2) { فكبّت وجوههم في النار } .
قوله تعالى: { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحكاية لما يقال لهم عند الكبّ بإضمار القول.
!$yJ¯Rخ) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
__________
(1) ... في الحجة (2/406): أكبره.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/441 ح3528) عن عبدالله بن مسعود وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ومجاهد (ص:476)، وابن أبي حاتم (9/2935)، والطبري (20/22) من عدة طرق. وذكره السيوطي في الدر (6/385-387) من طرق كثيرة.(1/567)
الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ازجب
قوله تعالى: { إنما أمرت } أي: قل يا محمد للمشركين: إنما أمرت، { أن أعبد رب هذه البلدة } يعني: مكة، { الذي حرمها } في موضع نصب صفة لـ"رب" (1) .
وقرأ ابن مسعود: "التي حرمها" (2) ، فتكون في موضع جرّ صفة
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/176)، والدر المصون (5/330).
(2) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/198).(1/568)
[للبلدة] (1) .
والمعنى: عظّم حرمتها، فلا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاها.
{ وله كل شيء } خَلْقاً ومُلْكاً، فهو المستحق للعبادة، { وأمرت أن أكون من المسلمين } المخلصين لله تعالى بالتوحيد.
{ وأن أتلو القرآن } أي: أقرأه عليكم.
وقيل: المعنى: وأن أتبع القرآن وأعمل بما فيه.
{ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } أي: فإنما يرجع نفع اهتدائه إليه، { ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين } ليس عليّ إلا البلاغ.
وهذا كان قبل الأمر بالقتال.
ثم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحمده على ما خوَّله من نعمه وهدايته فقال: { وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها } قال ابن عباس: منها: الدخان وانشقاق القمر (2) .
وقال مقاتل (3) : يعني: العذاب في الدنيا، والقتل ببدر.
وقال الحسن: المعنى: سيريكم آياته في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا (4) .
__________
(1) ... في الأصل: لبلدة. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/198).
(3) ... تفسير مقاتل (2/487).
(4) ... ذكره الماوردي (4/232)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/198).(1/569)
وقال الزجاج (1) : سيريكم آياته في جميع ما خَلَق، وفي أنفسكم.
{ وما ربك بغافل عما يعملون } قرئ بالياء على المغايبة، لقوله: "وما ربك"، وبالتاء على المخاطبة (2) ، وقد ذكر في آخر هود (3) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/130).
(2) ... الحجة للفارسي (3/248)، والحجة لابن زنجلة (ص:541)، والكشف (2/538)، والنشر (2/262-263)، والإتحاف (ص:340)، والسبعة (ص:488).
(3) ... عند الآية رقم: 123.(1/570)
سورة القصص
ijk
وهي تسعون آية إلا آيتين، وهي مكية غير قوله تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن... الآية } فإنها نزلت بالجحفة أيام الهجرة (1) .
$Oû،غ (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ Zpxےح !$sغ مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
__________
(1) ... البرهان في علوم القرآن (1/197)، والماوردي (4/233)، وزاد المسير (6/200).(1/571)
الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ Zp£Jح r& وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ادب
قوله تعالى: { من نبأ موسى وفرعون } : مفعول "نتلو" (1) ، أي: نتلوا عليك بعض خبرهما.
قوله تعالى: { إن فرعون علا في الأرض } أي: طغى في أرض مصر وتجبّر، { وجعل أهلها شيعاً } فِرَقاً وأصنافاً في خدمته.
وقيل: جعلهم شِيعاً: فِرَقاً على أهواء مختلفة، وألقى بينهم التشاحن، وأغرى بين القبط وبني إسرائيل، وشتّت كلمتهم؛ ليتمكن من التسلّط عليهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/176)، والدر المصون (5/331).(1/572)
{ يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل. ومحله النصب على الحال من الضمير في "وجعل"، أو صفة لـ"شيعاً". ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً (1) .
قوله (2) تعالى: { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } بدل من "يستضعف"، وقد سبق في البقرة سبب قتله واستحيائه النساء.
قوله تعالى: { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } يعني: بني إسرائيل، وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: { إن فرعون } . ويجوز أن يكون حالاً من "يستضعف" (3) ، على معنى: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نَمُنَّ عليهم (4) .
{ ونجعلهم أئمة } قال مجاهد: دُعاةً إلى الخير (5) .
وقال قتادة: وُلاةً ومُلوكاً (6) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/176)، والدر المصون (5/331).
(2) ... في ب: وقوله.
(3) ... قال السمين الحلبي في الدر المصون (5/332): وفيه ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى. أما الصناعة فلكونه مضارعاً مثبتاً، فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي: ونحن نريد. وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنّة من الله؟ لأنه متى منَّ الله عليهم تعذّر استضعاف فرعون إياهم. وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المنّة بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع قريبته جُعِلَت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
(4) ... انظر: الدر المصون (5/332).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/390).
(6) ... أخرجه الطبري (20/28)، وابن أبي حاتم (9/2941). وذكره السيوطي في الدر (6/392) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/573)
{ ونجعلهم الوارثين } يرثون مُلْك فرعون وغيره.
{ ونمكن لهم في الأرض } [نُمهّد لهم في أرض] (1) الشام ومصر ونبسط أيديهم ونُعِزّ سلطانهم.
{ ونري فرعون وهامان وجنودهما } وقرأ حمزة والكسائي: "ويَرى" بالياء المفتوحة وإمالة الراء، "فرعونُ وهامانُ وجنودُهُما" بالرفع (2) .
والمعنى: يُريهم أو يَرون من بني إسرائيل الذين قهروهم واستعبدوهم واستضعفوهم، { ما كانوا يحذرون } أي: يخافونه من ذهاب مُلْكهم وهلاكهم على يد مولودٍ منهم.
!$uZّٹym÷rr&ur إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... الحجة للفارسي (3/249)، والحجة لابن زنجلة (ص:541-542)، والكشف (2/172)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:341).(1/574)
الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِن فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ازب
قوله تعالى: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } قال وهب بن منبه: لما حملت بموسى عليه السلام كَتَمَتْ أمرها فلم يطّلع عليه أحد، ولم ينتُؤ بطنها، ولم يتغيّر لونها، ولم يظهر لَبَنُها، وفي تلك السنة تقدم فرعون إلى القوابل فَفَتَّشْنَ تفتيشاً لم يُفَتِّشْنَهُ قبل ذلك، فلما كانت الليلة التي وُلد فيها موسى - صلى الله عليه وسلم - ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطّلع عليها أحد إلا أخته مريم،(1/575)
فأوحى الله تعالى إليها { أن أرضعيه فإذا خفت عليه... الآية } . قال: فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه عملت له تابوتاً مُطْبَقاً ومهَّدت له، ثم ألقته في البحر ليلاً كما أمرها الله تعالى، فلما أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل، فبصُر بالتابوت، فقال لمن حوله من خدمه: ائتوني بهذا التابوت، فأتوه به، فلما وُضع بين يديه فتحوه فوجدوا فيه موسى، فلما نظر إليه فرعون قال: عِبْراني من الأعداء، فغاظه ذلك وكيف أخطأ هذا الغلام الذبح.
وكان فرعون [قد] (1) استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها: آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء، وكانت أماً للمسلمين ترحمهم وتُعطيهم ويدخلون عليها، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة، وإنما أُمِرْتَ أن تذبح الولدان لهذه السنة، فدعه يكن قرة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. فاستحيا فرعون وَوَمِقَه (2) ، [وألقى] (3) الله تعالى عليه محبته ورأفته (4) .
وقال جماعة من المفسرين: كانت امرأة من القوابل مصافية لأم موسى فتولّت أمرها، فلما وضعت رأت له نوراً بين عينيه، فارتعش كل مفصل
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... وَمِقَه: أي: أحبه (انظر: اللسان، مادة: ومق).
(3) ... في الأصل: ألقى. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (2/627-628 ح4097).(1/576)
منها، ودخل حبه قلبها، فقالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأُخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حباً ما وجدت قبله مثله، فاحتفظي به، ثم خرجت فرآها بعض العيون، فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفَّتْ موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو يُسْجَر، ولا تشعر بذلك لما طاش من عقلها، فدخلوا ففتشوا فلم يجدوا شيئاً، فخرجوا وهي لا تعلم أين هو، فقالت لأخته: أين أخوك؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه من التنور، فوثبت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه (1) بَرْداً وسلاماً، فأرضعته ثلاثة أشهر (2) ، كما رويناه عن وهب.
وقيل: أربعة أشهر.
قال ابن عباس: { وأوحينا إلى أم موسى } : قذفنا في قلبها وألهمناها (3) .
وقيل: رأتْ في منامها (4) .
وقال مقاتل (5) : جاءها جبريل بذلك، واسم أمه: يوخابذ (6) بنت لاوي بن يعقوب.
__________
(1) ... في ب: عليه النار.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/202).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2941). وذكره السيوطي في الدر (6/393) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/235)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/202) عن الماوردي.
(5) ... تفسير مقاتل (2/489).
(6) ... في تفسير مقاتل: يوكابد.(1/577)
قوله تعالى: { فإذا خفت عليه } أي: خشيت عليه، { فألقيه في اليم } يريد: النيل، { ولا تخافي } عليه الغرق والضياع، { ولا تحزني } . وقد ذكرنا فيما مضى أن الخوف غَمٌّ يلحق الإنسان لأمر متوقَّع، وأن الحُزْن لأمر ماض.
ثم بَشَّرها ببشارتين تنال بهما شرف الدارين مع ظفرها بمقصودها فقال: { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } .
قال الأصمعي: قلتُ لأعرابية: ما أفصحكِ؟ فقالت: أو بعد هذه الآية فصاحة، وهي قوله تعالى: { وأوحينا إلى أم موسى ... الآية } فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين (1) .
قوله تعالى: { فالتقطه آل فرعون } الالتقاط: إصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآله: الذين أصابوا التابوت.
قال السدي: جواري امرأته (2) .
وقال محمد بن قيس: بنت فرعون (3) .
قوله تعالى: { ليكون لهم عدواً وحزناً } البصريون من النحويين يُسمُّون هذه اللام وإن كانت على صورة لام كي: لام العاقبة ولام الصيرورة؛ لأن عاقبة الشيء المذكور انتهت إلى ما أخبر به [وصارت] (4) إليه، وإن لم يكن مما أثّره الفاعل ولا أراده.
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/236)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/203).
(2) ... أخرجه الطبري (20/31-32). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/203).
(3) ... أخرجه الطبري (20/32). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/203).
(4) ... في الأصل: وصار. والتصويب من ب.(1/578)
وأما الفراء وأصحابه الكوفيون فيذهبون إلى أنها لام كي؛ تنزيلاً لحال الابتداء على معنى الانتهاء، ونظيره: أن يَسْقِي رجل رجلاً دواء ليشفيه من دائه فيتلف، فيقال: سقاه دواء فقتله، وسقاه ليقتله، أي: كان بمنزلة من قصد إتلافه وإن كان كارهاً غير مختار له، وأنشدوا:
وللموتِ تَغْذُوا الوالداتُ سِخَالَها ... ... كَمَا لِخَرَابِ الدُّورِ تُبْنَى المساكن (1)
[وقال آخر:
وللمَنَايا تُربي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... ... وللخرابِ يُجِدُّ الناسُ عُمرانا (2) ] (3)
وقال آخر:
فإنْ يَكُنِ الموتُ أفناهُمُ ... ... فللموتِ ما تَلِدُ الوالدَه (4)
قوله تعالى: { وقالت امرأة فرعون } يعني: آسية { قرة عين لي ولك } فقال فرعون: لكِ لا لي.
وقد جاء في الحديث: (( أنه لو قال يومئذ: قرة عين لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها )) (5) .
[قال الزجاج (6) : رَفَعَ] (7) "قُرَّةُ عين" [على] (8) إضمار هو.
__________
(1) ... انظر البيت في: القرطبي (13/252)، وزاد المسير (4/56)، والدر المصون (4/64)، وفيض القدير (1/264، 5/485).
(2) ... انظر البيت في: زاد المسير (4/56)، والدر المصون (4/64)، والبحر المحيط (5/185).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... انظر البيت في: زاد المسير (4/56).
(5) ... أخرجه النسائي في الكبرى (6/397 ح11326).
(6) ... معاني الزجاج (4/133).
(7) ... في الأصل: قال: الرفع. والتصويب من ب.
(8) ... في الأصل: لي. والتصويب من ب.(1/579)
قلت: ومِنْ جَهَلَةِ القرَّاء من يرى الوقف على قوله: "ولك لا"، ويُفْسِدُ هذا قوله: { تقتلوه } فإنه مجزومٌ ولا جازم له.
قال المفسرون: كان فرعون لا يولد له إلا البنات (1) فقالت: { عسى أن ينفعنا } أي: نجد منه خيراً، كأنها تلمحت منه [مخايل] (2) اليُمْن والبركة، لما عاينت من النور الذي بين عينيه، وارتضاعه إبهامه، وبُرْءِ بَرَصِ بنت فرعون بريقه، { أو نتخذه ولداً } .
قال الله تعالى: { وهم لا يشعرون } قال مجاهد: لا يعلمون أنه عدوّ لهم (3) .
وقال قتادة: لا يعلمون أن هلاكهم على يديه (4) .
وقال ابن إسحاق: لا يشعرون أني أعمل ما أريد (5) .
وقيل: المعنى: والناس لا يشعرون أنه لقيط، بل يحسبون أنه ولدنا. فيكون من تمام كلامها.
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:478). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/204).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (20/34)، وابن أبي حاتم (9/2945)، ومجاهد (ص:481). وذكره السيوطي في الدر (6/394) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (20/34). وذكره السيوطي في الدر (6/394) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/204).(1/580)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَن(1/581)
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ اتجب
قوله تعالى: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } قال ابن عباس وجمهور المفسرين: أصبح قلبها فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى (1) .
وقال الحسن ومحمد بن إسحاق: فارغاً من الوحي الذي أوحى الله تعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر، ومن العهد الذي عهد إليها أنه يردُّه عليها، فجاءها الشيطان وقال: يا أم موسى كرهت أن يَقتُل فرعون موسى ولك أجره، وتوليت أنت قتله فألقيتيه أنت في البحر وغرّقتيه، فلما [أتاها] (2) الخبر أن فرعون أصابه قالت: إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت [به] (3) منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله تعالى إليها، فذلك قوله تعالى: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } (4) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/441 ح3529) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبري (20/35-36)، وابن أبي حاتم (9/2946). وذكره السيوطي في الدر (6/394-395) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس، ومن طرق أخرى كثيرة.
(2) ... في الأصل: أتاه. والتصويب من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... أخرجه الطبري (20/36).(1/582)
وقال أبو عبيدة (1) : فارغاً من الحزن؛ لعلمها أنه لم يَغرَق (2) .
وعجب ابن قتيبة من هذا وقال (3) : كيف يكون كذلك والله تعالى يقول: { لولا أن ربطنا على قلبها } (4) ؟! وهل يُربَطُ إلا على قلب الجازع المحزون؟!.
وقال صاحب الكشاف (5) : "فارغاً": صفراً من العقل. والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها؛ لما دهشها (6) من فرط الجَزَع، ونحوه: { وأفئدتهم هواء } [إبراهيم:43]، أي: جُوَّفٌ لا عقول فيها. ويدل عليه قراءة من قرأ: "فَزِعاً"، وقرئ: "قَرِعاً" أي: خالياً، من قولهم: أعوذ بالله من صِفْر الإناء وقَرْع الفِنَاء، و "فِرْغاً" من قولهم: دماؤهم بينهم فِرْغ، أي: هَدْر، يعني: بَطَلَ قلبُها وذهبَ، وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها.
قلت: الذي قرأ: "فَزِعاً" بفاء معجمة بواحدة وزاي معجمة مكسورة وعين مهملة: أبو رزين والضحاك وأبو العالية وقتادة وعاصم الجحدري في آخرين (7) . وبها قرأتُ على شيخنا أبي البقاء عبدالله بن الحسين النحوي
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/98).
(2) ... قال القرطبي (13/255): وقول أبي عبيدة غلط قبيح.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:328-329).
(4) ... في الأصل زيادة: { لتكون من المؤمنين } وستأتي بعد.
(5) ... الكشاف (3/400).
(6) ... في الكشاف: دهمها.
(7) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/204).(1/583)
للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه.
ومثلهم قراءة عبدالله بن عباس ومعاذ القارئ وأبو عمران الجوني، إلا أنهم سكّنوا الزاي (1) .
والذي قرأ: "قَرِعاً" بقاف وراء مهملة مكسورة وبعين مهملة: أبي بن كعب، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو رجاء العطاردي (2) . ومثلهم قرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء، إلا أنهم فتحوا الراء.
قوله تعالى: { إن كادت لتبدي به } أي: بموسى وذلك حين فارقته.
قال ابن عباس: كادت تقول: يا بنياه! من شدة وَجْدِها عليه (3) .
وقال السدي: كادت تقول حين حملت لرضاعه: هذا ابني (4) .
وقال ابن السائب: كادت تقول: هو ابني، لما كبر وسمعت الناس يقولون: هذا ابن فرعون (5) .
وحكى ابن جرير (6) : أن الضمير يعود إلى الوحي، على معنى: إن كادت لتبدي بالوحي، فتتحدث بأنها فعلت ما فعلت من إلقائه في اليم، وما بُشّرت به من رَدِّهِ إليها، وجَعْلِهِ من المرسلين.
{ لولا أن ربطنا على قلبها } ألهمناها الصبر وقوّينا قلبها وثبتناه، { لتكون
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في الدر المصون (5/333).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (20/37)، وابن أبي حاتم (9/2947).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/205).
(6) ... تفسير ابن جرير الطبري (20/37).(1/584)
من المؤمنين } المُصَدِّقين بوعد الله تعالى، وهو قوله تعالى: { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } .
قوله تعالى: { وقالت لأخته قصيه } أي: ابْتَغِي أثَرَه وتتبَّعِي خبره.
قال المفسرون: سمعت أن فرعون أصاب صبياً في تابوت، فقالت لأخته: تنكَّري واذهبي مع الناس وانظري ماذا يفعلون به، فدخلت مع القوابل، { فبصرت به عن جنب } أي: بُعْد، { وهم لا يشعرون } أنها أخته ولا أنها تَرْقُبُه.
قوله تعالى: { وحرّمنا عليه المراضع } وهو جمع مُرْضِع، { من قبل } أي: من قبل رَدِّهِ إلى أمه.
قال المفسرون: بقي ثمانية أيام ولياليهن كلما أُتيَ بمرْضِعْ لا يقبل ثديها، فأهمّهم ذلك واشتدّ عليهم، { فقالت } لهم أخته حين رأت شفقتهم عليه ورأفتهم به: { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } ؟ فقالوا لها: نعم، مَنْ تلك؟ فقالت: أمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن هارون. فلما جاءت قبل ثديها. وقيل: إنها لما قالت: { وهم له ناصحون } قالوا: لعلك تعرفين أهله؟ قالت: لا، ولكن إنما قلت: وهم للملك ناصحون (1) .
قال أهل التفسير: لما وجد ريحها استأنس والْتَقَم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنت منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طَيِّبُ الريح، طيِّبَةَ اللبن، لا أوتى بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها (2) ، وذهبت
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/206).
(2) ... قال الزمخشري في الكشاف (3/401): فإن قلت: كيف حلّ لها أن تأخذ الأجر إلى إرضاع ولدها؟
... قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربيّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة.(1/585)
به إلى بيتها، وأنجز الله سبحانه وتعالى وعده في الرد، فعندها ثبت واستقر في علمها أن سيكون نبياً، فذلك قوله تعالى: { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها } بولدها { ولا تحزن } على فراقه { ولتعلم أن وعد الله } تعالى برده إليها وكونه مرسلاً (1) { حق } لا ريب فيه، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله تعالى وعدها بذلك (2) .
فلما فطمتْه ردَّتْه إلى فرعون فنشأ في حجر فرعون وحجر امرأته واتخذاه ولداً.
$£Js9ur بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ
__________
(1) ... في ب: رسولاً.
(2) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/229). وانظر: الماوردي (4/239).(1/586)
أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ اتذب(1/587)
قوله تعالى: { ولما بلغ أشده } مفسّر في أواخر الأنعام (1) ، وأول يوسف (2) ، { واستوى } اعتدل وتمّ استحكامه.
قال ابن عباس: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه: أربعون سنة (3) .
{ آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين } مفسر في سورة يوسف (4) .
قوله تعالى: { ودخل المدينة } أي: ودخل موسى مصر، وقيل: مَنْفَ (5) -قرية من مصر-، { على حين غفلة من أهلها } .
قال علي عليه السلام: دخلها في يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا بلَهْوِهِم (6) .
وقال ابن عباس: عند الظهيرة وقت القائلة (7) .
وقال وهب بن منبه: بين المغرب والعشاء (8) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 152.
(2) ... عند الآية رقم: 22.
(3) ... أخرجه الطبري (20/42)، وابن أبي حاتم (9/2951). وذكره السيوطي في الدر (6/397) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه.
(4) ... عند الآية رقم: 22.
(5) ... مَنْف: مدينة فرعون بمصر، بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، وبينها وبين عين شمس ستة فراسخ (معجم البلدان 5/213-214).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/208).
(7) ... أخرجه الطبري (20/44)، وابن أبي حاتم (9/2953). وذكره السيوطي في الدر (6/398) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولفظهم: "نصف النهار".
(8) ... أخرجه الطبري (20/44)، وابن أبي حاتم (9/2953) كلاهما عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/208) عن وهب بن منبه، والسيوطي في الدر (6/398) وعزاه لابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس.(1/588)
{ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته } أي: من بني إسرائيل، { وهذا من عدوه } يعني: من القبط.
وقد قيل: إن الذي من شيعته: السامري، والذي من عدوه: طبّاخُ فرعون، وكان سَخَّر الإسرائيلي يحمل له حطباً إلى مطبخ فرعون، { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } أي: استنصره عليه، { فوكزه موسى } قال الفراء (1) : دَفَعَهُ بأطراف أصابعه.
وقال الزجاج (2) : الوَكْزُ: أن يضربه بجميع كَفِّه، وقد قيل: وَكَزَهُ بالعصا.
ويقال: وَكَزَهُ ولَكَزَهُ ونَكَزَهُ ولَهَزَهُ بمعنىً واحد، أي: دَفَعَه.
وفي قراءة ابن مسعود: "فلَكَزَه موسى" (3) .
{ فقضى عليه } أي: فقتله.
قال العلماء بالتفسير: كان موسى شديد البطش، فوَكَزَ القبطي فقتله، وهو لا يريد قتله (4) ، فندم على ذلك وقال: { هذا من عمل الشيطان } أي: بسبب منه؛ لأنه الحامل له على ذلك بتهييج غضبه، { إنه عدو } لبني آدم { مضل }
__________
(1) ... لم أقف عليه في معاني الفراء.
(2) ... معاني الزجاج (4/137).
(3) ... انظر هذه القراءة في : الدر المصون (5/335).
(4) ... قال الشوكاني في فتح القدير (4/164): ولا شك أن الأنبياء معصومون من الكبائر. والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد، فليس بكبيرة، ولأن الوكزة في الغالب لا تقتل.(1/589)
لهم { مبين } العداوة (1) .
{ قال رب إني ظلمت نفسي } بقتل من لم تأذن لي في قتله، { فاغفر لي } فأخبر الله تعالى أنه استجاب دعاءه، فذلك قوله تعالى: { فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } .
{ قال رب بما أنعمت عليّ } قال الزمخشري (2) : يجوز أن يكون قَسَماً جوابه محذوف، تقديره: أُقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبن، { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } وأن يكون استعطافاً، كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، فلن أكون ظهيراً للمجرمين إن عصمتني.
وقال غيره: ومن باب الاستعطاف ما قال إبراهيم بن هرمة:
باللهِ ربِّكَ إنْ دخلتَ فقلْ لَهُ ... هذا ابنُ هَرْمَةَ واقِفاً بالباب
صورته صورة قَسَمٍ لأنه تأكيد على المستعطَفِ، وليس بقسم على الحقيقة، والمستعطَفُ حاجب مروان.
قال ابن عباس: المعنى: فلن أكون عوناً للكافرين. وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً (3) ، وهو قول مقاتل (4) .
وقيل: يجوز أن يريد: فلن أكون ظهيراً لفرعون وملئه، فإنه كان مختصاً بصحبته ومنتظماً في جملته ومكثّراً لسواده، بحيث كان يُدعى ولده.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/209).
(2) ... الكشاف (3/403).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/393)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/209).
(4) ... تفسير مقاتل (2/492).(1/590)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ $Zےح !%s{ يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ اتزب
قال ابن عباس: لم يَسْتَثْنِ موسى في قوله: { فلن أكون ظهيراً(1/591)
للمجرمين } فابتُلي به مرة أخرى (1) ، يشير إلى ما ابتُلي به مع الإسرائيلي مرة ثانية، وهو قوله: { فأصبح في المدينة } (2) يعني: المدينة التي قتل فيها القبطي { خائفاً يترقب } أي: [ينتظر سُوءاً] (3) يناله بسبب قتله القبطي.
وقال ابن السائب: ينتظر متى يؤخذ (4) .
{ فإذا الذي استنصره بالأمس } [وهو الإسرائيلي] (5) { يستصرخه } على قبطي آخر، أراد أن يسخّره أيضاً، { قال له موسى } أي: للإسرائيلي. وقيل: للقبطي. والأول أظهر، { إنك لغوي } فعيلٌ بمعنى: مَغْوِيّ، كالأليم بمعنى: مؤلم، أي: إنك [لمَغْوِيّ] (6) { مبين } حيث قتلتُ أمس بسببكَ رجلاً وتستصرخني اليوم على آخر.
ويجوز أن يكون المعنى: إنك لَغَاوٍ في قتالك من لا تطيق دفع شرّه عنك.
ثم أقبل موسى عليهما وأراد أن يبطش بالقبطي، فذلك قوله: { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال } له الإسرائيلي: { يا موسى أتريد أن تقتلني } توهّم ذلك؛ لما رأى من غضب موسى عليه، وظن أنه يريده، { كما قتلت نفساً بالأمس } .
__________
(1) ... ذكره الطبري (20/47)، والماوردي (4/242).
(2) ... في الأصل زيادة قوله: { خائفاً } وستأتي بعد.
(3) ... في الأصل: ينظر سواء. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/393).
(5) ... في الأصل: والإسرائيلي. والمثبت من ب.
(6) ... في الأصل: لغوي. والمثبت من ب.(1/592)
uن!%y`ur رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ اثةب
قال المفسرون: وكانوا لا يعلمون قاتل القبطي من هو، فلما سمعوا قول الإسرائيلي: "كما قتلت نفساً بالأمس" رفعوا القصة إلى فرعون، فأمر بقتل موسى، فأخبر موسى بذلك رجل من بني إسرائيل، فذلك قوله تعالى: { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } (1) .
قال ابن عباس: هو مؤمن آل فرعون (2) . وسيأتي ذكره في سورة
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/394)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/210).
(2) ... أخرجه الطبري (20/51) عن قتادة، وابن أبي حاتم (9/2959) عن الضحاك. وذكره الواحدي في الوسيط (3/394)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/210) كلاهما عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/401، 402) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/593)
المؤمن (1) إن شاء الله تعالى.
{ قال يا موسى إن الملأ يأتمرون } قال أبو عبيدة (2) : يتشاورون، { بك ليقتلوك } .
وقال الزجاج (3) : يأمر بعضهم بعضاً.
والقولان سواء؛ لأن كل واحد من المتشاورين يأمر أصحابه بشيء، أو يشير عليه بأمر.
{ فاخرج } يعني: من مصر، { إني لك من الناصحين } في أمري إياك بالخروج.
yltچsƒmْ مِنْهَا $Zےح !%s{ يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 28.
(2) ... مجاز القرآن (2/100).
(3) ... معاني الزجاج (4/138).(1/594)
وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ اثحب
قوله تعالى: { ولما توجه تلقاء مدين } أي: قَصَدَها ونحوها.
قال المفسرون: خرج حافياً بغير زاد ولا ظهر، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له علم بالطريق، فقال: { عسى ربي أن يهديني } أي: يرشدني، { سواء السبيل }(1/595)
أي: قَصْدَ الطريق إلى مدين (1) .
قال السدي: فبعث الله تعالى له مَلَكاً فدلَّه، فورد مدين وخضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال (2) .
قوله تعالى: { ولما ورد ماء مدين } يعني: بئرهم التي يستقون منها، { وجد عليه أمّة } أي: جماعة { من الناس يسقون } أي: يسقون مواشيهم. وحذف المفعول؛ لأن الغرض هو الفعل، ومثله: "تذودان"، و "لا نسقي".
{ ووجد من دونهم } أي: في مكان أسفل من مكانهم { امرأتين } وهما ابنتا شعيب عليه السلام، { تذودان } أي: تدفعان وتطردان غنمهما عن أن تختلط بأغنام الناس، { قال ما خطبكما } أي: ما شأنكما لا تسقيان، { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } .
قرأ ابن عامر وأبو عمرو: "يَصدُر" بفتح الياء وضم الدال، من صَدَرَ يَصْدُرُ. والمعنى: حتى يرجعوا من سقيهم؛ لئلا نزاحم الرجال.
وقرأ الباقون: ["يُصْدِرَ" بضم الياء وكسر الدال (3) ، من أصْدَرَ يُصْدِرَ،
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2961-2962) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/212)، والسيوطي في الدر (6/405) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه الطبري (20/59)، وابن أبي حاتم (9/2961) كلاهما عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/212) عن السدي.
(3) ... الحجة للفارسي (3/249)، والحجة لابن زنجلة (ص:543)، والكشف (2/172)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:342)، والسبعة (ص:492).(1/596)
على معنى: حتى] (1) يُصْدِرُوا مواشيهم.
[والرعاء] (2) : جمع رَاعٍ، على قياس: تاجر وتجار، وصائم وصيام، وقائم وقيام.
{ وأبونا شيخٌ كبير } أي: طاعن في السن لا يقدر على المشي ومزاحمة الرجال، وكفّ الغنم.
المعنى: فلذلك برزنا لسقيها.
فلما سمع موسى ذلك رقَّ لهما، { فسقى لهما } أي: فسقى (3) الغنم لأجلهما.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذهب إلى بئر أخرى عليها صخرة لا يقلعها إلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما (4) .
وقال ابن إسحاق: زاحم القوم وسقى لهما (5) .
وروي: أنه سألهم دلواً من ماء، فأعطوه دلوهم وقالوا: اسْتَقِ بها، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها وصَبَّها في الحوض، ودعى بالبركة،
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: والراء. والتصويب من ب.
(3) ... في ب: سقى.
(4) ... أخرج نحوه ابن أبي حاتم (9/2964)، وابن أبي شيبة (6/334 ح31842). وذكره الماوردي (4/246)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/213). وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/405) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(5) ... أخرجه الطبري (20/58)، وابن أبي حاتم (9/2964).(1/597)
فروَّى غنمهما.
{ ثم تولى إلى الظل } أي: انصرف إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحرّ جائعاً تَعِباً، { فقال رب إني لما أنزلت إليّ } أي: لأي شيء أنزلته إليّ، { من خير } أي: طعام قليل أو كثير { فقير } شديد الحاجة إليه.
قال الباقر عليه السلام: لقد قالها، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة (1) .
çmّ?uن!$mgmْ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِن أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِن خَيْرَ
__________
(1) ... أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (7/74 ح34300) عن ابن عباس قال: ((... ولقد كان افتقر إلى شق تمرة)).(1/598)
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ اثرب
قال محمد بن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في وقت كانتا لا ترجعان فيه،(1/599)
فأنكر شأنهما فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عليّ به، فرجعت إلى موسى لتدعوه، فذلك قوله تعالى: { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } (1) ، الجار والمجرور في موضع الحال، تقديره: تمشي مستحية (2) .
قيل: أتت تمشي مشي من لم يعتد الخروج والدخول، قد استترت بكمّ درعها.
{ قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } قال بعض العلماء: كَرِهَ قولها: "ليجزيك أجر ما سقيت لنا" وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بداً لما به من الجَهْد (3) .
وقال بعضهم: فعل ذلك لوجه الله تعالى على سبيل البر والمعروف.
وقيل: إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجرة، ولكن على سبيل التقبُّل لمعروفٍ مبتدأ.
ويروى: أنه قال لشعيب حين عرض عليه الطعام: أعوذ بالله، فقال: أو لست بجائع؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيتُ لهما، وإنّا أهل بيت لا نبيع [شيئاً] (4) من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نُقري الضيف ونُطعم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/61). وذكره الواحدي في الوسيط (3/395).
(2) ... انظر: التبيان (2/177)، والدر المصون (5/339).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/396)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/214).
(4) ... في الأصل: شيء. والتصويب من ب.(1/600)
الطعام، فأكل موسى عليه السلام (1) .
{ فلما جاءه وقَصَّ عليه القصص } أي: فلما جاء موسى شعيباً وأخبره خبره وعرفه أنه من سِنْخِ إبراهيم [وسلالة] (2) الرسالة، قال له شعيب: { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يشير بذلك إلى أنه ليس لفرعون سلطان على أرضهم.
{ قالت إحداهما } وهي التي تزوجها موسى عليه السلام { يا أبت استأجره } اتخذه أجيراً على الغنم، { إن خير من استأجرت القوي الأمين } كلام جامع للمقصود؛ لأن من اجتمعت فيه الكفاءة والأمانة جدير بتفويض الأشغال إليه، والتعويل في النهوض بأعبائها عليه.
قال عمر بن الخطاب: لما قالت المرأة هذا قال لها شعيب: وما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أمّا قوّته: فإنه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا وكذا، وأما أمانته: فإنه قال لي: امشي خلفي فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك (3) .
وقيل: سَمَّتْه قوياً؛ لنزعه بالدّلو الذي ما كان يُقِلُّه إلا العدد الكثير، فرغب حينئذ فيه شعيب فقال: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/396)، والسيوطي في الدر (6/407) وعزاه لابن عساكر عن أبي حازم.
(2) ... في الأصل: وسالة. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/334 ح31842)، وابن أبي حاتم (9/2966)، والبيهقي في الكبرى (6/116 ح11415). وذكره السيوطي في الدر (6/405) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.(1/601)
تأجرني } أي: تأجرني نفسك، فحذف المفعول.
والمعنى: على أن تكون لي أجيراً ترعى لي (1) غنمي.
{ ثماني حجج } أي: سنين، { فإن أتممت عشراً } قال الزمخشري (2) : أي: عمل عشرٍ. { فمن عندك } أي: فإتمامه من عندك لا ألزمكه، لكنه [تفضُّلاً] (3) منك، { وما أريد أن أشق عليك } بإلزام العشر.
وقوله: { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } ترغيبٌ له في مصاحبته وإعلامٌ له أنه [ممن] (4) شأنه المساهلة والمجاملة، إلى غير ذلك مما يوصف به أهل الصلاح.
وقوله: "إن شاء الله" حُسْنُ أدبٍ مع الله، واتّكالٌ على توفيقه، واسْتِمدادٌ لمعونته.
{ قال } يعني: موسى لشعيب: { ذلك بيني وبينك } مبتدأ وخبر (5) ، والإشارة إلى ما وقعت المشارطة عليه بينهما، أي: ذلك الذي تعاهدنا عليه قائم بيننا لا أخرج عما [شرطته] (6) عليّ ولا تخرج عما [شرطته] (7) لي عليك.
__________
(1) ... في ب: علي.
(2) ... الكشاف (3/409).
(3) ... في الأصل: تفضيلاً. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: من. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: التبيان (2/177)، والدر المصون (5/339).
(6) ... في الأصل: شرطه. والتصويب من ب.
(7) ... مثل السابق.(1/602)
قرأ الحسن: { أيْمَا الأجلين } بتخفيف الياء من "أيّما" (1) .
قال أبو الفتح (2) : هو على تضعيف الحرف، وقد اشتهر عنهم حذف أحد المثلين إذا تجاورا، مثل: أحَسْتُ [ومَسْتُ] (3) وظَلْتُ.
وحكى ابن الأعرابي: ظَنْتُ، قال: وأنشدنا أبو علي للفرزدق:
تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسَّمَاكَيْن أيهُمَا ... عَلَيَّ من الغيثِ استهلّتْ مَواطِرُه (4)
و"ما" في قوله: { أيما الأجلين قضيت } زائدة، والتقدير: أيّ الأجلين العشر أو الثماني أتممته [وفرغت] (5) منه، { فلا عدوان عليّ } أي: لا يُعتدى عَلَيَّ في طلب الزيادة عليه، { والله على ما نقول وكيل } .
قال ابن عباس: شهيدٌ بيني وبينك (6) .
وفي حديث أبي ذر (7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا سُئلت أي الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما وأبرّهما، وإذا سئلت أيّ المرأتين تَزوَّج؟ فقل:
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:342).
(2) ... المحتسب (1/41).
(3) ... في الأصل: وأمست. والتصويب من ب، والمحتسب، الموضع السابق.
(4) ... البيت للفرزدق. انظر: ديوانه (1/281)، والمحتسب (1/41)، والدر المصون (5/340)، واللسان (مادة: حير، أيا)، وروح المعاني (20/68).
(5) ... في الأصل: فرغت. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/397).
(7) ... في هامش ب: أسنده البزار، وأسند مثله عن ابن عباس، وأسند حديثاً في صفة الغنم التي جعلها شعيب لابنته عند مضي الأجل من حديث عتبة بن الندر.(1/603)
الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: يا أبت استأجره )) (1) .
وروى ابن عباس: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال: أوفاهما وأطيبهما )) (2) .
وفي صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير قال: (( سألني يهودي من أهل [الحيرة] (3) : أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول [الله] (4) إذا قال فعل )) (5) .
وقد ذكرنا مدة إقامة موسى عند شعيب في سورة طه (6) .
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث علي بن رباح اللخمي قال:
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الصغير (2/79 ح815)، والأوسط (5/321 ح5430)، والخطيب البغدادي في تاريخه (2/128 ح519)، والبزار في مسنده (9/382 ح3964). وذكره السيوطي في الدر (6/410) وعزاه للخطيب في تاريخه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/203) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار باختصار، وفي إسناد الطبراني عويد بن أبي عمران الجوني: ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه ابن حبان، وبقية رجال الطبراني ثقات.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/442 ح3531)، والبيهقي في الكبرى (6/117 ح11418) ولفظهما: ((أبعدهما وأطيبهما)). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/217) بلفظ المصنف.
(3) ... في الأصل: الخبرة، وفي ب: الحبرة. والمثبت من صحيح البخاري (2/953).
(4) ... زيادة من ب، والصحيح.
(5) ... أخرجه البخاري (2/953 ح2538).
(6) ... عند الآية رقم: 40.(1/604)
سمعت عتبة بن [النُّدَّر] (1) قال: (( كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: { طس } حتى بلغ قصة موسى عليه السلام فقال: إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفّة فرجه وطعام بطنه )) (2) .
* فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ
__________
(1) ... في الأصل: المنذر. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: التهذيب (7/94)، والتقريب (ص:381).
(2) ... أخرجه ابن ماجه (2/817 ح2444)، والطبراني في الكبير (17/135 ح333). ولم أقف عليه عند أحمد.
... قال ابن كثير (3/386): وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف، لأن فيه مسلمة بن علي، وهو الخُشَني الدمشقي البلاطيّ، ضعيف الرواية عند الأئمة. ولكن قد رُوي من وجه آخر، وفيه نظر أيضاً، ثم ساق رواية ابن أبي حاتم.(1/605)
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ(1/606)
سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ اجثب
وما بعده سبق تفسيره في طه والنمل إلى قوله: { أو جذوة من النار } .
قرأ عاصم: "جَذْوَةٍ" بفتح الجيم، وضَمَّها حمزة، وكسرها الباقون (1) .
قال ابن عباس: الجذْوَة: قطعة من حطب فيها نار (2) .
قال أبو عبيدة (3) : الجذْوَة: القطعة الغليظة من الخشب [ليس] (4) فيها لهب.
قوله تعالى: { نودي من شاطئ الواد } أي: من جانبه { الأيمن } ، وهو الذي عن يمين موسى { في البقعة } وهي القطعة من الأرض { المباركة }
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/250)، والحجة لابن زنجلة (ص:543)، والكشف (2/173)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:342)، والسبعة (ص:493).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/398)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/218).
(3) ... مجاز القرآن (2/102).
(4) ... زيادة من مجاز القرآن، الموضع السابق.(1/607)
بتكليم الله تعالى موسى فيها { من الشجرة } أي: من ناحيتها.
قال ابن عباس: كانت من عُنَّاب (1) .
وقال الكلبي: شجرة العَوْسَج (2) ، ومنها كانت عصاه.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { واضمم إليك جناحك من الرهب } . قال المفسرون: لما ألقى موسى عصاه فصارت جَانّاً فَزِعَ، فأمره الله تعالى أن يضم إليه [جناحيه] (3) -أي: عضديه- ليذهب عنه الفزع (4) .
قال مجاهد: كل من فَزِعَ فضمّ إليه جناحيه، ذهب عنه الفَزَع، وقرأ هذه الآية (5) .
واختلف القراء في الرَّهَب؛ فقراءة (6) نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء، وقرأ الباقون بضم الراء وسكون الهاء، إلا حفصاً فإنه فتح الراء (7) . وقرأ أبي بن كعب والحسن بضمّهما (8) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/398)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/218).
... والعنّاب: من الثمر، معروف، الواحدة: عُنّابة (اللسان، مادة: عنب).
(2) ... ذكره السيوطي في الدر (6/412) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
... والعوسج: شجر من الشوك وله ثمر أحمر مدور كأنه خرز العقيق (اللسان، مادة: عسج).
(3) ... في الأصل: جناحه. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/398)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/220).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... في ب: فقرأه.
(7) ... الحجة للفارسي (3/250)، والحجة لابن زنجلة (ص:544)، والكشف (2/173)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:342)، والسبعة (ص:493).
(8) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/220)، والدر المصون (5/341).(1/608)
قال ابن الأنباري: الرُّهْبُ والرُّهُبُ والرَّهَبُ، مثل: الشُّغْل والشُّغُل والشَّغَل، والبُخْل والبُخُل والبَخَل، لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق (1) .
وقيل: المراد بالجناح: اليد؛ لأن يدي الإنسان بمنزلة جناح الطائر، فإذا أدخل يده تحت عضده فقد ضمّ جناحه إليه.
ويَرِدُ على هذا القول من الإشكال أن يقال: قد سبق هذا المعنى في قوله تعالى: { اسلك يدك في جيبك } فأيّ فائدة في تكريره؟
ويُجاب عنه بأن يقال: كَرَّرَ المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرَّهب.
فإن قيل: فما تصنع [بقوله] (2) تعالى في طه: { واضمم يدك إلى جناحك } [طه:22] فقد جعل الجناح في هذه الآية مضموماً إليه، وفي الآية التي نحن في تفسيرها مضموماً؟
قلتُ: قال الزجاج (3) : يقال لليد كلها: جناح. فإذا ثبت ذلك وكان الأمر على ما حكاه الزجاج، فالمراد بالجناح المضموم اليد اليمنى وبالمضموم إليه اليد اليسرى.
وقيل: معنى: "اضمم إليك جناحك" سكّن روعك وثبّت جأشك.
قال أبو علي الفارسي (4) : ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إنما أُمِرَ
__________
(1) ... انظر قول ابن الأنباري في: زاد المسير (6/220).
(2) ... في الأصل: في قوله. والمثبت من ب.
(3) ... معاني الزجاج (4/143).
(4) ... الحجة (3/251).(1/609)
بالعزم على ما أُمر به والجِدّ فيه، ومثله:
اشدُدْ حَيَازيمكَ للموت ... ... .................... (1)
قوله تعالى: { فذانِكَ } شدَّد النون ابن كثير وأبو عمرو، وخفَّفها الباقون (2) .
قال الزجاج (3) : التشديد تثنية ذلك، والتخفيف تثنية ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في "ذانك".
وروي عن بعضهم: "فَذَانِيكَ" بياء بعد النون (4) .
وقال أبو علي على هذه القراءة (5) : أُبدل من النون الثانية ياء كراهة التضعيف. حكى أحمد بن يحيى: لا وَرَبِّيكَ ما أفعل، يريد: وَرَبِّكَ.
والإشارة بقوله: "فذانك" إلى اليد والعصا.
{ برهانان من ربك } حجتان من الله تعالى على صدقك.
__________
(1) ... عجز البيت: فإن الموت لاقيكا، وهو من مجزوء الهزج، للإمام علي. انظر: ديوانه (ص:140)، واللسان (مادة: حزم)، والمخصص (2/5)، وأساس البلاغة (مادة، حزم)، والحجة للفارسي (3/251)، وروح المعاني (20/75).
(2) ... الحجة للفارسي (3/253-254)، والحجة لابن زنجلة (ص:544)، والكشف (1/381-382)، والنشر (2/248)، والإتحاف (ص:187، 342)، والسبعة (ص:493).
(3) ... معاني الزجاج (4/143).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/342).
(5) ... الحجة (3/254).(1/610)
قال الزجاج (1) : المعنى: أرسلناك { إلى فرعون وملإه } بهاتين الآيتين.
{ إنهم كانوا قوماً فاسقين } وقال غيره: "إلى فرعون" متعلق بمضمر، فإن شئت كان في موضع الحال من "بُرهانين"، وإن شئت كان حالاً من المخاطب (2) .
tA$s% رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/144).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/342).(1/611)
وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ اجخب
فلما أمره الله تعالى بتبليغ رسالته إلى فرعون، شكا إليه خوفه من القتل بسبب قتله القبطي، وعُقْلَة لسانه، فسأله المعاضدة بأخيه، فذلك قوله: { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لساناً } أي: أوضح بياناً، لسلامته من العقدة الكائنة بسبب التحريق، والعُقْلَة الكامنة بأصل التخليق.
{ فأرسله معي ردءاً } أي: عوناً. وترك نافع الهمزة طلباً للخِفَّة (1) .
{ يُصَدِّقْنِي } قرأ عاصم وحمزة: "يُصَدِّقُنِي" بالرفع صفة لـ"ردْءاً"، وقرأ الباقون بالجزم على جواب السؤال (2) .
وجمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الضمير المرفوع في: "يُصدقُني" عائد إلى هارون.
وشذّ مقاتل فقال (3) : المعنى: يُصَدِّقُنِي فرعون.
فجعل ضمير المرفوع له. ويؤيده قراءة من قرأ: "يُصَدِّقُون" على
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/254)، والحجة لابن زنجلة (ص:545)، والكشف (2/173)، والإتحاف (ص:342)، والسبعة (ص:494).
(2) ... الحجة للفارسي (3/255)، والحجة لابن زنجلة (ص:545-546)، والكشف (2/173)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:494).
(3) ... تفسير مقاتل (2/496).(1/612)
الجمع (1) .
والأول أصح.
قال الزمخشري (2) : ليس الغرض [بتصديقه] (3) أن يقول له: صدقْتَ، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يُلَخِّص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، ألا ترى إلى قوله: { وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي } ، وفَضْلُ الفصاحة إنما يُحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقتَ، فإن سَحْبَان وباقِلاً (4) يستويان فيه.
وبهذا [البيان] (5) وأمثاله حصل لكتابه مَيْزَ الإنافة على أشكاله، غير أنه مَزَجَ العلم النافع بالسُّمِّ النَّاقِع، فما أليَقَه بإنشاد قول ابن الرومي:
وحَدِيثُها السِّحْرُ الحلالُ لو أنّه ... لم يَجْنِ قَتْلَ المسْلِم المتحَرِّز (6)
__________
(1) ... وهي قراءة زيد بن علي وأبيّ. انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/344).
(2) ... الكشاف (3/414).
(3) ... في الأصل: تصديقه. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... سحبان: اسم رجل من وائل كان لَسِناً بليغاً، يُضرب به المثل في البيان والفصاحة فيقال: أفصح من سحبان وائل (اللسان مادة: سحب).
... وباقل: اسم رجل من ربيعة يضرب به المثل في العِيّ (اللسان، مادة: بقل).
(5) ... في الأصل: البان. والتصويب من ب.
(6) ... البيت لابن الرومي، وهو في: المثل السائر (1/341)، وصبح الأعشى (1/336)، وكتاب جمهرة الأمثال (1/15)، والتمهيد لابن عبد البر (5/175).(1/613)
{ قال سنشد عضدك بأخيك } وقرأ الحسن: "عُضُدَكَ" بضمّتين (1) .
قال ابن جني (2) : فيها خمس لغات؛ عَضُدٌ، وعَضْدٌ، وعُضُدٌ، وعُضْدٌ، وعَضِدٌ، وأفصحها وأعلاها: عَضُدٌ، نحو: رَجُلٌ. وعَضْدٌ مسكّنٌ من عَضُدَ، وعُضْدٌ منقولُ الضمة من الضاد إلى العين، وعُضُدٌ بضمتين جميعاً كأنه تثقيلُ عُضْد.
والمعنى: سنُقوّيك به ونُعينك، ومنه: عَضَدْتُ فلاناً؛ إذا قوّيته (3) ، وذلك لأن العَضُدَ أقوى اليد، ومنه: عِضَادَتا الباب.
{ ونجعل لكما سلطاناً } أي: حُجَّةً بينة تدل على الرسالة، ويلازم صاحبها وصف البسالة، { فلا يصلون إليكما } بنوع من أنواع الأذى.
قوله تعالى: { بآياتنا } إما أن يتعلق بقوله: { ونجعل لكما سلطاناً } على معنى: نسلطكما بآياتنا ومعجزاتنا، أو بقوله: { فلا يصلون إليكما } على معنى: فتمتنعون منهم بآياتنا، [وإما أن يتعلق بما بعده، على معنى: بآياتنا أنتما الغالبون، فيكون "بآياتنا"] (4) تبييناً لامتناع تقدّم الصلة على الموصول، أو يكون قسماً جوابه: لا يصلون مقدماً عليه، [أو هو] (5) من لغو القسم الذي لا جواب له في اللفظ (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/344).
(2) ... المحتسب (2/152).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: عضد).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: وهو. والمثبت من ب.
(6) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/415). وردّ عليه أبو حيان في البحر المحيط (7/113) بأن جواب القسم لا تدخله الفاء عند الجمهور. ويريد بلغو القسم: أن جوابه محذوف، أي: وحق آياتنا لتغلبن.(1/614)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي $uZح !$t/#uن الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ اجذب
قوله تعالى: { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحرٌ مفترى } أي: سحر تفتعله وتختلقه وتفتريه على الله، { وما سمعنا بهذا } الذي تدعونا إليه وتأمرنا به { في آبائنا الأولين } أي: حُدِّثنا بكونه فيهم.(1/615)
وقوله: "في آبائنا" حال منصوبة عن "هذا" (1) ، أي: كائناً في زمانهم.
{ وقال موسى } وقرأ ابن كثير: "قال موسى" بغير واو (2) ، وهكذا هو في مصحف أهل مكة.
{ ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } أي: بالبيان الواضح، { ومن تكون له عاقبة الدار } أي: العاقبة المحمودة، وهي النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
وقرأ حمزة والكسائي: "يكون" بالياء (3) ، وقد ذُكر وعُلل فيما مضى.
{ إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد ولا ينجح المشركون.
tA$s%ur فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
__________
(1) ... هو قول الزمخشري أيضاً.
(2) ... الحجة للفارسي (3/255)، والحجة لابن زنجلة (ص:546)، والكشف (2/174)، والنشر (2/341)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:494).
(3) ... الحجة للفارسي (3/255)، والحجة لابن زنجلة (ص:546)، والكشف (1/453)، والنشر (2/263)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:494).(1/616)
أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ Zp£Jح r& يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً(1/617)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ احثب
{ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } جهلٌ من المخذول، أو تجاهل يستخفّ به أحلامهم، وهو أكبر ظني فيه، ألا ترى إلى قول موسى له: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } [الإسراء:102].
ثم أخذ يتغابى ليُعمِي على عابديه مسالك الإدراك حين عجز عن معارضة خصمه، فقال مُشغلاً للوقت: { فأوقد لي يا هامان على الطين } حتى يصير آجُرّاً، { فاجعل لي صرحاً } قصراً طويلاً.
قال أهل التفسير: لما أمر فرعون هامان ببناء الصَّرْح جمع العُمَّال والفَعَلَة، فكانوا خمسين ألف بَنَّاء سوى الأتباع، فرفعوه وشيّدوه ارتفاعاً لم يبلغه بنياناً قط، فلما انتهى رقى فرعون فوقه وأمر بنُشَّابَةٍ (1) فرمى بها نحو السماء، فرجعت ملطّخة بالدم للفتنة التي أرادها الله تعالى به، فقال: قتلت إله موسى، فبعث الله تعالى جبريل فضربَ الصَّرْح بجناحه فقطّعه، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت أخرى في البحر، وأخرى في المغرب (2) .
__________
(1) ... النُّشَّابة: النَّبْل أو السهام (اللسان، مادة: نشب).
(2) ... أخرج طرفاً منه الطبري (20/78)، وابن أبي حاتم (9/2979) كلاهما عن السدي. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/223) بتمامه. وذكر طرفاً منه الماوردي في تفسيره (4/253) حكاية عن السدي، والسيوطي في الدر (6/416) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.(1/618)
{ لعلي أطلع إلى إله موسى } أشرف عليه وأنظر إليه.
وفي هذا دليل على غباوة قومه وفرط جهلهم، حيث أطمعهم في قدرته على نيل أسباب السموات بصرح يبنيه.
{ وإني لأظنه من الكاذبين } في قوله: أن له إلهاً غيري.
وقال ابن جرير (1) : المعنى: إني لأظنه كاذباً في ادعائه أن في السماء رباً أرسله.
{ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق } ؛ لأن الكبرياء والعظمة لا تصلحُ إلا لله تعالى، فمتعاطيهما على غير الحق.
{ وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } بعد الموت.
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر } يا محمد [بعين] (2) بصيرتك نَظَرَ تفكُّر واعتبار { كيف كان عاقبة الظالمين } .
وفي هذا تهديدٌ لكفار قريش، وإيذان بأن العاقبة للرسل صلوات الله عليهم.
{ وجعلناهم أئمة } : قادة في الكفر { يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون } أي: لا [يُمنعون] (3) من عذاب الله.
__________
(1) ... تفسير ابن جرير الطبري (24/66).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل: يمتنعون. والمثبت من ب.(1/619)
{ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } مفّسر في هود (1) ، { ويوم القيامة هم من المقبوحين } أي: المطرودين المُبْعَدين. يقال: قَبَّحَ الله فلاناً، أي: أبعده من كل خير.
وقال الكلبي: يعني: سَوَادُ الوجه وزُرْقَة العين (2) .
فعلى هذا هو بمعنى المقبحين المشوّهين الخَلْق.
ô‰s)s9ur آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى tچح !$|ءt/ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ احجب
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } يريد: قوم نوح وعاداً وثمود وغيرهم من المكذبين.
{ بصائرَ للناس } نصب على الحال (3) ، { وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون } سبق تفسيره.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 60.
(2) ... ذكره الماوردي (4/254)، والواحدي في الوسيط (3/400).
(3) ... انظر: التبيان (2/178)، والدر المصون (5/345).(1/620)
وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة، غير القرية الذين مُسخوا قِردة)) (1) .
$tBur كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/442 ح3534) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وذكره السيوطي في الدر (6/417) وعزاه للبزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه.(1/621)
إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ احذب
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الغربي } قال الزجاج (1) : المعنى: وما كنت بجانب الجبل الغربي.
قال ابن عباس: يريد حيث ناجى موسى ربه، وهو قوله تعالى: { إذ
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/146).(1/622)
قضينا إلى موسى الأمر } (1) ، وهو الوحي الذي أوحاه إليه، { وما كنت } يا محمد { من الشاهدين } لذلك.
وفي هذا تنبيه على صحة نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بقصة موسى على الوجه المتعارف عند أهل الكتاب، وعلى ما هو في التوراة، وليس من أهل [العلم] (2) بذلك.
قوله تعالى: { ولكنا أنشأنا قروناً } أي: خلقنا أمماً بعد موسى { فتطاول عليهم العمر } أي: امتدّ عليهم الزمان فنسوا عهد الله وتركوا أمره.
قال صاحب النظم: هذا الكلام يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه [عهوداً] (3) في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به، فلما طال عليهم العُمُرُ وخَلَفَتِ القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها (4) .
وقال صاحب الكشاف (5) : إن قلت: كيف يتصل قوله: { ولكنا أنشأنا قروناً } بهذا الكلام؟ ومن أيّ وجه يكون استدراكاً له؟
قلت: من حيث أنّ معناه: ولكنا أنشأنا قروناً كثيرة فتطاول عليهم أمد انقطاع الوحي، فاندرست العلوم، فأرسلناك وكسيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهداً موسى وما جرى عليه، ولكنا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/401).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في الأصل: عهداً. والمثبت من ب، والوسيط (3/401).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/401).
(5) ... الكشاف (3/421-422).(1/623)
أوحينا إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة، ودلَّ به على المسَبَّبِ، على عادة الله تعالى في اختصاراته، فإذاً هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده.
قوله تعالى: { وما كنت ثاوياً } (1) أي: مقيماً { في أهل مدين تتلوا } أي: تقرأ { عليهم آياتنا } المشتملة على قصة موسى وتتعلم منهم.
وقال مقاتل (2) : المعنى: لم تشاهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم.
{ ولكنا كنا مرسلين } فأرسلناك بهذا إليهم وأنزلناه [عليك] (3) لتقرأه عليهم.
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الطور } أي: بناحيته { إذ نادينا } موسى ليلة المناجاة، وهذا قول الأكثرين.
وقال ابن عباس: كان هذا النداء: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبتُ لكم قبل أن تدعوني، وغفرتُ لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني (4) .
{ ولكن رحمة من ربك } قال الزجاج (5) : المعنى لم تشاهد قَصَصَ الأنبياء، ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك رحمة من ربك.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: { في أهل مدين } وستأتي بعد.
(2) ... تفسير مقاتل (2/499).
(3) ... في الأصل: إليك. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/401).
(5) ... معاني الزجاج (4/147).(1/624)
{ لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } في زمن الفترة بين عيسى ومحمد [صلى الله عليهما] (1) ونحوه، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، { لعلهم يتذكرون } يتَّعظون ويتدبّرون.
قوله تعالى: { ولولا أن تصيبهم مصيبة } قال قتادة: يعني العذاب في الدنيا (2) .
{ بما قدمت أيديهم } من المعاصي، وأضاف السيئات إلى الأيدي لأنها أكثر ما تُزاول بها.
وجواب "لولا" محذوف، تقديره: لولا أنهم يقولون إذا أصيبوا بمصيبة وعوقبوا بما قدمت أيديهم: هلاّ أرسلت إلينا رسولاً، مُحتجّين بذلك؛ لما أرسلنا إليهم رسولاً، أو لعاجلناهم بالعقوبة.
$£Jn=sù جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
__________
(1) ... في الأصل: - صلى الله عليه وسلم - . والمثبت من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/401) عن مقاتل.(1/625)
وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اختب
قوله تعالى: { فلما جاءهم الحق من عندنا } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن،(1/626)
{ قالوا } تعنتاً وعناداً: { لولا } أي: هلاّ { أوتي مثل ما أوتي موسى } من العصا واليد وفَلْقِ البحر وغيرها من الآيات. قال الله تعالى: { أو لم يكفروا } يعني: الذين شابهوهم في الكفر من أمة موسى.
وقيل: الضمير في "يكفروا" يرجع إلى كفار مكة، وذلك أنهم أرسلوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبروهم بنعته وصفته في التوراة.
والاستفهام في معنى الإنكار والتوبيخ.
والمعنى: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل من الآيات الخوارق التي تضطر العقول إلى التصديق بها.
وإن قلنا: هم كفار مكة؛ فالمعنى: أو لم يكفروا بما أوتي موسى مما اشتملت عليه التوراة من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ويجوز أن يكون قوله: { من قبل } متعلقاً بـ { أو لم يكفروا } .
فإن قيل: كيف يتوجه هذا المعنى على قول من قال: هم كفار مكة؟
قلت: قد روي عن الحسن أنه قال: كان للعرب أصل في أيام موسى (1) .
فالمعنى: أو لم يكفر آباؤهم بما أوتي موسى.
{ قالوا ساحران تظاهرا } إن قلنا هم أشباههم في الكفر من أمة موسى، أو آباء كفار مكة على قول الحسن، فالساحران موسى وهارون، وإن قلنا هم الكفار الذين أرسلوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ،
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/424).(1/627)
فالساحران موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ويروى أنهم قالوا حين جاءتهم رسلهم من عند اليهود وأخبرتهم بنعته - صلى الله عليه وسلم - وأنه في كتابهم، قالوا حينئذ: ساحران تظاهرا.
وقرأ أهل الكوفة: "سحران" (1) ، على معنى: ذوو سحر، أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر.
وقيل: أرادوا بالسِّحْرَين: التوراة والقرآن، ونَسَبَ التَّظاهُر -وهو التعارف- إليهما على الاتساع.
{ وقالوا إنا بكلٍ } من الرسولين والكتابين { كافرون }
{ قل } يا محمد لكفار مكة { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } أي: من الكتابين.
فإن قيل: إتيانهم بكتاب من عند الله مُحال، فما وجه مطالبتهم به؟
قلت: عنه جوابان:
أحدهما: أن يكون هذا خارجاً مخرج التهكُّم والسخرية بهم.
الثاني: أن يكون مقصوده تحقيق المعجز بإظهار عجزهم وانقطاع حجتهم، ونحوه: { فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله } [يونس:38].
قوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لك } يعني: فقد ظهر انقطاع حجتهم وبان عنادهم، { فاعلم } حينئذ { أنما يتبعون أهواءهم } أي: ليس عندهم سوى إيثار
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/255)، والحجة لابن زنجلة (ص:547)، والكشف (2/174-175)، والنشر (2/341-342)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:495).(1/628)
الهوى.
ثم ذمَّهم بقوله: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى } أي: بغير شاهد ولا دليل واضح { من الله } .
وقوله: "بغير هدى" في محل الحال، على معنى: مخذولاً مخلى بينه وبين هواه (1) .
قوله تعالى: { ولقد وصلنا لهم القول } أي: أتيناهم بالقرآن متواصلاً مفصلاً بالوعد والوعيد والنصائح وأخبار الأمم الماضية، { لعلهم يتذكرون } إرادة أن يتذكروا.
z`ƒد%©!$# آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري (3/425).(1/629)
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ اخخب
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } أي: من قبل القرآن، { هم به } أي: بالقرآن.
فإن قيل: هل يجوز أن يعود الضمير في "به" [إلى] (1) الكتاب؟
قلت: يمنعُ من ذلك قوله: { إنا كنا من قبله مسلمين } .
وهذه الآية من جملة ما أثنى الله به على مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/630)
بن سلام.
قال رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم (1) .
وقيل: نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل، اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وثمانية من أهل الشام (2) .
{ وإذا يتلى عليهم } أي: وإذا يقرأ القرآن على مؤمني أهل الكتاب { قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا } ، وذلك أنهم وُعدوا بنبي وكتاب، { إنا كنا من قبله } أي: من قبل نزول القرآن { مسلمين } أي: على دين الإسلام؛ لأن الإسلام صفة كل موحّدٍ مصدّقٍ للوحي.
{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } قال قتادة: بما صبروا على الكتاب الأول والكتاب الثاني (3) .
وقيل: بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/88)، وابن أبي حاتم (9/2988)، والطبراني في الكبير (5/53 ح4563، 4564). وذكره السيوطي في الدر (6/422) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي القاسم البغوي في معجمه والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة والطبراني وابن مردويه بسند جيد. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/88) وقال: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما متصل ورجاله ثقات، والآخر منقطع الإسناد.
(2) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/257) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (3/402) ونسبه لمقاتل، وابن الجوزي في زاد المسير (6/229) عن ابن عباس.
(3) ... أخرجه الطبري (20/89)، وابن أبي حاتم (9/2989-2990). وذكره الماوردي (4/257)، والواحدي في الوسيط (3/402).(1/631)
وقيل: بما صبروا على أذى المشركين وأذى أهل الكتاب.
{ ويدرؤون بالحسنة السيئة } أي: ويدفعون بالطاعة المعصية المتقدمة.
وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (1) .
وقال مقاتل (2) : يدفعون ما يسمعون من الأذى والشتم من المشركين بالعفو والصفح.
{ ومما رزقناهم ينفقون } في طاعة الله.
{ وإذا سمعوا اللغو } وهو القبيح من القول، { أعرضوا عنه } نزاهةً وصيانةً عن التلوث بسماعه، وإكراماً لأنفسهم عن التعرض لجوابه، وهذا الوصف مما يفتخر به أشراف الناس، وذووا النفوس الأبيّة، قال الشاعر:
فَقُلْ لزهيرٍ إنْ شَتَمْتَ سَرَاتَنا ... فلسْنَا بشَتَّامينَ للمُتَشَتِّم (3)
إلى أن قال:
وتجهلُ أيدينا ويحلُمُ رأيُنا ... ... ونشْتِمُ بالأفعالِ لا بالتَّكَلُّم
وقال آخر:
فوالله ما بُقْيَا عليكم تُركْتُم ... ... ولكنني أكرمتُ نفسي عن الجهل
وقال آخر:
وأغفرُ عَوراءَ الكريم ادِّخَارَه ... وأعرضُ عن شَتْم اللئيمِ تَكَرُّما (4)
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/402).
(2) ... تفسير مقاتل (2/500).
(3) ... البيت لمعبد بن علقمة، وهو في: ديوان الحماسة (1/251-252).
(4) ... البيت لحاتم الطائي، وهو في: اللسان (مادة: عور)، والطبري (2/320).(1/632)
وقد أحسن لقيط بن زرارة في قوله:
أغرَّكُم أني بأحسن شيمةٍ ... بصيرٌ وأني بالفَواحش أخْرَقُ
وأنك قد سابَبْتنَا فغلبْتَنا ... هنيئاً مريئاً أنت بالفُحْشِ أحْذَقُ (1)
{ وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } خطاب لِلاّغِين المدلول عليهم بقوله: { وإذا سمعوا اللغو } .
وقوله: { سلام عليكم } تسليم مُتاركةٍ وتوديعٍ، لا تسليم تحية.
ومثله قولي في أبيات أرثي بها ولدي أبا صالح أحمد:
على زينة الدنيا ولذّة عيشها ... السلام فهذا منهما آخر العهد
{ لا نبتغي الجاهلين } أي: لا نطلب صحبتهم والتلبّس بأعمالهم.
قال السدي: لما أسلم عبدالله بن سلام جعل اليهود يشتمونه وهو يقول: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (2) .
فإن قيل: هل تقدر على [إبداء] (3) معنى تَضَمُّنِهِ الثناء على مؤمني أهل الكتاب بهذه الآيات الأربع؟
قلتُ: نعم، وهو حضّ الناس على الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المنعوت في الكتب المتقدمة، بما استثبتته الأحبار والربانيون فيها من الدلائل الناطقة برسالته الشاهدة بنبوته، وتنبيههم على الاقتداء بمن يعلمون براعتهم في العلم
__________
(1) ... البيتان للقيط بن زرارة، انظر: ديوان المعاني للعسكري، باب الافتخار، والتذكرة الحمدونية، باب الهجاء والمذمة.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/2993). وذكره الواحدي في الوسيط (3/403).
(3) ... في الأصل: ابتداء. والمثبت من ب.(1/633)
ومهارتهم في دراسته. هذا مع ما في الثناء على أهل الكتاب من تقريع ذوي النفوس الأبية من الأمة العربية، والتعريض بذمها لموضع إعراضها عن الإيمان، فإنك لا تكاد تجد أنكى لها وأوغل في أذاها من هجائها ومدح أعدائها، ولا أرغب منها في المدح والثناء، فحرّك هممهم إلى الإيمان بذلك.
y7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ اخذب(1/634)
قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } قال الزجاج وغيره (1) : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب.
وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم! أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتَدَعُها لنفسك، قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: "لا إله إلا الله" أشهدُ لك بها عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمتُ أنك لصادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غَضَاضَةٌ ومسبَّة بعدي لقُلْتُها ولأقررت بها عينك، فنزلت هذه الآية (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (( { إنك لا تهدي من أحببت } نزلت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراود عمه أبا طالب على
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/149). وانظر: الطبري (20/91) وما بعدها، وابن أبي حاتم (9/2994)، والماوردي (4/259)، والوسيط (3/403).
(2) ... في هامش ب: من شعر أبي طالب في المعنى:
... والله لنْ يصلوا إليكَ بجمْعِهم ... ... حتى أُوسَّد في الترابِ دَفينا
... فامضي لأمركَ ما عليكَ غَضَاضَةٌ ... ... وأبشرْ بذاك وقرّ بذاكَ عُيونا
... ودعوتني وعلمتَ أنك ناصِحي ... ... وصدقتني وكنت قدم أمينا
... وعرضتَ ديناً قد عرفتُ بأنه ... ... من خير أديان البريةِ دينا
... لولا الملامةُ أو حذاري سُبّةً ... ... لوجدتني سَمْحاً بذاك مُبينا
... (انظر: ديوان أبي طالب ص:87، 189).(1/635)
الإسلام)) (1) .
وقد ذكرنا الحديث المخرج في الصحيحين في سبب نزولها أيضاً في براءة عند قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [التوبة:113].
والمعنى: إنك لا تقدر أن تُدخل في الإسلام من أحببت أن يدخُل فيه؛ لأنك عبدٌ لا تعلم مَنْ طَبَعْتُ على قلبه وخلقته للنار، ممن شرحتُ قلبه للإسلام وخلقته للجنة.
{ ولكن الله يهدي من يشاء } ممن سبقت له السعادة، { وهو أعلم بالمهتدين } الذين خلقهم للهداية.
قوله تعالى: { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } أي: قال كفار قريش.
وقيل: الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك، وإنما نحن أكَلَةُ رأس -أي: قليلون- أن تتخطفنا العرب من أرضنا، فقال الله تعالى قاطعاً لمعاذيرهم: { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً } أي (2) : ذا أمن.
ونسبة الأمن إلى الحرم مجاز، وإلى أهل الحرم حقيقة.
والمعنى: يأمنون فيه من المحاربة والإغارة؛ لكونهم قُطَّان البيت
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/55 ح25).
(2) ... ساقط من ب.(1/636)
المعظّم المحرّم، وسائر العرب يتناحرون ويتغاورون ويتخطفون (1) من حولهم.
المعنى: فكيف يخافون إذا أسلموا وهم بهذه المثابة.
ثم مع كونه حرماً آمناً { يجبى إليه ثمرات كل شيء } ، أي: تُجمع وتُجلب إليه.
وقرأ نافع: "تجبى" بالتاء لتأنيث الثمرات، والباقون قرؤا بالياء (2) ؛ لأن التأنيث غير حقيقي، أو للحيلولة بين الاسم والفعل.
ولأن الثمرات في معنى الرزق.
والمراد بالكلية في قوله : { كل شيء } الكثرة ، كقوله : { وأوتيت من كل شيء } [النمل:23].
قال مقاتل (3) : يحمل إلى الحرم ثمرات كل شيء من مصر والشام واليمن والعراق.
{ رزقاً } مصدر أو مفعول له، أو حال من الثمرات (4) ، إن جُعل الرزق بمعنى المرزوق.
فإن قيل: "ثمراتُ" نكرة فكيف ينتصب عنها الحال؟
__________
(1) ... في ب: ويختطفون.
(2) ... الحجة للفارسي (3/256)، والحجة لابن زنجلة (ص:548)، والكشف (2/175)، والنشر (2/342)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:495).
(3) ... تفسير مقاتل (2/501).
(4) ... الدر المصون (5/349).(1/637)
قلت: تخصصت بالإضافة، فجاز أن تنتصب عنها، كما إذا تخصصت النكرة بالصفة.
ِNx.ur أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ اخزب
ثم خوفهم الله تعالى سوء عاقبة ما هم عليه من الكفر وجحود النعم، ومُقابلتها بعبادة غير المنْعِم بها، فقال: { وكم أهلكنا من قرية بطرت(1/638)
معيشتها } قال الزجاج (1) : البَطَرُ: الطغيان عند النعمة.
والمعنى: بَطِرَتْ في معيشتها، فلما سقط الحرف الجار تعدّى الفعل فنصب.
وقيل: انتصب (2) "معيشتها" لتضمن "بَطِرَتْ" معنى: كفَرَت وغطّت.
{ فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً } قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون ومارُّوا الطريق يوماً أو ساعة (3) .
وفي قوله: { وكنا نحن الوارثين } تحقيقٌ لمعنى خُلوّها، وهو نظير قوله: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } [مريم:40].
{ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } أي: في [أصلها و] (4) قصبتها، { رسولاً } لإلزام الحجة وقطع المعذرة، كما فعلنا بكم، وأرسلنا إليكم يا أهل مكة محمداً { يتلو عليهم آياتنا } .
قال مقاتل (5) : يخبرهم الرسول أن العذاب نازلٌ بهم إن لم يؤمنوا.
{ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } مشركون.
أخبر سبحانه وتعالى أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد إقامة الحجة وإيضاح المحجّة، وإزاحة العلّة، وإصرارهم مع ذلك على الظلم بالإعراض
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/150).
(2) ... في ب: انتصبت.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/404)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/233).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... تفسير مقاتل (2/502).(1/639)
عن التوحيد والطاعة.
!$tBur أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ادتب
قوله تعالى: { وما أوتيتم من شيء } أي: من سبب من أسباب الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } أي: فما هو إلا شيء تتمتّعون به أيام حياتكم الفانية وتتزينون به، { وما عند الله } تعالى من الثواب المُعَدِّ لأهل طاعته وطاعة رسوله { خير وأبقى } من متاع الدنيا وزينتها { أفلا تعقلون } أن(1/640)
الباقي خير من الفاني.
قرأ أبو عمرو: "يعقلون" بالياء على المغايبة؛ رداً على ما قبله. وقرأ الباقون بالتاء على المخاطبة؛ حملاً على أول الآية (1) .
قوله تعالى: { أفمن وعدناه } استفهام في معنى الإنكار، { وعداً حسناً } يعني: الجنة { فهو لاقيه } مدركه ومصيبه، { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } ولا حظّ له في الآخرة، { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } إلى النار.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي أبي جهل (2) .
وقال محمد بن كعب: نزلت في علي وحمزة وأبي جهل (3) .
وقال السدي: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة (4) .
tPِqtƒur يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/256)، والحجة لابن زنجلة (ص:548)، والكشف (2/175)، والنشر (2/342)، والإتحاف (ص:343)، والسبعة (ص:495).
(2) ... أخرجه الطبري (20/97). وذكره السيوطي في الدر (6/431) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (20/97) عن مجاهد. وذكره القرطبي (13/303) عن محمد بن كعب وزاد: وعمارة بن الوليد.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/234).(1/641)
الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ(1/642)
الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ادذب
قوله تعالى: { ويوم يناديهم } يعني: المشركين { فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } يريد: الأصنام.
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: "زعم" تطلب مفعولين، فأين هما؟
قلت: هما محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائي. ويجوز حذف المفعولين في باب "ظننت"، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.
{ قال الذين حق عليهم القول } أي: وجب عليهم العذاب بقوله: { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [هود:119]، وهم رؤساءهم في الكفر وقادتهم.
وقيل: هم الشياطين.
{ ربنا هؤلاء الذين أغوينا } يعنون: أتباعهم.
فـ"هؤلاء": مبتدأ، و"الذين أغوينا": صفته، والعائد على الموصول
__________
(1) ... الكشاف (3/430).(1/643)
محذوف، تقديره: { أغويناهم } فغَوَوْا غياً، مثل ما غوينا، يريدون: أننا (1) لم نلجئهم ونقسرهم على الغي، كما أننا لم يكن لنا من يقسرنا عليه، فنحن وهم فيه سواء في اختيار الغي.
{ تبرّأنا إليك } قال الزجاج (2) : برئ بعضهم من بعض، وصاروا أعداءً، كما قال الله تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [الزخرف:67].
{ ما كانوا إيانا يعبدون } قهراً وقسراً. المعنى: إنما كانوا يعبدون أهواءهم بتحسيننا وتزييننا.
{ وقيل } يعني: لكفار مكة { ادعوا شركاءكم } أي: [استغيثوا] (3) بآلهتكم لتخلّصكم من العذاب، { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } أي: لم يجيبوهم إلى نصرهم، { ورأوا العذاب } حين تبرأت منهم قادتهم وخذلتهم آلهتهم { لو أنهم كانوا يهتدون } جوابه محذوف، تقديره: لو كانوا يهتدون لما اتبعوهم ولما رأوا العذاب.
ويجوز أن يكون المعنى: تمنوا لو أنهم كانوا يهتدون.
قوله تعالى: { ويوم يناديهم فيقول } تبكيتاً وتوبيخاً وتحقيقاً لمعنى العدل: { ماذا أجبتم المرسلين } في الدنيا؟ { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } أي: خَفِيتْ واشْتَبَهَت عليهم الحُجَج يوم القيامة.
__________
(1) ... في ب: إنا.
(2) ... معاني الزجاج (4/151).
(3) ... في الأصل: استعينوا. والمثبت من ب.(1/644)
قال ابن قتيبة (1) : المعنى: عَمُوا عنها من شدة الهول.
{ فهم لا يتساءلون } أي: لا يسأل بعضهم بعضاً عنها، كما يتساءل الناس عن المشكلات في الدنيا، وأنَّى لهم التساؤل والرُّسُل المقطوع لهم بالنجاة من النار والفوز بالجنة يتعنعنون في تلك المواطن الهائلة، ويقولون حين يقال لهم: ماذا أجبتم؟ لا علم لنا.
ڑپڑ/u'ur يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:334).(1/645)
تُرْجَعُونَ اذةب
قوله تعالى: { وربك يخلق ما يشاء ويختار } سبب نزولها: قول الوليد بن المغيرة: { لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف:31] يريد: نفسه بمكة، أو عروة بن مسعود بالطائف. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء (1) .
ثم نفى أن تكون الخيرة لغيره فقال: { ما كان لهم الخيرة } حتى يختاروا الوليد أو عروة.
وقيل: "ما" موصولة، والراجع إلى الموصول محذوف، على معنى: ويختار الذي لهم فيه الخيرة، فإنه أعلم بهم وبمصالحهم.
قال الزمخشري (2) : الخِيَرَة من التَّخَيُّر، كالطِّيَرَة من التَّطَيُّر: تُستعمل بمعنى المصدر، وهو التخير بمعنى المتخير، كقولهم: محمد - صلى الله عليه وسلم - خِيرَة الله تعالى من خلقه.
قوله تعالى: { وربك يعلم ما تكن صدورهم } (3) أي: ما تُخفيه وتُضمره من عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسده { وما يعلنون } بألسنتهم من الطعن عليه والقَدْح في رسالته.
{ وهو الله لا إله إلا هو } أي: هو المستأثر بالإلهية، و { لا إله إلا هو } تقرير لذلك.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/263)، والواحدي في الوسيط (3/406).
(2) ... الكشاف (3/432).
(3) ... في الأصل زيادة قوله: { وما يعلنون } . وستأتي بعد.(1/646)
{ له الحمد في الأولى والآخرة } (1) لا يستحقه غيره على الحقيقة، { وله الحكم } الفصل بين عباده.
قال ابن عباس: حَكَمَ لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل (2) .
ِ@è% أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: { وله الحكم } . وستأتي بعد.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/406).(1/647)
بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ اذخب
قوله تعالى: { قل أرأيتم } أي: قل يا محمد لكفار مكة: أخبروني { إن(1/648)
جعل الله } تعالى { عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة } يعني: دائماً متتابعاً، واشتقاقه من السَّرْدِ، وهو المتابعة، { مَنْ إله غير الله يأتيكم بضياء } نور ساطع، { أفلا تسمعون } ما يتلوه عليكم رسولي من الحجج البالغة، ومثله: { أفلا تبصرون } آثار عظمتي ودلائل وحدانيتي وقدرتي.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار } هذا للسكن والراحة، وهو قوله تعالى: { لتسكنوا فيه } وهذا للانتشار وطلب المعيشة، وهو قوله تعالى: { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } مَنْ أنعمَ عليكم بهذه النعم وغيرها [فتوحّدوه] (1) .
قوله تعالى: { ونزعنا من كل أمة شهيداً } أي: أخرجنا من كل أمة شهيداً يشهد عليها ولها، وهو نبيّها يشهد بما كان منها من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان.
{ فقلنا هاتوا برهانكم } قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون (2) .
وقال مقاتل (3) : حُجَّتكم بأن معي شريكاً.
{ فعلموا أن الحق لله } لا لشياطينهم، { وضلّ عنهم } بطل وغاب في الآخرة { ما كانوا يفترون } في الدنيا من الباطل والكذب.
__________
(1) ... في الأصل: وتوحدوه. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الطبري (20/105)، وابن أبي حاتم (9/3004)، ومجاهد (ص:489). وذكره السيوطي في الدر (6/435) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... تفسير مقاتل (2/505).(1/649)
* إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ اذذب(1/650)
قوله تعالى: { إن قارون كان من قوم موسى } قارون اسم أعجمي مثل هارون ولم ينصرف للعجمة والتعريف.
قال الزجاج (1) : ولو كان فاعولاً من العربية، من قرنْتُ الشيء لا يُصْرف (2) .
واختلفوا في قرابته من موسى؛ فقال ابن عباس وقتادة ومقاتل (3) وأكثر المفسرين: كان ابن عم موسى (4) ، وهو قارون بن يَصْهُر بن قَاهَث (5) ، وموسى بن عمران بن قَاهَث (6) . وقد ذكرنا نسبه في البقرة.
