{ ينزع عنهما لباسهما } وهو النور، في قول ابن عباس (1) .
ولباس التقوى، في قول مجاهد (2) .
وذكر القاضي أبو يعلى: أنه كان من ثياب الجنة (3) . وأضيف الإخراج والنزع إلى الشيطان؛ لكونه السبب في ذلك.
وقوله: "ينزع" في محل الحال (4) ، { ليريهما سوآتهما } أي: يرى كل واحد منهما سوأة صاحبه.
ثم حذرهم كيده فقال: { إنه يراكم هو وقبيله } يعني: جنوده من الشياطين، { من حيث لا ترونهم } .
قال ابن عباس: جعلهم الله يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم (5) .
قال قتادة: والله إن عدواً يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة، إلا من عصمه الله (6) .
__________
(1) ... زاد المسير (3/184).
(2) ... أخرجه الطبري (8/152)، وابن أبي حاتم (5/1460). وذكره السيوطي في الدر (3/436) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... زاد المسير (3/184).
(4) ... انظر: التبيان للعكبري (1/271)، والدر المصون (3/255).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/360)، وزاد المسير (3/184).
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1460). وانظر: الوسيط (2/360). وذكره السيوطي في الدر (3/436) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ.(1/127)
وقال ذو النون المصري: إن كان هو يراك من حيث لا تراه، فإن الله يراه من حيث لا يرى الله، فاستعن بالله عليه، فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً (1) .
{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } قال الزجاج (2) : سلَّطناهم عليهم يزيدون في غَيِّهم.
#sŒخ)ur فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (2/8).
(2) ... معاني الزجاج (2/329).(1/128)
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ اجةب
قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة } يعني: ما عظم قبحه من الذنوب.
وقال ابن عباس: يريد: طوافهم بالبيت عراة رجالاً ونساءً (1) .
وقال عطاء: يريد: الشرك (2) .
{ قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } فاعتذروا بتقليد آبائهم، وهو جهل محض، ونسبوا الأمر بها إلى الله، وهو كذب صراح براح؛ لأن الله
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/154). وذكره السيوطي في الدر (3/436) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/360)، وزاد المسير (3/185).(1/129)
عز وجل لا يأمر بالقبيح.
{ قل } لهم يا محمد راداً عليهم ما اختلقوه ونسبوه إلى الله، { أمر ربي بالقسط } وهو العدل المستحسن عند ذوي البصائر لا بالفاحشة القبيحة، { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } .
قال مجاهد والسدي وابن زيد: وجهوا وجوهكم حيث كنتم إلى الكعبة (1) .
وفي هذا القول نظر؛ لأن الآية مكية، والأمر بالتوجه إلى الكعبة كان على رأس ستة عشر شهراً في المدينة، وقد ذكرنا ذلك في البقرة.
وقال الربيع: المعنى: اجعلوا سجودكم لله خالصاً دون ما سواه من الآلهة (2) .
{ وادعوه } أي: اعبدوه، { مخلصين له الدين } أي: مفردين له الطاعة والعبادة، { كما بدأكم تعودون } .
قال ابن عباس: كما بدأكم سعداء وأشقياء، فكذلك تبعثون (3) .
وقال في رواية أخرى: كما خلقكم بقدرته كذلك يعيدكم (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/155)، وابن أبي حاتم (5/1462)، ومجاهد (ص:234). وانظر: الوسيط (2/361)، وزاد المسير (3/185). وذكره السيوطي في الدر (3/437) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) ... أخرجه الطبري (8/155). وانظر: الماوردي (2/216)، وزاد المسير (3/185).
(3) ... أخرج نحوه الطبري (8/156)، وابن أبي حاتم (5/1462). وانظر: الماوردي (2/217)، وزاد المسير (3/185). وذكر نحوه السيوطي في الدر (3/437) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (8/158). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/186).(1/130)
فيكون احتجاجاً على منكري الإعادة بابتداء الخلق. وهذا قول الحسن ومجاهد واختيار الزجاج (1) .
{ فريقاً هدى } أرشد إلى دينه، { وفريقاً حق عليهم الضلالة } بالإرادة السابقة والكلمة الأزلية.
وانتصاب "فريقاً" على الحال من الضمير في "تعودون" (2) ، تقديره: تعودون مختلفين مهتدين وضالين.
ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب: "تعودون فريقين فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة" (3) .
وجائز أن يكون "فريقاً" الأولى منصوباً بـ "هَدَى"، والثاني بفعل مضمر يدل عليه ما بعده (4) ، تقديره: وأضل فريقاً حَقَّ عليهم الضلالة.
فعلى هذا؛ يجوز الوقف على "تعودون". وعلى الأول؛ لا يجوز.
* يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/331)، والوسيط (2/361).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/271)، والدر المصون (3/259).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/290)، والدر المصون (3/259).
(4) ... انظر: التبيان للعكبري (1/271)، والدر المصون (3/259).(1/131)
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ(1/132)
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ اججب
قوله تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } أخرج مسلم في صحيحه من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول: من يعيرني تطوافاً؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليومَ يبدُو بعضُهُ أو كُلُّه ... ... وما بَدَا منْه فلا أُحِلُّه (1)
فنزلت: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } " (2) .
قال طاووس: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عرياناً، ففي ذلك قال: { خذوا زينتكم } (3) .
قال مجاهد: ما وارى عورتك، ولو عباءة (4) .
__________
(1) انظر البيت في: البحر (4/291)، والقرطبي (7/189)، والطبري (8/154، 160، 161)، وزاد المسير (8/186). والقائلة هي: ضباعة بنت عمرو بن محصن النجّارية.
(2) ... أخرجه مسلم (4/2320 ح3028).
... وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:228)، ولباب النقول (ص:105)، وتفسير الطبري (8/160).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1467). وانظر: الوسيط (2/363). وذكره السيوطي في الدر (3/440) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (8/161)، وابن أبي حاتم (5/1465). وذكره السيوطي في الدر (3/439) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/133)
والمعنى: استروا عوراتكم عند كل مسجد في الطواف والصلاة.
وأخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله العطار وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة الصوفي قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن شعيب، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبدالرحمن، أن أبا هريرة قال: "بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" (1) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب.
قوله تعالى: { وكلوا واشربوا } كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم دسماً، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً، فقال المسلمون: نحن أحق بذلك، فأنزل الله: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } بتحريم ما أحل الله لكم (2) .
وقيل: لا تسرفوا بأكل الحلال فوق الحاجة (3) .
ويروى: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن حسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء؟ فقال علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: { وكلوا واشربوا ولا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1160 ح3006)، ومسلم (2/982 ح1347).
(2) ... انظر: الوسيط (2/363)، وأسباب النزول للواحدي (ص:228)، وزاد المسير (3/187).
(3) ... وهو قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (2/333).(1/134)
تسرفوا } فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال علي: قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: وما هي؟ قال: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كل بدن بما اعتاد". فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً (1) .
قوله تعالى: { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } نزلت في إنكار المشركين على المسلمين لبس الثياب في الطواف، وأكل الطيبات من اللحم والألبان والأدهان في زمن الإحرام، { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } يعني: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم.
وإنما اقتصر على ذكر المؤمنين؛ تنبيهاً على أنها خلقت لهم بطريق الأصالة، والكفار في حكم التبعية، ألا ترى إلى قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } إلى قوله: { إن الله هو الرزاق } [الذاريات:56-58]، يريد: أنه خلقهم للتوحيد ورزقهم.
وقال الزجاج (2) : المعنى: قل هي حلال للذين آمنوا.
قرأ نافع: "خالصةٌ" بالرفع، وقرأ الباقون: بالنصب (3) .
فمن رفع جعله خبراً بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب، فالمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في: زاد المسير (3/188).
(2) ... معاني الزجاج (2/333).
(3) ... الحجة للفارسي (2/234)، والحجة لابن زنجلة (ص:281)، والكشف (1/461)، والنشر (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:223)، والسبعة في القراءات (1/280).(1/135)
ومن نصب فعلى الحال، على أن العامل في قولك "في الحياة الدنيا" في تأويل الحال، كأنك قلت: قل هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. هذا كلام الزجاج.
وقال أبو علي (1) : من قرأ "خالصةٌ" بالرفع، جعله خبراً للمبتدأ الذي هو "هي"، ويكون "للذين آمنوا" تثبيتاً للخلوص، واللام متعلقة بالخبر الذي هو "خالصة". ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، ويكون حينئذ في المجرور الذي هو خبر ذكره يعود إلى المبتدأ (2) .
ومن نصب "خالصةً" كان حالاً مما في قوله: "للذين آمنوا"؛ لأن فيه ذكراً يعود إلى المبتدأ الذي هو "هي"، فـ"خالصةً" حال عن ذلك الذكر، والعامل في الحال مافي اللام من معنى الفعل، واللام على هذا متعلقة بمحذوف، وفيها الذكر الذي كان يكون في المحذوف لو ذكر، وليست متعلقة بالخلوص، كما تعلقت به في قول من رفع.
وقال ابن الأنباري: "خالصةً" نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها (3) .
قال الشاعر:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/235).
(2) ... انظر: مشكل إعراب القرآن (1/288).
(3) انظر قول ابن الأنباري في: زاد المسير (3/189)(1/136)
تقولُ ابنتي لما رأتْنِي شَاحِباً ... كأنَّكَ يحميكَ الطعامَ طَبيب
تَتَابُعُ أحْداثٍ تَخَرَّمْنَ إخْوتي ... فشيَّبْن رأسي والخُطُوبُ تُشِيب (1)
{ كذلك نفصل الآيات } نبيّنها ونوضحها، { لقوم يعلمون } يعقلون سرّ الله ما أحل وحرم، فأما من تولى الشيطان وأطاعه، فهو بمعزل عن هذا البيان الواضح.
قوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش } هي جمع: فاحشة. وقد ذكرنا أن الفاحشة: ما اشتد قبحه من الذنوب، فيدخل في ذلك جميع ما ذكره المفسرون من الزنا، ونكاح ذوات المحارم، وكشف العورة في الطواف والصلاة.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن بن روزبة قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل، عن عبدالله قال: قلت: أنت سمعت هذا من عبدالله؟ قال: نعم، ورفعه قال: "لا أحد أغْير من الله، فلذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، فلذلك مدح نفسه" (2) .
وأخبرنا به عالياً أبو علي بن عبدالله المذكر في كتابه، أخبرنا أبو القاسم
__________
(1) ... البيتان لكعب بن سعد الغنوي، يرثي أخاه. وهما في: زاد المسير (3/189).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1699 ح4361).(1/137)
هبة الله بن الحصين، أخبرنا الحسن بن علي الواعظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان، أخبرنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث إلا أنه قال: "أحب إليه المدح" (1) . أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
قوله تعالى: { والإثم والبغي بغير الحق } قال مجاهد: الإثم: المعاصي كلها (2) .
وقال الحسن وعطاء: الخمر (3) .
وأنشدوا قول الشاعر:
نَشْرَبُ الإِثْمَ بالصُّواعِ جِهارا ... ونرى المُتْك بيننا مُسْتَعَارا (4)
وقول الآخر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ (5)
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2002 ح4922)، ومسلم (4/2114 ح2760)، وأحمد (1/381 ح3616).
(2) ... أخرجه الطبري (8/166). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/191).
(3) ... الماوردي (2/220) بلا نسبة، والوسيط (2/364) عن عطاء، وزاد المسير (3/191) عن الحسن وعطاء.
(4) ... لم أهتد إلى قائله، وهو في: القرطبي (7/201)، وزاد المسير (3/191)، وروح المعاني (12/228)، ولسان العرب (مادة: أثم). والصواع: هو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه (انظر: اللسان، مادة: أثم).