وروى عطاء عن ابن عباس: أنه كان من سبط موسى، وهو ابن خالته (7) .
وقال ابن إسحاق: كان عمّ موسى (8) .
قال قتادة: وكان يسمى المنوّر؛ لحسن وجهه وصورته، ولم يكن في بني
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/153).
(2) ... يريد أنه مع أن صيغة فاعول موجودة في اللغة العربية مثل: جاسوس وقاعود وقانون، وقارون فاعول من قرنت ولكنه لا ينصرف لأنه علم أعجمي.
(3) ... تفسير مقاتل (2/505).
(4) ... أخرجه الطبري (20/105-106)، وابن أبي حاتم (9/3005). وذكره السيوطي في الدر (6/436-437) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس. ومن عدة طرق أخرى.
(5) ... في تفسير مقاتل: أصهر بن قوهث.
(6) ... في تفسير مقاتل: قوهث.
(7) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/407)، وابن الجوزي في زاد المسير (/239).
(8) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/239).(1/651)
إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافَقَ كما نافَقَ السامري (1) .
{ فبغى عليهم } أي: جاز الحدّ في التكبّر والتجبّر.
قال قتادة: بغى عليهم بكثرة ماله (2) .
وقال الضحاك: كفر (3) .
وقال شهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبراً (4) .
{ وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه } قال الضحاك والسدي: يعني: خزائنه (5) .
قال الزجاج (6) : هذا هو الأشبه.
قال أبو صالح: كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/106)، وابن أبي حاتم (9/3005). وذكره السيوطي في الدر (6/437) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (20/106). وذكره الماوردي (4/264).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3006). وذكره الماوردي (4/264).
(4) ... أخرجه الطبري (20/106)، وابن أبي حاتم (9/3006). وذكره السيوطي في الدر (6/437) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3007) عن أبي رزين. وذكره الماوردي (4/266) من قول السدي وأبي رزين، وابن الجوزي في زاد المسير (6/240) من قول السدي وأبي صالح والضحاك.
(6) ... معاني الزجاج (4/155).
(7) ... أخرجه الطبري (20/107)، وابن أبي حاتم (9/3008). وذكره السيوطي في الدر (6/438) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/652)
وقال مجاهد وقتادة: يريد: مفاتيح الأبواب (1) .
روى الأعمش عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وَقْرُ ستين بغلاً، ما يزيد منها مفتاح على إصبع، لكل مفتاح منها كنز (2) ، وهو قوله تعالى: { لتنوء بالعصبة أولي القوة } أي: تُثقِلُهم وتميل بهم. يقال: نَاءَ به الحِمْل؛ إذا أثقله، يَنُوءُ به (3) .
قال الفراء والزجاج (4) : المعنى: لتُنِيءُ العصبة، فلما دخلت الباء في العُصْبة انفتحت التاء، كما يقولون: هذا يُذْهِبُ الأبصار وهذا يَذْهَبُ بالأبصار.
والعُصبة: الجماعة الكثيرة، والعِصابة مثلها، واعصوصبوا: اجتمعوا.
قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال (5) .
{ إذ قال له قومه } محل "إذ" منصوب بـ"تَنُوءُ" (6) ، والمراد: إذ قال له
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (6/407)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/240).
(2) ... أخرجه الطبري (20/107)، وابن أبي حاتم (9/3007). وذكره السيوطي في الدر (6/437) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (نوأ).
(4) ... معاني الفراء (2/310)، ومعاني الزجاج (4/155).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/407).
(6) ... هذا قول الزمخشري، انظر: الكشاف (3/434). وردّ هذا القول أبو حيان في البحر (7/127) فقال: وهذا ضعيف جداً؛ لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له: "لا تفرح".(1/653)
قومه المؤمنون من بني إسرائيل: { لا تفرح } أي: لا تبطر وتمرح، { إن الله لا يحب الفرحين } الأشرين البطرين. قال الشاعر:
ولستُ بمِفْراحٍ إذا الدهرُ سَرَّني ... ولا جَازعٍ مِنْ صَرْفِه المُتَحَوِّل (1)
وقال بعضهم: لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأنَّ إليها، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح (2) .
وما أحسن ما قال القائل:
أشدُّ الغَمَّ عندي في سُرور ... ... تيقَّنَ عنه صاحبُه انتقالا (3)
وقيل: معنى: "لا تفرح": لا تُفسد، كما قال:
إذا أنتَ لم تَبْرَحْ تُؤدِّي أمانةً ... وتحملَ أخْرَى [أفرحتْكَ] (4) الودائع (5)
بمعنى: أفسدتك.
قوله تعالى: { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أي: اطلب فيما أعطاك
__________
(1) ... البيت لهدبة بن خشرم العذري. انظر: غريب القرآن (ص:335)، وحماسة البحتري (ص:120)، وابن الشجري (ص:137)، والبحر المحيط (7/127)، والماوردي (4/267)، وزاد المسير (6/241)، والقرطبي (13/313)، وروح المعاني (20/112).
(2) ... ذكره المناوي في فيض القدير (3/159).
(3) ... البيت لأبي الطيب، وهو في: الكشاف (3/435)، والبحر (7/127)، وروح المعاني (1/205، 20/112).
(4) ... في الأصل: أقرحتك. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(5) ... البيت لبَيْهَس العذري، وهو في: اللسان (مادة: فرح، حمل)، والقرطبي (13/313)، وزاد المسير (5/164).(1/654)
من الأموال الجنة والخلاص من النار بالنفقة في سبيل الله ووجوه الطاعة.
{ ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال الزجاج (1) : لا تنس أن تعمل لآخرتك؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته. وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين (2) .
قال علي عليه السلام: لا تنس صحتك وقوّتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة (3) .
وقال الحسن البصري: لا تنس أن تطلب كفايتك وغناك مما أحلّ الله تعالى (4) .
وقيل: هو الكفن؛ لأنه حظه من الدنيا عند خروجه منها.
{ وأحسن كما أحسن الله إليك } أي: أحسن بأداء ما افترض الله عليك كما في إحسانه إليك.
وقيل: أحسن إلى عباده كما أحسن إليك.
{ ولا تبغ الفساد في الأرض } باتخاذ ما أنعمنا به عليك سبباً إلى المعاصي، ووسيلة إلى ظلم العباد وقهرهم والاستطالة عليهم.
{ إن الله لا يحب المفسدين } .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/155).
(2) ... انظر: الطبري (20/112)، وابن أبي حاتم (9/3010)، ومجاهد (ص:490). وذكره السيوطي في الدر (6/439) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم، ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/455).
(4) ... أخرجه الطبري (20/113)، وابن أبي حاتم (9/3011) بمعناه.(1/655)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَن اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ اذرب
فكَفَرَ المخذول بنعم الله تعالى عليه، وأنكر إحسانه إليه، فقال: { إنما أوتيته على علم عندي } يعني: على معرفة وجوه المكاسب، وحُسْن التصرف في التجارات والزراعات.
وقال ابن عباس: على علم عندي بصنعة الذهب، يريد: العلم بالكيمياء (1) .
وقيل: المعنى: إنما أوتيته على استحقاق لما عندي من العلم الذي فُضِّلْتُ به على الناس، وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة، فقال الله تعالى: { أو لم يعلم } يعني: قارون من التوراة وكتب الأنبياء والتواريخ المشتملة على
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/242).(1/656)
أخبار الأمم الماضية، { أن الله قد أهلك } بأنواع العذاب { من قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً } للأموال حين طَغَوْا وبَغَوْا وكذبوا الرسل وكفروا بأنعم الله تعالى، { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } .
قال الحسن: لا يسألون ليعلم ذلك من قِبَلِهِم، وإن سئلوا سؤال توبيخ وتقريع (1) .
قال مجاهد: تعرفهم الملائكة بسيماهم (2) .
وقال قتادة: المعنى: أنهم يدخلون النار بغير حساب (3) .
yltچy‚sù عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/408)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/243).
(2) ... أخرجه الطبري (20/114)، وابن أبي حاتم (9/3013). وذكره السيوطي في الدر (6/440) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (20/114)، وابن أبي حاتم (9/3013). وذكره السيوطي في الدر (6/440) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/657)
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ارةب
قوله تعالى: { فخرج على قومه في زينته } قال الحسن: في الحُمْرَة والصُّفْرَة (1) .
وقال مقاتل (2) : خرج على بغلة شهباء عليها سَرْجٌ من ذهب عليه الأُرْجُوَان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهنّ الحلي والثياب الحمر على البغال.
أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي إذناً، أخبرنا عبدالجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم النصرباذي (3) ، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، حدثنا إسحاق بن محمد بن إسحاق الرسعني، حدثنا جدي، حدثنا عثمان بن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/115)، وابن أبي حاتم (9/3013).
(2) ... تفسير مقاتل (2/506).
(3) ... في ب: النصراباذي.(1/658)
عبدالرحمن الطرائفي (1) ، حدثنا علي بن عروة الدمشقي (2) ، عن سعيد بن أبي سعيد (3) ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع خصال من خصال قوم فرعون: جرّ نصال السيوف في الأرض، ولباس الخفاف المقلوبة، ولباس الأرجوان، وكان أحدهم لا ينظر في وجه خادمه تكبراً )) (4) .
قال الزجاج (5) : الأُرْجُوَان في اللغة: صِبْغٌ أحمر.
قوله تعالى: { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وهم قوم من المسلمين كانوا يميلون إلى زهرة الحياة الدنيا ونضارة عيشها.
وقال قتادة: تمنُّوا ليتقربوا به إلى الله (6) .
__________
(1) ... عثمان بن عبد الرحمن بن مسلم الحراني، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو هاشم، الطرائفي، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان يتتبع طرائف الحديث، صدوق أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضعف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثقه ابن معين، مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائتين (تهذيب الكمال 19/428-430، والتقريب ص:385).
(2) ... علي بن عروة الدمشقي القرشي، متروك الحديث (تهذيب التهذيب 7/319، والتقريب ص:403).
(3) ... هو المقبري، تقدمت ترجمته.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/408-409)، والديلمي في الفردوس (1/375) وفي سند الحديث علي بن عروة الدمشقي وهو متروك. قال ابن حجر في التقريب: متروك، وقال ابن حبان: يضع الحديث (انظر: تهذيب التهذيب 7/319، والتقريب ص:403).
(5) ... معاني الزجاج (4/156).
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/436).(1/659)
وفيه بُعْدٌ؛ لقوله: { ويلكم ثواب الله خير لمن آمن } .
وقيل: كانوا كفاراً.
{ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } من الكنوز والزينة، { إنه لذو حظ عظيم } نصيب وافر من الدنيا.
وقيل: الحَظُّ: الجَدُّ والبَخْتُ، ومنه:
وليسَ الغِنَى والفقرُ مِنْ حِيلةِ الفَتَى ... ... ولكنْ أحَاظٍ قُسّمتْ وجُدُودُ (1)
{ وقال الذين أوتوا العلم } قال ابن عباس: يعني: أحبار بني إسرائيل (2) ، { ويلكم ثواب الله خير } قال صاحب الكشاف (3) : ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استُعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يُرتضى، كما استعمل: لا أبَا لَكَ، وأصله: الدعاء على الرجل بالإقراف في الحث على الفعل.
قوله تعالى: { ولا يلقاها } يعني: لا يوفق للكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم.
وقيل: لا (4) يلقّى ثواب الله. وأنَّثه لأنه في معنى الجنة.
وقيل: لا يلقّى الأعمال الصالحة، فإنه مدلول عليها بقوله: { وعمل صالحاً } .
__________
(1) ... البيت للمعلوط السعدي. وهو في: ديوان الحماسة (2/18)، وجمهرة الأمثال (2/280).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/409)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/243).
(3) ... الكشاف (3/437).
(4) ... في ب: ولا.(1/660)
وقيل: لا يلقّى هذه السيرة والطريقة، إلا الذين صبروا على ما قُسم [لهم] (1) من قليل الرزق، وعن زينة الدنيا وشهواتها.
$oYّے|،sƒmْ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/661)
لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ارثب
قوله تعالى: { فخسفنا به وبداره الأرض } السبب في ذلك على ما نقله أهل العلم بالتفسير والسير قالوا: كان بدأُ طغيان قارون وفتنته وعصيانه: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز ببني إسرائيل البحر وجعلت الحُبُورة لهارون عليه السلام وهي رئاسة المذْبَح، فكان بنو إسرائيل يأتونه بهدْيِهِم فيضعه على المذبح، فتنزل نارٌ من السماء فتأكله، وَجَدَ قارون في نفسه من ذلك شيئاً، فأتى موسى عليه السلام فقال: يا موسى لك الرسالة، ولهارون الحبورة، ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ للتوراة منكما، لا صبر لي على هذا؟ فقال موسى: والله ما أنا جعلتها في هارون، بل الله جعلها فيه، فقال قارون: لا أصدقك حتى [تريني] (1) بيانَه، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال: هاتوا عصيّكم، فحزموها وألقاها في قبته التي كان يتعبد فيها، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا موسى تهتز لها ورق أخضر، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ قال قارون: فوالله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون موسى بأتباعه، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وقارون يؤذيه في كل وقت، ولا يزداد على صبر موسى عليه ومداراته إياه إلا عناداً وحسداً وتجبراً، حتى بنى داراً وجعل
__________
(1) ... في الأصل: ترني. والتصويب من ب.(1/662)
بابها من الذهب وصفَّح جدرانها بصفائح الذهب (1) .
قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام أتاه قارون فصالحه من كل ألف دينار على دينار واحد، ومن كل ألف درهم على درهم، ومن كل ألف شاة على شاة، ثم رجع إلى بيته مفكراً في أمره، فحسب ما يبلغ ذلك فوجده كثيراً، فبخل به، فجمع من يركن إليه ويعتمد عليه من بني إسرائيل وقال لهم: إن موسى قد أمركم وقد أطعتموه، وهو يريد الآن أخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فجمع اللعين كيده وقال لبغيّ من بني إسرائيل: إني أعطيك كذا وكذا، قيل: جعل لها ألف دينار، وقيل: طشتاً (2) من ذهب مملوءة ذهباً، وقيل: جعل لها حُكْمَها، وقال لها: أخلطك بأهلي ونسائي على أن تجيئي غداً إذا اجتمعت بنوا إسرائيل فتقذفي موسى بنفسك، فقالت: نعم.
فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى - صلى الله عليه وسلم - وهم في بَرَاحٍ من الأرض، فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل! من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليست له زوجة جلدناه، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنتَ؟ فقال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فَجَرْتَ بفلانة، فقال: ادعوها، فوقفت بين يديه، فقال لها موسى صلوات الله عليه: يا فلانة، أنا
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/456-457).
(2) ... في ب: طستاً.(1/663)
فعلتُ بك الذي يقول هذا؟ وعظَّم عليها ووعَظَها، وسألها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة إلا صَدَقْتِ، فتداركها الله تعالى بتوفيقه، وقالت في نفسها: يا ويلها قد عملت كل فاحشة، وما بقي إلا أن أفتري على نبي الله موسى، فقالت: لا والله، ولكل جعل لي قارون جُعلاً على أن أقذفك بنفسي، فَخَرَّ موسى عليه الصلاة والسلام ساجداً يبكي ويقول: اللهم إن كنتُ رسولك فاغضب لي، فأوحى الله تعالى إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك، فَمُرْها بما شئت، فقال موسى: يا أرض خُذيه، -وهو على فراشه وسريره-، فأخذته حتى غَيَّبَتْ سريره، فلما رأى ذلك قارون ناشده بالرَّحم، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيّبت قدميه، ثم قال: خذيه، فأخذته حتى غيّبت ركبتيه، ثم قال: خذيه، فأخذته حتى غيّبت حقويه، وهو في ذلك كله يناشده الرَّحم ويتضرع إليه، حتى لقد قيل: ناشده سبعين مرة، وموسى لا يلتفت إليه لشدة غضبه عليه، فلم يزل يقول: خُذيه خُذيه حتى انطبقت عليه الأرض، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى! ما أفظّك، استغاث بك سبعين مرة فلم تُغِثْهُ ولم ترحمه، أما وعزتي لو إيَّايَ دعا مرةً واحدةً لوجدني قريباً مجيباً (1) .
قال قتادة: خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامةَ رجل، والله لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة (2) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/116-117)، وابن أبي حاتم (9/3018) بنحوه.
(2) ... أخرجه الطبري (20/119)، وابن أبي حاتم (9/3020). وذكره السيوطي في الدر (6/442) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/664)
قال مقاتل (1) : فأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم ويقولون: إنما [أهلكه] (2) موسى ليأخذ ماله وداره، فخسف الله تعالى بداره وبماله (3) بعده بثلاثة أيام.
قوله تعالى: { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } وهم الذين قالوا: { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } ، وقد يُذْكَرُ الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل اليوم الذي أنت فيه، بل الوقت القريب على طريق الاستعارة.
والمعنى: وأصبح الذين تمنّوا مثل منزلته من الدنيا، { يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } أي: يُوسِّعُ على من يشاء ويُضَيِّقُ على من يشاء، { لولا أن منَّ الله علينا لخُسِفَ بنا } .
وقرأ حفص: "لخَسَفَ" بفتح الخاء والسين (4) .
فصل
اختلف العلماء في قوله: "ويك أن" فقال الخليل وسيبويه (5) : "وَيْ" مفصولة من "كَأَنَّ"، وهي كلمة تندُّم وتنبيه على الخطأ، وكلُّ من تندّم فأظهر ندامته قال: وَيْ. فالمعنى: أن القوم ندموا على ما سَلَفَ منهم من تمنيهم مثل ما أوتي قارون حين شاهدوا سوء عاقبته، ثم قالوا: كأنه { لا يفلح
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/507).
(2) ... في الأصل: أكله. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل زيادة قوله: الأرض.
(4) ... الحجة للفارسي (3/256)، والحجة لابن زنجلة (ص:549)، والكشف (2/175)، والنشر (2/342)، والإتحاف (ص:344)، والسبعة (ص:495).
(5) ... انظر: الكتاب (2/154).(1/665)
الكافرون } أي: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح.
وقال بعض البصريين: لفظه لفظ التشبيه، ومعناه معنى الخبر، والتقدير: الله يبسط، وكذا التي بعدها. وأنشد:
فأصْبَحَ بطنُ مَكَّةَ مُكْفَهِرّاً ... ... كأنّ الأرضَ ليسَ بها هِشَام
أي: الأرض ليس بها هشام؛ لأنه كان قد مات.
قال الزجاج (1) : والصحيح في هذا ما ذكره سيبويه عن الخليل، وحكى نحو ما ذكرناه، ثم قال (2) : وهذا كما يُعاتَبُ الرَّجُلُ على ما سَلَفَ منه فيقول: وَيْ، كأنك قصدت مكروهي، فالوقف عليها: وَيْ، وأنشد:
سَالَتَانِي الطَّلاقَ أَنْ رَأَيَانِي ... قَلَّ مَالِي قَدْ جِئْتُماني بنُكْرِ (3)
وَيْكَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْـ ... ـبَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ (4)
وأما أبو الحسن فإنه يقول: الكاف متصلة، والتقدير: ويك أعلم أن الله.
وقال قطرب: إنما هو: ويلك، فأسقط منه اللام.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/157).
(2) ... انظر: الكتاب (2/154-155).
(3) ... سالتاني: يعني زوجتيه اللتين ذكرهما في بيت قبله، وهو:
... ... ... تلك عرساي تنطقان على العمـ ... ... ـد إلى اليوم قول زور وهتر
... وسال: مخفف سأل، بإبدال الهمزة ألفاً. والنكر: المنكر.
(4) ... البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل، يتحدث عن زوجتين له تركتاه لقلة ماله.
... انظر: الكتاب لسيبويه (2/155)، ومجالس ثعلب (ص:322)، والخصائص (3/41، 169)، وابن يعيش (4/76)، والهمع (2/106)، والخزانة (6/404)، والأشموني (3/199)، والدر المصون (5/354)، والبحر (7/130)، ومعاني الفراء (2/312).(1/666)
قال عنترة:
ولقدْ شَفَى نفسي وأذهبَ سُقْمَها ... ... قيلُ الفَوارسِ وَيْكَ [عنْتَرَ] (1) أقْدِمِ (2)
وقال الزمخشري (3) : يجوز أن يكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وَيْ، كقوله: ويك [عنتر] (4) أقدم.
و"أنه" بمعنى "لأنه"، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أي: لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون.
قال الزجاج (5) : وجاء في التفسير أن معناه: ألم تر أنه لا يفلح الكافرون.
وقال بعضهم: معناها: أما ترى أنه لا يفلح الكافرون.
وحكى غير الزجاج عن قتادة: معناها: ألم تعلم (6) .
وقال الفراء (7) : هي كلمة تقرير، كقول الرجل: [أما ترى] (8) إلى صُنع
__________
(1) ... في الأصل: عنترة. والمثبت من ب، ومصادر البيت.
(2) ... البيت لعنترة بن شداد. انظر: ديوانه (ص:14)، والسبع الطوال (ص:359)، والمحتسب (1/16)، وابن يعيش (4/77)، والخزانة (6/421)، والأشموني (3/198)، والدر المصون (5/354)، والبحر (7/130)، واللسان (مادة: ويا).
(3) ... الكشاف (3/438-439).
(4) ... في الأصل: عنترة. والمثبت من ب.
(5) ... معاني الزجاج (4/156).
(6) ... أخرجه الطبري (20/120)، وابن أبي حاتم (9/3020). وذكره السيوطي في الدر (6/443) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7) ... معاني الفراء (2/312).
(8) ... في الأصل: ألم تر. والتصويب من ب، ومعاني الفراء، الموضع السابق.(1/667)
الله وإحسانه. وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنُكَ؟ فقال: ويْكأنّه وراء البيت. يعني: أما ترينه وراء البيت.
y7ù=د? الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ارحب
قوله تعالى: { تلك الدار الآخرة } وهي الجنة { نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً } قال عطاء: لا يريدون علواً على خلقي (1) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/410).(1/668)
وقال مقاتل (1) : لا يريدون استكباراً على الإيمان، ولا فساداً بالمعاصي والظلم.
وقال الحسن البصري: لن يطلبوا الشرف والعز (2) عند ذي سلطانهم (3) .
قال زاذان: كان علي عليه السلام يمشي في الأسواق وحده وهو والٍ يُرشِد الضالَّ، ويُعين الضعيف، ويمرّ بالبيَّاع والبقَّال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً } ، ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة، وأهل المقدرة من سائر الأديان (4) .
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: إن الرجل ليعجبه شِراكُ (5) نَعْلِه فيدخل في هذه الآية (6) .
يريد عليه السلام: أن من تكبر وعلا على غيره بزينته فهو ممن يريد عُلُواً في الأرض. ويعضد هذا المعنى: قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما ذئبان جائعان أُرسلا
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/507).
(2) ... في ب: العز والشرف.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3023). وذكره السيوطي في الدر (6/444) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (6/444) وعزاه لابن مردويه وابن عساكر.
(5) ... الشِّرَاك: سيرُ النعل، والجمع: شُرُك، وهو أحد سُيور النعل التي تكون على وجهها (اللسان، مادة: شرك).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/410).(1/669)
في غنم بأفسد لها من حُبِّ الرجل المال، والشَّرَفَ لدينه )) (1) .
وما بعده سبق تفسيره.
وقوله تعالى: { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات } من باب إقامة المُظْهَر مقام المُضْمَر. والمقصود من إظهار لفظ السيئة: التنبيه [على] (2) قُبْحها.
¨bخ) الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/588 ح2376)، وأحمد (3/460).
(2) ... زيادة من ب.(1/670)
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ اررب
قوله تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن } أي: أوجب عليك القيام بتبليغه والنهوض بأعباء تكاليفه، وألزمك العمل به، ودعاء الخلق إليه، { لرادك إلى معاد } ليس لغيرك من البشر، وهو المقام الذي أُعِدَّ له في الجنة، وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال مجاهد والحسن وأبو صالح والزهري (1) .
فإن قيل: هذا اللفظ مُشْعِرٌ بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في الجنة؟
قلت: قد كان ذاك ليلة المعراج، أو حين كان في صُلب آدم، أو ساغ ذلك لكثرة تلبسه - صلى الله عليه وسلم - بها، تارة بعرضها عليه حتى هَمَّ بأخذ القِطْف (2) منها، وتارة بدخوله إليها في منامه، ومنام الأنبياء وَحْيٌ، وقد دخلها - صلى الله عليه وسلم - في المنام مراراً كثيرة.
على أني أقول: العرب تقول: رجع فلان إلى كذا، وإن لم يكن له سابقة بذلك. وقد قررناه فيما مضى.
وقال ابن عباس -في رواية العوفي- والضحاك ومقاتل (3) : نزلت هذه الآية في الجحفة، في مسير النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة، فتذكَّر وهو بالجحفة مكة، وكونها مولدُه ومولد آبائه، فاشتاق إليها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال: نعم، فقال: فإن الله يقول: { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } (4) ، أي: إلى مكة ظاهراً عليها.
قال القتيبي: مَعَادُ الرجل: بلده؛ لأنه [ينصرف] (5) [في البلاد
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/124)، وابن أبي حاتم (9/3026). وذكره السيوطي في الدر (6/446) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن أبي صالح، وعزاه للفريابي.
(2) ... في هامش ب: القِطْف: بالكسر: العنقود، وهو اسم لكل ما يُقْطَف، كالذَّبح والطّحن. وأكثر المحدثين يروونه بفتح القاف، وإنما هو بالكسر. وقال الأزهري: يجوز الفتح عند الكسائي (انظر: اللسان، مادة: قطف).
(3) ... تفسير مقاتل (2/508).
(4) ... أخرج طرفاً منه ابن أبي حاتم (9/3026) عن الضحاك. وذكره الواحدي في الوسيط (3/411)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/249). وذكر السيوطي طرفاً منه في الدر (6/445) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك.
(5) ... في الأصل: يتصرف. والتصويب من ب.(1/671)
ويضرب في الأرض] (1) ثم يعود إليه (2) .
قلت: وحنينه - صلى الله عليه وسلم - إلى بلده من جملة أخلاقه الكريمة التي طُبع عليها.
قالت العرب: أكرمُ الناس آلفُهُم للناس.
وقال بعض الحكماء: حنين الرجل إلى أوطانه من علامة الرِّشْدَة، وقد أحسن القائل:
إذا أنَا لا أشتاقُ أرضَ عشيرتي ... فليسَ مكاني في النُّهى بمَكِين
وإنْ أنَا لمْ أرعَ العهودَ على النَّوَى ... فلستُ بمأمونٍ ولا بأَمين (3)
قال أبو دُلف العجلي: أَلْأَمُ بيت قالته العرب:
تَلْقَى بكل بلادٍ إنْ حَللْتَ بها ... أهلاً بأهْلٍ وجيراناً بجيران (4)
وذلك لأنه يدل على قلّة رعايةٍ وشدّة قساوة.
وقيل: "[لرادك] (5) إلى معاد": أي: [إلى] (6) القيامة.
قال [الزجاج] (7) : وهذا أكثر التفسير.
قال صاحب الكشاف (8) : إن قلت: كيف اتصل قوله: { قل ربي أعلم } بما
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (6/250).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/250).
(3) ... البيتان لأبي هلال العسكري، وهما في: ديوان المعاني، باب الهجاء، ومجمع الحكم والأمثال، باب الوطن، وزهر الأكم في الأمثال والحكم.
(4) ... البيت لأبي دلف، وهو في: ديوان الحماسة (1/98).
(5) ... في الأصل: لردك. والتصويب من ب.
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... في الأصل: قتادة. والتصويب من ب. وانظر: معاني الزجاج (4/158).
(8) ... الكشاف (3/440).(1/673)
قبله؟
قلت: لما وَعَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرد (1) إلى معاد قال: { قل } للمشركين: { ربي أعلم من جاء بالهدى } يعني: نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده، { ومن هو في ضلال مبين } يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.
قوله تعالى: { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } قال الفراء (2) : هذا استثناء منقطع.
وقال الزمخشري (3) : هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقي عليك الكتاب إلا رحمة من ربك.
قوله تعالى: { ولا يَصُدُّنَّكَ } وقرئ شاذاً: بضم الياء وكسر الصاد (4) ، من أصَدَّه بمعنى: صَدَّه، وهي لغة كلب. قال شاعرهم:
[أُناسٌ] (5) أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ ... صُدودَ السَّواقي عن أُنُوفِ الحَوَائِمِ (6)
السواقي: جمع ساقية، وهُنَّ الولائد الساقيات أو الجماعات التي يسقون
__________
(1) ... في ب: رسوله الرد.
(2) ... معاني الفراء (2/313).
(3) ... الكشاف (3/440-441).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/355).
(5) ... في الأصل: الناس. والتصويب من ب.
(6) ... البيت لذي الرمة. انظر: ديوانه (ص:623)، واللسان (مادة: صدد)، والدر المصون (5/351)، والبحر (7/132)، والقرطبي (13/322)، وروح المعاني (13/183، 20/130).(1/674)
الإبل. والحوائم: العطاش، مِنْ حَام؛ إذا عطش.
قال مقاتل (1) : ذَكَّر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - نِعَمَهُ عليه بإلقائه الكتاب إليه، ونهاه عن مُظاهرة قومه حين دعوه إلى دين آبائه، وأمره بالتحرز منهم بقوله: { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } .
{ ولا تكونن من المشركين } قال ابن عباس: الخطاب له في الظاهر، والمراد به: أهل دينه (2) . وقد بينّا فيما مضى أن هذا وأمثاله من باب التهييج والإلهاب.
قوله تعالى: { كل شيء هالك إلا وجهه } قال ابن عباس وجمهور العلماء: إلا ما أريد به وجهه (3) .
وقال الضحاك وأبو عبيدة (4) : المعنى: كل شيء هالك إلا هو.
والوجه يُعبَّر به عن الذات.
قال الزجاج (5) : "وجهَه" منصوب بالاستثناء، ويجوز: "إلا وجهُهُ"
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/508-509).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/411).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3028) عن مجاهد وسفيان الثوري، والبيهقي في الشعب (5/350) عن سفيان. وانظر: الطبري (20/127). وذكره السيوطي في الدر (6/447) وعزاه لعبد بن حميد. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن سفيان، وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان.
(4) ... مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/112). وذكره الماوردي (4/273)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/252).
(5) ... معاني الزجاج (4/158).(1/675)
بالرفع، ولكنه لا ينبغي أن يقرأ بها. ويكون المعنى: كل شيء غير وجهه هالك، وهو مثل قول الشاعر:
وكلُّ أخٍ مُفارقُهُ أخُوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدان (1)
المعنى: وكل شيء غير الفرقدين مفارقه أخوه.
__________
(1) ... البيت لعمرو بن معد يكرب، وقيل: لسوار بن المضرب، وقيل: لحضرمي بن عامر. انظر: ديوانه (ص:178)، والكتاب لسيبويه (2/334)، وخزانة الأدب (3/421)، والإنصاف (1/268)، وجمهرة أشعار العرب للقرشي (1/116)، ومعاني الأخفش (ص:91)، والأشباه والنظائر (8/180)، وشرح الأشموني (1/234)، وشرح المفصل (2/89)، ومغني اللبيب (1/72)، والمقتضب (4/409).(1/676)
سورة العنكبوت
ijk
وهي تسع وستون آية.
وهي مكية في قول ابن عباس والأكثرين (1) .
وقال هبة الله المفسر (2) : نزل من أولها إلى رأس العشر بمكة، وباقيها بالمدينة.
وقيل: بالعكس من هذا القول.
$O!9# (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
__________
(1) ... أخرجه النحاس في ناسخه (ص:611). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/253)، والسيوطي في الدر (6/449) وعزاه لابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. ومن طريق آخر عن عبدالله بن الزبير وعزاه لابن مردويه.
(2) ... الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة (ص:141).(1/677)
الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ احب
قال الله تعالى: { آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون } قال ابن عباس: يريد بالناس: الذين آمنوا بمكة؛ سلمة بن هشام، [وعياش] (1) بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم (2) .
وقال مقاتل (3) : نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((سيد الشهداء مِهْجَع، وهو أول من يُدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة))، فجزع عليه أبواه وامرأته جزعاً شديداً، فأنزل الله
__________
(1) ... في الأصل: وعباس. وهو خطأ. والتصويب من ب. انظر ترجمته في: التهذيب (8/176)، والتقريب (ص:436).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/412)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/254).
... ويؤيد هذا ما رواه البخاري (1/341 ح961) ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف)).
(3) ... تفسير مقاتل (2/510).(1/678)
تعالى هذه الآية (1) .
قال الزجاج (2) : هذا اللفظ لفظ استخبار. والمعنى معنى تقرير وتوبيخ. ومعناه: أحَسِبُوا أن نَقْنَع منهم أن يقولوا "إنا مؤمنون" فقط ولا يُمتحنون بما تبين به حقيقة إيمانهم.
قال مجاهد وقتادة والسدي: { وهم لا يفتنون } : أي: لا يُبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب (3) .
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } أي: ابتليناهم بضُروب المِحَن وأنواع المصائب؛ تمييزاً للمخلص من غير المخلص، والثابت القَدَم في الإسلام من المُزَلْزَل (4) ، والصابر من الجازع.
قال ابن عباس: منهم خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وقوم كانوا معه ومن بعده نُشروا بالمناشير على دين الله، فلم يرجعوا عنه (5) .
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:350)، وزاد المسير (6/254).
(2) ... معاني الزجاج (4/159).
(3) ... أخرجه الطبري (20/128)، وابن أبي حاتم (9/3032)، ومجاهد (ص:493). وذكره السيوطي في الدر (6/450) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(4) ... في ب: المتزلزل.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/412-413).
... ويؤيد هذا القول ما جاء في البخاري (6/2546 ح6544) عن خباب بن الأرت قال: ((شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).(1/679)
فإن قيل: بماذا يتصل قوله تعالى: { ولقد فتنا } ؟
قلت: جائز أن يتصل بـ"أحسب"، وجائز أن يتصل بـ"لا يفتنون".
{ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } أي: ليعلمن الله ذلك واقعاً.
وقال مقاتل (1) : المعنى: فليرينّ الله الذين صدقوا في إيمانهم عند البلاء، فصبروا لقضاء الله، وليرينّ الذين كذبوا في إيمانهم، فَشَكُّوا عند البلاء.
ويجوز أن يكون ذلك وعداً ووعيداً، كأنه قيل: وليثبتن الله الذين صدقوا، وليعاقبن الكاذبين.
وقال أبو الفتح ابن جني (2) : هو على إقامة السَّبَب مقام المُسَبَّب، والغرض فيه: فليُكَافئنّ الله الذين آمنوا، وذلك أن المكافأَة على الشيءِ إنما هي مُسبّبة عن علم، ولو لم [يُعلَم] (3) لما صَحَّت المكافأَة، ومثله: من إقامة [السَّبَب مقام المُسَبَّب] (4) قول الله تعالى: { كانا يأكلان الطعام } [المائدة:75].
وقرأ علي عليه السلام وجعفر بن محمد: "فَلَيُعْلِمَنَّ" بضم الياء وكسر اللام في المواضع الأربعة من هذه السورة (5) ، وهي هذان الموضعان، وقوله تعالى: { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/510).
(2) ... المحتسب (2/159).
(3) ... في الأصل و ب: تعلم. والتصويب من المحتسب (2/159).
(4) ... في الأصل و ب: المسبب مقام السبب. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/255)، والدر المصون (5/358).(1/680)
على معنى: ليُعرِّفَنَّ اللهُ الناسَ منْ هم، فحذف أحد المفعولين.
ويجوز أن يكون: فليَسِمَنَّ الله الفريقين بسِمَةٍ وعلامةٍ يُعرفون بها. أما في الدنيا [فبظهور] (1) آثار الصدق وأنوار الإيمان على وجوه المتصفين بهما، وظهور آثار الكذب والنفاق على [المتصفين] (2) بهما. وأما في الآخرة فبياض الوجوه واسودادها (3) وكُحل العيون [أو زُرقتها] (4) ، إلى غير ذلك من الأمارات الفاصلة بين الفريقين.
قوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات } جائز أن يكون "حسب" بمعنى: قَدَّر، فلا يستدعي مفعولين، وجائز أن تكون على بابها، فتكون ما اشتملت عليه صلة "أنْ" سادّاً مسدّ المفعولين، كقوله: { أم حسبتم أن تتركوا } [التوبة:16]، و"أم" منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: أن هؤلاء بحُسْبان أظهرُ بطلاناً من الحسبان الذي قبله (5) .
__________
(1) ... في الأصل: فظهور. والمثبت من ب.
(2) ... في الأصل: المصفين. والمثبت من ب.
(3) ... في ب: أو سوادها.
(4) ... في الأصل: وزرقتها. والمثبت من ب.
(5) ... هذا قول الزمخشري، انظر: الكشاف (3/444).
... قال أبو حيان في البحر (7/137): أما قول الزمخشري: "اشتمال صلة أن سد مسد المفعولين" فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله: { أن يتركوا } ، فيجعل ذلك سدّ مسدّ المفعولين، ولم يقدّر ما لا يصح تقديره، وأما قوله: ويجوز أن تضمن "حسب" معنى "قدر" فتعين أنّ "أنْ" وما بعدها في موضع مفعول واحد، والتضمين ليس بقياس، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه، وهذا لا حاجة إليه.(1/681)
والسيئات: الشرك والمعاصي.
{ أن يسبقونا } أي: يفوتونا. يريد: أن الجزاء لاحِقٌ بهم لا محالة، { ساء ما يحكمون } .
قال الزجاج (1) : موضع "ما" نصب، على معنى: ساء حكماً يحكمون، كما تقول: نِعْمَ رَجُلاً زيدٌ. ويجوز أن يكون رفعاً، على معنى: ساء الحكم حكمهم.
قال ابن عباس: يعني: الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والعاص بن هشام، وغيرهم (2) .
`tB كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/160).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/413)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/256).(1/682)
الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ اذب
قوله تعالى: { من كان يرجو لقاء الله } أي: يخاف البعث، كقول الشاعر:
إذا لَسَعَتْهُ النحلُ لم يَرْجُ لَسْعُها ... ...................... (1)
وقد ذكرتُ ذلك فيما مضى.
وقال سعيد بن جبير: المعنى: من كان يطمع في ثواب الله (2) . واختاره
__________
(1) ... صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وعجزه: (وخَالَفَها في بيت نُوب عَواسِل). انظر: ديوان الهذليين (1/143)، والدر المصون (1/534)، واللسان (مادة: نوب، دبر، خلف، رجا)، والقرطبي (3/50، 8/311، 13/19)، والطبري (5/264، 11/87، 25/137، 29/95). وفي بعض المصادر: "الدبر" بدل "النحل".
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/413).(1/683)
الزجاج (1) نظراً إلى الموضوع الأصلي.
{ فإن أجل الله لآت } وهو أجل القيامة، فيجازي كُلاًّ بعمله، { وهو السميع العليم } الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله العباد ويفعلونه.
قوله تعالى: { ومن جاهد } أي: من جاهد نفسه في منعها ما تهواه من المعصية وحملها على ما تأباه من الطاعة، وتركيبها بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، { فإنما يجاهد لنفسه } لموضع انتفاعها به، { إن الله لغني عن العالمين } لم يأمرهم وينْهَهُم لمصلحة تعود إليه، فإنه منزّه عن ذلك، بل لمصالحهم.
$uZّٹ¢¹urur الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا
__________
(1) ... انظر: معاني الزجاج (4/160).(1/684)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ازب
قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } قال سعد بن أبي وقاص الزهري، -واسم أبي وقاص: مالك-: فيّ أنزلت هذه الآية، كنتُ رجلاً بارّاً بأمي، -واسمها: حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف،- وكنتُ أَحَبَّ أولادها إليها، فلما أسلمتُ قالت: يا سعد! ما هذا الدين الذي قد أحدثت؟ لتَدَعَنَّ دينكَ هذا أو لا آكل ولا أشرب، ولا يُظلني سقف حتى أموت، فتُعيَّرَ بي فيقال لك: يا قاتل أمه؟ فقلت: لا تفعلي يا أماه، فإني (1) لا أدع ديني هذا لشيء، قال: فمكثتْ يوماً وليلةً لا تأكل ولا تشرب، فأصبحتْ وقد جُهِدَتْ، ثم مكثتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل ولا تشرب، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: تعلمين والله يا أماه لو كانت لك مائة نفسٍ فخرجت نفساً بعد نفس، ما تركتُ ديني هذا لشيء، فكُلي وإن شئت [فلا] (2) تأكلي، فلما رأتْ ذلك أكَلَت، وأنزل الله هذه الآية (3) .
قال جماعة من المفسرين: أنزل الله فيه هذه الآية والتي في لقمان (4)
__________
(1) ... في ب: إني.
(2) ... في الأصل: لا. والمثبت من ب.
(3) ... أسباب النزول للواحدي (ص:351-352). وذكره السيوطي في الدر (6/521) وعزاه لأبي يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر.
(4) ... عند الآية رقم: 14.(1/685)
والتي في الأحقاف (1) ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يترضّاها ويُحسن إليها ولا يطيعها في الشرك.
وقيل: نزلت في [عياش] (2) بن أبي ربيعة المخزومي، وقد ذكرنا قصته مع أمه في سورة النساء عند قوله: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } [النساء:92].
قال الزجاج (3) : المعنى: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يَحْسُن.
وقال صاحب الكشاف (4) : المعنى: ووصينا بإيتاء والديه حسناً، أو بإيلاء والديه حسناً أي: فِعْلاً ذا حُسْن، أو ما هو في ذاته حَسَنٌ لفرط حسنه، كقوله تعالى: { وقولوا للناس حُسْناً } [البقرة:83].
{ وإن جاهداك } قال أبو عبيدة (5) : فيه إضمار، أي: وقلنا له: وإن جاهداك.
{ لتشرك بي ما ليس لك به علم } أي: ما لا تعلم [صحة] (6) إلاهيته { فلا تطعهما } ، وفي هذا دليل على أن الحقوق العظيمة تَسْقُطُ إذا [جاءت] (7)
__________
(1) ... عند الآية رقم: 15.
(2) ... في الأصل: عباس. والتصويب من ب. انظر ترجمته في: التهذيب (8/176)، والتقريب (ص:436).
(3) ... معاني الزجاج (4/161).
(4) ... الكشاف (3/446).
(5) ... مجاز القرآن (2/113).
(6) ... في الأصل: صحته. والتصويب من ب.
(7) ... زيادة من ب.(1/686)
مُصَادِمَةً لحقوق الله تعالى جلّت عظمته، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي قوله: { إليَّ مرجعكم } تحذيرٌ من المخالفة وحثٌ على لزوم قوانين الدين.
قوله تعالى: { لندخلنهم في الصالحين } أي: في جملتهم وزُمرتهم.
وقال ابن جرير (1) : أي: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.
z`دBur النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
__________
(1) ... تفسير ابن جرير الطبري (20/132).(1/687)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ اتجب
قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله... الآية } قال ابن عباس: هم(1/688)
المؤمنون الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدّوا (1) .
وقال مجاهد وكثير من المفسرين: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسّهم بلاءٌ من الناس أو مصيبة في أنفسهم أو أموالهم افتتنوا (2) .
وقال ابن السائب ومقاتل (3) : نزلت في عياش بن أبي ربيعة، فإنه حين رجع به أخواه أبو جهل والحارث ابنا هشام وجَلَدَاه، فَتَنَاهُ عن دينه، فنزلت هذه الآية. ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة وحَسُنَ إسلامه (4) .
قوله تعالى: { فإذا أوذي في الله } أي: أصابه أذى بسبب إيمانه { جعل فتنة الناس كعذاب الله } أي: جعل ما أصابه من أذى الناس [وعذابهم] (5) صارفاً له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارفاً للمؤمنين عن الكفر.
وقال الزجاج (6) : المعنى: فإذا ناله أذًى بسبب إيمانه جَزِعَ من ذلك، كما يجزع من عذاب الله.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/133)، وابن أبي حاتم (9/3037). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:352).
(2) ... أخرجه الطبري (20/132)، وابن أبي حاتم (9/3037)، ومجاهد (ص:493). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:352). وذكره السيوطي في الدر (6/452) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) ... تفسير مقاتل (2/512).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/259).
(5) ... في الأصل: وبعذابهم. والتصويب من ب.
(6) ... معاني الزجاج (4/161).(1/689)
{ ولئن جاء نصرٌ من ربك } يعني: للمؤمنين { ليقولُن } يعني: المنافقين { إنا كنا معكم } على دينكم، فأعطونا نصيبنا من المغنم.
{ وليعلمن الله الذين آمنوا } أي: ليَرَيَنَّهُم بثبات المؤمن عند الفتنة واضطراب المُرْتَاب وتزلزله عندها.
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولْنَحْمِلْ خطاياكم } وقرأ الحسن: "ولِنَحْمِلْ" بكسر اللام (1) .
هذا قول صناديد قريش في الكفر للمؤمنين أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا يأمرونهم بمشايعتهم ومتابعتهم، على أن يتكفلوا لهم بحمل أوزارهم، على تقدير صحة ما تُوعدوا به من البعث والعذاب.
قال الزجاج (2) : "ولنحمل" هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، على معنى: إن تتَّبعوا سبيلنا حَملْنا خطاياكم.
وقال الأخفش (3) : كأنهم أمروا أنفسهم بذلك.
قال ابن قتيبة (4) : الواو زائدة.
قال الزجاج (5) : فأعلم الله تعالى أنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم فقال: { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } .
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:344).
(2) ... معاني الزجاج (4/161).
(3) ... معاني الأخفش (ص:266).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:337).
(5) ... معاني الزجاج (4/162).(1/690)
قال (1) : معناه: من شيء يُخفِّفُ عن المحمول عنه العذاب.
{ وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } أي أوزارهم [وأوزاراً] (2) مع أوزارهم، يريد: أوزار الذين أضلوهم، وهذا كقوله: { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [النحل:215].
{ وليسألن يوم القيامة } سؤال تقريع وتوبيخ { عما كانوا يفترون } من الأكاذيب في الأباطيل.
ô‰s)s9ur أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ اتخب
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين
__________
(1) ... أي: الزجاج.
(2) ... في الأصل: وأوزار. والتصويب من ب.(1/691)
عاماً } حكى الماوردي (1) : أن هذا مقدار عمره كله.
وليس هذا بصحيح؛ لأن اللبث مرتب على الرسالة بفاء التعقيب، فالآية بيان لمقدار لبثه فيهم رسولاً.
واختلفوا في مقدار عمره قبل رسالته وبعد الطوفان؛ [فقال ابن عباس: بُعث بعد أربعين سنة، وعاش بعد الطوفان] (2) ستين سنة حتى كثُر الناس وفشوا (3) .
فعلى هذا يكون مبلغ عمره ألفاً وخمسين سنة.
وقال كعب الأحبار: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد ذلك سبعين سنة، فكان مبلغ عمره ألفاً وعشرين سنة (4) .
وقال عون بن أبي شداد: بُعث وهو ابن ثلاثمائة [وخمسين] (5) سنة، وعاش مثلها بعد الطوفان (6) .
__________
(1) ... تفسير الماوردي (4/278).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/18 ح33918)، والحاكم (2/595 ح4005)، وابن أبي حاتم (9/3041). وذكره الماوردي (4/278-279)، والسيوطي في الدر (6/455) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه.
(4) ... أخرج ابن أبي حاتم (9/3041) عن كعب الأحبار في قول الله: { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } قال: عاش بعد ذلك سبعين عاماً. وذكره الماوردي (4/279)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/261).
(5) ... زيادة من مصادر التخريج.
(6) ... أخرجه الطبري (20/135)، وابن أبي حاتم (9/3042). وذكره الماوردي (4/279)، والسيوطي في الدر المنثور (6/456) وعزاه لابن جرير.(1/692)
وقال قتادة: بُعث وهو ابن ثلاثمائة، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة (1) .
فإن قيل: لما غاير بين المميزَيْن؟
قلت: لأنه أحسن من تكرير السنة أو العام مرتين.
فإن قيل: هلاّ [قال] (2) : تسعمائة وخمسين سنة؟
قلت: المقصود: ذكر ما ابتُلي به نوح عليه السلام من طول مصابرته لقومه، وذكر الألْف أفخم في اللفظ وأوقع في النفس.
قوله تعالى: { فأخذهم الطوفان } رَوَتْ عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أنه الموت )) (3) .
وقال ابن عباس: هو المطر (4) .
وقال الضحاك: هو الغرق (5) .
والمعنى في هذا كله مُتَّحِد؛ لأنهم أُمطروا فماتوا بالغرق.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3041). وذكره الماوردي (4/278).
... قال ابن كثير (3/408): وهذا قولٌ غريب، وقول ابن عباس أقرب. والله أعلم.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه الطبري (9/31)، وابن أبي حاتم (9/3042).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3042) ولفظه: مطر بالليل والنهار ثمانية أيام. وذكره الماوردي (4/279)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/262).
(5) ... أخرجه الطبري (20/136)، وابن أبي حاتم (9/3042). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/456) وعزاه لابن جرير.(1/693)
والواو في قوله: { وهم ظالمون } واو الحال.
{ فأنجيناه وأصحاب السفينة } وقد ذكرنا عدّتهم في هود وقصة غرقهم (1) .
{ وجعلناها } يعني: السفينة، وقيل: القصة والحادثة { آية للعالمين } عبرة لمن بعدهم.
zOٹدd؛tچِ/خ)ur إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
__________
(1) ... من الآية رقم: 25-49.(1/694)
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ اتزب
قوله تعالى: { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه } قال الزجاج (1) : هو معطوف على "نوحاً".
وقال الزمخشري (2) : نَصَبَ "إبراهيم" بإضمار "اذكر"، وأبدل عنه "إذ"
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/164).
(2) ... الكشاف (3/451).(1/695)
بدل الاشتمال؛ لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، [أو] (1) هو معطوف على "نوحاً"، و"إذ" ظرف لـ"أرسلنا"، يعني: أرسلناه حين بلغ من السن والعلم مبلغاً صَلُحَ فيه لأن يَعِظَ قومه وينصحهم، ويأمرهم بالعبادة والتقوى.
{ ذلكم } يعني: العبادة والتقوى { خير لكم إن كنتم تعلمون } الخير من الشر.
المعنى: ولكنكم لا تعلمون.
{ إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } أي: أصناماً { وتخلقون إفكاً } بتسميتكم إياها آلهة وشركاء لله، أو بزعمكم أنها تشفع لكم.
وقيل: أراد بالإفك: الأوثان، جعل نَحْتَهُم لها خَلْقاً للإفك.
ثم بيّن عجزها فقال: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } أي: شيئاً من الرزق، { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه } [أي] (2) : وحِّدُوه { واشكروا له } بالتوحيد والعبادة نعمه من الخلق والرزق وغيرهما { إليه ترجعون } فاستعدُّوا للقائه.
قوله تعالى: { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم } إلى قوله: { فما كان جواب قومه } جائز أن يكون من جملة قول إبراهيم لقومه، ويكون قوله: { قل سيروا في الأرض } من كلام الله تعالى حكاه إبراهيم لقومه، كما حكى (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلام الله تعالى على هذا النمط في كثير من القرآن.
__________
(1) ... في الأصل و ب: إذ. والتصويب من الكشاف (3/451).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في ب: يحكى.(1/696)
وجائز أن يكون من جملة ما خوطبت به قريش، وقع اعتراضاً بين أول قصة إبراهيم وآخرها، ويكون المقصود منه تهديد كفار قريش، وتسلية لرسول (1) الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ كان أبوه إبراهيم خليل الله مَمْنُوّاً (2) بنحو ما بُلي به من شرك قومه وتكذيبهم الحق الذي جاء به، وكون العاقبة كانت له.
قوله تعالى: { أو لم يروا } وقرأ أهل الكوفة: "تروا" بالتاء على المخاطبة (3) .
{ كيف يبدئ الله الخلق } أي: يخلقهم ابتداء من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة حتى يتكامل خلقه.
قوله تعالى: { ثم يعيده } ليس بمعطوف على "يُبْدِئ"، وليست الرؤية واقعة عليه، وإنما [هو] (4) إخبار مستأنف بالإعادة بعد الموت، ونحوه: { فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } فإن النظر وقع على الابتداء دون الإنشاء.
أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي -رحمه الله- قراءةً عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله النحوي، حدثني أبي قال: سمعت أبا بكر ابن الأنباري يقول: دخلنا المارستان بباب المحوَّل، فسمعت رجلاً في بعض البيوت يقرأ: { أو لم تروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده } فقال: أنا لا أقف إلا على قوله: "كيف يبدئ الله الخلق" فأقف على ما عرفه القوم وأقَرُّوا؛ لأنهم لم يكونوا يُقرّون بإعادة الخلق، وأبتدئ بقوله: "ثم يعيده" ليكون خبراً. وأما ما [قرأ] (5) علي بن أبي طالب عليه السلام: "وادّكر بعد أمَهٍ" [يوسف:45] فهو وجه حسن، والأمَهُ: النسيان. وأما أبو بكر بن مجاهد فهو إمامٌ في القراءة. وأما قراءة الأحمق ابن شنبوذ: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم" (6) خطأٌ؛ لأن الله قد قطع لهم بالعذاب بقوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء:48]، قال: فقلت لصاحب المارستان: من هذا الرجل؟ فقال: هذا إبراهيم المُوَسْوِسُ محبوس، قال: فقلت: ويحك هذا أبيّ بن كعب، افتح الباب عنه، ففتح الباب فإذا رجل منغمسٌ في النجاسة والأدْهَم (7) في قدميه، فقلت: السلام عليكم، فقال: كلمة [مَقُولَةٌ] (8) ، فقلت: ما يمنعكَ من ردِّ السلام عَلَيَّ؟ قال: السلام أمان، وإني أريد أن أمتحنك، ألست تذكرُ اجتماعنا عند أبي العباس -يعني: ثعلباً- في يوم كذا ويوم كذا، وعرّفني ما
__________
(1) ... في ب: رسول.
(2) ... ممنواً: أي: مبتلياً، يقال: مُنيتُ بكذا: ابتليتُ به (اللسان، مادة: مني).
(3) ... الحجة للفارسي (3/257)، والحجة لابن زنجلة (ص:549)، والكشف (2/177)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:344-345)، والسبعة (ص:498).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... في الأصل: قال. والتصويب من ب.
(6) ... وصواب الآية في سورة المائدة: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [118].
(7) ... الأدهم: القيد (اللسان، مادة: دهم).
(8) ... في الأصل: مفعولة. والمثبت من ب، وتاريخ بغداد (3/185).(1/697)
ذاكرته فعرفته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم، فقال: هذا الذي تراني منغمساً فيه ما هو؟ فقلت: الخرؤ يا هذا، فقال: وما جمعه؟ قلت: خُرُوء، فقال لي: صدقت، وأنشد:
كأنَّ خُروءَ الطير فوقَ رؤوسهم ... ... ............................
ثم قال لي: والله لو لم تجبني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي أنجاني منه، وتركته ثم انصرفت (1) .
قال المصنف: هذا البيت الذي استشهد به الموسوس لجوّاس وهو:
كأنَّ خُروءَ الطير فوقَ رؤوسهم ... إذا اجتمعتْ قيسٌ معاً وتميم
متى [تسأل] (2) الضّبيّ عن شرِّ قومه ... يقلْ لَكَ: إنَّ العائذيَّ لئيم (3)
ِ@è% سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
__________
(1) ... انظر القصة في: تاريخ بغداد (3/185-186).
(2) ... زيادة من ب، ومصادر البيت.
(3) ... البيتان لجواس بن نعيم الضبي، انظر: اللسان (مادة: خرأ).(1/699)
وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ے¾دmح !$s)د9ur أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اثجب
قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } أمرهم الله سبحانه بالسير في الأرض [ليشاهدوا] (1) عجائب مخلوقاته وبدائع مصنوعاته، ويستدلوا بابتداء الخلق على صحة إعادته، { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "النَّشَاءَةَ" بفتح الشين والمد، وقرأ الباقون
__________
(1) ... في الأصل: لشاهدوا. والتصويب من ب.(1/700)
بسكون الشين والقَصْر (1) ، وكذلك اختلافهم في النجم (2) والواقعة (3) .
قال الفراء (4) : هذا مثل: الرّأْفة والرآفة، والكأْبة والكآبة.
{ إن الله على كل شيء } من البدء والإعادة وغيرهما { قدير } .
{ يعذب من يشاء } بعدله، { ويرحم من يشاء } بفضله.
وقد حكى الماوردي فيه أقوالاً (5) :
أحدها: يعذب من يشاء بسوء الخلق، ويرحم من يشاء بحسن الخلق.
الثاني: يعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة.
الثالث: يعذب من يشاء بمتابعة البدعة، ويرحم من يشاء بملازمة السنة.
الرابع: يعذب من يشاء بالانقطاع إلى الدنيا، ويرحم من يشاء بالإعراض عنها.
الخامس: يعذب من يشاء ببغض الناس له، ويرحم من يشاء بحب الناس له.
{ وإليه تقلبون } تُرَدُّون وترجعون.
{ وما أنتم بمعجزين } مفسر في الأنفال (6) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/257)، والحجة لابن زنجلة (ص:549)، والكشف (2/178)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:345)، والسبعة (ص:498).
(2) ... عند الآية رقم: 47.
(3) ... عند الآية رقم: 62.
(4) ... معاني الفراء (2/315).
(5) ... تفسير الماوردي (4/280).
(6) ... عند الآية رقم: 59.(1/701)
قال قطرب (1) : معناه: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة، [ولو] (2) صار إليها.
وقيل: المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء بمعجزين في السماء.
قوله تعالى: { أولئك يئسوا من رحمتي } قال مقاتل (3) : من جَنَّتي.
وقال أبو سليمان: من عَفْوي ومغفرتي (4) .
قال ابن جرير (5) : وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب.
وقال غيره: "أولئك يئسوا" وعيد، أي: ييأسوا (6) يوم القيامة، أو شبّه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يأس من الرحمة.
$yJsù ڑc%ں2 z>#uqy_ ے¾دmدBِqs% Hwخ) br& (#qن9$s% çnqè=çGّ%$# ÷rr& çnqè%جhچym
__________
(1) ... انظر قول قطرب في: زاد المسير (6/266).
(2) ... في الأصل: لو. والتصويب من ب.
(3) ... تفسير مقاتل (2/515).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/266).
(5) ... تفسير ابن جرير الطبري (20/140).
(6) ... في ب: ييأسون.(1/702)
çm9pgUr'sù ھ!$# ڑئدB ح'$¨Z9$# ¨bخ) 'خû y7د9؛sŒ ;M"tƒUy 5Qِqs)دj9 tbqمZدB÷sمƒ اثحب tA$s%ur $yJ¯Rخ) Oè?ُsƒھB$# `دiB بbrكٹ "!$# $YZ"rO÷rr& no¨ٹuq¨B ِNن3دYّt/ 'خû حo4quٹysّ9$# $u÷R'‰9$# ¢OèO uQِqtƒ دpyJ"uٹة)ّ9$# مچàےُ3tƒ Nà6àز÷èt/ <ظ÷èt7خ/ عئyèù=tƒur Nà6àز÷èt/ $Vز÷èt/ مNن31urù'tBur â'$¨Y9$# $tBur Nà6s9 `دiB ڑْïخژإا"¯R اثخب * z`tB$t"sù ¼çms9 شقqن9 tA$s%ur 'خoTخ) يچإ_$ygمB 4'n<خ) 'خn1u' ¼çm¯Rخ) uqèd â"ƒح"yèّ9$# قOإ3ptّ:$# اثدب $oYِ7ydurur ے¼م&s!(1/703)
t,"ysَ™خ) z>qà)÷ètƒur $uZù=yèy_ur 'خû دmدGƒحh'èŒ noqç7-Y9$# |="tGإ3ّ9$#ur çm"oY÷ s?#uنur ¼çntچô_r& 'خû $u÷R'‰9$# ¼çm¯Rخ)ur 'خû حotچإzFy$# z`دJs9 tûüإsخ="¢ء9$# اثذب
قوله تعالى: { فما كان جواب قومه } أي: ما كان جواب قوم إبراهيم حين أمرهم بعبادة الله تعالى وتقواه، { إلا أن قالوا } أي: قال بعضهم لبعض، أو قاله بعضهم ورضيه الباقون، فيكونون بمنزلة القائلين.
والمعنى: إلا أن قالوا سفهاً وعناداً عند انقطاع حجتهم: { اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار } وقد ذكرنا ذلك في سورة الأنبياء (1) .
قوله تعالى: { وقال } يعني: إبراهيم لقومه: { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "مَوَدَّةُ" بالرفع من غير تنوين، "بينِكُم" بالجر على الإضافة. على معنى: هي أو تلك مودة بينكم، أو يكون "مودَّةُ" خبر "إن"، و"ما" موصولة.
وقرأ حمزة وحفص: "مودَّةَ" بالنصب والإضافة، جعلا "ما" مع "إنَّ"
__________
(1) ... آية رقم: 68.(1/704)
كافة، ولم يجعلاها بمعنى الذي، و"مودَّةَ" مفعول له تقديره: اتخذتم الأوثان للمودَّة، ثم أضافها إلى "بينكم" كما أضاف من رفع.
وقرأ الباقون: "مودَّةً" بالنصب والتنوين، "بينكُم" بالنصب على الظرف (1) .
ويجوز أن يكون "مودَّةً" مفعولاً ثانياً، كقوله تعالى: { اتخذ إلهه هواه } [الفرقان:43] على معنى: اتخذتم الأوثان سبب المودَّةِ بينكم، بتقدير حذف المضاف.
وقرأتُ لعاصم من غير [طُرُقه] (2) المشهورة: "مودَّةٌ" بالرفع والتنوين، "بينَكُم" بالنصب (3) .
{ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } فيتبرأ القادة من الأتباع، { ويلعن بعضُكم بعضاً } يلعن الأتباع القادة لكونهم السبب في إضلالهم. ويجوز أن تكون الأوثان داخلة في الكفر واللعن، كما في قوله: { سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [مريم:82].
قوله تعالى: { فآمن له لوط } أي: صدّق إبراهيم، { وقال } يعني: إبراهيم { إني مهاجر إلى ربي } أي: إلى حيث أمرني ربي بالهجرة.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/258)، والحجة لابن زنجلة (ص:550)، والكشف (2/178)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:345)، والسبعة (ص:498-499).
(2) ... في الأصل: طريقه. والمثبت من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (3/258)، والسبعة (ص:499).(1/705)
وقيل: مهاجر إلى رضى ربي، فهاجر من كُوثى (1) -وهي من سواد العراق- هو ولوط وسارة، -وهو ابن خمس وسبعين سنة- إلى حَرّان (2) ، ثم منها إلى فلسطين.
{ إنه هو العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي يأمرني بما يصلحني.
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } قال المفسرون: وهب له إسحاق من سارة بعد إسماعيل، وكان إسماعيل من هاجر التي وصلت إليه من الجَبَّار بحرّان، وحديثهم معروف صحيح.
{ وجعلنا في ذريته } أي: في ذرية إبراهيم { النبوة والكتاب } يريد: جنس الكتب.
قال المفسرون: لم يبعث الله تعالى نبياً قط بعد إبراهيم إلا من صلبه (3) .
فإن قيل: ما بال إسماعيل لم يذكر، وقد ذُكِر إسحاق؟
فقد أجاب عنه الزمخشري فقال (4) : قد دلّ على إسماعيل في قوله: { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } ، فكفى الدليل لشُهرة أمره وعُلُوّ قدره.
ويحتمل عندي أن يقال في الجواب: المقصود من ذلك: الإعلام بعجيب
__________
(1) ... كُوثى: موضع بسواد العراق في أرض بابل (معجم البلدان 4/487).
(2) ... حَرَّان: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة أخذها مضر، بينها وبين الرها يوم، وبين الرقة يومان، وهي على طريق الموصل والشام والروم. قيل: سميت بهاران أخي إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أول من بناها، فعربت فقيل: حران (معجم البلدان 2/235).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/418)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/268).
(4) ... الكشاف (3/455).(1/706)
ما جُوزي [به] (1) إبراهيم -على صبره على الأهوال في ذات الله عز وجل، وهجرته من وطنه- من النعم العظيمة التي قلَّ المشارك فيها أو عُدم، من كونه دوحة الأنبياء، ومَقَرَّ العلوم النازلة من السماء، وكونه رُزق إسحاق من عجوز عقيم لا يُرجى من مثلها ولد، ألا تراها تقول حين بُشِّرت: { أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً } [هود:72]، قال عز وجل حاكياً عنها: { فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم } [الذاريات:29]، واستيلاد إبراهيم إسماعيل من هاجر لم يكن بهذه المثابة، ولا مما خُرقت به العادة، فلذلك لم [يذكر] (2) .
فلئن قلت: قد ذكر يعقوب ولم يكن كذلك؟
قلت: ذكْر يعقوب وقع على سبيل الاستطراد والتبعيَّة لأبيه إسحاق، وكونه من تمام ما وقع به الامتنان على إبراهيم بالنعمة الخارقة للعادة.
فإن قيل: ما مَنَعَ من عود الضمير في ذريته إلى يعقوب، وهو أقرب المذكورين؟
قلت: منع من ذلك (3) خروج إسماعيل ومحمد عنه، مع انتظامهما في سلك من جعل الله فيهم النبوة والكتاب، هذا مع أن الضمائر السابقة واللاحقة عائدة إلى إبراهيم والحديث عنه، فيتعين عود الضمير إليه.
قوله تعالى: { وآتيناه أجره في الدنيا } قال ابن عباس: هو الثناء الحسن
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... في ب: منع منه.(1/707)
والولد الصالح (1) .
وقال قتادة: لست ترى أحداً من أهل الأديان إلا يتولاه ويحبه (2) .
وقال السدي: أُرِيَ مكانه من الجنة (3) .
وباقي الآية سبق تفسيره.
$"غqن9ur ّŒخ) tA$s% ے¾دmدBِqs)د9 ِNà6¯Rخ) tbqè?ù'tGs9 spt±إs"xےّ9$# $tB Nà6s)t6y™ $pkح5 ô`دB 7‰ymr& ڑئدiB ڑْüدJn="yèّ9$# اثرب ِNن3Yخ r& ڑcqè?ù'tFs9 tA%y`جhچ9$# tbqمèsـّ)s?ur ں@خ6،،9$# ڑcqè?ù's?ur 'خû مNن3ƒدٹ$tR tچx6ZكJّ9$# $yJsù ڑc%x. ڑU#uqy_
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/144). وذكره السيوطي في الدر (6/459) وعزاه لابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (20/144)، وابن أبي حاتم (9/3052). وعزاه لابن المنذر.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/418)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/268).(1/708)
ے¾دmدBِqs% Hwخ) br& (#qن9$s% $oYدKّ $# ة>#xyèخ/ "!$# bخ) |MZà2 z`دB tûüد%د‰"¢ء9$# اثزب tA$s% إ_Uu' 'خT÷ژفاR$# 'n?tم دQِqs)ّ9$# ڑْïد‰إ،ّےكJّ9$# اجةب
قوله تعالى: { ولوطاً } معطوف على "إبراهيم"، أو على ما عُطف عليه "إبراهيم" (1) .
قوله: { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } تقرير لإفراط تلك الفاحشة في القبح، وإيذان بخبث طينتهم، وقبح طويتهم، حين أقدموا على فاحشةٍ نَبَتْ عنها طباع الذين كانوا من قبلهم.
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص: { إنكم لتأتون الفاحشة } بهمزة واحدة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بهمزتين محقّقتين. وقرأ أبو عمرو بتحقيق الأولى وتليين الثانية مع الفصل بينهما بألف (2) ، وأجمعوا على الاستفهام في: { آإنكم لتأتون الرجال } على أصوله المذكورة في مواضعها، وقد أشرنا إلى علل ذلك في مواضع.
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/455).
(2) ... الحجة للفارسي (3/260)، والكشف (2/20)، والنشر (2/372-373)، والإتحاف (ص:345)، والسبعة (ص:499-500).(1/709)
قوله تعالى: { وتقطعون السبيل } قال ابن عباس وغيره: كانوا يتعرضون (1) من يمرّ بهم لعملهم الخبيث، فترك الناس الممرّ بهم (2) .
وقال مقاتل (3) : كانوا إذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة.
وحُكي عن الحسن، أن قطع السبيل: كناية عن إتيان ما ليس بحرث (4) .
{ وتأتون في ناديكم المنكر } روى الحاكم في صحيحه بإسناده عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: (( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: { وتأتون في ناديكم المنكر } قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم )) (5) .
وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها: أنه تَحَابُقُهم (6) في مجالسهم (7) .
__________
(1) ... في ب: يعترضون.
(2) ... أخرجه الطبري (20/145)، وابن أبي حاتم (9/3054) كلاهما عن ابن زيد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/268) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر (6/460) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.
(3) ... تفسير مقاتل (2/517).
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/456).
(5) ... أخرجه الحاكم (4/316 ح7761).
(6) ... الحَبْقُ: الضُّراط (اللسان، مادة: حبق).
(7) ... أخرجه البخاري في تاريخه (6/196 ح2154)، والطبري (20/145)، وابن أبي حاتم (9/3054) عن عائشة في قوله: { وتأتون في ناديكم المنكر } ، قالت: الضراط. وبلفظهم ذكره السيوطي في الدر (6/461) وعزاه للبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه. وانظر: الماوردي (4/282).(1/710)
وقال ابن عباس ومجاهد: هو إتيانهم الرجال (1) .
واستمكنت تلك الفاحشة منهم (2) حتى صاروا يفعلونها بعضهم ببعض في المجالس.
ولا منافاة بين الحديث وهذه الأقوال؛ لأنه يصدق على ذلك كله اسم المنكر.
{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا } تكذيباً واستهزاء: { ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } فيما تَعِدُنا به منه.
{ قال رب انصرني } بتحقيق قولي وتصديق وعدي { على القوم المفسدين } .
$£Js9ur ôNuن!%y` !$uZè=ك™â' zOٹدd؛tچِ/خ) 3"tچô±ç6ّ9$$خ/ (# qن9$s% $¯Rخ) (# qن3خ=ôgمB ب@÷dr&
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/146)، وابن أبي حاتم (9/3055) كلاهما عن مجاهد، ومجاهد (ص:494). وذكره السيوطي في الدر (6/461) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن مجاهد.
(2) ... في ب: فيهم.(1/711)
حnة"yd دptƒِچs)ّ9$# ¨bخ) $ygn=÷dr& (#qçR$ں2 ڑْüدJخ="sك اجتب tA$s% cخ) $ygدù $Wغqن9 (#qن9$s% عئّtwU قOn=÷وr& `yJخ/ $pkژدù ¼çm¨YuٹةdfoYمYs9 ے¼م&s#÷dr&ur wخ) ¼çms?r&tچّB$# ôMtR$ں2 z`دB ڑْïخژة9"tَّ9$# اجثب !$£Js9ur br& ôNuن!$y_ $uZè=ك™â' $Wغqن9 uنû_إ ِNحkح5 ڑX$|تur ِNخgخ/ %Yوِ'sŒ (#qن9$s%ur ںw ô#y‚s? ںwur ÷bt"ّtrB $¯Rخ) x8q'fuZمB y7n=÷dr&ur wخ) y7s?r&tچّB$# ôMtR$ں2 ڑئدB ڑْïخژة9"tَّ9$# اججب $¯Rخ) ڑcqن9ح"\مB #'n?tم ب@÷dr& حnة"yd دptƒِچs)ّ9$#(1/712)
#Y"ô_ح' ڑئدiB دن!$yJ،،9$# $yJخ/ (#qçR%x. ڑcqà)ف،ّےtƒ اجحب ‰s)s9ur $uZٍ2tچ¨? !$yg÷YدB Optƒ#uن ZpoYةi t/ 5Qِqs)دj9 ڑcqè=ة)÷ètƒ اجخب
فاستجاب الله تعالى دعاءه، فبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه، فذلك قوله تعالى: { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } يريد: بالبشارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، { قالوا } يعني: الرسل { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } يريد به: قوم لوط.
وما بعده مُفسر في هود (1) إلى قوله: { إنا منجوك وأهلك } قرأ حمزة والكسائي: "لنُنْجِيَنَّه" و "إنا مُنْجُوكَ" بالتخفيف فيهما، وافقهما ابن كثير وأبو بكر في "مُنْجُوكَ"، وشددهما الباقون (2) .
قال سيبويه والمبرد (3) : الكاف في "مُنَجُّوكَ" مخفوضة، ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض، فحمل الثاني على المعنى، وصار التقدير: وننجي أهلك.
__________
(1) ... عند الآية رقم: 77.
(2) ... الحجة للفارسي (3/260)، والحجة لابن زنجلة (ص:551)، والكشف (2/179)، والنشر (2/259)، والإتحاف (ص:345)، والسبعة (ص:500).
(3) ... المقتضب (4/152).(1/713)
وعند الأخفش: هو في محل النصب مفعول "مُنْجُوكَ" (1) .
قوله تعالى: { إنا مُنْزلُون } شدّده ابن عامر، وخففه الباقون (2) ، فهو اسم الفاعل من أنزَل أو نزَّل، وهما لغتان بمعنى واحد.
{ ولقد تركنا منها } أي: من القرية، أو من الفعلة التي فعل بهم، { آية بينة } .
قال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخربة (3) .
وقال قتادة: هي الحجارة التي ألقاها الله تعالى عليهم، وأدركتها أوائل هذه الأمة (4) .
وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض (5) .
وقيل: هي الإخبار عما صنع بهم.
{ لقوم يعقلون } متعلق بـ"آية" أو بـ"بينة".
4'n<خ)ur ڑْtïô‰tB ِNèd%s{r& $Y7ّٹyèن© tA$s)sù ةQِqs)"tƒ (#rك‰ç6ôم$# ©!$#
__________
(1) ... انظر رأي الأخفش في: البحر المحيط (7/146)، والدر المصون (5/365).
(2) ... الحجة للفارسي (3/260)، والحجة لابن زنجلة (ص:552)، والكشف (2/179)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:179، 345)، والسبعة (ص:500).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/271).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/419)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/270).
(5) ... مثل السابق.(1/714)
(#qم_ِ'$#ur tPِquّ9$# tچإzFy$# ںwur (#ِqsW÷ès? 'خû اعِ'F{$# tûïد‰إ،ّےمB اجدب çnqç/Ox6sù مMكgّ?xyzr'sù èpxےô_چ9$# (#qكst7ô¹r'sù †خû ِNدdح'#yٹ ڑْüدJدW"y_ اجذب #Yٹ$tمur (#yٹqكJrOur ‰s%ur ڑْ¨üt7¨? Nà6s9 `دiB ِNخgدYإ6"|،¨B ڑْ¨ïy-ur قOكgs9 ك`"sـّO±9$# ِNكgn="uHùهr& ِNèd£‰|ءsù ا`tم ب@خ6،،9$# (#qçR%x.ur tûïخژإاِ7tFَ،مB اجرب
قوله تعالى: { وارجوا اليوم الآخر } قال عامة المفسرين: الرجاء هاهنا بمعنى: الخشية، المعنى: اخشوا اليوم الذي تجازون فيه بأعمالكم (1) .
__________
(1) ... ذكره الطبري (20/149)، والواحدي في الوسيط (3/419) من قول مقاتل، وابن الجوزي في زاد المسير (6/271) بلا نسبة.(1/715)
وقال الزمخشري (1) : المعنى: افعلوا ما ترجون به العاقبة، فأقيم [المسبَّب مقام السبب] (2) ، أو أمروا بالرجاء. والمراد: اشتراط ما يسوغه من الإيمان، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط.
{ فأصبحوا في دارهم } أي: في أرضهم أو بلدهم.
وقيل: أراد الجمع فاكتفى بالواحد.
{ وعاداً وثمود } أي: وأهلكنا عاداً وثموداً، { وقد تبين لكم } أي: ظهر لكم يا أهل مكة هلاكهم { من } جهة { مساكنهم } فإنهم كانوا يمرون عليها وينظرون إليها، { وكانوا مستبصرين } .
قال الفراء والزمخشري (3) : يعني: كانوا عقلاء ذوي بصائر، أي: أنهم كانوا بسبيل من النظر والاعتبار، ولكنهم لم يفعلوا.
وقال أكثر المفسرين: المعنى: وكانوا مستبصرين عند أنفسهم، يحسبون أنهم في ضلالتهم على هدى (4) .
وقيل: كانوا مستبصرين: متبيّنين أن العذاب نازل بهم؛ لأن الله تعالى بيّنه لهم وأوضحه على ألسنة الرسل، ولكنهم تمادوا في غيهم حتى هلكوا (5) .
ڑcrمچ"s%ur ڑcِqtمِچدùur
__________
(1) ... الكشاف (3/457).
(2) ... في الأصل و ب: السبب مقام المسبّب. والتصويب من الكشاف (3/457).
(3) ... معاني الفراء (2/317)، والكشاف (3/458).
(4) ... أخرجه الطبري (20/150)، وابن أبي حاتم (9/3060).
(5) ... هو قول الزمخشري أيضاً. انظر: الكشاف (3/458).(1/716)
ڑئ"yJ"ydur ô‰s)s9ur Nèduن!%y` 4سyqoB دM"uZةi t7ّ9$$خ/ (#rçژy9ٍ6tFَ™$$sù 'خû اعِ'F{$# $tBur (#qçR%x. ڑْüة)خ7"y™ اجزب ˆxن3sù $tRُs{r& ¾دmخ6/Rxخ/ Nكg÷YدJsù ô`¨B $uZù=y™ِ'r& دmّn=tم $Y6د¹%tn Oكg÷YدBur ô`¨B çmّ?xs{r& èpysّٹ¢ء9$# Oكg÷YدBur ïئ¨B $oYّے|،yz دmخ/ ڑكِ'F{$# Oكg÷YدBur ô`¨B $oYّ%tچّîr& $tBur ڑc%ں2 ھ!$# َOكgyJخ=ôàuد9 `إ3"s9ur (# qçR%ں2 َOكg|،àےRr& ڑcqكJخ=ôàtƒ احةب
قوله تعالى: { وما كانوا سابقين } أي: ما كانوا يسبقون الله تعالى(1/717)
ويفوتونه أن يفعل بهم ما يريد.
{ فكلاً أخذنا بذنبه } أي: عاقبناه به. ثم فصَّل ما أجمل فقال: { فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط، { ومنهم من أخذته الصيحة } وهم ثمود ومدين، { ومنهم من خسفنا به الأرض } وهو قارون، { ومنهم من أغرقنا } وهم قوم نوح وفرعون.
م@sWtB ڑْïد%©!$# (#rنsƒھB$# `دB آcrكٹ "!$# uن!$uٹد9÷rr& ب@sVyJx. دNqç6x6Zyèّ9$# ôNxsƒھB$# $\F÷ t/ ¨bخ)ur ڑئyd÷rr& دNqمç6ّ9$# àMّٹt7s9 دNqç6x6Zyèّ9$# ِqs9 (#qçR$ں2 ڑcqكJn=ôètƒ احتب ¨bخ) ©!$# مNn=÷ètƒ $tB ڑcqممô‰tƒ `دB ¾دmدRrكٹ `دB &نَ_x" uqèdur â"ƒح"yèّ9$# مLىإ6ysّ9$# احثب ڑپù=د?ur م@"sVّBF{$# $ygç/خژôطnS ؤ¨$¨Z=د9 $tBur(1/718)
!$ygè=ة)÷ètƒ wخ) tbqكJخ="yèّ9$# احجب
قوله تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } يعني: الأصنام التي اتخذوها مُتَّكَلاً ومُعْتَمداً يرجون نفعها ونصرها، فمثلُهُم في اتخاذها مع ضعفها وعدم نصرها ونفعها { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } لا يدفع عنها حَرّاً ولا قُرّاً ولا مطراً ولا ضَرّاً.
قال ثعلب (1) : العنكبوت أنثى، وقد يُذَكِّرُها بعض العرب. قال الشاعر:
....................... ... ... كأنّ العنكبوتَ هُوَ ابْتَنَاهَا (2)
{ وإن أوهن البيوت } أي: أضعفها { لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } أن هذا مَثَلُهم، وأنّ أمر دينهم بالغ هذه الغاية في الضعف والوهن.
ويروى عن علي عليه السلام: طَهِّروا بيوتكم من نَسْجِ العنكبوت، فإن ترْكه في البيوت يُورِثُ الفقر (3) .
ثم تهددهم وتوعدهم [فقال] (4) : { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من
__________
(1) ... انظر قول ثعلب في: زاد المسير (6/272).
(2) ... عجز بيت وصدره: (على هَطَّالِهِم منهمْ بُيوت)، انظر: اللسان (مادة: عنكب، هطل)، ومعاني الفراء (2/317)، والبحر (7/148)، والدر المصون (5/366)، والقرطبي (13/345)، وزاد المسير (6/273)، وروح المعاني (20/161).
(3) ... القرطبي (13/346)، والنسفي (3/259). ولا يصح ذلك، لذا رواه المصنف بصيغة التضعيف.
(4) ... في الأصل: قال. والمثبت من ب.(1/719)
شيء } قرأ أبو عمرو وعاصم: "يدعون" بالياء على الغيبة حملاً على ما قبلها. وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب (1) ، على معنى: قل لهم يا محمد: إن الله يعلم ما يدعون من دونه (2) .
قال الخليل وسيبويه: "ما" هاهنا استفهامية وموضعها نصب بقوله: "يَدْعُون"، والتقدير: أي شيء يدعون من دونه.
وقال غيرهما: هي بمعنى: الذي، والتقدير: يعلم الذي يدعونه من دونه، وموضعها نصب بـ"يَعْلَمُ" (3) .
وفي قوله: { وهو العزيز الحكيم } تجهيلٌ لهم حيث [عبدوا] (4) جماداً وتركوا الموصوف بالعزة والحكمة.
قوله تعالى: { وتلك الأمثال } إشارة إلى أمثال القرآن، { نضربها للناس وما يعقلها } أي: وما يعقل صحتها وحسنها وفائدتها { إلا العالمون } .
ويروى عن جابر: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلى هذه الآية فقال: العالمُ الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه )) (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/261)، والحجة لابن زنجلة (ص:552)، والكشف (2/179)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:346)، والسبعة (ص:501).
(2) ... قوله: "من دونه" ساقط من ب.
(3) ... ويجوز أن تكون نافية، و"مِنْ" في قوله: "منْ شيء" مزيدة في المفعول به، كأنه قيل: ما يدعون من دونه ما يستحق أن يطلق عليه شيء (انظر: الدر المصون 5/366).
(4) ... في الأصل: عبد. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الحارثي في مسنده (2/812). وذكره الديلمي في الفردوس (3/73).(1/720)
t,n=y{ ھ!$# دN؛uq"yJ،،9$# uعِ'F{$#ur بd,ysّ9$$خ/ cخ) 'خû ڑپد9؛sŒ ZptƒUy ڑْüدZدB÷sكJù=دj9 اححب م@ّ?$# !$tB zساrré& y7ّs9خ) ڑئدB ة="tGإ3ّ9$# ةOد%r&ur no4qn=¢ء9$# cخ) no4qn=¢ء9$# 4'sS÷Zs? ائtم دن!$t±َsxےّ9$# جچs3ZكJّ9$#ur مچّ.د%s!ur "!$# çژt9ٍ2r& ھ!$#ur قOn=÷ètƒ $tB tbqمèoYَءs? احخب
و { خلق الله السموات والأرض بالحق } أي: بالأمر الثابت المعروف الصحة، فجعلها مساكن لعباده ودلائل على قدرته وعظمته وحكمته، ألا تراه يقول: { إن في ذلك لآية للمؤمنين } .
قوله تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } قد ذكرنا فيما مضى معنى الفحشاء والمنكر.
فإن قيل: كم من مُصَلٍّ لا تنهاه صلاته؟ فما وجه هذا الكلام؟.(1/721)
قلتُ: عنه أجوبة:
أحدها: أن المراد بالصلاة: القرآن؛ كقوله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك } [الإسراء:110]، والقرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر ويزجر عنهما، وهذا قول ابن عمر رضي الله عنهما (1) .
الثاني: ينبغي أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، كما في قوله تعالى: { ومن دخله كان آمناً } [آل عمران:97].
الثالث: أن الصلاة من حيث هي صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لما تتضمن من تلاوة القرآن والخشوع لله، والتضرع بين يديه وامتثال أمره، وهذه أمور يبعث على فعلها رجاء الثواب وخوف العقاب، وكفى بذلك زاجراً لمن كان له قلب يتفكّر أو عقل يتدبّر، وكون بعض المصلين لا ينتهي لا تخرج الصلاة عن أن تكون في نفسها ناهية. وقد روى أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم تَنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدَدْ من الله إلا بُعْداً)) (2) .
قوله تعالى: { ولذكر الله أكبر } روى ابن عمر: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى: { ولذكر الله أكبر } قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/154). وذكره الماوردي (4/284)، والسيوطي في الدر (6/466) وعزاه لابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/54 ح11025)، والطبري (20/155)، وابن أبي حاتم (9/3066) كلهم من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/465) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.(1/722)
إياه)) (1) . وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ومجاهد وعطية وجمهور المفسرين (2) .
وقال أبو الدرداء: المعنى: ولذكر الله أكبر مما سواه، وهو أفضل من كل شيء (3) .
قال قتادة: ليس شيء أفضل من ذكر الله (4) .
وقيل: المعنى: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه المعصية.
* ںwur (# qن9د‰"pgéB ں@÷dr& ة="tGإ6ّ9$# wخ) سةL©9$$خ/ }'دd ك`|،ômr& wخ) tûïد%©!$# (#qكJn=sك َOكg÷YدB (# qن9qè%ur $¨ZtB#uن ü"د%©!$$خ/ tAج"Ré& $uZّٹs9خ) tAج"Ré&ur
__________
(1) ... أخرجه الطبري (20/156)، وابن أبي حاتم (9/3067-3068). وذكره الديلمي في الفردوس (4/406)، والسيوطي في الدر (6/466)، وعزاه لابن السني وابن مردويه والديلمي.
(2) ... تفسير ابن عباس (ص:398)، ومجاهد (ص:495). وانظر: المصادر السابقة.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/275).
(4) ... أخرجه الطبري (20/158). وذكره السيوطي في الدر (6/467) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/723)
ِNà6ِs9خ) $oYكg"s9خ)ur ِNن3كg"s9خ)ur س‰دn؛ur ك`ّtwUur ¼çms9 tbqكJخ=َ،مB احدب
قوله تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } أي: بالخصلة التي هي أحسن، وهي اللين في مقابلة الخشونة، والدعاء إلى الله بالقرآن، والتنبيه على مواضع مواعظه وبراهينه.
{ إلا الذين ظلموا منهم } أي: جاوزوا الحد في الكفر وأفرطوا في العناد ولم ينفع معهم الرفق في الجدال، فاستعملوا معهم الغلظة.
وقال أكثر المفسرين: معناه: إلا الذين ظلموا بالإقامة على الكفر ونَصْبِ راية الحرب، فقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (1) .
{ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ... الآية } هذا من المجادلة بالتي هي أحسن؛ لما فيه من ملاينتهم واستمالتهم إلى المناصفة وترك المشاغبة.
وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: { قاتلوا الذين لا يؤمنون ... الآية } (2) [التوبة:29].
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/1-2)، وابن أبي حاتم (9/3069). وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/468-469) وعزاه للفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(2) ... أخرجه الطبري (21/2)، وابن أبي حاتم (9/3068). وذكره السيوطي في الدر (6/469) وعزاه لأبي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
... وانظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:141)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:50)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:422-423).(1/724)
y7د9؛xx.ur !$uZّ9t"Rr& ڑپّs9خ) |="tFإ6ّ9$# tûïد%©!$$sù مNكg"uZ÷ s?#uن |="tFإ6ّ9$# ڑcqمZدB÷sمƒ ¾دmخ/ ô`دBur دنIwàs¯"yd `tB ك`دB÷sمƒ ¾دmخ/ $tBur ك‰ysّgs† !$uZدF"tƒ$t"خ/ wخ) tbrمچدے"x6ّ9$# احذب $tBur |MZن. (#qè=÷Fs? `دB ¾د&خ#ِ7s% `دB 5="tGد. ںwur ¼çm'ـèƒrB ڑپخYٹدJuخ/ #]Œخ) z>$s?ِ'^w ڑcqè=دِ6كJّ9$# احرب ِ@t/ uqèd 7M"tƒ#uن ×M"oYةi t/ 'خû ح'rك‰ك¹ ڑْïد%©!$# (#qè?ré& zOù=دèّ9$# $tBur ك‰ysّgs†(1/725)
!$uZدF"tƒ$t"خ/ wخ) ڑcqكJخ="©à9$# احزب
قوله تعالى: { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا إليك الكتاب.
وقيل: المعنى: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا إليك الكتاب، أي: أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب تحقيقاً لقوله: { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } .
{ فالذين آتيناهم الكتاب } وهم عبدالله بن سلام ومن آمن معه منهم، { يؤمنون به ومن هؤلاء } يعني: أهل مكة { من يؤمن به } .
وقيل: فالذين آتيناهم الكتاب [ممن] (1) كان قبلك يؤمنون به، ومن هؤلاء الذين هم في عهدك اليوم منهم من يؤمن به.
{ وما يجحد بآياتنا } مع وضوحها { إلا الكافرون } المتوغِّلون في كفرهم.
وجمهور المفسرين يقولون: هم اليهود؛ لأنهم عرفوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأنكروه (2) .
قوله تعالى: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } أي: ما كنت قارئاً ولا كاتباً، فإنك لو كنت كذلك { إذاً لارتاب المبطلون } أي: إذاً لشكّوا فيك؛ لأن صفتك في التوراة والإنجيل أنك أمّي لا تكتب ولا تقرأ.
__________
(1) ... في الأصل: من. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/423)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/277).(1/726)
فإن قيل: لو كان كاتباً قارئاً لكان غير المنعوت بالرسالة في التوراة والإنجيل قطعاً، فما معنى ارتيابهم وهو على هذا التقدير غير المنعوت في كتابهم؟
قلت: هذا على سبيل الفَرْض والتقدير، أي: لو بُعثت كاتباً قارئاً وأنت على الحال التي أنت عليها من الشواهد الدالة على صدقك ورسالتك لارْتابوا.
فإن قيل: لو لم يكن أمياً لما كانوا مبطلين في الارتياب لكونه على غير النعت الذي نُعت به في الكتاب، فكيف سمّاهم مبطلين؟
قلت: وصفهم بما هم متلبسون به، كأنه قيل: إذاً لارتاب هؤلاء المبطلون في كفرهم.
قوله تعالى: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } وهم حملة القرآن.
وقال قتادة: "بل هو": يعني: محمداً "آيات": أي: ذو آيات "بينات في صدور الذين أوتوا العلم": من أهل الكتاب (1) .
(#qن9$s%ur Iwِqs9 ڑ^ج"Ré& دmّn=tم ×M"tƒ#uن `دiB ¾دmخn/' ِ@è% $yJ¯Rخ) àM"tƒFy$# y‰Yدم "!$#
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/423)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/278).(1/727)
!$yJ¯Rخ)ur O$tRr& ضچƒةtR êْüخ7oB اخةب َOs9urr& َOخgدےُ3tƒ !$¯Rr& $uZّ9t"Rr& y7ّn=tم |="tFإ6ّ9$# 4'n=÷Fمƒ َOخgّٹn=tو cخ) 'خû ڑپد9؛sŒ ZpyJômtچs9 3"tچٍ2دŒur 5Qِqs)د9 ڑcqمZدB÷sمƒ اختب ِ@è% 4†s"x. "!$$خ/ سح_ّٹt/ ِNà6uZ÷ t/ur #Y‰حky قOn=÷ètƒ $tB †خû إV؛uq"yJ،،9$# ؤكِ'F{$#ur ڑْïد%©!$#ur (#qمZtB#uن ب@دـ"t6ّ9$$خ/ (#rمچxےں2ur "!$$خ/ y7ح´¯"s9'ré& مNèd tbrçژإ£"y‚ّ9$# اخثب
قوله تعالى: { وقالوا } يعني: أهل مكة { لولا أنزل عليه آيةٌ من ربه } .
قرأ ابن عامر ونافع وأبو عمرو وحفص: "آياتٌ" على الجمع. وقرأ(1/728)
الباقون: "آيةٌ" على التوحيد (1) ، على معنى: آية خارقة، مثل: ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى.
والجمع اختيار أبي عبيد، لقوله: { قل إنما الآيات عند الله } أي: ليست بيد رُسُله، وإنما هي بيده ينزل منها ما يشاء على من يشاء، { وإنما أنا نذير مبين } ما عليّ غير الإنذار وإبانة ما أوتيتُ من الآيات، وليس لي أن أتخيَّر وأقترح على الله الآيات.
وزعم بعض المفسرين: أن هذا منسوخ بآية السيف (2) .
{ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } أي: أو لم يكفهم إنزال القرآن عليك آية ظاهرة ومعجزة باهرة، تتلى عليهم في كل زمان ومكان، لا تَضْمَحِلُّ وتزول، كما تزول آيات الأنبياء.
وقد قيل: إن ناساً من المسلمين أتوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب فيه بعض ما يقوله اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: (( كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قومٍ غيرهم ))، فنزلت هذه الآية (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/261-262)، والحجة لابن زنجلة (ص:552)، والكشف (2/179-180)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:346)، والسبعة (ص:501).
(2) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:141)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:423-424) وذهب إلى إحكامها.
(3) ... أخرجه الطبري (21/7)، وابن أبي حاتم (9/3072-3073).
... وذكره السيوطي في الدر (6/471) وعزاه للدارمي وأبي داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث يحيى بن جعدة.(1/729)
y7tRqè=ةf÷ètGَ،o"ur ة>#xyèّ9$$خ/ Iwِqs9ur ×@y_r& 'wK|،oB قOèduن!$pg°: ـ>#xyèّ9$# Nوh¨Yt د?ù'us9ur ZptGَّt/ ِNèdur ںw tbrâگكêô±o" اخجب y7tRqè=ةf÷ètGَ،o" ة>#xyèّ9$$خ/ ¨bخ)ur tL©èygy_ 8psـٹإsكJs9 tûïجچدے"s3ّ9$$خ/ اخحب tPِqtƒ مNكg9t±َّtƒ ـ>#xyèّ9$# `دB ِNخgد%ِqsù `دBur دMّtrB َOخgخ=م_ِ'r& مAqà)tƒur (#qè%rèŒ $tB ÷LنêZن. tbqè=yJ÷ès? اخخب
قوله تعالى: { ولولا أجلٌ مسمى لجاءهم العذاب } [أي: لولا أجل] (1)
__________
(1) ... زيادة من ب.(1/730)
[مسمى سماه] (1) الله تعالى وبيّنه في اللوح المحفوظ، وجعله غاية لعذابهم، لجاءهم العذاب حين استعجلوه.
وقال الضحاك: الأجل المسمى: مدة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب (2) .
وقيل: هو يوم بدر.
{ وليأتينهم } يعني: العذاب. وقيل: الأجل { بغتة وهم لا يشعرون } .
{ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أي: ستُحيط بهم يوم يغشاهم العذاب.
ويجوز أن يكون [معنى] (3) إحاطتها بهم في الدنيا: إحاطة المعاصي الموجبة لها بهم.
قوله تعالى: { يوم يغشاهم } متعلق بما قبله كما ذكرنا.
وقوله: { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } كقوله تعالى: { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [الزمر:16]، وكقوله: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [الأعراف:41].
{ ونقول ذوقوا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: "ونقول" بالنون على الإخبار من الله تعالى عن نفسه. وقرأ الباقون بالياء (4) ، على معنى:
__________
(1) ... في الأصل: سمى. والتصويب والزيادة من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/424)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/280).
(3) ... في الأصل: المعنى. والمثبت من ب.
(4) ... الحجة للفارسي (3/262)، والحجة لابن زنجلة (ص:553)، والكشف (2/180)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:346)، والسبعة (ص:501).(1/731)
ويقول الله، أو المَلَك الموكَّل بعذابهم: ذوقوا، { ما كنتم } أي: جزاء ما كنتم تعملون.
y"دٹ$t7دè"tƒ tûïد%©!$# (# qمZtB#uن ¨bخ) سإجِ'r& ×pyèإ™؛ur }'"ƒخ*sù بbrك‰ç7ôم$$sù اخدب '@ن. <ّےtR èps)ح !#sŒ دNِqyJّ9$# NèO $uZّs9خ) ڑcqمèy_ِچè? اخذب tûïد%©!$#ur (#qمZtB#uن (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# Nكg¨Zs بhqt6مZs9 z`دiB دp¨Ypgّ:$# $]ùtچنî "جچّgrB `دB $uhدGّtrB مچ"yg÷RF{$# tûïد$خ#"yz $pkژدù zN÷èدR مچô_r& tû,خ#دJ"yèّ9$# اخرب z`ƒد%©!$# (#rçژy9|¹(1/732)
4'n?tمur ِNحkحh5u' tbqè=©.uqtGtƒ اخزب ûةiïr(ں2ur `دiB 7p/!#yٹ w م@دJّtrB $ygs%ّ-ح' ھ!$# $ygè%م-ِچtƒ ِNن.$ƒخ)ur uqèdur كىدJ،،9$# مLىخ=yèّ9$# ادةب ûبُs9ur NكgtFّ9r'y™ ô`¨B t,n=y{ دN؛uq"yJ،،9$# uعِ'F{$#ur tچO‚y™ur }ôJO±9$# tچyJs)ّ9$#ur £`ن9qà)us9 ھ!$# 4'¯Tr'sù tbqن3sù÷sمƒ ادتب ھ!$# نفف،ِ6tƒ s-ّ-خhچ9$# `yJد9 âن!$t±o" ô`دB ¾حnدٹ$t7دم â'د‰ّ)tƒur ے¼م&s! ¨bخ) ©!$# بe@ن3خ/ >نَسx" زOٹخ=tو ادثب ûح.s!ur OكgtFّ9r'y™ `¨B tA¨"¯R ڑئدB دن!$yJ،،9$# [ن!$tB(1/733)
$uٹômr'sù دmخ/ uعِ'F{$# .`دB د‰÷èt/ $ygد?ِqtB £`ن9qà)us9 ھ!$# ب@è% ك‰ôJysّ9$# ! ِ@t/ َOèdçژsYٍ2r& ںw tbqè=ة)÷ètƒ ادجب
قوله تعالى: { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة } قال الزجاج (1) : قيل في تفسيرها: إنهم أُمِرُوا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله وأداء فرائضه، وأصل هذا فيمن كان بمكة ممن آمن وكان لا يمكنه إظهار إيمانه، وكذا يجب على كل من كان في بلد يُعمل فيه بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يُهاجر وينتقل إلى حيث يتهيأ له فيه (2) أن يعبد الله تعالى فيه حق عبادته.
ثم ذكَّرهم الموت لتهون عليهم الهجرة فقال: { كل نفس ذائقة الموت } أي واحدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق.
{ ثم إلينا يرجعون } قرئ بالياء على المغايبة حملاً على ما قبله، وبالتاء على الرجوع من الغيبة إلى الخطاب (3) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/172).
(2) ... ساقط من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (3/263)، والحجة لابن زنجلة (ص:554)، والكشف (2/180)، والنشر (2/343)، والإتحاف (ص:346)، والسبعة (ص:502).(1/734)
والمعنى: ثم إلينا ترجعون بعد الموت، فاستعدوا لذلك بالهجرة وغيرها من أعمال الطاعة.
قوله تعالى: { لنبوئنهم من الجنة غرفاً } قرأ حمزة والكسائي: "لنُثَويَنَّهُم" من الثواء، وهو الإقامة. وقرأ الباقون: "لنبوئنهم" (1) ، كما قال: { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } [الزمر:74]، وقد فسرنا ذلك فيما مضى.
قال ابن عباس: لنسكننّهم غرف الدور والزبرجد والياقوت، ولننزلنّهم قصور الجنة (2) .
ثم وصف تلك الغرف فقال: { تجري من تحتها الأنهار } .
ثم وصف العاملين فقال: { الذين صبروا } يعني: على مفارقة الأوطان وطاعة الله، { وعلى ربهم يتوكلون } .
قال ابن عباس: توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم (3) .
وقال مقاتل (4) : كان أحدهم يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة، فقال الله تعالى: { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } .
قال ابن قتيبة (5) : معنى الآية: كم من دابة لا ترفَعُ [شيئاً] (6) لغدٍ.
__________
(1) ... انظر: المصادر السابقة.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/424).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/425).
(4) ... تفسير مقاتل (2/524).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:339).
(6) ... في الأصل: شيء. والتصويب من ب، وتفسير غريب القرآن، الموضع السابق.(1/735)
قال ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة (1) .
ويقال: للعَقْعَق مخابئ إلا أنه ينساها.
والمعنى: لا تحمل رزقها لضعفها عن حمله.
{ الله يرزقها } مع ضعفها حيث توجهت { وإياكم } حيث توجهتم، أي: وهو الذي [يرزقكم] (2) أيضاً مع اقتداركم على الكسب وقوتكم وتصرفكم، فهو الذي يرزق الضعيف والقوي، ولذلك ترى الرزق متفاوتاً، فترى الضعيف العاجز محظوظاً محدوداً، والقوي الجَلْد محروماً محدوداً، ولقد أحسن القائل:
يا طالبَ الرِّزْق الهنيّ بقوةٍ ... هيهاتَ أنتَ ببَاطِلٍ مَشْغُوف
أكَلَ العقابُ بقوةٍ جِيَفَ الفَلا ... وَرَعَى الذُّبابُ الشُّهْدَ وهو ضعيف (3)
ويروى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال: يا ابن عمر! ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذُقْ طعاماً، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سَنَتِهم، ويضعف اليقين؟ فوالله ما برحنا حتى نزلت: { وكأين من دابة لا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/425)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/282).
(2) ... في الأصل: يرقكم. والتصويب من ب.
(3) ... البيتان لأبي العلاء المعري، انظر: حياة الحيوان الكبرى (1/405).(1/736)
تحمل رزقها ... الآية } )) (1) .
قوله تعالى: { ولئن سألتهم } يعني: كفار مكة { من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } أي: فكيف يصرفون التوحيد بعد هذا الإقرار.
{ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } أي: يُضيّق عليه ويقتّر.
قال الزمخشري (2) : إن قلت: الذي رجع الضمير إليه في قوله: "ويقدر له" هو "من يشاء"، فكأنّ بَسْطَ الرزق وقدره جُعلا لواحد؟
قلت: يحتمل الوجهين جميعاً، أن يزيد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع من يشاء؛ لأن "من يشاء" مُبْهم غير معين، فكان الضمير مبهماً مثله، وأن [يريد] (3) تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة، { إن الله بكل شيء عليم } فهو يعلم ما يصلح العباد ويفسدهم.
قوله تعالى: { ولئن سألتهم } يعني: أهل مكة { من نزّل من السماء ماء } يريد: المطر { فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله } .
قال الواحدي (4) وأبو الفرج ابن الجوزي (5) رحمهما الله: المعنى: الحمد
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3078). وذكره السيوطي في الدر (6/475) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:353).
(2) ... الكشاف (3/467).
(3) ... في الأصل: أريد. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... الوسيط (3/425).
(5) ... زاد المسير (6/283).(1/737)
لله على إقرارهم بما يُلزمهم الحجة ويوجب عليهم التوحيد.
والذي يظهر في نظري: أنه أُمِرَ بالحمد شكراً لله على التمتُّع بنعمة العقل، حيث سَلَبَ الكفار نعمة الانتفاع به في عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، وجعلهم إياها آلهة، مع اعترافهم أن الخالق الرازق المسخر للشمس والقمر والمنزل من السماء الماء لإحياء الأرض بالنبات وإخراج الثمرات هو الله رب العالمين، ألا تراه يقول: { بل أكثرهم لا يعقلون } أي: لا ينتفعون [بعقولهم] (1) .
$tBur حnة"yd نo4quysّ9$# !$u÷R'$!$# wخ) ×qôgs9 ز=دès9ur cخ)ur u'#O$!$# notچإzFy$# }'خgs9 مb#uquptّ:$# ِqs9 (#qçR$ں2 ڑcqكJn=ôètƒ ادحب #sŒخ*sù (#qç7إ2u' 'خû إ7ù=àےّ9$# (#âqtمyٹ ©!$# tûüإءخ=ّƒèC çms9 tûïدe$!$#
__________
(1) ... في الأصل: بعقلولهم. والتصويب من ب.(1/738)
$£Jn=sù ِNكg9¯gwU 'n<خ) خhژy9ّ9$# #sŒخ) ِNèd tbqن.خژô³ç" ادخب (#rمچàےُ3uد9 !$yJخ/ ِNكg"uZ÷ s?#uن (#qمèFyJtFuد9ur t$ِq|،sù ڑcqكJn=ôètƒ اددب
{ وما هذه الحياة الدنيا } يعني في سرعة زوالها عن أهلها { إلا لهو ولعب } باطل (1) وغرور ينقضي عن قريب، كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون.
{ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } قال أبو عبيدة وابن قتيبة (2) : الحيوان: الحياة.
وقال غيرهما: مصدر حَيِيَ، كالنَّزوان والغَلَيان، وقياسُه: حَيَيَان، فقُلبت الياء الثانية واواً، كما قالوا: حَيْوَة في اسم رجل، وقياسه: حيّة؛ لأن اشتقاقه من الحياة.
وتقدير الآية: وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان. أو جعل ذاتها حياة مبالغة.
__________
(1) ... في ب: وباطل.
(2) ... مجاز القرآن (2/117)، وتفسير غريب القرآن (ص:339).(1/739)
{ لو كانوا يعلمون } لرغبوا عن الفاني إلى الباقي.
قوله تعالى: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدّت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر وصاحوا: يا خُذَاي [يا] (1) خُذَاي (2) .
قوله تعالى: { ليكفروا بما آتيناهم } هذه لام كَيْ، وهي متعلقة بالإشراك. المعنى: يشركون ليكفروا.
{ وليتمتعوا } أي: ليس لهم نفع سوى كفرهم وتمتعهم في العاجلة من غير نصيب في الآخرة.
ويجوز أن يكون اللام فيها لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله تعالى: { اعملوا ما شئتم } [فصلت:40]، { واستفزز من استطعت منهم } [الإسراء:64].
ويؤيده قراءة من قرأ: "ولْيتمتعوا" بسكون اللام، وهم ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون (3) .
ِNs9urr& (#÷rtچtƒ $¯Rr&
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/426).
(3) ... الحجة للفارسي (3/265)، والحجة لابن زنجلة (ص:555)، والكشف (2/181)، والنشر (2/344)، والإتحاف (ص:346)، والسبعة (ص:502).(1/740)
$uZù=yèy_ $·Btچym $YZدB#uن ك#©ـy‚tGمƒur â¨$¨Z9$# ô`دB ِNخgد9ِqym ب@دـ"t6ّ9$$خ6sùr& tbqمZدB÷sمƒ دpyJ÷èدZخ/ur "!$# tbrمچàےُ3tƒ ادذب ô`tBur مNn=ّكr& ا`£JدB 3"uژtIّù$# 'n?tم "!$# $¹/ةں2 ÷rr& z>Ox. بd,ysّ9$$خ/ $£Js9 ے¼çnuن!%y` }ّٹs9r& 'خû tL©èygy_ "Yq÷WtB tûïجچدے"x6ù=دj9 ادرب z`ƒد%©!$#ur (#rك‰yg"y_ $uZٹدù ِNهk¨]tƒد‰ِks]s9 $uZn=ç7ك™ ¨bخ)ur ©!$# yىyJs9 tûüدZإ،َsكJّ9$# ادزب(1/741)
قال أهل التفسير: كان من حول مكة من الأعراب (1) يتناحرون ويتغاورون ويسبي بعضهم بعضاً، وأهل الحرم قارُّون آمنون، عزيزٌ جنابهم، منيعٌ حماهم، فذكَّرهم الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، ووبَّخهم على إيمانهم بالباطل، وإعراضهم عن طاعة الله تعالى فقال: { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً... الآية } .
قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا } أي: قاتلوا أعداءنا لأجلنا.
قال بعضهم: أطلق المجاهدة ولم يُقيدها بمفعول لتتناول (2) كل ما تجب مجاهدته من النفس الأمَّارة بالسوء، والشيطان وأعداء الدين.
{ لنهدينهم سبلنا } لنوفقنهم لإصابة طُرُقِنا المستقيمة.
قال الزجاج (3) : أخبر الله تعالى أنه يَزيد المجاهدين هداية، فذلك قوله تعالى في موضع آخر: { والذين اهتدوا زادهم هدى } [محمد:17].
وكان سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الله تعالى يقول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } (4) .
وكان الفضيل بن عياض يقول: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به (5) .
__________
(1) ... في ب: الأعاريب.
(2) ... في ب: ليتناول.
(3) ... معاني الزجاج (4/174).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3084).
(5) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/475).(1/742)
وقال سهل بن عبدالله : والذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينهم سبل الجنة (1) .
وقال أبو سليمان [الداراني] (2) : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا (3) .
قال عمر بن عبد العزيز: لو أنّ عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا (4) .
قوله: { وإن الله لمع المحسنين } قال ابن عباس: يريد: الموحدين (5) .
وقال غيره: المجاهدين.
والمعنى: هو معهم بالنصرة والمعونة (6) .
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/475).
(2) ... في الأصل: الدراني. والتصويب من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3084).
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (13/364).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/426)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/285).
(6) ... في ب زيادة: والله أعلم.
... آخر السفر الرابع من رموز الكنوز، وكان الفراغ منه في غرة جمادى الآخر من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، على يد العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن سلمان الشيرجي الحنبلي، تجاوز الله عن سيئاته وغفر له موبقات زلاته، ولجميع المسلمين آمين، ولله الحمد.
... ويتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى سورة الروم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد وآله الطاهرين وسلّم.
... وفي هامشها: بلغ معارضة بالأصل فصح بحسب الإمكان.
... قلت: ومن سورة الروم إلى آخر سورة الفتح اعتمدنا نسخة الأصل فقط، حيث إن الجزء الخامس من نسخة ب مفقود.(1/743)
سورة الروم
ijk
وهي ستون آية في العدد الكوفي، وستون إلا آية في العدد المدني، وهي مكية بالإجماع.
والسبب في نزولها: "أنه كان بين فارس والروم حرب، فغلبت فارس الروم، فشقّ ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لكون الروم أهل كتاب، وفرح المشركون بذلك؛ لما بينهم وبين فارس من الاشتراك في الإشراك والاتحاد في التكذيب بالمعاد. وقال كفار قريش لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - : لئن قاتلتمونا لنظهرن عليكم كما ظهر إخواننا على إخوانكم، فأنزل الله تعالى: { ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض... الآيات } فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين فقالوا: هذا كلام صاحبكم فقال: الله أنزل هذا، وكانت فارس قد غلبت الروم حتى اتخذوهم شبه العبيد. فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، وكان الذي راهنه أبيّ بن خلف، وقيل: أبو سفيان بن حرب، وذلك قبل تحريم الرهان، فقالوا لأبي بكر: اجعل بيننا وبينك أجلاً ننتهي إليه، فسَمُّوا بينهم ست سنين، فلامَ المسلمون أبا بكر على تسمية الست، وقالوا: هلاَّ قررتها كما أقرّها الله تعالى، لو شاء الله أن يقول: ستاً لقال، فمضت الست قبل أن تظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهر الروم على فارس" (1) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/344 ح3194) من حديث نيار بن مكرم الأسلمي، وأخرج الحاكم (2/445) نحوه عن ابن عباس وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبري (21/16-18)، وابن أبي حاتم (9/3086). وانظر : الدر المنثور (6/479 وما بعدها).(1/3)
وجاء في رواية أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: ألا احتطت، فزاد في الخطر ومادّ في الأجل، فظهرت الروم على فارس، فأخذ أبو بكر رهانهم، وأتى - صلى الله عليه وسلم - فقال: تصدق به، وأسلم عند ذلك خلق كثير (1) .
$O!9# (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/17). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/287-288)، وبنحوه السيوطي في الدر (6/479-480) وعزاه لأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب.(1/4)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ اذب
قوله تعالى: { غلبت الروم * في أدنى الأرض } يعني: في أدنى أرض العرب؛ لأنها الأرض المعهودة عندهم.
قال ابن عباس: هي الأردن [و]فلسطين (1) .
وقال عكرمة: أَذْرِعات وكَسْكَر (2) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/298)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/288) كلاهما من قول السدي. وما بين المعكوفين زيادة من المصدرين السابقين.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/427)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/288).
... وأذرعات: بالفتح ثم السكون وكسر الراء جمع أذرعة، وهي بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان (معجم البلدان 1/130)، وتسمى الآن: درعا.
... وكَسْكر: بالفتح ثم السكون وكاف أخرى، ومعناه: عامل الزرع، وهي منطقة واسعة على نهر دجلة بالعراق (معجم البلدان 4/461).(1/5)
وقيل: أراد في أدنى أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أقرب أرض الروم إلى عدوهم.
قال مجاهد: هي أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس (1) .
{ وهم } يعني: الروم { من بعد غلبهم } وقرأ أبو الدرداء وأبو رجاء وعكرمة: "غَلْبهِم" بسكون اللام (2) ، وهما مصدران؛ [كالحَلْب] (3) والحَلَب، والجَلْب والجَلَب، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
والمعنى: وهم من بعد غلب فارس إياهم { سيغلبون } فارس.
{ في بضع سنين } في البضع أقوال ذكرتها في سورة يوسف (4) .
وقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد قال: "لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت: { ألم * غلبت الروم } إلى قوله تعالى: { ويومئذ يفرح المؤمنون } قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس" (5) .
وقرأ جماعة: منهم أبو سعيد الخدري، والحسن، وعيسى بن عمر: "غَلَبَت الروم" بفتح الغين واللام، "سَيُغْلَبُون" بضم الياء وفتح اللام (6) ،
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/298)، والواحدي في الوسيط (3/427) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/288).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/288).
(3) ... في الأصل: كالحب.
(4) ... عند الآية رقم: 42.
(5) ... أخرجه الترمذي (5/343 ح3192).
(6) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/157)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/370، 371).(1/6)
وبها قرأتُ لأوقية عن اليزيدي، فيكون قوله: "غلبهم" من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
والمعنى: غلبت الروم فارس في أدنى الأرض "وهم" يعني: الروم "من بعد غلبهم سيغلبون" أي: يغلبهم المسلمون، "في بضع سنين" عند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم.
{ لله الأمر من قبل ومن بعد } أي: من قبل أن يغلبوا وما بعد ما يغلبون.
{ ويومئذ } يعني: يوم غلبة الروم فارس { يفرح المؤمنون بنصر الله } تعالى أهل الكتاب على فارس.
وقيل: يفرح المؤمنون بنصر الله إياهم في إظهار صدقهم وتحقيق معجزة نبيهم.
ويجيء على الحديث الذي رويناه آنفاً؛ أن يراد: نصر المؤمنين يوم بدر. ويجوز أن يراد عموم ذلك.
قال الزجاج (1) : وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله؛ لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى.
قوله تعالى: { وعد الله } قال الزجاج (2) : النصب على أنه مصدر مؤكد؛ لأن قوله: { من بعد غلبهم سيغلبون } هو وعد من الله تعالى للمؤمنين، فقوله: "وعد الله" بمنزلة وعدَ الله وعداً.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/175).
(2) ... معاني الزجاج (4/177).(1/7)
{ لا يخلف الله وعده } أن الروم تظهر على فارس، { ولكن أكثر الناس } من أهل مكة { لا يعلمون } أن الله وعد بذلك.
{ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } مما يتعلق بمكاسبهم ومعايشهم.
قال الحسن البصري: بلغ -والله- من عِلْم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بيده فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي (1) .
قال الزمخشري (2) : قوله: { يعلمون } بدل من قوله: { لا يعلمون } وهذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا، وقوله تعالى: { ظاهراً من الحياة الدنيا } (3) يفيد أن [للدنيا] (4) ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة.
{ وهم } الثانية يجوز أن تكون مبتدأ، و { غافلون } خبره، والجملة خبر "هم" الأولى، وأن يكون [تكريراً للأولى] (5) ، و"غافلون" [خبر] (6)
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3088). وذكره الواحدي في الوسيط (3/428)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/289)، والسيوطي في الدر (6/484) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... الكشاف (3/473-474).
(3) ... قوله: وقوله: { ظاهراً من الحياة الدنيا } مكرر في الأصل.
(4) ... في الأصل: الدنيا. والتصويب من الكشاف (3/474).
(5) ... في الأصل: تكرير الأولى. والتصويب من الكشاف (3/474).
(6) ... في الأصل: خبره. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/8)
الأولى.
ِNs9urr& يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا(1/9)
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ اتةب
قوله تعالى: { أو لم يتفكروا في أنفسهم } يجوز أن يكون "في أنفسهم" ظرفاً، على معنى: أو لم يحدثوا (1) التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم [الفارغة من الفكر] (2) ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: "اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك"، وأن يكون
__________
(1) ... قوله: "يحدثوا" مكرر في الأصل.
(2) ... زيادة من الكشاف (3/474).(1/10)
صلةً للتفكر، كقولك: تَفَكَّر في الأمر (1) .
{ ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } قال صاحب الكشاف (2) : يجوز أن يكون "ما" نفياً فتقف على قوله: { في أنفسهم } وتبتدئ بـ"ما"، وقد عدى التفكر بـ"في"، فجرى مجرى قوله: { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } [الأعراف:185].
ويجوز أن تجعل "ما" متصلاً بما قبله وإن كان نفياً، كقوله تعالى: { وظنوا ما لهم من محيص } [فصلت:48]. والمعنى: لم يخلقهما عبثاً ولا باطلاً.
قال الفراء والزجاج (3) في قوله تعالى: { إلا بالحق } أي: إلا للحق، أي: لإقامة الحق، يعني: للثواب والعقاب.
وقال الزمخشري (4) : الباء في قوله: { إلا بالحق } مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، يريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى: ما خلقهما إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به.
{ وأجل مسمى } أي: وتقرير أجل مسمى، وهو قيام الساعة.
قوله تعالى: { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
__________
(1) ... إلى هنا ينتهي كلام الزمخشري في الكشاف (3/474).
(2) ... لم أقف عليه في الكشاف.
(3) ... معاني الفراء (2/322)، ومعاني الزجاج (4/178).
(4) ... الكشاف (3/474).(1/11)
من قبلهم } هذا الاستفهام في معنى التقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم في آثار الهالكين من الأمم المكذبة.
ثم وصفهم فقال: { كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض } حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، ويقال لبقر الحَرْث: المُثِيرَة، ومنه: الثَّوْر؛ لإثارته الأرض.
ويروى عن أبي جعفر: "وآثاروا الأرض" بالمد (1) .
وقال ابن مجاهد: ليس هذا بشيء.
قال أبو الفتح (2) : ظاهره لعمري منكر، إلا أن له وجهاً [مَّا، وليس] (3) لحناً مقطوعاً به، وذلك أنه أراد: "وأثاروا"، إلا أنه أشبع الفتحة من الهمزة، فأنشأ عنها ألفاً، وقد ذكرنا ذلك وشواهده، ونحوه:
..................... ... ... ومِنْ ذَمِّ الرجالَ بمنتزاح (4)
أراد: بمُنْتَزَح. وقد سبق إنشاد البيت.
وهذا لعمري مما يختص به ضرورة الشعر، ولا يجوز في القرآن.
قوله تعالى: { وعمروها أكثر مما عمروها } أي: وعمرها أولئك [المدمرون] (5) أكثر مما عمرتها قريش؛ لشدة بطشهم وطول أعمارهم
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر (7/159)، والدر المصون (5/372).
(2) ... المحتسب (2/163).
(3) ... في الأصل: وما ليس. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(4) ... البيت لابن هرمة يرثي ابنه، وصدر البيت: (فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى). وهو في: اللسان مادة: (نزح، نجد)، وروح المعاني (9/194، 12/228، 18/56).
(5) ... في الأصل: المدميرون. انظر: الكشاف (3/475).(1/12)
وآمالهم، وكثرة عُدَدهم وعَدَدِهم.
ويجوز أن يكون الضمير المرفوع في "عَمَرُوها" في الموضعين للذين من قبلهم، على معنى: وعَمَرُوها أكثر مما عَمَّرُوا فيها، فيكون عَمَرَ وعَمَّرَ لغتين من البقاء، وهذا الوجه [ذكره] (1) صاحب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات (2) .
قوله تعالى: { ثم كان عاقبةُ الذين أسآءوا السُّوأَى } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: "عاقبةُ" بالرفع، ونصبها الباقون (3) .
فمن رفع "العاقبة" جعلها اسم "كان"، و"السوأى" الخبر. ومن نصب "العاقبة" جعلها الخبر و"السوأى" الاسم.
قال الفراء وابن قتيبة والزجاج وغيرهم (4) : السُّوأى: تأنيث [الأسْوَأ] (5) ، وهو الأفصح، كما أن الحُسنى تأنيث الأحْسَن.
ويجوز أن يكون السوأى مصدراً بمنزلة الإساءة، فيكون التقدير -على قراءة من رفع "العاقبة"-: ثم كان عاقبة الذين أساؤوا إساءة التكذيب، فيكون "كذبوا" هو الخبر.
ويكون التقدير على قراءة من نصب "العاقبة": ثم كان التكذيب عاقبة
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... كشف المشكلات (2/211).
(3) ... الحجة للفارسي (3/266)، والحجة لابن زنجلة (ص:556)، والكشف (2/182)، والنشر (2/344)، والإتحاف (ص:347)، والسبعة (ص:506).
(4) معاني الزجاج (4/179). ولم أقف عليه في معاني الفراء.
(5) ... في الأصل: الأسواه. وانظر: البحر (7/160).(1/13)
الذين أساؤوا إساءة (1) .
والمعنى عند المفسرين: ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار.
فإن قيل: ما إعراب قوله تعالى: { أن كذَّبُوا } على القول المشهور في تفسير "السُّوأَى"؟
قلت: يجوز أن يكون مفعولاً له، أي: لأن كذبوا. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أن كذبوا (2) .
وكان سفيان بن عيينة يقول في هذه: ألا إن لهذه الذنوب عواقب سوء لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه، حتى يسودّ القلب كله فيصير كافراً (3) .
ھ!$# يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ َOخgح !%x.uژà° شُفَعَاءُ وَكَانُوا
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/185)، والدر المصون (5/372).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/430).(1/14)
ِNخgح !%x.uژà³خ0 كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ اتدب
قوله تعالى: { الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } أي: الله خلقهم أولاً ثم يعيدهم بعد الموت، كما قال تعالى: { كما بدأنا أول خلق نعيده } [الأنبياء:104]، ثم ترجعون إلى ثوابه وعقابه. ولفظ الخلق واحد ومعناه: المخلوقون، فَرَدَّ "نعيده" على اللفظ، و"ترجعون" على المعنى.(1/15)
وقد سبق ذكر الإبلاس في الأنعام (1) .
قوله تعالى: { وكانوا بشركائهم كافرين } أي: كانوا في الآخرة كافرين بأصنامهم يتبرأون منهم، ويجحدون عبادتهم حين يأسهم من الانتفاع بهم.
وقيل: المعنى: وكانوا في الدنيا بسبب شركائهم كافرين.
قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } قال الحسن: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين (2) .
قال قتادة: فُرقة لا اجتماع بعدها (3) .
قوله تعالى: { فهم في روضة يحبرون } الرَّوضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء (4) . وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة. يريدون: بيضة النعامة.
والمراد بالروضة: الجنة، والحَبْرَة: السرور، يقال: حَبَرَهُ؛ إذا سرّهُ سُرُوراً يتهلل له وجهه ويظهر فيه أثره.
ثم اختلفت عباراتهم في تأويل "يُحبرون"؛ فقال ابن عباس: يُكرمون (5) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 44.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3089). وذكره الواحدي في الوسيط (3/430)، والسيوطي في الدر (6/486) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (21/27)، وابن أبي حاتم (9/3089). وذكره السيوطي في الدر (6/485) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: روض).
(5) ... أخرجه الطبري (21/27). وذكره السيوطي في الدر (6/486) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.(1/16)
وقال مجاهد: يُنَعَّمُون (1) .
وقال [الأوزاعي] (2) : هو السماع في الجنة، قال: إذا أخذوا في السماع لم تبق في الجنة شجرة إلا وردَّت (3) ، وليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم (4) .
وسئل يحيى بن معاذ الرازي: أي الأصوات أحسن؟ فقال: مزامير أنس في مقاصير قدس، [بألحان] (5) تحميد، في رياض تمجيد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر (6) .
z`"ysِ6ف،sù اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/28)، ومجاهد (ص:500)، وابن أبي حاتم (9/3089). وذكره السيوطي في الدر (6/486) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... في الأصل: الأزاعي.
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/38 ح34021)، والترمذي (4/696 ح2565) كلاهما من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/293)، والسيوطي في الدر (6/486) وعزاه لابن عساكر.
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (14/12).
(5) ... في الأصل: في بالجنان. والمثبت من زاد المسير (6/293).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/293).(1/17)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ اتزب
قال المفسرون: لما ذكر الله تعالى تفريق المؤمنين والكافرين ومآل الفريقين، دلّهم على السبب الموصل لهم إلى الجنة، وهو تنزيهه عن كل سوء، والثناء عليه في هذه الأوقات لتجدد نعم الله تعالى فيها على عباده، فذلك قوله تعالى: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } .
ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالتسبيح: الصلاة، أي: سَبِّحوا الله "حين تمسون": أي: تدخلون في وقت المساء، "وحين تصبحون": أي: تدخلون في وقت الصباح، { وحين تظهرون } : تدخلون في وقت الظهيرة.
قال ابن عباس: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها، "حين تُمسون": المغرب والعشاء، "وحين تُصبحون": الفجر، "وعَشِياً":(1/18)
العصر، "وحين تُظهرون": الظهر (1) .
قوله تعالى: { وله الحمد في السموات والأرض } : اعتراض.
وقرأ عكرمة: "حيناً [تمسون وحيناً تصبحون] (2) " (3) .
قال أبو الفتح ابن جني (4) : أراد: حيناً [تُمسون] (5) فيه، فحذف "فيه" تخفيفاً. هذا مذهب صاحب الكتاب (6) .
قُرئ على أبي المجد محمد بن محمد بن أبي بكر الهمذاني وأنا أسمع، أخبركم الشيخان أبو المحاسن عبدالرزاق بن إسماعيل بن محمد، وابن عمه [المطهر] (7) بن عبدالكريم بن محمد [القومسانيان] (8) فأقرَّ به قالا: أخبرنا عبدالرحمن بن حمد بن الحسن الدوني، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار الدينوري، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني، أخبرني إبراهيم بن محمد الضحاك، حدثنا محمد بن سنجر، حدثنا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/29). وذكره السيوطي في الدر (6/488) وعزاه لابن جرير وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2) ... في الأصل: يمسون وحيناً يصبحون. والتصويب من البحر المحيط (7/162).
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/162).
(4) ... المحتسب (2/163).
(5) ... في الأصل: يمسون. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(6) ... يعني: سيبويه.
(7) ... في الأصل: المظفر. وهو خطأ. انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام (ص:337) ضمن حوادث ووفيات سنة 580هـ. وقد سبق على الصواب كما أثبتناه.
(8) ... في الأصل: القوسيانيان. والصواب ما أثبتناه. وقومسان: من نواحي همذان (معجم البلدان 4/414).(1/19)
عبدالله بن صالح أبو صالح (1) ، حدثني الليث (2) ، عن سعيد بن بشير (3) ، عن محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني (4) ، عن أبيه (5) ، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال حين يُصبح: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون... الآية كلها } ، أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يُمسي أدرك ما فاته في ليلته " (6) .
ô`دBur آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
__________
(1) ... عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني مولاهم، أبو صالح المصري، كاتب الليث بن سعد، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 5/225-228، والتقريب ص:308).
(2) ... الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث، كان ثقة كثير الحديث، نبيلاً سخياً، من سادات أهل زمانه فقهاً وورعاً وعلماً وفضلاً، مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 8/412-417، والتقريب ص:464).
(3) ... سعيد بن بشير الأنصاري النجاري، مجهول، روى عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وروى عنه الليث بن سعد، ولم يرو عنه غيره (تهذيب التهذيب 4/10، والتقريب:234).
(4) ... محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني الكوفي النحوي، مولى آل عمر، ضعيف، وقد اتهمه ابن عدي وابن حبان (تهذيب التهذيب 9/261، والتقريب ص:492).
(5) ... عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر، مدني نزل حران، ضعيف، مات في ولاية الوليد بن عبد الملك (تهذيب التهذيب 6/135، والتقريب ص:337).
(6) ... أخرجه أبو داود (4/319)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:40).(1/20)
إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ اثتب
قوله تعالى: { ومن آياته أن خلقكم من تراب } أي: ومن دلائل قدرته وعظمته أن خلق أصلكم يا بني آدم من تراب، { ثم إذا أنتم بشر } من لحم ودم { تنتشرون } في الأرض.
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً } لأن حواء خلقت من ضلع آدم، والنساء خلقن من أصلاب الرجال. هذا قول قتادة (1) .
وقال الكلبي: المعنى: خلق لكم أزواجاً من شكلكم وجنسكم (2) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/31). وذكره السيوطي في الدر (6/490) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكر ابن الجوزي في زاد المسير (6/295) عن الكلبي: جعل لكم آدميات مثلكم ولم يجعلهن من غير جنسكم.(1/21)
{ لتسكنوا إليها } أي: لتأووا إليها، { وجعل بينكم مودة ورحمة } بواسطة عصمة النكاح من غير سابقة معرفة ولا نسب.
ô`دBur آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ اثجب
قوله تعالى: { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } يريد بالألسنة: اللغات، وقيل: أشكال النطق، فإن القدير الحكيم خالف بين مناطق عباده حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في جهارة، ولا همس، ولا فصاحة، ولا لكْنة، ولا صوت، ولا نغمة، واختلاف الألوان ظاهر؛ لأن الخلق ما بين أبيض وأسود وأحمر(1/22)
وآدم.
وقيل: المراد باختلاف الألوان: اختلاف الصور. فسبحان من خالف بين الصور والألوان، حتى لا تكاد ترى أخوين توأمين متفرعين من أصل واحد متماثلين، ما ذاك إلا عن قدرة قادر وحكمة حكيم، فإنها لو اتفقت وتشاكلت لوقع الالتباس في الناس.
{ إن في ذلك لآيات للعالمين } البر منهم والفاجر، والجن والإنس.
وقرأتُ لحفص عن عاصم: { للعالِمين } بكسر اللام (1) ، جمع عالِم، وخص العالِمين وإن كانت الآية لكافة الناس عالمهم وجاهلهم؛ لموضع استدلالهم وتدبرهم.
ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ، وبهذا رجح القُرَّاء هذه القراءة.
قوله تعالى: { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } قال أبو عبيدة (2) : المنام: من مصادر النوم، بمنزلة قامَ يقومُ قياماً ومَقَاماً، وقالَ يقولُ مَقَالاً.
قال الزمخشري (3) : هذا من باب اللف، وترتيبه: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله وهو طلب الرزق بالنهار.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/267)، والحجة لابن زنجلة (ص:557-558)، والكشف (2/183)، والنشر (2/344)، والإتحاف (ص:348)، والسبعة (ص:506-507).
(2) ... مجاز القرآن (2/120).
(3) ... الكشاف (3/480).(1/23)
ô`دBur آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ اثخب
قوله تعالى: { يريكم البرق خوفاً وطمعاً } في "يريكم" وجهان: إضماران؛ كقوله:(1/24)
ألا أيُّهَذَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغى ... ... ..................... (1)
وإنزال الفعل منزلة المصدر، وقد سبق تفسيره في الرعد.
قوله تعالى: { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } أي: بقوله: كونا قائمتين، فقامتا بغير علاقة ولا دعامة.
{ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } وذلك حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأخيرة على صخرة بيت المقدس فيقول: يا أهل القبور قوموا، فلا يبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت لفصل القضاء.
{ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } قال بعضهم: "إذا" الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط (2) .
فإن قيل: بماذا يتعلق "من الأرض"؟
قلت: إما بـ"دَعَاكُم" أو بـ"دَعوَة" على معنى: دعوة كائنة من الأرض، أو بمحذوف في موضع الحال من الكاف والميم في "دعاكم"، تقديره: دعاكم خارجين من الأرض، ولا يجوز أن يتعلق بـ"تخرجون"؛ لأن ما بعد "إذا" لا يعمل فيما قبله.
¼م&s!ur مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
__________
(1) ... صدر بيت لطرفة، وعجزه: (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي)، انظر: ديوانه (ص:32)، واللسان (مادة: أنن، دنا)، والبحر (7/163)، والدر المصون (1/275، 5/375)، والسبع الطوال (ص:172)، والمقتضب (2/134)، والهمع (1/6)، والخزانة (1/119).
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/481).(1/25)
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اثذب
قوله تعالى: { وهو أهون عليه } ذهب عامة المفسرين حسن وقتادة والربيع بن أنس إلى أن المعنى: وهو هَيِّن عليه (1) .
وهو اختيار أبي عبيدة (2) ، وأنشدوا قول الفرزدق:
__________
(1) ... ذكره الطبري (21/36)، والسيوطي في الدر (6/491) وعزاه لآدم بن أبي إياس والفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد. ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لابن المنذر.
(2) ... مجاز القرآن (2/121).(1/26)
إن الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزّ وأطول (1)
أي: عزيزة طويلة.
وقول الآخر:
يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... [حَذَرَ] (2) العِدَى وبه الفؤاد مُوكَّل (3)
[وقول] (4) الآخر:
................................... ... فتلكَ طريقٌ لستُ فيها بأوْحَد (5)
وقد سبق في سُبْحان.
وقد ذهب جمهور أهل العربية، منهم [الفراء] (6) والمبرد والزجاج (7)
__________
(1) ... البيت للفرزدق، انظر ديوانه (2/155)، واللسان (مادة: كبر، عزز)، والقرطبي (14/21)، والطبري (21/37)، وزاد المسير (3/259، 6/297)، وروح المعاني (7/135، 13/90)، والدر المصون (3/341)، وشرح المفصل (6/97-99)، ومعاهد التنصيص (1/103)، ومجاز القرآن (2/21)، وتهذيب اللغة (10/215).
(2) ... في الأصل: نحذر. والتصويب من مصادر البيت.
(3) ... البيت للأحوص يُشبّب بعاتكة بنت يزيد، وهو في: روح المعاني (15/220)، وسير أعلام النبلاء (4/593)، واللسان (مادة: عزل).
(4) ... في الأصل: قول.
(5) ... عجز بيت لطرفة، وصدره: (تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت)، انظر: البحر (6/288)، والقرطبي (20/88)، والطبري (16/141، 30/227)، وزاد المسير (6/298، 9/151)، وروح المعاني (17/44، 30/151).
(6) ... في الأصل: الفر.
(7) ... معاني الفراء (2/324)، ومعاني الزجاج (4/183)، والمقتضب (3/245).(1/27)
إلى أن المعنى: وهو أهون عليه فيما يجب عندكم ويقتضيه معقولكم؛ لأنكم أقررتم أنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه. وهذا معنى قول مقاتل (1) والزمخشري (2) .
فعلى هذين التأويلين: الضمير في قوله: "عليه" يعود على الله تعالى.
وقد روي عن ابن عباس أنه يعود إلى الخلق (3) ؛ لأن الله خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له: كن فيكون، وذلك أهون عليه من تنقله من حال إلى حال. وهذا اختيار قطرب (4) .
{ وله المثل الأعلى } أي: الوصف الأعلى الذي لا يشارك فيه، قد وصف به في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجزه ما شاء من الإعادة والإنشاء وغيرهما.
وقال مجاهد: المثل الأعلى: قول: لا إله إلا الله (5) .
z>uژںر لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/10).
(2) ... الكشاف (3/482).
(3) ... ذكره الطبري (21/36)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/298).
(4) ... انظر قول قطرب في: زاد المسير (6/298).
(5) ... أخرجه الطبري (21/38)، وابن أبي حاتم (9/3090) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (6/491) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة.(1/28)
شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ اثزب
قوله تعالى: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } أي: بين لكم شبهاً من أنفسكم، { هل لكم } أيها السادة { من ما ملكت أيمانكم } يعني: من عبيدكم { من شركاء فيما رزقناكم } . فـ"مِنْ" الأولى للمبتدأ، والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة (1) .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/376).(1/29)
والمعنى: هل يشارككم عبيدكم فيما رزقناكم من المال والعبيد والأهل.
{ فأنتم فيه } أيها السادة والعبيد { سواء } . وموضع قوله: { فأنتم فيه سواء } : النصب؛ لأنه جواب قوله: { هل لكم } ، تقديره: هل لكم منهم شركاء فتستووا.
{ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كإرث بعضكم بعضاً (1) .
وقيل: المعنى: تهابون عبيدكم وتخشون أن يستبدوا بالتصرف دونكم كما يهاب ويخشى بعضكم بعضاً.
ومعنى الكلام: إذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فكيف ترضونه لي وأنا المالك على الحقيقة، الموجد للخليقة، وكيف تجعلون لي من خلقي وعبيدي شركاء ولا تجعلون ذلك لأنفسكم.
قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في تلبية المشركين وقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك (2) .
قوله تعالى: { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } يشير إلى أن المشركين لم يأخذوا في شركهم بدليل نقلي ولا برهان عقلي، وإنما هو مجرد هوى.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/39). وذكره السيوطي في الدر (6/492) وعزاه لابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبراني (8/45 ح7910) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/492) وعزاه للطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، والماوردي (4/310-311)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/298) كلاهما من قول سعيد بن جبير.(1/30)
وقوله تعالى: { بغير علم } في موضع الحال، تقديره: اتبعوا أهوائهم جاهلين. وهذا غاية الذم؛ لأنهم لو اتبعوا أهواءهم عالمين لرُجِيَ رجوعهم، ولكانوا بسبيل من مراجعة رشدهم.
َOد%r'sù وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا(1/31)
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ اجثب
قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً } حال من المأمور أو من "الدين" (1) . والمعنى: قوّم وجهك للدين وعِّدله ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه.
وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: استقم بدينك نحو الجهة التي وجهك الله تعالى إليها (2) .
{ فطرة الله } أي: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله (3) .
{ التي فطر الناس عليها } والفطرة: الخَلْق، بدليل قوله: { لا تبديل لخلق الله } قال الزجاج (4) : معناه: خِلْقَةَ الله التي خَلَقَ عليها البشر. قال (5) : وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل مولود يُولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه [ويمجّسانه] (6) " (7) ، معناه: أن الله عز وجل فطر الخلق على الإيمان به،
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/377).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/300).
(3) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/484). وردّ هذا أبو حيان في البحر (7/167) قال: وقول الزمخشري "أو عليكم فطرة الله" لا يجوز؛ لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها لأنه قد حذف الفعل وعوض "عليك" منه، فلو جاز حذفه لكان إجحافاً، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.
(4) ... معاني الزجاج (4/184-185).
(5) ... أي: الزجاج.
(6) ... زيادة من الصحيحين.
(7) ... أخرجه البخاري (1/456 ح1292)، ومسلم (4/2047 ح2658).(1/32)
على ما جاء في الحديث: "أن الله تعالى أخرجهم من صلب آدم كالذر، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم" (1) ، وذلك قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم... الآية } [الأعراف:172] قال (2) : فكل مولود هو من تلك الذرية التي شهدتْ [بأن] (3) الله تعالى خالِقُها.
فمعنى "فطرة الله": دين الله التي فطر الناس عليها.
وقال الزمخشري وغيره (4) : المعنى: أن الله تعالى خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له؛ لكونه مجاوباً للعقل، مساوقاً للنظر الصحيح.
قوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله } قال الزجاج (5) : أكثر ما جاء في التفسير أن معناه: لا تبديل لدين الله، وما بعده يدل عليه، وهو قوله تعالى: { ذلك الدين القيم } .
وقال الزمخشري (6) : المعنى: لا ينبغي أن تُبدل تلك الفطرة ولا أن تُغير.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله } : أنه خصاء البهائم (7) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد (1/272 ح2455).
(2) ... أي: الزجاج.
(3) ... في الأصل: باء. والتصويب من معاني الزجاج (4/185).
(4) ... الكشاف (3/484-485).
(5) ... معاني الزجاج (4/185).
(6) ... الكشاف (3/485).
(7) ... أخرجه الطبري (21/42). وذكره الماوردي (4/312)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/302).(1/33)
قوله تعالى: { منيبين إليه } أي: راجعين إلى الله، وهو حال من "فأقِم" (1) ؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمّته، كقوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [الطلاق:1].
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في الفعل العامل في "فطرة الله" النصب (2) ، تقديره: الزَمُوا فطرة الله منيبين، فيكون العامل وصاحب الحال مضمرين، كقوله تعالى: { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } [البقرة:239] أي: فصلّوا رجالاً أو ركباناً.
وقوله تعالى: { واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا } معطوف على الفعل المضمر الذي هو: الزموا.
قوله تعالى: { كل حزب بما لديهم فرحون } قال مقاتل (3) : كل ملّة بما عندهم راضون.
وقال الزمخشري (4) : "من الذين فَارَقُوا" بدل من "المشركين". ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله. ومعناه: من المفارقين دينهم، كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع "فرحون" على الوصف لـ"كل" (5) ، كقوله:
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/186)، والدر المصون (5/378).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... تفسير مقاتل (3/12).
(4) ... الكشاف (3/485).
(5) ... انظر: التبيان (2/186)، والدر المصون (5/378).(1/34)
وكلُّ خَليلٍ غيرِ هَاضمٍ نفسِه ... ...................... (1)
#sŒخ)ur مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
__________
(1) ... صدر بيت للشماخ، وعجزه: (لوصل خليل صارم أو معارز). انظر: ديوانه (ص:173)، والكتاب (2/110)، والبحر (7/168)، والدر المصون (5/378)، واللسان (مادة: عرز)، وروح المعاني (21/42).(1/35)
فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اجذب
وما بعده مفسر فيما مضى إلى قوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } . والمعنى: أم أنزلنا عليهم حجة مضيئة من السماء ناطقة بصحة شركهم، وتكلم السلطان مجاز عن الدلالة والشهادة كما تقول: هذا الكتاب ينطق بكذا.
و"ما" في قوله: { بما كانوا به } مصدرية أو موصولة.
ثم ذمّ الناس ببطرهم عند الرحمة من النعمة والرخاء، ويأسهم منها عند حلول السيئة من الفقر والمرض وغيرهما من أنواع البلاء فقال: { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها... الآية } وهذه حالة الكَفَرة والفَجَرة؛ لأن المؤمنين يشكرون الله على السراء ويرجون رحمته في الضراء.(1/36)
فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ(1/37)
Nن3ح !%x.uژà° مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ احةب
قوله تعالى: { فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } حقُّ القريب: بِرّه وصلته وزيارته والسلام عليه، وحقُّ المسكين: مواساته والصدقة عليه، وحقُّ ابن السبيل: ضيافته وإعانته بما يتوصل به إلى بلده.
وفي هذه الآية مستدل لمن يرى وجوب نفقة الأقارب إذا كانوا محتاجين.
{ ذلك خير } أي: إيتاء هؤلاء المذكورين حقهم خير { للذين يريدون } بعملهم { وجه الله } أي: ثوابه.
قوله تعالى: { وما آتيتم من رباً } قرأ ابن كثير: "أتَيْتُم" بالقصر، جعله من باب المجيء. وقرأ الباقون بالمد، جعلوه من باب الإعطاء (1) .
{ من رباً ليربوا في أموال الناس } قرأ نافع: "لتُربوا" بتاء مضمومة وإسكان الواو على المخاطبة، بمعنى: لتصيروا ذوي ربا فيما أعطيتم. وقرأ الباقون: "ليَربوا" بياء مفتوحة وفتح الواو (2) ، على معنى: ليربوا ما آتيتم في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/268)، والحجة لابن زنجلة (ص:558)، والكشف (2/184)، والنشر (2/228)، والإتحاف (ص:348)، والسبعة (ص:507).
(2) ... الحجة للفارسي (3/269)، والحجة لابن زنجلة (ص:559)، والكشف (2/184)، والنشر (2/344)، والإتحاف (ص:348)، والسبعة (ص:507).(1/38)
أموال الناس.
{ فلا يربوا عند الله } قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وجمهور المفسرين: هو الرجل يُهدي الهدية أو يُعطي العطية ليُثاب أكثر منها، فهذا رباً حلال، ليس فيه أجر ولا وزر (1) .
وقال الحسن البصري: هو الربا المحرم (2) .
فعلى هذا يكون المعنى في هذه الآية كما في قوله: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [البقرة:276].
قوله تعالى: { فأولئك هم المضعفون } قال الزجاج (3) : ذووا الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مُقْوٍ، أي: صاحب قوَّة، ومُوسِر، أي: صاحب يَسَار.
وقال غيره: "فأولئك هم المضعفون": التفات حَسَن، وهو أمدح من قوله: فأنتم المضعفون.
والمعنى: المضعفون به؛ لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى "ما" (4) .
__________
(1) ... أخرجه البيهقي (7/51 ح13111)، والطبري (21/46)،، وابن أبي حاتم (9/3091)، ومجاهد (ص:501) بمعناه. وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/495-496) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن عدة طرق أخرى.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/304).
(3) ... معاني الزجاج (4/188).
(4) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/487).(1/39)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ احثب
قوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر } المراد بالفساد: قحط المطر، وقلة النبات، ومحق البركات، وعدم الربح أو قلّته في التجارات، وكثرة المضار وقلة المنافع في الجملة.
قال ابن عباس: البَرّ: البرية التي ليس عندها نهر، والبحر: ما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر (1) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/318)، والواحدي في الوسيط (3/435)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/305)، والسيوطي في الدر (6/496) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/40)
وقال عكرمة: لا أقول نهركم هذا، ولكن كل قرية عامرة (1) .
قال عكرمة: العرب تسمي الأمصار: البحار (2) .
وقرئ شاذاً: "في البر والبحور" (3) ، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة ومجاهد وجمهور المفسرين.
وقال عطية: هو البحر المعروف، وإذا قلّ المطر قلّ الغوص (4) .
قال ابن عباس: تفتح الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ (5) .
{ بما كسبت أيدي الناس } أي: بشؤم معاصيهم، كما قال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [الشورى:30].
{ ليذيقهم } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة: "لنذيقهم" بالنون، وبها قرأتُ ليعقوب الحضرمي رواية روح عنه (6) .
والمعنى: فعلنا بهم ذلك لنذيقهم في الدنيا وَبَالَ أو جزاء { بعض الذي
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/49).
(2) ... أخرجه الطبري (21/49)، وابن أبي حاتم (9/3092). وذكره السيوطي في الدر (6/497) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/171).
(4) ... أخرجه الطبري (21/49). وذكره السيوطي في الدر (6/496) وعزاه لابن المنذر.
(5) ... أخرجه الطبري (27/132). وذكره السيوطي في الدر (7/696) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... النشر (2/345)، والإتحاف (ص:348).(1/41)
عملوا } من المعاصي { لعلهم يرجعون } عنها.
وقال إبراهيم النخعي: لعلهم يرجعون إلى الحق (1) .
وقال الحسن: المعنى: لعل الذين من بعدهم يرجعون (2) .
قال قتادة في هذه الآية: هذا قبل أن يبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد امتلأت الأرض ظلماً وضلالة، فلما بعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - رجع راجعون من الناس (3) .
ثم نبّههم على أن سبب هلاكهم شركهم؛ تحذيراً لهم منه، وتنفيراً لهم عنه فقال: { قل سيروا في الأرض } برأيه.
َOد%r'sù وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/50). وذكره الماوردي (4/318).
(2) ... أخرجه الطبري (21/50). وذكره السيوطي في الدر (6/497) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.
(3) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/485).(1/42)
يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ احخب
قوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم } هو يوم القيامة، { لا مردّ له } مصدر بمعنى الرد.
وقوله تعالى: { من الله } متعلق بـ"يأتي" على معنى: من قبل أن يأتي من الله يوم لا مَرَدَّ له.
ويجوز أن يكون متعلقاً بـ"مَرَدَّ" على معنى لا مرد من جهة الله له (1) .
{ يومئذ يصدعون } أي: يتفرَّقون، فريق في الجنة وفريق في السعير.
قوله تعالى: { من كفر فعليه كفره } أي: وَبَالَ كفره وجزاؤه، { ومن عمل صالحاً } آمن بربه وأطاعه { فلأنفسهم يمهدون } أي: يوطئون.
قال مجاهد: يفرشون ويسوون المضاجع في القبور (2) .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/380).
(2) ... أخرجه الطبري (21/52)، وابن أبي حاتم (9/3093)، ومجاهد (ص:501). وذكره السيوطي في الدر (6/498) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في عذاب القبر.(1/43)
قوله تعالى: { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } قال ابن عباس: معناه: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم (1) .
واللام في "ليَجْزِيَ" متعلقة بـ"يمْهَدُون" تعليل له (2) .
{ إنه لا يحب الكافرين } لا يحبهم ولا يثني عليهم.
ô`دBur آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/436).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/380). وزاد وجهين آخرين، أحدهما: أنه متعلق بـ"يصدعون"، والثاني: أنه محذوف.(1/44)
فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ احذب
قوله تعالى: { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } قال الزمخشري (1) : الرياح: هي الجنوب والشمال والصبا، وهي رياح الرحمة. وأما الدّبور فريح العذاب. ومنه قوله عليه السلام: "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" (2) .
والمعنى: مبشرات بالغيث.
{ وليذيقكم } عطف على "مُبَشِّرَاتٍ" على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف، تقديره: وليذيقكم، [وليكون كذا وكذا] (3) أرسلناها (4) . والمعنى: وليذيقكم من رحمته بنزول الغيث وحصول الخصب، { ولتجري الفلك بأمره } فإن جَرْيها في البحر متوقف على إرسال الرياح.
{ ولتبتغوا من فضله } بطلب التجارة في البحر { ولعلكم تشكرون } نِعَمَه فتوحِّدُوه.
__________
(1) ... الكشاف (3/489-490).
(2) ... أخرجه الشافعي في مسنده (ص:81).
(3) ... في الأصل: ولتجري. وهو وهم من الناسخ. والمثبت من الكشاف (3/490).
(4) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/490). وانظر: الدر المصون (5/381).(1/45)
ثم عزى نبيه - صلى الله عليه وسلم - مبشراً له أن عاقبة الأمر له ولأصحابه، ومنذراً للكفار من غضبه وانتقامه، فقال تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } ، وكان بعضهم يقف [على] (1) : "وكان حقاً" على معنى: وكان الانتقام من المجرمين حقاً، ثم يبتدئ "علينا نصر المؤمنين".
والأول أظهر؛ لما أخبرنا به أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي، حدثنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا [عبدالواحد بن أحمد] (2) المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو شيخ الحراني (3) ، أخبرنا موسى بن أعين (4) ، عن ليث بن أبي سليم (5) ، عن شهر بن حوشب، عن أم
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... في الأصل: أحمد بن عبد الواحد، والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (18/255).
(3) ... هو عبد الله بن مروان، أبو شيخ الحراني، ثقة سكن بغداد وحدّث بها. قال ابن حبان في الثقات: يعتبر حديثه إذا بين السماع في خبره (تاريخ بغداد 10/151، والثقات 8/345).
(4) ... موسى بن أعين الجزري، أبو سعيد الحراني، مولى بني عامر بن لؤي، مات سنة سبع وسبعين ومائة، ثقة صالح صدوق (تهذيب التهذيب 10/298، والتقريب ص:549).
(5) ... ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم، أبو بكر الكوفي، ولد بالكوفة، وكان معلماً بها، كان رجلاً صالحاً عابداً، إلا أنه اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 8/417-418، والتقريب ص:464).(1/46)
الدرداء، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه، إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية: { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } " (1) .
ھ!$# الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
__________
(1) ... أخرجه أحمد (6/449 ح27576)، وابن أبي حاتم (9/3093). وذكره السيوطي في الدر (6/499) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.(1/47)
(49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ(1/48)
بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ اخجب
ثم دلّهم على وحدانيته وقدرته بما يشاهدونه من عجائب صنعته فقال: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء } أي: يجعله مُتَّصلاً في سَمْت السماء، كقوله تعالى: { وفرعها في السماء } [إبراهيم:24].
{ كيف يشاء } على ما تقتضيه الحكمة الإلهية من قليل وكثير.
{ ويجعله كِسَفاً } قِطَعاً متفرقة. والمعنى: يجعله متصلاً تارة ومتفرقاً أخرى.
وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان: "كِسْفاً" بسكون السين (1) ، وقد ذكر معناه.
{ فترى الوَدْقَ } وهو المطر { يخرج من خلاله } أي: من خلال السحاب، { فإذا أصاب به } أي: [بالودق] (2) { من يشاء من عباده } والمعنى: أصاب بلادهم وأراضيهم.
قوله تعالى: { من قبله } توكيد لقوله: { من قبل أن ينزل عليهم } ومعنى التوكيد: الإشارة إلى استحكام يأسهم من المطر لتطاول عهدهم.
{ فانظر إلى أَثَرِ رحمة الله } وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا أبا بكر: "آثار" على الجمع (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/269)، والحجة لابن زنجلة (ص:560)، والنشر (2/309)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:348)، والسبعة (ص:508).
(2) ... في الأصل: بأودق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/269)، والحجة لابن زنجلة (ص:561)، والكشف (2/185)، والنشر (2/345)، والإتحاف (ص:348-349)، والسبعة (ص:508).(1/49)
قال مقاتل (1) : "آثار رحمة الله": هو النبت، وهو أثر المطر، والمطر رحمة الله.
قوله تعالى: { ولئن أرسلنا ريحاً } هذه اللام في "ولئن أرسلنا" هي اللام الموطئة للقسم دخلت على حرف الشرط (2) ، إذا أتت الريح بلفظ الواحد أريد بها العذاب، كما سبق آنفاً.
{ فرأوْه } يعني: أثر رحمة، وهو النبت { مُصْفَرّاً } قد ذهبت نضارته وخضرته.
وقيل: الضمير في قوله: "فرأوه" يعود إلى السحاب، على معنى: فرأوا السحاب مصفراً فإنه إذا كان كذلك لا يمطر.
قوله تعالى: { لظلوا } يعني: لصاروا، وهو جواب يسدّ مسدّ جوابي القسم والشرط.
{ من بعده } أي: من بعد اصفرار النبات أو السحاب { يكفرون } بأنعم الله السالفة، فهم في جميع أحوالهم مذمومون، إن أنعم عليهم بطروا، وإن ابتلوا كفروا.
* اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/15).
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/492).(1/50)
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ اخحب
قوله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضَعْف } قرأ حمزة وأبو بكر: "ضَعْفٍ" بفتح الضاد في المواضع الثلاثة في هذه الآية. وقرأ الباقون بضم الضاد (1) ، وهو اختيار أبي عبيد والزجاج (2) ، ولغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقريش، والفتح: لغة تميم.
قال عطية: قرأتُ على عبدالله بن عمر: { الله الذي خلقكم من ضُعْف ثم جعل من بعد ضُعْف قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفاً وشيبة } ، فقال ابن عمر: { الذي خلقكم من ضَعْف ثم جعل من بعد ضَعْف قوة ثم جعل من بعد قوة ضَعْفاً وشيبة } ، ثم قال: قرأتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قرأتها، فأخذها كما أخذتها عليك (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/270)، والحجة لابن زنجلة (ص:562)، والكشف (2/186)، والنشر (2/345)، والإتحاف (ص:349)، والسبعة (ص:508).
(2) ... انظر: معاني الزجاج (4/191).
(3) ... أخرجه أحمد (2/58 ح5227).(1/51)
ومعنى الآية: خلقكم من ماء ذي ضَعف وهو المني، ثم جعل من ضعف الطفولية قوة الشباب، ثم جعل من بعد قوة الشباب ضعف الكبر والهرم، "وشَيْبَة" وهو التغير من صفة إلى صفة (1) ، وهيئة إلى هيئة أعدل شاهد وأظهر دليل على الصانع الحكيم.
tPِqtƒur تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ
__________
(1) ... قوله: "إلى صفة" مكرر في الأصل. وانظر النص في: الكشاف (3/493).(1/52)
الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اخذب
قوله تعالى: { ما لبثوا } أي: يحلفون ما لبثوا في قبورهم. وقيل: في الدنيا { غير ساعة } .
فإن قيل: استقصارهم مدة اللبث في الدنيا ظاهر معلوم، فما معنى استقصارهم مدة اللبث في القبور وهم معذبون؟
قلتُ: يجوز أن يقولوا ذلك ناسين ما كانوا فيه؛ لما دهمهم من أهوال الطامة، أو صار عندهم عذاب القبور كلا عذاب بالنسبة إلى ما أفضوا إليه، وقد سبق هذا المعنى فيما مضى. ويجوز أن يكونوا قالوا ذلك وهم كاذبون.
{ كذلك كانوا يؤفكون } أي: مثل ذلك الصَّرْف كانوا يُصْرَفُون عن الصدق في الدنيا.
{ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان } وهم الملائكة. وقيل: الأنبياء. وقيل: المؤمنون.
ويجوز عندي: أن يكون القول صادر من الجميع.
{ لقد لبثتم في كتاب الله } أي: في اللوح المحفوظ.
وقيل: في علم الله.
وقيل: فيما كتبه الله تعالى، أي: أوجبه بحكمته.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله(1/53)
والإيمان لقد لبثتم.
{ إلى يوم البعث فهذا يوم البعث } الذي كنتم تنكرونه.
{ فيومئذ لا ينفع الذين } قرأ أهل الكوفة: "لا ينفع" بالياء للفصل، أو حملاً على معنى المعذرة فإنها بمعنى العذر. وقرأ الباقون بالتاء؛ لتأنيث المعذرة (1) .
وقد أشرنا إلى علّة القراءتين واستوفينا القول في نظائر ذلك فيما مضى.
قال ابن عباس: لا يقبل من الذين أشركوا عذر ولا عتاب ولا توبة ذلك اليوم (2) .
{ ولا هم يستعتبون } قال الواحدي وابن الجوزي (3) : [أي: لا يطلب] (4) منهم العتبى والرجوع في الآخرة.
وقال الزمخشري (5) : هو من قولك: استعتبني فلان [فأعتبته] (6) ، أي: استرضاني فأرضيته.
ô‰s)s9ur ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/270)، والحجة لابن زنجلة (ص:562)، والكشف (2/186)، والنشر (2/346)، والإتحاف (ص:349)، والسبعة (ص:509).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/439).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (3/439)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/312).
(4) ... في الأصل: ولا هم تطلب. والتصويب من زاد المسير، الموضع السابق.
(5) ... الكشاف (3/494).
(6) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/54)
فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ادةب
قوله تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } جائز أن يكون على ظاهره، على معنى: ضربنا لهم الأمثال تقريباً إلى أفهامهم وتنبيهاً لهم واحتجاجاً عليهم.
وجائز أن يكون المعنى: ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها [وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن] (1) كصفة المبعوثين يوم
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/494).(1/55)
القيامة [وقصتهم] (1) وما يقولون وما يقال لهم.
{ ولئن جئتهم بآية } خارقة { ليقولن الذين كفروا } لقسوة قلوبهم وبنوّ طباعهم عن قبول الحق ومجّ أسماعهم حديث الآخرة.
{ إن أنتم } أي: ما أنتم يا محمد وأصحابك { إلا مبطلون } .
{ كذلك } أي: مثل ذلك الطبع { يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أي: على قلوب الجهلة بالله تعالى وبصفاته وبما جاءت به رسله.
{ فاصبر } يا محمد على أذاهم وعداوتهم { إن وعد الله } تعالى بصبرك وظهور دينك وإعلاء كلمتك { حق } لا بد من وقوعه وإنجازه.
{ ولا يستخفنّك } وقرأتُ ليعقوب بسكون النون وتخفيفها (2) .
والمعنى: لا يستخفنَّ رأيك وحلمك.
وقال الزجاج (3) : لا يستفزَّنَّكَ عن دينك.
{ الذين لا يوقنون } [بالبعث] (4) والجزاء.
وبعض المفسرين يقول: الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف. وقد سبق الكلام على أمثالها.
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... النشر (2/246)، والإتحاف (ص:184).
(3) ... معاني الزجاج (4/192).
(4) ... في الأصل: بالبهت. والصواب ما أثبتناه. انظر: زاد المسير (6/313).(1/56)
سورة لقمان عليه السلام
ijk
وهي ثلاث وثلاثون آية في المدني، وأربع وثلاثون آية في المكي، وهي مكية.
واستثنى قوم ثلاث آيات متواليات من قوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } فقالوا: نزلت بالمدينة (1) .
$O!9# (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
__________
(1) ... أخرجه النحاس في ناسخه (ص:619). وذكره السيوطي في الدر (6/503) وعزاه للنحاس. وانظر: الإتقان (1/36).(1/57)
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ اخب
قوله تعالى: { هدى ورحمة } قرأهما حمزة بالرفع، والباقون بالنصب (1) .
فمن رَفَعَ فعلى معنى: هو هدى ورحمة، ومن نصب: فعلى الحال من "آيات"، والعامل فيها ما في "تلك" من معنى الفعل.
{ للمحسنين } يعني: الذين يعملون الحسنات المذكورة في الآية التي بعدها، كأنه قيل: مَن المحسنون؟ فقال: { الذين يقيمون الصلاة ... الآية } .
ومثل هذا ما يروى: أن الأصمعي سئل عن الألمعي ما هو، فأنشد قول أوس:
الألمعيُّ الذي يَظُنُّ بكَ الـ ... ... ـظن كأنْ قَدْ رَأَى وقدْ سَمِعَا (2)
ولم يُرد.
ويجوز أن يكون المراد بالمحسنين: الذين يعملون الحسنات، ثم خص هذه الخصال الثلاث بالذِّكْر؛ لموضع اختصاصها بالفضل.
z`دBur النَّاسِ مَنْ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/272)، والحجة لابن زنجلة (ص:563)، والكشف (2/187)، والنشر (2/346)، والإتحاف (ص:349)، والسبعة (ص:512).
(2) ... البيت لأوس بن حجر. انظر: ديوانه (ص:53)، واللسان (مادة: حظرب، لمع)، والبحر (7/179)، والدر المصون (5/386)، والخصائص (2/112).(1/58)
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ اذب
قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال ابن السائب ومقاتل (1) : كان النضر بن الحارث يخرج تاجراً إلى فارس، فيشتري كتباً فيها أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشاً، ويقول لهم: إن محمداً يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم [واسفنديار وأخبار] (2)
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/18).
(2) ... في الأصل: واسفندار وأخبا. والصواب ما أثبتناه. وانظر: مصادر التخريج.(1/59)
الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال مجاهد: نزلت في شراء القِيان والمغنيات (2) .
وروي: أن النضر كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به [إلى] (3) قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنّيه، ويقول: هذا خير لك مما يدعو إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه (4) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية كانت تغنّيه ليلاً ونهاراً (5) .
وقد أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام " (6) .