... وأصل المتك: الزُّماوَرْد. وقيل: الأُتْرُجّ (اللسان، مادة: متك).
(5) ... قال ابن الجوزي في زاد المسير (3/191): قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفاً في شعر من يحتج بشعره. انظر: الغريبين (1/18)، وتهذيب اللغة (15/161)، والدر المصون (1/285)، والبغوي (2/158)، والقرطبي (7/200)، وزاد المسير (3/191)، وروح المعاني (8/112)، ولسان العرب (مادة: أثم)، والماوردي (2/220).(1/138)
وأنكر ثعلب وابن الأنباري ذلك، وقالا (1) : لم تسم العرب الخمر إثماً قط.
فإن قيل: هل بين قول الحسن وعطاء: الإثم الخمر، وبين قول ثعلب وابن الأنباري تناقض؟
قلت: إن صح قول ثعلب وابن الأنباري أن العرب لم تسم الخمر إثماً قط، فيكون قول الحسن وعطاء تفسيراً لما به حصل الإثم، لا تسميةً للخمر بالإثم، وحينئذ لا تناقض بين القولين، فإن المنكر إنما هو كون العرب وضعت لها الاسم، لا أنها يحصل بشربها الإثم (2) .
والبغي: الكبر والظلم.
فإن قيل: إذا كان الفواحش ما اشتد قبحه من الذنوب كما ذكرت، والإثم جميع المعاصي كما حكيت عن مجاهد، فما باله خص البغي والشرك والقول على الله بغير علم بالذكر؟
قلت: خصَّ هذه الجنايات بالذِّكر وإن اندرجت تحت عموم اللفظ؛ لعظم إثمها وشدة قبحها وتضمنها فرط الاجتراء على الله وقبح الافتراء عليه، فصارت هذه الجنايات بسبب زيادة قبحها وضررها كأنها جنس آخر، فلذلك خصصت بالذكر.
__________
(1) ... انظر: الوسيط (2/364)، ولسان العرب (مادة: أثم).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/191).(1/139)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ(1/140)
كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ اجذب
قوله تعالى: { ولكل أمة أجل } أي: وقت معلوم لهلاكهم، { فإذا جاء أجلهم } الذي لهم { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } المعنى: لا يستأخرون قليلاً ولا كثيراً، وإنما خصَّ الساعة بالذكر؛ لأنها أقل أسماء الأوقات في غالب استعمال الناس.
وقيل: إنها نزلت في استعجالهم العذاب.
قوله تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } سبق الكلام على "إما"(1/141)
وجواب الشرط في سورة البقرة عند قوله: { فإما يأتينكم مني هدى } (1) .
وما بعده ظاهر ومفسر إلى قوله: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي: ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الخير والشر والأرزاق والأعمار وغير ذلك، { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، المعنى: أولئك ينالون نصيبهم ويستوفونه إلى وقت وفاتهم، وهذه "حتى" هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، و"يتوفونهم" حال من "الرسل" (2) .
والمراد بالتوفي: الموت. وقيل: الحشر إلى النار.
فعلى الأول؛ المراد بالرسل: مَلَك الموت وأعوانه، وعلى الثاني: ملائكة العذاب.
{ قالوا } يعني: الرسل على وجه التوبيخ لهم، { أينما كنتم تدعون من دون الله } من الآلهة، { قالوا ضلوا عنا } أي: غابوا فلا نراهم، وبطل ما كنا نرجوه من النفع بهم، فاعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء حين لا ينفعهم الاعتراف، { وشهدوا على أنفسهم } عند معاينة الموت. وقيل: لدى الحشر، { أنهم كانوا كافرين } .
tA$s% ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ
__________
(1) عند الآية رقم: 38.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/264-265).(1/142)
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ اجزب
{ قال ادخلوا في أمم } أي قال الله للكفار: "ادخلوا في أمم" في محل(1/143)
الحال، أي: كائنين في جملة أمم أو مع أمم (1) ، { قد خلت } أي: سبقتكم وتقدمتكم في الزمان، { من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها } التي اقتدت بها في الضلال. والمعنى: لعنت أختها في الدين لا في النسب، { حتى إذا اداركوا فيها جميعاً } أصله: "تَدَاركُوا" فأدغمت التاء في الدال، ثم اجتلب لها ألف الوصل توصلاً إلى النطق بالساكن، والمعنى: حتى إذا تلاحقوا واجتمعوا في النار، { قالت أخراهم } آخرهم دخولاً النار وهم الأتباع { لأولاهم } الرؤساء القادة الذين دخلوا النار قبلهم، والمعنى: لأجل أولاهم؛ لأن قولهم لله لا لأولاهم، { ربنا هؤلاء أضلونا } .
قال ابن عباس: لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلهاً (2) .
{ فآتهم عذاباً ضعفاً } أي: مضاعفاً { من النار } ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، { قال لكل ضعف } أي: عذاب مضاعف (3) ، { ولكن لا تعلمون } .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/266).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/366)، وزاد المسير (3/195).
(3) ... الضعف على ما قال أبو عبيد، ونص عليه الشافعي في الوصايا: مِثْل الشيء مرة واحدة. وعن الأزهري: أن هذا المعنى عرفي، والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى: المثل إلى ما زاد، ولا يقتصر على مثلين، بل هو غير محصور، واختاره هنا غير واحد. وقال الراغب: الضعف بالفتح مصدر، وبالكسر اسم كالثني، والثني هو الذي يثنيه، ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله، نحو أن يقال: ضعف عشرة، وضعف مائة، فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف، وعلى ذلك قول الشاعر:
... ... جزيتك ضعف الود لما اشتكيته ... ... وما أن جزاك الضعف من أحد قبلي
... وإنما قيل: اعطه ضعفي واحد، اقتضى ذلك الواحد ومثليه، وذلك ثلاثة، لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه. هذا إذا كان الضعف مضافاً، فإذا لم يكن مضافاً فقلت: الضعفين، فقد قيل: يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر، فيقتضي ذلك اثنين، لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر، فلا يخرجان منهما. (انظر: روح المعاني 8/116)، ولسان العرب (مادة: ضعف)، وترتيب القاموس (3/26-27)، والصحاح (4/1390-1391)، ومفردات الراغب (ص:438) وما بعدها، ومجاز القرآن (1/214).(1/144)
قرأ أبو بكر عن عاصم: "يعلمون" بالياء. وقرأ الباقون بالتاء على المخاطبة (1) .
فمن قرأ بالتاء فعلى معنى: لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب.
وقال الزجاج (2) : يجوز أن يكون -والله أعلم-: ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا [مقدار] (3) ذلك.
ومن قرأ: "يعلمون" فعلى معنى: لا يعلم كل فريق منهم ما للآخر من العذاب.
{ وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } يقتضي في حقكم التخفيف بالنسبة إلينا والتضعيف علينا، كأنهم التمسوا التسوية في العذاب؛ لاشتراكهم في سببه.
قال الله تعالى: { فذوقوا العذاب } أيها القادة والأتباع، { بما كنتم
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/236)، والحجة لابن زنجلة (ص:281)، والكشف (1/462)، والنشر (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:224)، والسبعة في القراءات (1/280).
(2) ... معاني الزجاج (2/337).
(3) ... في الأصل: بمقدار. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/145)
تكسبون } من الكفر والتكذيب.
ويجوز أن يكون هذا من تمام قول القادة للأتباع.
¨bخ) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ احتب
قوله تعالى: { لا تفتح لهم أبواب السماء } قرأ حمزة والكسائي: "يُفْتَحُ"(1/146)
بالياء والتخفيف (1) ، وقرأ أبو عمرو: بالتاء، لتأنيث الأبواب، وبالتخفيف، ووافقه الباقون في القراءة بالتاء، لكنهم شددوا التاء. ومن قرأ بالياء؛ فلأن تأنيث الأبواب غير حقيقي (2) .
والمعنى: لا يفتح لأعمالهم ولدعائهم ولأرواحهم، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ينتهى بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى الأرض" (3) .
وقد قيل: المعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن الجنة في السماء، ويدل عليه قوله: { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } . وقرئ بالحركات الثلاث على السين، فالفتح قراءة الأكثرين، والضم قراءة ابن
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/236)، والحجة لابن زنجلة (ص:282)، والكشف (1/462)، والنشر (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:224)، والسبعة في القراءات (ص:280).
(2) ... حجة من قرأ بالتاء: قوله تعالى: { وفُتِحَتْ أبوابها } ذهبوا إلى جماعة الأبواب. وحجة من قرأ بالياء: هي أنه لما فصل بين المؤنث وبين فعله بفاصل صار الفاصل كالعوض من التأنيث والتذكير، والتأنيث في هذا النوع قد جاء بهما التنزيل؛ فمن الأول قوله تعالى: { لن ينالَ الله لحومُها ولا دماؤها } ، ومن التأنيث قوله تعالى: { يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه } ولو ذكّر أو أنّث فعل اللحوم كان جائزاً حسناً، فأما التشديد فإنه من التفتح مرة بعد مرة أخرى، وهذا هو المختار لأنه عن جماعة، وحجتهم قوله: { مُفَتَّحةً لهم الأبواب } ولم يقل: (مفتوحة)، وقال: { وغَلَّقت الأبواب } ، ومن خفف دل على المرة الواحدة.
(3) ... أخرجه أحمد (2/364 ح8754).(1/147)
مسعود وأبي رزين وأبي مجلز وقتادة، والكسر قراءة أبي عمران وأبي نهيك، ورواه الأصمعي عن نافع (1) .
قال الزجاج (2) : الخِياط: الإبرة، وسُمُّها: ثقبها.
وقال الثعلبي (3) : الخياط والمخيط: الإبرة.
قلت: وقد قرأ "المِخْيَط" جماعة، منهم: ابن مسعود وأبو رزين وأبو مجلز (4) .
وقال الواحدي (5) : الخِيَاط: ما يُخاط به.
والمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في ثقب الإبرة، أي: حتى يكون ما لا يكون من ولوج الجمل -الذي يضربون به المثل في عظم الأجرام وامتداد الأجسام، حتى قال الشاعر:
.......................... ... ... جِسْمُ الجِمَالِ وأَحْلامُ العَصَافِيرِ (6)
وسمّوا الرجل العظيم الخَلْق: جُمالياً- في خَرْت الإبرة الذي يضربون به المثل في ضيق المسلك، فيقولون: أضيق من خُرْت الإبرة. وقالوا للماهر في
__________
(1) ... انظر هذه القراءات في: زاد المسير (3/198)، والدر المصون (3/270).
(2) ... معاني الزجاج (2/338).
(3) ... الثعلبي (4/233).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/198)، والدر المصون (3/270).
(5) ... الوسيط (2/367).
(6) ... هذا عجز بيت لحسان بن ثابت. ورواية الديوان:
... ... لا عيب في القوم من طول ولا عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
... انظر: الكتاب (2/74)، والخزانة (4/72)، والدر المصون (3/269).(1/148)
الدلالة: خِرِّيت؛ لاهتدائه في المضائق المشتبهة، المشبّهة بأخرات الإبر (1) .
وقرأت على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري رحمهما الله لعاصم من رواية أبان عنه: "الجُمّل" بضم الجيم وتشديد الميم، وبها قرأ جماعة، منهم: ابن عباس في رواية شهر بن حوشب عنه، وأبو رزين، ومجاهد، وابن محيصن (2) ، وهو: القَلْس الغليظ. ورجح ابن عباس هذه القراءة؛ لما بين الحبل وسم الخياط من الارتباط.
وقرأ قتادة: "الجُمَل" بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس (3) .
وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة: "الجُمْل" بضم الجيم وسكون الميم (4) .
قال ابن الأنباري: الجُمَل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجَمَل، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجمال قيل في جمعها جمل، كما يقال حُجْرة وحُجَر، وظُلْمة وظُلَم. وكذلك من قرأ الجُمْل يسوغ له أن يقول: الجُمْل بمعنى الجَمَل، وأن يقول الجُمْلُ جمع جملةٍ، مثل: بسرة وبسر (5) .
__________
(1) ... حَرَت الشيء يَحْرُته حَرْتاً: قطعه قطعاً مستديرة. قال الأزهري: وأظنه تصحيفاً، والصواب: خَرَتَ الشيء يَخْرته، بالخاء. والخُرتة: هي الثقب المستدير (لسان العرب، مادة: حرت).
(2) ... انظر هذه القراءة في: إتحاف فضلاء البشر (ص:224)، وزاد المسير (3/197-198)، والدر المصون (3/270).
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/197-198)، والدر المصون (3/270).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/198)، والدر المصون (3/270).
(5) ... زاد المسير (3/198).(1/149)
وقرأ ابن عباس في رواية عطاء بن السائب (1) والضحاك والجحدري: بضم الجيم والميم والتخفيف (2) .
وقال ابن جني (3) : الجُمَّلُ بالتثقيل، والجُمُل بالتخفيف، فكلامهما: الحَبْل الغليظ.
وأما الجُمْل فيجوز أن يكون جمع جمَل كأَسَدٍ وأُسْد، وكذلك المضموم الميم أيضاً كأُسُد.
وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو [السَّمَّال] (4) : "الجَمْل" بفتح الجيم وبسكون الميم خفيفة (5) .
قال ابن جني (6) : بعيد أن يكون مخففاً من المفتوح؛ لخفة الفتحة، وإن كان قد جاء عنهم قولهم:
وما كلُّ مُبْتاعٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ ... ... بِراجِعِ ما قد فاته بِرِدَاد (7)
__________
(1) ... في زاد المسير: عطاء بن يسار.
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/198)، والدر المصون (3/270).
(3) ... المحتسب (1/249).
(4) في الأصل: السماك. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: لسان الميزان (4/475)، والمغني في الضعفاء (2/789).
(5) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/197-198)، والدر المصون (3/270).
(6) ... المحتسب (1/249).
(7) ... البيت للأخطل. انظر: ديوانه (ص:18)، واللسان (مادة: سلف)، وشرح شواهد الشافية (ص:18-21).
... والمبتاع: المشتري. والصفق: مصدر صفق البائع؛ إذا ضرب بيده على يد صاحبه عند المبايعة. والمراد: إيجاب البيع. وضمير (صفقه) للمبتاع أو المغبون. والرِّداد -بكسر الراء-: مصدر راد البائع صاحبه؛ إذا فاسخه البيع.(1/150)
وقال شيخنا أبو البقاء: الأحسن أن يكون لغة، والقراءة المشهورة أرجح في النقل وأوضح في نظر العقل.
قال الزجاج (1) : سئل ابن مسعود عن الجمَل؟ قال: هو زوج الناقة، كأنه استجهل من سأله عن الجَمَل.
{ وكذلك } أي: ومثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي المجرمين } الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها.
قوله تعالى: { لهم من جهنم مهاد } أي: فراش، وهو ما يمهد، أي: يفرش ويبسط، { ومن فوقهم غواش } أي: أغطية من النار، وهو جمع غاشية.
قال ابن عباس: هي اللحف (2) .
وقال عكرمة: ما يغشاهم من فوقهم من الدخان (3) .
وقيل: غاشية فوق غاشية من النار (4) . وفي هذا إشعار بإحاطة العذاب بهم.
وفي حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار وأطباق من نار فيطبقونها على من بقي فيها، فيسمرونها بتلك المسامير، ثم ينساهم الجبار عز وجل على عرشه من رحمته" (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/338).
(2) ... زاد المسير (3/199). وذكره السيوطي في الدر (3/457) وعزاه لابن المنذر.
(3) ... زاد المسير (3/199).
(4) ... وهو قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (2/338)، وزاد المسير (3/199).
(5) ... ذكره السيوطي في الدر (5/64-65) وعزاه لابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة من حديث طويل عن علي بن أبي طالب.(1/151)
قوله تعالى: { وكذلك نجزي الظالمين } يعني: المشركين.
قال الزجاج (1) : وقوله: "غواش" يزعم سيبويه والخليل جميعاً: أن النون هاهنا عوض من الياء (2) ؛ لأن غواش لا ينصرف، والأصل فيها: "غواشيْ" [بإسكان الياء] (3) والضم، إلا أن الضمة تحذف لثقلها في الياء، فيبقى "غواشي" بسكون الياء، فإذا ذهبت الضمة أُدْخِلَتِ التنوينُ عوضاً منها، كذلك فسّر أصحاب سيبويه، وكأن سيبويه ذهب إلى أن النون عوَضٌ من ذهاب حركة الياء، والياءُ سقطت لسكونها وسكون النون، فإذا وقفت فالاختيار أن تقف بغير ياء فتقول: "غواشٍ"، لتدل أن الياء كانت تحذف في الوصْل، وبعض العرب إذا وقف على "غواش" وقف بإثبات الياء، ولا أرى ذلك في القرآن، لأن الياء محذوفة في المصحف.
ڑْïد%©!$#ur آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/338-339).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/273)، والدر المصون (3/270).
(3) ... في الأصل: ياهذا بالياء. والتصويب من معاني الزجاج (2/338).(1/152)
فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ احجب
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها } معناه: عملوا الصالحات بقدر طاقتهم؛ لأن معنى الوسع ما تقدر عليه.
قوله: { أولئك أصحاب الجنة } "أولئك" رفع بالابتداء، و"أصحاب(1/153)
الجنة": خبره (1) . والجملة خبر "الذين"، ويرجع على "الذين" اسم الإشارة، أعني: "أولئك".
قوله تعالى: { ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي: أزلنا الأحقاد التي كانت كامنة في صدورهم. قيل: المراد بذلك أحقاد الجاهلية أذهبها الله بالإسلام.
والأظهر في التفسير: أن المراد بذلك: الإعلام بصفة أهل الجنة. وإليه أشار علي عليه السلام بقوله، فيما أخبرنا به الثقة العدل أبو القاسم عبدالله بن الحسين بن رواحة (2) بالموصل، أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصبهاني بثغر الإسكندرية، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحسين بن المهند بسلماس، أخبرنا جدي القاضي أبو بكر أحمد بن جرير بن خميس السلماسي، أخبرنا أبي -جرير بن أحمد-، حدثنا أبو سعيد عمران بن موسى بن هلال التميمي، حدثنا علي القصر، حدثنا عبدالله بن عمر بن أبان، حدثنا عبثر، عن مفضل بن مهلهل، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: قال علي رضي الله عنه: "إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله: { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/273)، والدر المصون (3/271).
(2) ... عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن رواحة، أبو القاسم الأنصاري الحموي، سمع على الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي كتاب "السيرة النبوية" لابن إسحاق، وحدث، سمع منه الحافظ عبد العظيم المنذري، توفي سنة ست وأربعين وستمائة في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة، ومولده سنة ستين وخمسمائة بجزيرة مسينى بالمغرب (سير أعلام النبلاء 23/261-263، وذيل التقييد 2/34).(1/154)
على سرر متقابلين } [الحجر:47]" (1) .
وعلى هذا أيضاً أحمل قول علي عليه السلام: "فينا أهل بدر نزلت" (2) .
أخبر الله عنهم بما يؤول أمرهم إليه في الجنة، والصفة التي يكونون عليها، وأخبر عنه بصيغة الماضي لتحقق حصوله.
فإن قيل: على هذا القول جميع أهل الجنة بهذه الصفة، فما وجه اختصاصهم بالذكر؟
قلتُ: لئلا يظنّ ظانّ أو يتوهّم متوهّم أن ما جرى بين هذه السادة الذين هم أفاضل الصحابة من الحروب والتنازع موهن لمراتب فضلهم في الآخرة، وموجب لاستنزالهم عن أعلى منازل الجنة، كما ظن الغواة الغلاة من الرافضة، وإلى ذلك أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وما يدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (3) .
أنبأنا حنبل بن عبد الله بن الفرج، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا القطيعي، حدثنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا روح، عن [سعيد] (4) ، عن قتادة، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/544 ح37821)، والبيهقي في سننه (8/173).
(2) ... أخرجه الطبري (8/183)، وابن أبي حاتم (5/1478). وذكره السيوطي في الدر (3/457) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... أخرجه البخاري (3/1095 ح2845)، ومسلم (4/1941 ح2494).
(4) في الأصل: شعبة. والتصويب من مسند أحمد (3/13)، وسعيد هذا هو ابن أبي عروبة.(1/155)
قنطرة بين الجنة والنار فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزلته في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" (1) . هذا حديث صحيح، انفرد بإخراجه البخاري.
واسم أبي الصديق: بكر بن عمرو.
قرأتُ على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبدالرزاق بن عبدالقادر الجيلي الحنبلي رحمه الله، أخبرتكم شهدة بنت أحمد بن الفرج فأقرَّ به، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد السلام الأنصاري، حدثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني، سمعت أبا القاسم الأبندوني الجرجاني (2) يقول: أخبرني محمد بن سعيد بن هلال الرسعني (3) ، حدثنا المعافى بن سليمان (4) ، حدثنا فليح (5) ، عن هلال بن علي (6) ، عن عبدالرحمن
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2394 ح6170)، وأحمد (3/13 ح11110).
(2) ... عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الجرجاني، أبو القاسم الأبندوني، وآبندون من قرى جرجان، نزل بغداد وحدّث بها، وكان ثقةً ثبتاً، له تصانيف، وكان عسراً في الحديث، مات سنة ثمان وستين وثلاثمائة (تذكرة الحفاظ 3/393-394).
(3) ... محمد بن سعيد بن هلال الرسعني ابن البناء، تُكُلِّم فيه لدخوله في أعمال الظَّلَمَة، وكان يعمل في المتقدم أعمال السلطان من البندر وغيرها، وإلى هذا أشار أبو عروبة بقوله: ليس بمؤتمن في نفسه (ميزان الاعتدال 6/168، والمغني في الضعفاء 2/586).
(4) ... المعافا بن سليمان الجزري، أبو محمد الرسعني، ثقة صدوق، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 11/121-122، وتهذيب التهذيب 10/179، والتقريب ص:537).
(5) ... فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي أو الأسلمي، أبو يحيى المدني، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: فليح لقب، واسمه عبد الملك، صدوق كثير الخطأ، مات سنة ثمان وستين ومائة (تهذيب التهذيب 8/272-273، والتقريب ص:448).
(6) ... هو هلال بن علي بن أسامة، ويقال له: هلال بن أبي ميمونة، العامري المدني، مولى آل عامر بن لؤي، ثقة مشهور. قال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه. مات سنة بضع وعشرين ومائة (سير أعلام النبلاء 5/265-266).(1/156)
بن أبي عمرة (1) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أول زمرة من أمتي تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثْرهم كأحسن كوكب درّي في السماء إضاءة، قلوبهم على قلبٍ واحد، لا تباغض بينهم ولا تحاسد، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين يُرى مخّ سوقهما من وراء العظم" (2) . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح، عن أبيه، وكأنني سمعته من طريق البخاري من أبي الوقت شيخ شيوخنا.
وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين، فيذهب الله تعالى ما في قلوبهم من غل وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين الأخرى فيغتسلون منها، فتشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم (3) .
__________
(1) ... عبد الرحمن بن أبي عمرة عمرو بن محصن الأنصاري النجاري، من أهل المدينة، ثقة كثير الحديث، (تهذيب التهذيب 6/219، والثقات 5/91).
(2) ... أخرجه البخاري (3/1187 ح3081).
(3) ... زاد المسير (3/200).(1/157)
قوله تعالى: { تجري من تحتهم الأنهار } في محل الحال من الضمير "في صدورهم". ويجوز أن يكون إخباراً عن صفة حالهم، فيكون كلاماً مستأنفاً (1) .
{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } قال سفيان الثوري: معناه: الحمد لله الذي هدانا لعملٍ هذا ثوابه (2) .
قال علي عليه السلام: تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كإطافتهم بالحميم جاء من الغَيْبة، ويُبشرونهم بما أَعَدّ الله تعالى لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشرونهنّ فيستخفهن الفرح، فيقمن على أسكفة الباب فيقلن: أنت رأيته أنت رأيته!! قال: فيجيء إلى منزله فينظر إلى أساسه فإذا صخره من لؤلؤ، ثم يرجع بصره، فلولا أن الله ذلّله لذهب بصره، ثم ينظر أسفل من ذلك فإذا هو بالسُّرُر الموضوعة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا: { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } (3) .
وقرأ ابن عامر: "ما كنا" بغير واو (4) ؛ لالتباس القصة بما قبلها.
{ لقد جاءت رسل ربنا بالحق } كلامٌ حملهم عليه سرورهم بما صاروا
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/274)، والدر المصون (3/271).
(2) ... ذكره البغوي (2/161).
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/34-35 ح34004) بأطول منه من حديث عاصم بن ضمرة، والطبري (8/184). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/201).
(4) ... الحجة للفارسي (2/239)، والكشف (1/464)، والنشر (2/269).(1/158)
إليه من الكرامة والنعيم، وإلا فقد كانوا يعلمون ذلك من قبل.
{ ونودوا أن تلكم الجنة } قال الزجاج (1) : "أن" في موضع نصب، وهاهنا الهاء مضمرة، وهي مخففة من الثقيلة. والمعنى: نودوا بأنه تلكم الجنة (2) .
قال (3) : والأجود عندي: أن تكون "أن" في معنى تفسير النداء (4) ، كأن المعنى: ونودوا أن تلكم الجنة، المعنى: قيل لهم: تلكم الجنة. وإنما قال: "تلكم"؛ لأنهم وُعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها. ويجوز أن يكونوا عاينوها فقيل لهم من قبل دخولها، إشارة إلى ما يرونه: تلكم الجنة، كما تقول لما تراه: ذلك الرجل أخوك، ولو قلت: هذا الرجل أخوك، جاز؛ لأن "هذا وهؤلاء" لما قَرُبَ منك، "وذاك وتلك" لما بَعُدَ عنك، رأيته أو لم تره.
{ أورثتموها } قرأ ابن كثير ونافع وعاصم: بالإظهار، وأدغم الباقون (5) ، وكذلك خلافهم في الزخرف (6) . فمن أَظْهَرَ فعلى الأصل، وزاده قوةً؛ تباين
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/340).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/274)، والدر المصون (3/272).
(3) أي: الزجاج.
(4) وهو جيد؛ لأن "أن" المفسّرة تأتي بعد ما فيه معنى القول دون حروفه.
(5) ... فقرؤوا: "أورتموها" وهي قراءة أبي عمرو وابن ذكوان وهشام وحمزة والكسائي. انظر: النشر (2/269)، والحجة للفارسي (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:224)، والسبعة في القراءات (ص:281).
(6) ... في قوله تعالى: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } (آية رقم: 72).(1/159)
مخرجي الثاء والتاء، ومن أدغم؛ فلتقارب المخرجين، وزاده جودةً؛ كونهما مهموسين، والثاني أقوى من الأول، فيزداد بالإدغام قوة.
والمعنى: أورثتموها من الكفار، يدل عليه ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد إلا وله منزلٌ في الجنة ومنزلٌ في النار. فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة، فذلك قوله: { أورثتموها بما كنتم تعملون } " (1) .
فصل
قال الزمخشري (2) : { أورثتموها بما كنتم تعملون } بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة.
قلت (3) : هذا كلام خبيث تقشعر منه الجلود، فإن النعم بأسرها وإن نيطت بأسبابها الظاهرة تفضلٌ من الله. قال الله تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل:53].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لن يُدخل أحداً منكم عملُه الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه" (4) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1481). وذكره السيوطي في الدر (7/394) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) الكشاف (2/101).
(3) ... أي المصنف رحمه الله.
(4) ... أخرجه البخاري (5/2147 ح5349) من حديث أبي هريرة، ومسلم (4/2171 ح2818) من حديث عائشة.(1/160)
وأخرج الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه في كتاب الحدائق (1) بإسناده عن جابر بن عبدالله قال: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خرج من عندي جبريل آنفاً فقال: يا محمد، والذي بعثني بالحق إن لله عبداً من عباده عَبَدَ الله خمسمائة سنة على رأس جبل عرضه [وطوله] (2) ثلاثون ذراعاً، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية، وأخرج الله له عيناً عذبة بعرض الأصبع تبضّ بماء عذب فتستنقع في أسفل الجبل، وشجرة رمان تخرج في كل يوم رمانة فتغذيه يومه، فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها، ثم قام لصلاته، فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجداً، وأن لا يجعل للأرض [ولا] (3) لشيء يفسده عليه سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد، ففعل، ونحن نمرّ به إذا هبطنا وإذا عرجنا، فنجده في العلم: يُبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول له الرب: أَدخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: يا رب بل بعملي، فيقول: أَدخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي. فيقول الله للملائكة: [قايسوا] (4) عبدي بنعمتي عليه، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نِعَمُ الجسد كلها فضلاً عليه، فيقول: [أَدخِلوا] (5) عبدي النار، فيُجرّ
__________
(1) ... الحدائق (3/259-260).
(2) ... في الأصل: بطوله. والتصويب من الحدائق (3/259).
(3) ... زيادة من الحدائق (3/259).
(4) ... في الأصل: ناقشوا. والتصويب من الحدائق، الموضع السابق.
(5) في الأصل: أخدلوا. والتصويب من الحدائق (3/259).(1/161)
إلى النار، فينادي: رب برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ردوا عبدي، فيوقف بين يديه فيقول: يا عبدي! من خلقك ولم تَكُ شيئاً؟ فيقول: أنت يا رب. فيقول: أكان ذلك من قبلك أم برحمتي؟ فيقول: بل برحمتك. فيقول: من قوّاك لعبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا رب. فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللُّجَّة (1) وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك في كل يوم رمانة، وإنما تخرج في السنة مرة، وسألتني أن أقبضك ساجداً ففعلت [ذلك] (2) بك؟ فيقول: أنت يا رب. قال: ذلك برحمتي، أَدخِلوا عبدي الجنة برحمتي إياه، فنعْمَ العبدُ كنتَ يا عبدي، فأدخله الجنة. وقال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد" (3) .
#"yٹ$tRur أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
__________
(1) ... قال في اللسان: لُجُّ البحر: الماء الكثير الذي لا يُرى طرفاه (لسان العرب، مادة: لجج).
(2) ... زيادة من الحدائق (3/259).
(3) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (4/278 ح7637)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/150)، والحكيم الترمذي (1/95).(1/162)
قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ(1/163)
قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ احذب
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } أي: نادوهم اغتباطاً بما أفضوا إليه من النعيم وتقريعاً لأولئك بمسيرهم إلى الجحيم، { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا } على الإيمان والطاعة { حقاً } .
وأَنْ في قوله: "أَنْ قد" مخففة من الثقيلة (1) ، كقول الشاعر:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ (2)
وقول الآخر:
أُكَاشِرُهُ وأعْلَمُ أن كِلانَا ... ... على ما سَاءَ صَاحِبُه حَرِيص (3)
ويجوز أن تكون مفسرة، وكذلك "أن لعنة الله".
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/274)، والدر المصون (3/272).
(2) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:109)، وتخليص الشواهد (ص:382)، وخزانة الأدب (5/426، 8/390، 10/393، 11/353، 354)، وشرح أبيات سيبويه (2/76)، والكتاب (2/137، 3/74، 164، 454)، والمحتسب (1/308)، ومغني اللبيب (1/314)، والمقاصد النحوية (2/287)، ورصف المباني (ص:115)، وشرح المفصل (8/71)، والمقتضب (3/9)، وهمع الهوامع (1/142)، وشرح القصائد العشر (ص:494)، والإنصاف (1/199)، وأوضح المسالك (1/171).
(3) ... البيت لعدي بن زيد، وليس في ديوانه. انظر: الكتاب (3/74)، ومعاني الأخفش (ص:192)، وشرح المفصل (1/54)، والمقتضب (3/241)، وحماسة البحتري (ص:18) ونسبه فيه لعمرو بن جابر الحنفي.(1/164)
{ فهل وجدتم ما وعد ربكم } على الكفر والمعصية { حقاً قالوا نَعَم } وقرأ الكسائي وحده: "نَعِم" بكسر العين حيث جاء (1) ، { فأذن مؤذن بينهم } وهو مَلَك يأمره الله تعالى فينادي نداء يسمع أهل الجنة والنار: { أن لعنةُ الله } . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "أنّ" بالتشديد، "لعنةَ الله" بالنصب (2) . { على الظالمين } يعني: الكافرين.
ثم وصفهم فقال: { الذين يصدون عن سبيل الله... الآية } وقد سبق تفسيرها.
قوله تعالى: { وبينهما حجاب } أي: بين الجنة والنار، أو بين الفريقين حجاب، وهو السور المذكور في قوله: { فضرب بينهم بسور } [الحديد:13].
{ وعلى الأعراف } أي: أعراف الحجاب، وهي أعاليه، واحدها: عُرف، ومنه عُرْف الديك والفرس (3) . قال الشاعر:
ورثت بناء آباء كرام ... علوا بالمجد أعراف البناء (4)
__________
(1) ... وحجته في ذلك؛ ما رُوي في الحديث: أن رجلاً لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى، فقال: أنت الذي يزعم أنه نبي؟ فقال: نَعِمْ -بكسر العين-. وروي أيضاً أن عمر سأل رجلاً شيئاً فقال: نَعَمْ. فقال: قل: نَعِمْ، إنما النَّعَم الإبل. انظر: الحجة للفارسي (2/237)، والحجة لابن زنجلة (ص:282)، والكشف (1/462)، والنشر (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:224)، والسبعة في القراءات (ص:281).
(2) ... الحجة للفارسي (2/238)، والحجة لابن زنجلة (ص:283)، والكشف (1/463)، والنشر (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:225)، والسبعة في القراءات (ص:281).
(3) ... انظر: لسان العرب (مادة: عرف).
(4) ... انظر البيت في: زاد المسير (3/205).(1/165)
وقال أبو هريرة: هي جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها (1) .
{ رجال } قال ابن مسعود وحذيفة وابن عباس وجمهور العلماء: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة (2) . ويشهد بصحة هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم" (3) .
ويندرج فيه قول إبراهيم: هم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم، أو أمهاتهم دون آبائهم (4) .
وروي عن ابن عباس: أنهم أولاد الزنا (5) .
وقيل: إنهم أولاد المشركين (6) .
وقيل: إنهم قوم عملوا لله لكنهم راؤوا في أعمالهم (7) .
وقال الحسن ومجاهد: أصحاب الأعراف رجال صالحون (8) .