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/305) عن ابن عباس. وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص:356)، والوسيط (3/440-441)، والماوردي (4/329)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/315-316)، والسيوطي في الدر (6/503) وعزاه للبيهقي في الشعب عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه الطبري (21/62)، ومجاهد (ص:503). وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص:356).
(3) ... زيادة على الأصل.
(4) ... ذكره السيوطي في الدر (6/504) وعزاه لجويبر عن ابن عباس.
(5) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/279 ح5104) عن ابن مسعود. وذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص:357)، والسيوطي في الدر (6/508) وعزاه للبيهقي عن ابن مسعود.
(6) ... أخرجه أحمد (5/257 ح22272).(1/60)
وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث... إلى آخر الآية } .
وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات (1) .
وقال قتادة: هو كل لهو (2) .
قال أهل المعاني: فيدخل في هذا كل من اختار اللهو واللعب والمعازف والمزامير على القرآن.
قوله تعالى: { يشتري } إما أن يكون على حقيقته -كما روينا عن النضر-، أو على مجازه، وهو إيثار اللهو، واختياره على ما أسلفنا في قوله: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [البقرة:16].
قوله تعالى: { ليُضلّ عن سبيل الله } قرأ أهل الكوفة: "ليُضِلَّ" بضم الياء، على معنى: ليضل غيره، وقرأ الباقون بفتح الياء (3) ، على معنى: ليصير أمره إلى الضلال.
وقوله: { بغير علم } في محل الحال من الضمير في "يَشْتَرِي" (4) ، أو
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/445 ح3542) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة (4/368 ح21130)، والبيهقي في شعبه (4/278 ح5096)، والطبري (21/61). وذكره السيوطي في الدر (6/505) وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب.
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/490).
(3) ... الحجة لابن زنجلة (ص:563)، والنشر (2/299)، والإتحاف (ص:349).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/386).(1/61)
في "ليُضِلَّ" فهو تجهيل للمُضِلّ أو تجهيل للمشتري حيث لم يهتد إلى التجارة الرابحة.
قوله تعالى: { ويتَّخِذَها هزءاً } قرأ حمزة والكسائي وحفص بنصب الذال، ورفعها الباقون.
فمن نَصَبَ عَطَفَ على "ليُضِلَّ"، ومن رَفَعَ عَطَفَ على ["يَشْتَرِي"] (1) ، والضمير المنصوب في "يتّخِذَها" يعود إلى الآيات، أو إلى "سبيل الله"، فإن السبيل يُؤنّث ويذكّر (2) ، وقد ذكر فيما مضى.
ويجوز عندي: أن يعود الضمير إلى "الآخرة"، فإن تكذيبهم بها واستهزاءهم بما كانوا يتوعدون به فيها متداول مشهور بينهم.
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليه } أي: على المشتري لهو الحديث. وفي قوله: { كأن لم يسمعها } تحقيق لمعنى استكباره وعدم مبالاته بالله تعالى وآياته.
{ كأنّ في أذنيه وقراً } أي: ثِقلاً. والجملتان المصدريتان بـ"كأنّ" مستأنفتان.
ويجوز أن يكون الأولى حالاً من "مُسْتَكْبراً"، والثانية حالاً من "لم يسمَعْها"، والأصل في كأن المخففة: كأنّه، والضمير ضمير الشأن (3) .
__________
(1) ... في الأصل: ليشتري.
(2) ... انظر: التبيان (2/187)، والدر المصون (5/386).
(3) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/498). وانظر: التبيان (2/187)، والدر المصون (5/386).(1/62)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ(1/63)
الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ اتثب
وما بعده مفسّر إلى قوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } .
اعلم أن مقصود الكلام في لقمان يحصره فصول أربعة:
الفصل الأول:
اختلفوا هل كان حراً أو عبداً؟ فقال محمد بن إسحاق: هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح -وهو آزر-، وعاش ألف سنة، وأدرك زمان داود (1) .
وقيل: كان ابن أخت أيوب. وقيل: ابن خالته.
وقال مجاهد: كان عبداً أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين (2) .
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (14/59).
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:64)، وابن أبي شيبة (7/73 ح34291)، والطبري (21/67)، وابن أبي حاتم (9/3097). وذكره السيوطي في الدر (6/510) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/64)
وقال سعيد بن المسيب: كان أسود نوبياً من سودان مصر، ذا مشافر (1) .
وقال ابن عباس: كان عبداً حبشياً (2) .
الفصل الثاني:
اختلفوا في صناعته؛ فروى الإمام أحمد بإسناده عن سعيد بن المسيب: أن لقمان كان خياطاً (3) .
وقال خالد [الربعي] (4) : كان عبداً حبشياً نجاراً (5) .
الفصل الثالث:
اختلفوا هل كان نبياً أم لا؟
فذهب الأكثرون، منهم ابن عباس: إلى أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/67)، وابن أبي حاتم (9/3097). وذكره السيوطي في الدر (6/509) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (21/67). وذكره السيوطي في الدر (6/509) وعزاه لابن أبي شيبة في الزهد وأحمد وابن أبي الدنيا في كتاب المملوكين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:64). وذكره السيوطي في الدر (6/510) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن المنذر.
(4) ... في الأصل: الربع. وهو خطأ. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل (3/322)، ولسان الميزان (2/374).
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:65)، والطبري (21/67)، وابن أبي شيبة (7/74 ح34294).
(6) ... أخرجه الطبري (21/67). وذكره الماوردي (4/331)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/317).(1/65)
وقال عكرمة: كان نبياً (1) .
والأول أكثر وأصح.
ويروى: أن لقمان عليه السلام خيّر بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة (2) .
الفصل الرابع: في الإشارة إلى نبذة يسيرة من حكمته:
روي: أن رجلاً وقف عليه فقال: ألست الذي كنت ترعى معي؟ فقال: بلى، فقال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صِدْق الحديث، والصمت عما لا يعنيني (3) .
ويروى: أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع وقد لَيَّنَ الله تعالى له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة، فلما انتهت لبسها، وقال: نعم لبوس الحربِ أنتِ، فقال لقمان: الصمت حِكَم وقليلٌ فاعله، فقال له داود: بحقٍّ ما سميت حكيماً (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/68)، وابن أبي حاتم (9/3098). وذكره السيوطي في الدر (6/511) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3097). وذكره الماوردي (4/331)، والسيوطي في الدر (6/511) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.
(3) ... أخرجه الطبري (21/68)، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (1/96، 294) كلاهما عن عمرو بن قيس. وذكره السيوطي في الدر (6/512) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وابن جرير.
(4) ... أخرج نحوه الحاكم (2/458 ح3582)، والبيهقي في الشعب (4/264 ح5026) كلاهما من حديث أنس. وذكره السيوطي في الدر (6/513) وعزاه للعسكري في الأمثال والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس.(1/66)
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (1) له بإسناده عن مالك بن دينار قال: قال لقمان لابنه: يا بني! اتخذ طاعة الله تعالى تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة.
وبإسناده عن أبي عثمان -رجل من أهل البصرة يقال له: الجعد (2) - قال: قال لقمان لابنه: لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهد فيك (3) .
وبإسناده عن عبيد بن عمير قال: قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني! اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم، فإن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك عَيِياً يعلموك، وإن يطلع الله تعالى إليهم برحمة تصيبك معهم.
يا بني! لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله عز وجل، فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك عيّاً يزيدوك عياً، وإن يطلع الله عز وجل بعد ذلك بسخط يصيبك معهم.
يا بني! لا تغبطن امرءاً رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت (4) .
__________
(1) ... الزهد (ص:64).
(2) ... كذا في البداية والنهاية (2/127)، وفي الدر المنثور (6/516): الجعدي.
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:132)، وعبد الرزاق في مصنفه (11/138 ح20135)، وابن المبارك في الزهد (ص:484 ح1374).
(4) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/55). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/517) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد.(1/67)
وبإسناده عن أبي سعيد قال: قال لقمان لابنه: يا بني! لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء (1) .
وبإسناده عن قتادة: أن لقمان قال لابنه: يا بني! اعتزل الشر كيما يعتزلك، فإن الشر للشر خُلق (2) .
وقال عبدالله بن الإمام أحمد: حدثني حسين بن الجنيد قال: حدثنا سفيان قال: قال لقمان لابنه: يا بني! ما ندمت على الصمت قط، وإن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب (3) .
عُدْنا إلى التفسير:
قوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } فَسَّرها عكرمة: بالنبوة (4) .
وقال مجاهد وعامة المفسرين: الحكمة هاهنا: الفقه والعقل والإصابة في القول (5) .
__________
(1) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/517) وعزاه لعبد الله في زوائده.
(2) ... أخرج أحمد في الزهد (ص:65) طرفاً منه، وأخرجه البيهقي في شعبه (5/457 ح7270). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/516-517) وعزاه لأحمد.
(3) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:65).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/442)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/317).
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:64)، والطبري (21/67)، وابن أبي حاتم (9/3097)، ومجاهد (ص:504).
... وذكره السيوطي في الدر (6/511) وعزاه للفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.(1/68)
قوله تعالى: { أنِ اشكر لله } "أنْ" هي المفسرة؛ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، فنبّه بهذا على أن الحكمة الأصلية توحيد الله سبحانه وتعالى وشكره.
قال مقاتل (1) : المعنى: قلنا له: أنِ اشكر الله فيما أعطاك من الحكمة.
ّŒخ)ur قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/20).(1/69)
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اتخب
قوله تعالى: { وإذ قال لقمان لابنه } واسمه: أنعم.
وقال ابن السائب: اسمه أشكم (1) .
{ وهو يعظه } رُوي: أن ابنه وامرأته كانا كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما (2) .
{ يا بُنَيَّ لا تشرك } (3) وقرأتُ لابن كثير إلا من طريق ابن فليح: "يا بُنَيْ" بسكون الياء وتخفيفها أيضاً (4) ، كما خفَّفَ الشاعر:
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/333) وفيه: مشكم.
(2) ... ذكره القرطبي (14/62).
(3) ... قوله: "لا تشرك" ذكرت في الأصل بعد قوله: "يا بنيْ" التالية.
(4) ... الحجة للفارسي (3/272-273)، والحجة لابن زنجلة (ص:564)، والكشف (1/529)، والنشر (2/289)، والإتحاف (ص:350)، والسبعة (ص:512).(1/70)
قد كنتُ جَارَكَ حَوْلاً ما تُروِّعُنِي ... ... فيه روائعُ من إنسٍ ولا جان (1)
فخفَّفَ النون.
قال أبو علي (2) : خَفَّفَ ياء الإضافة، ثم خَفَّفَ فحذف الياء التي هي لام الفعل، وبقيت الياء التي هي ياء التصغير، فالياء الموقوف عليها في "بُنَيَّ" هي ياء التصغير.
{ إن الشرك } وجعل من لا نعمة له كمن لا نعمة إلا منه، { لظلم عظيم } . وقد ذكرنا سبب نزوله.
قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن } أي: تَهِنُ وَهْناً على وَهْن، أي: تَضْعُف ضَعْفاً على ضَعْف، كلما ازداد حملها زاد ضَعْفُها.
{ وفصاله } أي: فِطَامُه. وهو مبتدأ، خبره في الظرف على تقدير: يقعُ أو يحدث، { في عامين } أي: في انقضاء عامين.
والمقصود من ذلك: تهييج الإنسان على بِرِّ والديه بتذكيره ما عانت من الوهن زمن الحمْل، والمشقة مدة الرضاع.
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب الزهد (3) له بإسناده عن كعب بن علقمة: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج هارباً من فرعون
__________
(1) ... البيت لعمران بن حطان، وانظر البيت في: اللسان، مادة: (جنن، ظلل)، والحجة للفارسي (2/397)، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (8/153).
(2) ... الحجة (2/397).
(3) ... الزهد (ص:87).(1/71)
قال: رب أوصني، قال: [أوصيك] (1) أن لا تعدل بي شيئاً أبداً إلا اخترتني عليه، فإني لا أرحم ولا أزكي من لم يكن كذلك، قال: وبماذا يا رب؟ قال: بأمك، فإنها حملتك وَهْناً على وَهْن، ثم قال: ثم ماذا يا رب؟ قال: بأبيك، قال: ثم ماذا يا رب؟ قال: أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكرهُ لهم ما تكره لها، قال: ثم بماذا يا رب؟ قال: ثم إن وليتك شيئاً من أمر عبادي فلا تُعَنِّهِم (2) إليك في حوائجهم [فإنك إنما تُعَنِّي روحي، فإني مبصر ومستمع ومشهد ومستشهد] (3) .
{ أن أشكر لي ولوالديك } قال ابن عباس: المعنى: أطعني وأطع والديك (4) .
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما (5) .
وفي قوله: { إليّ المصير } ترغيب في الطاعة طلباً للمثوبة، وترهيب من الإضاعة هرباً من العقوبة.
قوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } قال الزجاج (6) : أي مُصَاحَباً معروفاً، تقول: صَاحَبَه مُصَاحَباً ومُصَاحَبَةً. ومعنى المعروف: ما
__________
(1) ... في الأصل: أصيك. والتصويب من الزهد، الموضع السابق.
(2) ... من العناء والمشقة.
(3) ... زيادة من الزهد (ص:87).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/443).
(5) ... ذكره القرطبي (14/65).
(6) ... معاني الزجاج (4/197).(1/72)
يُستحسن من الأفعال.
قوله تعالى: { واتبع سبيل من أناب إليّ } أي: اسلك طريق من رجع إليّ، وهو طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: واتبع سبيل أبي بكر الصديق، وذلك أنه حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا له: آمنت وصدقت محمداً؟ [قال] (1) : نعم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا وصدقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: { واتبع سبيل من أناب إليّ } يعني: أبا بكر رضي الله عنه (2) .
¢سo_ç6"tƒ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ
__________
(1) ... في الأصل: قالوا.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (3/443)، وأسباب نزول القرآن (ص:358).(1/73)
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ اتزب
قال السدي: قال ابن لقمان لأبيه: أرأيت لو أن حبّة من خردل في مَقْل البحر (1) أكان الله تعالى يعلمها؟ فقال له ما أخبر الله تعالى عنه في قوله: { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل } (2) .
__________
(1) ... مَقْل البحر: موضع المغاص من البحر الذي يغمره الماء (اللسان، مادة: مقل).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/443)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/321).(1/74)
قرأ نافع: "مثقالُ" بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب (1) .
فمن رَفَعَ جعل "كان" تامة لا تحتاج إلى خبر، فرفع "المثقال" بها، وأتى بالفعل على لفظ التأنيث حملاً على المعنى؛ لأن المثقال في معنى السيئة أو المظلمة، ومثله قوله تعالى: { فله عشر أمثالها } [الأنعام:160] فأنَّث؛ لأن المعنى: فله عشر حسنات.
ومن نَصَبَ جعل "كان" ناقصة، فأضمر فيها اسمها، ونصب "المثقال" على الخبر، على معنى: إن تك المظلمة أو السيئة قدر مثقال حبة من خردل.
{ فتكن في صخرة } قال ابن عباس: هي صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة السماء منها (2) .
قال السدي: هذه صخرة ليست في السماوات ولا في الأرض، هي تحت سبع أرضين، عليها ملك قائم (3) .
وقال قتادة: "فتكن في صخرة": في جبل (4) .
وقرأ عبدالكريم الجزري: "فَتَكِنَّ" بكسر الكاف (5) ، من قولهم: كَنَّ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/274)، والحجة لابن زنجلة (ص:565)، والكشف (2/188)، والنشر (2/324)، والإتحاف (ص:310-311)، والسبعة (ص:513).
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/492).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/443).
(4) ... أخرجه الطبري (21/73)، وابن أبي حاتم (9/3099). وذكره السيوطي في الدر (6/522) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/182)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/388).(1/75)
الطائرُ يَكِنُّ وُكُوناً؛ إذا استقرّ [في] (1) وكنته، وهو مقره ليلاً، وهو أيضاً عُشّه الذي يبيض فيه ووَكْرِه (2) ، ومنه قول الشاعر:
وقد أغْتَذِي والطيرُ في وَكَنَاتِها ... بمنجَردٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَل (3)
{ يأت بها } يوم القيامة للحساب والجزاء، { إن الله لطيف } يصل علمه إلى كل خفي.
وقال قتادة: لطيف باستخراجها، { خبير } بمستقرها (4) .
قوله تعالى: { واصبر على ما أصابك } أي: على ما أصابك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ما أصابك من المصائب.
{ إن ذلك من عزم الأمور } سبق تفسيره في آخر آل عمران (5) .
قوله تعالى: { ولا تصعر خدك للناس } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: "تُصَعِّرْ" بتشديد العين من غير ألف. وقرأ الباقون: "تُصَاعِرْ"
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/503).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: وكن).
(3) ... البيت لامرئ القيس من معلقته، انظر: ديوانه (ص:19)، والسبع الطوال (ص:82)، والمحتسب (2/234)، والخصائص (2/220)، واللسان (مادة: قيد)، وروح المعاني (21/98)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/66)، والدر المصون (5/390).
(4) ... أخرجه الطبري (21/73)، وابن أبي حاتم (9/3099). وذكره السيوطي في الدر (6/523) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) ... عند الآية رقم: 186.(1/76)
بألف مع تخفيف العين (1) .
قال أبو علي (2) : هما لغتان، مثل: ضَاعَفَ وضَعَّف. وقال أبو الحسن: "تُصَاعِرْ" لغة أهل الحجاز، و"تُصَعِّر" لغة تميم. والمعنى فيه: لا تتكبر على الناس ولا تُعرض عنهم تكبراً عليهم.
قال أبو عبيدة (3) : أصل هذا من الصَّعَرِ الذي يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها.
قال أبو علي (4) : كأنه يقول: لا تعرض عنهم، ولا تَزْوَرَّ كازْوِرَار الذي به هذا الدّاء الذي يلوي منه عنقه ويُعرضُ بوجهه.
قال ابن عباس: هو الذي إذا سُلِّمَ عليه لوى عنقه كالمستكبر (5) .
وقال مجاهد: هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة -الصَّدّ- فيراه فيعرض عنه (6) .
وباقي الآية مفسر في سُبْحان (7) والنساء (8) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/273)، والحجة لابن زنجلة (ص:565)، والكشف (2/188)، والنشر (2/346)، والإتحاف (ص:350)، والسبعة (ص:513).
(2) ... الحجة (3/273).
(3) ... مجاز القرآن (2/127).
(4) ... الحجة (3/273).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3099). وذكره السيوطي في الدر (6/524) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (21/75).
(7) ... عند الآية رقم: 37.
(8) ... عند الآية رقم: 36.(1/77)
قوله تعالى: { واقصدْ في مَشْيِكَ } أي: اعدل فيه واجعله بين المشيين، لا تدبّ كدبيب المتماوتين، ولا تثب وثب [الشطار] (1) ، وليكن قصداً خارجاً عن قانون الاختيال والإسراع المُذْهِب بالوقار (2) .
قال عطاء: امْشِ بالوقار والسكينة (3) .
{ واغضض من صوتك } أي: انقص منه.
قال الزجاج (4) : ومنه: غَضَضْتُ بصَري، وفُلانٌ يَغُضُّ [بَصَرهُ] (5) من فلان، [أي: يتنقَّصُه] (6) .
{ إن أنكر الأصوات } أقبح الأصوات (7) . قال الزجاج (8) : يقول: أتانا فُلانٌ بوجه مُنْكَر، أي: قبيح.
قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله الله للحمير (9) .
__________
(1) في الأصل: الشياطين، والتصويب من الكشاف (3/504).
(2) هذا كلام الزمخشري في الكشاف (3/504).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/444)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/323).
(4) ... معاني الزجاج (4/199).
(5) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) زيادة من معاني الزجاج (4/199).
(7) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (6/323): فإن قيل: كيف قال: "لصوت" ولم يقل: لأصوات الحمير؟
... الجواب: أن لكل جنس صوتاً، فكأنه قال: إن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس.
(8) معاني الزجاج (4/199).
(9) ... أخرجه الطبري (21/77)، وابن أبي حاتم (9/3100). وذكره السيوطي في الدر (6/525) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/78)
وقرأ أبو المتوكل وابن أبي عبلة: "أن أنكر" بفتح الهمزة (1) .
َOs9r& تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (6/323).(1/79)
إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ اثتب
قوله تعالى: { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } وقرأ يحيى بن عمارة: "وأصْبَغَ" بالصاد (1) .
قال أبو الفتح (2) : أصله السين إلا أنها أبدلت للغين بعدها صاداً، وذلك أن حروف الاستعلاء تجتذب السين عن سفالها إلى تعاليهن، والصاد مستطيلة، وهي أخت السين في المخرج وأحدي حروف الاستعلاء، ونحوه: قولهم في سطر: صطر.
وقال الزمخشري (3) : هكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ: صلخ، وفي سقر: صقر، وفي سالغ: صالغ.
واختلف القراء في "نِعَمَهُ"؛ فقرأ الأكثرون: "نِعْمَةً" على التوحيد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر: "نِعَمَهُ" على الجمع (4) .
قال أبو علي (5) : من قرأ "نِعَمَهُ" على الجمع؛ فلأنّ نِعَم الله تعالى كثيرة.
__________
(1) ... وهي قراءة ابن عباس أيضاً. انظر هذه القراءة في: البحر (7/185)، والدر المصون (5/389-390).
(2) ... المحتسب (2/234).
(3) ... الكشاف (3/505).
(4) ... الحجة للفارسي (3/274)، والحجة لابن زنجلة (ص:565-566)، والكشف (2/189)، والنشر (2/346-347)، والإتحاف (ص:350)، والسبعة (ص:513).
(5) ... الحجة (3/274).(1/80)
ومن قرأ "نِعْمَةً" على الإفراد؛ فلأن المفرد أيضاً يدل على الكثرة، قال: { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم:34].
وروى جويبر عن الضحاك قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } فقال: هذا من مخزوني الذي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، فقلت: يا رسول الله! ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال: أما الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، وما أفضل عليك من الرزق، وأما الباطنة: فما ستر عليك من سوء عملك يا ابن عباس (1) .
وقال الحارث المحاسبي: الظاهرة: نعيم الدنيا، [والباطنة] (2) : نعيم العقبى (3) .
وقيل: الظاهرة: الرزق المكتسب، والباطنة: الرزق من حيث لا يحتسب.
وقيل: الظاهرة: ألوان العطايا، والباطنة: غفران الخطايا.
ويروى: أن موسى عليه السلام قال: إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك؟ فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفَس (4) .
ويروى: أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس (5) .
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعبه (4/120 ح4505). وذكره الديلمي في الفردوس (4/402)، والسيوطي في الدر (6/525-526) وعزاه لابن مردويه والديلمي وابن النجار.
(2) ... في الأصل: والباطن.
(3) ... ذكره القرطبي (14/73).
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/506).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/506). قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (ص:130): لم أجده.(1/81)
قوله تعالى: { أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } أي: إلى موجباته وأسبابه.
قال أبو عبيدة: جوابه محذوف، تقديره: أتتبعونه.
وقال صاحب الكشاف (1) : معناه: ولو كان الشيطان يدعوهم، أي: في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.
وقال الأخفش (2) : لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير.
* وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
قوله تعالى: { ومن يسلم وجهه إلى الله } وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وقتادة: "ومن يُسَلِّمْ" بالتشديد (3) . يقال: أسْلِمْ
__________
(1) ... الكشاف (3/506).
(2) ... معاني الأخفش (ص:267).
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/325)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/390).(1/82)
أمركَ وسَلِّم أمْرَكَ إلى الله تعالى، والمراد: التوكل عليه والتفوض إليه.
{ فقد استمسك بالعروة الوثقى } هو مفسر في البقرة (1) .
`tBur كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 256.(1/83)
(25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ اثرب
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } سبب نزولها: ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت قول الله تعالى: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [الإسراء:85] إيانا يريد أم قومك؟ فقال: كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا(1/84)
قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال: إنها في علم الله تعالى قليل، فنزلت هذه الآية (1) .
والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المِدَاد كلمات الله، لما نفدت كلماته.
قال ابن قتيبة (2) : "يَمُدُّ" من المِدَاد لا من الإمْدَاد. يقال: مَددتُ دَوَاتي بالمِدَاد، وأمددتُه بالمال والرجال.
واختلف القراء في "البحر": فرفعه الأكثرون، ونصبه أبو عمرو (3) .
قال الزجاج (4) : النصب عطفٌ على "ما"، والرفع حسن على وجهين:
أحدهما: والبحر هذه حاله. ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع "أن" مع ما بعدها.
وقال غيره: يجوز أن يكون النصب من باب قوله: { والقمر قدرناه منازل } [يس:39]، { والسماء رفعها } [الرحمن:7]، فيكون منصوباً بمضمر، تقديره: يمدُّه من بعده.
وقال أبو علي والزمخشري (5) : الرفع على الابتداء، والواو للحال، على
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/81)، وابن أبي حاتم (9/3100). وذكره السيوطي في الدر (6/526) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، والواحدي في أسباب نزول القرآن (ص:358)، والماوردي (4/344).
(2) ... انظر قول ابن قتيبة في: زاد المسير (6/326).
(3) ... الحجة للفارسي (3/274-275)، والحجة لابن زنجلة (ص:566)، والكشف (2/189)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:350)، والسبعة (ص:513).
(4) ... معاني الزجاج (4/200).
(5) ... الحجة (3/275)، والكشاف (3/507).(1/85)
معنى: ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً. وهو الوجه الأول الذي ذكره الزجاج.
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: الكلمات جمع قلّة، والموضع موضع التكثير، فهلاّ قيل: كلم الله؟
قلتُ: معناه: أن كلماته لا تفي [بكتبتها] (2) البحار، فكيف بكلمه؟
وقرأ ابن مسعود: "وبحر يمدُّه" على التكثير (3) .
وقرئ: "تَمُدُّه" و"يَمُدُّه" بالتاء والياء (4) ، ونعتها يشير إلى استواء القليل والكثير في قدرته.
قوله تعالى: { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } معناه: إلا كحق نفس واحدة.
َOs9r& تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
__________
(1) ... الكشاف (3/508).
(2) ... في الأصل: بكتبة. والتصويب من الكشاف (3/508).
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/186)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/391).
(4) ... مثل السابق.(1/86)
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَن اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ(1/87)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ اجثب
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { ألم تر أن الفُلْكَ } وقرأ موسى بن الزبير: "الفُلُكَ" بضم اللام (1) .
قال الزمخشري (2) : كل فُعْل: يجوز فيه فُعُل، كما يجوز في كل فُعُل فعل، على مذهب التعويض.
{ ليريكم من آياته } من عجائب مخلوقاته ودلائل قدرته.
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار } على الشدة والبلاء { شكور } في العافية والرخاء.
وقال أهل المعاني: أراد: لآيات لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
قوله تعالى: { وإذا غشيهم موج كالظلل } يريد: الكفار. وقيل: هو على
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/188)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/391).
(2) ... الكشاف (3/510).(1/88)
عمومه.
ولما كان الموج يرتفع ويتراكم شُبِّهَ بالظُّلَل، وهو جمع ظلة، والظُّلَّة: كل ظُلَل من شجر أو سحاب أو غيرهما.
قوله تعالى: { فمنهم مقتصد } متوسط في الكفر والظلم.
قال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر (1) .
وقال الكلبي: مقتصد في القول من الكفار؛ لأن بعضهم أشد قولاً وأغلا في الافتراء من بعض (2) .
وقيل: "مقتصد" بمعنى: مؤمن. قاله الحسن (3) .
وقال ابن زيد: "المقتصد": الذي هو على صلاح من الأمر (4) .
{ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } قال ابن قتيبة (5) : الخَتْرُ: أقبحُ الغدر وأشدُّه.
وأنشدوا قول عمرو بن معدي كرب:
فإنكَ لو رأيتَ أبا عُمَيرٍ ... مَلأْتَ يَدَيْكَ منْ غَدْرٍ وخَتْر (6)
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/85)، وابن أبي حاتم (9/3101). وذكره السيوطي في الدر (6/529) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/496).
(3) ... ذكره الماوردي (4/348)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/328).
(4) ... أخرجه الطبري (21/85).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:345).
(6) ... البيت لعمرو بن معد يكرب. انظر: ديوانه (ص:109)، والدر المصون (5/392)، والطبري (21/85)، والقرطبي (14/80)، وروح المعاني (21/106)، والماوردي (4/348)، والبحر (7/177)، ومجاز القرآن (2/129).(1/89)
أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي بن كنانة، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا أبو نصر المهرجاني، أخبرنا عبيدالله بن محمد الزاهد، أخبرنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز، حدثنا أبو الربيع الزهراني (1) ، حدثنا حماد بن زيد (2) ، عن أيوب، [عن] (3) ابن أبي مليكة قال: "لما كان فتح مكة هرب عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فَخَبَّ بهم البحر، فجعلت [الصَّراري] (4) ومن معه في السفينة يدعون الله تعالى ويستغيثون به، فقال: ما هذا؟ قيل: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله. فقال عكرمة: وهذا إله محمد الذي كان يدعونا إليه، ارجعوا بنا، فرجع فأسلم" (5) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّاسُ
__________
(1) ... هو سليمان بن داود العتكي، أبو الربيع الزهراني البصري الحافظ، ثقة صدوق، سكن بغداد، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/166، والتقريب ص:251).
(2) ... حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري الأزرق، مولى آل جرير بن حازم، كان ضريراً، ثقةً ثبتاً، كثير الحديث، مات سنة تسع وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 3/9-10، والتقريب ص:178).
(3) ... زيادة من مصادر التخريج.
(4) ... في الأصل: البصاري. والمثبت من مجمع الزوائد (5/5).
... والصَّراري: الملاّح (اللسان، مادة: صرر).
(5) ... أخرجه الطبراني في الكبير (17/372 ح1019). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/5)، والواحدي في الوسيط (3/447).(1/90)
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ اججب
قوله تعالى: { واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده } أي: لا يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه، ومنه قول الراعي:
[وأجْزَأتْ] (1) أمرَ العالمينَ ولم يكن ... [ليجْزِي] (2) إلا كاملٌ وابنُ كامل (3)
وقد سبق هذا المعنى، والفرق بين جزى وأجزى في البقرة.
{ فلا تغرنكم الحياة الدنيا } عن التزود لآخرتكم، { ولا يغرنكم بالله الغرور } أي: لا يغرنكم بحلم الله وإمهاله الغَرُور.
__________
(1) ... في الأصل: وأجزاب. والتصويب من مصادر البيت.
(2) ... في الأصل: لبحري. والتصويب من مصادر البيت.
(3) ... البيت للراعي، وهو في: الماوردي (4/349)، والقرطبي (1/378).(1/91)
وهو الشيطان، في قول مجاهد (1) .
والأمل بتمني المغفرة، في قول سعيد بن جبير (2) .
وقرأ سماك بن حرب: "الغُرور" بضم الغين (3) .
قال الكلبي: هو غرور الدنيا بخدعها الباطلة.
وقيل: غرور الدنيا بشهواتها الموبقة.
¨bخ) اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ اجحب
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/87)، ومجاهد (ص:506)، وابن أبي حاتم (9/3101) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/530) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (21/87). وذكره السيوطي في الدر (6/530) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/189)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/392).(1/92)
قوله تعالى: { إن الله عنده علم الساعة } سبب نزولها: أن رجلاً من أهل البادية يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبرني عن الساعة متى قيامها، وإني قد ألقيت [حباتي] (1) في الأرض وقد [أبطأت عنّا] (2) السماء فمتى تمطر، وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها ذكراً أم أنثى، وإني عملت ما عملت أمس فما أعمل غداً، وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟ فنزلت هذه الآية (3) .
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم متى [تغيض] (4) الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله" (5) .
وقال ابن عباس: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، وإياكم والكهانة، فإن الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار (6) .
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/511).
(2) ... في الأصل: أنطأت عبا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (21/87). وذكره السيوطي في الدر (6/530) وعزاه لابن المنذر عن عكرمة. وذكره الواحدي في: أسباب النزول (ص:359). وانظر لفظ المصنف في: الكشاف (3/511) واسم الرجل فيه: "الحارث" بدل: "الوارث"، والبحر المحيط (7/189) واسم الرجل فيه: الحارث بن عمارة المحاربي.
(4) ... في الأصل: غيض. والتصويب من الصحيح (2/1733).
(5) ... أخرجه البخاري (4/1733 ح4420).
(6) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/511-512).(1/93)
وقال الزجاج (1) : من ادعى أنه يعلم شيئاً من هذه فقد كَفَرَ بالقرآن؛ لأنه خالفه.
ومعنى قوله تعالى: { عنده علم الساعة } : علم قيامها.
{ وينزل الغيث } قال صاحب كشف المشكلات (2) : هذه الآية تدل على أن الظرف يشبه الفعل، ألا ترى أنه قال: "عنده علم الساعة"، فجاء بالظرف وما ارتفع به، ثم قال: "وينزل الغيث"، فعطف الفعل والفاعل على الظرف وما ارتفع به، ومثله: { نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع } [المؤمنون:21] فصدَّر بالفعل والفاعل، ثم عطف بالظرف، وأنشد:
نُقاسمُهُم أسيافَنَا شَرَّ قسمةٍ ... ففينا غَواشيها وفيهمْ صُدُورُها (3)
فصدَّرَ بالفعل والفاعل، ثم أتى بالظرف وما ارتفع به.
ويجوز أن يكون التقدير: وأن ينزل الغيث، أي: عنده علم الساعة وإنزال الغيث، فحذف "أنْ" كقوله:
............ أحْضُر الوغى ... ... ......................... (4)
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/202).
(2) ... كشف المشكلات (2/218-219).
(3) ... البيت لجعفر بن علبة الحارثي، وهو في اللسان (مادة: غشا)، وتاج العروس (مادة: غشا).
(4) ... جزء من بيت لطرفة، وهو:
... ... ... ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
... انظر: ديوانه (ص:32)، واللسان (مادة: أنن، دنا)، والبحر (7/163)، والدر المصون (1/275، 5/375)، والسبع الطوال (ص:172)، والمقتضب (2/134)، والهمع (1/6)، والخزانة (1/119).(1/94)
والمعنى: وينزل الغيث في زمانه ومكانه.
{ ويعلم ما في الأرحام } من ذكر أو أنثى، وتام وناقص، ومؤمن وكافر، وحسن وقبيح، وأبيض وأسود، إلى غير ذلك.
{ وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } من خير أو شر، وربما كانت عازمة على شيء فينقلب معكوساً، و"ماذا" ينتصب بقوله: "تكسب"، لا بقوله: "تدري"؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
{ وما تدري نفس بأي أرض تموت } قال بعض العلماء: كم من نفس أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرح أو أقبر فيها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ولا حدثتها بها ظنونها.
ويروى: أن مَلَكَ الموت عليه السلام مرّ على سليمان عليه السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، قال: [فكأنه] (1) يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح وتلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً فيه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك (2) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أراد الله عز وجل قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إن الله عنده علم الساعة } إلى قوله تعالى: { وما تدري نفس بأي أرض تموت } " (3) .
__________
(1) في الأصل: فكا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (7/70 ح34268)، وأحمد في الزهد (ص:53).
(3) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (8/206 ح8412)، وابن أبي حاتم (9/3102). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/196) وعزاه للطبراني في الأوسط. وذكره السيوطي في الدر (6/532-533) وعزاه للطيالسي وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/95)
وقال هلال بن يساف: ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها (1) .
فإن قيل: الأرض مؤنثة فكيف قال: "بأي أرض"؟
قلت: أراد بالأرض: المكان.
وقال الفراء (2) : اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يظهر في أيّ تأنيث آخر.
وقال أبو عبيدة (3) : يقال: بأي أرض [كنت] (4) ، وبأية أرض كنت، لغتان.
وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: "بأيَّةِ أرضٍ" بتاء مكسورة (5) .
قال الزمخشري (6) : شبّه سيبويه (7) تأنيث "أي" بتأنيث كل في قولهم:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/350)، والمناوي في فيض القدير (3/533) وعزاه للدينوري في المجالس.
(2) ... معاني الفراء (2/330).
(3) ... مجاز القرآن (2/129).
(4) ... في الأصل: كتب. والتصويب من مجاز القرآن، الموضع السابق. وكذا وردت في الموضع التالي.
(5) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/331)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/392).
(6) ... الكشاف (3/512).
(7) ... انظر: الكتاب (3/407).(1/96)
كلَّتهن.
قوله تعالى: { إن الله عليم خبير } قال الماوردي (1) : يحتمل وجهين:
أحدهما: عليم بالغيب خبير بالنية.
والثاني: عليم بالأفعال خبير بالجزاء. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... تفسير الماوردي (4/350-351).(1/97)
سورة السجدة
ijk
وتسمى سورة المضاجع. وهي ثلاثون آية في المدني والكوفي، وهي مكية.
واستثنى الكلبي ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: { أفمن كان مؤمناً ... إلى آخرها } (1) .
وقال مقاتل (2) : فيها آية مدنية: { تتجافى جنوبهم ... الآية } .
وقال غيرهما: فيها آيات مدنيات من قوله تعالى: { تتجافى } إلى تمام خمس آيات.
قال الزجاج (3) : روى أحمد بن حنبل بإسناد له: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل ليلة سورة السجدة "ألم تنزيل الكتاب"، وسورة تبارك الملك ".
قرأت على أبي المجد محمد بن الحسين القزويني، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي فأقر به، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... انظر: تفسير الماوردي (4/352)، وزاد المسير (6/332)، والإتقان (1/36-37)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:620).
(2) ... تفسير مقاتل (3/26).
(3) ... معاني الزجاج (4/203).(1/98)
لا ينام حتى يقرأ تبارك وألم تنزيل" (1) .
وبالإسناد قال البغوي: حدثنا المطهر بن علي، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم، أخبرنا عبدالله بن محمد المعروف بأبي الشيخ، حدثنا جعفر بن أحمد، حدثنا ابن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان وفضيل بن عياض، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ تنزيل السجدة وتبارك " (2) ، قال: هذا حديث رواه غير واحد عن ليث بن أبي سليم مثل هذا.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: " من قرأ سورة السجدة كتبت له سبعون حسنة، وحطّت عنه سبعون سيئة، ورفعت له سبعون درجة " (3) .
قال: ورفع { تنزيل الكتاب } على إضمار: الذي يتلو تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون في المعنى خبراً عن { ألم } ، أي: أن ألم هو تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء، ويكون خبر الابتداء: "لا ريب فيه".
قال الزمخشري (4) : الوجه أن يرتفع "تنزيل" بالابتداء، وخبره: { من رب العالمين } ، و { لا ريب فيه } : اعتراض لا محل له. والضمير في
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/340 ح14700). وذكره البغوي في تفسيره (3/504).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/165 ح2892).
(3) ... أخرجه الدارمي (2/546 ح3409).
(4) ... الكشاف (3/513).(1/99)
{ فيه } راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: في كونه منزلاً من رب العالمين، ويشهد لوجاهته قوله تعالى: { أم يقولون افتراه } ؛ لأن قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله تعالى: { بل هو الحق من ربك } وما فيه من تقدير أنه من الله.
$O!9# (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى(1/100)
الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ احب
قوله تعالى: { أم يقولون افتراه } أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، فأضرب عن ذلك إلى قوله: "أم يقولون افتراه" إنكاراً لقولهم.
ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك.
{ لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } وهم قريش، فإن الله تعالى لم يبعث قبل محمد رسولاً.
وما بعده سبق تفسيره.
مچخn/y‰مƒ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ادب(1/101)
قوله تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض... الآية } في معناها قولان:
أحدهما: يقضي القضاء من السماء فينزله مع الملائكة إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم من أيام الدنيا فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من سير الآدمي.
الثاني: يدبر أمر الدنيا مدة أيام الدنيا فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض.
{ ثم يعرج إليه } أي: يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام وينفرد الله تعالى بالأمر، { في يوم كان مقداره ألف سنة } وذلك في القيامة؛ لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة.
وقال مجاهد: يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى الملائكة، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى، ثم كذلك أبداً (1) .
فعلى هذه الأقوال: المراد: تدبير أمر الدنيا.
قال الزجاج (2) : ومعنى: "ثم يعرج": يصعد، يقال: عَرَجْتُ في السُّلَّم أعْرُجُ، ويقال: عَرَجَ الرجل يَعْرُجُ؛ إذا صار أعْرَج (3) .
ü"د%©!$# أَحْسَنَ كُلَّ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/92-93).
(2) ... معاني الزجاج (4/204).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: عرج).(1/102)
شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ(1/103)
تُرْجَعُونَ اتتب
قوله تعالى: { الذي أحسن كل شيء خلقه } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: "خَلْقَهُ" بسكون اللام. وقرأ الباقون بفتحها (1) .
قال الزجاج وأبو علي (2) : من أسكن اللام جاز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً دلَّ عليه ما تقدم من قوله تعالى: { أحسن كل شيء } ، فالمعنى: الذي خلق كل شيء خلقه.
الثاني: أن يكون بدلاً من "كل"، فيصير التقدير: الذي أحسن خَلْقَ كل شيء.
ومن فتح اللام فقال أبو علي (3) : جعله فعلاً ماضياً وصفاً للنكرة المتقدمة، أي: كل شيء مخلوق.
قال الزجاج (4) : فتأويل الإحسان في هذا أنه خَلَقَهُ على إرادته، فخَلَقَ الإنسان في أحسن تقويم، وخلق القرْد على ما أحب.
قال صاحب النظم: بيان ذلك: أنه لما طوّل رجل البهيمة والطائر طوّل عنقه؛ لئلا يتعذر عليه ما لا بد له من قوته، ولو تفاوت ذلك لم يكن له معاش،
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/276)، والحجة لابن زنجلة (ص:568-569)، والكشف (2/191)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:351)، والسبعة (ص:516).
(2) ... معاني الزجاج (4/204)، والحجة (3/276-277).
(3) ... الحجة (3/277).
(4) ... معاني الزجاج (4/204).(1/104)
وكذلك كل شيء من أعضاء الحيوان مقدّر لما يصلح به معاشه (1) .
قال قتادة في قوله تعالى: { أحسن كل شيء خلقه } : جعله حسناً (2) .
وقال مجاهد: أحكمه وأتقنه (3) .
والقولان متقاربان في المعنى، وهما مرويان عن ابن عباس (4) .
وقال السدي: أحسنه لم يتعلمه من أحد، كما يقال: فلان يحسن كذا؛ إذا [علمه] (5) .
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { وقالوا } يعني: منكري البعث { أإذا ضللنا في الأرض } . وقرأ ابن محيصن: "ضَلِلْنا" بكسر اللام، وهما لغتان ضَلَّ يَضِلُّ ويَضَلُّ.
وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء بضم الضاد [وتشديد اللام] (6) وكسرها (7) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/450).
(2) ... أخرجه الطبري (21/94).
(3) ... أخرجه الطبري (21/94)، وابن أبي حاتم (9/3104)، وتفسير مجاهد (ص:509).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3104)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/334).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/450)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/334). وما بين المعكوفين في الأصل: عمله. والتصويب من المصدرين السابقين.
(6) ... في الأصل: وتشد. والتصويب والزيادة من زاد المسير (6/336).
(7) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/336)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/396).(1/105)
وقرأ علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد عليهم السلام: "صَلِلْنا" بصاد مهملة وكسر اللام الأولى (1) ، ومثلهم قرأ الحسن إلا أنه فتح اللام (2) .
فمن قرأ بالضاد المعجمة؛ فقال قطرب (3) وغيره: معناه: غُيِّبْنا في الأرض، وأنشد قول النابغة:
وآبَ مُضِلُّوهُ بعينٍ جليَّة ... ... ...................... (4)
وقال أكثر المفسرين: المعنى: صِرْنا تراباً وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه (5) ، من قولهم: ضَلَّ الماء في اللبن.
ومن قرأهما بالصاد المهملة؛ فقال ابن جني (6) : صَلَّ اللحم يَصِلُّ؛ إذا أَنْتَن (7) ، وَصَلَّ يَصَلّ أيضاً -بفتح الصاد-، والكسر في المضارع أقوى اللغتين.
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/335)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/396).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:351).
(3) ... انظر قول قطرب في: تفسير الماوردي (4/356).
(4) ... صدر بيت للنابغة الذبياني، وعجزه:
... "وغُودر بالجَولان حزمٌ ونائل". انظر: ديوانه (ص:90)، واللسان (مادة: ضلل، جلا)، والبحر (7/195)، والدر المصون (5/396)، والماوردي (4/356)، والقرطبي (14/91)، والطبري (3/309)، وروح المعاني (21/124).
(5) ... ذكره الماوردي (4/356)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/335).
(6) ... المحتسب (2/174).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: صلل).(1/106)
وقيل: المعنى: صِرْنا من جنس الصَّلَّة، وهي الأرض اليابسة.
{ أئنا لفي خلق جديد } استفهام في معنى الإنكار.
وقد سبق القول في اختلاف القرّاء فيه، وأشرنا إلى العلة في ذلك.
قوله تعالى: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } أي: وُكِّلَ بقبض أرواحكم.
قال مجاهد: حُويَت الأرض لملك الموت وجعلت له مثل الطشت يتناول منها حيث يشاء (1) .
ِqs9ur تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/98)، ومجاهد (ص:510). وذكره السيوطي في الدر (6/543) وعزاه للطبري.(1/107)
وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اتحب
قوله تعالى: { ولو ترى } خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويجوز أن يكون المعنى: ولو ترى أيها السامع، وجوابه محذوف، تقديره: لرأيت أمراً فظيعاً، و"لو" و"إذ" كلاهما للمُضِيّ، وإنما جاز ذلك؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود، و"إذ" ظرف للرؤية (1) .
{ المجرمون } مبتدأ، خبره: { ناكسوا رؤوسهم } (2) ، أي: مطأطئوها حياءً وندماً، { ربنا أبصرنا وسمعنا } أي: أبصرنا صدق موعدك ووعيدك، وسمعنا منك صدق رُسُلك.
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/517).
(2) ... انظر: إعراب القرآن للنحاس (3/294).(1/108)
وقيل: المعنى: أبصرنا وسمعنا بعد أن كنا عُمْياً وصُمّاً.
قال قتادة: أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع (1) .
وفيه إضمار، تقديره: يقولون ربنا أبصرنا. وموضعه من الإعراب: النصب على الحال، أو هو خبر ثان للمبتدأ.
وفي قوله تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } إشعار بأن الإيمان والعمل الصالح منوط بمشيئة الله تعالى وتقديره وردٌّ لقولهم: { ارجعنا نعمل صالحاً } .
{ ولكن حق القول مني } قال ابن السائب: سَبَقَ القول مني (2) .
وقال غيره: وَجَبَ القول مني.
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } أي: من عُصاة الفريقين.
والقول الذي حق من الله: قوله تعالى لإبليس: { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص:85].
قوله تعالى: { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي: فذوقوا العذاب بترككم الاستعداد ليومكم هذا، أو بترككم الاستعداد ليومكم هذا، أو بترككم الإيمان به.
{ إنا نسيناكم } تركناكم في العذاب.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3105-3106). وذكره السيوطي في الدر (6/544) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (4/359).(1/109)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتذب
قوله تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها } وُعظوا وخُوِّفُوا بها { خروا سجداً } سقطوا على وجوههم ساجدين، { وسبحوا بحمد ربهم } قالوا:(1/110)
سبحان الله وبحمده، { وهم لا يستكبرون } عن تعفير وجوههم لله تعالى.
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ترتفع وتَنْبُو عنها، من قولك: جفا الشيء عن الشيء وتجافا عنه؛ إذا نبا عنه ولم يلزمه (1) .
والمضاجع: فرش النوم، ومنه قول عبدالله بن رواحة:
يبيتُ يُجافي جَنْبَهُ عنْ فِرَاشِهِ ... إذا استثقَلَتْ بالكافرينَ المضاجع (2)
{ يدعون ربهم } حال (3) ، على معنى تتجافى جنبهم داعين ربهم { خوفاً وطمعاً } لأجل خوفهم من عقابه وطمعهم في ثوابه.
قال عطاء ومجاهد: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة (4) .
أخرج الترمذي عن أنس في قوله تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } قال: "نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى: العتمة" (5) .
وأخرج أبو داود عنه قال: "كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: جفا).
(2) ... البيت لعبد الله بن رواحة، وهو في: البحر (7/197)، والدر المصون (5/398)، والطبري (21/102)، والقرطبي (5/209، 14/100، 15/52)، والماوردي (4/361)، وزاد المسير (5/362)، وروح المعاني (23/48).
(3) ... انظر: التبيان (2/190)، والدر المصون (5/398).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3106) عن أنس رضي الله عنه. وذكره الواحدي في الوسيط (3/453)، والسيوطي في الدر (6/545-546) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن مردويه.
(5) ... أخرجه الترمذي (5/346 ح3196).(1/111)
يصلون" (1) .
وقال أبو الدرداء: هم الذين يصلون العشاء والصبح في جماعة (2) .
وقال الحسن وكثير من المفسرين: هم المتهجدون بالليل (3) ، وهو اختيار الزجاج (4) ؛ لقوله تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } قال: لما كان قيام الليل عملاً يَسْتَسِرُّ الإنسان به جعل لفظ ما يجازى عليه أخفى.
وفي الحديث: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل: إن شئت أنبأتك بأبواب الخير؟ قلت: أجل يا رسول الله. قال: الصوم جُنّة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله. قال: ثم قرأ هذه الآية: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } " (5) .
قوله تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } قرأ حمزة ويعقوب والحلبي عن عبدالوارث عن أبي عمرو: "أُخْفِيْ" بسكون الياء، وحرّكها الباقون بالفتح (6) . فمن أسكن الياء جعله فعلاً مستقبلاً، على معنى:
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (2/35 ح1321) وفيه: "يتيقظون"، بدل: "يتنفلون".
(2) ... ذكره الماوردي (4/363)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/339).
(3) ... أخرجه الطبري (21/101). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:362)، والسيوطي في الدر (6/548) وعزاه لابن نصر وابن جرير.
(4) ... انظر: معاني الزجاج (4/207).
(5) ... أخرجه الترمذي (5/11 ح2616)، وأحمد (5/231 ح22069)، والحاكم (2/447 ح3548).
(6) ... الحجة للفارسي (3/277)، والحجة لابن زنجلة (ص:569)، والكشف (2/191)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:352)، والسبعة (ص:516).(1/112)
ما [أخفي] (1) أنا لهم، ومن فتحها جعله فعلاً ماضياً لم يُسَمّ فاعله.
و"ما" استفهامية، أو بمعنى: الذي.
وقرأ ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو هريرة: "منْ قُرَّاتِ أعين" على الجمع (2) .
قال ابن عباس: هذا مما لا تفسير له، والأمر أعظم وأجلّ مما يُعرف تفسيره (3) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } " (4) .
قال الزجاج (5) : { جزاء بما كانوا يعملون } : مفعول له.
`yJsùr& كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا
__________
(1) ... في الأصل: أو خفي.
(2) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/340)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/398)، والبناء في: إتحاف فضلاء البشر (ص:352).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/453).
(4) ... أخرجه البخاري (3/1185 ح3072)، ومسلم (4/2174 ح2824).
(5) ... معاني الزجاج (4/208).(1/113)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ(1/114)
أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ اثثب
قوله تعالى: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } السبب في نزولها: ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أحدُّ منك سناناً، وأبسطُ منك لساناً، وأملأُ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال شريك: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل (2) .
قال الزجاج (3) : "مَنْ" لفظها لفظ الواحد، وهي تدل على الواحد وعلى الجماعة، فجاء "لا يستوون" على معنى: لا يستوي المؤمنون والكافرون.
ويجوز أن يكون "لا يستوون" للاثنين؛ لأن معنى الاثنين معنى
__________
(1) ... أخرجه ابن عدي في الكامل (6/118)، والخطيب في تاريخه (13/321)، وأبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني (5/153). وذكره الواحدي في الوسيط (3/454)، وأسباب النزول (ص:363)، والسيوطي في الدر (6/553) وعزاه لأبي الفرج في كتاب الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/341).
(3) ... معاني الزجاج (4/208).(1/115)
الجماعة.
ثم أخبر عن منازل المقربين فقال: { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى } .
وقرأ ابن مسعود: "جَنَّةُ المأوى" (1) .
وقرأ الحسن والنخعي والأعمش: "نُزْلاً" بسكون الزاي (2) ، وذلك كله.
والذي بعده مُفَسَّرٌ إلى قوله: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } أخرج مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب في قوله: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } قال: " مصائب الدنيا، والروم، والبطشة أو الدخان. شَكَّ شُعبة في البطشة أو الدخان " (3) .
قال ابن مسعود وقتادة: ما أصابهم يوم بدر (4) .
وقال النخعي: سنون أخذوا بها (5) .
قال مقاتل (6) : أخذوا بالجوع سبع سنين.
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/341)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/399).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه مسلم (4/2157 ح2799).
(4) ... أخرجه الحاكم (2/449 ح3551)، والطبراني في الكبير (9/213 ح9038)، والطبري (21/109)، وابن أبي حاتم (9/3110) كلهم عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر (6/554) وعزاه للفريابي وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود.
(5) ... أخرجه الطبري (21/110).
(6) ... تفسير مقاتل (3/30).(1/116)
وقال مجاهد: القتل والجوع (1) .
وكل هذه الأقوال داخلة في قول أبي بن كعب.
قال الزجاج (2) : وجملته: أن كل ما يعذَّبُ به في الدنيا فهو العذاب الأدنى، والعذاب الأكبر: عذاب الآخرة.
وقال البراء: العذاب الأدنى: عذاب القبر (3) .
وقال جعفر بن محمد: العذاب الأدنى: غلاء السعر، والأكبر: خروج المهدي بالسيف (4) .
{ لعلهم يرجعون } إلى الإيمان والطاعة.
قوله تعالى: { ثم أعرض عنها } قال صاحب الكشاف (5) : "ثم" هاهنا للاستبعاد. والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد [في العقل والعادة] (6) ، كما تقول لصاحبك: وجدت [مثل] (7) تلك الفرصة ثم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/110)، ومجاهد (ص:511). وذكره السيوطي في الدر (6/555) وعزاه للفريابي وابن جرير.
(2) ... معاني الزجاج (4/208).
(3) ... ذكره الماوردي (4/365)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/341).
(4) ... ذكره الماوردي (4/365).
(5) ... الكشاف (3/522).
(6) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: منك. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/117)
لم تنتهزها؛ استبعاداً لتركه الانتهاز. ومنه "ثُمَّ" في بيت الحماسة:
لا يكشفُ [الغَمَّاءَ] (1) إلا ابن حُرّةٍ ... ... يَرَى غَمَراتِ الموْتِ ثُمَّ يَزُورُها (2)
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن [رآها] (3) واستيقنها واطلع على شدتها.
فإن قلت: هلاَّ قيل: إنا منه منتقمون؟
قلتُ: لما جعله أظلم من كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر [من] (4) الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
ô‰s)s9ur آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ ¾دmح !$s)دj9 وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) (23)
__________
(1) ... في الأصل: الغمات. والتصويب من مصادر البيت.
(2) ... البيت لجعفر بن علبة الحارثي. انظر: الحماسة البصرية (1/150)، والبحر المحيط (7/199)، والكشاف (3/522).
(3) ... في الأصل: زارها. والمثبت من الكشاف (3/522).
(4) ... في الأصل: عن. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.(1/118)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ Zp£Jح r& يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اثخب
قوله تعالى: { فلا تكن في مرية من لقائه } اختلفوا في تأويلها؛ فقال أبو العالية ومجاهد وقتادة: المعنى: فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى (1) .
قال المفسرون: وعد - صلى الله عليه وسلم - أن يلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه ليلة الإسراء على ما صَحَّتْ به الأخبار (2) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/112)، ومجاهد (ص:511)، وابن أبي حاتم (9/3110). وذكره السيوطي في الدر (6/556) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي العالية. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الماوردي (4/366)، والواحدي في الوسيط (3/455).
... ولقاء موسى عليه السلام بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - تم في ليلة الإسراء والمعراج في السماء، وراجعه موسى عليه السلام عدة مرات في فريضة الصلاة حتى خففت من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، وقد أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء (1/135-136 ح342).(1/119)
قال الزجاج (1) : الذي جاء في التفسير: لا تكن في شك من لقاء موسى، ودليله: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } [الزخرف:45]، فالمعنى: فلا تكن يا محمد في مرية من لقائه، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الخطاب له ولأمته في هذا الموضع، أي: فلا تكونوا في شك من لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - موسى.
قال الزجاج (2) : وقيل أيضاً: "فلا تكن في مرية من لقائه": أي: من لقاء موسى الكتاب (3) ، وتكون الهاء "للكتاب"، ويكون في "لقائه" ذكر موسى.
ويجوز أن تكون الهاء لـ"موسى"، و"الكتاب" محذوف؛ لأن ذكر الكتاب قد جرى كما جرى ذكر موسى - صلى الله عليه وسلم - .
قال (4) : وهذا والله تعالى أعلم أشبه بالتفسير.
وقال أبو علي الفارسي (5) : وفي ذلك مدح له - صلى الله عليه وسلم - على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل.
وقيل: فلا تكن في مرية لقاء موسى ربه.
وقيل: من لقاء الأذى كما لقي موسى.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/209).
(2) ... معاني الزجاج (4/209).
(3) ... لقائه: بمعنى: تلقّيه.
(4) ... أي: الزجاج (4/209).
(5) ... لم أقف عليه في الحجة.(1/120)
{ وجعلناه } يريد: الكتاب، في قول الحسن (1) .
وموسى، في قول قتادة (2) .
{ هدى لبني إسرائيل * وجعلنا منهم أئمة } أي: من بني إسرائيل أئمة قادة في الخير، وهم العالمون العاملون.
وقيل: الأنبياء.
{ يهدون بأمرنا } يدعون الناس إلى العمل بما في التوراة، { لما صبروا } . وقرأ حمزة والكسائي: "لِمَا" بكسر اللام وتخفيف الميم (3) . وبها قرأتُ أيضاً ليعقوب من رواية رويس عنه.
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود: "بما صبروا" (4) ، جعلوا "ما" مصدرية، على معنى: جعلناهم أئمة لصبرهم.
ومن شدَّد جعل "لمّا" بمعنى: حين.
وقال أبو علي (5) : جعله كالمجازاة، إلا أن الفعل المتقدم أغنى عن الجواب، كما أنك إذا قلت: أجيئُكَ إن جئت، تقديره: إن جئت أجِئْك،
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/366)، والواحدي في الوسيط (3/455) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/344).
(2) ... أخرجه الطبري (21/112). وذكره الماوردي في تفسيره (4/366)، والسيوطي في الدر (6/556).
(3) ... الحجة للفارسي (3/278)، والحجة لابن زنجلة (ص:569)، والكشف (2/192)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:352)، والسبعة (ص:516).
(4) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/344)، وأبو حيان في: البحر (7/200).
(5) ... الحجة (3/278).(1/121)
[فاستغنيت] (1) عن الجواب بالفعل المتقدم على الشرط.
قوله تعالى: { إن ربك هو يفصل بينهم } أي: بين الأنبياء وأممهم، أو بين المؤمنين والكافرين، ودخلت "هو" هاهنا فَصْلاً، ومثله: { ومكر أولئك هو يبور } [فاطر:10]، وقوله تعالى: { هو يقبل التوبة عن عباده } [التوبة:104].
ِNs9urr& يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ اثذب
__________
(1) ... في الأصل: فإن استغنيت. والتصويب من الحجة، الموضع السابق.(1/122)
قوله تعالى: { أو لم يَهْدِ لهم } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: "نَهْدِ" بالنون (1) . وقد سبق تفسيره في آخر طه (2) .
والضمير في قوله: { لهم } لأهل مكة، { يمشون } . وقرئ شاذاً: "يُمَشُّونَ" بالتشديد (3) ، { في مساكنهم } أي: يمرّون في متاجرهم على مساكنهم.
قوله تعالى: { أو لم يروا أنا نسوق الماء } المطر أو السيل { إلى الأرض الجرز } قال الزمخشري (4) : هي التي جُرِزَ نباتها، أي: قُطِعَ؛ إما لعدم الماء، وإما لأنه رعي وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جُرُز. ويدل عليه قوله: { فنخرج به زرعاً } .
ڑcqن9qà)tƒur مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/344).
(2) ... عند الآية رقم: 128.
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (6/267)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/64).
(4) ... الكشاف (3/523).(1/123)
إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ اجةب
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الفتح } قد ذكرنا فيما مضى أن الفتح يكون بمعنى: القضاء والحكم، ويكون بمعنى: النصر.
فإن أريد الأول -وهو قول أكثر المفسرين- كان المعنى: ويقول كفار مكة تكذيباً واستهزاء واستبعاداً: متى هذا القضاء والقصد الكائن بين المؤمنين والكافرين (1) . يريدون: يوم القيامة، أو يوم وقوع الحكم بعذابهم في الدنيا، على قول السدي (2) .
وإن أريد الثاني؛ فالمعنى: متى فتح مكة ونصركم عليها. وهذا قول ابن السائب والفراء وابن قتيبة (3) .
فإن قيل: كيف يصح هذا القول والله تعالى يقول: { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم } وإيمان من آمن يوم فتح مكة نافع لهم؟
قلتُ: المعنى: لا ينفع الذين إيمانهم في حال القتل ومعاينة سلطان
__________
(1) ... ذكره الطبري (21/116)، والماوردي (4/368)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/344).
(2) ... ذكره الماوردي (4/368)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/345).
(3) ... معاني الفراء (2/333)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:347)، وتفسير الماوردي (4/368)، وزاد المسير (6/345).(1/124)
الموت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق.
وقال ابن عباس: المعنى: لا ينفع من قتل من الكفار يومئذ إيمانهم بعد الموت (1) .
وقيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " (2) ، وكان خالد بن الوليد دخل من غير الطريق التي دخل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلقيه جماعة منهم سهيل بن عمرو فقاتلوه، فصاح خالد في أصحابه، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلاً من قريش، وأربعة من هذيل وانهزموا، وجعل يقتل من لقي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل إليه: ارفع السيف، والقدرة الإلهية توقع في سمعه، ضع السيف (3) .
إذا ثبت ذلك فنقول: يقال: آمنتُ فلاناً إيماناً وأماناً.
فالمعنى: لا ينفعهم إيمانهم الذي جعل لهم، ولا يدفع عنهم العذاب النازل بهم.
{ ولا هم ينظرون } لا يمهلون لمعذرة أو توبة.
{ فأعرض عنهم } قال ابن عباس: منسوخ بآية السيف (4) .
{ وانتظر } النصرة عليهم ومواعيدي فيهم بالهلاك، { إنهم منتظرون } هلاكك.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/456).
(2) ... أخرجه مسلم (3/1407 ح1780).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/345).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/456)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/346).(1/125)
وقرأ ابن السميفع: "إنهم مُنْتَظَرُون" بفتح الظاء (1) ، على معنى: إنهم أحق أن ينتظروا هلاكهم، أو أن الملائكة ينتظرونه.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/200)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/400).(1/126)
سورة الأحزاب
ijk
وهي ثلاث وسبعون آية، وهي مدنية بإجماعهم.
أخبرنا شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة، أخبرنا الشيخ أبو محمد عبدالقادر بن أبي صالح الجيلي، أخبرنا أحمد بن مظفر بن سوسن التمار، أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز، أخبرنا أبو بكر (1) محمد بن العباس بن نجيح، حدثنا يعقوب بن يوسف (2) ، حدثنا القاسم بن الحكم (3) ، حدثنا مسعر (4) ، عن عاصم، عن زر (5) ، عن أبي بن كعب قال: "كم آية تدعون سورة الأحزاب؟ قال: اثنين
__________
(1) ... في الأصل زيادة لفظة: "بن". وهو خطأ، انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (3/118)، وسير أعلام النبلاء (15/513-514).
(2) ... يعقوب بن يوسف بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب بن الضحاك، أبو عمرو القزويني، كان ثقة (تاريخ بغداد 14/286).
(3) ... القاسم بن الحكم بن كثير بن جندب بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن إبراهيم بن كعب العرني، أبو أحمد الكوفي، قاضي همدان، صدوق فيه لين، مات سنة ثمان ومائتين (تهذيب التهذيب 8/279، والتقريب ص:449).
(4) ... مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالي العامري الرواسي، أبو سلمة الكوفي، أحد الأعلام، ثقة ثبت فاضل، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 10/102-103، والتقريب ص:528).
(5) ... زر بن حبيش بن حباشة بن أوس بن بلال، وقيل: هلال الأسدي، أبو مريم، ويقال: أبو مطرف الكوفي، مخضرم أدرك الجاهلية، كان عالماً بالقرآن قارئاً فاضلاً، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين (تهذيب التهذيب 3/277، والتقريب ص:215).(1/127)
وسبعين أو ثلاثاً وسبعين، قال: فقال: كانت توازي سورة البقرة وأكثر. وقد قرأتُ فيها: الشيخ والشيخة [إذا زنيا فـ] (1) ـارجموهما البتة نكالاً من الله" (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا اجب
قال الله تعالى: { يا أيها النبي اتق الله } أي: دُمْ على التقوى، أو ازْدَدْ منه، أو هو مما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد: أمته.
__________
(1) ... زيادة من مسند أحمد (5/132).
(2) ... أخرجه أحمد (5/132 ح21245).(1/128)
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } لا تقبل لهم [رأياً] (1) ولا مشورة.
قال المفسرون: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبني قينقاع، وكان قد بايعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه ويسمع منهم، وقدم عليه في الموادعة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السلمي، فقالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع وندعك وربك، وأعانهم على ذلك القول رؤساء المنافقين.
ويروى: أن أهل مكة حين قدموا المدينة نزلوا على عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب بن قشير، فلما عرضوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا، همّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بقتلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
فيُخَرَّجُ في قوله تعالى وجه آخر: أي: اتق الله في نقض العهد.
{ إن الله كان عليماً } بالصواب والخطأ، أو بما يكون منهم، { حكيماً } في تدبيره.
{ واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما يعملون خبيراً } قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث: "يعملون خبيراً" يريد: الكافرين والمنافقين، وكذلك: "بما يعملون بصيراً" (3) بالياء فيهما على المغايبة، وقرأ الباقون بالتاء (4) .
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/527).
(2) ... ذكره الماوردي (4/369)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/347).
(3) ... عند الآية رقم: 9 من سورة الأحزاب.
(4) ... الحجة للفارسي (3/279)، والحجة لابن زنجلة (ص:570)، والكشف (2/193)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:352)، والسبعة (ص:518-519).(1/129)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ ِNخgح !$t/Ky هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ(1/130)
فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اخب
قوله تعالى: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } قال ابن عباس: كان المنافقون يقولون: إن لمحمد قلبين، قلباً مع أصحابه وقلباً معنا، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال السدي وكثير من المفسرين: نزلت في جميل بن معمر الفهري (2) ، وكان وقاداً ظريفاً لبيباً حافظاً لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فكانت قريش تسميه ذا القلبين، فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم جميل بن معمر، فتلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده وأخرى في رجله، فقال: يا معمر: ما حال الناس؟ قال: انهزموا. قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/348 ح3199) وقال: هذا حديث حسن، وأحمد (1/267 ح2410)، والطبري (21/118)، والحاكم (2/450 ح3555)، والضياء المقدسي في المختارة (9/539-540 ح528). وذكره السيوطي في الدر (6/561) وعزاه لأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3112).(1/131)
رجلك؟ فقال: ما شعرت إلا [أنهما] (1) في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده (2) .
وقال الزجاج (3) : أكثر ما جاء في التفسير: أن عبدالله بن خطل كانت تسميه قريش: ذا القلبين.
وروي أنه كان يقول: إن لي قلبين أفهمُ بكل واحد منهما أكثر ما يَفهم محمداً، فأكذبه الله تعالى فقال: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } (4) .
ثم قَرَنَ هذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له فقال تعالى: { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أمّاً، وكانت الجاهلية تُطَلِّقُ بهذا الكلام، فأنزل الله تعالى كفارة الظّهار في سورة المجادلة.
ومعنى الكلام: وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن كأمهاتكم في التحريم. وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم الظِّهار وأحكامه في سورة المجادلة.
واختلف القُرّاء في قوله تعالى: { اللائي } ؛ فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بتحقيق الهمزة وياء ساكنة بعدها، وكذلك قالون وقنبل إلا أنهما اجتزءا بالكسرة عن الياء. وقرأ أبو عمرو والبزي ووَرْش بتخفيف الهمزة من غير
__________
(1) ... في الأصل: نهما.
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:365)، وزاد المسير لابن الجوزي (6/349).
(3) ... معاني الزجاج (4/213-214).
(4) ... أخرجه الطبري (21/118) وذكره الماوردي (4/370).(1/132)
ياء بعدها (1) .
قال أبو علي (2) : القياس أن تُجْعَل بين بين.
وقال بعض أصحاب ابن مجاهد: كان ابن كثير وأبو عمرو يقرآن بتخفيف الهمزة فتصير ياء ساكنة، وزعم أنه كذلك ضبط، وكذلك اختلافهم في التي في المجادلة (3) والطلاق (4) .
قال أبو علي (5) : من قرأ بإثبات الياء فهو القياس؛ لأن اللائي وزنه: فَاعِل، مثل: شائي.
ومن حذف الياء فقال مكي (6) : اجتزأ بالكسرة عنها؛ كالقاض والغاز. والذين أسكنوا الياء [خفَّفُوا] (7) الهمزة على البدل، فأبدلوا منها ياء مكسورة، وأسكنوا الياء تخفيفاً. ومن كسر الياء أتى بها على أصل البدل.
وقرأ عاصم: "تُظاهِرون" بضم التاء والتخفيف مع الألف وكسر الهاء. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء والهاء وتخفيف الظاء مع الألف، ومثلهما قرأ ابن عامر، إلا أنه شدد الظاء. وقرأ الباقون بتشديد الظاء والهاء من غير
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/279)، والحجة لابن زنجلة (ص:571)، والكشف (2/193)، والنشر (1/404)، والإتحاف (ص:352)، والسبعة (ص:518).
(2) ... الحجة (3/279-280).
(3) ... عند الآية رقم: 2.
(4) ... عند الآية رقم: 3.
(5) ... الحجة (3/279).
(6) ... الكشف عن وجوه القراءات السبع (2/193).
(7) ... في الأصل: حققوا. والتصويب من الكشف، الموضع السابق.(1/133)
ألف (1) .
قوله تعالى: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } قال مجاهد: كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً، فيأتي الرجل ذا القوة والشرف فيقول: أنا ابنك، فيقول: نعم، فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهلها، وكان زيد بن حارثة منهم، قد تبنّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كان يصنع أهل الجاهلية، فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله تعالى أن يلحقوهم بآبائهم، فقال تعالى: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } (2) .
وقال جماعة من المفسرين: نزلت في زيد بن حارثة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبنّاه، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش -وكانت تحته-، قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله تعالى هذه الآية (3) .
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: "ما كنا ندعوا زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزل: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } " (4) .
والأدْعِياء: جمع دَعِيّ، وهو الذي يدعى ابناً لغير أبيه.
{ ذلكم قولكم بأفواهكم } أي: ذلكم النسب هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/280)، والحجة لابن زنجلة (ص:572)، والكشف (2/194)، والنشر (2/347)، والإتحاف (ص:353)، والسبعة (ص:519).
(2) ... أخرج مجاهد في تفسيره (ص:513) قال: نزلت في زيد بن حارثة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - تبناه.
(3) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:365)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/351).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1795 ح4504).(1/134)
ولا صحة.
{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } أي: الطريق المستقيم.
ثم قال ما هو من الحق وهدى، إلى ما هو من السبيل المستقيم؛ فقال تعالى: { ادعوهم لآبائهم } أي: انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم، { هو أقسط عند الله } أي: أعدل عند الله، { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم } أي: فهم إخوانكم { في الدين ومواليكم } أي: أولياؤكم فيه فقل: يا أخي ويا مولاي. ولما نزلت هذه الآية نسبوا إلى آبائهم؛ كالمقداد كان ينتسب إلى الأسود، فرُدَّ إلى أبيه عمرو، وزيد رُدَّ إلى أبيه حارثة، ومن لم يكن له أب معلوم قيل له: مولى فلان؛ كسالم مولى أبي حذيفة.
{ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } قال مجاهد: فيما أخطأتم من ذلك قبل النهي، { ولكن ما تعمدت قلوبكم } بعد النهي (1) .
وقال قتادة: لو دعوتَ رجلاً لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه ليس عليك بأس، ولكن الإثم في الذي تعمدت قلوبكم من دعائهم إلى غير آبائهم (2) .
ويجوز عندي أن يكون المراد: ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به مما تبادرت إليه ألسنتكم من دعائكم إياهم لغير آبائهم جَرْياً على عادتكم، ولكن ما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/121)، ومجاهد (ص:513)، وابن أبي حاتم (9/3114). وذكره السيوطي في الدر (6/565) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (21/121)، وابن أبي حاتم (9/3114). وذكره السيوطي في الدر (6/565) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/135)
تعمدت قلوبكم من ذلك.
قوله تعالى: { ما تعمدت } في موضع جرّ عطفاً على "ما" الأولى.
{ وكان الله غفوراً } لما كان منكم قبل النهي، أو لما قلتموه خطأ ونسياناً على المعنى الذي ذكرته، أو لما كان منكم في الشرك، { رحيماً } بكم في الإسلام.
گسة<¨Z9$# أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى Nن3ح !$uٹد9÷rr& مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ(1/136)
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ارب
قوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } قال ابن عباس: إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعة أنفسهم (1) .
وقال مقاتل بن حيان: أولى بهم من بعضهم ببعض (2) .
وقال عكرمة: كان في الحرف الأول: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/459)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/352).
(2) ... ذكره الماوردي (4/373).(1/137)
وهو أبوهم" (1) .
وفي قراءة مجاهد: "وهو أبٌ لهم" (2) .
وحكى النقاش: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس في غزوة تبوك، فقال ناس: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية (3) .
قرأتُ على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبدالرزاق بن عبد القادر الجيلي الحنبلي، أخبرتكم شهدة بنت أحمد بن الفرج الكاتبة فأقرّ به، قالت: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبدالسلام بن أحمد الأنصاري، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني قال: سمعت أبا القاسم عبدالله بن إبراهيم بن يوسف الجرجاني الأبندوني يقول: أخبرني محمد بن سعيد بن هلال الرسعني، حدثنا المعافى بن سليمان، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من مؤمن إلا وأنا [أولى] (4) الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالاً فلورثته
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3115). وذكره الماوردي (4/373)، والسيوطي في الدر المنثور (6/567) وعزاه لابن أبي حاتم. وفيهم: وهو أبٌ لهم.
(2) ... أخرجه الطبري (21/122)، ومجاهد (ص:514)، وابن أبي حاتم (9/3115). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/567) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الماوردي (4/373).
(4) ... زيادة من الصحيح. وقد كتب في الهامش: لعله: أولى.(1/138)
عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه" (1) . هذا حديث اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحيهما، فرواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح، عن أبيه، وعن عبدالله بن محمد، عن أبي [تميلة] (2) ، عن فليح.
قوله تعالى: { وأزواجه أمهاتهم } في تحريمهن ووجوب تعظيمهنّ وإكرامهنّ وهنّ أجانب فيما عدا تحريم النكاح في سائر الأحكام.
وإلى هذا المعنى أشارت عائشة رضي الله عنها في قولها لامرأة قالت لها: يا أمه: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم (3) .
وإلى هذا المعنى ذهب عامة أهل العلم.
وقد حكى الماوردي (4) في ثبوت المحرمية وإباحة النظر إليهن وجهاً لهم. وهو بعيدٌ من الصواب؛ لأن تحريم نكاحهن كان إجلالاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظاً له، فتبقى سائر الأحكام مقتضى الدليل الأصلي، وغير خافٍ على من له أنسة بعلم النقل ما كان عليه أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التستر
__________
(1) ... أخرجه البخاري (2/845 ح2269، 4/1795 ح4503)، ومسلم (3/1237 ح1619).
(2) ... في الأصل: تمام، وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه. وهو: يحيى بن واضح، أبو تميلة الأنصاري مولاهم المروزي الحافظ، ثقة محمود الرواية (تهذيب التهذيب 11/258، والتقريب ص:598).
(3) ... أخرجه البيهقي في سننه (7/70 ح13200)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/65، 67، 178، 200). وذكره السيوطي في الدر (6/567) وعزاه لابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه.
(4) ... تفسير الماوردي (4/374).(1/139)
والاحتجاب بعد نزول الحجاب.
وكانت عائشة بعد الحجاب إذا أرادت دخول رجل عليها، أمرت أختها أسماء أو غيرها ممن تنتشر حرمة الرضاع بينها وبينه برضاعه منها فترضعه استدلالاً بحديث امرأة أبي حذيفة في إرضاعها سالماً مولاه وهو رجل، وأبى ذلك -أعني: القول بانتشار حرمة مثل هذا الرضاع- سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة الفقهاء.
قوله تعالى: { وأولوا الأرحام } مُفسّرٌ في آخر سورة الأنفال إلى قوله تعالى: { من المؤمنين والمهاجرين } يريد: أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالهجرة والإيمان، كما كانوا يفعلون قبل النسخ.
فعلى هذا القول: "مِن" لابتداء الغاية. ويجوز أن يكون قوله: "من المؤمنين" بياناً "لأولي الأرحام" على معنى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب.
قوله تعالى: { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } قال الزمخشري (1) : هذا استثناء من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول: القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية.
والمراد بفعل المعروف: التوصية، فإنه لا وصية لوارث، وعُدّي "تفعلوا" بـ"إلى"، لأنه في معنى: تُسْدُوا وتزكوا. والمراد بالأولياء:
__________
(1) ... الكشاف (3/532).(1/140)
المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين.
وقال الزجاج (1) -وهو مذهب عامة المفسرين-: هذا استثناء ليس من الأول. والمعنى: ليكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً.
{ كان ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآيتين جميعاً { في الكتاب } وهو اللوح المحفوظ { مسطوراً } .
قوله تعالى: { وإذ أخذنا } أي: واذكر إذ أخذنا { من النبيين ميثاقهم } بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى التوحيد والطاعة، وإيمان بعضهم ببعض، { ومنك } يا محمد، { ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى } ولما كان هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء المشهورين؛ قدّم أفضلهم، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الزجاج (2) : جاء في التفسير: إني خُلِقْتُ قبل الأنبياء وبُعثتُ بعدهم.
قال (3) : فعلى هذا القول لا تقديم في هذا الكلام ولا تأخير، وهو على نسقه.
وأخذَ الميثاق من حيث أخرجوا من صُلب آدم عليه السلام كالذَّر.
ومذهب أهل اللغة: أن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن المذكور أولاً لا يستقيم أن يكون معناه التأخير. فالمعنى على مذهب أهل اللغة: ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى [ومنك] (4) . ومثله: قوله تعالى:
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/216).
(2) ... معاني الزجاج (4/216-217).
(3) ... أي: الزجاج.
(4) ... في الأصل: وصفك. والتصويب من معاني الزجاج (4/217).(1/141)
{ واسجدي واركعي مع الراكعين } [آل عمران:43].
قوله تعالى: { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } أي: عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا، وهو اليمين بالله.
وقيل: أراد بالميثاق: الذي قبله.
{ ليسأل الصادقين عن صدقهم } أي: أخذنا ميثاقهم ليسأل الصادقين، وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغهم.
ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم: تبكيت مكذبيهم. وهذا معنى قول الزجاج (1) .
وقيل: ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم.
{ وأعدّ للكافرين } عطف على ما دلّ عليه "ليسأل" (2) ، كأنه قال: فأثاب المؤمنين، وأعدّ للكافرين { عذاباً أليماً } .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
__________
(1) ... انظر: معاني الزجاج (4/217).
(2) ... ويجوز أن يكون معطوفاً على "أخذنا"؛ لأن المعنى: أن الله أكدّ على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين (انظر: الدر المصون 5/404).(1/142)
رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا اتةب
قوله تعالى: { اذكروا نعمة الله عليكم } قال ابن عباس: يعني: يوم الأحزاب (1) ، حين أنعم عليهم بالصبر ثم بالنصر (2) .
{ إذ جاءتكم جنود } وهم الأحزاب الذين تحزبوا وتجمعوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش وغطفان وبني قريظة أيام الخندق، وعليهم أبو سفيان بن حرب.
{ فأرسلنا عليهم ريحاً } قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3116).
(2) ... ذكره الماوردي (4/378).(1/143)
يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم (1) .
قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نُصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور" (2) .
{ وجنوداً لم تروها } وقرأ النخعي وابن السميفع: "يَرَوْها" بالياء (3) ، وهم الملائكة عليهم السلام.
وفيما صنعوا أربعة أقوال؛ حكاها الماوردي (4) وغيره:
أحدها: أنهم فرقوا كلمة المشركين وأقعدوا بعضهم عن بعض.
والثاني: أنهم أوقعوا الرعب في قلوبهم. حكاه ابن شجرة.
الثالث: أنهم قووا قلوب المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم.
الرابع: أنهم قلعوا الأوتاد، وقطعوا الأطناب، وأطفؤوا النيران، وكبّروا في جوانب العسكر، فقال طلحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد سحركم فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.
قال العلماء بالتفسير والسير: لما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقبالهم أمر بحفر
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/128)، ومجاهد (ص:515)، وابن أبي حاتم (9/3117)، وأبو الشيخ في العظمة (4/1342 ح85458). وذكره السيوطي في الدر (6/573) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة والبيهقي.
(2) ... أخرجه البخاري (1/350 ح988)، ومسلم (2/617 ح900).
(3) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في: زاد المسير (6/357)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/404).
(4) ... تفسير الماوردي (4/379).(1/144)
الخندق، وكان ذلك من رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف فضرب بعسكره الخندق بينه وبين المشركين، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام (1) ، واشتد الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ونحن لا نقدر نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وغطفان ومن تابعهم من أهل نجد في ألف، وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم قريظة والنضير، ومكثوا نحواً من شهر، ولم يجر بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة (2) .
وفي الحديث: " أن شاباً قال لحذيفة بن اليمان: هل رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إي والله لقد رأيته، قال: والله لو رأيناه لحملناه على رقابنا وما تركناه يمشي على الأرض، فقال له حذيفة: يا ابن أخي، أفلا أحدثك عني وعنه؟ قال: بلى، قال: والله لو رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلا الله، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ما شاء الله من الليل، فقال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة، فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف والجهد والجوع والبرد، ثم صلى ما شاء الله، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة، قال حذيفة: فوالله ما قام منا أحد
__________
(1) ... الآطام: جمع أُطُم: حِصْنٌ مبنيٌ بالحجارة. وقيل: هو كل بيت مربّع مسطّح (اللسان، مادة: أطم).
(2) ... أخرج نحوه الطبري (21/130-131). وانظر: تاريخ الطبري (2/93-94).(1/145)
مما بنا من الجهد والخوف والجوع والبرد، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة، فوالله ما قام منا أحد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا حذيفة، فلم أجد بداً من إجابته، فقلت: لبيك يا رسول الله، قال: اذهب فجئني بخبر القوم، ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع، قال: فأتيت القوم وكأني أمشي في حَمّام، فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل، لا يستمسك لهم بناء ولا تثبت لهم نار، ولا تطمئن لهم قدر، فإني لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثم قال: يا معاشر قريش لينظر أحدكم مَنْ جليسه، قال حذيفة: فبدأت بالذي إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، قال: ثم دعا أبو سفيان براحلته، فقال: يا معاشر قريش! والله ما أنتم بدار مقام، لقد هلك الخف والحافر (1) ، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء، ولا تثبت لنا نار، ولا تطمئن قدر، ثم عجل وركب راحلته وإنها لمعقولة ما حلّ عقالها إلا بعدما ركبها، قال: فقلت في نفسي: لو رميت عدو الله فقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي ثم وضعت السهم في كبد القوس وأنا أريد أن أرميه فأقتله، فذكرتُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحدثن شيئاً حتى ترجع، قال: فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكأني أمشي في حَمّام، فأتيته وهو يصلي، فلما سمع وجسي فرج بين رجليه فدخلت تحته وأرسل عليّ طائفة من مَرْطه (2) ، فركع وسجد، ثم قال:
__________
(1) ... هلك الخف والحافر: خف الجمل وحافر الفرس. والمعنى: أنهم ذبحوا الجمال لأكلها وهلكت الفرسان لقلة المرعى ولوجودها في ساحة القتال.
(2) ... المرط: كساء من خز أو صوف أو كتان (اللسان، مادة: مرط).(1/146)
ما الخبر؟ فأخبرته، فضحك حتى بدت ثناياه في سواد الليل " (1) .
قوله تعالى: { إذ جاؤوكم من فوقكم } أي: من فوق الوادي من قبل المشرق: قريظة والنضير وغطفان، { ومن أسفل منكم } من قبل المغرب من ناحية مكة: أبو سفيان ومن معه من قريش، { وإذا زاغت الأبصار } مَالَتْ عن كل شيء ولم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب.
وقيل: مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصاً.
{ وبلغت القلوب الحناجر } جمع حَنْجَرَة، وهي رأس الغَلْصَمَة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب.
قال قتادة: شخصت عن مكانها (2) .
قال الفراء (3) : جَبُنُوا وَجَزَعَ أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه: أن تنتفخ رئته، وإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انْتَفَخَ سَحْرُه.
وقيل: إنه مَثَلٌ مضروب لشدة الخوف، وإن لم تزل القلوب عن أماكنها.
قال أبو سعيد الخدري يوم الخندق: " يا رسول الله! هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر، قال: قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/127-128) عن محمد بن كعب القرظي. وذكره ابن هشام في: السيرة النبوية (4/190-192)، والواحدي في: الوسيط (3/460-461).
(2) ... أخرجه الطبري (21/131)، وابن أبي حاتم (9/3119). وذكره السيوطي في الدر (6/576) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... معاني الفراء (2/336).(1/147)
قال: فقلناها، [فضرب] (1) وجوه أعداء الله بالريح فهزموا " (2) .
قوله تعالى: { وتظنون بالله الظنون } قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر: "الظُّنُونَا" و"الرسولا" و"السبيلا" بألف فيهن في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالين. وقرأ الباقون بألف في الوقف دون الوصل (3) .
قال أبو علي (4) : حجة من أثبت الألف في هذه الكلم في الوصل والوقف: أنها في المصحف كذلك، وهي رأسُ آية، ورؤوس الآي مشبّه بالقوافي (5) من حيث كانت مقاطع، كما كانت القوافي مقاطع. وأنشد:
أقِلِّي اللومَ عَاذِلَ والعِتَابَا ... ... ...................... (6)
ومن حذف الألف منهن في الوصل والوقف فإنه أجرى ذلك على السنن الواضح المشهور في العربية، وأما كتابتها في المصحف بالألف؛ فإن في
__________
(1) ... في الأصل: فضرت. والتصويب من مسند أحمد (3/3).
(2) ... أخرجه أحمد (3/3 ح11009).
(3) ... الحجة للفارسي (3/281)، والحجة لابن زنجلة (ص:572-573)، والكشف (2/194)، والنشر (2/347-348)، والإتحاف (ص:353)، والسبعة (ص:519).
(4) ... الحجة (3/281).
(5) ... في الحجة: تُشبه بالفواصل.
(6) ... صدر بيت لجرير، وعجزه: (وقولي إن أصبت لقد أصابا). انظر: ديوانه (ص:89)، والدر المصون (5/405)، وخزانة الأدب (1/69، 338، 3/151)، وشرح أبيات سيبويه (2/349)، والكتاب (4/205، 208)، وهمع الهوامع (2/92)، واللسان (مادة: خنا)، والخصائص (1/171)، وشرح المفصل (4/115)، والمقتضب (1/375).(1/148)
المصحف حروفاً كثيرة اللفظ بها مخالف لخطها، نحو قوله تعالى: { ولأوضعوا خلالكم } [التوبة:47] خطها في المصحف: "ولأأوضعوا" بألف بعد "لا". ومن أثبت الألف في هذه الكلم في الوقف وحذفها في الوصل؛ فإنه أراد أن يجتمع له الأمران: اتباع المشهور من سنن العربية، وموافقة خط المصحف، فحذف الألف في الوصل على ما يوجبه القياس، وأثبتها في الوقف تشبيهاً بالقوافي.
قال الحسن: ظنوا ظنوناً مختلفة، ظن المنافقون أن يُستأصل محمد، وظن المؤمنون أن يُنصر (1) .
وقال صاحب الكشاف (2) : الخطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام، والضعاف القلوب: الذين هم على حرف، والمنافقون: [الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم] (3) ، فظنّ الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم.
y7د9$uZèd ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/131-132)، وابن أبي حاتم (9/3119). وذكره السيوطي في الدر (6/577) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... الكشاف (3/535).
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/149)
شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ ×pxےح !$©غ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا اتجب
قوله تعالى: { هنالك ابتلي المؤمنون } اختُبروا بضروب المحن من الحصر والجوع والبرد والخوف؛ ليتبين المخلص من المنافق، { وزلزلوا } زعجوا وحركوا { زلزالاً شديداً } .(1/150)
{ وإذ يقول } أي: واذكر إذ يقول { المنافقون والذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق، { ما وعدنا الله ورسوله } من كون فارس والروم يفتحان علينا { إلا غروراً } .
قال السدي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحفر الخندق، فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صَفَا (1) ، فطار منه كهيئة الشهاب من نار في السماء، وضرب الثاني فخرج منه مثل ذلك، وضرب الثالث فخرج منه مثل ذلك، فرأى ذلك سلمان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : رأيت ما خرج من كل ضربة ضربتها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تُفتح لكم بِيضُ المدائن وقصور الروم ومدائن اليمن، ففشا ذلك في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحدثوا به، فقال رجل من الأنصار يدعى معتب بن قشير من الأوس: أيعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل، هذا والله الغرور، فأنزل الله هذه الآية (2) .
قوله تعالى: { وإذ قالت طائفة منهم } أي: من المنافقين والذين في قلوبهم مرض.
قال السدي: هو عبد الله بن أبي [بن] (3) سلول وأصحابه (4) .
__________
(1) ... الصَّفَا: هو الحجر الأملس (اللسان، مادة: صفا).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3119). وذكره السيوطي في الدر (6/577-578) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... زيادة على الأصل.
(4) ... ذكره الماوردي (4/381)، والواحدي في الوسيط (3/462)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/359).(1/151)
وقال مقاتل (1) : بنو سالم من المنافقين.
{ يا أهل يثرب } قال أبو عبيدة (2) : يَثْرِب: اسم أرض ومدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها.
وقيل: يثرب: اسم المدينة.
{ لا مقام لكم فارجعوا } قرأ حفص: "مُقام" بضم الميم، وفتحها الباقون (3) .
قال أبو علي (4) : من ضم الميم احتمل أمرين: يجوز أن يكون المُقام: المكان الذي يُقام فيه، أي: لا موضع إقامة لكم، وهذا أشبه؛ لأنه في معنى من فتح الميم. ويجوز أن يكون المقام مصدراً من أقامَ يُقيم، أي: لا إقامة لكم. فأما من فتح الميم فإن المَقام: اسم المكان من قَامَ يَقوم، أي: ليس لكم موضع تقومون فيه.
والمعنى: لا مقام لكم هاهنا في مركز القتال فارجعوا إلى المدينة.
وقال الفراء (5) : المَقام -بالفتح-: الثبات على الأمر.
قال الحسن: قالوا: لا ثبات لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/38).
(2) ... مجاز القرآن (2/134).
(3) ... الحجة للفارسي (3/282)، والحجة لابن زنجلة (ص:574)، والكشف (2/195)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:353)، والسبعة (ص:520).
(4) ... الحجة (3/282).
(5) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: تفسير الماوردي (4/382).(1/152)
مشركي العرب (1) .
وقال ابن السائب: المعنى: فارجعوا إلى طلب الأمان (2) .
{ ويستأذن فريق منهم النبي } في الرجوع إلى المدينة.
قال السدي: استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة: أبو عوانة بن أوس وأوس بن قيظي (3) .
قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن (4) .
{ يقولون إن بيوتنا عَوْرَة } وقرأ جماعة، منهم أبو رجاء: "عَوِرَة" بكسر الواو في الموضعين (5) .
قال الزجاج (6) : يقال: عَوِرَ المكانُ يَعْوَرُ عَوَراً فهو عَوِرٌ، وبيوت عَوِرة وعَوْرَة.
قال ابن السائب: المعنى: أن [بيوتنا] (7) خالية ليس فيها إلا العورة من النساء (8) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/382)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/360).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الماوردي (4/382)، والسيوطي في الدر (6/579) وعزاه لابن أبي حاتم، وفيهما: "أبو عرابة" بدل: "أبو عوانة".
(4) ... ذكره الماوردي (4/382).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:353).
(6) ... معاني الزجاج (4/219-220).
(7) ... في الأصل: بتونا. والتصويب من الماوردي (4/383).
(8) ... ذكره الماوردي (4/383).(1/153)
قال الفراء (1) : هو مأخوذ من قولهم: قد أعور الفارس؛ إذا كان فيه موضع خَلَل، ومنه قول الشاعر:
...................... ... ... لَهُ الشَّدَّةُ الأولى إذا القِرْنُ أعْوَرَا (2)
وقال السدي: المعنى: أن بيوتنا مكشوفة الحيطان يخاف عليها السرق والطلب (3) .
قال الماوردي (4) : العرب تقول: قد أَعْوَرَ منزلُك؛ إذا ذهب ستره وسقط جداره. وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة.
فأكذبهم الله تعالى بقوله: { وما هي بعورة إن يريدون } أي: ما [يريدون] (5) { إلا فراراً } من القتال ونصرة المؤمنين.
ِqs9ur دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
__________
(1) ... معاني الفراء (2/337).
(2) ... انظر البيت في: معاني الفراء (2/337)، واللسان (مادة: عور)، والماوردي (4/383)، والبحر المحيط (7/212)، والدر المصون (5/405).
(3) ... ذكره الماوردي (4/383).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... في الأصل: يردون.(1/154)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا اتذب(1/155)
{ ولو دخلت عليهم } (1) يعني: المدينة أو البيوت، { من أقطارها } : جوانبها ونواحيها. أي: لو دخلت هذه العساكر المتحزّبة التي يفرَقون خوفاً منها بيوتهم ومدينتهم من جميع أقطارها، وجاءتهم من كل جانب، { ثم سئلوا } عند ذلك { الفتنة } وهي الشرك، في قول ابن عباس (2) .
أو قتال المسلمين، عند الضحاك (3) والزجاج (4) .
{ لأتوها } قرأ نافع وابن كثير: "لأتوها" بقصر الهمزة، على معنى: لجاؤوها. وقرأ الباقون: "لآتوها" بالمد، على معنى: لأعطوها (5) .
وزاد هذه القراءة حسناً قوله تعالى: { سئلوا } ، فإن الإعطاء مع السؤال يتناسب.
والمعنى: لو دخلت عليهم ثم سئلوا وهم منهوبون مسلوبون تغشاهم السيوف ويفترسهم الخوف لأجابوا إلى الكفر وإلى قتال محمد وأصحابه مَقْتاً للإسلام وأهله، وحباً للكفر وحزبه.
{ وما تلبثوا بها } قال قتادة: ما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلاً (6) .
وقال السدي: وما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعذبوا (7) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: { من أقطارها } وستأتي بعد.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/462)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/361).
(3) ... ذكره القرطبي (14/150).
(4) ... معاني الزجاج (4/220).
(5) ... الحجة للفارسي (3/282)، والحجة لابن زنجلة (ص:574-575)، والكشف (2/196)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:354)، والسبعة (ص:520).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/463)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/361).
(7) ... ذكره الماوردي (4/383)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/362).(1/156)
قوله تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } أي: من قبل الخندق { لا يولون الأدبار } .
قال قتادة: عاهدوا الله قبل الخندق وبعد بدر حين سمعوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة (1) .
وقال مقاتل (2) : هم أهل العقبة، وكانوا سبعين رجلاً بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طاعة الله تعالى ونصرهم رسوله.
وهو قول فاسد؛ لأن الحديث عن المنافقين فكيف يصرف إلى أهل العقبة الذين هم أمثل أصحابه.
والصحيح: ما قاله محمد بن إسحاق: أنهم المنافقون الذين عاهدوا الله يوم أحد حين عابهم الله تعالى بما أنزل فيهم أن لا يفرُّوا (3) .
قال الواقدي: لما نزل يوم أحد ما نزل عاهد الله معتب بن قشير [وثعلبة] (4) بن حاطب لا نولي دبراً قط. فلما كان يوم الأحزاب نَافَقَا (5) .
{ وكان عهد الله مسؤولاً } مطلوباً مقتضى حتى يوفي.
وقيل: مسؤولاً عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم فقال تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار
__________
(1) ... أخرجه الطبري (21/137). وذكره السيوطي في الدر (6/580) وعزاه لابن جرير.
(2) ... تفسير مقاتل (3/39).
(3) ... أخرج نحوه الطبري (21/137) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان.
(4) ... في الأصل: ثعلبة. والتصويب من زاد المسير (6/363).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/363).(1/157)
إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون } بعد الفرار في الدنيا { إلا قليلاً } وهو مدة آجالهم.
{ قل من ذا الذي يعصمكم من الله } أي: من ذا الذي يجيركم ويمنعكم منه، { إن أراد بكم سوءاً } قتلاً أو غيره من أصناف الشر، { أو أراد بكم رحمة } نصراً على الأعداء أو غيره من أنواع الخير.
فإن قيل: كيف تساوقت الإرادتان على العصمة إلا من السوء؟
قلت: عنه جوابان:
أحدهما: أنه من باب:
وَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... ... .................. (1)
تقديره: من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة.
الثاني: أن المراد بالعصمة: مطلق المنع، وبهذا التقرير يحسن تساوقهما عليه.
* قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ tû,خ#ح !$s)ّ9$#ur لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ
__________
(1) ... تقدم.(1/158)
الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا اتزب
قوله تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم } أي: المتثبّطين منكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم المنافقون كانوا يقولون لإخوانهم من الأنصار: ما محمد وأصحابه إلا أكَلَةُ رأس، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه،(1/159)
فخلوهم وهلموا إلينا (1) .
قال ابن زيد: انصرف رجل يوم الخندق من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله، فوجد أخاه لأبيه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرماح والسيوف، فقال: هلم إليّ لقد أحيط بك وبصاحبك، والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبداً. فقال له أخوه: كذبت والذي يحلف به، أما والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمرك، فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية إلى قوله تعالى: { يسيراً } (2) .
وقال ابن السائب: كان عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير [والمنافقين] (3) الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة إذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة، وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بُداً، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غُفِلَ عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية (4) .
وقد سبق الكلام على "هَلُمّ" في الأنعام.
{ ولا يأتون البأس إلا قليلاً } أي: إتياناً قليلاً للرياء والسمعة، ولو كان لله لكان كثيراً.
__________
(1) ... هو قول قتادة، أخرجه الطبري (21/139). وذكره السيوطي في الدر (6/581) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (21/139)، وابن أبي حاتم (9/3121). وذكره السيوطي في الدر (6/580-581) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... في الأصل: والمنافقون. والتصويب من زاد المسير (6/364).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/364).(1/160)
قوله تعالى: { أشحة عليكم } قال الزجاج (1) : هو منصوب على الحال (2) . المعنى: لا يأتون الحرب إلا تعذيراً بُخَلاء عليكم.
وقد ذكرنا فيما مضى أن الشُّحّ أشد البخل. والمراد: بخلاً عليكم بالنفقة في سبيل الله والنصرة.
{ فإذا جاء الخوف } أي: فإذا حضر القتال واشتملوا بالخوف { رأيتهم ينظرون إليك } في تلك الحالة { تدور أعينهم كالذي } أي: كعين الذي { يغشى عليه من الموت } أي: من سكرات الموت وأسبابه، فيرهب ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف. ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عينه ودارت حَمَاليق عينه (3) . ذكر هذا المعنى الواحدي (4) .
وقال الماوردي (5) : "فإذا جاء الخوف" فيه قولان:
أحدهما: فإذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل. وهذا قول السدي.
والثاني: الخوف من النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غلب هؤلاء. وهذا قول ابن شجرة.
{ رأيتهم ينظرون إليك } خوفاً من القتال، على القول الأول، ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على القول الثاني.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/220).
(2) ... انظر: التبيان (2/191)، والدر المصون (5/407).
(3) ... حماليق العين: بياضها أجمع ما خلا السواد (اللسان، مادة: حملق).
(4) ... الوسيط (3/463).
(5) ... تفسير الماوردي (4/385).(1/161)
"تدور أعينهم" فيه قولان:
أحدهما: تدور [أعينهم] (1) لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة.
والثاني: تدور أعينهم لشدة الخوف حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة. هذا آخر كلام الماوردي.
قوله تعالى: { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } قال الزجاج (2) : معنى "سلقُوكُم": خاطبوكم أشدَّ مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيبٌ مِسْلاقٌ؛ إذا كان بليغاً في خطبته (3) .
وقال الفراء (4) : آذوكم بالكلام في الأمن، بألْسِنَةٍ سَليطةٍ ذَرِبَة (5) .
يقال: سَلَقَ فلاناً بلسانه؛ إذا أغلْظَ له في القول مجاهراً (6) .
قال الفراء (7) : العرب تقول: "صَلَقُوكُم" بالصاد أيضاً، ولا يجوز في القراءة هذا.
وهذا الذي أنكر [الفرّاء] (8) قراءته قد قرأ به جماعة، منهم أبي بن كعب،
__________
(1) ... زيادة من الماوردي (4/385).
(2) ... معاني الزجاج (4/221).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: سلق).
(4) ... معاني الفراء (2/339).
(5) ... ذَرِبَة: أي: سليطة حادّة. وذَرَبُ اللسان: حِدّتُه (اللسان، مادة: ذرب).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: سلق).
(7) ... معاني الفراء (2/339).
(8) ... في الأصل: القراء. وهو خطأ.(1/162)
وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني (1) .
قال قتادة: بسطوا ألسنهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا، فلستم بأحق بها منا. فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند القسمة فأشح قوم، وهو قوله تعالى: { أشحة على الخير } (2) .
والنصب فيه على الحال (3) ، أو على الذم، يريك بخلاً بالغنيمة يشاحون المؤمنين فيها عند القسمة.
وقيل: "أشحّة على الخير": وهو ظفر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: إنفاقهم في سبيل الله.
{ أولئك لم يؤمنوا } لأنهم منافقون يُضْمِرُون من الكفر خلاف ما يظهرون من الإيمان، { فأحبط الله أعمالهم } .
قال مقاتل (4) : أبطل الله تعالى جهادهم؛ لأنه لم يكن في إيمان.
{ وكان ذلك } الإحباط، أو ذلك النفاق { على الله يسيراً } هَيّناً.
وفي هذه الآية بيان واضح ودليل قاطع على أن الأعمال الصالحة لا تجدي نفعاً إلا [بانضمام] (5) الإيمان إليها، وأن الإيمان باللسان ليس بإيمان
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/366)، وأبو حيان في البحر المحيط (7/215).
(2) ... أخرجه الطبري (21/141)، وابن أبي حاتم (9/3122). وذكره السيوطي في الدر (6/582) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: التبيان (2/191)، والدر المصون (5/408).
(4) ... تفسير مقاتل (3/41).
(5) ... في الأصل: بانتضمام.(1/163)
حتى يواطئه القلب.
tbqç7|،ّts† الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ ِNن3ح !$t6/Rr& وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا اثةب
قوله تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي: يظن المنافقون -لِمَا يداخلهم من الخوف المفرط وما عندهم من الجبن الشديد- أن الأحزاب لم يذهبوا راجعين إلى مكة.
{ وإن يأت الأحزاب } كرّة ثانية { يودوا } لما أصابهم في الكَرَّة الأولى { لو أنهم بادون في الأعراب } وقرأ ابن عباس: "لو أنهم بُدَّىً" بتشديد الدال والتنوين (1) ، جمع باد؛ كغَازٍ وغُزَّىً. والمعنى: يحبوا لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتال الذين لا يرجون بفعله ثواباً ولا يخافون بتركه عقاباً.
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة السمين الحلبي في: الدر المصون (5/409).(1/164)
{ يسألون } كل وارد عليهم وداخل إليهم { عن أنبائكم } أما هلك محمد وأصحابه؟ ما فعل أبو سفيان وأحزابه؟.
وقرأت ليعقوب من رواية رويس: "يَسَّاءَلُوا" بالمد وتشديد السين (1) ، على معنى: يتساءلون ويقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت.
{ ولو كانوا فيكم } ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { ما قاتلوا إلا قليلاً } أي: لم يقاتلوا إلا تعللاً رياءً وسمعة.
وفي هذا الكلام تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وإعلام لهم أن حضور المنافقين للقتال وعدم حضورهم سِيّان؛ لكونهم لا غنى عندهم في الحرب ولا يقع فيهم.
ô‰s)©9 كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا
__________
(1) ... النشر (2/348)، والإتحاف (ص:354).(1/165)
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا اثثب
قوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله إِسْوَة حسنة } وقرأ عاصم: "أُسْوَةٌ" بضم الهمزة، وكذلك اختلافهم في التي في الممتحنة (1) .
قال الفراء وأبو علي (2) : هما لغتان بمعنى واحد.
قال المفسرون: المعنى: لقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُدوة صالحة لو اقتديتم به في صبره على قتال الكفار كما فعل يوم أحد (3) .
وقال الزمخشري (4) : إن قلت: ما حقيقة قوله: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة، أي: قدوة، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد.
الثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع، وهي المواساة
__________
(1) ... عند الآية رقم: 4.
(2) ... معاني الفراء (2/339)، والحجة (3/283).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/464).
(4) ... الكشاف (3/539).(1/166)
بنفسه.
{ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } من قولك: رجوت زيداً وفضله، أي: رجوت فضل زيد.
وقيل: لمن كان يخاف الله واليوم الآخر.
{ وذكر الله كثيراً } أي: استكثر من ذِكْره والعمل بطاعته رجاء ثوابه وخوف عقابه.
قوله تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } أي: شاهدوا تلك الشدائد والأهوال أيام الخندق، { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } في قوله: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ... الآية } [البقرة:214]، { وما زادهم } ما رأوه { إلا إيماناً وتسليماً } .
وقيل: المعنى: وما زادهم ما شاهدوه من تلك الأهوال إلا إيماناً وتسليماً، تصديقاً بما وعدهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحفر الخندق أن أمته ظاهرة على مدائن كسرى والحيرة، وتسليماً لأمر الله تعالى.
z`دiB الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ(1/167)
اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا اثحب
قوله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: " نرى هذه الآية نزلت في عمي أنس بن النضر: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } " (1) .
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر. فلما قدم قال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين، لئن أشهدني الله عز وجل قتالاً ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أُحُد انكشف الناس، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين-، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء -[يعني] (2) : المسلمين-، [ثم مشى] (3) بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1795 ح4505).
(2) ... زيادة من مصادر التخريج.
(3) ... في الأصل: مشق. والتصويب والزيادة من مصادر التخريج.(1/168)
دون أحد، [واهاً] (1) لريح الجنة. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. [قال] (2) أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قد مَثَّلُوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه. قال أنس: فكنا نقول: أنزلت هذه الآية: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فيه وفي أصحابه" (3) .
{ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } وروي عن علي عليه السلام: أنه ذكر طلحة بن عبيدالله فقال: ذاك رجل نزلت فيه آية من كتاب الله: { فمنهم من قضى نحبه } لا حساب عليه فيما يستقبل (4) .
وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس بن النضر.
ومعنى الآية: من المؤمنين رجال صدقوا [ما] (5) عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه عليه، وهم الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام والنصرة وأن لا يفروا إذا لاقوا.
قال المفسرون: منهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعيد بن
__________
(1) ... في الأصل: وإنها. والمثبت من صحيح مسلم والبيهقي.
(2) ... زيادة من البخاري.
(3) ... أخرجه البخاري (3/1032 ح2651)، ومسلم (3/1512 ح1903). والحديث بلفظه في: سنن البيهقي (9/43).
(4) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:367)، والسيوطي في الدر (6/588) وعزاه لأبي الشيخ وابن عساكر.
(5) ... زيادة على الأصل.(1/169)
زيد، وحمزة، ومصعب بن عمير (1) .
"فمنهم من قضى نحبه": قال ابن عباس: حمزة ومن قتل معه، وأنس بن النضر وأصحابه (2) .
"ومنهم من ينتظر": عثمان وطلحة.
قال ابن قتيبة (3) : أصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذورا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يُقتَلوا، أو يَفتح الله عليهم؛ [فقُتِلوا] (4) ، فقيل: فلانٌ قضى نحبه؛ أي: قُتل.
فاستعير النَّحْب مكان الأجَل؛ لأن الأجل وقع بالنَّحْب، وكأنّ النحب سبباً له، ومنه قيل للعطية: مَنّ؛ لأن من أعطى فقد مَنّ.
وقال الزمخشري (5) : فإن قلت: ما قضاء النَّحْب؟
قلت: وقع عبارة عن الموت؛ لأن كل حي لا بد له من أن يموت سوى الله عز وجل. فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره. وقوله: { فمنهم من قضى نحبه } محتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
{ وما بدلوا تبديلاً } أي: ما غيروا العهد كما غيّره المنافقون، لا
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/302).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/465)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/371-372).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:349).
(4) ... في الأصل: قتلوا. والمثبت من تفسير غريب القرآن، الموضع السابق.
(5) ... الكشاف (3/540).(1/170)
المُستَشْهِد ولا المُنْتَظِر. ولقد ثبت طلحة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حتى أصيبت يده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوجب طلحة " (1) .
قوله تعالى: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } أي: صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم الله بصدقهم، { ويعذب المنافقين إن شاء } الله تعالى.
قال السدي: يميتهم على نفاقهم إن شاء فيوجب لهم العذاب (2) .
فمعنى شرط المشيئة في عذاب المنافقين: إماتتهم على النفاق إن شاء، { أو يتوب عليهم } بخروجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون (3) .
¨ٹu'ur اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/201 ح1692).
(2) ... ذكره الماوردي (4/390)، والواحدي في الوسيط (3/466).
(3) ... فائدة: قال ابن جرير الطبري (21/148): إن قال قائل: ما وجه الشرط في قوله: { وَيُعَذِّبَ المُنافِقِين } بقوله: { إنْ شاءَ } والمنافق كافر؟ وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب المنافق، فيقال: ويعذّبه إن شاء؟
... قيل: إن معنى ذلك: ويعذّب المنافقين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفاقهم حتى يموتوا على كفرهم إن شاء، فيستوجبوا بذلك العذاب ، فالاستثناء إنما هو من التوفيق لا من العذاب إن ماتوا على نفاقهم. اهـ.(1/171)
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ ڑcrçژإ ù's?ur فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا اثذب
قوله تعالى: { ورَدَّ الله الذين كفروا } يعني: أبا سفيان وأصحابه من الأحزاب { بغيظهم } بحقدهم وغَمِّهم، { لم ينالوا خيراً } وهو ما كانوا يتوقعونه من الظفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.(1/172)
وهما حالان (1) . ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى [أو] (2) استئنافاً (3) .
{ وكفى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة، { وكان الله قوياً } في سلطانه، { عزيزاً } في قدرته وانتقامه من أعدائه.
ثم ذكر ما صنع باليهود الذين أعانوا أبا سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } أي: وأنزل بني قريظة الذين ظاهروا الأحزاب وكانوا معهم يداً واحدة على المؤمنين من حصونهم.
قال ابن قتيبة (4) : أصل الصَّياصي: قرون البقر؛ لأنها تمتنعُ بها، وتدفعُ عن أنفسها، فقيل للحصون: الصَّيَاصِي؛ لأنها تَمنع (5) .
قال الزجاج (6) : كل [قَرْن] (7) صِيصِيَّة، وصِيصِيَّةُ الديك: شوكته؛ لأنه يتحصَّنُ بها أيضاً.
{ وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف الذي ملأ قلوبهم، { فريقاً تقتلون } وهم المقاتلة { وتأسرون } وقرأ ابن يعمر وابن أبي عبلة: "وتَأْسُرُون" بضم
__________
(1) ... انظر التبيان (2/192)، والدر المصون (5/412).
(2) ... في الأصل: و. والتصويب من الكشاف (3/541).
(3) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/541).
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:349).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: صيا).
(6) ... معاني الزجاج (4/223).
(7) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/173)
السين (1) ، { فريقاً } وهم الذرية والنساء.
{ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } عقارهم ومنازلهم وأموالهم المنقولة.
{ وأرضاً لم تطئوها } قال الحسن: فارس والروم (2) .
وقال قتادة: مكة (3) .
وقال السدي: خيبر (4) .
وقال عكرمة: ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة (5) .
الإشارة إلى قصة بني قريظة:
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق وضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السلاح، والله ما
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/375)، والدر المصون (5/412).
(2) ... أخرجه الطبري (21/155)، وابن أبي حاتم (9/3126). وذكره السيوطي في الدر (6/592).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3126). وذكره الطبري (21/155) بلا نسبة، والماوردي (4/393) من قول قتادة، والسيوطي في الدر (6/592) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (21/155) عن ابن زيد. وذكره الماوردي (4/393) من قول السدي وابن زيد، والسيوطي في الدر (6/592) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3126). وذكره السيوطي في الدر (6/592) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/174)
وضعته، اخرج إليهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأين؟ فأشار إلى بني قريظة" (1) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف أحداً منهم" (2) .
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس قال: "كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام، حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة" (3) .
ونقل العلماء بالسير عن قتادة: أن جبريل أتاه صلى الله عليهما وسلم وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت [أوتادهم] (4) ، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبِلْبَال (5) ، فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة -وقيل: خمس عشرة ليلة- أشد الحصار، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسل إلينا أبا لبابة، فأرسله إليهم فشاوروه في أمرهم، فأشار إليهم أنه الذبح، ثم ندم وقال: خنت الله ورسوله (6) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1511 ح3896)، ومسلم (3/1389 ح1769).
(2) ... أخرجه البخاري (1/321 ح904)، ومسلم (3/1391 ح1770).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1510 ح3892). ولم أقف عليه عند مسلم.
(4) ... في الأصل: أوزارهم. والتصويب من الطبري (21/150)، والدر المنثور (6/591).
(5) ... أي: تركهم في اضطراب وهياج واختلاط وتشتت من الأمر.
(6) ... أخرجه الطبري (21/150). وذكره السيوطي في الدر (6/591) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/175)
وقد ذكرنا قصته في سورة الأنفال (1) . ثم نزلوا على التحكيم في أنفسهم.
وفيمن نزلوا على حكمه قولان:
أحدهما: أنهم نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتفوا ونحّوا ناحية، وجعل النساء والذرية ناحية، وكلمت الأوس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهبهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ. هكذا ذكره محمد بن سعد (2) .
الثاني: أنهم أولاً نزلوا على حكم سعد بن معاذ رجاء أن يأخذه فيهم هوادة للحلف الذي كان بينهم وبين الأوس، فحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه المواسي، وأن تسبى ذراريهم ونساءهم، وأن تقسم أموالهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة "، ثم استنزلوهم فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار بنت الحارث -امرأة من بني النجار- ثم أخرجهم إلى سوق المدينة فخندق بها خندقاً، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأخرجوا إليهم أرسالاً فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، والمكثر يقول: من الثمانمائة إلى التسعمائة، وكان الذي يضرب أعناقهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقالوا لكعب [بن أسد] (3) -وكان رأسهم-: ما تراه يصنع بنا؟ فقال كعب: آه، في كل موطن لا
__________
(1) ... عند قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول... } [27].
(2) ... الطبقات الكبرى لابن سعد (2/74-75).
(3) ... في الأصل: أسيد. والتصويب والزيادة من الطبري (21/153).(1/176)
تعقلون، أما ترون الداعي لا ينزع، وأن من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل، فلما جيء بعد [بحيي] (1) بن أخطب نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم جلس فضربت عنقه (2) .
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري: أن الزبير بن باطا اليهودي القرظي -وكان يكنى أبا عبدالرحمن- كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، أخذه فجزّ ناصيته ثم خلى سبيله، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبدالرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهل [يجهل] (3) مثلي مثلك؟ قال: إني أريد أن أجزيك بيدك عندي؟ قال: إن الكريم يجزي الكريم، قال: ثم أتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله! كانت للزبير عندي يد وله عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو لك، فأتاه فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أهله وولده، قال: هم لك، فأتاه فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك، قال: أهل بيت بالحجاز ولا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ماله؟ قال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاني مالك فهو لك.
__________
(1) ... في الأصل: وحيي.
(2) ... أخرجه الطبري (21/153). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/374).
(3) ... زيادة من مصادر التخريج.(1/177)
قال -أي ثابت-: ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيه عذارى الحي كعب بن [أسد] (1) ؟ قال: قتل.
قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل.
قال: فما فعل مقدمتنا إذا اشتددنا وحاميتنا إذا كررنا [عزال بن شموال] (2) ؟ قال: قتل.
قال: فما فعل المجلسان -يعني: بني [كعب بن] (3) قريظة وبني [عمرو] (4) بن قريظة-؟ قال: ذهبوا قتلوا، قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالقوم، [فوالله] (5) ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فقدمه ثابت فضرب عنقه، ثم قال:
وَفَتْ ذمّتي أني كريمٌ وأنني صبورٌ ... إذا ما القومُ حَادُوا عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منةً ... عليَّ فلما شدّ كُوعاهُ بالأسر
__________
(1) ... في الأصل: أسيد. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... في الأصل: اعزال شمول. والتصويب من البغوي (3/524).
... وفي تاريخ الطبري: عزال بن شمويل. وعند ابن هشام: سموأل.
(3) ... زيادة من مصادر التخريج.
(4) ... في الأصل: عمر. والتصويب من مصادر التخريج.
(5) ... في الأصل: فهوالله. والتصويب من مصادر التخريج.(1/178)
أتيتُ رسول الله كيما أفكّه ... وكانَ رسول الله بحراً لنا يجري (1)
قال محمد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة، طُرحت عليه رحى فشدخته فقط (2) .
قالت عائشة رضي الله عنها: لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت: قلت: ويلك ما لَكِ؟ قالت: أُقتل، قلت: ولما؟ قالت: حدثٌ أحدثْته؟ قالت: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفتْ أنها تقتل (3) .
قال الواقدي: واسم تلك المرأة: بنانة امرأة الحكم [القرظي] (4) ، وكانت قد قتلت خلاد بن سويد (5) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
__________
(1) ... ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (4/202-203)، والطبري في تاريخه (2/102) ، والبغوي في تفسيره (3/524).
(2) ... ذكره الطبري في تاريخه (2/103).
(3) ... أخرجه الطبري (21/153-154).
(4) ... في الأصل: القرضي. والتصويب من البغوي (3/523).
(5) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/523).(1/179)
تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا اثزب
قوله تعالى: { يا أيها النبي قل لأزواجك ... الآية } قال العلماء بالتفسير: إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكن يومئذ تسعاً: عائشة وحفصة وسودة وأم حبيبة وأم سلمة وهؤلاء من قريش، وزينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرة بنت الحارث المصطلقية، وهؤلاء من العرب، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية -من سبط هارون عليه السلام- [سألنه] (1) شيئاً من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه في الغيرة، فآلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهن شهراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية آية التخيير، فبدأ بعائشة فقال لها:
__________
(1) ... في الأصل: سألته.(1/180)
يا عائشة، إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، فقالت: ما هو؟ فتلى عليها: { يا أيها النبي قل لأزواجك ... الآية } فقالت عائشة: أفيك أستأمر أبويّ، بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر ذلك لامرأة من نسائك، فقال: إن الله لم يبعثني متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا [خيّرتها] (1) ، ثم خيّر نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة (2) .
قال ابن عباس: وكان آخر من عرض عليها منهن حفصة، فقالت: يا رسول الله مكان العائذ بك من النار، والله لا أعود لشيء تكرهه أبداً، أختار الله ورسوله، فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها (3) .
قال المفسرون: فلما اخترنه أثابهن الله تعالى بثلاثة أشياء:
أحدها: تفضيلهنَّ على سائر النساء بقوله تعالى: { لستن كأحد من النساء } .
الثاني: جعلهنَّ أمهات المؤمنين.
الثالث: أنه حرّم عليه طلاقهنّ والاستبدال بهن بقوله تعالى: { لا يحل لك النساء من بعد ... الآية } .
واختلف العلماء فيما فيه وقع التخيير على قولين:
أحدهما: أنه الطلاق والمقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا قول عائشة ومجاهد
__________
(1) ... في الأصل: أخيرتها.
(2) ... أخرجه البخاري (2/873 ح2336)، ومسلم (2/1113 ح1475).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/467).(1/181)
والشعبي (1) .
والثاني: الدنيا والآخرة، وأنهن إن اخترن الدنيا فارقهن، وإن اخترن الآخرة أمسكهن. وهذا قول الحسن وقتادة (2) ، والقولان متقاربان في المعنى (3) .
والمراد بقوله: { أمتعكن } : متعة الطلاق، { وأسرحكن } : أطلقكن. وقد ذكرنا أحكام المتعة ومعنى التسريح الجميل في البقرة.
فصل
اختلف أهل العلم فيمن خَيَّر امرأته فاختارت نفسها، فذهب أكثرهم إلى أنه يقع بها طلقة واحدة رجعية. يروى ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وإليه ذهب عمر بن عبدالعزيز، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان وأحمد والشافعي وإسحاق (4) .
وذهب قوم إلى أنه يقع بها ثلاث طلقات. يروى ذلك عن زيد بن ثابت، وبه قال الحسن ومالك (5) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/394)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/377).
(2) ... أخرجه الطبري (21/156). وذكره السيوطي في الدر (6/596-597) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بينهما جمعاً حسناً فقال: والذي يظهر الجمع بين القولين؛ لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية (فتح الباري 8/521).
(4) ... انظر: المغني (7/314)، والأم (5/140).
(5) ... انظر: موطأ مالك (2/563).(1/182)
أما إذا اختارتِ الزوجَ فلا يقع به شيء عند الأكثرين (1) .
قال مسروق: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني. قالت عائشة: خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه أو كان طلاقاً (2) ؟.
وقال الحسن: يقع به طلقة رجعية. وهو مذهب مالك.
ويروى عن علي وزيد: وإذا فوّض الرجل طلاق امرأته إليها فقال لها: طلقي نفسك، أو خيَّرها، أو قال لها: أمرك بيدك، وأراد به تفويض الطلاق وطلّقت نفسها في المجلس وقع، وإن طلقت بعد انقضاء المجلس لم يقع عند أكثر أهل العلم.
وقال الحسن وقتادة والزهري: يقع.
uن!$|،دY"tƒ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
__________
(1) ... انظر: المغني (7/314)، والأم (5/140).
(2) ... أخرجه البخاري (5/2015 ح4963)، ومسلم (2/1104 ح1477).(1/183)
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا اجتب
قوله تعالى: { من يأت منكن } "مَنْ" للبيان لا للتبعيض، { بفاحشة مبينة } قال ابن عباس: يريد: النشوز وسوء الخلق (1) .
فإن قيل: الفاحشة السيئة البليغة في القبح، والنشوز وسوء الخلق لا يترقى إلى ذلك، فكيف سماه فاحشة؟
قلت: تعاظم ذلك وتفاحش لأجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكونه هو المعامل به.
وحكى الماوردي (2) عن السدي أن الفاحشة: الزنا.
وأظن الحامل له على ذلك هذا القول؛ أنه رأى هذه اللفظة لهذا المعنى في مواضع من القرآن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل سائر رسله معصومون من صحبة زوجة تزن بهذه الريبة -على ما قررناه فيما مضى- فلا وجه لنهيهن عما لا يجوز وقوعه منهن، إنما التفسير الصحيح ما قاله ابن عباس.
{ يضاعف لها العذاب ضعفين } أي: يجعل عذاب جرمها في الآخرة
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/397)، والواحدي في الوسيط (3/468)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/378).
(2) ... تفسير الماوردي (4/397).(1/184)
كعذاب جرمين، وإنما ضوعف عذابها؛ لزيادة قبح المعصية منها لو وجدت والعياذ بالله منها.
واختلف اللغويون في الضعف؛ فقال أبو عبيدة (1) والأخفش: ضِعْفُ الواحد: اثنان، وضِعْفا الواحد: ثلاثة.
وقال ابن قتيبة (2) : المراد بالضِّعْف: المِثْل، وبالضِّعْفَين: المثلين (3) .
وقال آخرون: إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب أن يكون ضعفاه أربعة أمثاله.
واختلف القرّاء في قوله تعالى: "يُضَعِّفْ" فقرأ ابن كثير وابن عامر: "نُضَعِّفْ" بالنون [وتشديد] (4) العين وكسرها من غير ألف، و"العذابَ" بالنصب، وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح العين "العذابُ" بالرفع. وقرأ الباقون بالياء وبالألف وتخفيف العين وفتحها، "العذابُ" بالرفع (5) .
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/136-137).
... قال العلامة الشوكاني: قوله: { يضاعف لها العذاب ضعفين } أي: يعذبهن مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن، وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات (فتح القدير 4/276).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:350).
(3) ... وضعّف هذا القول ابن جرير الطبري في تفسيره (21/159). وقال النحاس في معانيه (5/344): "التفريق الذي جاء به أبو عمرو لا يعرفه أحد من أهل اللغة" يعني: التفرقة بين يضاعف ويضعف في المعنى، بل معناهما واحد.
(4) ... في الأصل: وتشد. والصواب ما أثبتناه.
(5) ... الحجة للفارسي (3/283)، والحجة لابن زنجلة (ص:575)، والكشف (2/196)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:354-355)، والسبعة (ص:521).(1/185)
قال أبو الحسن: الخفيفة لغة أهل الحجاز، والمثقّلة لغة بني تميم.
قوله تعالى: { وكان ذلك } يعني مضاعفة العذاب لهن { على الله يسيراً } هيناً.
وفي هذا إعلام بأن تزويجهن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بدافع عنهن العذاب، وكيف وهو السبب في مضاعفته لهن.
قوله تعالى: { ومن يقنت } قرأ ابن عامر من رواية الوليد، ويعقوب من رواية زيد عنه: "تقنت" بالتاء (1) .
وقرأ حمزة والكسائي: { ويَعْمَل صالحاً يُؤْتِها } بالياء فيهما (2) .
قال أبو علي (3) : لم يختلفوا في "يقنت" أنها بالياء المنقطة من تحت، وذلك لأن الفعل مسند إلى ضمير "مَنْ" هو مذكّر، وكذلك من قرأ: "ويعمل" بالياء، حمل ذلك أيضاً على لفظ من دون معناها. ومن قرأ: "وتَعْمَل" بالتاء المنقوطة من فوق، فإنه لما لم يبين فاعل الفعل، وذكر بعده ما دلّ على أن الفعل لمؤنث حُمل على المعنى فأنَّث.
فأما الياء والنون في "نُؤْتِها"، فالياء لما تقدم من الغيبة في قوله تعالى: { لله ورسوله } ، والنون على الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، وقد ذكرنا أن
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة القرطبي في الجامع (14/176)، وأبو حيان في البحر (7/221).
(2) ... الحجة للفارسي (3/283)، والحجة لابن زنجلة (ص:576)، والكشف (2/196)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:355)، والسبعة (ص:521).
(3) ... الحجة (3/283-284).(1/186)
القنوت: الطاعة.
{ وتعمل صالحاً } فيما بينها وبين ربها، { نؤتها أجرها مرتين } .
قال مقاتل (1) : مكان كل حسنة تثبت عشرين حسنة، { وأعتدنا لها رزقاً كريماً } : حسناً، وهو الجنة.
uن!$|،دY"tƒ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/44).(1/187)
وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا احب
ثم أظهر فضيلتهن على سائر النساء فقال تعالى: { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } . قال الزجاج (1) : لم يقل: كواحدة من النساء؛ لأن "أحداً" نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة.
قال ابن عباس: ليس قدركنّ عندي مثل قدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتنّ أكرم عليّ وأنا بكنّ أرحم وثوابكنّ أعظم إن [اتقيتنّ] (2) الله. وشرط عليهن التقوى؛ بياناً أن فضلهنّ إنما يكون بالتقوى لا بمجرد
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/224).
(2) ... في الأصل: اتقتن.(1/188)
اتصالهنّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) .
واختلفوا في جواب هذا الشرط؛ فقال قوم: جوابه مدلول قوله تعالى: { لستن كأحد من النساء } .
وقال أبو علي (2) : جوابه "فلا تخضعن"؛ لأن ليس عنده حرف وليس بفعل.
ومعنى قوله: { فلا تخضعن بالقول } : لا تليننّ ولا ترققن بالقول.
وقال ابن السائب: هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب (3) .
وقال الحسن: [لا تتكلمن] (4) بالرفث (5) .
{ فيطمع الذي في قلبه مرض } أي: زناً وفجور، والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة؛ لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة.
قرأ الأعرج وأبان بن عثمان: "فيطمَعِ الذي" بكسر العين (6) ، عطفاً على "فلا تخضعن"، ويكون النهي شاملاً لهما.
{ وقلن قولاً معروفاً } وهو ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع مطمع.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/469).
(2) ... لم أقف عليه في الحجة.
(3) ... ذكره الماوردي (4/399) بلا نسبة.
(4) ... في الأصل: تكلمن. والمثبت من الماوردي (4/399).
(5) ... ذكره الماوردي (4/399).
(6) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/222)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/414).(1/189)
قوله تعالى: { وقَرْنَ في بيوتكن } قرأ نافع وعاصم: "وقَرْنَ" بفتح القاف. وقرأ الباقون بكسرها (1) .
قال أبو علي (2) وغيره: من قرأ بكسر القاف احتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون أمراً من الوقار، فيكون قِرْنَ من الوقار مثل: عِدْنَ من الوعد، وزِنَّ من الوزن، ونحو ذلك مما تُحذف منه الفاء، وهي واو. ويحتمل أن يكون من [قرَّ] (3) في مكانه يَقرُّ، فإذا أمر من هذا قال: اقرر، فيبدل من الراء الأولى التي هي عين الفعل الياء كراهة التضعيف، كما أبدل من إحدى النونين واليائين في دينار وقيراط، فيصير للياء المبدلة من الراء حركة الحرف المبدل منه وهي الكسرة، ثم تُلقى حركتها على فاء الفعل وهي القاف، استثقالاً للكسرة على الياء فتسكن الياء وبعدها الراء التي هي لام الفعل ساكنة، فيلتقي ساكنان، فتحذف الياء لالتقاء الساكنين، وتسقط ألف الوصل لتحرك ما بعدها فنقول: "وقِرْنَ".
فأما من فتح القاف فقال: "قَرْنَ" فهي لغة، يقال: قررْتُ بالمكان أقَرُّ، بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل. حكاها الكسائي وغيره وأنكرها المازني وغيره، فيكون الأصل: واقررن. ثم نقل على نحو ما ذكر ما قال أبو علي. فمن لم يجوّز: قَرَرْتُ في المكان أقَرُّ بكسر العين في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/284).
(2) ... الحجة (3/284).
(3) ... في الأصل: قرّه. والتصويب من الحجة (3/284).(1/190)
الماضي [وفتحها] (1) في المستقبل لم يجوز "وقَرْنَ" بالفتح؛ لأن الأمر إنما هو من المستقبل، ومستقبل هذا الفعل لا فتحة فيه، وإنما فيه كسرة منقولة من الراء إلى القاف.
قال (2) : والوجه في القراءة: "قِرْنَ" بكسر؛ لأنه يجوز من وجهين لا إشكال في جوازه منهما: الوقار والقرار.
وقال الجوهري صاحب الصحاح (3) : يقال: قَرِرْتُ بالمكان -بالكسر- أقَرُّ قَرَاراً، وقرَرْتُ -بالفتح- أقِرُّ قَرَاراً وقُرُوراً.
والوَقار: الحلمُ والرزانة، وقد وَقَرَ الرجل يَقِرُ وَقَاراً وقِرَةً فهو وَقور (4) .
قال أبو الضحى: حدثني من سمع عائشة تقرأ: "وقِرْنَ في بيوتكن" وتبكي حتى تبلّ خمارها (5) .
وقيل لسودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما لك لا تحجّين ولا تعتمرين كما فعل أخواتك، فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقرّ في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت، فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى
__________
(1) ... في الأصل: فتحها.
(2) ... أي: أبو علي الفارسي في الحجة (3/284).
(3) ... الصحاح (2/790).
(4) ... الصحاح (2/849).
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:205) عن أبي الضحى، وابن سعد في طبقاته (8/80) عن عمارة بن عمير. وذكره السيوطي في الدر (6/600) وعزاه لابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن مسروق.(1/191)
أُخرجت جنازتها (1) .
قوله تعالى: { ولا تبرجن تبرج الجاهلية } التَّبَرُّج: إظهار الزينة وإبداء ما تحت ستره من المحاسن.
وقيل: هو التبختر، وأصله: من بَرَجُ العين، وهو السَّعَة فيها (2) .
قال قتادة: كانت لنساء الجاهلية الأولى مِشْية تكسُّر وتَغَنُّج، فنُهين هؤلاء عن ذلك (3) .
والجاهلية الأولى: هي القديمة.
قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام (4) .
وقال مقاتل (5) وغيره: زمان إبراهيم عليه السلام، وكانت المرأة تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق تعرض نفسها على الرجال (6) .
__________
(1) ... أخرجه الثعلبي في تفسيره (8/34-35).
... وذكره السيوطي في الدر (6/599-600) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة ... فذكره.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: برج).
(3) ... أخرجه الطبري (22/4). وذكره السيوطي في الدر (6/602) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (22/4). وذكره السيوطي في الدر (6/602) وعزاه لابن جرير.
(5) ... تفسير مقاتل (3/45).
(6) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/400)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/380) عن الكلبي.(1/192)
وقال الحكم: ما بين آدم ونوح (1) .
وقيل: ما بين نوح وإدريس (2) .
وروى عكرمة عن ابن عباس: أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة (3) .
{ وأقمن الصلاة وآتين الزكاة } فخصهن الله تعالى بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع دخولهن في عموم الخطاب بذلك؛ لموضع اختصاصهن، وخصّ هاتين العبادتين؛ لأنهما الأصل في عبادة [البدن] (4) والمال، ثم عمَّمَ بقوله: { وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله } بتأديبكن وأمركن ونهيكن { ليذهب عنكم الرجس } .
قال ابن عباس: يعني: عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا (5) .
{ أهْلَ البيت } نصب على المدح أو النداء.
واختلفوا في المراد بأهل البيت على ثلاثة أقوال:
أحدها: ما أخبرنا به المؤيد بن محمد بن علي الطوسي في كتابه قال: أخبرنا عبدالجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا أبو الحسن علي بن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/4). وذكره السيوطي في الدر (6/601) وعزاه لابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (22/4)، والحاكم (2/598 ح4013)، والبيهقي في الشعب (4/373 ح5451). وذكره السيوطي في الدر (6/601) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس.
(3) ... أخرجه الطبري (22/4)، وابن أبي حاتم (9/3130). وذكره السيوطي في الدر (6/601) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) ... في الأصل: البدين.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/469).(1/193)
أحمد الواحدي، أخبرنا أبو القاسم عبدالرحمن بن محمد بن السراج، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان (1) ، حدثنا أبو يحيى الحماني (2) ، عن صالح [بن] (3) موسى القرشي (4) ، عن خصيف (5) ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } (6) .
وبالإسناد قال الواحدي: أخبرنا أبو حكيم (7) عقيل بن محمد الجرجاني -فيما أجاز لي روايته عنه لفظاً-، أخبرنا المعافى بن زكريا القاضي، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا ابن حميد (8) ، حدثنا يحيى بن واضح (9) ، حدثنا
__________
(1) ... الحسن بن علي بن عفان العامري، أبو محمد الكوفي، صدوق، مات سنة سبعين ومائتين (تهذيب التهذيب 2/261، والتقريب ص:162).
(2) ... عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، أبو يحيى الكوفي، صدوق يخطئ، ورمي بالإرجاء، مات سنة اثنتين ومائتين (تهذيب التهذيب 6/109، والتقريب ص:334).
(3) ... في الأصل: عن، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في التعليق التالي.
(4) ... صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله الطلحي الكوفي، متروك الحديث (تهذيب التهذيب 4/354، والتقريب ص:274).
(5) ... خصيف بن عبد الرحمن الجزري، أبو عون الحضرمي الحراني الأموي مولاهم، صدوق سيء الحفظ، خلط بأخرة، ورمي بالإرجاء، مات سنة سبع وثلاثين ومائة (تهذيب التهذيب 3/123-124، والتقريب ص:193).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/469)، والسيوطي في الدر (6/603) وعزاه لابن مردويه.
(7) ... في الوسيط (3/470): أبو حليم.
(8) ... محمد بن حميد بن حيان التميمي الحافظ، أبو عبد الله الرازي، حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 9/111-114، والتقريب ص:475).
(9) ... تقدم.(1/194)
الأصبغ بن علقمة (1) ، عن عكرمة، عن قول الله عز وجل: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } قال: ليس الذي تذهبون إليه، إنما هو في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق (2) . وهذا قول ابن السائب ومقاتل (3) وسعيد بن جبير.
واحتجوا لصحته بما تقدم من الخطاب قبله وما تأخر، فإنه مختص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإنما قال: "ليذهب عنكم"؛ لدخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهن في الخطاب.
قال الزمخشري (4) : وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته.
القول الثاني: أن المراد بأهل البيت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفاطمة، وعلي، والحسن، والحسين. قاله أبو سعيد الخدري وعائشة وأم سلمة.
والدليل على صحته: ما أخبرنا به الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين بن
__________
(1) ... أصبغ بن علقمة بن على بن علقمة بن شريك بن الحارث بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة الحنظلي اليربوعي، من أهل مرو، وكنيته أبو المقدام، يروى عن سعيد بن المسيب وعكرمة، روى عنه ابن المبارك (الثقات 6/77).
(2) ... أخرجه الطبري (22/8). وذكره الواحدي في الوسيط (3/470)، والسيوطي في الدر (6/603) وعزاه لابن جرير وابن مردويه.
(3) ... تفسير مقاتل (3/45).
(4) ... الكشاف (3/546).(1/195)
أحمد القزويني بقراءتي عليه من أصل سماعه قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن أسعد، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي، أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن أحمد الأنصاري، أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع (1) ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة (2) ، حدثنا أبي (3) ، عن مصعب بن شيبة (4) ، عن صفية بنت شيبة الحجبية (5) ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة
__________
(1) ... الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، أبو همام بن أبي بدر الكوفي، نزيل بغداد، ثقة صدوق يكتب حديثه، مات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 11/119، والتقريب ص:582).
(2) ... يحيى بن زكريا بن أبي زائدة واسمه خالد بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي مولاهم، أبو سعيد الكوفي، ثقة متقن صدوق، مستقيم الحديث، كان على قضاء المدائن، ومات بها سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 11/183، والتقريب ص:590).
(3) ... زكريا بن أبي زائدة واسمه خالد بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، كان ثقة كثير الحديث، وكان يدلس، مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 3/284، والتقريب ص:216).
(4) ... مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار العبدري المكي الحجبي، لين الحديث (تهذيب التهذيب 10/147، والتقريب ص:533).
(5) ... صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار العبدرية، لها رؤية (تهذيب التهذيب 12/458، والتقريب ص:764).(1/196)
وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجلس، فجاءته فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه، ثم جاء حسن فأدخله فيه، ثم جاء حسين فأدخله فيه، قال: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } " (1) . هذا حديث صحيح. أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر، عن زكريا عن مصعب.
وروت أم سلمة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جَلَّلَ على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله! قال: إنك إلى خير " (2) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والصحيح عندي (3) : أن المراد بأهل بيته: نساؤه وآله. وهو قول الضحاك (4) واختيار الزجاج (5) ؛ لأن اللفظ صالحٌ لهما عامٌ فيهما.
وظاهر القرآن والأحاديث يدل على صحة ما اخترته.
وفي أفراد مسلم من حديث زيد بن أرقم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وأهل بيتي أُذكّركم الله في أهل بيتي، فقيل لزيد: أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قيل: ومن هم؟ قال: هم
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/1883 ح2424).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/699 ح3871).
(3) ... وهو القول الثالث.
(4) ... ذكره الماوردي (4/401)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/381).
(5) ... معاني الزجاج (4/226).(1/197)
آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس " (1) .
فهذا اعتراف من زيد بن أرقم أن نساءه من أهل بيته.
{ ويطهركم تطهيراً } قال مجاهد: ويطهركم من الشرك (2) .
وقال قتادة: من السوء (3) .
وقال السدي: من الإثم (4) .
والمعنى: ويطهركم بإذهاب الرجس عنكم.
قال الزجاج (5) : الرِّجْس في اللغة: كل مستنكر مُستقْذر من مأكول أو عمل أو فاحشة.
قوله تعالى: { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } يعني: القرآن { والحكمة } قال قتادة: السنّة (6) .
وقال مقاتل (7) : الحلال والحرام والحدود، على معنى: اذكرن ما يتلى في
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/1873 ح2408).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/381).
(3) ... أخرجه الطبري (22/6)، وابن أبي حاتم (9/3133). وذكره السيوطي في الدر (6/606) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره الماوردي (4/401)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/381).
(5) ... معاني الزجاج (4/226).
(6) ... أخرجه الطبري (22/9)، وابن أبي حاتم (9/3133). وذكره السيوطي في الدر (6/607) وعزاه لعبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وهذا هو الصواب، ولا ينافيه القول الثاني، فإن السنة تشتمل على أحكام الحلال والحرام أيضاً.
(7) ... ذكره مقاتل (3/45) بمعناه. وانظر: الماوردي (4/401).(1/198)
بيوتكن من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات، وحكمة علوم وشرائع.
وفائدة هذا: تنبيههن على موضع الشكر حيث جعل بيوتهن مقر الرسالة ومهبط الوحي.
وقيل: هذا حثٌ لهن على حفظ القرآن والسنة ومذاكرتهن بهما للإحاطة بحدود الشريعة، والخطاب وإن اختص بهنّ فغيرهنّ داخلٌ فيه؛ لأن مبنى الشريعة على هذين: القرآن والسنة، وبهما يوقف على حدود الله تعالى ومفترضاته.
{ إن الله كان لطيفاً خبيراً } قال عطية العوفي: لطيفاً باستخراجها، خبيراً بموضعها (1) .
وقيل: خبيراً بمن يصلح لنبوته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته، لطيفاً بكم حيث علمكم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم.
¨bخ) الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/402)(1/199)
وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا اجخب(1/200)
قوله تعالى: { إن المسلمين والمسلمات... الآية } أخرج الترمذي من حديث أم عمارة الأنصارية قالت: " أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت: { إن المسلمين والمسلمات } إلى قوله: { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } " (1) .
وروي نحوه عن أسماء بنت عميس وأم سلمة (2) .
والمسلم: المنقاد. وقيل: المفوض أمره إلى الله تعالى، ومنه: أسلم وجهه إلى الله.
والمؤمن: المصدق بما يجب التصديق به.
وقال الماوردي (3) : في الإسلام والإيمان قولان:
أحدهما: أنه واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء (4) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/354 ح3211).
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:370). وله شاهد صحيح من حديث أم سلمة أخرجه أحمد في مسنده عن أم سلمة قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه يومئذ إلا ونداؤه على المنبر قالت: وأنا أسرح شعري، فلففت شعري ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي، فجعلت سمعي على الجريد فإذا هو يقول على المنبر: يا أيها الناس! إن الله يقول في كتابه: { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... -إلى آخر الآية- أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } (مسند أحمد 6/305 ح26645).
(3) ... تفسير الماوردي (4/402-403).
(4) ... والتحقيق أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الإيمان والإسلام في حديث أو آية فسر الأول بالاعتقادات الباطنة، وفسر الثاني بالأعمال الظاهرة، وإذا ذكر الإسلام مفرداً دخل فيه الإيمان وكذا العكس.(1/201)
الثاني: أنهما مختلفان، وفيها قولان:
أحدهما: أن الإسلام: الإقرار باللسان، والإيمان: التصديق بالقلب. قاله الكلبي.
الثاني: أن الإسلام: هو اسم الدين، والإيمان: هو التصديق به والعمل عليه.
وقد سبق ذكر القانت، وأنه القائم بطاعة الله تعالى الدائم عليها.
والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله.
والصابر: الذي يصبر على طاعة الله تعالى وعن معصيته.
والخاشع: المتواضع لله تعالى بقلبه وجوارحه.
وقيل: هو الذي إذا صلى لا يعرف من عن يمينه وشماله.
والمتصدّق: الذي يزكي ماله ولا يبخل بالنوافل.
وقد قيل: من تصدق في أسبوع بدرهم وصام أيام البيض من كل شهر فهو من المتصدقين والصائمين.
والذاكرين: الذاكر الله كثيراً: من لا يكاد يخلو من ذكر الله تعالى بقلبه أو لسانه أو بهما، أو يكثر من تلاوة القرآن.
أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمرّ على جبل له جمدان فقال: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً(1/202)
والذاكرات" (1) .
قرأتُ على الشيخ الإمام موفق الدين أبي محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بدمشق، -وكنت سمعته عليه قبل ذلك غير مرة-، والإمام فخر الدين أبي عبدالله محمد بن أبي القاسم بن تيمية الخطيب بحران، وبرهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن المظفر الحربي الواعظ الحافظ بالموصل، وأبي الفرج يحيى بن سعد الله بن أبي تمام الزاهد التكريتي بتكريت، قلت لكل واحد من الأشياخ الثلاثة المقدم ذكرهم [على] (2) انفراده: أخبركم أبو الفتح محمد بن عبدالباقي بن سلمان الحاجب المعروف بابن البطي فأقرَّ به.
وقلت أيضاً لشيخنا أبي محمد عبدالله بن أحمد بن محمد على انفراده، ولأبي الفتوح الزاهد على انفراده: أخبركم الشيخ أبو الحسن علي بن عبدالرحمن بن محمد الطوسي فأقرَّ به.
قال ابن البطي والطوسي: أخبرنا أبو عبدالله مالك بن أحمد بن إبراهيم المالكي [البانياسي] (3) ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت (4) ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي (5) ، حدثنا خلاد
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2062 ح2676).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... في الأصل: النايباسي. وهو خطأ.
(4) ... أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت المحبر، أبو الحسن، شيخ البانياسي، ضعفه البرقاني وقوّاه غيره، كان ديّناً صالحاً، ولد في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ومات في رجب سنة خمس وأربعمائة (لسان الميزان 1/255).
(5) ... إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي البغدادي، أبو إسحاق الهاشمي، كان أبوه أمير الحاج مدة، توفي بسامراء في أول المحرم سنة خمس وعشرين وثلاثمائة عن بضع وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء 15/71-72، والتقييد ص:191).(1/203)
بن أسلم (1) ، حدثنا
النضر (2) ، حدثنا شعبة (3) ، عن أبي إسحاق (4) قال: سمعت الأغر (5) قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم
__________
(1) ... خلاد بن أسلم البغدادي، أبو بكر الصفار، ثقة، أصله من مرو، مات بسامراء قبل الخمسين أو عام الخمسين (تهذيب التهذيب 3/148، والتقريب ص:196).
(2) ... النضر بن شميل المازني، أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، كان إماماً في العربية والحديث، ثقة ثبت، مات في أول سنة أربع ومائتين (تهذيب التهذيب 10/390، والتقريب ص:562).
(3) ... شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، كان ثقةً مأموناً ثبتاً حجة، صاحب حديث، وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وإتقاناً وورعاً وفضلاً، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار علماً يقتدى عليه بعده أهل العراق، ولد سنة اثنتين وثمانين، ومات سنة ستين ومائة (تهذيب التهذيب 4/297-302، والتقريب ص:266).
(4) ... عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال: علي، ويقال: بن أبي شعيرة، أبو إسحاق السبيعي، ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة، مات سنة تسع وعشرين ومائة. وقيل: قبل ذلك (تهذيب التهذيب 8/56-58، والتقريب ص:423).
(5) ... الأغر أبو مسلم المدني، تابعي ثقة، نزل الكوفة (تهذيب التهذيب 1/319، وتقريب التهذيب ص:114).(1/204)
السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " (1) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن ابن مثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة.
قوله تعالى: { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } خبران. والتقدير في قوله تعالى: { والذاكرات } { والحافظات } : والذاكراته، والحافظاتها، فحذف المفعول (2) .
والمعنى: أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم وأجراً عظيماً لعملهم.
قال قتادة: وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء، فذُكِرْن بخير (3) .
$tBur كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا اجدب
قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين: نزلت في زينب بنت جحش وأخيها عبدالله،
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2074 ح2700).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/416).
(3) ... ذكره الماوردي (4/404).(1/205)
وكانا ابني عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها لزيد بن حارثة مولاه، فظنت أنه يخطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت أنه يريدها لزيد كرهت وكره أخوها، وقالا: لا نرضاه، وكانت زينب امرأة بيضاء جسيمة وسيمة، وكان فيها حدّة، فقالت: أنا ابنة عمتك وأتم نساء قريش، فكيف أرضاه لنفسي، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فبادرت بصريح إيمانها فقالت: أمري بيدك يا رسول الله، فزوّجها به (1) .
قال مقاتل (2) : وساق لها عشرة دنانير وستين درهماً، وخماراً وملحفة، [ودرعاً وإزاراً] (3) ، وخمسين مُدّاً من طعام، وعشرة أمداد من تمر.
وقال ابن زيد: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت وكره أخوها (4) .
والأول أكثر وأشهر.
والمعنى: "وما كان لمؤمن" عبدالله بن جحش وغيره، "ولا مؤمنة" زينب وغيرها من المؤمنين والمؤمنات.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/11-12). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/609-610) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس.
... ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... تفسير مقاتل (3/47).
(3) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (22/12)، وابن أبي حاتم (9/3134). وذكره السيوطي في الدر (610) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/206)
{ إذا قضى الله ورسوله أمراً } حكما به { أن تكون لهم الخيرة } أي: الاختيار { من أمرهم } .
وقرأ أهل الكوفة وهشام: "أن يكون" بالياء (1) .
{ ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ } أخطأ وجار عن سبيل الهدى { ضلالاً مبيناً } ظاهراً.
ّŒخ)ur تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/285)، والحجة لابن زنجلة (ص:578)، والكشف (2/198)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:355)، والسبعة (ص:522).(1/207)
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ ِNخgح !$uدم÷ٹr& إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا اجذب
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بيت زيد بن حارثة فأبصر زينب قائمة، فوقعت في قلبه فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وذلك أن نفسه قبل ذلك كانت تجفو عنها، فسمعت زينب تسبيحه فذكرته لزيد، ففطن، وألقى الله تعالى في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: أرابك منها شيء؟ فقال: لا والله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، ثم طلقها بعد، فلما اعتدّت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك، اخطب عليَّ زينب.
قال زيد: فانطلقتُ وإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها، فوليتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها،(1/208)
ونزل القرآن، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن (1) .
وفي الصحيح من حديث أنس: " أن زينب كانت تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات " (2) ، وفيها نزلت آية الحجاب.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أيضاً: " لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية " (3) .
وفي الترمذي من حديث عائشة: " لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } " (4) ، يعني: زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالهدى والاختصاص بك حتى تبنيته وأحببته واصطفيته { وأنعمت عليه } بالعتق، { أمسك عليك زوجك واتق الله } أي: اتق الله في أمرها فلا تطلقها.
وقيل: اتق الله فلا تذمها بنسبتها إلى الكبر وأذى الزوج.
وفي قوله تعالى: { وتُخفي في نفسك ما الله مبديه } أربعة أقوال:
أحدها: تعلق قلبه الكريم بها ومحبته إياها. قاله ابن عباس (5) .
الثاني: إيثاره طلاقها. قاله قتادة وابن جريج ومقاتل (6) .
__________
(1) ... أخرج نحوه مسلم (2/1048 ح1428) من حديث أنس.
(2) ... أخرجه البخاري (6/2699 ح6984).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... أخرجه الترمذي (5/353 ح3208).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/387).
(6) ... أخرجه الطبري (22/13) عن قتادة. وذكره مقاتل في تفسيره (3/48)، والماوردي (4/406)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/387)، والسيوطي في الدر (6/614) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن قتادة.(1/209)
الثالث: إضماره في نفسه إن طلقها زيد تزوجتها. قاله [ابن] (1) زيد (2) .
الرابع: أن الله تعالى كان أعلمه أنها تكون زوجته، وأن زيداً سيطلِّقها، فلما قال له: { أمسك عليك زوجك واتق الله } عاتبه الله تعالى على ذلك (3) . قاله علي بن الحسين (4) .
{ وتخشى الناس } أي: وتخشى قائلتهم ولائمتهم.
قال الحسن: ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية أشد عليه منها (5) .
قال الزمخشري (6) : إن قلت: الواو في قوله: { وتخفي في نفسك } ،
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (6/387).
(2) ... أخرجه الطبري (22/13) بأطول منه. وذكره الماوردي (4/406) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/387).
(3) ... وهو الصواب من القول في ذلك. وصحح الأثر الحافظ ابن حجر في الفتح (8/524) وقال: والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك؛ خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابناً، ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية. والله أعلم.
(4) ... أخرجه الطبري (22/13)، وابن أبي حاتم (9/3137). وذكره السيوطي في الدر (6/614-615) وعزاه للحكيم الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
(5) ... ذكره الطبري (22/13)، وابن أبي حاتم (9/3136)، والسيوطي في الدر (6/614).
(6) ... الكشاف (3/551-552).(1/210)
{ وتخشى الناس والله أحق } ما هي؟
قلتُ: واو الحال، أي تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قالة الناس وتخشى الناس، حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله. [أو واو] (1) العطف، كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك: [أمسك] (2) ، وإخفاء خلافه، وخشية الناس، والله أحق أن تخشاه حتى [لا] (3) تفعل مثل ذلك.
{ فلما قضى زيد منها وطراً زوّجناكها } قال الزجاج (4) : الوَطَرُ والأرَبُ في اللغة بمعنى واحد.
وقال الخليل بن أحمد: معنى الوطر: كل حاجةٍ يكون لك فيها هِمَّةٌ، فإذا بلغها البالغ قيل: قد قضى وطره وأرَبَه.
قال المفسرون: وذكر قضاء الوطر هاهنا: للتبيين بأن امرأة المتَبَنَّى تحلّ وإن وطئها (5) .
{ لكيلا } متعلق بـ"زوجناكها".
المعنى: زوجناكها لكيلا يكون على الناس { حرج } أي: ضيق في التزوج بأزواج أدعيائهم إذا قضى الأدعياء منهن وطراً.
__________
(1) ... في الأصل: وواو. والمثبت من الكشاف (3/551).
(2) ... زيادة من الكشاف (3/552).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... معاني الزجاج (4/229).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/390).(1/211)
قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبني كحرمة الابن، فبيّن الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني وإن أصابوهن، وهو قوله تعالى: { إذا قضوا منهن وطراً } بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرم بنفس العقد (1) .
$¨B كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا اجرب
قوله تعالى: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } أي: فيما شرع له من تزويج [امرأة] (2) دعيّه.
وقيل: فيما قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا.
وقال الضحاك: ما كان على النبي من حرج في أن ينكح ما شاء من عدد النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع؛ لأن اليهود عابوا ذلك عليه (3) .
{ سنة الله } مصدر مؤكد لما قبله، وهو قوله: "فرض".
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/474).
(2) ... في الأصل: بامرأة.
(3) ... ذكره الماوردي (4/407).(1/212)
قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين في قوله تعالى: { سنة الله } : أي: سنّ الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في التوسعة عليه في باب النكاح كسنته في الأنبياء الماضين، يعني: داود عليه الصلاة والسلام حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع الله تعالى بينه وبينها، كذلك جمع بين زينب وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتزوج مائة امرأة وكانت له ثلاثمائة سرية، وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية (1) .
{ وكان أمر الله قدراً مقدوراً } قضاء مقضياً.
ڑْïد%©!$# يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/408)، والواحدي في الوسيط (3/474)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/392).(1/213)
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا احةب
ثم أثنى على الرسل الماضين فقال تعالى: { الذين يبلغون رسالات الله... الآية } ، وهو في موضع جر، على الوصف للأنبياء الذين خَلَوا من قبل، أو في موضع (1) نصب أو رفع على المدح، أو على معنى: أعني.
قال المفسرون: لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب قال المشركون واليهود: تزوج محمد امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يريد: لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه تحريم المصاهرة (2) .
{ ولكن رسول الله } أي: ولكن كان رسول الله { وخاتم النبيين } .
قال المفسرون: يعني: أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان [نبياً] (3) ولم يكن خاتم الأنبياء (4) .
قال صاحب الكشاف (5) : فإن قلت: أما كان أبا الطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟
قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله تعالى: { من رجالكم } من وجهين:
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: الله.
(2) ... ذكره الماوردي (4/408)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/393).
(3) ... في الأصل: نبينا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/393).
(5) ... الكشاف (3/553).(1/214)
أحدهما: أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال.
الثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم، وهؤلاء رجاله لا رجالهم.
فإن قلت: أما كان أباً للحسن والحسين؟
قلت: [بلى] (1) ، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ، وهما أيضاً من رجاله، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده؛ لقوله تعالى: { وخاتم النبيين } ، ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين.
قرأتُ على شيخنا أبي البقاء لأبي عمرو من رواية القزاز [والحلبي] (2) عن عبدالوارث عن أبي عمرو: "ولكنّ" بالتشديد، وقرأتُ للباقين "ولكنْ" بالتخفيف (3) . وقرأ "رسولُ اللهِ" بالرفع.
قال الزجاج (4) : من نصب فعلى معنى: ولكن كان رسولَ الله وكان خاتمَ النبيين. ومن رفع فالمعنى: ولكن هو رسولُ الله.
قال الزمخشري (5) : ومن شدّد فعلى حذف الخبر، تقديره: ولكن رسولَ اللهِ من عرفتموه.
__________
(1) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: الحلبي. والصواب ما أثبتناه.
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر المحيط (7/228)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/419).
(4) ... معاني الزجاج (4/230).
(5) ... الكشاف (3/553).(1/215)
قال ابن جني (1) : وعليه قول الفرزدق:
وَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِن زَنْجِيّاً غَلِيظَ المَشَافِرِ (2)
أي: ولكن زنجياً غليظ المشافر لا يعرف قرابتي، كذلك هاهنا الخبر محذوف، تقديره: ولكن رسولَ الله محمد.
وقرأ الأكثرون: "وخاتِم النبيين" بكسر التاء، على أنه اسم الفاعل، من ختمهم فهو خاتمهم، كما تقول: ضربهم فهو ضاربهم، فتحها عاصم (3) ، وهي قراءة الحسن، على معنى: أنه آخر النبيين كالطابع عليهم.
ويروى أن الحسن قال: هم الخاتم الذي ختم به (4) .
قرأتُ على أبي المجد القزويني، أخبركم أبو منصور الطوسي فأقرّ به قال: حدثنا أبو محمد البغوي، أخبرنا علي بن يوسف الجويني، أخبرنا محمد بن علي الخذاشاهي، أخبرنا عبدالله بن محمد الحوريذي، حدثنا يونس بن عبدالأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن
__________
(1) ... المحتسب (2/181-182).
(2) ... البيت للفرزدق. انظر: الكتاب (2/136)، والمحتسب (2/182)، وابن يعيش (8/81)، والهمع (1/136)، والبحر (7/228)، والدر المصون (5/419)، واللسان (مادة: شفر).
... والمشافر: جمع مشفر، وهو للبعير كالشفة للإنسان. واستعاره منه لما قصد من تشنيع خلق من يهجوه. والقرابة التي بين الفرزدق وضبة: أنه من تميم بن مر بن أد بن طابخة. وضبة هو ابن أد بن طابخة. وهو هنا ينفي نسبته إلى ضبة.
(3) ... الحجة للفارسي (3/285)، والحجة لابن زنجلة (ص:578)، والكشف (2/199)، والنشر (2/348)، والإتحاف (ص:355)، والسبعة (ص:522).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/474).(1/216)
أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبين ابن مريم نبي " (1) .
قال: كان أبو هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة، فطاف بها النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل ".
وأخرج الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة. ومسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق بالإسناد عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأكملها وأجملها، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بنيانك، فقال محمد - صلى الله عليه وسلم - : فكنت أنا اللبنة" (2) .
وأخرجاه في الصحيحين من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه (3) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1270 ح3258)، ومسلم (4/1837 ح2365).
(2) ... أخرجه أحمد (2/312 ح8101).
(3) ... أخرجه البخاري (3/1300 ح3342)، ومسلم (4/1790 ح2286).(1/217)
(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا اححب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } أي: اذكروه بألسنتكم وقلوبكم.
قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبداً (1) .
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أكثروا ذكر الله
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/475)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/396).(1/218)
حتى يقولوا: مجنون " (1) .
{ وسبحوه } صَلُّوا له { بكرة وأصيلاً } .
قال ابن السائب: أما "بكرة": فصلاة الفجر، وأما "أصيلاً": فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء (2) . وهذا مروي عن ابن عباس.
وقال قتادة: صلاة الصبح والعصر (3) .
وقيل: "سَبِّحُوه": نَزِّهُوه.
قال مجاهد: قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (4) .
قوله تعالى: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } أما الصلاة من الله: فالرحمة والمغفرة، في قول الحسن وأكثر المفسرين (5) .
وقال أبو العالية: الثناء، وأما صلاة الملائكة: فالدعاء والاستغفار (6) .
قال الزمخشري (7) : لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/68 ح11671).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/475).
(3) ... أخرجه الطبري (22/17)، وابن أبي حاتم (9/3138). وذكره السيوطي في الدر (6/620) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره الماوردي (4/410), وابن الجوزي في زاد المسير (6/398).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (9/3139). وذكره السيوطي في الدر (6/622) وعزاه لابن أبي حاتم.
(7) ... الكشاف (3/555).(1/219)
وسجوده استعير لمن [ينعطف] (1) على غيره حنواً عليه وترؤفاً.
{ ليخرجكم من الظلمات إلى النور } قال مقاتل (2) : من الكفر إلى الإيمان.
وقيل: من النار إلى الجنة.
{ تحيتهم يوم يلقونه سلام } قال مقاتل (3) : يعني: تسليم الملائكة عليهم.
وقيل: تحية بعضهم بعضاً. وقد سبق تفسير ذلك.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ
__________
(1) ... في الأصل: يتعطف. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... تفسير مقاتل (3/49).
(3) ... تفسير مقاتل (3/49).(1/220)
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا احرب
قوله تعالى: { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } أي: شاهداً على من بعث إليهم مصدقهم ومكذبهم، وشاهداً على الأمم الخالية بتبليغ رسلهم ما بعثوا به.
"وشاهداً": حال مُقدّرة.
{ وداعياً إلى الله } قال ابن عباس: إلى شهادة أن لا إله إلا الله (1) .