__________
(1) زاد المسير (3/204).
(2) ... أخرجه الطبري (8/190)، وابن أبي حاتم (5/1485) كلاهما عن حذيفة. وذكره السيوطي في الدر (3/462) وعزاه لابن جرير عن حذيفة.
(3) ... أخرجه سعيد بن منصور في سننه (5/143 ح954). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/23).
(4) ... زاد المسير (3/206).
(5) ... زاد المسير (3/205).
(6) ... زاد المسير (3/206).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... أخرجه الطبري (8/193)، وابن أبي حاتم (5/1486)، وهناد في الزهد (1/152 ح203) كلهم عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (3/466) وعزاه لابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.(1/166)
فعلى هذا القول يكون الله تعالى قد أكرمهم بالإشراف على الأعراف ليعرفوا تفاوت ما بين المنزلتين ويتعجلوا السرور بالنجاة من العذاب والفوز بالثواب.
وقال أبو مجلز: هم ملائكة، فقيل له: إنهم رجال، فقال: إن الملائكة ذكور وليسوا بإناث (1) .
وحكى ابن الأنباري والزجاج (2) : أنهم أنبياء.
والأول أظهر وأكثر في التفسير.
قوله تعالى: { يعرفون } أي: يعرف أهل الأعراف { كلاًّ } من أهل الجنة والنار { بسيماهم } أي: بعلامتهم.
قال الحسن: علامة أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون، وعلامة أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون (3) .
{ ونادوا } يعني: أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم بالتسليم عليهم.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/193). وذكره السيوطي في الدر (3/466) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في الأضداد وأبي الشيخ والبيهقي في البعث.
... وردّ الطبري (8/194) هذا القول بقوله: هو قول لا معنى له.
(2) ... معاني الزجاج (2/343).
(3) ... أخرجه الطبري (8/196)، وابن أبي حاتم (5/1487). وانظر: الماوردي (2/226). وذكره السيوطي في الدر (3/466) وعزاه لابن جرير.(1/167)
ثم أخبر الله عز وجل عن حالهم فقال: { لم يدخلوها } يعني: الجنة { وهم يطمعون } مبتدأ وخبر لا موضع له من الإعراب (1) .
المعنى: لكنهم يطمعون في دخول الجنة.
قال الحسن: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم (2) .
وقال سعيد بن جبير: الطمع في قلوبهم؛ لأن الله سلب نور المنافقين وهم على الصراط، وبقي نورهم فلم يطفأ.
وقيل: المبتدأ والخبر في محل الحال (3) . المعنى: لم يدخلوها طامعين في دخولها بل على يأس من ذلك.
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } يعني: حيالهم، وهو نصب على الظرف (4) .
{ قالوا } يعني: أصحاب الأعراف حين عاينوا قبح منظر أهل النار، تعوذاً بالله من مثل حالهم { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } .
فعلى هذا؛ يكون التسليم على أهل الجنة والدعاء بالنجاة من عذاب النار إذا نظروا إلى أهلها بعد دخول الفريقين إلى الجنة والنار.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/275).
(2) ... أخرجه الطبري (8/196)، وابن أبي حاتم (5/1488). وذكره السيوطي في الدر (3/466) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/275)، والدر المصون (3/275).
(4) مثل السابق.(1/168)
وإن قلنا إن أصحاب الأعراف رجالٌ صالحون أو ملائكة أو أنبياء، فالحكمة في جعلهم على الأعراف؛ ليبشروا أهل الجنة ويوبخوا أهل النار.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك: الأعراف: موضع عال من الصراط، عليه العباس، وحمزة، وعلي، وجعفر ذو الجناحين عليهم السلام، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه [ومبغضيهم] (1) بسواد الوجوه (2) .
ويجوز على هذا القول أن تكون هذه السيماء لأهل الجنة والنار قبيل الدخول، ألا تراه يقول: { يعرفون كلاً بسيماهم } فلو كان ذلك بعد استقرار كل فريق في مستقره لم يحتاجوا إلى السيماء، فيكون ضمير الفاعل في قوله: "لم يدخلوها" راجعاً إلى جميع أهل الجنة وإلى الصالحين أو الأنبياء الذين هم على الأعراف، وهم جميعهم يطمعون في دخولها.
{ وإذا صرفت أبصارهم } في الصالحين الذين هم على الأعراف ينظرون إلى النار وما أعدّ فيها للكفار، { قالوا } خوفاً منها وخضوعاً لله عز وجل: { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } .
#"yٹ$tRur أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى
__________
(1) ... في الأصل: ومبغظيهم.
(2) ... ذكره القرطبي (7/212).(1/169)
عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ احزب
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم } قال ابن عباس: ينادون يا وليد بن المغيرة! يا أبا جهل بن هشام! يا عاص بن وائل! يا أمية بن خلف! يا أُبيّ بن خلف! يا سائر رؤساء الكفار! { ما أغنى عنكم } اليوم { جمعكم } في الدنيا الأموال والأولاد والأتباع، { وما كنتم تستكبرون } عن الإسلام والاستسلام لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ثم يشيرون إلى ضعفة المؤمنين؛ كصهيب، وبلال، وعمار، وخبّاب بن الأرتّ، فيقولون على وجه الإنكار والتوبيخ للكفار: { أهؤلاء } الضعفاء { الذين أقسمتم } في الدنيا { لا ينالهم الله برحمة } استهزاء بهم وازدراء بحالهم واستصغاراً لشأنهم.
__________
(1) ... زاد المسير (3/207).(1/170)
ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف محققاً لطمعهم: { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم } حين يخاف أهل النار، { ولا أنتم تحزنون } قال حذيفة: بينا أصحاب الأعراف هنالك اطلع عليهم ربهم فقال لهم: ادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم (1) .
وقال ابن عباس: أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة (2) ، فذلك قوله: { أهؤلاء الذين أقسمتم ... الآية } .
وقيل: هو خطاب لجميع أهل الجنة.
وقيل: هو من تمام كلام أصحاب الأعراف، على معنى: استديموا الدخول، أو على معنى: ادخلوا قصوركم ومنازلكم التي أعدت لكم.
#"yٹ$tRur أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِن اللَّهَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/190)، والحاكم (2/350 ح3247). وذكره السيوطي في الدر (3/462-463) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في البعث.
(2) ... زاد المسير (3/207).(1/171)
حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ اختب
قوله تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأْذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودّت وجوههم، وصاروا خَلْقاً آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وعرّفوهم(1/172)
قراباتهم (1) : { أن أفيضوا علينا من الماء } يعنون: الشراب { أو مما رزقكم الله } .
قال السدي وابن زيد: يعنون: الطعام (2) .
فعلى هذا هو مثل قول الشاعر:
ورأيتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا (3)
وقول الآخر:
وعَلَفْتُها تِبْناً ومَاءً بَارِداً ... ... .................. (4)
وقد سبق تقدير مثله.
ويجوز أن يكون المعنى: أفيضوا علينا من الماء، أو أفيضوا علينا مما
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/372)، وزاد المسير (3/208).
(2) ... أخرجه الطبري (8/201)، وابن أبي حاتم (5/1491). وذكره السيوطي في الدر (3/469) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... البيت لعبدالله بن الزبعرى. انظر: الخصائص (2/431)، وأمالي ابن الشجري (2/321)، والإنصاف (2/612)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/50)، والكامل (1/334)، ومجاز القرآن (2/68)، وتأويل المشكل (ص:214)، وشرح القصائد العشر (ص:247)، والمقتضب (2/50)، والطبري (1/61)، والقرطبي (6/95)، والبغوي (3/363)، وزاد المسير (8/138).
(4) ... صدر بيت لذي الرمة، وعجزه: (حتى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْناها). انظر ملحقات ديوانه (3/1862)، ومعاني الفراء (1/14ن 3/124)، وتأويل المشكل (ص:213)، والخصائص (2/431)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/8)، والإنصاف (2/613)، وأوضح المسالك (1/298)، والخزانة (1/499)، والهمع (2/130)، والعيني (3/101)، وشرح المفضليات (1/126)، وأمالي ابن الشجري (2/321)، واللسان (مادة: قلد).(1/173)
رزقكم الله من سائر الأشربة غير الماء التي يحسن إطلاق الإفاضة عليها.
وقال الزجاج (1) : أَعْلَمَ اللهُ عز وجل أن ابن آدم غير مُستغنٍ عن الطعام والشراب وإن كان معذّباً، وهو قول عامة المفسرين.
فإن قيل: كيف سألوا الممتنع وهو تنعّمهم بما اختص به أهل الجنة؟
قلت: ما هذا بأول أطماعهم الكاذبة، وأمانيهم الخائبة، فإنهم مع إياسهم وقنوطهم يستغيثون من شدة عذابهم: { يا مالك ليقض علينا ربك } [الزخرف:77] وينادون: { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها } [المؤمنون:106-107]، وهذا شأن المُتَجَنّ، يتعلَّل ما لا يجدي عليه نفعاً، ويستغيث بمن لا يستطيع عنه دفعاً.
{ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } يعني: الطعام والشراب في الآخرة على الكافرين في الدنيا، وهذا تحريم منع (2) لا تحريم تعبد وتكليف.
ثم وصف الكافرين فقال: { الذين اتخذوا دينهم } يعني: دينهم الذي شرع لهم وأُمروا بالاعتصام به، { لهواً ولعباً } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: المستهزئين (3) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/344).
(2) ... كقول القائل:
... ... ... حَرامٌ على عَيْنَيّ أَنْ تَطْعَمَا الكَرَى ... ... ...........................
... (انظر: البحر المحيط 4/307). وقال الآلوسي (8/126): أي منع كلا منهما، أو منعهما منع المحرم عن المكلف، فلا سبيل إلى ذلك قطعاً ولا يحمل على معناه الشائع، لأن الدار ليست بدار تكليف.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/374)، وزاد المسير (3/209).(1/174)
وقيل: اتخذوا دينهم الذي كانوا عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وغير ذلك من الخصال المنكرة شرعاً وعقلاً.
{ فاليوم ننساهم } أي: نتركهم في العذاب أو نفعل بهم فعل الناسين، { كما نسوا لقاء يومهم هذا } أهملوه ولم يستعدوا للقائه كفراً به واستخفافاً بشأنه.
وقد روى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني" (1) .
قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
و"ما" في قوله: { وما كانوا } في موضع جر عطفاً على "ما" التي قبلها (2) .
والمعنى: وما كانوا بآياتنا التي ظهرت دلائل إعجازها وبهرت الفصحاء بدائع حقائقها وأساليب مجازها، { يجحدون } أي: ينكرونها مع العلم بصحتها.
ô‰s)s9ur جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/619 ح2428).
(2) انظر: الدر المصون (3/278).(1/175)
يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ اخجب
قوله تعالى: { ولقد جئناهم بكتاب } وهو القرآن، { فصّلناه على علم } أي: بينا أحكامه ومواعظه.
"على علم": في محل الحال من ضمير الفاعل في "فصّلناه" (1) .
والمعنى: على علم منا بما يصلحكم، أو على علم بما فصلناه، فجاء
__________
(1) انظر: التبيان للعكبري (1/275)، والدر المصون (3/278).(1/176)
سليماً قويماً غير ذي عوج، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقرأ جماعة -منهم: ابن السميفع-: "فَضَّلْنَاه" (1) ، على سائر الكتب.
{ هدى ورحمة } حالان من المفعول في "فَصَّلْنَاه" (2) .
قوله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله } أي: هل ينظرون إلا عاقبة ما وعدهم به من العذاب والعقاب والحساب وبعث الأجساد يوم المعاد.