وقيل: إلى الإسلام والطاعة.
{ بإذنه } بتيسيره وتسهيله.
فإن قيل: ما منعك من حمل الإذن على ظاهره؟
قلت: منعني من ذلك { إنا أرسلناك } إلى قوله تعالى: { وداعياً } ، وهذا مشعر بالإذن في الدعاء.
وقيل: "بإذنه": بأمره.
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/312 ح11841)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/319 ح1418)، وابن أبي حاتم (9/3140). وذكره السيوطي في الدر (6/624) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر.(1/221)
{ وسراجاً منيراً } يُستضاء بك في طلب الهدى، ووصفه بالإنارة؛ لكون بعض السرج لا تضيء.
قوله تعالى: { ولا تطع الكافرين والمنافقين } سبق تفسيره في أول السورة.
{ ودع أذاهم } قال ابن عباس: اصبر على أذاهم (1) .
وقال الزجاج (2) : تأويله: لا تجازهِمْ عليه إلى أن تُؤمر فيهم بأمْر. وهذا منسوخ بآية السيف (3) .
وقال الضحاك: { دعْ أذاهم } : وهو ما خاضوا فيه من الطعن عليه حين تزوج زينب (4) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/19)، وابن أبي حاتم (9/3140) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (6/625) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) ... معاني الزجاج (4/231).
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:144)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:51)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:428).
(4) ... ذكره الماوردي (4/411).(1/222)
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا احزب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } قال ابن عباس: كذبوا على ابن مسعود، وإن كان قالها فزلّة من عالم؛ في الرجل يقول: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، [يقول] (1) الله: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } ، ولم يقل: إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن (2) .
وقال سماك بن الفضل (3) : إنما النكاح عقدة والطلاق يَحُلُّها، فكيف تُحَلُّ عقدة لم تُعْقَد؟ قال معمر: فصار بهذه الكلمة قاضياً على صنعاء (4) .
وقد أجمع العلماء على أن الطلاق إذا وقع قبل المسيس والخلوة فلا عدّة فيه، ويشطر الصداق، وأن التي لم يدخل بها تبينها الطلقة الواحدة.
__________
(1) ... في الأصل: بقول. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/223 ح2821)، والبيهقي في الكبرى (7/320 ح14664). وذكره السيوطي في الدر (6/627) وعزاه للبيهقي.
(3) ... سماك بن الفضل الخولاني اليماني الصنعاني، ثقة، يروي عن وهب بن منبه، روى عنه معمر بن راشد (الثقات 6/426، وتهذيب التهذيب 4/206).
(4) ... أخرجه عبد الرزاق (6/420 ح11469)، والبيهقي في الكبرى (7/321 ح14667). وذكره الواحدي في الوسيط (3/476)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/403).(1/223)
{ فمتعوهن } متعة الطلاق. وقد ذكرنا أحكامها في سورة البقرة.
$ygoƒr'¯"tƒ النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ(1/224)
عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اخةب
قوله تعالى: { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ... الآية } قال المفسرون: ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: { أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي: مهورهن، وسُمِّي المهر أجراً؛ لوقوعه في مقابلة البضع. والمعنى: اللاتي تزوجهن بصداق.
{ وما ملكت يمينك } بالسبي { مما أفاء الله عليك } أي: رده عليك من الكفار؛ كصفية وجويرية، فإنه أعتقهما وتزوجهما.
{ وبنات عمك وبنات عماتك } يريد: نساء قريش، { وبنات خالك وبنات خالاتك } يريد: نساء بني زهرة، { اللاتي هاجرن معك } إلى المدينة.
قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لا يحل له نكاحها (1) .
وقالت أم هانئ: خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت إليه بعذر، ثم أنزل الله
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/404).(1/225)
هذه الآية، فلم أحل له لأني كنت من الطلقاء (1) . وهذا قول جماعة من المفسرين.
وقيل: نسخ شرط الهجرة في التحليل ولم يذكر ناسخه.
وقيل: شرط الهجرة في التحليل له كان مختصاً ببنات عمه وببنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته.
وقال صاحب الكشاف (2) : إن قلت: لم قال: { اللاتي آتيت أجورهن } ، و { مما أفاء الله عليك } ، و { اللاتي هاجرن } وما فائدة هذه التخصيصات؟
قلت: قد اختار الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الأفضل الأولى، واستخصه (3) بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزاً، وله أن يماسّها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها، وسوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل [ديدن] (4) السلف وسنتهم، وكذلك [الجارية] (5) إذا كانت سبية
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/355 ح3214) وقال: حديث حسن صحيح لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي، والحاكم (4/58 ح6872)، والبيهقي في الكبرى (7/54 ح13128)، وابن سعد في طبقاته (8/152)، والطبري (22/21)، وابن أبي حاتم (10/3142).
(2) ... الكشاف (3/558-559).
(3) ... في الكشاف (3/558): واستحبه.
(4) ... في الأصل: دين. والتصويب من الكشاف (3/558).
(5) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/226)
مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما اغتنمه الله تعالى من دار الحرب أحل وأطيب مما يشتري من شق الجلب، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه، و"أحللنا لك" من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف [في] (1) اتفاق ذلك، فعن ابن عباس: لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد منهن بالهبة (2) .
وقيل: الموهوبات أربع: ميمونة، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
وقرأ أبي بن كعب والحسن: "أَن وهبت" بفتح الهمزة (3) ، أي: لأن وهبت.
وقرأ ابن مسعود: "وامرأة مؤمنة وهبت"، بغير "إن" (4) .
وقوله تعالى: { إن أراد النبي أن يستنكحها } أي: إن آثر ذلك، أي: أحللناها لك إن وهبت نفسها وأردت نكاحها. وإنما خاطبه بقوله: "إنا أحللناها لك"، ثم عدل إلى الغيبة بقوله: "إن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستنكحها" يعني: الواهبة، ثم خاطبه بقوله تعالى: { خالصة لك } الإشعار باختصاص ذلك به، والتنويه باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - للإيذان بأنها السبب في إكرامه بما خص به وتكريره
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/559).
(2) ... انظر: الطبري (22/22-23).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:356).
(4) ... ذكر هذه القراءة الزمخشري في: الكشاف (3/559).(1/227)
بقوله: { إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي } للتفخيم والتعظيم، كقول الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا (1)
فصل
اختلف العلماء في جواز النكاح بلفظ الهبة لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي جوازه بلفظ البيع والتمليك، فأجازه جماعة؛ منهم: النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، واختلف أصحابه في النكاح بلفظ الإجارة (2) ، واحتجوا بهذه الآية نظراً إلى أن الأصل مساواة الأمّة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام، إلا ما خصه الدليل.
ولم يجزه الأكثرون، منهم: سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وأحمد (3) ؛ لقوله تعالى: { إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } ، ولقطع المشاركة بين النكاح وغيره من العقود في اللفظ، كما لا تنعقد سائر العقود بلفظ الإنكاح والتزويج.
قوله تعالى: { خالصة لك من دون المؤمنين } قال ابن عباس: يقول: لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال، [وهذا] (4) من خصائصه في النكاح (5) .
__________
(1) ... البيت لعدي بن زيد. انظر: ديوانه (ص:65)، والكتاب (1/92)، والخصائص (3/53)، والخزانة (1/183)، والدر المصون (1/235)، والطبري (4/42)، والقرطبي (1/417، 4/62، 8/149)، وزاد المسير (1/227)، واللسان (مادة: نغص).
(2) ... انظر: المغني (7/60)، والتمهيد لابن عبد البر (21/111).
(3) ... انظر: المغني (7/60)، والتمهيد لابن عبد البر (21/111).
(4) ... زيادة من الوسيط (3/477).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/477).(1/228)
و"خالصة" مصدر مؤكد، أي: خلص لك ذلك خالصة بمعنى خلوصاً.
قوله تعالى: { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } أي: قد علمنا ما أوحينا وحكمنا على المؤمنين في أزواجهم، وهو أن لا يتزوجوا أكثر من أربع، وأنه لا ينعقد نكاحهم إلا بالأولياء والشهود { وما ملكت أيمانهم } .
وقوله تعالى: { لكيلا يكون عليك حرج } متعلق بقوله: { خالصة لك } ، أي: أخلصنا لك ذلك لكيلا يكون عليك حرج، وما بينهما جملة اعتراضية تفيد الإشعار باختصاص الله تعالى بعلم ما يشرع للنبي - صلى الله عليه وسلم - مختصاً به، وما حد للمؤمنين فيما فرض عليهم.
* تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي(1/229)
قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا اختب
قوله تعالى: { ترجي من تشاء منهن } نزلت مبيحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مصاحبة نسائه ومعاشرتهن كيف شاء من غير حرج عليه؛ تخصيصاً له وتفضيلاً.
قوله تعالى: { ترجي } أي: تؤخر. ومن القُرّاء السبعة من يهمزه، ومنهم من لا يهمزه (1) . وقد سبق ذكره.
والمعنى: تؤخر من تشاء بالطلاق. قاله ابن عباس (2) .
وقال مجاهد: تؤخر من تشاء فتعزلها عن أزواجك فلا تأتيها (3) .
قال المفسرون: كان القسم والتسوية بينهن واجباً عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن (4) .
قال أبو رزين: كان ممن آوى: عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة، وكان ممن أرجأ: سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان يقسم لهن ما
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/286)، والحجة لابن زنجلة (ص:578)، والنشر (1/406)، والإتحاف (ص:356)، والسبعة (ص:523).
(2) ... أخرجه الطبري (22/25)، وابن أبي حاتم (10/3146). وذكره السيوطي في الدر (6/633) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (22/25)، وابن أبي حاتم (10/3146)، ومجاهد (ص:519) بالمعنى. وذكره السيوطي في الدر (6/635) وعزاه للفريابي وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/478).(1/230)
شاء، وكان أراد أن يفارقهن فقلن: اقسم لنا ما شئت من نفسك ودعنا نكون على حالنا (1) .
أخبرنا أبو القاسم السلمي وأبو الحسن البغداديان، أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا زكريا بن يحيى (2) ، حدثنا أبو أسامة (3) ، حدثنا هشام (4) عن أبيه (5) ، عن عائشة قالت: " كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقول: تهب المرأة نفسها، فلما أنزل الله عز وجل: { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء... الآية } قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك " (6) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/501)، والطبري (22/25).
(2) ... زكريا بن يحيى بن صالح بن سليمان بن مطر البلخي، أبو يحيى اللؤلؤي، ثقة حافظ، كان صاحب سنّة وفضل ممن يرد على أهل البدع، مات سنة ثلاثين أو اثنتين وثلاثين (تهذيب التهذيب 3/289، والتقريب ص:216).
(3) ... حماد بن أسامة بن زيد القرشي مولاهم، أبو أسامة الكوفي، ثقة ثبت ربما دلّس، مات في شوال سنة إحدى ومائتين (تهذيب التهذيب 3/3، والتقريب ص:177).
(4) ... هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو المنذر، وقيل: أبو عبد الله، كان ثقةً ثبتاً، كثير الحديث، حجة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 11/44-45، والتقريب ص:573).
(5) ... عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي، أبو عبد الله المدني، كان ثقةً كثير الحديث، فقيهاً عالماً، ثبتاً مأموناً، مات سنة أربع وتسعين على الصحيح (تهذيب التهذيب 7/163-165، والتقريب ص:389).
(6) ... أخرجه البخاري (4/1797 ح4510).(1/231)
وأخرجه مسلم (1) عن أبي كريب عن أبي أسامة.
قوله تعالى: { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } أي: ومن طلبت ممن عزلتهن من نسائك عن القسم [وأردت] (2) ضَمَّها وإيوائها إليك فلا إثم عليك، ولا حرج عليك في ذلك ولا عتب، { ذلك } التخيير الذي خيرناك والتفويض إلى مشيئتك { أدنى أن تقر أعينهن } أقرت قرة أعينهن ورضاهن جميعاً لكونه منزلاً من عند الله.
قال قتادة: إذا علمن أن هذا جاء من الله تعالى كان أطيب لأنفسهن وأقلّ لحزنهن (3) .
قرأ الأكثرون: "كُلُّهن" برفع اللام، أي: يرضين كلهن. وقرئ شاذاً: "كُلَّهن" بالنصب (4) ، تأكيداً لـ "هُنَّ" في "آتيتهن"، والمعنى واحد.
w يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا
__________
(1) ... أخرجه مسلم (2/1085 ح1464).
(2) ... في الأصل: وأرت.
(3) ... أخرجه الطبري (22/28). وذكره الماوردي (4/416).
(4) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر (7/235)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/423).(1/232)
مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا اخثب
قوله تعالى: { لا يحل لك النساء من بعد } قرأ أبو عمرو: "لا تَحِلُّ" بالتاء، لتأنيث الجمع، والباقون بالياء (1) ؛ لأن تأنيث الجمع غير حقيقي، وإذا جاز بغير فصل كقوله تعالى: { وقال نسوة } كان مع الفصل أجوز من بعد، أي: من بعد التسع.
قال الشعبي: لما خيرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ذلك فقصره عليهن، وأنزل هذه الآية. وهذا قول ابن عباس وقتادة والحسن (2) .
وقال أبي بن كعب: المعنى: لا تحل لك من بعد المذكورات في قوله: { إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن... الآية } . وهو قول الضحاك أيضاً (3) .
وقال مجاهد: المعنى: لا تحل لك نساء اليهوديات والنصرانيات من بعد
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/286)، والحجة لابن زنجلة (ص:579)، والكشف (2/199)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:356)، والسبعة (ص:523).
(2) ... أخرجه الطبري (22/28-29) عن قتادة. وذكره الواحدي في الوسيط (3/478) عن الشعبي، والسيوطي في الدر (6/637) وعزاه لأبي داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس.
(3) ... ذكره الماوردي (4/417)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/410).(1/233)
المسلمات (1) .
{ ولا أن تبدل بهن من أزواج } ينبني على الأقوال المذكورة، فعلى الأول يكون المعنى: ولا يحل لك أن تستبدل بزوجاتك سواهن (2) .
وعلى قول مجاهد يكون المعنى: ولا أن تبدل الكتابيات بالمسلمات، يقول: لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية.
وقال أبو هريرة وابن زيد: كانت عادة الجاهلية التبادل بالأزواج، فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويعطي الآخر زوجته بدلاً منها، فنهوا عن ذلك (3) .
قوله تعالى: { ولو أعجبك حسنهن } في محل الحال من الفاعل المضمر في "تَبَدَّلَ"، لا من المفعول الذي هو "من أزواج"؛ لتوغله في "إلا" التنكير.
{ إلا ما ملكت يمينك } يعني: فإنهن غير محصورات بعدد. أو يكون المعنى: إلا ما ملكت يمينك من الكتابيات.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/30)، وابن أبي حاتم (10/3147)، وابن أبي شيبة (3/538).
... وذكره السيوطي في الدر (6/637) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... وهو اختيار ابن جرير الطبري (22/31).
(3) ... أخرجه الطبري (22/31) عن ابن زيد. وذكره السيوطي في الدر (6/638) وعزاه للبزار وابن مردويه عن أبي هريرة.
... وأنكر هذا القول ابن جرير فقال: والذي قاله ابن زيد فقول لا معنى له، لأنه لو كان بمعنى المبادلة لكانت القراءة والتنزيل: ولا أن تبادل بهن.(1/234)
ويجيء على قول أبي هريرة وابن زيد: أن يكون إلا ما ملكت يمينك فلك الاستبدال بها.
فصل
اختلف العلماء في قوله تعالى: { لا يحل لك النساء من بعد } هل نسخ أم لا؟ فروي عن علي وابن عباس وعائشة وأم سلمة أنه نسخ بقوله تعالى: { إنا أحللنا لك أزواجك } (1) .
قالت عائشة: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء (2) .
__________
(1) ... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:144)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:51)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:431-433).
... وذهب ابن جرير الطبري (22/30) إلى إحكام الآية فقال: وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحل لك النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي: { إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ... } إلى قوله: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبي } . وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن قوله: { لا يَحِلُّ لَكَ النّسَاءُ } عقيب قوله: { إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ، وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء، ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين قبل الأخرى منهما، فإن كان ذلك كذلك، ولا دلالة ولا برهان على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى، ولا تقدم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة، لم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة للأخرى. اهـ.
... وأورد مكي بن أبي طالب إحكام الآية بأدلته عن ابن عباس وسهل وقتادة والحسن وابن سيرين. انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (ص:337).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/356 ح3216)، وأحمد (6/41 ح24183)، والشافعي في الأم (5/140) وله رأي في قول عائشة، قال الشافعي رضي الله عنه: كأنها تعني اللاتي حظرن عليه في قوله: { لا يحل لك النساء من بعد ... الآية } .
... ثم قال: وأحسب قول عائشة رضي الله عنها: "أحل له النساء" بقول الله عز وجل: { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله: { خالصة لك من دون المؤمنين } فذكر الله عز وجل ما أحل له، فذكر أزواجه اللاتي آتى أجورهن وذكر بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي قال: فدل ذلك على معنيين:
... أحدهما: أنه أحل له مع أزواجه من ليس له بزوج يوم أحل له، وذلك أنه لم يكن عنده - صلى الله عليه وسلم - من بنات عمه ولا بنات عماته ولا بنات خالاته امرأة وكان عنده عدد نسوة، وعلى أنه أباح له من العدد ما حظر على غيره.(1/235)
قال أبو سليمان الدمشقي: يعني: نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات (1) .
وقال جماعة، منهم الحسن وابن سيرين: أنها محكمة ما نسخت (2) .
قال الزهري: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نعلمه تزوج النساء بعد (3) .
وفي قوله: { وكان الله على كل شيء رقيباً } تحذير من مجاوزة حدود الله عز وجل.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/411).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/195). وذكره الواحدي في الوسيط (3/478).(1/236)
غَيْرَ tûجچدà"tR إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا(1/237)
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا اخحب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي... الآية } أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عروساً بزينب، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية، فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمر وسمن وأقط فاتخذت حيسة في [بُرْمَة] (1) فأرسلت بها معي، فانطلقت بها إليه فقال: ضعها، ثم أمرني فقال: ادع لي رجالاً سماهم، وقال: ادعُ لي من لقيت، قال: ففعلت الذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاصٌّ (2) بأهله، ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده في تلك الحيسة وتكلم بما شاء، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه، حتى تصدعوا كلهم [عنها] (3) ، فخرج [منهم] (4) من خرج وبقي (5)
__________
(1) ... في الأصل: رمه. والتصويب من البخاري (5/1981).
... والبُرْمَة: قِدْرٌ من حجارة. والجمع: بُرَم وبِرام وبُرْم. وقيل: القدر مطلقاً. وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن (اللسان، مادة: برم).
(2) ... أي: ممتلئ بهم. وغَصَّ المكان بأهله: ضاق (اللسان، مادة: غصص).
(3) ... زيادة من البخاري (5/1981).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... في الأصل زيادة قوله: من بقي. وهي غير موجودة في البخاري.(1/238)
نفر يتحدثون. ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو الحجرات وخرجت في إثره، فقلت: إنهم [قد ذهبوا] (1) ، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي -إلى قوله تعالى-: والله لا يستحيي من الحق } ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأهن على الناس " (2) . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق.
وقال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين يتحيّنون [طعام] (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذى بهم، فنزلت هذه الآية (4) .
وفي الصحيحين من حديث عمر قال: " قلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البَرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب " (5) .
وقالت عائشة: كان عمر يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " (43) نساءك فلا يفعل، فخرجت سودة ليلة، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، فنزل " (6) .
__________
(1) ... في الأصل: تذهبوا. والتصويب من البخاري (5/1981).
(2) ... أخرجه البخاري (5/1981 ح4868)، ومسلم (2/1051 ح1428).
(3) ... في الأصل: طام. والتصويب من زاد المسير (6/413).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/413).
(5) ... أخرجه البخاري (1/157 ح393)، ولم أقف عليه عند مسلم.
(6) ... أخرجه البخاري (1/67 ح146)، ومسلم (4/1709 ح2170).(1/239)
قوله تعالى: { إلا أن يؤذن لكم } في معنى الظرف، تقديره: وقت أن يؤذن لكم، و { غير ناظرين إناه } حال [من] (1) "لا تدخلوا"، والاستثناء واقع على الوقت والحال معاً، تقديره: لا تدخلوا إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه (2) ، أي: نضجه وبلوغه. يقال: أنَى يَأْني إذا حان وأدرك (3) .
{ ولا مستأنسين لحديث } معطوف على "ناظرين"، فيكون مجروراً، أو هو منصوب، على معنى: ولا تدخلوها مستأنسين (4) .
قوله تعالى: { فيستحيي منكم } لا بد فيه من تقدير المضاف، أي: فيستحيي من إخراجكم.
{ والله لا يستحيي من الحق } أي: لا يترك ما يبيّن لكم أنه الحق.
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/563).
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/563). وانظر: الدر المصون (5/424).
... قال أبو حيان في البحر (7/237): فقوله: { إلا أن يؤذن } في معنى الظرف، وتقديره: وقت أن يؤذن لكم، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح، وقد نصوا على أنّ "أنْ" المصدرية لا تكون في معنى الظرف، تقول: أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج، ولا يجوز: أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج. وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً؛ فلا يجوز على مذهب الجمهور، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى، أو المستثنى منه، أو صفة المستثنى منه، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، أجازا: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال.
(3) ... انظر: اللسان (مادة: أني).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/424)، والتبيان (2/194).(1/240)
قال بعض العلماء: هذا أدبٌ أدَّبَ الله به الثُقلاء (1) .
قالت عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال: { فإذا طعمتم فانتشروا } (2) .
{ وإذا سألتموهن متاعاً } أي: حاجة، والضمير لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكرن؛ لأن الحال ناطقة بهن.
{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الريبة، { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } في شيء من الأشياء، { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } .
قال ابن عباس: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجت عائشة، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما أنزل (3) .
قال مقاتل بن سليمان (4) : هو طلحة بن عبيدالله.
قال الزجاج (5) : أعلم الله تعالى أن ذلك محرم بقوله: { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } .
فصل
اختلف الفقهاء في وجوب [الاعتداد] (6) على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على
__________
(1) ... ذكره القرطبي (14/224) عن إسماعيل بن أبي حكيم.
(2) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/313)، وأبو حيان في البحر المحيط (7/237).
(3) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (7/69 ح13196)، وابن أبي حاتم (10/3150). وذكره السيوطي في الدر (6/643) وعزاه لابن مردويه.
(4) ... تفسير مقاتل (3/53).
(5) ... معاني الزجاج (4/235).
(6) ... في الأصل: الاعتاد.(1/241)
وجهين:
أحدهما: أن عليهن العدة لدخولهن في عموم الأدلة الدالة على وجوبها.
والثاني: لا عدة عليهن؛ لأن العدة مدة تتربص بها الإباحة، وتحريمهن على التأبيد، فلا فائدة في شرعيتها عليهن.
w جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا £`خgح !$uZِ/r& وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا £`خgح !$|،خS وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا اخخب
قال المفسرون: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب، فأنزل الله تعالى: { لا(1/242)
جناح عليهن في آبائهن } (1) .
قال قتادة: "لا جناح عليهن في آبائهن": في ترك الحجاب (2) .
وقال مجاهد: في وضع الجلباب (3) .
{ ولا نسائهن } يريد: نساء المسلمات. وقيل: الجميع (4) . وقد ذكر في سورة النور (5) .
¨bخ) اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/421)، والواحدي في الوسيط (3/480)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/417).
(2) ... أخرجه الطبري (22/42). وذكره الماوردي (4/420).
... وهذا القول هو اختيار ابن جرير الطبري.
(3) ... أخرجه الطبري (22/41). وذكره الماوردي (4/420).
(4) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (6/417-418): فان قيل: ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا؟ فعنه جوابان:
... أحدهما: لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وهو قول الشعبي وعكرمة.
... والثاني: لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا. قاله الزجاج.
(5) ... عند الآية رقم: 31.(1/243)
اخدب
قوله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي } ، وقرئ: "وملائكتُهُ" بالرفع (1) ، عطفاً على محل إن واسمها. وقد ذكر آنفاً معنى صلاة الله والملائكة عليه.
{ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } أخرجا في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: "قلنا: يا رسول الله! قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" (2) .
ومعنى قولهم: "قد عرفنا السلام عليك": ما يقال في التشهد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهو معنى قوله: { وسلموا تسليماً } .
وقيل: المعنى: وسلِّمُوا لأمره تسليماً.
وحكى مقاتل قال (3) : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون: فما لنا يا رسول الله؟ فنزل: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته... الآية } (4) .
أخرج الإمام أحمد من حديث عبدالرحمن بن عوف قال: " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته حتى دخل نخلاً، فسجد فأطال السجود، حتى خفت أو
__________
(1) ... وهي قراءة ابن عباس. انظر هذه القراءة في: البحر (7/239)، والدر المصون (5/425).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1802 ح4519)، ومسلم (1/305 ح406).
(3) ... تفسير مقاتل (3/54).
(4) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:376)، والماوردي (4/422).(1/244)
خشيت أن يكون الله عز وجل قد توفاه أو قبضه. قال: فجئت أنظر فرفع رأسه فقال: ما لك يا عبدالرحمن؟ قال: فذكرت ذلك له. قال: فقال: إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك، إن الله عز وجل يقول لك: من صلّى عليك صلاة صليتُ عليه، ومن سلّم عليك سلّمتُ عليه " (1) .
وفي حديث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: "دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أره أشد استبشاراً منه يومئذ ولا أطيب نفساً، قلت: يا رسول الله! ما رأيتك قط أطيب نفساً ولا أشد استبشاراً منك اليوم؟ قال: وما يمنعني وقد خرج آنفاً جبريل من عندي قال: قال الله تعالى: من صلى عليك صلاة صليت بها عليه عشر صلوات، ومحوت عنه عشر سيئات، وكتبت له عشر حسنات" (2) .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الحسين بن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البخيل من ذكرتُ عنده ثم لم يُصَلِّ عليّ" (3) .
فصل
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة كلما ذُكر، وذهب بعضهم إلى وجوبها في كل مجلس مرة واحدة، وذهب بعضهم إلى وجوبها في العمر مرة واحدة (4) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد (1/191 ح1662).
(2) ... أخرجه أحمد (4/29 ح16399).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/551 ح3546) وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (1/201 ح1736).
(4) ... انظر: المبسوط للسرخسي (1/29)، وبدائع الصنائع (1/213).(1/245)
وأما الصلاة عليه في الصلاة واجبة عند الإمام أحمد، ومنهم من يجعلها شرطاً لصحة الصلاة، ومنهم من يجعلها سنة.
واختلفوا في الصلاة على غيره؛ فسوغها قوم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم صل على آل أبي أوفى" (1) ، وكرهها آخرون؛ لكونها شعاراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أن يكون تبعاً؛ كقولك: اللهم صل على محمد وآل محمد وأصحابه.
¨bخ) الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا اخرب
قوله تعالى: { إن الذين يؤذون الله ورسوله } قال ابن عباس: هم الذين
__________
(1) ... أخرجه البخاري (2/544 ح1426)، ومسلم (2/756 ح1078).(1/246)
طعنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اتخذ صفية بنت حيي (1) .
وقال عكرمة: هم أصحاب [التصاوير] (2) .
وقال يحيى بن سلام: هم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبهتونه (3) .
وفي قوله تعالى: { يؤذون الله } ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه وصفه بما لا يليق بجلاله وما يجب تنزيهه عنه.
أخبرنا أبو علي بن عبدالله بن سعادة في كتابه أخبرنا أبو القاسم الشيباني، أخبرنا [أبو] (4) علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر بن مالك، أخبرنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبدالرحمن -هو السلمي-، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل، يدعون له ولداً ويعافيهم ويرزقهم " (5) . أخرجه البخاري عن مسدد، عن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/45)، وابن أبي حاتم (10/3152). وذكره السيوطي في الدر (6/656) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (22/44)، وابن أبي حاتم (10/3152). وذكره السيوطي في الدر (6/657) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. وما بين المعكوفين في الأصل: البضايير. والتصويب من المصادر السابقة.
(3) ... ذكره الماوردي (4/422).
(4) ... زيادة على الأصل. انظر ترجمته في: العبر (2/285)، وشذرات الذهب (3/271).
(5) ... أخرجه البخاري (5/2262 ح5748)، ومسلم (4/2160 ح2804)، وأحمد (4/401 ح19604).(1/247)
يحيى، عن سفيان. وأخرجه مسلم عن أبي بكر، عن أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش.
الثاني: أن المعنى: يؤذون نبي الله، فجعل أذى نبيه أذى له؛ تشريفاً لمنزلته.
الثالث: أن المعنى: يؤذون أولياء الله (1) . وأما أذى الرسول فهو ما ذكرناه في سبب النزول.
وقال الواحدي (2) : هو أنهم كذبوا رسول الله وشَجُّوا وجهه وكسروا رباعيته، وقالوا: مجنون؛ شاعر، ساحر، كذاب.
{ لعنهم الله في الدنيا والآخرة } قال المفسرون: لعنتهم في الدنيا: القتل والجلاء، وفي الآخرة: عذاب النار (3) .
قوله تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } أي: بغير جناية توجب استحقاق الأذى.
قيل: إنها نزلت في الذين تكلموا في أهل الإفك، وهو قول الضحاك (4) .
وقال ابن السائب: نزلت في الزناة، كانوا يمشون في الطريق فيرون المرأة فيغمزونها (5) .
__________
(1) ... ذكر هذه الأقوال: الماوردي في تفسيره (4/422).
(2) ... الوسيط (3/482).
(3) ... ذكره الماوردي (4/423)، والواحدي في الوسيط (3/482)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/420).
(4) ... ذكره الماوردي (4/423)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/421).
(5) ... ذكره الماوردي (4/423) عن الضحاك، والواحدي في أسباب النزول (ص:377) عن الضحاك والسدي وابن السائب الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (6/421) عن السدي.(1/248)
وحكى مقاتل (1) والنقاش: أنها نزلت في قوم كانوا يؤذون علي بن أبي طالب ويكذبون عليه.
ويروى: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قرأ ليلة هذه الآية فأفزعته، فانطلق إلى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } ، وإني لأعاقبهم وأضربهم، فقال: إنك لست منهم، إنما أنت مُؤدِّب، إنما أنت معلِّم (2) .
وقال الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف [تؤذي مسلماً] (3) ؟
وكان ابن عون لا يكري الحوانيت إلا من أهل الذمة؛ لما فيه من الروعة عند كراء الحول (4) .
وقال الحسن وقتادة: إياكم وأذى المؤمن فإنه حبيب ربه، أحَبَّ الله تعالى
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/54). وذكره الماوردي (4/423)، والواحدي في أسباب النزول (ص:377)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/421).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3153). وذكره السيوطي في الدر (6/658) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(3) ... ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/427)، والزمخشري في الكشاف (3/569). وما بين المعكوفين زيادة من سير أعلام النبلاء.
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/569).(1/249)
فأحبه، وغضبَ لربه فغضب الله له، وإن الله يحوطه ويؤذي من آذاه (1) .
وفي حديث الرؤيا: "رأيت رجالاً يعلقون بألسنتهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يرمون المؤمنين [و] (2) المؤمنات بغير ما اكتسبوا" (3) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
__________
(1) ... ذكر نحوه الواحدي في الوسيط (3/482).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/482).(1/250)
مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ادثب
قوله تعالى: { يدنين عليهن من جلابيبهن } يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. و"مِنْ" للتبعيض.
قال ابن قتيبة (1) : قل لهن يلبَسْنَ الأرْدئة.
وقال غيره: يغطين رؤوسهن ووجوههن.
قال ابن مسعود والحسن: الجلباب: الرداء (2) .
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:352).
(2) ... ذكره الماوردي (4/423)، والسيوطي في الدر (6/661) وعزاه لابن المنذر.(1/251)
وقال سعيد بن جبير: القناع (1) .
وقال قطرب: هو [كل] (2) ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها (3) .
وقال الزمخشري (4) : هو ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها ويبقى ما ترسله على صدرها.
وقيل: هو ما تستتر به من كساء أو غيره.
قال أبو زبيد:
......................... ... مُجَلْبَبٌ منْ سوادِ الليل جِلْبَابا (5)
{ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } قال السدي: كانت المدينة ضيقة المنازل، وكانت النساء يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، وكان فُسَّاق من فُسَّاق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا: هذه حُرَّة فتركوها، وإذا رأوها بغير قناع قالوا: هذه أَمَة فكابروها (6) .
ثم الله تعالى توعد هؤلاء الفساق فقال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون } أي: عن نفاقهم، { والذين في قلوبهم مرض } وهم أهل الفجر.
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3155). وذكره السيوطي في الدر (6/661) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... زيادة من الماوردي (4/424).
(3) ... انظر قول قطرب في: الماوردي (4/424).
(4) ... الكشاف (3/569).
(5) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: جلب)، وروح المعاني (22/88)، والكشاف (3/569).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3155). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/661) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/252)
وقيل: هم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات.
{ والمرجفون في المدينة } قال قتادة: هم الذين يذكرون من الأخبار ما تضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين (1) .
{ لنغرينك بهم } أي: لنُحرِّشَنَّكَ ولنحملنك على مؤاخذتهم، { ثم لا يجاورونك فيها } أي: في المدينة { إلا قليلاً } أي: زماناً قليلاً، ثم يهلكون.
{ ملعونين } نصب على الذم أو على الحال (2) ، أي: لا يجاورونك إلا ملعونين.
وقيل: إن "قليلاً" نصب على الحال أيضاً (3) ، على معنى: لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين.
{ سنة الله } في موضع مصدر مؤكد، أي: سَنّ الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيث ما ثقفوا، أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر.
قال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله تعالى في هذه الآية فكتموه (4) .
y7è=t"َ،o" النَّاسُ عَنِ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/48)، وابن أبي حاتم (10/3155). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/662) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: الدر المصون (5/425).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (22/48)، وابن أبي حاتم (10/3155). وذكره السيوطي في الدر (6/662) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/253)
السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا(1/254)
(67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ادرب
قوله تعالى: { يسألك الناس عن الساعة } قال الكلبي: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة وعن قيامها، فقال الله تعالى: { قل إنما علمها عند الله } (1) . أي: هو المستأثر بعلمها لم يطلع عليها ملكاً ولا نبياً.
ثم خوَّفهم فقال: { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } أي: شيئاً قريباً، أو ذكر لأن الساعة في معنى اليوم، أو في معنى البعث، أو لأن تأنيثها غير حقيقي.
قوله تعالى: { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } وقرأ ابن عامر: "ساداتِنا" على الجمع مع كسر التاء (2) .
قال أبو علي (3) : سَادَة: جمع سَيِّد، وسادات: جمع سَادَة. وهم رؤساء الكفر الذين زينوه لهم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/483).
(2) ... الحجة للفارسي (3/287)، والحجة لابن زنجلة (ص:580)، والكشف (2/199)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:356)، والسبعة (ص:523).
(3) ... الحجة (3/287).(1/255)
وقال مقاتل (1) : هم المطعمون في غزوة بدر.
{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب } عذاب الضلال وعذاب الإضلال، { والعنهم لعناً كثيراً } .
قرأ عاصم: "كبيراً" بالباء المعجمة بواحدة (2) .
قال الزجاج (3) : ومعناهما قريب.
وقال أبو علي (4) : الكثرة أشبه بالمعنى؛ لأنهم يُلْعَنُون مرةً بعد مرة.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ادزب
قوله تعالى: { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } قيل: نزلت في شأن زيد وزينب بنت جحش، وما سمع فيه من قالة بعض الناس.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/56).
(2) ... الحجة للفارسي (3/287)، والحجة لابن زنجلة (ص:580)، والكشف (2/199)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:356)، والسبعة (ص:523).
(3) ... معاني الزجاج (4/237).
(4) ... الحجة (3/287).(1/256)
والأشبه على هذا القول: أن يراد بأذى موسى: ما جرى له من حديث المُومِسَة (1) التي حملها قارون على قذفه بنفسها، وقد ذكرته في القصص (2) .
وقال أبو وائل: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال: رحم الله موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر (3) .
وقيل: أذى موسى: ما اتهموه من قتل [هارون] (4) ، وقد ذكرناه في المائدة. قاله علي عليه السلام (5) .
وقيل: هو ما أخبرنا أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: حدثنا أبو الوقت عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن [نصر] (6) ، حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ... المومسة: الفاجرة جهاراً (اللسان، مادة: ميس).
(2) ... عند الآية رقم: 81.
(3) ... أخرجه البخاري (3/1249 ح3224)، ومسلم (2/739 ح1062) كلاهما رفعه من طريق أبي وائل عن ابن مسعود.
(4) ... في الأصل: فرعون. وهو خطأ. والتصويب من المصادر التالية.
(5) ... أخرجه الطبري (22/52)، وابن أبي حاتم (10/3157-3158). وذكره السيوطي في الدر (6/666) وعزاه لابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه.
(6) ... في الأصل: نصير. والتصويب من البخاري (1/107). وانظر: ترجمته في: التهذيب (1/192)، والتقريب (ص:99).(1/257)
قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فجمح موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، وقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضرباً.
قال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة" (1) . أخرجه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق.
وفي رواية أخرى للبخاري: "فذلك قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى... الآية } " (2) .
والآدر: العظيم الخصيتين (3) .
قوله تعالى: { وكان عند الله وجيهاً } يقال: وَجُهَ الرجُلُ يُوجَهُ وَجَاهةً فهو وجيه؛ إذا كان ذا جَاهٍ وقَدْر (4) .
قال ابن عباس: كان عند الله حظياً لا يسأله شيئاً إلا أعطاه (5) .
وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة (6) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (1/107 ح274)، ومسلم (1/267 ح339).
(2) ... أخرجه البخاري (3/1249 ح3223).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: أدر).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: وجه).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/484)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/426).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3158). وذكره السيوطي في الدر (6/667) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/258)
وقرأ ابن مسعود والأعمش: "وكان عبداً لله وجيهاً" (1) .
قال ابن خالويه (2) : صليتُ خلف ابن [شنبوذ] (3) في شهر رمضان فسمعته قرأها.
وقراءة العامة أوجه؛ لأنها مفصحة عن [وجاهته] (4) عند الله، لقوله تعالى: { عند ذي العرش مكين } [التكوير:20] وهذه ليست كذلك (5) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا اذتب
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:356).
(2) ... المختصر في شواذ القرآن (ص:121).
(3) ... في الأصل: سنبوذ. وهو خطأ. والتصويب من الكشاف (3/572).
(4) ... في الأصل: وجاة. والتصويب من الكشاف (3/572).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/572).(1/259)
قوله تعالى: { وقولوا قولاً سديداً } قال ابن عباس: صواباً (1) .
وقال ابن قتيبة (2) : قصْداً.
قال قتادة: عدلاً في جميع الأقوال والأعمال (3) .
قال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله (4) .
والمراد من ذلك: حفظ اللسان من الخوض فيما لا يجوز.
{ يصلح لكم أعمالكم } قال مقاتل (5) : يزكيها.
وقال ابن عباس: يتقبل حسناتكم (6) .
$¯Rخ) عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/484)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/427).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:352).
(3) ... أخرجه الطبري (22/53)، وابن أبي حاتم (10/3158). وذكره السيوطي في الدر (6/668) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (22/53)، وابن أبي حاتم (10/3158). وذكره السيوطي في الدر (6/668) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... تفسير مقاتل (3/57).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/484)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/427).(1/260)
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اذجب
قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة } قال ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين: الأمانة: هي الفرائض والأحكام التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب (1) .
ويدخل في هذا القول: جميع ما ذكره المفسرون من أنواع الأمانات.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/54)، وابن أبي حاتم (10/3159). وذكره السيوطي في الدر (6/668) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس.(1/261)
قال الحسن: عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملة العرش العظيم، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن [أحسنتن جزيتن] (1) ، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن: لا، ثم عرضت على الأرضين السبع اللاتي شدت بالأوتاد وذللت للمهاد وأسكنت العباد، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن: لا، ثم عرضت على الجبال الشوامخ البواذخ الصلاب الصعاب، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن: لا، فذلك قوله: { فأبين أن يحملنها } (2) .
وقال ابن جريج: قالت السماء: يا رب خلقتني وجعلتني سقفاً محفوظاً، وأجريت فيّ الشمس والقمر والنجوم، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثواباً ولا عقاباً (3) .
وروى السدي عن أشياخه: أن آدم عليه السلام لما أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فَأَبَتْ، وقال للأرض فَأَبَتْ، وقال للجبال فَأَبَتْ، وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وتجيء وتجد ولدك كما يسرّك، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث
__________
(1) ... في الأصل: خنتن خربتن. والتصويب من الماوردي (4/430)، والوسيط (3/484).
(2) ... ذكره الماوردي (4/430)، والواحدي في الوسيط (3/484).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3159). وذكره السيوطي في الدر (6/669) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري.(1/262)
يقول: { إنا عرضنا الأمانة ... الآية } (1) .
قال جمهور المفسرين: ركب الله تعالى العقل في هذه الأعيان وأفهمهنَّ خطابه وأنطقهنّ بالجواب (2) .
وقال الحسن: المراد: عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض وأهل الجبال من الملائكة ولم يكن إباؤهن مخالفة، وإنما كان خشية من خوف الخيانة؛ لأن العرض كان على وجه التخيير لا على وجه الإلزام، وهو قوله تعالى: { وأشفقن منها } (3) ، أي: خِفْنَ من حملها العقاب بتقدير ترك الأداء.
{ وحملها الإنسان } قال ابن عباس: يريد: آدم، عرض الله تعالى عليه أداء الفرائض، الصلوات الخمس في مواقيتها، وأداء الزكاة عند محلها، وصيام رمضان، وحج البيت على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال آدم: بين أذني وعاتقي (4) .
قال مقاتل بن حيان: قال الله تعالى لآدم: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ قال آدم: وما لي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك، قال: قد رضيت رب وتحملتها، فقال: قد حملتكها، فذلك قوله
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/56-57).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/484)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/428).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/428-429).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/485).(1/263)
تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (1) .
قال مجاهد: ما كان بين أن يحملها وبين أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر إلى العصر (2) .
وقال الزجاج (3) : حقيقة هذه الآية -والله تعالى أعلم وهو موافق للتفسير-: أن ائتمان بني آدم على ما افترضه عليهم، وائتمان السموات والأرض والجبال؛ لقوله تعالى: { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت:11].
واعلم أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة وكثيراً من الناس يسجدون له، فعرّفنا سبحانه أن السموات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة، أي: أدَّتْها، وكل من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كل من أثِمَ فقد احتمل الإثم. قال الله تعالى: { وليحملُن أثقالهم } [العنكبوت:13]، فأعلم أن من باء بالإثم يسمى حاملاً للإثم، والسموات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وأدّينها، وأداؤها طاعة الله تعالى فيما أمر به وترك المعصية.
{ وحملها الإنسان } الكافر والمنافق حمل الأمانة، أي: خانا ولم يطيعا. هذا آخر كلام الزجاج.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/485).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3160). وذكره السيوطي في الدر (6/669) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... معاني الزجاج (4/238).(1/264)
قال المقاتلان (1) : إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بعاقبة أمره.
وقال ابن السائب: ظلمه حين عصى ربه، فأخرج من الجنة وحمله حين احتملها (2) .
وعلى قول السدي: "الإنسان": قابيل (3) .
قال ثعلب: جميع الناس (4) .
قوله تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } أي: ليعذبهم بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم حين استخرجهم من ظهر آدم.
قال ابن قتيبة (5) : المعنى: عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافقين وشرك المشركين فيعذبهم الله ويعاقبهم، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يرجع عليهم بالرحمة والمغفرة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات.
وقرأ الأعمش: "ويتوبُ" بالرفع على الاستئناف (6) .
{ وكان الله غفوراً } للمؤمنين { رحيماً } بهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) ... انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (3/57). وذكره الواحدي في الوسيط (3/485).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/485).
(3) ... أخرجه الطبري (22/57).
(4) ... ذكره الماوردي (4/430)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/429).
(5) ... تأويل مشكل القرآن (ص:338).
(6) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:356).(1/265)
سورة سبأ
ijk
وهي أربع وخمسون في العدد الكوفي والمدني، وهي مكية بإجماعهم.
واستثنى الضحاك وابن السائب ومقاتل آية، وهي قوله تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك } فقالوا: نزلت بالمدينة (1) .
ك‰ôJptّ:$# لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
__________
(1) ... قال السيوطي في الإتقان (1/52): روى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي ... الحديث، وفيه: وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ ... الحديث (الترمذي 5/361). قال ابن الحصار: هذا يدل على أن هذه القصة مدنية، لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع. قال: ويحتمل أن يكون قوله: "وأنزل" حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته.(1/266)
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ اثب
قال الله تعالى: { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض } (1) يعني: مُلْكاً وخَلْقاً، { وله في الحمد في الآخرة } (2) يريد: أن أهل الجنة يحمدونه إذا أخذوا منازلهم، كقوله تعالى: { الحمد لله الذي صدقنا وعده } [الزمر:74]، { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } [فاطر:34]، { الحمد لله الذي هدانا لهذا } (3) [الأعراف:43].
__________
(1) ... في هامش الأصل: قوله: { الحمد لله... إلخ } قال ابن جرير (22/59): يقول تعالى ذكره: الشكر الكامل والحمد التام كله للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع دون كل ما يعبدونه، ودون كل شيء سواه لا مالك لشيء من ذلك غيره، فالمعنى الذي هو مالك جميعه، { وله الحمد في الآخرة } يقول: وله الشكر الكامل في الآخرة كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة؛ لأن منه النعم كلها على كل من في السماوات والأرض في الدنيا، ومنه يكون ذلك في الآخرة، فالحمد لله خالصاً دون ما سواه، في عاجل الدنيا وآجل الآخرة؛ لأن النعم كلها من قبله لا يشركه فيها أحد من دونه، { وهو الحكيم } في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره، خبير بهم وبما يصلحهم، وبما عملوا وما هم عاملون، محيط بجميع ذلك.
... يعلم ما يدخل الأرض وما يغيب فيها من شيء، { وما يَنزلُ من السماء وما يَعْرُجُ فيها } وذلك خبر من الله أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، مما ظهر فيها وما بطن، { وهو الرحيم الغفور } بأهل التوبة من عباده أن يعذبهم بعد توبتهم، الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.
(2) ... زيد في هامش الأصل بخط مغاير قوله تعالى: { وهو الحكيم الخبير } .
(3) ... قال الزمخشري في الكشاف (3/576): فإن قلت: ما الفرق بين الحمدين؟
... قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب؛ لأنه على نعمة متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب؛ لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم، يلتذون به كما يلتذ من به العطاش بالماء البارد.(1/267)
{ يعلم ما يلج في الأرض } أي: ما يدخل فيها من مطر، أو يُجَنّ فيها من ميت، { وما يخرج منها } من زرع ونبات.
وقال النقاش: ما يخرج منها من كنوز الذهب والفضة والمعادن كلها (1) .
{ وما ينزل من السماء } من مطر وزق وملك قضاء، { وما يعرج فيها } (2) من القضاء والدعاء والأعمال والملائكة.
tA$s%ur الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/432).
(2) ... زيد في هامش الأصل بخط مغاير قوله تعالى: { وهو الرحيم الغفور } .(1/268)
ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ادب(1/269)
قوله تعالى: { قل بلى وربي لتأتينكم } وقرئ شاذاً: "لَيَأْتِيَنَّكُمْ" بالياء (1) .
قال ابن جني (2) : جاز التذكير؛ لأن [المخوف] (3) منها إنما هو عقابها، وعليه قولهم: ذهبَتْ بعض أصابعه؛ لأن بعض أصابعه إصبع في المعنى.
وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلانٌ لَغُوبٌ (4) ، جَاءَتْهُ كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: نعم، أليس [بصحيفة] (5) . وهذا من أعرابيّ جافٍ هو الذي نبّه أصحابنا على انتزاع [العلل] (6) ، وكذلك ما يجري مجراه، فاعرفه.
قوله تعالى: { عَالِمِ الغيب } قرأ نافع وابن عامر: "عالمُ" بالرفع على معنى: هو عالم، أو على الابتداء، والخبر: { لا يعزب } . وقرأ الباقون بالجر، نعتاً للرب الله، إلا أن حمزة والكسائي قرءا: [عَلاّم] (7) بالتشديد (8) ، على وزن [فعّال] (9) .
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/248)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/428).
(2) ... المحتسب (2/186).
(3) ... في الأصل: المحذوف. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(4) ... اللغوب: الأحمق (اللسان، مادة: لغب).
(5) ... في الأصل: تصحيفة. والتصويب من المحتسب (2/186).
(6) ... في الأصل: العامل. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(7) ... في الأصل: إعلام. وهو خطأ. والتصويب من المصادر التالية.
(8) ... الحجة للفارسي (3/288)، والحجة لابن زنجلة (ص:581)، والكشف (2/201)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:357)، والسبعة (ص:526).
(9) ... في الأصل: فقال. وهو خطأ. انظر المصادر السابقة.(1/270)
وقرأ ابن السميفع والأعمش: "ولا أصغرَ" "ولا أكبرَ" بالفتح (1) ، على نفي الجنس؛ كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله تعالى: { ليجزي الذين آمنوا } اللام متعلقة بقوله تعالى: { لتأتينكم } .
وقال ابن جرير (2) : المعنى: أثبت مثقال الذرة وأصغر منه ليجزي.
قوله تعالى: { من رجز أليم } قرأ ابن كثير وحفص: "أليمٌ" بالرفع، هاهنا وفي الجاثية (3) . وقرأ الباقون بالجر (4) .
قال أبو علي (5) : من قرأ بالجر جعله صفة للرجز، ومن قرأ بالرفع جعله صفة للعذاب، أي: لهم عذاب أليم من رجز، والجر في "أليم" أبين؛ لأن الرجز العذاب.
فالمعنى: لهم عذاب من عذاب أليم، فإذا وصف العذاب الثاني بأليم، كان العذاب الأول أليماً، وإذا أجريت الأليم على العذاب الأول كان المعنى: لهم عذاب أليم من عذاب، فالأول أكثر فائدة.
قوله تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم } وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في قول قتادة (6) .
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:357).
(2) ... انظر: تفسير الطبري (22/62).
(3) ... عند الآية رقم: 11.
(4) ... الحجة للفارسي (3/288-289)، والحجة لابن زنجلة (ص:582)، والكشف (2/201)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:357)، والسبعة (ص:526).
(5) ... الحجة (3/289).
(6) ... أخرجه الطبري (22/62)، وابن أبي حاتم (10/3161). وذكره السيوطي في الدر (6/674) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/271)
[ومؤمنوا] (1) أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه، في قول مجاهد (2) .
قال الزجاج (3) وغيره: موضع "يرى" نصب عُطِفَ على قوله: "ليجزي"، و"الحق" مفعول ثان لـ"يرى"، وهو هاهنا فَصْل، ويسميه الكوفيون: العِمَاد (4) .
فإن قيل: ما فائدة الفَصْل؟
قلت: شيئان:
أحدهما: التفصلة بين الخبر والصفة.
والثاني: التأكيد، في نحو قولك: زيد هو المنطلق، أي: لا منطلق إلا هو.
ويجوز أن يكون قوله: { ويرى } كلاماً مستأنفاً خارجاً مخرج الثناء على الذين أوتوا العلم، والذم لمن لم يكن على مثل ما هم عليه من العلم والإيمان.
{ ويهدي } يعني: القرآن { إلى صراط العزيز الحميد } وهو دين الإسلام.
__________
(1) ... في الأصل: ومونوا. والتصويب من زاد المسير (6/433).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3161) عن الضحاك. وذكره الطبري (22/62) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (6/433) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر (6/674) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك.
(3) ... معاني الزجاج (4/241).
(4) ... انظر: التبيان (2/195)، والدر المصون (5/430). والعماد هو: ضمير الفَصْل.(1/272)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ tûïد%©!$ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ(1/273)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ازب
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا } منكري البعث، قال بعضهم لبعض: { هل ندلّكم على رجل } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - { ينبئكم } أي: يخبركم أنكم { إذا مزقتم } وأكلتكم الأرض { كل ممزق } مصدر في معنى التمزيق.
قال مقاتل (1) : إذا تفرقتم في الأرض وذهبت الجلود والعظام وكنتم تراباً.
وقوله: "إذا" منصوب بفعل مضمر، يدل عليه قوله: { إنكم لفي خلق جديد } تقديره: إذا مزّقتم كل ممزّق بعثتم ولا ينتصب بـ"جديد"؛ لأن ما بعد "إنَّ" لا يعمل فيما قبلها، ولا ينتصب بقوله: "ينبئكم"؛ لأن الأخبار ليس في ذلك الوقت، ومثله: { أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد } [الرعد:5]، ومثله: { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور } إلى قوله تعالى: { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } [العاديات:9-11] حملوا هذه الآي على إضمار فعل ينتصب به "إذا"، ولم يحملوه على ما بعد "إنّ"، ألا ترى أنك لو قلت: عمراً إنّ زيداً ضارب، لا ينتصب عمراً بضارب.
قوله تعالى: { أفترى على الله كذباً } هذا قول منكري البعث، قال بعضهم لبعض على وجه التعجب [والإنكار] (2) لما أخبرهم به من البعث بعد الموت: { أفترى على الله كذباً } ، وهذه همزة الاستفهام دخلت على همزة
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/59).
(2) ... في الأصل: والإكار.(1/274)
الوصل، وحذفت التي للوصل لوقوع الاستغناء عنها، وإنما لم تسقط في قوله: "السحر" لخوف الالتباس، لكون همزة الخبر مفتوحة كهمزة الاستفهام، و"أَمْ" معادلة لهمزة [الاستفهام] (1) .
فردَّ الله عليهم فقال: { بل } أي: ليس الأمر على ما قالوه من الافتراء أو الجنون، { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب } يعني: في الآخرة { والضلال البعيد } عن الهدى في الدنيا.
وقال السدي: "الضلال البعيد": هو الشقاء الطويل (2) .
قوله تعالى: { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } استفهام في معنى التقرير لهم بإحاطة السماء والأرض بهم حيث نظروا وتوجهوا.
ومقصود ذلك: [تذكيرهم] (3) بقدرة الله تعالى عليهم وتخويفهم من سطوته وبطشته، ألا تراه يقول: { إن يشأ يخسف بهم الأرض } . وهذا المعنى قول قتادة وجمهور المفسرين (4) . لكن لي فيه حسن السفارة [بإيضاح] (5) المعنى في أحسن صورة.
__________
(1) ... في الأصل: الاسم ستفهام.
(2) ... ذكره الماوردي (4/434).
(3) ... في الأصل: تذكرهم.
(4) ... أخرجه الطبري (22/64)، وابن أبي حاتم (10/3161-3162) كلاهما عن قتادة بمعناه. وذكره السيوطي في الدر (6/674-675) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة بمعناه.
(5) ... في الأصل: بإضاح.(1/275)
وقال أبو صالح: المعنى: أفلم يروا إلى ما بين أيديهم ممن أهلكهم الله من الأمم في أرضه، وما خلفهم من أمر الآخرة في سمائه (1) .
{ إن يشأ يخسف بهم الأرض } التي تحتهم كما خسفنا بقارون { أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } التي هي فوقهم.
قرأ الأكثرون: "نخسِفْ" "ونُسْقِط" بالنون فيهما، حملاً على قوله: { ولقد آتينا داود منا فضلاً } . وقرأهما حمزة والكسائي بالياء، رداً على قوله: { أفترى على الله كذباً } . وقرأ الكسائي: "يخسف بهم" بإدغام الفاء في [الباء] (2) .
قال أبو علي (3) وغيره: لا يجوز إدغام الفاء في الباء، وإن جاز إدغام الباء في الفاء؛ لأن الفاء فيها زيادة صوت؛ لأنها من باطن الشفة السفلى وأطراف [الثنايا] (4) العليا، فانحدر الصوتُ بها إلى الفم حتى اتصلت بمخرج الثاء، ولهذا جاز إبدال الثاء بالفاء، نحو: الحدث، والحدف، والمغافير، والمغاثير، فتعاقبا للمقاربة التي بينهما، فكما لا يجوز إدغام التاء في الباء، لا يجوز إدغام الفاء في الباء؛ لزيادة صوتها على صوت الباء.
{ إن في ذلك } الذي يرونه من السماء والأرض { لآية } دالة على
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/434).
(2) ... الحجة للفارسي (3/289)، والحجة لابن زنجلة (ص:583)، والكشف (2/202)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:357)، والسبعة (ص:527).
... وما بين المعكوفين في الأصل: الياء. وكذا وردت في المواضع التالية.
(3) ... الحجة (3/289-290).
(4) ... زيادة من الحجة (3/289).(1/276)
وحدانية الله وقدرته على البعث { لكل عبد منيب } راجع إلى طاعة الله.
قال قتادة: هو المقبل بتوبته (1) .
* وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اتتب
قوله تعالى: { ولقد آتينا داود منا فضلاً } وهو ما أعطي من النبوة والزبور والملك في الدنيا، { يا جبال } أي: وقلنا إظهاراً لشرفه ومنزلته وكرامته علينا: يا جبال { أوبي معه } رجِّعي معه التسبيح، وكان داود إذا سبَّح سبَّحت الجبال معه.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/64)، وابن أبي حاتم (10/3162). وذكره السيوطي في الدر (6/675) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/277)
وقرأتُ لأبي عمرو من رواية [عبد الوارث عنه: أُوْبي] (1) ، بضم الهمزة وتخفيف الواو وتسكينها (2) ، من الأوْب، وهو في معنى: أوّبي.
قرأ الأكثرون: { والطيرَ } بالنصب، عطفاً على موضع "الجبال"، كقوله:
ألا يا زيد والضحاكَ سِيَرا ... ... .................... (3)
قال الزجاج (4) : كل منادى -عند البصريين كلهم- في موضع نصب.
ويجوز أن يكون منصوباً على معنى: "مع"، كما تقول: قمت وزيداً، أي: مع زيد (5) .
وحكى أبو عبيدة (6) معمر بن المثنى عن أبي عمرو ابن العلاء: أنه منصوب على معنى: وسخرنا له الطير، فيكون عطفاً على "فَضْلاً".
وقرأتُ لأبي عمرو من رواية عبدالوارث عنه وليعقوب من رواية زيد
__________
(1) ... في الأصل: عبد الورث عنه وأبي. وانظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:358).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:358).
(3) ... صدر بيت وعجزه: (فقد جاوزتما خَمَرَ الطريق). انظر: ابن يعيش (1/129)، والهمع (2/142)، والدر المصون (1/535، 5/434)، والطبري (22/66)، والقرطبي (3/51).
(4) ... معاني الزجاج (4/243).
(5) ... قال أبو حيان في البحر (7/253): وهذا لا يجوز؛ لأن قبله "معه" ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل، أو العطف.
(6) ... مجاز القرآن (2/143).(1/278)
عنه: "والطيرُ" بالرفع (1) ، عطفاً على "جبال"، أي: يا جبال ويا أيها الطير أوبي معه.
{ وألنّا له الحديد } كان إذا أخذه صار في يده كالعجين والطين والشمع، يتصرف فيه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، وإنما أتته القدرة الإلهية مع قطع النظر إلى الأسباب.
وقيل: لاَنَ له في يده ما أُتي من شدة القوة أن يعمل سابغات.
قال الزجاج (2) : "أن اعمل" في تأويل التفسير، كأنه قيل: وألنّا له الحديد { أن اعمل سابغات } .
والمعنى: اعمل دروعاً كوامل يجرّها لابسها على الأرض.
قال قتادة: وكان أول من عملها، وإنما كانت قبله صفائح (3) .
{ وقدّر في السَّرْد } السَّرْد: نسج الدروع، ومنه قيل لصانعها: سَرَّاد وزرَّاد، على إبدال السين زاياً. والمعنى: اجعله على القصد وقدر الحاجة.
قال ابن عباس وعامة المفسرين واللغويين في معناه: لا [تدقق] (4) المسامير فتفلق، ولا غلاظاً فتفصم الحلق (5) .
__________
(1) ... النشر (2/349)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:358).
(2) ... معاني الزجاج (4/244).
(3) ... أخرجه الطبري (22/67). وذكره السيوطي في الدر (6/676) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... في الأصل: تجعل. والتصويب من المصادر التالية.
(5) ... أخرجه الطبري (22/68)، ومجاهد (ص:523)، والحاكم (2/459 ح3583). وذكره السيوطي في الدر (6/676) وعزاه لعبد الرزاق والحاكم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير.(1/279)
والفَصْم -بالفاء-: الكسر من غير إبانة (1) ، وبالقاف: الكسر مع الإبانة (2) ، تقول: فصم وما قصم. قال الله تعالى: { لا انفصام لها } [البقرة:256]، وقال الله تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } [الأنبياء:11] لما كان موضع استئصال.
{ واعملوا صالحاً } خطاباً لداود وأهله.
قال ابن عباس وغيره: اشكروا الله تعالى بما هو أهله (3) .
z`"yJّn=ف،د9ur الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: فصم).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: قصم).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/488).(1/280)
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ اتجب
ثم ذكر سليمان وما اختصه به من الكرامة فقال: { ولسليمان الريحَ } قال الفراء (1) : نصب "الريحَ" على "وسخرنا".
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "الريحُ" بالرفع (2) .
وقرأ أبو جعفر: "الرياحُ" بالرفع أيضاً والجمع (3) .
قال أبو علي (4) : من رفع فوجهه: أن الريح إذا سُخِّرت لسليمان، جاز أن
__________
(1) ... معاني الفراء (2/356).
(2) ... الحجة للفارسي (3/290)، والحجة لابن زنجلة (ص:583-584)، والكشف (2/202)، والنشر (2/349)، والإتحاف (ص:358)، والسبعة (ص:527).
(3) ... النشر (2/223)، والإتحاف (ص:151).
(4) ... الحجة (3/291).(1/281)
يقال: له الريحُ، على معنى: له تسخير الريح، فالرفع على هذا يؤول إلى معنى النصب.
{ غدوّها شهر ورواحها شهر } قال قتادة: تسير مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم مسيرة شهرين (1) .
قال الحسن: كان يغدو من دمشق (2) فيقيل بإصطخر (3) وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل (4) وبينهما مسيرة شهر للمسرع (5) .
{ وأسلنا له عين القطر } أذبنا له عين النحاس.
قال المفسرون: أجريت له عين الصُّفْر (6) ثلاثة أيام ولياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان. والقِطْر: النحاس
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/69). وذكره السيوطي في الدر (6/677) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... دمشق: البلدة المشهورة قصبة الشام (معجم البلدان 2/463).
(3) ... اصطخر: بلدة من بلاد الفرس (معجم البلدان 1/211)، إيران حالياً.
(4) ... كابل: اسم يشمل الناحية بين الهند ونواحي سجستان (معجم البلدان 4/426).
(5) ... أخرجه الطبري (22/69) بأقصر منه. وذكره الماوردي (4/437)، والواحدي في الوسيط (3/488)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/438).
(6) ... الصُّفر: النحاس الجيد (اللسان، مادة: صفر).(1/282)
المذاب (1) .
قال قتادة: هي عين بأرض اليمن (2) .
{ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } قال ابن عباس: سخرهم الله تعالى لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به (3) .
{ ومن يزغ منهم } يعدل منهم { عن أمرنا } بطاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } .
قال ابن عباس: كان معه مَلَكٌ بيده سوط من نار، كل من استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني (4) .
وقيل: المعنى: ومن يزغ منهم عن طاعتنا وعبادتنا نذقه في الآخرة من عذاب النار.
قال الماوردي (5) : وفي قوله: { ومن الجن } دليلٌ على أن فيهم غير مسخر.
قوله تعالى: { يعملون له ما يشاء من محاريب } وهي الأبنية الرفيعة
__________
(1) ... ذكره الطبري (22/69)، والماوردي (4/437)، والواحدي في الوسيط (3/488)، والسيوطي في الدر المنثور (6/678).
(2) ... أخرجه الطبري (22/69). وذكره السيوطي في الدر (6/678) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/489).
(4) ... ذكره الماوردي (4/438) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (3/489).
(5) ... تفسير الماوردي (4/438).(1/283)
والقصور. وقد ذكرنا المحراب في سورة آل عمران (1) .
قال المفسرون: بنوا له الأبنية العجيبة باليمن؛ صِرْوَاح، ومرواح، وبينون، وهندة، وهنيدة، وقلثوم، وغُمْدان، وهذه حصون باليمن عملتها الشياطين (2) .
وقال الحسن وقتادة: عملوا له آلة المساجد (3) .
{ وتماثيل } جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، يعني: صوراً من نحاس وزجاج ورخام كانت الجن [تعملها] (4) ، قالوا: وهي صور الأنبياء والملائكة كانت تصوّر في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة (5) .
وقال الضحاك: طواويس وعقباناً ونسوراً تكون على كرسيه ودرجات سريره لكي يهابه من شاهده (6) .
قال الحسن: لم تكن يومئذ محرمة (7) .
{ وجفان كالجواب } الجِفَان: القِصَاع، والجَوَاب: الحياض الكبار، سميت
__________
(1) ... عند الآية رقم: 37.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/489).
(3) ... أخرجه الطبري (22/70). وذكره السيوطي في الدر (6/679) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(4) ... في الأصل: تعلمها.
(5) ... وقد استدل بالآية على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (فتح القدير 3/317).
(6) ... ذكره الماوردي (4/438)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/439).
(7) ... مثل السابق.(1/284)
بذلك؛ [لأن] (1) الماء يجبى فيها، أي: يجمع.
قال المفسرون: كان يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل، يأكلون منها (2) .
{ وقدور راسيات } ثابتات لها قوائم لا تحرك عن أماكنها لعظمها.
قال ابن جريج: [ذكر لنا] (3) أن تلك القدور باليمن [أبقاها] (4) الله تعالى آية وعبرة (5) .
{ اعملوا آل داود شكراً } حكاية ما قيل لآل داود. [وانتصب "شكراً" على أنه] (6) مفعول لأجله، أو حال؛ أي: شاكرين، أو على معنى: اشكروا شكراً؛ لأن "اعملوا" فيه معنى: اشكروا، من حيث أن العمل للمنعم شُكر له. أو هو مفعول به، على معنى: إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة (7) .
{ وقليل من عبادي الشكور } الكثير الشكر.
__________
(1) ... في الأصل: ولأن.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/489)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/440).
(3) ... في الأصل: ذكرنا. والتصويب من الماوردي (4/439).
(4) ... في الأصل: أبقا. والتصويب من الماوردي، الموضع السابق.
(5) ... ذكره الماوردي (4/439).
(6) ... زيادة من الكشاف (3/582).
(7) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/582). وانظر: التبيان (2/196)، والدر المصون (5/435).(1/285)
قال ابن عباس: قليل من عبادي من يشكر على أحواله كلها (1) .
أخرج الإمام في كتاب الزهد له بإسناده عن ثابت قال: "كان داود عليه السلام جَزَّأَ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم يكن يأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي" (2) .
$£Jn=sù قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ اتحب
قوله تعالى: { فلما قضينا عليه الموت ... الآية } قال أهل التفسير (3) :
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/323).
(2) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وأخرجه البيهقي في الشعب (3/155 ح3187).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/489)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/441).(1/286)
كانت الإنس في زمن سليمان تزعم أن الجن تعلم الغيب، فلما مات سليمان مكث قائماً على عصاه حولاً ميتاً، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعملها في حياة سليمان وهم لا يشعرون بموته، حتى أكلت دابة الأرض -وهي الأَرَضَة- [عصا سليمان، فخرَّ ميتاً، فعلموا بموته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب] (1) .
وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء والجحدري: "دابة الأَرَض" بفتح الراء، جمع أَرَضة (2) .
{ تأكل منسأَتَه } أي: عصاه.
قرأ أبو عمرو ونافع: "منسَاتَه" بألف من غير همز. وقرأ الباقون بهمزة مفتوحة، وابن ذكوان يسكن الهمزة (3) .
قال الزجاج (4) : المِنْسَأة: العصا ينسأ بها، أي: يطرد [ويزجر] (5) .
قال المبرد (6) : بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً، وأنشد:
إذا دَبَبْتَ على المنساةِ منْ كِبَرٍ ... فقدْ تباعدَ عنكَ اللهوُ والغزل (7)
__________
(1) ... زيادة من الوسيط (3/489)، وزاد المسير (6/441).
(2) ... ذكر هذه القراءة الماوردي (4/441)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/441).
(3) ... الحجة للفارسي (3/291)، والحجة لابن زنجلة (ص:584)، والكشف (2/203)، والنشر (2/349-350)، والإتحاف (ص:358)، والسبعة (ص:527).
(4) ... معاني الزجاج (4/247). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/441).
(5) ... في الأصل: ويزجي. وفي معاني الزجاج: ويؤخر. والتصويب من زاد المسير، الموضع السابق.
(6) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (3/489).
(7) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: نسأ، نسا)، والماوردي (4/441)، والطبري (22/74)، والقرطبي (14/279)، والبحر المحيط (7/246)، وروح المعاني (22/121)، والمحتسب (2/187)، ومجاز القرآن (2/145)، والدر المصون (5/436)، والوسيط (3/489). وفي بعض المصادر "هرم" بدل "كبر".(1/287)
قال مكي (1) : من همز أتى به على الأصل. وقد حكى سيبويه (2) في تصغير المنسأة: مُنَيْسِئَة، بالهمز، قال: يردّها إلى أصلها، ولا يجعل البدل فيها لازماً، وقد قالوا في جمعها: "مناسيء" بالهمز؛ لأن التصغير والجمع يردّ الأشياء إلى أصولها في أكثر الكلام.
وأما من أسكن الهمزة فهو بعيد في الجواز، إنما يجوز الإسكان للاستثقال لطول الكلمة.
{ فلما خرّ } سقط ميتاً { تبيَّنَتِ الجن } وقرأتُ ليعقوب الحضرمي من رواية رويس: "تُبُيِنت" بضم التاء والباء وكسر الياء، على ما لم يسم فاعله (3) .
قال أكثر المفسرين: ظهرت وانكشفت للناس وبان جهلها وأنها لا تعلم الغيب (4) .
قال صاحب كشف المشكلات (5) : التقدير: فلما خَرَّ تبيَّن أمر الجن،
__________
(1) ... الكشف (2/203-204).
(2) ... الكتاب (3/459).
(3) ... النشر (2/350)، والإتحاف (ص:358).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/489)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/441).
(5) ... كشف المشكلات (2/237).(1/288)
فحذف المضاف.
وقوله تعالى: { أن لو كانوا يعلمون } بدل من أمر الجن، وتبين لازم هاهنا.
وقال الماوردي (1) : فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تبينت الجن أن الشياطين -وهم كانوا المسخرين في العمل- لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [سنة] (2) .
الثاني: ما روى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ في التلاوة: "فلما خَرَّ تبيّنت الإنسُ أن الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سَنَة".
الثالث: أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب، فلما خرّ تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
قال الماوردي (3) : وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن سليمان وقف في محرابه فصلى متوكئاً على عصاه فمات، وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة، والجن لا تعلم بموته، وقد كان سأل الله تعالى أن لا يعلموا بموته حتى تمضي عليه سنة.
واختلفوا في سبب سؤال ذلك على قولين:
أحدهما: أن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب، فسأل الله
__________
(1) ... تفسير الماوردي (4/442).
(2) ... زيادة من الماوردي (4/442).
(3) ... تفسير الماوردي (4/441).(1/289)
تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وهذا قول مأثور.
الثاني: أن داود عليه السلام كان قد أسس بناء بيت المقدس ثم مات، فبناه سليمان صلى الله عليه بعده، وسخّر الجن في عمله، وكان قد بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة، فسأل الله تعالى أن لا تَعلم الجن بموته حتى يتمّوا البناء، [فأتمّوه] (1) .
ô‰s)s9 كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
__________
(1) ... زيادة من الماوردي، الموضع السابق.(1/290)
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ اتذب
قوله تعالى: { لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } قد ذكرنا سبأ في سورة النمل (1) .
وقد أخرج الترمذي بإسناده عن فروة بن مسيك المرادي قال: "قال رجل: يا رسول الله! وما سبأ، أرض أو امرأة؟ فقال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل وَلَدَ عشرة من العرب، فتيامن (2) منهم ستة، وتشاءم (3) منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وأما الذين تيامنوا: فالأزد، [والأشعريون] (4) ، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار. فقال رجل: وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة" (5) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 22.
(2) ... أي: سكنوا اليمن.
(3) ... أي: سكنوا الشام.
(4) ... في الأصل: والأشعرون. والتصويب من الترمذي (5/361).
(5) ... أخرجه الترمذي (5/361 ح3222).(1/291)
والمراد هاهنا بسبأ: القبيلة، الذين هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "مسكنِهِم" على التوحيد، إلا أن الكسائي يكسر الكاف، وقرأ الباقون: "مساكنهم" على الجمع (1) .
قال أبو علي (2) : من جمع أتى باللفظ وفقاً للمعنى؛ لأن لكل ساكن مسكناً، والمساكن: جمع مسْكَن؛ الذي هو اسمٌ للموضع من سكن يسكن. وقرئ: "في مسكنهم" على الإفراد والكاف مفتوحة، فيشبه أن يكون جعل المسكن مصدراً، وحذف المضاف، والتقدير: في مواضع مسكنهم، أي: في مواضع سكناهم؛ لما جعل المسكن كالسكنى والسكون أفرد، كما تُفْرَد المصادر، وهذا أشبه من أن تحمله على نحو قوله:
كُلوا في نصف بطنكم تَعيشُوا ... ........................ (3)
ونحو ذلك مما لا يكاد يجيء إلا في الشعر.
ومن قال: "في مسْكَنِهِم" على الإفراد أيضاً والكاف مكسورة، فإن فتح الكاف أشبه؛ لأن اسم المكان من فَعَلَ يَفْعُلُ على مَفْعَل، مفتوح العين، وكذلك
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/292)، والحجة لابن زنجلة (ص:585)، والكشف (2/204)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:358-359)، والسبعة (ص:528).
(2) ... الحجة (3/292-293).
(3) ... صدر بيت، وعجزه: (فإن زمانكم زمن خميص). ويروى: "تعفّوا" بدل: "تعيشوا". انظر: الكتاب (1/210)، وأمالي ابن الشجري (1/108)، والمحتسب (2/87)، وشرح المفصل لابن يعيش (5/8)، والهمع (1/50)، والدر المصون (1/108)، والحجة للفارسي (3/130)، وزاد المسير (1/28، 4/452)، والطبري (1/160).(1/292)
المصدر منه، وقد يشذُّ عن القياس المطَّرد نحو هذا، كما جاء المسجد والمطْلِع، من [طلع] (1) يطْلُع، إلى حروف أخر، فيكون المسْكَن كذلك.
والمعنى: لقد كان لسبأ في مساكنهم علامة دالة لهم على قدرة الله تعالى وأنه هو المنعم عليهم.
و"جنتان" بدل من "آية"، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الآية جنتان (2) .
قال الزمخشري (3) : وفي الرفع معنى المدح، تدل عليه قراءة من قرأ: "جَنَّتَيْن" بالنصب.
قال (4) : ولم يجعل الجنتين في أنفسهما آية، وإنما جعل قصتهما، وأن [أهلهما] (5) أعرضوا عن شكر الله عليهما فخرّبهما، [وأبدلهم] (6) عنهما الخمط والأثل، آية وعبرة لهم، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم.
فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورُبَّ قرية من قريات العراق يحتفّ بها من الجنات ما شئت؟
قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين:
__________
(1) ... في الأصل: مطلع. والتصويب من الحجة (3/293).
(2) ... انظر: التبيان (2/196)، والدر المصون (5/439).
(3) ... الكشاف (3/585).
(4) ... أي: الزمخشري.
(5) ... في الأصل: أهلها. والمثبت من الكشاف (3/585).
(6) ... في الأصل: وأبدلهما. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.(1/293)
جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في [تقاربها] (1) وتضامها كأنها جنّة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة [وبساتينها] (2) ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال: { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } [الكهف:32].
قلتُ: المعنى الأول هو قول عامة المفسرين.
قال مقاتل (3) : كانت المرأة تخرج فتحمل مكتلها على رأسها وتمرّ، فيمتلئ مكتلها من ألوان الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها.
{ كلوا من رزق ربكم } على إضمار القول، { واشكروا له } بالعمل بطاعته، { بلدة طيبة } يعني: أرض سبأ.
وقال مجاهد: هي صنعاء طيبة غير سَبَخَة (4) .
قال ابن عباس: كانت أخصب البلاد وأطيبها (5) .
وقال ابن زيد: لم يكن فيها شيء مُؤْذٍ من بعوض وذباب وبرغوث ولا عقرب، ويمر الغريب ببلدتهم في ثيابه القمل فتموت كلها لطيب هوائها (6) .
__________
(1) ... في الأصل: تقاربهما. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... تفسير مقاتل (3/62).
(4) ... ذكره الماوردي (4/444). ومعنى قوله: "غير سَبَخَة": أي: غير مالحة (اللسان، مادة: سبخ).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/585).
(6) ... أخرجه الطبري (22/78)، وابن أبي حاتم (10/3165). وذكره السيوطي في الدر (6/687) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/294)
{ ورب غفور } وقرئ شاذاً: "بلدة طيبة ورباً غفوراً" بالنصب على المدح (1) .
وقال ثعلب: على معنى: اسكنوا بلدة واعبدوا رباً (2) .
قوله تعالى: { فأعرضوا } يعني: تولوا عن أمر الله واتباع رسله، { فأرسلنا عليهم سيل العرم } .
الإشارة إلى قصتهم:
ذكر العلماء بالتفسير والسير: أن قوم بلقيس كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فنهتهم فلم يطيعوها، فانطلقت مغاضبة إلى قصرها فنزلته، فلما كثر الشرّ بينهم ندموا، فأتوها وأرادوها على الرجوع إلى ملكها فأبتْ، فقالوا: ترجعين وإلا قتلناك، فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: إنا نطيعك، فجاءت إلى واديهم، وكان إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة أيام، فأمرت به فردم وسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، وحقنت به ماء العيون والأمطار، وجعلت له منافذ بعضها فوق بعض على [مقدار] (3) حاجتهم، فلم تزل على ذلك إلى آن من حديثها مع سليمان عليه السلام ما كان (4) .
ثم أرسل الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً على عدد قراهم، فكذبوا الرسل
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة الزمخشري في: الكشاف (3/585).
(2) ... انظر قول ثعلب في: الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: مقار.
(4) ... أخرجه الطبري (22/79) من حديث المغيرة بن حكيم.(1/295)
ولم يُقروا بنعم الله، فأرسل الله عليهم [جرذاً] (1) نقب ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتيهم فغرقهما، ودفن السيل بيتهم، فذلك قوله تعالى: { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهو جمع عرمة، وهي الحجارة المركومة، ويقال للكَدْس من الطعام: عَرَمَة، والمراد: المُسَنَّاة (2) التي عقدوها سَكْراً (3) ، وهذا قول مجاهد وعامة اللغويين (4) .
وقال ابن عباس: العَرِم: السيل الشديد (5) .
وقال في رواية أخرى: العَرِم: اسم الوادي. وهو قول قتادة والضحاك ومقاتل (6) .
قال الزجاج (7) : وقيل: إن العَرِم اسم الجُرَذ الذي نقب السَّكْرَ عليهم، وهو الذي يقال له: الخُلْد.
__________
(1) ... في الأصل: جراداً. والتصويب من زاد المسير (6/445). والجُرذ: الذَّكَر من الفأر (اللسان، مادة: جرذ).
(2) ... المُسَنَّاة: ضفيرة تُبنى للسيل لتردّ الماء؛ سميت بذلك لأن فيها مفاتيح للماء بقدر ما تحتاج إليه مما لا يَغْلِب (اللسان، مادة: سنا).
(3) ... السَّكْر: اسم ذلك السِّداد الذي يجعل سَدّاً للشق ونحوه.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/443-445).
(5) ... أخرجه الطبري (22/80)، وابن أبي حاتم (10/3166). وذكره السيوطي في الدر (6/690) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (22/79). وذكره مقاتل في تفسيره (3/62)، والسيوطي في الدر (6/690-691) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن الضحاك وعزاه لابن جرير.
(7) ... معاني الزجاج (4/248).(1/296)
{ وبدلناهم بجنتيهم } اللتين تطعمان الفواكه { جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ } قرأ أبو عمرو: "أكُلِ خَمْطٍ" بالإضافة من غير تنوين. وقرأ الباقون: "أُكُلٍ" بالتنوين (1) .
قال الواحدي (2) : القراءة الجيدة بالإضافة؛ لأن الخمط عند المفسرين اسم شجر وقالوا: هو الأراك، وأُكُله: جَنَاهُ، وهو البَرِير.
قال أبو عبيدة (3) : الخَمْط: كل شجرة مرّة ذات شوك.
قال الأخفش (4) : الأحسن في مثل هذه: الإضافة، مثل: دار آجر، وثوب خز.
وقال ابن الأعرابي: الخمط: ثمر شجر يقال له: فَسْوةُ الضَّبع، على صورة الخَشْخَاش، يَتَفَرَّكُ ولا يُنتفع به (5) .
وقال المبرد والزجاج (6) : يقال لكل نبت قد أخَذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله: خَمْطٌ.
وعلى هذا يحسن التنوين في "أُكُلٍ" إذا جعلت الخمْط اسماً للمأكول.
{ وأثْلٍ } وهو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/293)، والحجة لابن زنجلة (ص:587)، والكشف (2/205)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:359)، والسبعة (ص:528).
(2) ... الوسيط (3/491).
(3) ... مجاز القرآن (2/147).
(4) ... انظر قول الأخفش في: الوسيط (3/491).
(5) ... انظر: مجاز القرآن (2/147)، واللسان (مادة: خمط).
(6) ... معاني الزجاج (4/249). وانظر: تهذيب اللغة للأزهري (7/260).(1/297)
{ وشيء من سدر قليل } أي: وشيء قليل من السدر، وهو شجر النَّبق.
قال الحسن: قلّل السدر لأنه أكرم ما بدلوا (1) .
وقال قتادة: بينما شجرهم من أحسن الشجر وخير الشجر، إذ صيره الله تعالى من شر الشجر (2) .
وقرئ شاذاً: "وأثْلاً وشيْئاً" بالنصب، عطفاً على "جنتين" (3) .
{ ذلك جزيناهم بما كفروا } أي: ذلك التبديل بكفرهم، { وهل يُجازى إلا الكفور } .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص: "نجازي" بالنون وكسر الزاي وياء بعدها، "الكفورَ" بالنصب (4) .
والمعنى: وهل نجازي مثل هذا الجزاء [الفظيع] (5) ، أو وهل يجازى بكل عمله إلا الكفور، فإن المؤمن يكفّر عنه ذنوبه أو معظمها بطاعته، والكافر يجازى بجميع سيئاته.
$uZù=yèy_ur بَيْنَهُمْ
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/324).
(2) ... أخرجه الطبري (22/82). وذكره السيوطي في الدر (6/692). وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/261)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/440).
(4) ... الحجة للفارسي (3/295)، والحجة لابن زنجلة (ص:587)، والكشف (2/206)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:359)، والسبعة (ص:528-529).
(5) ... في الأصل: الفضيع.(1/298)
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ اتزب
{ وجعلنا بينهم } عطف على قوله تعالى: { لقد كان لسبأ } ، يعني: وكان من قصتهم أنّا جعلنا بينهم { وبين القرى التي باركنا فيها } بالماء والشجر، وهي قرى الشام.
ويروى: أنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية (1) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/444).(1/299)
{ قرى ظاهرة } متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها قرى ظاهرة لأعين الناظرين. وهذا معنى قول الحسن (1) .
وراكبه تتبين الطريق ظاهرة للسائلة، وكان شجرهم من أرض اليمن إلى الشام.
{ وقدرنا فيها السير } قال الحسن وقتادة وغيرهما: كانوا يغدون [فيقيلون] (2) في قرية ويروحون فيبيتون في قرية، لا يخافون جوعاً ولا عطشاً ولا عدوّاً، ولا يحتاجون إلى حمل زاد ولا ماء (3) .
وقال ابن قتيبة (4) : "وقدرنا فيها السير": جعلنا بيْن القرية والقرية مقداراً واحداً.
{ سيروا فيها } أي: وقلنا لهم سيروا فيها { ليالي وأياماً } أي: إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف.
قال المفسرون: آمنين من الجوع والعطش والسباع والعدو، فبطروا النعمة، وملُّوا العافية، وطلبوا الكَدّ والتعب، كما طلب بنوا إسرائيل البصل
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/84)، وابن أبي حاتم (10/3167) بمعناه. وذكر نحوه السيوطي في الدر (6/692) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... في الأصل: فيقلون. والتصويب من المصادر التالية.
(3) ... أخرجه الطبري (22/84-85)، وابن أبي حاتم (10/3167). وذكره السيوطي في الدر (6/692-693) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:356).(1/300)
والثوم مكان المنّ والسلوى (1) .
{ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام: "بَعِّدْ" بتشديد العين وكسرها وسكون الدال من غير ألف، على لفظ السؤال. وقرأ الباقون "بَاعِدْ" بالألف، على لفظ السؤال أيضاً (2) .
وقرأت ليعقوب: "رَبُّنا" برفع الباء، "بَاعَدَ" على صيغة الماضي (3) ، وهو خلاف المعنى الأول.
{ وظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي. وقيل: بسؤالهم، { فجعلناهم أحاديث } يتحدث الناس بهم ويتعجبون منهم، { ومزقناهم كل ممزق } أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أنهم بعد أن خربت مساكنهم وذهبت جناتهم، تبدَّدُوا في البلاد، فضربت العرب بهم المثل فقالت: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ.
قال كثير:
أيادي سَبَا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكُم ... فلم يَحْلُ بالعينين بَعْدَكِ منظَرُ (4)
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار } عن معصية الله تعالى { شكور } لنعمه.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/445)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/448).
(2) ... الحجة للفارسي (3/295)، والحجة لابن زنجلة (ص:588)، والكشف (2/207)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:359)، والسبعة (ص:529).
(3) ... النشر (2/350)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:359).
(4) ... البيت لكثير، وهو في: اللسان (مادة: سبأ)، وفيه: "منزل" بدل: "منظر"، والبحر (7/262)، وروح المعاني (22/133)، والكشاف (3/587).(1/301)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ اثتب
{ ولقد صَدَقَ } وقرأ أهل الكوفة: "صدّق" بتشديد الدال (1) .
قال أبو علي (2) : من قرأ بالتخفيف فمعناه: أنه صَدَقَ ظَنُّهُ الذي ظَنَّهُ بهم من متابعتهم إياه إذا أغواهم، وذلك نحو قوله: { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [الأعراف:16]، { ولأغوينهم أجمعين } [الحجر:39] فهذا ظنُّه الذي [صدَّقوه] (3) ؛ لأنه لم يقل ذلك على تيقن وإنما ظن ظناً، فكان كما
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/296)، والحجة لابن زنجلة (ص:588)، والكشف (2/207)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:359)، والسبعة (ص:529).
(2) ... الحجة (3/296-297).
(3) ... في الأصل: صدقه. والتصويب من الحجة (3/296).(1/302)
ظن، فـ"ظنّه" على هذا ينتصب انتصاب المفعول به، ويجوز أن ينتصب انتصاب الظرف، أي: صَدَقَ عليهم إبليس في ظنه، ولا يكون على هذا متعدياً [بـ"صَدَق"] (1) إلى مفعول به، وقد يقال: أصابَ الظنُّ، وأخطأ الظن.
ومن قال: "صَدَّقَ" بالتشديد، فإنه ينصب الظن على أنه مفعول به، وعَدَّى "صَدَّقَ" إليه. قال الشاعر:
فإن لم أُصَدِّقْ ظنّكم بتيقُّن ... ... فلا سَقَتِ الأوصَالَ مِنِّي الرَّواعِد (2)
وقال غيره في قراءة من خفَّف: هو متعد؛ كقولك: صدقت فلاناً في الحديث.
قال الأعشى:
فَصَدَقْتُهُ وكذبْتُه ... ... والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه (3)
وقال الزجاج (4) : من خفَّف نصب الظن مصدراً، على معنى: صَدَقَ عليهم [ظناً] (5) ظنه، وصدق في ظنه.
وقرأ الزهري: "صَدَقَ" مخففة، "إبليسَ" نصب، "ظَنُّهُ" رفع (6) .
__________
(1) ... زيادة من الحجة، الموضع السابق.
(2) ... انظر البيت في: الحجة للفارسي (3/297)، والجمل في النحو للخليل (ص:217).
(3) ... البيت للأعشى. وهو ليس في ديوانه. وهو في: الدر المصون (6/466)، وابن يعيش (6/44)، والطبري (30/20)، والقرطبي (19/181)، وزاد المسير (9/10)، وروح المعاني (30/16). وفي الكل الشطر الأول: فصدقتها وكذبتها.
(4) ... معاني الزجاج (4/251-252).
(5) ... في الأصل: ظن. والتصويب من معاني الزجاج (4/252).
(6) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/263)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/442).(1/303)
قال أبو الفتح ابن جني (1) : معناه: أن إبليس سَوَّلَ له ظنه شيئاً [فيهم] (2) [فصدقه] (3) ظَنُّه.
والضمير في "عليهم" وفي "فاتبعوه": لأهل سبأ، أو لبني آدم.
{ إلا فريقاً من المؤمنين } [قال] (4) ابن عباس: يعني: المؤمنين كلهم، وهم الذين قال الله: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } (5) [الحجر:42].
{ وما كان له عليهم من سلطان } أي: من تسلط واستيلاء بالوسوسة [والاستغواء] (6) ، { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } مفسّرٌ في أول العنكبوت (7) .
وقرأ الزهري: "ليُعْلَمَ" بياء مضمومة؛ على البناء للمفعول (8) .
ب@è% ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا
__________
(1) ... المحتسب (2/191).
(2) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: قصدقه. والتصويب من المحتسب (2/191).
(4) ... في الأصل: قاله.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/493).
(6) ... في الأصل: الاستغواء. والتصويب من الكشاف (3/588).
(7) ... عند الآية رقم: 3.
(8) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر المحيط (7/263)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/450).(1/304)
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ اثجب
قوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } أي: قل يا محمد للمشركين الذين أنت بين أظهرهم: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله(1/305)
[ليدفعوا] (1) عنكم ضرراً، أو يجلبون لكم نفعاً.
ثم أخبر عن عجزهم بقوله تعالى: { لا يملكون مثقال ذرّة } حبَّة، يعني: من خير أو شر { في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما } أي: في هذين الجنسين، يعني: السموات والأرض { من شرك } في الخلق ولا في الملك ولا في التدبير، { وما له منهم من ظهير } أي: ما لله من الآلهة من ظهير، أي: معين يعينه على الخلق والتدبير، فكيف دعوتموهم آلهة عبدتموهم ورجوتموهم من دون الله.
فإن قيل: أين مفعولا "زعم"؟
قلتُ: هما محذوفان، التقدير: زعمتموهم آلهة.
قال الزمخشري (2) : حذف الراجع إلى الموصول كما حذف في [قوله] (3) : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [الفرقان:41]، [استخفافاً] (4) ، لطول الموصول بصلته (5) ، وحذف "آلهة" لأنه موصوف، صفته "من دون الله"، والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً، فإذاً مفعولا "زعم" محذوفان [جميعاً] (6) بسببين مختلفين.
قوله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } قرأ حمزة
__________
(1) ... في الأصل: ليدعوا.
(2) ... الكشاف (3/589).
(3) ... في الأصل: قولهم. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: واستخفافاً. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الكشاف: لصلته.
(6) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/306)
والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر: "أُذِنَ" بضم الهمزة، وفتحها الباقون (1) .
والمعنى: لا تنفع شفاعة ملك ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة.
وقيل: المعنى: إلا من أذن الله أن يشفع له.
وقيل: اللام في "أذن له" بمعنى: لأجله، بمعنى: لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله.
وقال صاحب الكشاف (2) : وهذا وجه لطيف، وهو الوجه.
فإن قلت: بما اتصل قوله تعالى: { حتى إذا فُزّع عن قلوبهم } ولأي شيء وقعت "حتى" غاية؟
قلت: بما فُهم من هذا الكلام أن ثم انتظاراً للإذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص، كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون ملياً [فزعين] (3) وهلين، { حتى إذا فزّع عن قلوبهم } أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضاً: { ماذا قال ربكم } .
وقرأ ابن عامر: "فَزَّعَ" بفتح الفاء والزاي (4) ، على معنى: خلَّى الله
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/297)، والحجة لابن زنجلة (ص:589)، والكشف (2/207)، والنشر (2/350)، والإتحاف (ص:359)، والسبعة (ص:528-529).
(2) ... الكشاف (3/589).
(3) ... زيادة من الكشاف (3/589).
(4) ... الحجة للفارسي (3/294)، والحجة لابن زنجلة (ص:589)، والكشف (2/205)، والنشر (2/351)، والإتحاف (ص:359-360)، والسبعة (ص:530).(1/307)
الفزع عن قلوبهم.
وقرأ الحسن: "فُرِّغَ" بالراء المهملة والغين المعجمة (1) ، وهو يرجع إلى معنى قراءة العامة؛ لأن المعنى: فرغت من الفزع.
{ قالوا الحق } أي: وقال الحق.
قال الواحدي (2) : ثم أخبر الله تعالى عن خوف الملائكة قال: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، قال: وهذا دليل على أنه [قد] (3) يصيبهم فزع شديد من شيء يحدث من أقدار الله تعالى، ولم يذكر ذلك الشيء؛ لأن إخراج الفزع يدل على حصوله، فكأنه قد ذكر.
قال (4) : والمفسرون ذكروا ذلك الشيء.
قال مقاتل (5) وقتادة والكلبي: لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وبعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، أنزل جبريل بالوحي، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل [بشيء] (6) من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرّ بكل سماء ويكشف عنهم الفزع، وقال بعضهم
__________
(1) ... وهي قراءة قتادة وابن يعمر أيضاً. انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:360)، وزاد المسير (6/452).
(2) ... الوسيط (3/494).
(3) ... زيادة من الوسيط، الموضع السابق.
(4) ... أي: الواحدي.
(5) ... تفسير مقاتل (3/64).
(6) ... في الأصل: لشيء. والتصويب من الوسيط (3/494)، وزاد المسير (6/453).(1/308)
[لبعض] (1) : "ماذا قال ربكم قالوا الحق" (2) .
وقال الماوردي (3) : فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى؛ لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا، فخرُّوا عنده سُجَّداً مخافة القيامة.
قال (4) : وهذا معنى قول كعب.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن ابن [روزبة] (5) البغداديان قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن (6) ، أخبرنا عبدالله (7) ، أخبرنا محمد (8) ، حدثنا محمد (9) ، حدثنا الحميدي (10) ، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة [يقول] (11) : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً
__________
(1) ... زيادة من الوسيط (3/494).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/494)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/453).
(3) ... تفسير الماوردي (4/448).
(4) ... أي: الماوردي.
(5) ... في الأصل: رزبة. وهو خطأ. انظر ترجمته في: السير (22/387-389)، والتقييد (ص:419).
(6) ... هو عبد الرحمن بن محمد الداودي. تقدمت ترجمته.
(7) ... هو عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي. تقدمت ترجمته.
(8) ... هو محمد بن يوسف الفربري. تقدمت ترجمته.
(9) ... هو محمد بن إسماعيل البخاري.
(10) هو عبد الله بن الزبير الحميدي.
(11) زيادة من الصحيح (4/1804).(1/309)
لقوله، كأنه سلسلة على صَفْوان (1) ، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير" (2) . انفرد بإخراجه البخاري.
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود قال: "إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء [للسماء] (3) صلصلة كجرّ السلسلة على الصَّفا (4) ، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل ما قال [ربك] (5) ؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق" (6) .
* قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا
__________
(1) ... الصَّفْوان: العريض من الحجارة الأملس، ومثله: الصَّفا (اللسان، مادة: صفا).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1804 ح4522).
(3) ... زيادة من سنن أبي داود (4/235).
(4) الصَّفا: هو كالصفوان بمعنى واحد.
(5) في الأصل: ربكم. والتصويب من سنن أبي داود (4/235).
(6) أخرجه أبو داود (4/235 ح4738).(1/310)
أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اثذب
قوله تعالى: { قل } (1) أي: قل لكفار مكة محتجاً عليهم: { من يرزقكم من السموات } المطر { والأرض } النبات والثمر، { قل الله } فإنهم لا جواب لهم سواه، فلا حاجة لك إلى استنطاقهم به.
قوله تعالى: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } كلام وارد مورد الإنصاف كقوله تعالى: { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } [العنبكوت:52]، وكقول حسان:
........................ ... ... فشرُّكُما لخيركُما الفداء (2)
وقال الزجاج (3) : رُوي في التفسير: "وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين"، وهذا في اللغة غير جائز، ولكنه في التفسير يؤول إلى هذا المعنى. والمعنى: إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، أو إنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وهذا كما يقول القائل: إذا كانت الحال تدل على صدقه، [أحدُنا صادق وأحدُنا كاذب، والمعنى] (4) : أحدنا [صادق] (5) أو كاذب.
وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله تعالى: { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } . قال الزجاج (6) : معناه : [ألحقتموهم] (7) به، ولكنه حذف؛ لأنه في صلة "الذين" (8) .
قال الزمخشري (9) : فإن قيل: ما معنى قوله: "أروني" وكان يراهم
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله تعالى: { من يرزقكم } وستأتي بعد قليل.
(2) ... عجز بيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه، وصدره: (أتهجوه ولست له بكفء)، انظر: ديوانه (ص:76)، واللسان (مادة: ندد)، والبحر (7/267)، والدر المصون (5/445)، والطبري (18/88).
(3) ... معاني الزجاج (4/253).
(4) ... زيادة من معاني الزجاج (4/253).
(5) ... في الأصل: صادقاً. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(6) ... معاني الزجاج (4/254).
(7) ... في الأصل: ألحقتوهم. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(8) ... حذف العائد بعد فعل مُتَعَدٍ.
(9) ... الكشاف (3/592).(1/311)
ويعرفهم؟
قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به.
ويحتمل عندي: أن يكون هذا على مذهب العرب في الازدراء بالرأي، كقول الشاعر :
ولو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن ... تعالي فانظري بمن ابتلاني (1)
{ كلا } ردع وزجر لهم عن مذهبهم الذي لا يثبت على محك النظر، ولا عند حاكم العقل.
!$tBur أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
__________
(1) البيتان في: سير أعلام النبلاء (13/100)، وتاريخ بغداد (8/373) مع اختلاف في بعض اللفظات، والمستطرف (1/454).(1/312)
صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ(1/313)
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا أَسَرُّواur النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا(1/314)
يَعْمَلُونَ اججب
قوله تعالى: { وما أرسلناك إلا كافة للناس } قال الزجاج (1) : معنى "كافة" في اللغة: الإحاطة (2) . والمعنى: أرسلناك جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ، وأُرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب والعجم.
قوله تعالى: { ولا بالذي بين يديه } يريدون: التوراة وغيرها من الكتب، حملهم على هذا القول ما سمعوه من علماء أهل الكتاب من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ ولو ترى } أيها الرسول أو أيها السامع { إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } محبوسون للحساب يوم القيامة وهم يتجادلون. وجواب "لو" محذوف، أي: [لرأيت] (3) عجباً.
قوله تعالى: { بل مكر الليل والنهار } قال المبرد والزجاج والزمخشري (4) وعامة اللغويين: المعنى: بل مكركم في الليل والنهار، اتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه.
وقيل: جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي.
وقرأ قتادة: "بل مكرٌ" بالتنوين، "الليلَ والنهارَ" بنصب الظرفين (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/254).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: كفف).
(3) ... في الأصل: لو رأيت.
(4) ... المقتضب (4/331)، ومعاني الزجاج (4/254)، والكشاف (3/594).
(5) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/458)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/448).(1/315)
قال الزمخشري (1) : وقرئ: "بل مكر الليل والنهار" بالرفع والنصب، أي: تَكُرُّونَ الإغواء مَكَرّاً دائماً لا تفترون عنه.
فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟
قلتُ: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم، أو مكركم سبب ذلك، والنصب على معنى: بل تكُرُّون الإغواء مَكَرّ الليل والنهار.
قوله تعالى: { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } مفسر في يونس (2) .
!$tBur $uZù=y™ِ'r& 'خû 7ptƒِچs% `دiB @چƒة¯R wخ) tA$s% !$ydqèùuّIمB $¯Rخ) !$yJخ/ OçFù=إ™ِ'é& ¾دmخ/ tbrمچدے"x. اجحب (#qن9$s%ur ك`ّtwU çژsYٍ2r& Zw؛uqّBr& #Y‰"s9÷rr&ur $tBur ك`ّtwU tûüخ/OyèكJخ/ اجخب ِ@è% ¨bخ) 'خn1u' نفف،ِ6tƒ s-ّ-خhچ9$# `yJد9 âن!$t±o"
__________
(1) ... الكشاف (3/594).
(2) ... عند الآية رقم: 54.(1/316)
â'د‰ّ)tƒur £`إ3"s9ur uژsYٍ2r& ؤ¨$¨Z9$# ںw tbqكJn=ôètƒ اجدب !$tBur ِ/ن3ن9؛uqّBr& Iwur /ن.ك‰"s9÷rr& سةL©9$$خ/ ِ/ن3ç/جhچs)è? $tRy‰Zدم #'s"ّ9م- wخ) ô`tB z`tB#uن ں@دJtمur $[sخ="|¹ y7ح´¯"s9'ré'sù ِNçlm; âن!#t"y_ ة#÷èإeز9$# $yJخ/ (#qè=دHxه ِNèdur 'خû دM"sùمچنَّ9$# tbqمZدB#uن اجذب tûïد%©!$#ur tbِqyèَ،o" _خû $uZدF"tƒ#uن tûïج"ةf"yèمB y7ح´¯"s9'ré& 'خû ة>#xyèّ9$# ڑcrçژ|طّtèC اجرب ِ@è% ¨bخ) 'خn1u' نفف،ِ6tƒ s-ّ-خhچ9$# `yJد9 âن!$t±o" ô`دB ¾حnدٹ$t7دم â'د‰ّ)tƒur(1/317)
¼çms9 !$tBur OçFّ)xےRr& `دiB &نَسx" uqكgsù ¼çmàےخ=ّƒن† uqèdur çژِچyz ڑْüد%خ-؛چ9$# اجزب
وقوله تعالى: { وما أرسلنا في قرية من نذير } هذه الآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
{ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } افتخروا وظنوا أن الله خوّلهم ذلك كرامتهم عليه، وقاسوا على تقدير كونها وصحة وجودها على أمر الدنيا، فذلك قولهم: { وما نحن بمعذبين } .
وفي قوله تعالى: { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } إبطال لما توهموه من أن كثرة أموالهم وأولادهم يقتضي كرامتهم على الله، فإن بسط الرزق وقدره ابتلاء وامتحان من الله حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، وكم من فاسق موسّع عليه، وطائع مضيّق في رزقه، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك.
ثم صرّح بإبطال ما قالوه وأكذبهم فيه، فقال تعالى: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } قال الفراء (1) : يصلح أن تقع "التي" على الأموال والأولاد جميعاً؛ لأن الأموال جمع، والأولاد جمع.
وإن شئت وجهت "التي" إلى الأموال، واكتفيت بها من ذكر الأولاد؛
__________
(1) ... معاني الفراء (2/363).(1/318)
كقوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلف (1)
وقال الزجاج (2) : المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم، [فحذف] (3) اختصاراً.
وقال الزمخشري (4) : أراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث.
وقرأ الحسن: "باللاتي"؛ لأنها جماعات (5) .
قال الأخفش (6) : "زلفى" اسم المصدر، كأنه أراد بالتي تقربكم عندنا [إزلافاً] (7) .
{ إلا من آمن } استثناء منقطع.
وقال الزمخشري (8) : مِنْ "كُمْ" في "تُقَرِّبُكُم". والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب
__________
(1) ... تقدم.
(2) ... معاني الزجاج (4/255).
(3) ... في الأصل: فحذ.
(4) ... الكشاف (3/595).
(5) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/460)، وأبو حيان في البحر المحيط (7/272).
(6) ... معاني الأخفش (ص:270).
(7) ... في الأصل: تقريباً. والمثبت من معاني الأخفش، الموضع السابق.
(8) ... الكشاف (3/595).(1/319)
أحداً إلا من علمهم الخير، وفقَّهَهُم في الدين، ورشَّحهم للصلاح والطاعة.
{ فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } قرأتُ على شيخنا أبي البقاء لرويس عن يعقوب: "جزاءً" بالنصب والتنوين، "الضعفُ" بالرفع (1) .
وقرأتُ للقراء السبعة من جميع طرقهم الثلاثة الذين ألحقوا بهم: "جزاء الضِّعْف" برفع "جزاء" والإضافة.
وتقدير القراءة الأولى: فأولئك لهم الضعف جزاؤهم في الغرفات.
وقرأ حمزة: "في الغُرْفَة" على التوحيد (2) ، يريد: الجنس؛ كقوله تعالى: { يجزون الغرفة } [الفرقان:75].
والمعنى في القراءتين واحد.
والمراد: وهم في غرفات الجنة آمنون من الموت والغير والخروج وكل مخوف.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } قال سعيد بن جبير: وما أنفقتم من شيء من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه (3) .
[وقال الكلبي: وما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه] (4) إما أن يعجله في
__________
(1) ... النشر (2/351)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:360).
(2) ... الحجة للفارسي (3/297)، والحجة لابن زنجلة (ص:590)، والكشف (2/208)، والنشر (2/351)، والإتحاف (ص:360)، والسبعة (ص:530).
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (5/331 ح26598)، والطبري (22/101). وذكره السيوطي في الدر (6/706) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... زيادة من الوسيط (3/497)، وزاد المسير (6/461).(1/320)
الدنيا أو يدخره [لكم] (1) في الآخرة (2) .
وأخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي، أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد البخاري (3) ، حدثنا إسماعيل (4) ، حدثني أخي (5) ، عن سليمان هو ابن بلال (6) ، عن معاوية بن أبي [مزرد] (7) ، عن أبي الحباب (8) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/497)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/461).
(3) ... تقدم هذا الإسناد آنفاً.
(4) ... هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبد الله بن أبي أويس، ابن أخت مالك ونسيبه، صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه، مات في رجب سنة ست أو سبع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/271-272، والتقريب ص:108).
(5) ... هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو بكر بن أبي أويس المدني الأعشى، ثقة، مات ببغداد سنة اثنتين ومائتين (تهذيب التهذيب 6/107، والتقريب ص:333).
(6) ... سليمان بن بلال التيمي القرشي مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو أيوب المدني، ثقة، مات سنة سبع وسبعين (تهذيب التهذيب 4/154، والتقريب ص:250).
(7) ... في الأصل: مرزد. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: التهذيب (10/196)، والتقريب (ص:538).
(8) ... هو سعيد بن يسار، أبو الحباب المدني، مولى ميمونة، وقيل: مولى شقران أو مولى الحسن بن علي، وقيل: مولى بني النجار، وقيل أن اسمه: سعيد بن مرجانة، وهو ثقة متقن، مات سنة سبع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 4/90، والتقريب ص:243).(1/322)
أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً " (1) .
وأخرجه مسلم عن القاسم بن زكريا، عن خالد بن مخلد (2) ، عن سليمان بن بلال.
قرأتُ على محمد بن أبي عبدالله الصوفي، أخبركم محمد بن أسعد، حدثنا الحسين بن مسعود الفراء (3) ، أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي (4) ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى قال: أنفقْ يُنْفَقْ عليك، قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لا ينقص ما في يمينه، قال: وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض، يرفع ويخفض " (5) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (2/522 ح1374)، ومسلم (2/700 ح1010).
(2) ... خالد بن مخلد القطواني، أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي، ثقة صدوق كثير الحديث، وفيه تشيع، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقيل بعدها (تهذيب التهذيب 3/101، والتقريب ص:190).
(3) ... انظر: تفسير البغوي (1/256).
(4) ... حسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي الخالدي، أبو علي المنيعي المروروذي، كان ذا تهجد وصيام واجتهاد، مات في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/266-267).
(5) ... أخرجه البخاري (6/2699 ح6983)، ومسلم (2/691 ح993).(1/323)
هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد البخاري عن علي بن عبدالله. وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبدالرزاق.
{ وهو خير الرازقين } أكرمهم وأعلاهم وآمنهم؛ لأن كل ما رزق من سلطان يرزق جنوده، أو سيد يرزق عبيده، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله، أجراه على أيدي هؤلاء.
tPِqtƒur ِNèdçژà³ّts† $YèٹدHsd NèO مAqà)tƒ دps3ح´¯"n=yJù=د9 دنIwàs¯"ydr& ِ/ن.$ƒخ) (#qçR$ں2 tbrك‰ç7÷ètƒ احةب (#qن9$s% y7oY"ysِ6ك™ |MRr& $uZ-ٹد9ur `دB NخgدRrكٹ ِ@t/ (#qçR%x. tbrك‰ç7÷ètƒ £`ةfّ9$# NèdçژsYٍ2r& Nحkح5 tbqمZدB÷soB احتب tPِquّ9$$sù ںw à7خ=ôJtƒ ِ/ن3àز÷èt/ <ظ÷èt7د9 $Yèّے¯R ںwur #uژںر مAqà)tRur tûïد%©#د9 (#qكJn=sك (#qè%rèŒ ڑU#xtم ح'$¨Z9$#(1/324)
سةL©9$# OçFZن. $pkح5 tbqç/ةjs3è? احثب
قوله تعالى: { ويوم نحشرهم جميعاً } يعني: المشركين.
وقال مقاتل (1) : الملائكة ومن [عَبَدَها] (2) .
{ ثم نقول للملائكة } وقرئ: "يحشُرُهُم"، "ثم يَقُولُ" بالياء فيهما (3) ، حملاً على "قل إن ربي يبسط الرزق".
{ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } استفهام في معنى التقريع والتوبيخ للعابدين، ونحوه: { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [المائدة:116]، وقد علم الله سبحانه وتعالى أن الملائكة وعيسى مبرؤون مما وجه عليهم من السؤال، وهو وارد على المثل السائر: "إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة".
{ قالوا } يعني: الملائكة إظهاراً لبراءتهم من الرضى بعبادتهم { سبحانك أنت ولينا من دونهم } الذي نواليك من دونهم، { بل كانوا يعبدون الجن } يريدون: الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله تعالى، { أكثرهم بهم مؤمنون } أي: أكثر المشركين بالجن الشياطين مصدقون، أي: يصدقونهم فيما يخبرونهم به من الباطل.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/68).
(2) ... في الأصل: بعدها. والتصويب من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/299)، والحجة لابن زنجلة (ص:590)، والنشر (2/257)، والإتحاف (ص:206)، والسبعة (ص:530).(1/325)
{ فاليوم لا يملك بعضكم لبعض } يعني: العابدين والمعبودين { نفعاً ولا ضراً } ؛ لأن الأمر في الثواب يوم القيامة لله وحده، لم يفوض إلى أحد من خلقه فيه أمراً، ولم يجعل له سلطاناً كحال الدنيا.
#sŒخ)ur 4'n?÷Gè? ِNحkِژn=tم $uZçF"tƒ#uن ;M"oYحhٹt/ (#qن9$s% $tB !#x"yd wخ) ×@م_u' ك‰ƒجچمƒ br& ِ/ن.£‰فءtƒ $Hxه tb%x. ك‰ç7÷ètƒ ِNن.نt!$t/#uن (#qن9$s%ur $tB !#x"yd Hwخ) ش7ّùخ) "ZژtIّےoB tA$s%ur tûïد%©!$# (#rمچxےx. بd,ysù=د9 $£Js9 ِNèduن!%y` ÷bخ) !#x"yd wخ) ضچَsإ™ ×ûüخ7oB احجب !$tBur Nكg"oY÷ s?#uن `دiB 5=çGن. $pktXqك™â'ô‰tƒ !$tBur !$oYù=y™ِ'r& ِNحkِژs9خ)(1/326)
y7n=ِ7s% `دB 9چƒة¯R اححب ڑUOx.ur tûïد%©!$# `دB ِNخgخ=ِ7s% $tBur (#qنَn=t/ u'$t±÷èدB !$tB ِNكg"oY÷ s?#uن (#qç/Os3sù 'ح?ك™â' y#ّs3sù tb%x. خژچإ3tR احخب
قوله تعالى: { وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } هذا إيذان بفرط جهل العرب وإشعار أن ردهم وتكذيبهم لم يصدر عن تثبت وفكر وعلم، على ما هو المتعامل من عادة ذوي البصائر المضيئة بنور العلم، فإنهم إن صدر منهم تكذيب فلشبهة تقوم في نظرهم يضعف قوى علمهم عن دفعها.
وقال الفراء (1) : من أين كذبوك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه.
{ وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار } أي: وما بلغ هؤلاء مِعْشَار ما آتينا أولئك، والمِعْشَار والعُشْر والعَشِير بمعنىً.
وقيل: المعشار: عُشْر العُشْر، وقيل: عُشْر العَشِير، والعَشِير: عُشْر العُشْر.
__________
(1) ... معاني الفراء (2/364).(1/327)
قال الماوردي (1) : وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل.
والمعنى: وما بلغوا معشار ما آتيناهم من طول الأعمار واشتداد القوى وكثرة الأموال. هذا معنى قول ابن عباس (2) .
وقال الحسن: ما عملوا معشار ما أمروا به (3) .
{ فكذبوا رسلي } المعنى: فأخذناهم ولم يغن عنهم ما كانوا فيه، فكيف بهؤلاء؟
{ فكيف كان نكير } النكير: اسم بمعنى الإنكار.
* ِ@è% !$yJ¯Rخ) Nن3فàدمr& >oy‰دm؛uqخ/ br& (#qمBqà)s? ! 4سo_÷WtB 3"yٹ؛tچèùur ¢OèO (#rمچO6xےtGs? $tB /ن3خ6دm$|ءخ/ `دiB >p¨Zإ_ ÷bخ) uqèd wخ) ضچƒةtR Nن3©9 tû÷üt/ ô"y‰tƒ 5>#xtم 7‰ƒد‰x© احدب
__________
(1) ... تفسير الماوردي (4/455).
(2) ... أخرجه الطبري (22/103-104)، وابن أبي حاتم (10/3168) بمعناه. وذكره السيوطي في الدر (6/709) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، بمعناه.
(3) ... ذكره الماوردي (4/455).(1/328)
قوله تعالى: { قل إنما أعظكم بواحدة } أي: إنما آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة، ثم فَسَّرها بقوله تعالى: { أن تقوموا لله } وليس المراد به المثول على الأقدام، وإنما المراد به: الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمم.
والمعنى: أن تقوموا لوجه الله خالصاً متفرقين.
{ مثنى وفرادى } اثنين اثنين وواحداً واحداً، { ثم تتفكروا } في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ويعرض كل واحد منكم محصول ما أداه فكره إليه على شريطة المناصعة وعزل الهوى، أو يراجع رشده إذا خلا بنفسه وأمعن النظر، فإنكم إن فعلتم ذلك هجم بكم الفكر الصالح على النظر الصحيح وأصبتم طريق الحق.
فإن قيل: لم أمرهم بالقيام مثنى وفُرادى فقط؟
قلت: لغرض صحيح نعرفه عن استعداء العادات، وهو أن الجموع الوافرة والعصب المتكاثرة يوجب اضطراب آرائها واختلاف أهوائها اختلاط القول وتوقد ثائرة التعصب، وهذا أمر لا يجامعه الإنصاف غالباً وظاهراً.
وفي قوله تعالى: { ما بصاحبكم من جِنَّة } إشعار بأن هذا الأمر العظيم الذي ينتظم في سلك المبعوث به سياسة الملك ورئاسة الدين، لا يتصدى لادعاء مثله إلا أحد رجلين؛ مجنون لا يبالي عند ظهور عجزه عن إثبات صحة ما ادعاه بالافتضاح، أو عاقل مؤيد بالعجز [مصطفىً] (1) للنبوة، وإلا
__________
(1) ... في الأصل: مطفىً.(1/329)
فما يحمل العاقل على مثل هذه الدعوى التي يبقى صاحبها بعرضة السخرية والاستهزاء إذا لم يثبت، وقد علمتم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما به من جِنَّة، بل علمتموه أرزن قريش حلماً، وأغزرهم مروءة، وآصلهم رأياً، وأصدقهم لساناً، وأجمعهم لمكارم الأخلاق.
{ إن هو إلا نذير لكم } أي: ما هو إلا مخوف لكم { بين يدي عذاب شديد } يشير إلى قرب الساعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى " (1) .
قال صاحب الكشاف (2) : إن قلت: "ما بصاحبكم" بم يتعلق؟
قلتُ: يجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً تنبيهاً من الله عز وجل على طريقة النظر في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة. وقد جَوَّز بعضهم أن تكون "ما" استفهامية.
ِ@è% $tB Nن3çFّ9r'y™ ô`دiB 9چô_r& uqكgsù ِNن3s9 ÷bخ) y"جچô_r& wخ) 'n?tم "!$# uqèdur 4'n?tم بe@ن. &نَسx" س‰حky احذب ِ@è% ¨bخ) 'خn1u' ك$ةّ)tƒ
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2031 ح4995)، ومسلم (2/592 ح867).
(2) ... الكشاف (3/599).(1/330)
بd,ptّ:$$خ/ مN"¯=tو ة>qمنَّ9$# احرب ِ@è% uن!%y` ',ptّ:$# $tBur ن-د‰ِ7مƒ م@دـ"t7ّ9$# $tBur ك‰دèمƒ احزب ِ@è% bخ) àMù=n=|ت !$yJ¯Rخ*sù '@إتr& 4'n?tم سإOّےtR بbخ)ur àM÷ƒy‰tG÷d$# $yJخ6sù ûساrqمƒ ¥'n<خ) ْ†خn1u' ¼çm¯Rخ) سىدJy™ ز=ƒجچs% اخةب
قوله تعالى: { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } هذا كقول القائل: ما لي في هذا فقد وهبتكه، يريد: ليس لي فيه شيء.
فالمعنى هاهنا: ما سألتكم عليّ بتبليغ الرسالة من أجر.
{ قل إن ربي يقذف بالحق } قال مقاتل (1) : يتكلم بالحق، وهو القرآن والوحي.
يريد: أنه يلقيه وينزله على أنبيائه، أو يرمي به الباطل فيدمغه.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/69).(1/331)
{ علاّم الغيوب } قال الزجاج (1) : الرفع في "عَلاَّم" صفة على موضع "إن ربي"؛ لأن تأويله: قل ربي علام الغيوب يقذف بالحق، و"إنَّ" مؤكدة. ويجوز الرفع على البدل مما في "يقذف" (2) .
المعنى: قل إن ربي يقذف هو بالحق علام الغيوب.
وقال غيره: يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف (3) .
وقرأ أبو رجاء: "عَلاَّمَ" بالنصب (4) ، صفة لـ"ربي".
وقرئ: "الغيوب" بالحركات الثلاث على الغين، وقد ذكرنا هذا الأصل في سورة البقرة، وأن الضم هو الأجود، والكسر لا بأس به من أجل الياء، فإن الكسر أشد موافقة للياء من الضمة. وأما فتح الغين فشاذّ، وهو الأمر الذي خفي وغاب جداً.
{ قل جاء الحق } القرآن ودين الإسلام، { وما يبدئ الباطل وما يعيد } .
قال الزجاج (5) : "ما" في موضع نصب، على معنى: وأيّ شيء يُبدئ الباطل وأيّ شيء يعيد. والأجود أن يكون "ما" نفياً [على معنى: ما يبدئ الباطل وما يعيد] (6) ، و"الباطل" هاهنا: إبليس. والمعنى: وما يبدئ إبليس
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/257-258).
(2) ... انظر: التبيان (2/198)، والدر المصون (5/453).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/466)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/453).
(5) ... معاني الزجاج (4/258).
(6) ... زيادة من الزجاج (4/258).(1/332)
وما يعيد، أي: وما يبعث ولا يخلق.
قلت: وهذا معنى قول قتادة (1) .
وقال الضحاك: الباطل هاهنا: الأصنام لا تبدئ خلقاً ولا تحيي (2) .
وقيل: الباطل هو الذي يضاد الحق. فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق ولم يبق منه بقية يبدي بها أو يعيد.
قال الزمخشري (3) : الحي إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد مثلاً في الهلاك، ومنه قول عبيد:
أقْفَرَ منْ أهْلِهِ عَبيدُ ... [فاليومَ] (4) لا يُبدي ولا يُعيد (5)
والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل؛ كقوله تعالى: { جاء الحق وزهق الباطل } [الإسراء:81].
أخبرنا أبو القاسم السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان، أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد بن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/106)، وابن أبي حاتم (10/3168). وذكره السيوطي في الدر (6/711) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/466).
(3) ... الكشاف (3/600).
(4) ... في الأصل: فالقوم. والتصويب من مصادر تخريج البيت.
(5) ... البيت لعبيد بن الأبرص، انظر: ديوانه (ص:45)، واللسان (مادة: قفر)، والبحر المحيط (7/278)، والدر المصون (5/453)، وروح المعاني (22/156)، والكشاف (3/600).(1/333)
يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا صدقة بن الفضل (1) ، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: " دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " (2) . هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة.
والنُّصُب: الصنم المنصوب للعبادة، ومنه قوله تعالى: { وما ذُبح على النصب } [المائدة:3].
{ قل إن ضللت } كما تزعمون يا كفار قريش، فإنهم كانوا يقولون له: ضللت بترك دين آبائك.
{ فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } من الحكمة والبيان، { إنه سميع قريب } ما تقولون وأقول.
ِqs9ur #"tچs? ّŒخ) (#qممج"sù ںxsù ڑVِqsù (#rنإzé&ur `دB 5b%s3¨B 5=ƒجچs% اختب (# qن9$s%ur $¨YtB#uن ¾دmخ/
__________
(1) ... صدقة بن الفضل، أبو الفضل الحافظ المروزي، وثقه النسائي وغيره، مات سنة ثلاث أو ست وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 4/366، والتقريب ص:275).
(2) ... أخرجه البخاري (2/876 ح2346)، ومسلم (3/1408 ح1781).(1/334)
4'¯Tr&ur مNكgs9 ق¸مr$oYF9$# `دB ¥b%s3¨B 7‰دèt/ اخثب ô‰s%ur (#rمچxےں2 ¾دmخ/ `دB م@ِ6s% ڑcqèùةّ)tƒur ح=ّtَّ9$$خ/ `دB ¥b%s3¨B 7‰دèt/ اخجب ں@دmur ِNوhuZ÷ t/ tû÷üt/ur $tB tbqهktJô±o" $yJx. ں@دèèù Nخgدم$uô©r'خ/ `دiB م@ِ6s% ِNهk¨Xخ) (#qçR%x. 'خû 7e7x© O=ƒجچoB اخحب
{ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } أي: لو ترى إذ فزعوا يا محمد.
قال مجاهد: يوم القيامة (1) .
وقال قتادة: حين يرون بأس الله في الدنيا (2) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3168). وذكره السيوطي في الدر (6/711) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3168). وذكره السيوطي في الدر (6/711) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/335)
قال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة (1) .
وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة (2) .
"فلا فَوْتَ": قال ابن عباس: فلا نجاة (3) .
وقال مجاهد: فلا مَهْرَب (4) .
{ وأخذوا من مكان قريب } وهو من الموقف إلى النار، أو من القبور إلى الموقف، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا.
وروي عن ابن عباس قال: نزلت في خسف البيداء، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.
فعلى هذا يكون المعنى: وأخذوا من مكان قريب، أي: من تحت أقدامهم.
وعن ربعي بن حراش (5) قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب: " فبينا هم كذلك
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/458)، والسيوطي في الدر (6/711) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (22/108)، وابن أبي حاتم (10/3168). وذكره السيوطي في الدر (6/711) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (22/108). وذكره الماوردي (4/458).
(4) ... ذكره الماوردي (4/458).
(5) ... ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد العبسي، أبو مريم الكوفي، قدم الشام وسمع خطبة عمر بالجابية، قال العجلي: تابعي ثقة من خيار الناس، لم يكذب كذبة قط. مات سنة مائة (تهذيب التهذيب 3/205، والتقريب ص:205).(1/336)
إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشاً إلى المشرق وجيشاً إلى المدينة، حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، [ويفتضون] (1) بها أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها أكثر من ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة [فيخربون] (2) ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدى من الكوفة، [فتلحق] (3) ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة، حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله تعالى جبريل فيقول: يا جبريل! اذهب فأبدْهُم، فيضربها برجله ضربة فيخسف الله تعالى بهم، فذلك قوله تعالى في سورة سبأ: { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } ، فلا [ينفلت] (4) منهم إلا رجلان، أحدهما بشير والآخر نذير، وهما من جهينة " (5) .
وجواب: "ولو ترى" محذوف، تقديره: لرأيت أمراً عظيماً.
قوله تعالى: { وقالوا آمنا به } قال مجاهد: بالله (6) .
__________
(1) ... في الأصل: ويقتضون. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... في الأصل: فيخرجون. والتصويب من الطبري (22/107).
(3) ... في الأصل: فتحلق. والتصويب من الطبري، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: يلتفت. والتصويب من الطبري، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه الطبري (22/107)، ومن طريقه الثعلبي في تفسيره (11/229).
(6) ... أخرجه الطبري (22/109)، وابن أبي حاتم (10/3168)، ومجاهد (ص:528). وذكره السيوطي في الدر (6/714) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر.(1/337)
وقال الحسن: بالبعث (1) .
وقال قتادة: بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقد سبق ذكره في قوله تعالى: { ما بصاحبكم من جِنَّة } ، وهذا يكون منهم في الآخرة، أو عند معاينة نزول بأس الله تعالى بهم.
{ وأنى لهم التناوش } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: "التناؤُشُ" بالمد والهمز، وقرأ الباقون بغير همز (3) .
قال صاحب كشف المشكلات (4) : الأصل الهمزة، من قوله:
تمنَّى نئيشاً أن يكونَ أطاعني ... وقدْ حدثتْ بعدَ الأمور أُمور (5)
فنصب "نئيشاً" على الظرف، أي: تمنى مدة مديدة؛ لأن النئيش: التأخير.
ومن قال: "التناوُشُ": فإنه يكون على تليين الهمزة وإبدالها واواً.
ويجوز أن يكون الأصل: "التناوش" بالواو، من قوله:
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/460)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/469).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/298)، والحجة لابن زنجلة (ص:590-591)، والكشف (2/208)، والنشر (2/351)، والإتحاف (ص:360)، والسبعة (ص:530).
(4) ... كشف المشكلات (2/241).
(5) ... البيت لنهشل بن حرّي. وهو في: اللسان (مادة: نأش)، والبحر (7/246)، والدر المصون (5/455)، والطبري (22/109)، وروح المعاني (22/158)، ومعاني الفراء (2/365).(1/338)
فهي تنوشُ الحوضَ نَوْشاً منْ علا ... ......................... (1)
فتكون الهمزة مثلها في " [أجوه] (2) " و "أقتت".
وقال غيره: التناوش: التناول، تفاعلَ من النوْش الذي هو التناول، ومن همز فَلأنّ واو "التناوُش" مضمومة، وكل واو ضمها لازمة جاز إبدال الهمزة منها، نحو: أجوه وأدور.
وقال مكي (3) : من همز جعله مشتقاً من نَأَشَ؛ إذا طَلَبَ. والمعنى: وكيف لهم طلب الإيمان في الآخرة، وهو المكان البعيد.
ويجوز أن يكون من نَاشَ يَنُوشُ؛ إذا تناول، لكن لما انضمت الواو [أبدلوا] (4) منها همزة، فالمعنى: وكيف [يكون] (5) لهم تناول الإيمان.
{ من مكان بعيد } وهو الآخرة. وعليه معنى القراءة الثانية.
{ وقد كفروا به } أي: بالله أو بالبعث، أو بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، { من قبل } يعني: في الدنيا، { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } .
__________
(1) ... صدر بيت لغيلان بن حريث يصف إبلاً وردت حوضاً وتناولت ما فيه تناولاً من فوق، مستغنية عن المبالغة فيه. وعجزه: (نوْشاً به تَقْطَعُ أجْوازَ الفَلا). انظر: الكتاب (3/453)، وشرح المفصل لابن يعيش (4/73)، ومجاز القرآن (2/150)، و اللسان (مادة: نوش، علا)، والبحر (7/246)، والدر المصون (5/454)، والماوردي (4/459)، والقرطبي (14/316)، والطبري (22/110)، وروح المعاني (22/158).
(2) ... في الأصل: أوجوه. وفي الكشف: وجوه و وقتت. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) ... الكشف (2/208).
(4) ... في الأصل: بدلوا. والمثبت من الكشف (2/208).
(5) ... زيادة من الكشف، الموضع السابق.(1/339)
وقال الحسن: يرجمون بالظن فيقولون: لا جنة ولا نار (1) .
وقال مجاهد: هو طعنهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر أو ساحر (2) .
قوله تعالى: { وحِيل بينهم وبين ما يشتهون } أي: حِيلَ بينهم وما يشتهون في الآخرة من الرجعة إلى الدنيا، في قول ابن عباس (3) .
أو من الإيمان، على قول الحسن (4) .
أو ما يشتهون من قبول التوبة منهم، [على قول مقاتل] (5) .
{ كما فُعل بأشياعهم من قبل } بنظرائهم من الكفار الذين لم تقبل منهم توبة وإنابة عند معاينة العذاب من قبل هؤلاء.
فإن قيل: "ولو ترى إذ فزعوا"، "وأخذوا"، "وقالوا"، "وحيل بينهم" جميعها متمحضة للاستقبال على ما ذكر في التفسير، وما تقدم من التقرير، فلم جاءت بصيغة الماضي؟
قلت: لأنها في تحقق وجودها والقطع بكونها حيث أخبر الله الصادق في
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/112)، وابن أبي حاتم (10/3169) كلاهما عن قتادة. وذكره الماوردي (4/460) عن الحسن، وابن الجوزي في زاد المسير (6/470) عن الحسن وقتادة، والسيوطي في الدر (6/715) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) ... أخرجه الطبري (22/112)، ومجاهد (ص:529). وذكره الماوردي (4/460).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/499)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/470).
(4) ... أخرجه الطبري (22/112)، وابن أبي حاتم (10/3169)، وابن أبي شيبة (7/198 ح35304). وذكره السيوطي في الدر (6/715) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... زيادة من الوسيط (3/499). وانظر: تفسير مقاتل (3/70).(1/340)
خبره بأنها كائنة، كالشيء الذي وُجد ومضى.
{ إنهم كانوا في شك مريب } من البعث.
وقال مقاتل (1) : من نبيهم.
"مُريب": مُوقعٌ لهم في الريبة والتهمة.
قال الزجاج (2) : قد أعلمنا الله تعالى أنه يُعذّب على الشك، وقد قال قوم من الضُّلال: إن الشاكّين لا شيء عليهم، وهذا كُفْر ونقض للقرآن؛ لأن الله تعالى قال: { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } [ص:27]. والله تعالى أعلم.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/460) وعزاه لمقاتل. وفي تفسير مقاتل: (3/70): "إنهم كانوا في شك" من العذاب بأنه غير نازل بهم في الدنيا. ولم يذكر المعنى الذي ذكره المصنف. والله أعلم.
(2) ... معاني الزجاج (4/259).(1/341)
سورة فاطر
ijk
وتسمى سورة الملائكة، وهي ست وأربعون آية في العدد المدني، وخمس في الكوفي (1) ، وهي مكية بإجماعهم.
ك‰ôJptّ:$# لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اتب
قال الله تعالى: { الحمد لله فاطر السموات والأرض } أي: مبتدئها ومبتدعها على غير مثال سابق.
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: ابتدأتها (2) .
__________
(1) ... انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:210).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3170)، والبيهقي في الشعب (2/258 ح1682). وذكره السيوطي في الدر (7/3) وعزاه لأبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.(1/267)
{ جاعل الملائكة رسلاً } رسلاً يُرسلهم إلى النبيين وإلى ما شاء من الأمور.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري من رواية الحلبي والقزاز، عن عبد الوارث عن أبي عمرو: "جاعلٌ" بالرفع والتنوين، "الملائكةَ" بالنصب (1) .
{ أولي أجنحة } : أصحاب أجنحة.
قال الزمخشري (2) : و"أولوا": اسم جمع لـ"ذو"، كما أن "أولاء" اسم جمع لـ"ذا"، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة.
يريد: أن الخلفة وهي الحامل من النوق واحد، والمخاض: اسم جمع للخلفة، وهي الحوامل.
{ مثنى وثلاث ورباع } صفات للأجنحة. وقد ذكر في سورة النساء (3) .
قال قتادة (4) : بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة أجنحة، وبعضهم له أربعة أجنحة (5) .
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/472-473)، وأبو حيان في البحر (7/284).
(2) ... الكشاف (3/604).
(3) ... عند الآية رقم: 3.
(4) ... في الأصل زيادة قوله: بن يزيد, وهو وهم.
(5) ... أخرجه الطبري (22/114)، وابن أبي حاتم (10/3170). وذكره السيوطي في الدر (7/4) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/268)
{ يزيد في الخلق ما يشاء } أي: في خلق الأجنحة وغيرها ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل: الجناحان؛ لأنهما بمنزلة اليدين.
قال ابن عباس: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح (1) . وهذا المعنى قول عامة المفسرين واختيار الفراء (2) والزجاج.
وقال الزهري وابن جريج: هو الصوت الحسن (3) .
وقال قتادة: الملاحة في العينين (4) .
وقيل: تجعد الشعر وحسنه (5) .
وقيل: الخط الحسن (6) .
والصحيح: أن الآية مطلقة تشمل كل زيادة في الخلق: من صباحة في الوجه، وملاحة في العين، وفصاحة في اللسان، وسماحة في النفس،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/500).
(2) ... معاني الفراء (2/366).
(3) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (10/231)، والشعب (1/135 ح115)، وابن أبي حاتم (10/3170) كلهم عن الزهري. وذكره الماوردي (4/462)، والواحدي في الوسيط (3/500)، والسيوطي في الدر (7/4) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري.
(4) ... أخرجه البيهقي في الشعب (1/135 ح116). وذكره الواحدي في الوسيط (3/500)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/473)، والسيوطي في الدر (7/4) وعزاه للبيهقي.
(5) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/462) حكاية عن النقاش.
(6) ... ذكره القرطبي (14/320).(1/269)
وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، إلى غير ذلك من أنواع الزيادة مما لا يعلمه إلا الله تعالى.
$¨B يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ(1/270)
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ادب
قوله تعالى: { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } أي: ما يطلق الله تعالى من نعمة مطر أو رزق أو صحة أو [أمن] (1) أو غير ذلك، أي: لما يمسكه.
وقرئ شاذاً: "فلا مرسل لها" (2) ، رجوعاً إلى الرحمة من بعده من النعم التي لا يحاط بعددها.
__________
(1) ... في الأصل: من. والتصويب من الكشاف (3/606).
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/286).(1/271)
{ فلا ممسك لها وما يمسك } من ذلك { فلا مرسل له [من بعده] (1) } أي: من بعد إمساكه؛ كقوله تعالى: { فمن يهديه من بعد الله } [الجاثية:23] أي: من بعد هدايته (2) ، { وهو العزيز } القادر على الفتح والإمساك، { الحكيم } في فتحه وإمساكه على من يريد.
قوله تعالى: { اذكروا نعمة الله عليكم } أي: اشكروها بمعرفة حقها وطاعة موليها.
والظاهر: أنه خطابٌ لجميع الناس لانغمارهم في نِعَم الله تعالى.
وقال ابن عباس وغيره: يريد: يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم حيث أسكنكم حرمه وأمنكم، [ومنعكم] (3) من الغارات والناس يتخطفون من حولكم (4) .
{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } وقرأ حمزة والكسائي: "غيرِ الله" بالجر (5) .
وقرئ شاذاً: "غيرَ الله" بالنصب (6) .
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (3/606).
... قال أبو حيان في البحر (7/286): وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية، جرى فيه على طريقة الاعتزال.
(3) ... في الأصل: ومعنكم. والتصويب من الكشاف (3/607).
(4) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/607).
(5) ... الحجة للفارسي (3/300)، والحجة لابن زنجلة (ص:592)، والكشف (2/210)، والنشر (2/351)، والإتحاف (ص:361)، والسبعة (ص:534).
(6) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/287)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/459).(1/272)
فالرفع والجر على الصفة لفظاً ومحلاً، والنصب على الاستثناء، وقد سبق تعليل ذلك في الأعراف (1) .
{ يَرْزُقُكُمْ } صفة لـ"خَالِقٍ". والمعنى: هل من خالق غير الله يرزقكم { من السماء } المطر، { و } من { الأرض } النبات، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأنى تُؤْفَكُونَ } .
قال الزجاج (2) : من أين يقع الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم تقرؤون بأن الله خلقكم ورزقكم.
ثم عزى نبيه بقوله: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } ، ثم أوعد ووعد بقوله تعالى: { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمُورُ } .
قال صاحب الكشاف (3) : إن قلت: ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له؟
قلتُ: معناه: وإن يكذبوك فتأسَّ بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع: "فقد كذبت رسل من قبلك" موضع: فتأسَّ، استغناء بالسبب عن المسبب، أعني: بالتكذيب عن التأسي.
tûïد%©!$# كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 59.
(2) ... معاني الزجاج (4/263).
(3) ... الكشاف (3/608).(1/273)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ارب
قوله تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة (1) .
وقال سعيد بن جبير: نزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى (2) .
والمعنى: أفمن زين سوء عمله ففارق النهي ووافق الهوى وأطلق عنان
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/501)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/475).
(2) ... مثل السابق.(1/274)
نفسه في ميادين شهواتها، حتى رأى القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال أبو نواس لأبي العتاهية حين وعظه وزجره عما كان مساكناً له من اللذات التي استهوته وسلبته لباس التقوى:
أتُراني يا عَتَاهِي ... تاركاً تلكَ الملاهِي
أتراني مُفْسِداً بالنُّسْك ... عندَ القومِ جاهِي (1)
كمن لم يزين، أو كمن هداه الله لقوله.
قال الله تعالى: { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } .
وقرأتُ لأبي جعفر: "فلا تُذْهِبْ" بضم التاء وكسر الهاء، و"نَفْسَكَ" بالنصب (2) .
قال الزمخشري (3) : "حسرات": مفعول له، معناه: فلا تهلك نفسك للحسرات.
و"عليهم" صلة "تَذْهَب"، كما تقول: هَلَكَ عليه حُبّاً، وماتَ عليه حُزْناً. [أو هو] (4) بيان للمتحسّر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بـ"حسرات"، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته.
__________
(1) ... البيتان في: الأغاني (4/106)، وتاريخ دمشق (13/442).
(2) ... النشر (2/351)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:361).
(3) ... الكشاف (3/609-610).
(4) ... في الأصل: وهو. والتصويب من الكشاف (3/609).(1/275)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ(1/276)
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ اتتب
فإن قلت: ما يريد بقوله تعالى: { والله الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } ، لم جاء "فتثير" على المضارعة دون ما قبله وبعده؟
قلتُ: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح [السحاب] (1) ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع [تمييز] (2) وخصوصية، بحال تستغرب، أو تهمّ المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبّط شراً (3) :
__________
(1) ... في الأصل: والسحاب. والتصويب من الكشاف (3/610).
(2) ... في الأصل: تميز. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... هو من فحول الشعراء في الجاهلية وفرسانها المشهورين، كنيته أبو زهير، وبتلقيبه بتأبّط شراً أقوال؛ المشهور منها: أنه تأبّط سيفاً وخرج، فقيل لأمه: أين هو؟ فقالت: تأبّط شراً وخرج (بلوغ الأرب 2/345).(1/277)
بأنّي قد لقيتُ الغولَ تَهْوي ... بشُهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحَان (1)
فأضْربها بلا دَهَشٍ فخَرَّت ... صريعاً لليدينِ وللجِرَان (2)
قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدةً للتعجب من جراءته على كل هول، وثباته عند كل شدة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها؛ لما [كانا] (3) من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فَسُقْنَا، وأحْيَيْنا؛ [معدولاً] (4) بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه.
والكاف في قوله تعالى: { كذلك } في محل الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات.
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول اللهلِلَّهِ كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بوادي قومك مَحلاً ثم مررت به خضراً؟ قلت: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى، أو قال: { كذلك النشور } " (5) .
__________
(1) ... الصحصحان: المكان المستوي (اللسان، مادة: صحح).
(2) ... البيتان لثابت بن جابر الفهمي، الملقب بتأبط شراً، من أبيات قالها يزعم ضربه الغول، انظر: بلوغ الأرب (2/342)، والدر المصون (5/460)، والبحر (7/289).
(3) ... في الأصل: كنا. والتصويب من الكشاف (3/610).
(4) ... في الأصل: معدلاً. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه أحمد (4/11 ح16237).(1/278)
قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فلله العِزَّةُ جَمِيعاً } قال المفسرون: كان المشركون يعتزون بالأصنام، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً } [مريم:81]، وكان المنافقون يتعززون بالمشركين، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعاً } [النساء:139]، فبيَّن الله تعالى أن لا عِزّة إلا له جلَّت عظمته ولأوليائه، فقال تعالى: { ولله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون:8].
ومعنى الآية: من كان يبتغي العزة فليطلبها عند الله، فوضع قوله: "فلله العزة" موضعه، استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أراد عز الدنيا [فليطع] (1) العزيز " (2) .
ثم إن الله تعالى أعلم عباده أن الذي يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح، فقال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
وقرأ ابن مسعود وأبو عبدالرحمن السلمي والنخعي: "الكلامُ الطيبُ"،
__________
(1) ... في الأصل: فليطلع. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (6/60، 8/171). وذكره الواحدي في الوسيط (3/502)، والديلمي في الفردوس (5/253)، والسيوطي في الدر (2/717) وعزاه للحاكم في التاريخ والديلمي وابن عساكر عن أنس.(1/279)
وبها قرأتُ للشيزري عن الكسائي (1) .
والكلم الطيّب: التوحيد والثناء على الله تعالى.
قال علي ابن المديني: "الكلم الطيب": لا إله إلا الله، "والعمل الصالح": أداء الفرائض واجتناب المحارم (2) .
وفي هاء "يرفعه" ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الكلم الطيب، والعمل الصالح هو الرافع. قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير (3) .
المعنى: أن هذه الكلمة الطيبة التي هي "لا إله إلا الله" لا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المتقبلة، كما قال تعالى: { إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين } [المطففين:18] إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها.
وكان الحسن يقول: يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قُبِلَ، وإن خالفه رُدَّ (4) .
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (6/477-478).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/478).
(3) ... أخرجه الطبري (22/121)، ومجاهد (ص:531). وذكره السيوطي في الدر (7/9) وعزاه لآدم بن أبي إياس والبغوي والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد. ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير وعزاه للفريابي. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/30 ح91). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/478)، والسيوطي في الدر (7/9) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/280)
القول الثاني: أنها تعود إلى العمل الصالح، والكلام الطيب هو الرافع؛ لأنه لا يتقبل عملٌ إلا من مُوحّد، كما قال تعالى: { إِنما يتقبل الله من المتَّقين } [المائدة:27] يريد: الذين يتَّقُون الشرك. وهذا عكس القول الأول.
القول الثالث: أنها تعود إلى الله تعالى، على معنى: يرفعه الله تعالى لصاحبه. قاله قتادة والسدي (1) .
ويؤيد القولين الثاني والثالث قراءة من قرأ: "والعملَ الصالِحَ" بالنصب (2) .
{ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَات } قال الزمخشري (3) : إن قلت: "مكر" فعل غير مُتعدّ، لا يقال: مكر فلان عمله، فبم نصب "السيئات"؟
قلتُ: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله تعالى: { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } [فاطر:43] أصله: والذين مكروا المَكْرات السيئات، أو أصْناف المَكْرات السيئات.
يريد الزمخشري بقوله: "أو لما في حكمه": [ما] (4) أضيف إلى المصدر.
__________
(1) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/30) عن قتادة. وذكره الماوردي (4/464)، والواحدي في الوسيط (3/502)، والسيوطي في الدر (7/10) وعزاه لابن المبارك عن قتادة.
(2) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر (7/290)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/461).
(3) ... الكشاف (3/612).
(4) ... زيادة على الأصل.(1/281)
قال أبو العالية: هم الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة (1) .
وقال قتادة: هم الذين يعملون السيئات (2) .
{ وَمَكْرُ أُولَئِكَ } الذين مكروا بك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، { هُوَ يَبُورُ } أي: يفسد ويهلك.
وقيل: يكسد ويفسد دون مكر الله حين زين لهم أسباباً استدرجهم بها، فجمع لهم المكرات الثلاث اللاتي راموا كيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، فأخرجهم من مكة، وقتلهم يوم بدر، وأثبت جيف القتلى منهم في القَلِيب، والأسرى في وثاق. اللهم أعذنا من وبال مَكْرِك، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك.
قوله تعالى: { ثم جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي: أصنافاً.
وقيل: ذكراناً وإناثاً.
وقال قتادة: زوّج بعضكم بعضاً (3) .
قوله تعالى: { إِلا بعِلْمِهِ } في محل الحال، تقديره: إلا معلومةً له (4) .
قوله تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي: ما يعمر من أحد، وسماه معمّراً باعتبار ما يؤول إليه.
{ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } قال الفراء (5) : يريد: آخر غير الأول، فكُنّي
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/502)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/479).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3174). وذكره السيوطي في الدر (7/10) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (22/122). وذكره الماوردي (4/465).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/462).
(5) ... معاني الفراء (2/368).(1/282)
عنه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
قال الزمخشري (1) : هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بإفهام السامعين، واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول [والقصر] (2) في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق.
قال (3) : [وفيه تأويل] (4) آخر: وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا ينقص إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عَمَّر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إن الصدقة والصلة يعمران الديار وتزيدان في الأعمار" (5) .
وقيل: المعنى: وما يعمر من معمر قدّر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه في كتاب.
قال سعيد بن جبير: مكتوب في أمّ الكتاب: عُمْر فلان كذا وكذا، ثم يكتب
__________
(1) ... الكشاف (3/613).
(2) ... في الأصل: والعرض. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... أي: الزمخشري في الكشاف (3/613).
(4) ... في الأصل: وفي تأيل. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... أخرج نحوه أحمد في المسند (6/159 ح25298) من حديث عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.(1/283)
في أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهب ثلاثة، حتى يأتي على آخر عمره (1) .
{ إِنَّ ذلِكَ } إشارة إلى كتابة الآجال. وقيل: التعمير والنقصان { عَلَى الله } تعالى { يَسِيرٌ } هَيّن.
وقال الكلبي: المعنى: أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير (2) .
$tBur يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ش÷ح !$y™ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
__________
(1) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (3/918-919 ح452). وذكره السيوطي في الدر (7/11-12) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة.
(2) ... ذكره الماوردي (4/466).(1/284)
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(1/285)
اتحب
قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ } يعني: العذب والملح.
ثم ذكرهما منبهاً على المعنى الذي بسببه وقع التفاوت بينهما، فقال تعالى: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ... الآية } وقد سبق تفسيرها وتفسير ما بعدها إلى قوله تعالى: { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } وهذا على سبيل الفرض والتقدير.
وحاصل ذلك: ما ذكره المفسرون فيه أن المعنى: ولو سمعوا لم يكن عندهم إجابة. ولم يذكر أحد منهم مانع الإجابة ما هو، غير أن صاحب الكشاف (1) قال: { مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } لأنهم لا يدعون ما تدعون من الإلهية، ويتبرؤون منها.
ويحتمل عندي أن يكون المعنى: ولو سمعوا بأن يخلق الله لها سمعاً ما استجابوا لكم؛ لتوقف حصول الإجابة على أسباب؛ منها: القدرة على النفع والدفع. أو يكون التقدير: ولو سمعوا دعاءكم ما أجابوكم، لانتفاء قدرتهم على الكلام، إذ لا يلزم من وجود [السمع] (2) وجود النطق، ألا تراه يقول: { وَيَوْمَ القيَامَةِ يَكْفُرُونَ بشِرْكِكُمْ } أي: ويوم القيامة إذ أفهمهم وأنطقهم وركَّب فيهم الميز { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } ، أي: بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم، وهو قولهم: { ما كُنتم إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس:28].
__________
(1) ... الكشاف (3/615).
(2) ... زيادة على الأصل.(1/286)
{ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبيرٍ } أي: لا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به. يشير إلى نفسه جلَّت عظمته، وأن ما أخبرهم به من حال الأصنام هو الحق.
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا(1/287)
الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ اترب
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى الله } أي: المحتاجون إليه في رزقه ومغفرته ورحمته.
{ والله هو الغني } عن عبادتكم { الحَمِيدُ } عنكم بإحسانه إليكم.
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } أي: نفس مثقلة بالذنوب إلى حملها الذي حملته { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذا قُرْبَى } أي: ولو كان المدعو ذا قرابة.
قال ابن عباس: يقول الأب والأم: يا بني احمل عني، فيقول: حسبي ما عليّ (1) .
قال أهل المعاني: لما غضب الله عليهم في قوله تعالى: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها فقال: { إِنما تُنْذِرُ } ، كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل قوله تعالى: { إِنما تُنْذِرُ } (2) .
$tBur يَسْتَوِي الْأَعْمَى
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/503).
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/617).(1/288)
وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ اثحب
قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالبَصِيرُ } يعني: الكافر والمؤمن.(1/289)
{ ولا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } أي: ولا [الضلالات] (1) ولا الهدى.
{ ولا الظل ولا الحَرُور } أي: ولا الحق ولا الباطل.
وقال مجاهد والكلبي: الظل: الجنة، والحرور: النار (2) .
وقال الفراء (3) : الحرور بمنزلة السموم، وهي الرياح الحارة، والحرور تكون بالنهار وبالليل، والسموم لا تكون إلا بالنهار.
وقال عطاء: يعني: [الظل بالليل] (4) ، والسموم بالنهار (5) .
{ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ } يعني: المؤمنين والكافرين.
قال قتادة: هذه أمثال ضربها الله تعالى للكافرين والمؤمنين، يقول: لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن (6) .
ودخول "لا" المقارنة لواو العطف في سياق النفي، يفيد توكيد معنى النفي، فلذلك قال تعالى: { ولا الظلمات ولا النُّور * ولا الظل ولا الحَرُور * وما يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ } .
__________
(1) ... في الأصل: الضلات.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504) عن الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (6/483) عن مجاهد.
(3) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وهو في: الماوردي (4/469)، وزاد المسير (6/483) عنه.
(4) ... في الأصل: ظل الليل. والمثبت من الوسيط (3/504).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/483).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3179). وذكره السيوطي في الدر (7/17) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/290)
{ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } يريد: أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فهو يضلهم ويهديهم بعلمه فيهم، وأما أنت يا محمد فيخفى عليك أمرهم، ولذلك تحرص على هداية من أضلَّه الله، ومثلك في ذلك مثل من يريد أن يسمع المقبورين، فذلك قوله تعالى: { وَمَا أَنتَ بمُسْمِعٍ مَنْ في القُبُورِ } .
فإن قيل: هلاَّ قيل: "وما أنت بمسمع الموتى"؟
قلتُ: هذا أدخل في المقصود وأوغل في نفي الإسماع؛ لأنه قد انضم إلى كونهم موتى تغييبهم تحت أطباق الثرى، فانتفى الإسماع لانتفاء سببه، وزاده تأكيداً وجود مانعه، بخلاف ميّت موسّد بين أهله، فإنه لقرب العهد بمجاورته والأُنس بمجاورته، يُخيّل إلى مخاطبه أن روح الحياة تتردد فيه مع علمه بوجود منافيه. وهذا المعنى من نفائس الخصائص، ومن الجواهر التي لم يظفر بها قبلي غائص.
قوله تعالى: { إنا أرسلناك بالحق } قوله: "بالحق" حال من أحد الضميرين. يعني: محقاً أو محقين، أو صفة للمصدر، أي: إرسالاً [مصحوباً] (1) بالحق (2) ، { بشيراً } بالجنة، { ونذيراً } بالنار، { وإن من أمة } أي: وما من أهل عصر { إلا خلا فيها } أي: سَلَفَ فيها { نذير } .
وهذا يدل على أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة، فإنه لا يذهب عصرٌ إلا وفيه رسول أو نبي أو رباني يقوم بأعباء النذارة والبشارة، نيابة
__________
(1) ... في الأصل: محصوباً. والتصويب من الكشاف (3/617).
(2) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/617).(1/291)
عن الرسول المبعوث بهما.
فإن قيل: هلاَّ قال: "وإن من أمة إلا خلا فيها بشير ونذير" ليكون عجز الآية مطابقاً لصدرها؟
قلتُ: البشارة والنذارة متلازمان، فذكر أحدهما ذكر لهما.
bخ)ur يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ(1/292)
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ اثرب
وما بعده مُفسر فيما مضى إلى قوله تعالى: { مختلفاً ألوانها } أي: أجناسها؛ من الرمان والتفاح، وغيرهما مما لا يحصر، أو هيئاتها من الحُمْرة والصفْرة والخضْرة ونحوها.
قوله: { ومن الجبال } أي: ومما خلقنا من الجبال { جدد بيض وحمر } قال ابن قتيبة (1) والمبرد: الجُدَد: الخطوط [والطَّرائقُ] (2) تكون في الجبال،
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:361).
(2) ... في الأصل: والطريق. والتصويب من تفسير غريب القرآن، الموضع السابق.(1/293)
فبعضها بِيضٌ وبعضها حُمرٌ وبعضها غرابيب سود.
قال الفراء (1) : هي في الجبال كالعُروق، بيض وسود وحمر، واحدها: جُدَّة.
قال الفراء (2) : "وغرابيب سود" على التقديم والتأخير، تقديره: وسود غرابيب؛ لأنه يقال: أسود غِرْبيب، وقلّ ما جاء: غربيب أسود.
قال الزمخشري (3) : إن قلت: الغربيب تأكيد للأسود، يقال: أسود غربيب، وأسود حُلْكُوك، وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه: الغراب، ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد؛ كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يَقَق، وما أشبه ذلك؟
قلتُ: وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمنِ العائذاتِ الطير ..... ... ..............................
ولم يتمم [الزمخشري] (4) البيت وهو:
والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ تمسحُها ... ... رُكْبانُ مكةَ بين الغَيْلِ والسَّنَدِ (5)
__________
(1) ... معاني الفراء (2/369).
(2) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وهو في: الوسيط (3/504)، وزاد المسير (6/485-486).
(3) ... الكشاف (3/618-619).
(4) ... في الأصل: الزمخشر.
(5) ... البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (ص:35)، وشرح المفصل لابن يعيش (3/11)، والبحر (7/297)، والدر المصون (4/250، 467)، والقرطبي (18/46)، وروح المعاني (13/182، 22/190).(1/294)
وهما موضعان، وتقديره: أقسم بالله المؤمن الطير العائذات.
رجعنا إلى كلام الزمخشري؛ قال (1) :
وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً (2) ، ولا بد من تقدير [حذف] (3) المضاف في قوله: { ومن الجبال جدد } ، بمعنى: ومن الجبال ذو جُدد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال تعالى: { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } .
وقرأ الزهري: "جُدُدٌ بيضٌ" بالضم (4) ، جمع جَديدَة، وهي الجدّة. يقال: جديدةٌ وجُدُدٌ وجَدائدٌ، كسفينةٌ وسُفُنٌ وسفائن.
وقد فسر بها قول أبي ذؤيب:
........................ ... ... جَوْنُ السَّراةِ له جدائدُ أربع (5)
__________
(1) ... الكشاف (3/619).
(2) ... قال أبو حيان في البحر (7/297): وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد. ومن النحويين من منعه، وهو اختيار ابن مالك.
(3) ... زيادة من الكشاف (3/619).
(4) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر (7/296)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/466).
(5) ... عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي. وصدره: (والدهرُ لا يبقى على حدثانه). انظر: ديوان الهذليين (1/4)، والمفضليات (ص:858)، والأغاني (6/288)، والبحر (7/296)، والدر المصون (5/466).(1/295)
هذا آخر كلام الزمخشري.
وقال أبو الفتح ابن جني (1) : قراءة الزهري "جَدَدٌ" بفتحتين، ولم يثبته أبو حاتم ولا قطرب. وعلى أن له معنى وهو الطريق الواضح [المسفر] (2) .
وقرئ: "والدواب" بالتخفيف (3) ، ونظيره التخفيف في قراءة من قرأ: { ولا الضأَلين } [الفاتحة:7] وعلتهما: الفرار من التقاء الساكنين.
قوله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } قال ابن عباس: يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني (4) .
وقال ابن عباس: من خشي الله تعالى فهو عالم (5) .
وقال مجاهد: العالم من خاف الله تعالى (6) .
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم (7) .
وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (8) .
ويقال: إن فاتحة الزبور: رأس الحكمة خشية الله (9) .
__________
(1) ... المحتسب (2/200).
(2) ... في الأصل: المسفور. والتصويب من المحتسب، الموضع السابق.
(3) ... وهي قراءة الزهري أيضاً. انظر هذه القراءة في: البحر (7/297)، والدر المصون (5/467).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/486).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/486).
(7) ... ذكره الماوردي (4/471)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/486).
(8) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/504)، والسيوطي في الدر (7/20) وعزاه لعبد بن حميد.
(9) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/471).(1/296)
وقرأ أبو حنيفة: "إنما يخشى اللهُ" بالرفع "العلماءَ" بالنصب، على معنى: إنما يعظم الله العلماء.
وتروى هذه القراءة عن عمر بن عبدالعزيز (1) .
¨bخ) الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ اجةب
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر المحيط (7/298)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/468).
... قال أبو حيان: ولعل ذلك لا يصح عنهما، وقد رأينا كتباً في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه (الكامل).(1/297)
قوله تعالى: { إن الذين يتلون كتاب الله } أي: يكثرون تلاوته.
وقيل: يتبعون ما فيه فيعملون به.
وقال السدي: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
{ ليوفيهم أجورهم } وهو الثواب الذي قرره لهم في مقابلة تلاوة كتابه.
{ ويزيدهم من فضله } على النصيب المقدر لهم ... (2) .
"ليوفيهم" متعلق بـ"لن تبور"، أي: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجورهم.
وقيل: "يرجون" حال من الضمير في "وأنفقوا" (3) ، أي: فعلوا جميع ذلك راجين ليوفيهم، وخبر "إنَّ" على القول الأول "يرجون تجارة"، وعلى القول الثاني قوله تعالى: { إنه غفور شكور } .
قال الضحاك في قوله تعالى: { ويزيدهم من فضله } : يفسح لهم في قبورهم (4) .
وقال أبو وائل: يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا (5) .
وكان مطرف يقول في هذه الآية: [هذه آية] (6) [القراء] (7) ، يشير بذلك
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/621)، وأبو حيان في البحر (7/298).
(2) ... كلمة أو كلمتين غير ظاهرة في الأصل.
(3) ... انظر: الدر المصون (5/468).
(4) ... ذكره الماوردي (4/472).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... زيادة من المصادر التالية.
(7) ... أخرجه الطبري (22/133). وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/23). وما بين المعكوفين في الأصل: والقراء. والتصويب من الطبري، والدر المنثور.(1/298)
إلى دلالتها على فضلهم وتنويهها بذكرهم.
قرأتُ على الصاحب أبي الكرم محمد بن علي بن مهاجر رحمه الله بمدينة إرْبل (1) ، ثم قرأت عليه ثانياً وعلى ابن عمه أبي الحزم مهاجر بن أحمد بن مهاجر بالموصل، أخبركم أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي الأصبهاني فأقرّا به، أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن محمد الصباغ (2) ، أخبرنا أبو الفتح علي بن محمد بن عبدالصمد، حدثنا محمد بن إبراهيم المقرئ، حدثنا إبراهيم بن جعفر بن خليد المقرئ بمكة، حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن قراد (3) ، حدثنا مالك، عن الزهري، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله خاصة من الناس، قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته " (4) .
ü"د%©!$#ur أَوْحَيْنَا
__________
(1) ... إربل: مدينة كبيرة تعد من أعمال الموصل، وبينهما مسيرة يومين (معجم البلدان 1/138).
(2) ... عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن الهيثم الأصبهاني، أبو طاهر الصباغ، المعروف بالدشتج، من أهل أصبهان. كان شيخاً صالحاً، ولد سنة نيف وعشرين وأربعمائة، وتوفي يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وخمسمائة بأصبهان (التحبير في المعجم الكبير ص:497).
(3) ... محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، ويعرف أبوه بقراد، قال الدارقطني وغيره: كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: له عن ثقات الناس بواطيل (لسان الميزان 5/255، والكامل لابن عدي 6/290).
(4) ... أخرجه ابن ماجه (1/78 ح215)، وأحمد (3/127 ح12301).(1/299)
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ اجثب
قوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } اختلف العلماء في المراد بالكتاب على قولين:
أحدهما: أنه اسم جنس. فعلى هذا؛ فالمراد بالمصطفين قولان:(1/300)
أحدهما: أنهم الأنبياء وأتباعهم. قاله الحسن (1) .
فيكون التقدير: والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق، ثم كنا أورثنا الكتاب الأنبياء قبلك؛ كقول الشاعر:
قُلْ لمنْ سَادَ ثم سَادَ أبوه ... ... ....................... (2)
فعلى هذا؛ يكون المعنى: فمن أممهم ظالم لنفسه... الآية.
الثاني: أنهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، على معنى: أورثناهم الإيمان بالكتب كلها.
قال ابن عباس: أورث الله تعالى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كل كتاب أنزله الله تعالى (3) .
فعلى هذا؛ تقدير الآية: أنزلنا الكتب المتقدمة ثم أورثنا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بها. ويؤيد هذا القول: أن حقيقة الإرث: [انتقال الشيء] (4) من قوم إلى قوم.
القول الثاني: أن المراد بالكتاب: القرآن.
والمعنى: ثم نقلنا العلم والحكم إلى الذين اصطفينا من عبادنا، وهم أمة
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/487).
(2) صدر بيت لأبي نواس، وعجزه: (ثم قَدْ سَادَ قَبْلَ ذلك جَدُّه)، وهو في مدح العباس بن عبيد الله. انظر البيت في: تفسير ابن كثير (1/68).
(3) ... أخرجه الطبري (22/133-134)، وابن أبي حاتم (10/3181). وذكره السيوطي في الدر (7/23) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث.
(4) ... في الأصل: الانتقال. والتصويب والزيادة من الماوردي (4/472)، وزاد المسير (6/488).(1/301)
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول جمهور المفسرين (1) .
ثم قسمهم فقال تعالى: { فمنهم ظالم لنفسه } قال الضحاك: هم المنافقون (2) .
وقال السدي: أصحاب المشأمة (3) .
وقال مجاهد: الجاحد (4) .