{ يوم يأتي تأويله } وهو يوم القيامة، { يقول الذين نسوه من قبل } وهم الذين تقدم ذكرهم، { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي: بالصحة والصدق، وهو اعترافٌ حملهم عليه فرط ما عندهم من الندامة، { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } قالوا ذلك حين رأوا انتفاع الموحدين الذين عذبوا بذنوبهم الذي كانت عليهم، ثم أخرجوا بالشفاعة، { أو نرد } أي: أو هل [نرد] (3) إلى الدنيا { فنعمل } جواب الاستفهام بالفاء (4) .
وقرأ ابن أبي إسحاق: "أو نُردَّ" بالنصب، عطفاً على "فيشفعوا لنا" (5) ، أو تكون "أو" بمعنى حتى.
وقرأ الحسن: بنصب "نُردُّ"، ورفع "فنعملَ" (6) ، أي: فنحن نعمل
__________
(1) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/310)، والدر المصون (3/278).
(2) انظر: التبيان للعكبري (1/276)، والدر المصون (3/279).
(3) في الأصل: ترد.
(4) انظر التبيان (1/276)، والدر المصون (3/279).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/308)، والدر المصون (3/279).
(6) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:225).(1/177)
{ غير الذي كنا نعمل } .
cخ) رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا م&s الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اخحب
قوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم عبارة عن الزمان الكائن من طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن إذ ذاك شمس ولا سماء، ولا فلك دوار، ولا ليل ولا نهار.
وقد روي عن ابن عباس: أن مقدار كل يوم من الستة: ألف سنة. وإليه(1/178)
ذهب كعب ومجاهد والضحاك (1) .
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (2) : ولو قال قائل إنها كأيام الدنيا كان قوله بعيداً، من وجهين:
أحدهما: خلاف الآثار.
والثاني: الذي يتوهمه المتوهم من الإبطاء في ستة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس:82].
قلت: وقد قيل أنها كأيام الدنيا، وهو الذي يقوى في نظري. ويدل على صحته وجوه:
أحدها: ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" (3) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (7/261 ح35894)، والطبري (8/205) كلاهما عن مجاهد، وابن أبي حاتم (5/1496) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/211). وذكره السيوطي في الدر (3/472) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد.
(2) زاد المسير (3/211-212).
(3) أخرجه مسلم (4/2149 ح2789).(1/179)
وجه الحجة من الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن الله تعالى خلق المخلوقات المذكورة في هذه الأيام، فإما أن يريد هذه الأيام التي نعرفها أو زماناً يماثلها في قدرها، على معنى: خلق الله التربة في مثل يوم السبت، وكذلك التقدير في سائر الأيام، وأياً ما كان فمقصودنا حاصل.
الثاني: أن الذي ذكرناه هو المتبادر إلى الأذهان والأفهام عند إطلاق الأيام، وهو الظاهر فيجب المصير إليه ما لم يُصرف عنه دليل نقلي أو عقلي. وقول بعض العلماء معارض بمثله.
الثالث: أن المقصود تعريف العباد مقدار زمن الخلق بما يتعارفونه من الأزمان المعبّر عنها بالأيام، فوجب صرف اللفظ إلى ما يعرفونه.
الرابع: أنه سبحانه وتعالى نبّه عباده بما ذكره على عظيم قدرته جلّت عظمته. ومعقولٌ أن حمل الأيام على ما نتعارفه أدل على القدرة العظيمة من حملها على ستة آلاف سنة.
الخامس: قوله تعالى في موضع آخر: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ق:38] أي: نصب وتعب، نفى سبحانه وتعالى عن نفسه اللغوب حين ذكر ما دلّ على عظيم اقتداره وبديع صنعته من خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا مرية أن هذا المعنى بالأيام المعلومة أشبه.
فإن قيل: ما الحكمة في إنشاء الخلق في هذا الزمن المتطاول، والله تعالى قادر على إيجاده في أقرب الأزمان؟
قلت: فيه حِكَم؛ منها: إظهار عظمته للملائكة بما يبدي في كل يوم من(1/180)
عجائب قدرته وبدائع صنعته ولطائف حكمته، وتنبيههم على شرف من ابتدع هذه المخلوقات لأجلهم، واخترع هذه المصنوعات لمصالحهم، فإن إنشاء هذه الأشياء شيئاً فشيئاً أبلغ في الحكمة وأوقع في الصدور من وقوعها جملة واحدة.
ومنها: تعليم العباد الرفق والتثبت في الأمور؛ لأنه إذا تثبت من لا يجوز تطرق الزلل إليه، فتثبت من يجوز عليه أولى.
قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، وكل سرير لملك يسمى عرشاً (1) .
قال مجاهد: ما السموات والأرض في العرش إلا مثل حلقةٍ بأرض فلاة (2) .
وقال كعب: إن السموات والأرض في العرش كالقنديل معلقاً بين السماء والأرض (3) .
وقيل: إن العرش ياقوتة حمراء (4) .
__________
(1) زاد المسير (3/212).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1920). وذكره السيوطي في الدر (4/335) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1920). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/212)، والسيوطي في الدر (4/335) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1497، 6/1920)، وأبو الشيخ في العظمة (2/581 ح26) كلاهما من حديث سعد الطائي. وانظر: زاد المسير (3/213). وذكره السيوطي في الدر (4/334) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة عن سعد الطائي.(1/181)
وضلّ قوم فقالوا: العرش بمعنى: المُلْك (1) ، وهو قول يشهد ببطلانه الكتاب والسنة والإجماع واللغة، وقد ذكر أمية بن أبي الصلت في شعره فقال:
احمدوا الله فهو للحمد أهلٌ ... ربُّنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س، وسوَّى فوق السماء سريرا
شَرْجَعاً (2) لا ينالُه ناظر العَيْـ ... ـن، ترى دونه الملائكُ صُورا (3)
يشير إلى معنى قوله: { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [الزمر:75].
فصل
مذهب أهل الحق في هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات وأخبار الصفات: الإقرار والإيراد، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل. وإلى هذا وأمثاله أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تبحثوا عنها" (4) .
وقيل للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى؟ فقال: الكيف مجهول، والاستواء معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (5) .
__________
(1) انظر: الماوردي (2/230)، وزاد المسير (3/213).
(2) الشَّرْجَعْ: الطويل (لسان العرب، مادة: شرجع).
(3) انظر الأبيات في: تأويل مختلف الحديث (1/67، 273)، وزاد المسير (3/212).
(4) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/12)، والدارقطني (4/184).
(5) انظر: البغوي (2/165)، والقرطبي (1/254)، والبحر المحيط (4/310-311).(1/182)
ولو استقصيت ما ورد في الزجر عن الخوض في آيات الصفات عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم لطال ذلك، ويكفي الإنسان في هذا الثابت.
ولك قول الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله وما جاء من عند الله على مراد الله، وآمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
فإن قيل: فما تقول فيما روي عن الفراء وأبي العباس والزجاج: أن المعنى: عمد إلى خلق العرش وأقبل إليه بعد خلق السموات والأرض، وقول قوم: أن استوى بمعنى: استقر، وقول بعضهم: أنه بمعنى: استولى (2) ، وأنشدوا فيما زعموا قول الشاعر:
حَتَّى اسْتَوى بشْرٌ عَلى العِرَاق ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مِهْرَاقِ (3)
وقول الآخر:
هُمَا اسْتَوَيَا بفَضْلِهِمَا جَمِيعاً ... ... عَلى سُرُرِ المُلوكِ بغَيْرِ زُورِ (4)
__________
(1) انظر: ذم التأويل (ص:11، 44).
(2) وهو قول المعتزلة وجماعة من المتكلمين. انظر: الماوردي (2/229)، والبغوي (2/165)، وزاد المسير (3/213).
(3) البيت للبعيث، وهو خداش بن بشر. انظر البيت في: رصف المباني (ص:431)، والقرطبي (7/220)، والوسيط (2/376)، وزاد المسير (3/213)، والدر المصون (1/172)، وروح المعاني (8/135)، والماوردي (2/229).
(4) البيت في: البحر المحيط (4/310)، وزاد المسير (3/213).(1/183)
قلت: أما قول أهل اللغة؛ فغايته أن العرب تستعمل هذه الكلمة بالمعنى الذي ذكروه ثمّ، وهو مسلَّم، فلم قالوا بأنه هاهنا هو المراد مع تجويز غيره من المعاني، ولأن قالوا بأنه معنى جائز الإرادة فيكون مراداً فعارضهم بمثله.
وأما قول الذين قالوا أنه بمعنى: استقر، فنقول لهم: ما معنى الاستقرار هاهنا؟ فإن فَسَّره بالمعنى المتبادر إلى الأفهام، فلا يخفى ما في ذلك من المحذور، حيث أثبتوا لله صفة لم ينطق بها كتابٌ ولا سُنَّة، ولم يساعد عليها دليل العقل، وإن لم يُفَسِّروه بالمعنى المتبادر إلى الأفهام، فلا يخلو: إما أن يفسّروا الاستقرار بشيء معلوم أو لا، وإن فسروه بشيء معلوم وَرَدَ عليهم من الكلام ما ورد عليهم في تفسير الاستقرار بالمعنى المتبادر إلى الأفهام من كونهم أثبتوا لله صفة من غير كتاب ولا سُنَّة، وإن لم يفسروه بشيء فليقتصروا أولاً على تلاوة الآية، والإيمان بالاستواء على المعنى الذي أراده الله كما قلنا.
وأما قول الذين قالوا أنه بمعنى: استولى، فغير صحيح من جهة نقل اللغة ومن جهة المعنى.
قال ابن الأعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم (1) .
وقال ابن فارس: البيتان لا يعرف قائلها (2) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط (4/310)، وزاد المسير (3/213).
(2) انظر: زاد المسير (3/213).(1/184)
وقال جماعة من حُذَّاق العلماء: إنما يقال: استولى فلان على كذا؛ إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، [ثم تمكن] (1) منه، والله تعالى لم يزل مستولياً على الأشياء (2) .
قال الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله (3) : قال أهل الحق من المتكلمين: أحدث الله فعلاً سمّاه: استواء، وهو كالإتيان والمجيء والنزول، كلها من صفات أفعاله.
سأل رجل الأوزاعي عن قوله: { الرحمن على العرش استوى } [طه:5] فقال: هو على العرش كما وصف نفسه، وإني لأراك رجلاً ضالاً.
قال الثعلبي (4) : وبلغني أن رجلاً سأل إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقال: كيف استوى على العرش؟ أقائم هو أم قاعد؟ فقال: يا هذا إنما يقعد من يملّ القيام، ويقوم من يملّ القعود، وغير هذا أولى بك أن تسأل عنه.
قال الشريف القاضي أبو علي بن أبي موسى الهاشمي -من علمائنا- رضي الله عنه: اختلف أصحابنا هل الاستواء من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ على طريقين:
منهم: من قال إنه من صفات الفعل، غير أنه لا يعلم كيفيته، ولا نقول أنه انتقال من مكان إلى مكان، ولكنا نسلمه ونقول فيه كما نقول في حديث
__________
(1) ... في الأصل: فلم يتمكن. والمثبت من زاد المسير (3/213).
(2) انظر: زاد المسير (3/213).
(3) الثعلبي (4/239).
(4) الثعلبي، الموضع السابق.(1/185)
النزول.
ومنهم من قال: إنه من صفات الذات، لم يزل مستوياً قبل خلق العرش من غير تكييف.
ومن أصحابنا من تأول الاستواء على معنى الارتفاع.
قال الشريف رحمه الله: فأنا لا أقول في ذلك إلا ما قال أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: استوى كما قال، بلا حَدٍّ ولا كيف.
قلت: وعلى هذا القول الذي قاله الشريف وارتضاه، وجدت علماءنا وأشياخنا الذين بالشام والعراق، وله نعتقد، وعليه نعتمد، وبه نقول.
وقد صنّف شيخنا الإمام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي كتاباً سمعناه عليه، يخص هذه المسألة، وجمع فيه ما صح في الأخبار والآثار الدالة على أن الله تعالى مستوي على عرشه فوق سبع سماواته، وذكر فيه ما لا يجد المسلم المُتَّبِع لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بُدَّاً من الانقياد إلى تسليمه والإيمان به، فمن أراد الوقوف على دلائلنا السمعية وبراهيننا القطعية فليقف عليه؛ ليستبين له الصواب، ويعرف المبتدع من المتبع للسنة والكتاب. نسأل الله أن يُعافينا مما ابتُلي به فرق الضلال من أمراض الشك في عقائدهم، وأن يُثبت قلوبنا على سنة نبيه، وأن يُلهمنا العمل بكتابه، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى: { يغشي الليل النهار } وقرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "يُغَشِّي"(1/186)
بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف (1) ، وكذلك في الرعد (2) .
والمعنى: يلبس الليل النهار حتى يذهب بضيائه، أو يلبس النهار الليل حتى يذهب بظلامه، فإن اللفظ يحتمل المعنيين، والأول أكثر وأشهر عند علماء التفسير.
قال أبو علي الفارسي (3) : إنما لم يقل: يغشي النهار الليل؛ لأنه معلوم من فحوى الكلام، كقوله: { سرابيل تقيكم الحر } [النحل:81].
{ يطلبه حثيثاً } ، سريعاً من غير فتور، { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } رفعهنَّ ابن عامر على الاستئناف، ونصبهنَّ الباقون على النسق (4) ، تقديره: خلق السموات وخلق هذه الأشياء، ونصب "مسخرات" على الحال (5) ، والمعنى: مُذلَّلات لما يراد منهن، { بأمره ألا له الخلق } فله تسخيره وتدبيره، { والأمر } فله قضاؤه وتقديره.
وقيل: المعنى: ألا إليه إعادة الخلق وعليه مجازاتهم.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/240)، والحجة لابن زنجلة (ص:284)، والكشف (1/464)، والنشر لابن الجزري (2/269)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:225)، والسبعة في القراءات (ص:282).
(2) عند الآية رقم: 3.
(3) الحجة للفارسي (2/241).
(4) الحجة للفارسي (2/241)، والحجة لابن زنجلة (ص:284)، والكشف (1/465)، والنشر (2/269)، والإتحاف (ص:225)، والسبعة (ص:282-283).
(5) انظر: الدر المصون (3/281).(1/187)
{ تبارك الله } قال الضحاك: تَعَظَّمَ (1) .
وقال مجاهد: تَمَجَّدَ (2) .
وقال أبو العباس: "تبارك الله": ارتفع، والمتبارك: المرتفع (3) .
وقال ابن قتيبة والزجاج (4) : تفاعلَ، من البَرَكَة.
واعلم أن أصل البركة: زيادة الخير وكثرته. فقوله: "تبارك الله" يحتمل معنيين:
أحدهما: تزايد خيره وتكاثر.
والثاني: تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وإلى هذين المعنيين تؤول أقوال المفسرين.
(#qمم÷ٹ$# رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
__________
(1) ذكره البغوي (3/360).
(2) ذكره الآلوسي في: روح المعاني (18/230) من قول الخليل.
(3) الوسيط (2/376)، وزاد المسير (3/214). وقال الأزهري: تبارك: تعالى وتعاظم وارتفع (انظر: تهذيب اللغة 10/230).
(4) معاني الزجاج (4/57).(1/188)
بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ اخدب
قوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً } انتصبا على المصدر أو الحال (1) ، بمعنى: ذوي تضرع وخفية، وكذلك { خوفاً وطمعاً } .
والتضرع: التذلل والخضوع.
والمعنى: سلوا ربكم واطلبوا منه ما يصلحكم في الدنيا والآخرة متضرعين متملّقين محقين ذلك.
قال الحسن البصري رضي الله عنه: إن الله يحب القلب التقي والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان، إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً } ، وأن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً ورضي فعله فقال تعالى: { إذ نادى ربه نداء خفياً } (2) [مريم:3].
__________
(1) انظر: التبيان للعكبري (1/276)، والدر المصون (3/282).
(2) أخرجه الطبري (8/206-207)، وابن المبارك في الزهد (ص:45). وذكره السيوطي في الدر (3/476) وعزاه لابن المبارك وابن جرير وأبي الشيخ.(1/189)
أخبرنا حنبل بن عبدالله بن الفرج كتابة، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي ابن المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، حدثنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا عبدالوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً، ولا نهبط وادياً، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبدالله بن قيس: ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" (1) . هذا حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري عن محمد بن المقاتل، عن ابن المبارك. وأخرجه مسلم عن ابن راهويه، عن عبدالوهاب، كلاهما عن خالد الحذاء.
قوله تعالى: { إنه لا يحب المعتدين } يعني: ذوي الاعتداء في الدعاء؛ كاللاعنين والداعين بالشر للمسلمين.
وقال ابن جريج: الاعتداء هاهنا: رفع الصوت (2) .
وقال أبو مجلز: هو أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء عليهم
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2437 ح6236)، ومسلم (4/2077 ح2704)، وأحمد (4/402).
(2) أخرجه الطبري (8/207). وذكره السيوطي في الدر (3/476) وعزاه لابن جرير.(1/190)
الصلاة والسلام (1) .
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من ذلك، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وقرأ هذه الآية: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين } وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل" (2) .
قوله تعالى: { ولا تفسدوا في الأرض } يعني: بالكفر والمعاصي وسفك الدماء، { بعد إصلاحها } يعني: بعد إصلاح الله إياها بإرسال الأنبياء وبيان الشرائع. هذا قول جمهور المفسرين.
وقال عطية: لا تعصوا في الأرض، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري (8/207)، وابن أبي حاتم (5/1500). وذكره السيوطي في الدر (3/475) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه أحمد (1/172 ح1483).
(3) الوسيط (2/377)، وزاد المسير (3/215).
... قال أبو حيان في البحر المحيط (4/313): هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض، وإدخال ماهيّته في الوجود، فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والديان. وقال: وما رُوي عن المفسرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح، ينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل، إذ ادّعاء تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه.(1/191)
فعلى هذا معنى قوله: "بعد إصلاحها": بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
{ وادعوه خوفاً وطمعاً } قال ابن عباس: خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه (1) .
{ إن رحمت الله قريب من المحسنين } قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا: الثواب (2) .
وقال الزجاج (3) : إنما قيل "قريبٌ"؛ لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد.
وقال الأخفش (4) : الرحمة بمعنى الإنعام، فلذلك ذَكَّر.
وقال النضر بن شميل (5) : الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير، كقوله: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } [البقرة:275].
uqèdur الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ
__________
(1) الوسيط (2/377) من قول ابن عباس، والطبري (8/207)، وزاد المسير (3/216) بلا نسبة.
(2) الوسيط (2/378).
(3) معاني الزجاج (2/344).
(4) انظر: معاني الأخفش (ص:193).
(5) هذا قريب من قول الزجاج؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ. انظر: الوسيط (2/378).(1/192)
يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اخرب
قوله تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح نُشُراً بين يدي رحمته } قرأ الحرميان وأبو عمرو: بضم النون والشين، وافقهم ابن عامر إلا أنه أسكن(1/193)
الشين، ومثله حمزة والكسائي، إلا أنهما فتحا النون. وقرأ عاصم: "بُشْراً" بالباء المضمومة وسكون الشين (1) ، وهكذا اختلافهم في التي في الفرقان (2) والنمل (3) ، فالقراءة الأولى والثانية جمع نشور، كرسول ورُسُل. والنَّشْر: الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل جانب (4) .
قال أبو عبيدة (5) : النَّشْر: المتفرقة من كل جانب.
وقيل: النشور بمعنى المنشور، كالركوب بمعنى المركوب. يقال: أنشر الله الريح فنشرت، أي: أحياها فحييت.
وأما ابن عامر فإنه خفف الشين، مثل: كُتْب ورُسْل.
وأما القراءة الثالثة فمصدر، أو مصدر في موضع الحال (6) .
قال أبو علي (7) : يحتمل النشر أن يكون خلاف الطيّ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية، ويحتمل أن يكون معناها المتفرقة في الوجوه، ويحتمل أن يكون من النشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر:
__________
(1) الحجة للفارسي (2/242-243)، والحجة لابن زنجلة (ص:285-286)، والكشف (1/465)، والنشر لابن الجزري (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226)، والسبعة في القراءات (ص:283).
(2) عند الآية رقم: 48.
(3) عند الآية رقم: 63.
(4) انظر: اللسان (مادة: نشر).
(5) مجاز القرآن (1/217).
(6) انظر: الدر المصون (3/285).
(7) الحجة (2/245-246).(1/194)
.......................... ... ... يا عجباً للميِّت الناشر (1)
قال (2) : وهذا هو الوجه.
وأما القراءة الرابعة فجمع بشير؛ كرغيف ورُغُف، وسكنت الشين تخفيفاً، والنصب فيها على الحال (3) ، والمعنى: أرسلها مبشرة ليجيء الغيث، وهو قوله: { بين يدي رحمته حتى إذا أقلت } يعني: حملت الريح.
{ سحاباً } قال الزجاج (4) : جمع سحابة.
قال ابن فارس (5) : سُمِّي بذلك؛ لانسحابه في الهواء.
{ ثقالاً } بما فيها من الماء، { سقناه } أي: سقنا السحاب، رد الكناية إلى لفظه وهو واحد، { لبلد } أي: إلى بلد أو لأجل بلد، { ميت } [بالجدب] (6) ، { فأنزلنا به } أي: بالسحاب أو بالسوق أو بالبلد، { فأخرجنا به } : يحتمل الوجوه المذكورة في الضمير الذي قبله.
__________
(1) عجز بيت للأعشى، من قصيدة يهجو فيها علقمة بن علاثة، ويمدح عامر بن الطفيل، في المنافرة التي جرت بينهما. وصدر هذا البيت: (حتى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا). انظر: ديوانه (ص:191)، ومعاني الفراء (1/173)، ومجاز القرآن (2/70، 153، 202، 286)، والأمالي للزجاج (ص:79)، وتهذيب اللغة (11/338)، والخصائص (3/325)، واللسان (مادة: نشر).
(2) ... أي: أبو علي الفارسي.
(3) انظر: الدر المصون (3/285).
(4) معاني الزجاج (2/345).
(5) معجم مقاييس اللغة (3/142).
(6) في الأصل: بالجذب.(1/195)
والأحسن -والله أعلم- أن يكون المعنى: فأنزلنا بذلك البلد الماء، فأخرجنا بالماء { من كل الثمرات كذلك } أي: مثل ذلك الإخراج الذي أشرنا إليه { نخرج الموتى } من قبورهم أحياء، { لعلكم تذكرون } فتستدلوا بأحد الإخراجين على الآخر.
قال ابن عباس: يرسل الله بين النفختين مطراً كمَنيّ الرجال، فينبت الناس في قبورهم كما نبتوا في بطون أمهاتهم (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو بكر الصوفي قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا ابن أعين، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثني محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما بين النفختين أربعون. قال: أربعون يوماً. قال: أبيت. قال: أربعون شهراً. قال: أبيت. قال: أربعون سنة. قال: أبيت. قال: ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عَجْب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة" (2) . هذا حديث متفق على صحته. أخرجه مسلم عن محمد بن العلاء عن أبي معاوية أيضاً.