فيكون المراد بالاصطفاء على هذه الأقوال: تكريمهم وتشريفهم بإنزال الكتاب عليهم، كما قال تعالى: { وإنه لذكر لك ولقومك } [الزخرف:44] وإن أبوا ذلك ولم يقبلوه.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: "فمنهم ظالم لنفسه": وهو الذي مات على كبيرة لم يتب منها (5) .
وقال الحسن: "الظالم لنفسه": الذي ترجَّحَتْ سيئاته على حسناته، و"المقتصد": الذي استوت حسناته وسيئاته، و"السابق": من ترجحت حسناته على سيئاته (6) . وهذا القول أشهر الأقوال في التفسير، وأشبه
__________
(1) ... ذكره الطبري (22/134)، والماوردي (4/473)، والسيوطي في الدر (7/23).
(2) ... ذكره الماوردي (4/473) بلا نسبة.
(3) ... أخرجه الطبري (22/135)، وابن أبي حاتم (10/3182)، ومجاهد (ص:532) كلهم عن مجاهد. وذكره الماوردي (4/473) عن السدي.
(4) ... ذكره الماوردي (4/473).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/505)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/489).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/505)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/489-490).(1/302)
بالأحاديث والآثار.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له (1) . ورواه أيضاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: سابقنا أهل جهادنا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا (3) .
وقال أسامة بن زيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلهم من هذه الأمة" (4) .
وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: كلهم من أهل الجنة، السابق مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد له بالجنة والرزق، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق [به] (5) ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا (6) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/473)، والسيوطي في الدر (7/25) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث.
(2) ... أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/443). وذكره السيوطي في الدر (7/25) وعزاه للعقيلي وابن لال وابن مردويه والبيهقي.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3182). وذكره السيوطي في الدر (7/25) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) ... أخرجه الطبراني في الكبير (1/167 ح410). وذكره السيوطي في الدر (7/24) وعزاه للطبراني والبيهقي في البعث.
(5) ... زيادة من الماوردي (4/474). وانظر: المصادر التالية.
(6) ... أخرجه الطيالسي (1/209 ح1489)، والحاكم (2/462 ح3593)، والطبراني في الأوسط (6/167 ح6094). وذكره الماوردي (4/474)، والسيوطي في الدر (7/24) وعزاه للطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه.(1/303)
فَرَضِيَ الله عن أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصّدّيق، كانت تعلم بشهادة الله تعالى لها في قوله تعالى: { أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } [النور:26] أنها من أهل الجنة، ولكن المؤمن يهضم نفسه، ونظيره قول أبيها: " وُلِّيتُكم ولستُ بخيركم ".
وقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة " (1) .
فإن قيل: لم أَخَّرَ السابق ومن حَقِّهِ أن يكون مُقدَّماً على ذكر الظالم؟
قلت: قد ذكر الثعلبي (2) عنه أجوبة:
أحدها: ليكون أقرب إلى الجنات والثواب قبله، وقدَّم الظالم لئلا ييأس من الرحمة، وأَخَّرَ السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر الصادق عليه السلام: بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف كرمه، ثم ثنّى عنه بالمقتصد؛ لأنه بين الخوف والرجاء، ثم خَتَمَ بالسابق لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص (3) .
وقال الزمخشري (4) : قدَّم الظالم للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل.
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/363 ح3225).
(2) ... تفسير الثعلبي (8/107).
(3) ... ذكره القرطبي (14/349-350)، والبغوي (3/572).
(4) ... الكشاف (3/623).(1/304)
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى توريث الكتاب. وقيل: إلى السبق بالخيرات، { هو الفضل الكبير } .
àM"¨Zy_ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ اجخب(1/305)
قال الزمخشري (1) : إن قلت: فكيف جعلت "جناتُ عدن" بدلاً من "الفضل الكبير"، الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟
قلتُ: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر.
وقرئ: "جنة عدن" على الإفراد (2) ، كأنها جنة مخصوصة بالسابقين. و"جناتَ عدنٍ" بالنصب (3) على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها. هذا آخر كلام الزمخشري.
وقال مقاتل (4) : يعني: الأصناف الثلاثة.
وقرأ أبو عمرو: "يُدْخَلُونَها" بضم الياء وفتح الخاء؛ لأن الله تعالى هو الذي يُدخلهم. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء (5) ؛ لأنهم إذا أدخلهم الله دخلوها.
والآية مفسرة في سورة الحج (6) .
__________
(1) ... الكشاف (3/622-623).
(2) ... وهي قراءة زر بن حبيش والزهري. انظر هذه القراءة في: البحر (7/299)، والدر المصون (5/469).
(3) ... وهي قراءة الجحدري. انظر هذه القراءة في المصدرين السابقين.
(4) ... تفسير مقاتل (3/78).
(5) ... الحجة للفارسي (3/301)، والحجة لابن زنجلة (ص:592-593)، والكشف (2/211)، والنشر (2/352)، والإتحاف (ص:362).
(6) ... عند الآية رقم: 23.(1/306)
ولما استقرت بهم الدار وتخلصوا من تلك الشدائد قالوا: { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } [قال] (1) ابن عباس: هو خوف النار (2) .
وقال قتادة: هموم الدنيا وتعبها (3) .
وقال سعيد بن جبير: هَمّ الخبز في الدنيا (4) .
وقال الزجاج (5) : أذهب الله تعالى عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد.
{ إن ربنا لغفور شكور } غفر سيئاتهم وشكر حسناتهم.
{ الذي أَحَلَّنَا دار المقامة من فضله } قال مقاتل (6) : أنزلنا دار الخلود فأقاموا فيها أبداً لا يحزنون ولا يتحولون عنها أبداً.
{ لا يمسنا فيها نصب } قال قتادة: وَجَع (7) .
وقال غيره: تَعَب.
__________
(1) ... في الأصل: وقال.
(2) ... أخرجه الطبري (22/138)، وابن أبي حاتم (10/3183)، والحاكم (2/463 ح3595) كلهم بلفظ: حزن النار. وذكره الماوردي (4/475)، والسيوطي في الدر (7/28) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(3) ... أخرجه الطبري (22/139) بمعناه. وذكره الماوردي (4/475).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/492) ثم قال: ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإنما حزنوا على ذنوبهم وما يوجبه الخوف.
(5) ... معاني الزجاج (4/270).
(6) ... تفسير مقاتل (3/78).
(7) ... أخرجه الطبري (22/140). وذكره السيوطي في الدر (7/30) وعزاه لابن جرير.(1/307)
{ ولا يمسنا فيها لغوب } وهو الإعياء من التعب.
قال الزمخشري (1) : النَّصَب: نفس المشقة والكلفة. والُّلغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة.
tûïد%©!$#ur كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
__________
(1) ... الكشاف (3/624).(1/308)
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ اجذب
قوله تعالى: { فيموتوا } جواب النفي، ونصبه بإضمار "أَنْ".
وقرىء: "فيموتون" عطف على "يُقْضَى" (1) ، وإدخالاً له في حكم النفي.
قوله تعالى: { وهم يصطرخون فيها } يَفتعلون من الصراخ، وهو الاستغاثة بجهدٍ وشدة.
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال عطاء وقتادة ووهب: يريد: ثماني عشرة سنة (2) .
وقال الحسن: أربعين سنة (3) .
__________
(1) ... وهي قراءة الحسن وعيسى. انظر هذه القراءة في البحر (7/301)، والدر المصون (5/470).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3185). وذكره الماوردي (4/476) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (3/506)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/494)، والسيوطي في الدر (7/31-32) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3185). وذكره السيوطي في الدر (7/31) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير؛ قال: لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عن كماله في حال الأربعين (انظر: تفسير الطبري 22/142).(1/309)
أنبأنا أبو اليمن زيد بن حسن الكندي وغيره قالوا: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي، أخبرنا أبو محمد بن علي المقرئ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا أحمد بن جعفر المنادي، حدثنا حامد بن محمد (1) ، حدثنا سريج بن يونس (2) ، حدثنا علي بن ثابت، عن عمرو بن شهر، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن شهر، عن عبادة بن الصامت قال: " جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله عز وجل أمر الحافظين فقال لهما: ارفقا بعبدي في حداثته، حتى إذا بلغ الأربعين [فاحفظا] (3) وحققا " (4) .
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن مسروق قال: " إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله " (5) .
وقال عمر بن عبد العزيز: لقد تمت حجة الله على من بلغ أربعين سنة فمات لها (6) .
__________
(1) ... حامد بن محمد بن شعيب بن زهير، أبو العباس البلخي المؤدب، ثقة صدوق، سكن بغداد، ومات يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة تسع وثلاثمائة (تاريخ بغداد 8/169).
(2) ... سريج بن يونس بن إبراهيم، أبو الحارث المروروذي، ثقة، سكن بغداد، ومات في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين ومائتين (تاريخ بغداد 9/219).
(3) ... في الأصل: فاحفضا. والتصويب من الحدائق (3/169)، والدر (7/442).
(4) ... أخرجه ابن الجوزي في الحدائق (3/168-169). وذكره السيوطي في الدر (7/442) وعزاه لابن الجوزي في كتاب الحدائق بسند ضعيف.
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:420).
(6) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/334-335).(1/310)
وقال ابن عباس في رواية مجاهد: ستين سنة، قال: وهو العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم [بن] (2) عبدالله بن عبدالصمد، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبدالله البغداديان قالا: أخبرنا عبدالأول، أخبرنا عبدالرحمن، أخبرنا عبدالله، أخبرنا محمد، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبدالسلام بن مطهر (3) قال: حدثنا [عمر بن علي] (4) ، عن [معن] (5) بن محمد الغفاري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعذر الله إلى من أخر أجله حتى بلغه ستين سنة" (6) . انفرد بإخراجه البخاري.
وقال وهب بن منبه: قرأتُ في بعض الكتب: أن منادياً ينادي من السماء الرابعة كل صباح: يا أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ما قدّمتم وماذا أخّرتم، أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وإذ خلقوا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (22/141).
(2) ... زيادة على الأصل. وانظر ترجمته في: التقييد (1/146)، والسير (22/84).
(3) ... عبد السلام بن مطهر بن حسام الأزدي، أبو ظفر البصري، صدوق، مات سنة أربع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 6/289، والتقريب ص:355).
(4) ... في الأصل: علي بن عمر. وهو خطأ. انظر ترجمته في: التهذيب (7/427)، وتهذيب الكمال (21/470-473).
(5) ... في الأصل: محمد. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: التقريب (ص:542)، وتهذيب الكمال (28/341).
(6) ... أخرجه البخاري (5/2360 ح6056).(1/311)
علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم (1) .
قوله تعالى: { وجاءكم النذير } قال جمهور المفسرين: هو النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . ويؤيده قراءة من قرأ: "جاءتكم النُّذُر".
وقيل: الحمى. وقيل: موت الأهل والأقارب (3) .
وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأمراض والأوجاع كلها بريد ملك الموت ورسل الموت، فإذا جاء الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيها العبد! كم خبر بعد خبر، وكم رسول بعد رسول، وكم بريد بعد بريد، أنا الخبر ليس بعدي خبر، وأنا الرسول ليس بعدي رسول، أجب ربك طائعاً أو مكرهاً، فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال: على من يصرخون؟ وعلى من يبكون؟ فوالله ما ظلمتُ له أجلاً، ولا أكلتُ له رزقاً، بل دعاهُ ربّه، فليبْكِ الباكي على نفسه، فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحداً" (4) .
__________
(1) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/33). وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/157)، وأبو الفرج بن الجوزي في صفة الصفوة (2/293). وذكره السيوطي في الدر (3/552) وعزاه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
(2) ... أخرجه الطبري (22/142)، وابن أبي حاتم (10/3185). وذكره السيوطي في الدر (7/32) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي. ومن طريق آخر عن ابن زيد وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكر هذين القولين: الماوردي في تفسيره (4/476).
(4) ... لم يسنده المصنف، وروي نحوه في الجامع الصغير (2/854) وهو حديث ضعيف.(1/312)
وقال ابن [عمر] (1) وعكرمة وسفيان بن عيينة: النّذير: الشّيب (2) .
المعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم.
أخبرنا عبد العزيز بن منينا، أخبرنا أبو بكر بن عبدالباقي الأنصاري، أخبرنا الخطيب أبو بكر بن ثابت، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد النيسابوري، أخبرنا محمد بن عبدالله بن شاذان الرازي قال: سمعت أبا عبدالله القرشي يقول: كان لي جار شاب وكان أديباً، وكان يهوى غلاماً أديباً، فنظر يوماً إلى طاقات شعر بيض في عارضيه، فوقع له شيء من الحق، فهجر الغلام وقلاه، فلما نظر الغلام إلى هجره كتب إليه:
ما لي جُفيتُ وكنتُ لا أُجْفَى ... ودلائلُ الهجران ما تَخفى
وأراكَ تشربُني وتمزُجُني ... ولقد عهدتُك شاربي صَرْفا
قال: فقلبت الرقعة على ظهرها وكتبت:
التَّصابي مع الشَّمط ... سمتني خطةً شَطَط
لا تلمني على جَفَايَ ... فحسبي بما فرط
أنا رهن بما جنيتُ ... فذرني من الغَلَط
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (6/494).
(2) ... أخرجه البيهقي في سننه (3/370 ح6313) عن ابن عباس، وابن أبي حاتم (10/3185) عن عكرمة. وذكره الطبري (22/142)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/494)، والسيوطي في الدر (7/32) وعزاه لابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عكرمة.(1/313)
قد رأينا أبا الخلائق ... في زلَّةٍ هَبَط (1)
cخ) اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا اجزب
وما بعده مفسر إلى قوله تعالى: { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } الخلائف: جمع خليفة، والخليفة والخليف: المستخْلَف، وهو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر: خليفة الله، فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في كتاب ذم الهوى (ص:269).(1/314)
الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال بعض السلف: إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت (1) .
والمعنى: أنه جعلكم خلفاء في الأرض وسلَّطكم على ما فيها وملّككم مقاليد التصرف لتوحدوه وتعبدوه.
{ فمن كفر } منكم أو غمط هذه النعمة { فعليه كفره } أي: وبال كفره.
فعلى هذا: الخطاب لعموم بني آدم.
وقيل: الخطاب للذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
أي: خلقكم خلائف خلفتم من قبلكم من الأمم، ورأيتم وسمعتم آثار غضبي عليهم حين كفروا بوحدانيتي وعصوا رسلي.
ِ@è% أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/477).(1/315)
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا احتب
قوله تعالى: { أرُوني } بدل من "أرأيتم" (1) ؛ لأن معنى أرأيتم: أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني ما خلقوا من الأرض دوني.
{ أم لهم شرك } أي: شركة { في } خلق { السماوات أم آتيناهم كتاباً } فجاؤكم به من عندي ينطق بأنهم شركائي.
وجمهور المفسرين على أنّ الضمير في "آتيناهم" للمشركين؛ كقوله
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/626). وردّه أبو حيان في البحر (7/302) فقال: لا يصح؛ لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل.(1/316)
تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطاناً } [الروم:35].
قال مقاتل (1) : المعنى: هل أعطينا أهل مكة { فهم على بينة منه } [بأن مع الله عز وجل شريكاً من الملائكة] (2) .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي: "بيناتٍ" على الجمع (3) .
ثم استأنف فقال: { بلْ إنْ يَعِدُ الظالمون بعضهم } وهم الرؤساء { بعضاً } وهم الأتباع { إلا غروراً } وهو قولهم: { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس:18].
قوله تعالى: { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } قال الزمخشري (4) : أي: كراهة أن تَزُولا، أو يكون المعنى: يمنعهما أن تزولا؛ لأن الإمساك منع.
{ ولئن زالتا } وقرئ: "ولو زالتا". و { إن أمسكهما } جواب القسم في "ولئن زالتا" سدّ مسد الجوابين (5) ، و"من" الأولى مزيدة لتأكيد النفي،
__________
(1) ... تفسير مقاتل (3/79).
(2) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (3/301-302)، والحجة لابن زنجلة (ص:594)، والكشف (2/211)، والنشر (2/352)، والإتحاف (ص:362)، والسبعة (ص:535).
(4) ... الكشاف (3/626).
(5) ... قوله: "سَدَّ مَسَدَّ الجوابين"، أي: أنه دلَّ على جواب الشرط المحذوف.
... قال أبو حيان في البحر (7/303): وكلامه إن أُخذ كلامه على ظاهره لم يصح؛ لأنه لو سَدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول.
... قلت: قصد أبو حيان أن جملة "إن أمسكهما" إن جعلت سادّة مسدّ الجوابين كانت معمولة، إن هي في محل جزم باعتبارها جواب الشرط، وغير معمولة لأنه لا محل لها باعتبارها جواب القسم.
... وانظر في سد الجملة مسدّ جوابي الشرط والقسم: الأشموني (4/29).(1/317)
والثانية للابتداء.
و { من بعده } من بعد إمساكه.
{ إنه كان حليماً غفوراً } غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً، لعظم كلمة الشرك، كما قال الله تعالى: { تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض } [مريم:90].
(#qكJ|،ّ%r&ur بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ(1/318)
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا(1/319)
مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِن اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا احخب
قوله تعالى: { وأقسموا بالله } يعني: كفار مكة حلفوا بالله قبل أن يرسل الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - حين سمعوا ما قوبل به أهل الكتاب من اللعنة والعذاب، { لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } يعني: اليهود والنصارى وغيرهم. { فلما جاءهم نذير } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - { ما زادهم } مجيئه { إلا نفوراً } عن الهدي.
وهذا من الإسناد المجازي؛ لأنه كان السبب في أن زادوا أنفسهم نفوراً.
{ استكباراً في الأرض } مصدر، أو بدل من "نُفُوراً"، أو مفعول له، أو حال بمعنى: مستكبرين وماكرين (1) .
قيل: "ومَكْرَ السيء" معطوف على "نُفُوراً" (2) ، ومكر السيء سبق القول عليه.
وقيل: هو من باب إضافة الاسم إلى صفته؛ كقوله تعالى: { والدار
__________
(1) ... انظر: البحر (7/305)، والدر المصون (5/473).
(2) ... مثل السابق.(1/320)
الآخرة } [الأعراف:169]، { لحق اليقين } [الحاقة:51].
قرأ حمزة: "السَّيء" بسكون الهمزة، وقلبها في الوقف ياء (1) .
قال أبو علي (2) : هو على إجراء الوصل مجرى الوقف، ويحتمل أنه خفف آخر الاسم لاجتماع الكسرتين والياءين، كما خففوا الباء من "إبل" لتوالي الكسرتين.
{ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } قال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك (3) .
{ فهل ينظرون إلا سُنّة الأولين } أي: فهل ينتظرون إلا نزول العذاب
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/302)، والحجة لابن زنجلة (ص:594)، والكشف (2/212)، والنشر (2/352)، والإتحاف (ص:362)، والسبعة (ص:535-536).
(2) ... الحجة للفارسي (3/303).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/508)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/498).
... فائدة: قال أبو حيان في البحر (7/305): قال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت: كثيراً نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك؟
... فالجواب من وجوه:
... أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول، من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر.
... وثانيها: أنه عام؛ وهو الأصح، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً، فإنه تعالى يقول: { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلاً فلا يرد نقضاً.
... وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى.(1/321)
بهم كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم. وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم.
ثم أخبر أن ذلك كائن لا محالة فقال تعالى: { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً } .
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى: { فإن الله كان بعباده بصيراً } قال ابن جرير (1) : بصير بمن يستحق العقوبة منهم ومن يستحق الكرامة (2) .
__________
(1) ... تفسير ابن جرير الطبري (22/148).
(2) ... في الأصل: آخر الجزء الثالث. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع من أول سورة يس إلى آخر القرآن.(1/322)
ijk
وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل.
سورة يس
وهي اثنان وثمانون آية في المدني، وثلاث في الكوفي.
وهي مكية في قول.. (1) وعامة المفسرين. وقيل: مدنية وليس بصحيح. واستثنى .. وهي قوله تعالى: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } .. واستثنى ابن عباس آية أخرى لم أرها في التفاسير، وهي قوله تعالى: { إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } فإنها مدنية .. إن شاء الله تعالى.
أخبرنا أبو المجد محمد بن محمد بن أبي بكر البناني، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه المطهر بن عبد الكريم بن محمد قالا: أخبرنا عبدالرحمن [بن] (2) حمد الدوني، أخبرنا أبو نصر أحمد الكسار، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني، أخبرنا عبدالله بن أحمد [بن] (3) عبدان، حدثنا زيد بن الحريش (4) ، حدثنا الأغلب بن تميم (5) ، عن أيوب ويونس وهشام، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: قال
__________
(1) ... تعرضت اللوحة الأولى والثانية من المخطوط لرطوبة مما تسبب عنه تآكل أطراف اللوحتين، وقد وضعنا نقطتين اثنتين مكان التآكل.
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... زيادة من عمل اليوم والليلة (ص:318).
(4) ... زيد بن الحريش الأهوازي، يروى عن عمران بن عيينة، ثنا عنه عبد الله بن أحمد بن موسى القاضى عبدان، ربما أخطأ (الثقات 8/251).
(5) ... أغلب بن تميم بن النعمان سنان، أبو حفص. حدّث عن سليمان التيمي، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء (لسان الميزان 1/464).(1/323)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ يس في يوم وليلة ابتغاء وجه الله عز وجل غفر الله له" (1) .
وأخرج الإمام أحمد في المسند من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } من تحت العرش فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله عز وجل والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم" (2) .
وقال يحيى بن أبي كثير: .. من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرج الله حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرج [الله] (3) حتى يصبح.
وقد حدثني من جربها ..
ûƒ (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4/21 ح3509)، والصغير (1/255 ح417)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:318).
(2) ... أخرجه أحمد (5/26).
(3) ... زيادة على الأصل.(1/324)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اذب
قال الله تعالى: { يس } اختلف القُرّاء فيها؛ فقرأ السبعة والأكثرون "يس" على الوقف.
وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء: بفتح النون (1) .
وقرأ الحسن وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال: بكسر النون (2) .
وقرأ ابن عباس بالرفع وقال: هي بلغة طيء: يا إنسان (3) .
وقد ذكرنا وجه قراءة ..
__________
(1) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (7/4)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/474).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (363). وانظر: زاد المسير (7/4).
(3) ... أخرجه الطبري (22/148)، وابن أبي حاتم (10/3188). وذكره السيوطي في الدر (7/41) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/325)
وأما الفتح فإما أن يكون كأين وكيف، أو يكون مفعولاً على معنى: اتْلُ ياسين.
وأما الرفع فعلى معنى: هذه ياسينُ .. الكسر والتقاء الساكنين.
واختلف القراء .. وابن كثير .. على النون.
واختلف المفسرون .. أقوال:
أحدها: يا إنسان. قاله ابن عباس (1) .. أن يكون .. اقتصروا على ..
الثاني: أنه اسم من أسماء الله أقسم الله تعالى به. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (2) .
الثالث: أنه اسم من أسماء القرآن. قاله قتادة (3) .
الرابع: أنه اسم من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - . قاله محمد بن الحنفية وسعيد بن جبير (4) . وأنشدوا للسيد الحميري:
يا نفسُ لا تَمْحَضِي بالنصح مُجتهداً ... ... على المودَّة إلا آل ياسينا (5)
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... أخرجه الطبري (22/148). وذكره الماوردي (5/5)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/3).
(3) ... أخرجه الطبري (22/148). وذكره الماوردي (5/5)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/4).
(4) ... ذكره الماوردي (5/5) من قول محمد بن الحنفية، والسيوطي في الدر (7/41) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن محمد بن الحنفية.
(5) ... البيت للسيد الحميري. وهو في: البحر (7/310)، والقرطبي (15/4)، وروح المعاني (22/211).(1/326)
ثم أقسم بالقرآن الحكيم .. فقال تعالى: { والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين } وهذا تكذيب لهم في قولهم: .. { على صراط مستقيم } خبر بعد خبر، أو صلة "للمرسلين" (1) .
قوله: { تنزيل العزيز الرحيم } قرأ .. وأهل الكوفة: "تنزيل"، والباقون بالرفع (2) .
فمن فتح فعلى معنى ..، ومن رفع فعلى: هذا تنزيل.
وقرئ شاذاً: .. بالقرآن.
قوله تعالى: { لتنذر } .. إنك لمن المرسلين، { قوماً ما أنذر آباؤهم } .. في قول .. العلماء ويؤيده قوله تعالى: { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } ، وقوله: { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } فيكون وصفاً أي: .. فهم غافلون لعدم إنذارهم.
وقيل: .. مثل إنذار آباءهم. وقيل: موصولة منصوبة ..
قال السدي: وجب العذاب (3) .
وقال الضحاك: سبق القول بكفرهم (4) .
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (4/5).
(2) ... الحجة للفارسي (3/305)، والحجة لابن زنجلة (ص:595-596)، والكشف (2/214)، والنشر (2/353)، والإتحاف (ص:363)، والسبعة (ص:539).
(3) ... ذكره الماوردي (5/6) عن السدي، والواحدي في الوسيط (3/509)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/5) كلاهما بلا نسبة.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3188). وذكره الماوردي (5/6)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/5) بلا نسبة، والسيوطي في الدر (7/42) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/327)
{ على أكثرهم } .. عن إرادة الله تعالى ..
$¯Rخ) جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ(1/328)
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ اتثب
{ في أعناقهم } .. وإنما حصل تصميمهم على .. نسيانهم عن الإنفاق من .. { فهي إلى الأذقان } ..
والإنفاق عليها. قاله الفراء والزجاج.
قال .. يؤيد والله أعلم أن الأيدي غلت إلى الأعناق .. لوجود الأذقان .. الزمخشري أن يكون، فهي كناية عن الأيدي محتجاً .. ابن عباس: "إنا جعلنا في أيديهم".
وقراءة ابن مسعود: "في أيمانهم" وقال: فهي يعني الأغلال والله إلى الأذقان .. إليها .. مقمحون.
قال الفراء والزجاج (1) : المُقْمَح: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. يقال: أقْمَحَ البعير رأسه وقَمَحَ؛ إذا رفعه ولم يشرب الماء (2) ، وأنشدوا لشاعر يذكر سفينة كانوا فيها:
__________
(1) ... معاني الفراء (2/373)، والزجاج (4/279).
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (قمح).(1/329)
ونحنُ على جوانبها قُعودٌ ... ... نغُضُّ الطَّرْف كالإبل القِمَاح (1)
قال الأزهري (2) : أراد الله تعالى أن أيديهم لما غُلَّتْ عند أعناقهم رَفَعَتِ الأغلالُ أذقانهم ورؤوسهم صُعُداً، فهم مرفوعوا الرؤوس برفع الأغلال إياها.
قوله تعالى: { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً } قرأ حمزة والكسائي وحفص: "سَدّاً" بفتح السين في الحرفين، وضمَّها الباقون (3) . وقد أشرنا إلى الفرق بينهما في الكهف (4) .
وفي معنى الكلام وجهان:
أحدهما: منعناهم بموانع سَدَّتْ عليهم مسالك الهدى.
الثاني: سددنا عليهم طريق الوصول إلى الرسول حين مكروا به وأجمعوا على قتله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا معنى قول السدي (5) .
{ فأغشيناهم } أي: أغشينا بصائرهم بالأكنّة الصادرة لها من النظر إلى
__________
(1) ... البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي. انظر: ديوانه (ص:48)، والبحر المحيط (7/311)، واللسان، مادة: (قمح)، ومجاز القرآن (2/157)، وتهذيب اللغة (4/81)، والدر المصون (5/476)، وزاد المسير (7/44)، وروح المعاني (22/214).
(2) ... تهذيب اللغة (4/82).
(3) ... الحجة للفارسي (3/305)، والحجة لابن زنجلة (ص:596)، والكشف (2/214)، والنشر (2/315)، والإتحاف (ص:295)، والسبعة (ص:539).
(4) ... آية رقم: 94.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3189). وذكره الماوردي (5/8)، والسيوطي في الدر (7/45) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/330)
الهدى. وهذا على الوجه الأول.
وقال السدي: فأغشينا أبصارهم بظلمة الليل فهم لا يبصرون النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
يشير إلى أنهم أرادوا اغتياله ليلاً فحالت الظلمة بينهم وبينه.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وقتادة والحسن وسعيد بن جبير: "فأعشيناهم" بالعين المهملة (2) ، من عَشِيَ يَعْشَى؛ إذا ضَعُفَ بصرُه (3) .
والآية .. هذه إخبار بأن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إليهم حيث أغشيت أبصارهم وشدت عليهم .. الإيمان.
وقد ثبت بطرق صحيحة (4) : أن عمر بن عبد العزيز دعا غيلان القدري فقال: يا غيلان! بلغني أنك تتكلم في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ، فقال: يا غيلان، اقرأ أول سورة يس، فقرأ: { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله تعالى: { وسواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني ما قرأتها قط قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر، فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقاً فتُب عليه وثبِّتْه، وإن كان كاذباً [فسلّط عليه من] (5) لا
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:363). وانظر: زاد المسير (7/8).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (عشا).
(4) ... أخرجه الثعلبي في تفسيره (8/122).
(5) ... غير ظاهر في الأصل. والمثبت من تفسير الثعلبي (8/122).(1/331)
يرحمه واجعله آية [للمؤمنين. قال: فأخذه] (1) هشام فقطع يديه ورجليه.
قال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق.
فإن قيل: .. الزهري وابن محيصن: أنذرتهم .. ينبغي أن .. الاستفهام آية .. الكميت:
طربْتُ وما شَوقاً إلى البيض أطْرَبُ ... ... ولا لَعِباً مني وذو الشيْب يلعبُ (2)
معناه: أو ذو الشيب يلعب.
ويدل على .. الخبر لقال: أو لم تنذرهم.
فإن قيل: أم هذا .. وكقولهم .. قيل: إن قدرت ذلك نفي ذلك.
قوله تعالى: { سواء عليهم } .. لا ثاني له .. خبر سواء اثنان فقد علمته بهذا أن قول .. مجاهد على الخبر لا وجه له.
قال الزجاج (3) : إن من أضله الله تعالى هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار.
إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله تعالى: { إنما تنذر من اتبع الذكر } يعني: القرآن، { وخشي الرحمن بالغيب } خاف الله تعالى في الدنيا.
قوله تعالى: { إنا نحن نحيي الموتى } أي: نحييهم بالإيمان بعد الكفر.
__________
(1) ... غير ظاهر في الأصل. والمثبت من تفسير الثعلبي، الموضع السابق.
(2) ... البيت لكميت، وهو في: الخصائص لابن جني (2/281)، ومغني اللبيب (ص:20)، والأغاني (17/30).
(3) ... معاني الزجاج (4/280).(1/332)
قاله الضحاك (1) .
وقال غيره: .. جهنم للجنة.
{ ونكتب ما قدموا وآثارهم } ما عملوا من خير أو شر.
و"آثارهم" قال سعيد بن جبير: ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها من بعدهم (2) .
وقال مجاهد: "آثارهم": خطاهم إلى المساجد (3) .
أخرج الإمام أحمد في الزهد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: "كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا فيكونوا قريباً من المسجد، فنزلت { ونكتب ما قدموا وآثارهم } ، فقالوا: لا بل نثبت في مكاننا" (4) .
.. أن هذه الآية مدنية.
وفي أفراد مسلم من حديث جابر قال: "خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/9).
(2) ... ذكره الماوردي (5/9)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/9).
(3) ... أخرجه الطبري (22/153-154)، وابن أبي حاتم (10/3190). وذكره الماوردي (5/9)، والسيوطي في الدر (7/47) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه ابن ماجه (1/258 ح785).(1/333)
ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم" (1) .
وفي رواية أخرى: "إن لكم بكل خطوة درجة" (2) .
قوله تعالى: { وكل شيء أحصيناه } .. بيَّناه وحفظناه { في إمام مبين } وهو اللوح المحفوظ.
َ>خژôر$#ur لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/462 ح665).
(2) ... أخرجه مسلم (1/461 ح664).(1/334)
تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)(1/335)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ اثخب
قوله تعالى: { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } ، قال الزجاج (1) : "مَثَلاً" مفعول به (2) ، ومعنى قول الناس: عندي من هذا الضَّرْب شيء
__________
(1) ... معاني القرآن الزجاج (4/281).
(2) ... انظر: التبيان (2/202)، والدر المصون (1/163).(1/336)
كثير، أي: من هذا المثال، وتقول: هذه الأشياء على ضَرْب واحد، أي: على مثال واحد، فمعنى اضْرِبْ لهم مثلاً: مَثِّل لهم مَثَلاً.
والقرية: أنطاكية، وأصحابها: أهلها الثَّاوونَ بها.
و "إذ" بدل من "أصحاب القرية" (1) .
و"المرسلون" رُسُل عيسى عليه السلام، في قول قتادة وابن جريج (2) .
وقال كعب ووهب: هم رسل الله تعالى (3) ، وهو ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: { إذ أرسلنا إليهم اثنين } .
قال ابن عباس: اسمهما: صادق وصدوق (4) .
وقيل: شمعون ويوحنا (5) .
قال ابن عباس: فضربوهما وسحبوهما (6) .
{ فعزَّزْنا بثالث } وقرأ أبو بكر عن عاصم: "فَعَزَزْنا" بالتخفيف (7) ، أي:
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/111)، والدر المصون (4/496).
(2) ... أخرجه الطبري (22/155)، وابن أبي حاتم (10/3191) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (7/49) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.
(3) ... أخرجه الطبري (22/156).
(4) ... أخرجه الطبري (22/156) وفيه: صادق ومصدوق. وذكره الماوردي (5/10).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3192) عن شعيب الجبائي. وذكره السيوطي في الدر (7/50) وعزاه لابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي.
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/511) وفيه: فضربوهما وسجنوهما.
(7) ... الحجة للفارسي (3/306)، والحجة لابن زنجلة (ص:597)، والكشف (2/214)، والنشر (2/353)، والإتحاف (ص:363)، والسبعة (ص:539).(1/337)
فقوَّيْنا [وشددنا] (1) الرسالة برسول ثالث.
قال ابن عباس: واسمه: [شلوم] (2) .
وقال غيره: يونس (3) .
وقيل: شمعون الصفا (4) .
وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة، وكان يعبد الأصنام، فبعث عيسى - صلى الله عليه وسلم - إليهم بإذن الله عز وجل رجلين من الحواريين، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنماً له، وهو حبيب بن إسرائيل النجار صاحب يس، فسلَّمَا عليه، فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال: معكما آية؟ فقالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ: إن لي ابناً مريضاً منذ سنين، قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نطلع حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه فقام في الوقت صحيحاً بإذن الله تعالى، وفشى خبرهما في المدينة، فشفى الله تعالى بهما خلقاً كثيراً من المرضى، وآمن حبيب وجعل يعبد ربه متخفياً في غار، فدعا بهما الملك وسمع كلامهما، وأفضى الحال إلى أن ضُربا وحُبسا
__________
(1) ... في الأصل: وشدنا.
(2) ... أخرجه الطبري (22/156) وفيه: سلوم. وذكره الماوردي (5/10). وما بين المعكوفين في الأصل: شلوه. والتصويب من الماوردي.
(3) ... هو قول شعيب الجبائي. ذكره الماوردي (5/10).
(4) ... ذكره القرطبي (15/15)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/11) عن مقاتل، والسيوطي في الدر المنثور (7/50).(1/338)
وكُذِّبا، فبعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفا لينصرهما، فدخل البلدة متلطفاً (1) حتى دخل على الملك، فلما أنس به قال له: أيها الملك! بلغني أنك حبست رجلين وضربتهما حين دعوك إلى دينهما، فإن رأى الملك أن يتطلع ما عندهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون -يقصد استرواح الملك بألطف الطرق-: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال: صِفَاهُ لي وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال: وما آيتكما؟ فقالا: ما يتمنّاه، فأمر الملك بغلام مطموس العينين فأحضر، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه، فصارتا مُقلتين يُبصر فيهما، فعجب الملك، فقال شمعون -رأس الحواريين- للملك: سَلْ إلهك أن يصنع مثل هذا فيكون لك البشرى والملك، فقال له الملك: ليس لي عندك سراً، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل على الصنم مع الملك فيصلي كثيراً ويبكي ويتضرع، حتى ظنوا أنه على ملّتهم، فقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فقالا: إن إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك: إن هاهنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن دُهْقَان (2) ، وقد أخَّرْتُ دفنه حتى يقدم أبوه، وكان غائباً، فجاؤوا بالميت وقد تغير، فجعلا يدعوان ربهما، وجعل شمعون يدعو ربه سراً، فقام الميت فقال: اللهم إني قد متّ منذ سبعة أيام، فوجدت مشركاً، وأدخلت في سبعة أودية من نار، وأنا
__________
(1) ... أي: متخفياً ومتنكراً.
(2) ... الدُّهْقَان: التاجر، فارسي معرّب.(1/339)
أُحذِّرُكم مما أنتم فيه فآمنوا، ثم قال: فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، وأشار إلى شمعون وصاحبيه، فتعجب الملك، فلما علم شمعون الصفا أن [قوله] (1) قد أثَّر في قلب الملك أخبره بالحال، فآمن قوم فيهم الملك وكَفَرَ آخرون (2) .
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كَفَرَ الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم، فذكَّرَهم ودعاهم إلى طاعة المرسلين، فقالوا له: وأنت تخالف ديننا ومؤمن بإله هؤلاء، فقال: { وما لي لا أعبد الذي فطرني } إلى قوله: { فاسمعون } ، فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه (3) .
قال عبدالله بن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرجت قُصبه (4) من دبره (5) .
وقال السدي: رمُوه بالحجارة حتى قطعوه (6) .
وقال الحسن: خرقوا خرقاً في حلقه وعلقوه في سور المدينة، وقبره بسوق أنطاكية (7) ، فأوجب الله تعالى له الجنة، فذلك قوله تعالى: { قيل ادخل
__________
(1) ... زيادة من البغوي (4/8).
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/7-9).
(3) ... ذكره البغوي في تفسيره (4/9، 10). وأخرج الطرف الأخير منه: الطبري (22/161).
(4) ... القُصب: المِعَى. وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء (اللسان، مادة: قصب).
(5) ... أخرجه الطبري (22/161). وذكره الواحدي في الوسيط (3/512).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/13).
(7) ... ذكره القرطبي (15/19)، وأبو حيان في البحر (7/316)، ولفظهم: حرقوه حرقاً، وعلقوه في باب المدينة، وقبره في سور أنطاكية.(1/340)
الجنة } .
وجميع ما أسقطت تفسيره هاهنا إما لظهوره، أو لكونه سابقاً. وفي غضون ذلك مواضع أذكرها سؤالاً وجواباً، وهي:
إن قيل: ما معنى قولهم: { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } ، وهل يقوم بذلك حجة عليهم؟
قلتُ: لم يصدر ذلك من الرسول ابتداء، وإنما قالوه بعد إظهار العجز.. (1) هذا العنت منهم، فهو كلام خارج مخرج الالتجاء إلى الله تعالى والتفويض إليه، وشواهده كثيرة في القرآن، وقرأت منه قوله تعالى: { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } [العنكبوت:52]، أو هو في معنى التوكيد والتحقيق.
فإن قيل: ما معنى: { طائركم معكم } ؟
قلتُ: الطائر أنهم كانوا أصيبوا ببلاء فتطيروا بهم، كما تطيروا بموسى عليه السلام فقالوا لهم: { طائركم معكم } أي: شُؤمكم معكم، وهو الكفر، فمنه أُتيتم وبسببه ابتليتم.
قرأ أبو جعفر: "أَأَن ذكرتم" بفتح الهمزة الثانية وتليينها مع الفصل بألف، "ذُكِرْتُم" بالتخفيف، على معنى: من أجل أن ذكرتم، أو لأن ذكرتم تشاءمتم، وقرأ الباقون على أصولهم المعروفة. وقرأ ابن كثير بهمزة واحدة
__________
(1) ... ثلاث كلمات غير مقروءة في الأصل.(1/341)
مفتوحة بعدها ياء، ومثله أبو عمرو إلا أنه كان يَمُدّ (1) .
قال أبو علي (2) : هي "إِنْ" التي للجزاء، إذ دخلت عليها ألف الاستفهام، فكأنهم قالوا: أئن ذُكّرتم تشاءمتم! فحذف الجواب لتقدم ما يدلُّ عليه.
وقرئ: "أَنْ ذُكِّرْتُمْ" بفتح الهمزة من غير استفهام على الخبر (3) .
فإن قيل: ما وجوه قراءة [أبي] (4) جعفر: "ذُكِرْتُم" بالتخفيف؟
قلتُ: معناه: طائركم معكم لئن ذكرتم وروسلتم فلم تؤمنوا.
وقرئ: "أيْنَ ذُكِرْتُم"، أي: حيث جرى ذكركم (5) .
فإن قيل: ما وجه قوله: { وما لي لا أعبد الذي فطرني } وكان وجه الكلام أن يقول: "وما لكم لا تعبدونَ"؛ لأن مقصوده هم، بدليل قوله: { وإليه ترجعون } ؟
قلتُ: هذا أدخلُ في النصح وألطفُ في معنى المدارات، حيث لم يُرِدْ لهم إلا ما أراد لنفسه.
فإن قيل: ما وجه قراءة حمزة: "وما ليْ لا أعبد" بإسكان الياء، وقراءة
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/306)، والنشر (2/353)، والإتحاف (ص:364)، والسبعة (ص:540).
(2) ... الحجة للفارسي (3/306).
(3) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/314)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/478). وهي قراءة قرأ بها الماجشون، وهو يوسف بن يعقوب.
(4) ... زيادة على الأصل.
(5) ... ذكر هذه القراءة أبو حيان في: البحر (7/314)، والسمين الحلبي في: الدر المصون (5/478). وهي قراءة أبي جعفر والحسن وقتادة والأعمش والهمذاني.(1/342)
الباقين بالفتح؟
قلتُ: اعلم أن الأصل في ياء المتكلم إذا انكسر ما قبلها: الحركة؛ لأنها بإزاء كاف المخاطب، فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء.
فإن قيل: الحركة في حروف اللين مكروهة؟
قلتُ: الفتحة لا تُكره؛ لخفتها، ولذلك اتفقوا على التحريك بها إذا سكن ما قبلها، مثل: بُشرايَ وغُلامايَ وغُلامِيَ. وحجة حمزة ما ذكرناه من كراهتهم الحركة على الياء.
ولأن الياء تشابه الألف، والألف تُسَكَّنُ في الأحوال كلها، فكما أسكنت الألف فيها تسكن الياء، والدليل على شبه الألف قربها منها في المخرج وإبدالهم إياها منها في نحو: طائيّ وحاريّ، في النسب إلى طيّء والحِيرَة، وفي قوله:
لنضربنْ بسَيْفِنَا قَفَيْكَا (1)
فإن قيل: من المخاطب بقوله: { فاسمعون } ؟
قلتُ: الرسل الثلاثة، يقول لهم: اسمعوا قولي واشهدوا لي بالإيمان، وهذا
__________
(1) ... الرجز لرجل من حمير وتمامه:
... ... ... يا ابنَ الزبير طَالَ ما عَصَيْكَا ... ... وَطَالَ ما عَنَّيْتَنَا إليْكَا
... ... ... ... ... لنضربنْ بسيفِنا قَفَيْكَا
... وهو في: خزانة الأدب (4/428، 430)، واللسان (مادة: قفا)، والمقاصد النحوية (4/591)، ونوادر أبي زيد (ص:105)، والحجة للفارسي (1/73)، والجنى الداني (ص:468)، وسر صناعة الإعراب (1/280)، والعين (5/222).(1/343)
قول ابن مسعود (1) .
وقال وهب: هو خطاب لقومه (2) .
ں@ٹد% ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ اثذب
{ قيل ادخل الجنة } وذلك لما لقي الله تلقاه بالبشرى، وقيل له إكراماً واحتراماً وتنويعاً للراحة بانضمام لذة السماع إلى ما حصل له من النعيم -كما قيل:
ألا فاسْقِني خمراً وقُل لي هيَ الخمرُ ... ... ..................... (3) -:
ادخل الجنة.
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/466 ح3605). وذكره الطبري (22/160) بلا نسبة، والماوردي (5/14)، والسيوطي في الدر (7/52) وعزاه للحاكم.
(2) ... أخرجه الطبري (22/160). وذكره الماوردي (5/14).
(3) ... صدر بيت، وعجزه: (ولا تسقني سراً إن أمكن الجهر). انظر البيت في: روح المعاني (14/131، 15/308).(1/344)
قال قتادة: أدخله الله الجنة، فهو فيها حي يرزق (1) .
{ قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي } تمنى علم قومه بحاله رجاء سعيهم لمثلها.
قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً (2) .
و"ما" مصدرية. وقيل: موصولة.
والمعنى: بالذي غفره لي ربي.
* وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/20)، والزمخشري في الكشاف (4/13).
(2) ... ذكره الماوردي (5/14).(1/345)
يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ اجثب
قوله تعالى: { وما أنزلنا على قومه من بعده } أي: على قوم حبيب من بعد قتله { من جُنْدٍ من السماء } يعني: الملائكة.
قال مجاهد: المعنى: ما أنزلنا عليهم رسالة (1) .
وقال الحسن: الملائكة الذين ينزلون بالوحي (2) .
والذي اعتمده المتأخرون من المفسرين: أن هذا إخبار من الله تعالى، لم يهلكهم بملائكة أنزلهم لإهلاكهم؛ إشعاراً بعظيم قدرته [وشدته] (3) وقوته،
__________
(1) ... أخرجه مجاهد (ص:534)، والطبري (23/1). وذكره الماوردي (5/15).
(2) ... ذكره الماوردي (5/15). وهو اختيار الطبري (23/2) قال: وهذا القول أولى بتأويل الآية، وذلك أن الرسالة لا يقال لها: جند، إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك: الرُّسُل، فيكون وجهًا، وإن كان أيضًا من المفهوم بظاهر الآية بعيدًا، وذلك أن الرسل من بني آدم لا ينزلون من السماء. والخبر في ظاهر الآية عنه أنه لم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا المؤمن على قومه جندًا وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.
(3) ... في الأصل: وشدة.(1/346)
وإعلاماً أنه لم يحتج في إهلاك أمة عظيمة ومدينة منيعة إلى أعوان وأنصار، بل أرسل إليهم مَلَكاً من ملائكته وهو جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون هامدون كالنار إذا طفئت، ومنه قول لبيد:
وما المرءُ إلا كالشهابِ وضوئِهِ ... يحورُ رماداً بعد إذ هُوَ سَاطِعُ (1)
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: { وما كنا منزلين } ؟
قلتُ: قد ذكروا جوابين:
أحدهما: أن المعنى: لم ينتصر منهم بِجندٍ من السماء وما كنا ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطوفان [والصاعقة] (2) والريح. وهذا الذي اعتمده الواحدي (3) .
وليس بشيء.
الثاني: وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جُنْداً من السماء، وذلك لأن الله عز وجل أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قوله تعالى: { فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً... الآية }
__________
(1) ... البيت للبيد. انظر: ديوانه (ص:169)، والهمع (1/112)، والأشموني (1/229)، والدر المصون (6/498)، والقرطبي (19/273)، وزاد المسير (1/226، 6/250، 9/65)، واللسان وتاج العروس (مادة: حور)، والعين (3/287).
(2) ... في الأصل: والصاعة. والتصويب من الوسيط (3/512).
(3) ... الوسيط (3/512).(1/347)
[العنكبوت:40]، وهذا كلام صاحب الكشاف (1) ، وهو الجواب.
ويحتمل عندي أن يكون قوله: { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } ؛ إعلاماً بسرعة انتقام الله تعالى منهم، وأنه لم يمهلهم زماناً ينزل عليهم فيه ملائكة الله الذين هم جنوده والموكَّلون بأهل الأرض ينزلون بأرزاقهم ويعرجون بأعمالهم ويحفظونهم بأمر الله تعالى، إلى غير ذلك، { وما كنا منزلين } مما لا بد للأحياء منه من الرزق والحفظ وغيرهما.
فـ"ما" الثانية على هذا موصولة. ويجوز أن تكون نافية، على معنى: وما كنا فاعلين ذلك وقد فعلوا ما فعلوا (2) .
قوله تعالى: { إن كانت إلا صيحة واحدة } وقرأ أبو جعفر: "صيحةٌ واحدةٌ" بالرفع (3) .
وقال الزجاج (4) : من نصب فالمعنى: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة.
ومن رفع فالمعنى: ما وقعت عليهم عقوبة إلا صيحة.
قوله تعالى: { يا حسرةً على العباد } قال ابن عباس: حلّوا محلّ من يتحسر عليهم (5) .
__________
(1) ... الكشاف (4/15).
(2) ... انظر: البحر (7/317)، والدر المصون (5/480).
(3) ... النشر (2/353)، والإتحاف (ص:364).
(4) ... معاني الزجاج (4/283-284).
(5) ... ذكره الماوردي (5/15).(1/348)
وقال قتادة: المعنى: يا حسرة العباد على أنفسهم (1) .
وقال الزجاج (2) وغيره من اللغويين وأهل المعاني في معنى نداء الحسرة وما شابهها مما لا يعقل: فيجب المقصود من النداء التنبيه؛ فإذا قلت: يا زيد، فقد نبّهته ثم تحظى به بما تريد، ولو خاطبته من غير نداء لم تبلغ في الفائدة مبلغ الخطاب بعد التنبيه بالنداء، ألا ترى أن قولك: يا عجباً أتفعل كذا، أبلغ من قولك: أنا أعجبُ مما فعلتَ، والمعنى: يا عجباً أقبل، فإنه من أوقاتك، وكذلك { يا ويلتا أألد وأنا عجوز } [هود:72]، و { يا حسرتا على ما فرطت } [الزمر:56].
قال الزمخشري هاهنا (3) : هذا نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة، فهذه من أحوالك التي من حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل.
والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسَّر عليهم المُتحسّرون، ويتلهَّفَ على حالهم المُتلهّفون. أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله تعالى [على] (4) سبيل الاستعارة [في] (5) معنى
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/2)، وابن أبي حاتم (10/3193). وذكره السيوطي في الدر (7/54) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... معاني الزجاج (4/284-285).
(3) ... الكشاف (4/16).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: على. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.(1/349)
تعظيم ما جنوه على أنفسهم [ومحنوها] (1) به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه.
وقراءة من قرأ: "[يا حسرتاه] (2) " تعضد هذا الوجه؛ لأن المعنى: يا حسرتي.
وقرئ: "يا حسرةَ العبادِ" على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم؛ من حيث أنها موجهة إليهم. و"يا حسرة على العباد"، على إجراء الوصل مجرى الوقف (3) .
ثم بين سبب حسرتهم بتمام الآية، ثم خوف كفار مكة بالتي بعدها.
قال الزجاج (4) : المعنى: ألم يعتبروا بمن أهلكنا قبلهم من القرون فيخافوا أن يُعجِّل لهم في الدنيا مثل الذي عُجِّل لغيرهم، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبداً. وموضع "كم" نصبت بـ"أهلكنا"؛ لأن "كم" لا يعمل فيها ما قبلها، خبراً كانت أو [استفهاماً] (5) ، تقول في الخبر: كمْ فرسخاً سرتَ؟ يريد: فراسخ كثيرة، ولا يجوز: سرتَ كمْ فرسخاً؟، وذلك أن "كم" في بابها بمنزلة "رُبَّ"، وأن أصلها الاستفهام والإبهام، فكما أنك إذا استفهمت فقلت للمخاطب: كم فرسخاً سرتَ، لم يجز: سرتَ كمْ فرسخاً؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وكذلك إذا جُعلت "كم" خبراً، فالإبهام قائم فيها، و"أنهم"
__________
(1) ... في الأصل: وحنوها. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... في الأصل: يا حسرتا. والمثبت من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... إلى هنا انتهى كلام الزمخشري.
(4) ... معاني الزجاج (4/285).
(5) ... في الأصل: استخباراً. والتصويب من الزجاج (4/285).(1/350)
بدل من معنى: { ألم يروا كم أهلكنا } . والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكناها أنهم إليهم لا يرجعون.
ويجوز "إنهم" بالكسر على الاستئناف. [والمعنى] (1) : هم إليهم لا يرجعون. انتهى كلام الزجاج.
والكسر في "إنهم" قراءة الحسن (2) . وقرأ ابن مسعود: "ألم يروا مَنْ أهلكنا" (3) ، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال. وفي هذه الآية إبطال لقول أهل الرجعة.
ويروى عن ابن عباس أنه قال حين قيل له: إن قوماً يزعمون [أن] (4) علياً مبعوث قبل يوم القيامة: بئس القوم نحن إذاً، نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه (5) .
قوله تعالى: { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: "لَمَّا" بالتشديد هنا وفي الطارق (6) ، والباقون بالتخفيف (7) .
__________
(1) ... في الأصل: المعنى. والتصويب من الزجاج، الموضع السابق.
(2) ... ذكر هذه القراءة البناء في: إتحاف فضلاء البشر (ص:364).
(3) ... ذكر هذه القراءة الزمخشري في: الكشاف (4/16).
(4) ... زيادة من المصادر التالية.
(5) ... أخرجه الطبري (14/105) عند تفسير قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [النحل:38]. وذكره السيوطي في الدر (7/55) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(6) ... الآية رقم: 4.
(7) ... الحجة لابن زنجلة (ص:597)، والكشف (2/215)، والنشر (2/291)، والإتحاف (ص:364).(1/351)
قال الزجاج (1) : فمن قرأ بالتخفيف ["لَمَا"] (2) فـ"ما" زائدة مؤكدة. والمعنى: وإن كل لجميع لدينا محضرون. ومعناه: ما كلٌّ إلا جميع لدينا [محضرون] (3) .
ومن قرأ "لَمَّا" بالتشديد، فمعنى "لَمَّا" هاهنا "إلاَّ" تقول: سألتك لَمَّا فعلت وإلاّ فعلت.
وقال الزمخشري (4) : من قرأ "لَمَا" بالتخفيف فـ"ما" صلة للتأكيد، و"إنْ" مخففة من الثقيلة، وهي [متلقاة] (5) باللام لا محالة. و"لَمّا" بالتشديد، بمعنى: إلاّ، كالتي في مسألة الكتاب: نشدتك بالله لَمّا فعلت، و"إنْ" نافية، والتنوين في "كُلٌّ" هو الذي يقع عِوَضاً من المضاف [إليه] (6) ؛ كقولك: مررتُ بكل قائماً.
فإن قلت: كيف أخبر عن "كل" بـ"جميع" ومعناهما واحد؟
قلتُ: ليس بواحد؛ لأن "كُلاًّ" يفيد معنى الإحاطة، وأن لا ينفلت منهم أحد، و"الجميع": معناه الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فَعيل بمعنى مفعول.
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/286).
(2) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) مثل السابق.
(4) ... الكشاف (4/16-17).
(5) ... في الأصل: ملقاة. والتصويب من الكشاف (4/17).
(6) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/352)
وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ اجدب
قوله تعالى: { وآية لهم } أي: وعلامة لهم دالة على قدرتنا، { الأرض(1/353)
الميتة } .
قرأ نافع: "الميّتة" بالتشديد، والباقون بالتخفيف (1) .
قال الزجاج (2) : الأصل: التشديد، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز، "وآيةٌ" مرفوعة بالابتداء وخبرها: "لهم" (3) .
أي: وعلامة لهم تدلهم على التوحيد، وأن الله تعالى يبعث الموتى؛ إحياء الأرض الميتة.
ويجوز أن تكون "آية" مرفوعة بالابتداء، وخبرها: "الأرض الميتة" (4) .
قال الزمخشري (5) : { أحييناها } استئناف بيان؛ لكون الأرض الميتة آية. وتقديم الظرف في قوله: { فمنه يأكلون } للدلالة على أن الحَبَّ هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق، ومنه صلاح الإنس، وإذا قلّ جاء القحط ووقع الضرّ، وإذا فُقد حضر الهلاك ونزل البلاء.
قوله تعالى: { ليأكلوا من ثمره } سبق توجيه اختلاف القراء فيها في
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/11-12)، والحجة لابن زنجلة (ص:270)، والكشف (1/339)، والنشر (2/224-225)، والإتحاف (ص:364).
(2) ... معاني الزجاج (4/286).
(3) ... انظر: التبيان (2/203)، والدر المصون (5/483).
(4) ... وقد ذكر هذا الوجه السمين الحلبي في الدر المصون (5/483) حكاية عن مكي، ثم قال: وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لا يُترك المعرفة من الابتداء بها ويُبتدأ بالنكرة إلا في مواضع للضرورة.
(5) ... الكشاف (4/17).(1/354)
سورة الأنعام.
والضمير في "ثَمَرِه" يحتمل وجوهاً:
أحدها: أن يرجع إلى النخيل دون الأعناب؛ كقوله تعالى: { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به } [النساء:112]، وكقوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } [التوبة:34]. وقد قررنا أمثاله فيما مضى.
الثاني: أن يرجع إلى الله تعالى، على معنى: ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر، وما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك حتى بلغ منتهاه. يشير إلى أن الثمر في نفسه فعل الله تعالى، وفيه آثار من عمل بني آدم.
وكان الأصل أن يقال: ليأكلوا من ثمرنا؛ لقوله تعالى: { وجعلنا } { وفجرنا } غير أنه رجع إلى الغيبة، على ما تقدم ذكره في غير موضع.
الثالث: أن يراد: ليأكلوا من ثمره المذكور، وهو الجنات، كما قال رؤبة:
فيها خُطوطٌ من بياضٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلدِ تَوليعُ البَهَقْ (1)
فقيل له، فقال: أردت: كأن ذلك.
قوله تعالى: { وما عملته أيديهم } قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: "وما
__________
(1) ... البيت لرؤبة بن العجاج. انظر: ديوانه (ص:104)، والمحتسب (2/154)، ومجالس العلماء (ص:277)، ومجاز القرآن (1/43)، ومجالس ثعلب (2/375)، واللسان (مادة: بهق)، والبحر (3/169، 7/320)، والدر المصون (1/256، 2/306، 5/484).(1/355)
عَمِلَتْ" بغير هاء، وقرأ الباقون: "وما عَمِلَتْه" (1) .
قال أبو علي الفارسي (2) : من قرأ "عَمِلَتْه" احتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى: الذي.
والآخر: أن تكون نافية، فإذا كانت بمعنى الذي؛ فموضعها جَرّ، عطفاً على "الثمر"، التقدير: ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم.
ومن قرأ "وما عملتْ" فإنه حذفها من الصلة استخفافاً لطول الكلام.
وأكثر ما جاء في التنزيل من هذا على حذف الهاء؛ كقوله تعالى: { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [الفرقان:41]، { وسلام على عباده الذين اصطفى } [النمل:59]، و { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } [الأنعام:22]، و { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } [هود:43] وكل هذا على حذف الهاء وإرادتها.
ومن أثبت الهاء في "وما عملتْه أيديهم" فعلى ما قيل ما تستحقه الصلة من الضمير العائد منها إلى الموصول، وقد جاء الإثبات أيضاً في التنزيل في قوله تعالى: { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة:275] وإن قُدِّرت "ما" ناصبة فلا موضع لها من الإعراب؛ لأنها حرف.
والمعنى: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم. ويقوي ذلك قوله تعالى:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/307)، والحجة لابن زنجلة (ص:598)، والكشف (2/216)، والنشر (2/353)، والإتحاف (ص:365)، والسبعة (ص:540).
(2) ... الحجة (3/307).(1/356)
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون * أأنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارعُون } [الواقعة: 63-64] فمن قدّر هذا التقدير لم يكن صلة، وإذا لم يكن صلة لم تقتض الهاء الراجعة إلى الموصول. هذا آخر كلام أبي علي.
وقال الزجاج (1) : إذا حذفت الهاء فالاختيار أن تكون "ما" في موضع خفض، وتكون في معنى "الذي".
وللمفسرين في معنى الآية قولان على نحو ما ذكره أهل الإعراب، وقول الضحاك ومقاتل موافق قول من قال أنها نافية.
قال الضحاك: وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها (2) .
وقال مقاتل (3) : لم يكن ذاك من صنع أيديهم ولكن من فعلنا.
وهذا المعنى يشبه في نظري من حيث أن المقصود بسياق هذه الآيات: عظمة الله تعالى وقدرته ونعمته على عباده وامتنانه عليهم، ألا تراه يقول: { أحييناها وأخرجنا منها حباً } ، { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا } ثم عقب ذلك بقوله: { أفلا يشكرون } وأتبعه بقوله: { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } يعني: أجناس الفواكه والحبوب وأجناس ما تنبت الأرض { ومن أنفسهم } يريد: الذُّكْران والإناث، { ومما لا يعلمون } مما خلق الله تعالى من الأمم وسائر الأشياء الذي يحيط بها علمه جَلَّتْ عظمته.
×ptƒ#uنur لَهُمُ اللَّيْلُ
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/286).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/513).
(3) ... تفسير مقاتل (3/84).(1/357)
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ احةب
قوله تعالى: { نسلخ منه النهار } قال الفراء (1) : يرمي بالنهار عن الليل
__________
(1) ... معاني الفراء (2/378).(1/358)
فيأتي بالظلمة.
وذلك أن الأصل [هي] (1) الظلمة، والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كُشِط وأزيل، فتظهر الظُّلمة، وهو قوله تعالى: { فإذا هم مظلمون } أي: داخلون في ظلام الليل.
قوله تعالى: { والشمس تجري لمستقر لها } أي: إلى مستقر وحَدّ معلوم ينتهي سيرها إليه، وهو يوم القيامة؛ في قول مقاتل (2) وكثير من المفسرين.
وقال ابن السائب: مستقرها أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع إلى أدنى منازلها (3) .
وقال قتادة: تجري لوقت واحد لا تعدوه (4) .
والصحيح في تفسيرها: ما أخرج في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: " سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: { والشمس تجري لمستقر لها } قال: مستقرها تحت العرش " (5) .
وقد ذكرت حديث أبي ذر في سورة النحل عند قوله تعالى: { ولله يسجد } بأتم من هذا.
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء ليعقوب الحضرمي من طريق هبة الله
__________
(1) ... في الأصل: في. والتصويب من الوسيط (3/514).
(2) ... تفسير مقاتل (3/86).
(3) ... ذكره الطبري (23/6) بلا نسبة، والماوردي (5/17).
(4) ... أخرجه الطبري (23/6)، وابن أبي حاتم (10/3195). وذكره السيوطي في الدر (7/57) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1806 ح4525)، ومسلم (1/139 ح159).(1/359)
عن زيد عنه: "لمُسْتَقِرٍّ" بكسر القاف.
وقرأتُ عليه أيضاً [للكسائي] (1) من طريق الشيزري: "لا مُسْتَقَرَّ لها" على النفي وفتح الراء، وهي قراءة ابن مسعود وعكرمة وعلي بن الحسين (2) .
قال الزجاج (3) : معناه: أنها تجري أبداً لا تثبت في مكان.
{ ذلك } الجري الذي هو بحسبان تعجز عن إدراكه الأفهام الثاقبة { تقدير العزيز } الغالب [بقدرته] (4) { العليم } بما خلقه وقدّره بحكمته.
قوله تعالى: { وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: "والقمرُ" بالرفع، ونصبه الباقون (5) .
فمن رفع فعلى الابتداء، والخبر: "قَدَّرْنَاهُ"، أو هو معطوف على "الليل"، على معنى: وآية لهم القمر.
ومن نصبه فبفعل يفسره "قدَّرْنَاهُ منازلَ"، [وفيه] (6) إضمار تقديره: قدرنا مسيره منازل. وهي ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة في
__________
(1) ... في الأصل: الكسائي.
(2) ... ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (7/19)، والسمين الحلبي في الدر المصون (5/485).
(3) ... معاني الزجاج (4/287).
(4) ... في الأصل: بقدته. والصواب ما أثبتناه.
(5) ... الحجة للفارسي (3/307)، والحجة لابن زنجلة (ص:599)، والكشف (2/216)، والنشر (2/353)، والإتحاف (ص:365)، والسبعة (ص:540).
(6) ... في الأصل: وفي. والصواب ما أثبتناه.(1/360)
واحد منها لا يتخطاه، على تقدير معلوم لا تفاوت فيه، ثم يستتر في آخر الشهر ليلتين أو ليلة، -وقد ذكر أسماء هذه المنازل في سورة يونس (1) -. فإذا كان في آخر منزله دَقَّ واستَقْوَس، وعاد كالعرجون القديم، وهو عود العذق الذي فيه الشماريخ.
قال الزجاج (2) : وهو [فُعْلُول] (3) من الانعراج، وهو الانْعِطَاف.
قال ابن قتيبة (4) : والقديم هاهنا: الذي قد أتى عليه حَوْل.
قال غيره: إذا قَدِمَ دقّ وانحنى واصفرّ، فشُبه به من هذه الأوجه.
وقال بعض أهل العلم: أقل مدة الموصوف بالقِدَم: الحَوْل، فلو قال: كل مملوك له قديم حُرّ، أو وصى بذلك: عتق من مضى له عنده حَوْل فما زاد.
قوله تعالى: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ... الآية } المعنى: أنهما يتعاقبان بحساب معلوم.
قال قتادة: إذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر (5) .
{ وكل } يعني: الشمس والقمر والنجوم { في فلك يسبحون } .
قال ابن عباس: يَجْرُون (6) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 5.
(2) ... معاني الزجاج (4/288).
(3) ... في الأصل: فعلون. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... تفسير غريب القرآن (ص:365).
(5) ... أخرجه الطبري (23/8)، وابن أبي حاتم (10/3195). وذكره السيوطي في الدر (7/58) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (23/8).(1/361)
وقال عكرمة: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة (1) .
وقال الزجاج (2) : أي: لكل واحد منهما فَلَكٌ يسبح فيه. والمعنى: يسيرون فيه بانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سَبح فيه، ومن ذلك: السِّباحة في الماء.
×ptƒ#uنur لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ اححب
قوله تعالى: { وَآيَةٌ لهم أنا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الفُلْكِ المشْحُون } قرأ نافع
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/19).
(2) ... معاني الزجاج (4/288).(1/362)
وابن عامر: "ذرّيّاتهم"، وقرأ الباقون "ذريّتهم" (1) . وقُدم القول على ذلك (2) .
قال المفضل بن سلمة: الذرية النسل؛ [لأنهم] (3) من ذرأهم الله منهم، والذرية أيضاً: الآباء؛ لأن الذر وقع منهم، فهو من الأضداد. قال: ومنه هذه الآية (4) .
قال ابن عباس: والمشحون: المملوء (5) .
قال أكثر المفسرين: أراد في سفينة نوح عليه الصلاة والسلام (6) ، فنسب الذرية إلى المخاطبين؛ لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذرية الناس (7) .
وقال الفراء (8) : أي: ذرية من هم منهم، فجعلها ذرية لهم وقد سبقتهم.
قال أبان بن عثمان: "الذريّة": الآباء، حملهم الله تعالى في سفينة نوح (9) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/310)، والحجة لابن زنجلة (ص:600)، والكشف (2/217)، والنشر (2/273)، والإتحاف (ص:365)، والسبعة (ص:540-541).
(2) ... في سورة الأعراف عند الآية رقم: 172.
(3) ... في الأصل: لأنه. والتصويب من زاد المسير (7/21).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/21-22).
(5) ... أخرجه الطبري (23/9). وذكره الماوردي (5/19).
(6) ... أخرجه الطبري (23/9)، وابن أبي حاتم (10/3196). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك. ومن طريق آخر عن أبي صالح، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/21).
(8) ... انظر: معاني الفراء (2/379).
(9) ... ذكره الماوردي (5/19).(1/363)
قال الماوردي (1) : سُمي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرء الأبناء.
وقيل: هو حمل الأبناء في أصلاب الآباء حين ركبوا في السفينة (2) ، ومنه قول العباس:
بل نُطفة تَركبُ السَّفينَ ... ... وقد ألجمَ نَسْراً وأهلَهُ الغَرق (3)
{ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } أي: من مثل سفينة نوح، وهي سائر السفن (4) .
يشير إلى خلق الخشب التي تتخذ منه، وإلى هذا المعنى ذهب الضحاك وأبو مالك وأبو صالح (5) .
وقيل: المراد: الإبل، فإنها سفن البر، والمثلية بينهما واقعة في معنى كون كل جنس من هذين يُركب ويحمل عليه، وإلى هذا القول ذهب مجاهد
__________
(1) ... الماوردي (5/19).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/21).
(3) ... البيت للعباس بن عبد المطلب يمدح سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في: اللسان (مادة: نسر)، والقرطبي (13/146)، وزاد المسير (7/21)، وسير أعلام النبلاء (2/103)، والاستيعاب (2/447).
(4) ... ورجح هذا القول ابن جرير الطبري في تفسيره (23/11) قال: وأشبه القولين بتأويل ذلك قول من قال: عنى بذلك السفن، وذلك لدلالة قوله: { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } على أن ذلك كذلك، وذلك أن الغرق معلوم أن لا يكون إلا في الماء، ولا غرق في البر.
(5) ... أخرجه الطبري (23/10)، وابن أبي حاتم (10/3196). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك. ومن طريق آخر عن أبي صالح، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.(1/364)
[و] (1) عكرمة (2) .
وعن ابن عباس والحسن وقتادة كالقولين (3) .
وقيل: المعنى { حملنا ذريتهم } : أولادهم وما يهمهم.
وقيل: نساؤهم؛ لأنهن موضع ذرء الأولاد.
{ في الفلك المشحون } يعني: السفن، { وخلقنا لهم من مثله } أي: من مثل الفلك { ما يركبون } وهي سفائن البر.
وقيل: السفن الصغار، فإن الفُلْك السفن الكبار.
وحكى الماوردي قولاً عجيباً ونسبه إلى علي عليه السلام قال (4) : الذرية: النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفُلك المشحون، قال: فيكون معنى قوله: { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } : أن النساء خُلقن لركوب الأزواج.
قلت: فعلى هذا الجواب يكون المثْل صلة، تقديره: وخلقنا لهم منه ما يركبون.
وَهَبْ أنه قد يحمل تطبيق هذه الآية على هذا القول بهذا الوجه
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... أخرجه الطبري (23/11)، وابن أبي حاتم (10/3197). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) ... أخرجه الطبري (23/11)، وابن أبي حاتم (10/3197). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة والحسن، وعزياه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... الماوردي (5/19).(1/365)
الضعيف؛ فما يصنع بقوله: { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } . أي: لا مغيث لهم، فالصَّريخ هاهنا بمعنى الصراخ به { ولا هم ينقذون } من الغرق.
{ إلا رحمة منا } مفعول له (1) ، على معنى: إلا لرحمة منا ولنمتع بالحياة إلى حين وأجَلٍ يموتون فيه.
#sŒخ)ur قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/204)، والدر المصون (5/487).(1/366)
اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ احذب
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم } قال مجاهد: "ما بين أيديكم": ما مضى من الذنوب، "وما خلفكم": ما يأتي منها (1) .
وقال قتادة: "ما بين أيدكم": من عذاب الله لمن يقدمكم من عاد وثمود، "وما خلفكم": من أمر الساعة (2) .
وقال سفيان: ما بين أيديكم من الدنيا، وما خلفكم من عذاب الآخرة (3) .
وقيل: عكس هذا القول (4) .
فإن قيل: أين جواب "إذا"؟
قلتُ: هو محذوف، تقديره: أعرضوا، ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } .
قال قتادة: آية من كتاب الله (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (23/12)، وابن أبي حاتم (10/3197)، وتفسير مجاهد (ص:535). وذكره السيوطي في الدر (7/61) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (23/12)، وابن أبي حاتم (10/3197). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره الماوردي (5/21)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/23).
(4) ... هو قول ابن عباس والكلبي. ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (7/23).
(5) ... ذكره الماوردي (5/21).(1/367)
وقال غيره: معجزة تدل على صدقك.
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } قال الواحدي (1) : قال مقاتل (2) : قال المؤمنون لكفار قريش: أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوه من حروثهم وأنعامهم لله، فقال الكفار: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } أي: أنرزق من لو يشاء الله رزقه، أي: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا خطأ منهم؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضاً ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من ماله، والمؤمن لا يعترض على المشيئة وإنما يوافق الأمر. هذا تمام كلام الواحدي.
وقال قتادة: هذا قول الزنادقة (3) .
قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة (4) .
وقال الحسن: هذا قول اليهود (5) .
وقوله تعالى: { إن أنتم إلا في ضلال مبين } يحتمل وجوهاً:
__________
(1) ... الوسيط (3/515).
(2) ... تفسير مقاتل (3/88).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3197). وذكره السيوطي في الدر (7/60) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/37).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (10/3197). وذكره السيوطي في الدر (7/61) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/368)
أحدها: أنه من تمام كلامهم للمؤمنين. قاله قتادة (1) .
والثاني: أنه إخبار من الله تعالى وحكم عليهم بالضلال حيث ردّوا على المؤمنين هذا الجواب (2) .
الثالث: أنه حكاية قول المؤمنين.
tbqن9qà)tƒur مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ اخةب
{ ويقولون } على سبيل التكذيب والاستهزاء: { متى هذا الوعد } الذي تعدونا به يا محمد أنت وأصحابك من قيام الساعة، أي: متى إنجازه أو
__________
(1) ... ذكره الماوردي (5/22)، وهو الوجه الراجح عند الطبري (23/12-13).
(2) ... قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا الوجه عن ابن جرير: وفي هذا نظر، والله أعلم (تفسير ابن كثير 3/575).(1/369)
مجيئه { إن كنتم صادقين } تقديره: ما وراءنا ذلك.
{ ما ينظرون إلا صيحة واحدة } قال ابن عباس: يريد: النفخة الأولى في الصور (1) .
{ تأخذهم وهم يخصمون } يختصمون في البيع والشراء في أسواقهم ومجالستهم متشاغلين بمعايشهم ودنياهم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام: "يَخَصِّمُون" بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وروى شجاع عن أبي عمرو اختلاس فتحة الخاء. وقرأ قالون بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد، ومثله حمزة غير أنه خفف. وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد (2) .
وجه القراءة الأولى -وهي أجود القراءات-: أن الأصل: يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها، تنتقل بالإدغام إلى حرف هو أقوى منها، وألقيت حركة التاء على الخاء.
ووجه ما رواه شجاع من الاختلاس: أن الأصل إسكان الخاء، غير أنها حُرّكت لئلا يلتقي ساكنان، والاختلاس كافٍ في ذلك مع ما فيه من مراعاة الأصل الذي هو السكون.
ووجه الثالثة وهي أردؤها: لما فيه من اجتماع الساكنين مراعاة الأصل، فإنها كانت ساكنة قبل الإدغام.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/515).
(2) ... الحجة للفارسي (3/308)، والحجة لابن زنجلة (ص:600)، والكشف (2/217)، والنشر (2/353-354)، والإتحاف (ص:365)، والسبعة (ص:541).(1/370)
ووجه الرابعة -وهي قراءة حمزة-: أنه فعل مستقبل من خَصَمَ يَخْصِم، على معنى: يخصِمُ بعضهم بعضاً، أو يَخْصِمُون مُجَادِلَهم، أي: يغلبونه، وحَذْفُ المفعول كثير في التنزيل.
ووجه القراءة الخامسة: أنه اجتمع ساكنان بعد الإدغام كسرت الخاء ولم ينقل إليها حركة التاء.
وقرأتُ لعاصم من بعض طرقه: "يِخِصِّمُون" بكسر [الياء] (1) والخاء (2) ، وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين والياء للاتباع.
قوله تعالى: { فلا يستطيعون توصية } قال قتادة: أعجلوا عن ذلك (3) ، { ولا إلى أهلهم } أي: من أسواقهم وغيرها { يرجعون } .
y‡دےçRur فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا
__________
(1) ... في الأصل: التاء. وانظر: المصادر التالية.
(2) ... انظر هذه القراءة في زاد المسير (7/25)، وفي الدر المصون (5/487).
(3) ... أخرجه الطبري (23/15)، وابن أبي حاتم (10/3198). وذكره السيوطي في الدر (7/61) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/371)
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اخحب
وقد سبق القول في "الصور" في الأنعام، وفسرنا النسلان في سورة الأنبياء (1) .
{ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } قال المفسرون (2) : إنما قالوا ذلك؛ لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين، فإذا عاينوا أهوال يوم القيامة دعوا بالويل، فتقول لهم الملائكة: هذا وعد الرحمن، أي: على ألسنة الرسل إنكم تبعثون بعد الموت للجزاء.
وقال قتادة: أول الآية للكافرين وآخرها للمؤمنين، قال الكفار: { يا ويلنا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 96.
(2) ... أخرجه الطبري (23/16). وذكره الواحدي في الوسيط (3/516).(1/372)
من بعثنا من مرقدنا } ، وقال المسلمون: { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } (1) .
و"هذا": مبتدأ، "ما وعد": خبره، و"ما": مصدرية، على معنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، أو موصولة، والتقدير: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدق المرسلون فيه (2) .
وقيل: "هذا": صفة للمرقد، و"ما وعد": خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: ما وعد الرحمن وحق عليكم (3) .
قوله تعالى: { فاليوم لا تظلم... الآية } حكاية ما يقال لهم.
¨bخ) أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى إ7ح !#u'F{$# مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/516)، والسيوطي في الدر (7/63) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: التبيان (2/204)، والدر المصون (5/488).
(3) ... انظر: التبيان (2/204)، والدر المصون (5/488).(1/373)
(57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ اخرب
قوله تعالى: { في شُغُل } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بضم الغين، والباقون بإسكانها (1) ، وهما لغتان.
وقرأ أبو جعفر: "فَكِهُون" بغير ألف (2) .
والمراد بالشُّغُل: افتضاض الأبكار؛ في قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وعامة المفسرين (3) .
وقال ابن عباس: في افتضاض الأبكار وضَرْب الأوتار (4) .
وقال إسماعيل بن أبي خالد: في شغل مما يَلْقَى أهل النار (5) .
__________
(1) ... الحجة لابن زنجلة (ص:601)، والكشف (2/219)، والنشر (2/216)، والإتحاف (ص:365)، والسبعة (ص:542).
(2) ... النشر (2/354)، والإتحاف (ص:366).
(3) ... أخرجه الطبري (23/18). وذكره السيوطي في الدر (7/64) وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن ابن مسعود وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر. ومن طريق آخر عن عكرمة وقتادة، وعزاه لعبد بن حميد.
(4) ... أخرج الطرف الأول منه: الطبري (23/18). وذكره الماوردي (5/24). وذكر السيوطي في الدر (7/65) الطرف الثاني منه، وعزاه لابن أبي حاتم. ثم قال السيوطي: قال أبو حاتم: هذا خطأ من السمع، إنما هو افتضاض الأبكار. قال ابن الجوزي في زاد المسير (7/27): ولا يثبت هذا القول.
(5) ... أخرجه الطبري (23/18). وذكره الماوردي (5/24).(1/374)
والفَاكِه والفَكِه: المتنعِّم المتلذِّذ، ومنه: الفاكهة؛ لأنه يتلذّذ بها، ومنه: الفكاهة؛ وهي المزاحة.
وقال الزجاج (1) : "فاكِهُون وفَكِهُون" بمعنى: فرحون.
قال الفراء (2) : الفاكِه والفَكِه بمعنًى، كالحاذر والحذر.
وقال أبو عبيدة (3) : الفَكِه: الذي يتفكَّه بالطعام، والفَاكِه: ذو الفاكهة.
{ هم وأزواجهم في ظلال } جمع ظُلَّة؛ كعُلْبَة وعِلاَب، وبُرْمَة وبِرَام.
وقرأ حمزة والكسائي: "ظُلَلٍ" بضم الظاء من غير ألف، جمع ظُلَّة (4) .
قال مقاتل (5) : في أكنان القصور.
وقد سبق ذكر الأرائك في الكهف (6) .
فصل
في قوله تعالى: { هم } : مبتدأ، { وأزواجهم } : معطوف عليه، { فاكهون } : خبره وهو مقدم عليه، و { في ظلال } من صلة "فاكهين"،
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/291).
(2) ... معاني الفراء (2/380).
(3) ... مجاز القرآن (2/163).
(4) ... الحجة للفارسي (3/309)، والحجة لابن زنجلة (ص:601)، والكشف (2/219)، والنشر (2/355)، والإتحاف (ص:366)، والسبعة (ص:542).
(5) ... تفسير مقاتل (3/89).
(6) ... عند الآية رقم: 31.(1/375)
و { متكئون } خبر آخر (1) .
وقيل: الخبر: "متكئون"، فيكون الوقف على قوله تعالى: { فاكهون } .
وعلى الأول يجوز أن يكون خبر إنّ من قوله تعالى: { إن أصحاب الجنة } الظرف الذي هو في "شُغُل"، والتقدير: إن أصحاب الجنة بايتون في شُغُل اليوم، ثم يبتدئ: { فاكهون هم وأزواجهم } أي: هم [وأزواجهم] (2) فاكهون في ظلال متكئون على الأرائك.
وعلى الثاني خبر إن: "فاكهون"، أي: فاكهون في شغل متكئون، من صلة "فاكهين".
قوله تعالى: { ولهم ما يدعون } أي: ما يتمنون ويشتهون.
قال الزجاج (3) : هو مأخوذ من الدعاء. والمعنى: كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم.
{ سلام } بدل من "ما" (4) . المعنى: لهم ما يتمنونه سلام، أي: هذا مُنى أهل الجنة أن يُسلّم الله تعالى عليهم.
و { قولاً } مصدر مؤكد لما قبله.
أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد الواحدي، أخبرنا أحمد بن محمد
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/489).
(2) ... في الأصل: وزواجهم.
(3) ... معاني الزجاج (4/292).
(4) ... انظر: التبيان (2/204)، والدر المصون (5/489).(1/376)