والعَجْب: العظم الذي في أسفل الصلب، وهو العَسِيب (3) .
قوله تعالى: { والبلد الطيب } أي: الأرض الطيبة التربة { يخرج نباته
__________
(1) زاد المسير (3/219، 5/396).
(2) أخرجه البخاري (4/1881 ح4651)، ومسلم (4/2270 ح2955).
(3) انظر: اللسان (مادة: عجب).(1/196)
بإذن ربه } خروجاً حسناً سريعاً من غير كَدٍّ ولا تعب، { والذي خبث } وهو الأرض السبخة، { لا يخرج إلا نكداً } عسراً قليل النفع والخير، وأنشدوا:
لا تُنْجِز الوَعْدَ إِنْ وَعَدْتَ وإِنْ ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تافِهاً نَكِداً (1)
و"نكداً" حال من الضمير في "يخرج" (2) .
وقرأت لأبي جعفر (3) : "نَكَداً" (4) بفتح الكاف، على المصدر (5) ، أي: ذا نكد.
وقرأت لأبان عن عاصم: "لا يُخرِج" بضم الياء وكسر الراء (6) ، "نَكَداً" بفتح الكاف.
وفي الآية إضمار، تقديره: لا يخرج نباته إلا نكداً، أو نبات الذي خبث لا يخرج إلا نكداً.
__________
(1) البيت لم أعرف قائله. وهو في: الطبري (8/211)، ومجاز القرآن (1/217)، والبحر المحيط (4/317)، ولباب التأويل (2/201)، وحاشية الشهاب (4/177)، وزاد المسير (3/220)، وروح المعاني (8/147)، ولسان العرب (مادة: تفه).
(2) انظر: التبيان للعكبري (1/277)، والدر المصون (3/286).
(3) هو يزيد بن القعقاع، أبو جعفر، القارئ المديني، مولى عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وهو أحد الأئمة العشرة في حروف القراءات. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة (الجرح والتعديل 9/285، وسير أعلام النبلاء 5/287، والثقات 5/543-544، ولسان الميزان 7/457، وتهذيب التهذيب 12/61، وتقريب التهذيب ص:629).
(4) النشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226).
(5) قال الزجاج (2/346): وهي قراءة أهل المدينة.
(6) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/219).(1/197)
فصل
وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب مثل قلب المؤمن، إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به، وظهرت بركته وأثره عليه، كالبلد الطيب إذا أصابه المطر، يمرع ويخصب ويحسن أثره. والبلد الخبيث مثل قلب الكافر، إذا وردت عليه المواعظ، أو سمع القرآن لا يعيه ولا يعقله، ولا ينتفع به ولا يظهر عليه أثره، كالبلد الخبيث إذا أصابه المطر، لا يحسن أثره ولا يخرج نباته.
{ كذلك نصرف الآيات } أي: مثل ذلك التصريف، { نصرف الآيات } نرددها ونكررها أو نكونها ونوضحها فنخرج لهم المعلومات في صور المشاهدات، { لقوم يشكرون } نعم الله عليهم وإحسانه إليهم.
ô‰s)s9 أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(1/198)
(60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا(1/199)
عَمِينَ ادحب
قوله تعالى: { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ -وهو إدريس عليه السلام- بن مهلائيل بن يرد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم - صلى الله عليه وسلم - . وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس، وولد بعد وفاة آدم بمائة وست وعشرين سنة، وأبوه لمك ولد في حياة آدم.
{ فقال يا قوم اعبدوا الله } وحِّدُوه { ما لكم من إله غيره } قرأ الكسائي: "غَيْرِه" بالجرّ حيث وقع، وكذلك { هل من خالق غير الله } [فاطر:3]، وافقه حمزة في "هل من خالق غير الله"، وقرأ الباقون بالرفع فيهما (1) .
وقرأ محمد بن السميفع: "ما لكم من إله غيرَهُ" بالنصب (2) . فالجر على اللفظ، فهو صفة لـ"إله"، والرفع على المحل؛ لأن موضع "من إله" الرفع، أو جَعَلَ "غير" بمعنى إلا، فأعربها بمثل إعراب ما يقع بعدها، وهو الرفع على البدل "من إله" على الموضع، والنصب على الاستثناء (3) .
قال الفراء (4) : بعض بني أسد وقضاعة إذا كان معنى "غير": إلا، نصبوها، تمّ الكلام قبلها أو لم يتم، فيقولون: ما جاءني غيرك، وما أتاني أحد غيرك. وأنشد المفضل:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/247)، والحجة لابن زنجلة (ص:286)، والكشف (1/467)، والنشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226)، والسبعة في القراءات (ص:284).
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:226).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/277)، والدر المصون (3/287).
(4) ... معاني الفراء (1/382-383).(1/200)
لم يمنعِ الشُّرْبَ [منها] (1) غيرَ أنْ نطقتْ ... حمامةٌ في غُصُونٍٍ ذاتِ ألْوَان (2)
وقال الزجاج (3) : يكون النصب من وجهين:
أحدهما: الاستثناء من غير جنسه.
الثاني: الحال من قوله: "اعبدوا الله"؛ لأن "غيره" نكرة وإن أضيف إلى المعارف.
{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وهو يوم القيامة.
وقيل: يوم نزول العذاب عليهم في الدنيا إن أصرّوا على الكفر، وهو الطوفان الذي أخذهم.
{ قال الملأ من قومه } وهم أشراف رجاله، { إنا لنراك في ضلال } ذهاب عن طريق الصواب، { مبين } ظاهر لكل أحد.
{ قال يا قوم ليس بي ضلالة } أي شيء من الضلالة، فهو أبلغ من قوله: ليس بي ضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة.
ثم بالغ في نفي الضلال عنه بالاستدراك بما لا يجوز أن يجاء معه الضلال بوجه من الوجوه، فقال: { ولكني رسول من رب العالمين } .
{ أبلغكم رسالات ربي } صفة لـ"رسول"، أو كلام مستأنف (4) .
__________
(1) ... في الأصل: مني. والتصويب من مصادر البيت.
(2) ... من قصيدة لأبي قيس بن رفاعة الأنصاري، في وصف ناقته. انظر: اللسان (مادة: نطق)، والقرطبي (7/234)، ومعاني الزجاج (2/349)، وروح المعاني (12/122، 18/240، 19/46، 171، 23/165). وفي كل المصادر: "ذات أوْقال" بدل: "ذات ألوان".
... وأوقال: جمع وقل، وهو المقل، أي: الدوم إذا يبس.
(3) ... معاني الزجاج (2/348-349).
(4) ... انظر: التبيان للعكبري (1/277)، والدر المصون (3/288).(1/201)
وكان أبو عمرو يقرأ: "أُبْلِغُكُمْ" بالتخفيف حيث وقع (1) ؛ كقوله: { لقد أبلغتكم } [الأعراف:79] و { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [الجن:28].
ولأن كتب الأنبياء لم تنزل مفرقة كالقرآن، بل كان الكتاب ينزل جملة واحدة على الرسول عليهم الصلاة والسلام.
وقرأت على شيخنا أبي البقاء اللغوي: "أبَلِّغْكُم" بسكون الغين، من طريق الزهري عن أبي زيد عن أبي عمرو، وشدده الباقون؛ كقوله: { بلِّغ ما أنزل إليك } [المائدة:67].
فإن قيل: الرسالة واحدة، فكيف جمع؟
قلت: أراد ما أوحي إليه في الأوقات المتطاولة والأزمان المختلفة، والمعاني المتكررة في الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنذائر، أو يريد رسالة الله إليه وإلى الأنبياء من قبله من صحف جده إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، وصحف شيث، وهي خمسون صحيفة.
{ وأنصح لكم } بمعنى: أنصحكم، وزيدت اللام للمبالغة، { وأعلم من الله } من عظمته وجلاله وثوابه لمن أطاعه وعقابه لمن عصاه وانتقامه ممن خالفه { ما لا تعلمون } .
وقيل: إنهم لم يسمعوا بقوم عذبوا قبلهم، فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/248)، والحجة لابن زنجلة (ص:286-287)، والكشف (1/467)، والنشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226)، والسبعة في القراءات (ص:284).(1/202)
نوح من نزول العذاب بمن عاند الرسل وأصر على معاداتهم وتكذيبهم.
قوله تعالى: { أوَ عجبتم } هذه واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم { أن جاءكم } أي: من أن جاءكم { ذكر } موعظة وبيان { من ربكم على رجل } أي: مع رجل، أو على لسان رجل { منكم } من البشر { لينذركم } ليعلمكم مخوفاً لكم من عاقبة كفركم { ولتتقوا } أي: ليوجد منكم الخشية بسبب الإنذار { ولعلكم ترحمون } إن اتقيتم.
{ فكذبوه فأنجيناه والذين معه } يريد: الذين آمنوا به واتبعوه على دينه { في الفلك } وهي السفينة.
ويجوز أن يكون قوله: "في الفلك" متعلقاً بـ"معه" كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل الإنجاء، أي: أنجيناهم في السفينة (1) . { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين } أي: جاهلين عُمْي البصائر. يقال: رجل عَميّ القلب، أي: جاهل، وامرأة عَمِيَة -على وزن فَعِلَة-، وقوم عَمُون، والنسبة إلى عَمٍ: عموي (2) .
قال زهير:
وَأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قَبْلَهُ ... ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ (3)
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/289).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: عمي).
(3) ... البيت من قصيدة قالها في الصلح بين عبس وذبيان. انظر: ديوانه (ص:29)، وتهذيب اللغة (3/245)، والدر المصون (3/289)، وشرح القصائد العشر للتبريزي (ص:153)، ومعاهد التنصيص (1/325)، واللسان (مادة: عمي)، وشرح القصائد التسع لابن النحاس (1/355)، والمعلقات العشر للشنقيطي (ص:79)، وروح المعاني (8/154).(1/203)
ونقول في ذهاب البصر: أَعْمَى، وقوم عُمْيٌ، والنسبة إليه: أَعْمَوِي (1) .
* وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عمي).(1/204)
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا(1/205)
كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا(1/206)
كَانُوا مُؤْمِنِينَ اذثب
قوله تعالى: { وإلى عاد } أي: وأرسلنا إلى أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا بالشِّحْر (1) ، بوادٍ يقال له: مغيث، من أرض اليمن، فتجبّروا وعتوا وعبدوا الأوثان، فأرسل الله إليهم هود بن عبدالله بن رياح بن الخلود -بفتح الخاء المعجمة، ويروى بضمها، ويروى بالجيم المكسورة وبفتح اللام- بن عاد بن عوص بن إرم. ومن العلماء بالنسب من يقول: هو هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام.
قوله تعالى: { أخاهم هوداً } يريد: أخاهم في النسب. وقوله: "هوداً" عطف بيان (2) .
{ قال يا قوم } إنما حذف العاطف هاهنا ولم يقل: "فقال يا قوم" كقصة نوح؛ لأنه على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ، { أفلا تتقون } أي: تخافون وتخشون بطش الله وانتقامه، وأن ينزل بكم من العذاب ما نزل بقوم نوح.
__________
(1) ... الشحر: إحدى كبريات مدن ساحل حضرموت، تقع على سطح متسع من الشاطئ الذي ينحدر تدريجياً إلى البحر، ولهذا ترسوا السفن بعيداً عنه لضحولته. وسميت الشحر بهذا الاسم؛ لأن سكانها كانوا جيلاً من المهرة يُسمون الشَّحْرَات، فحذفوا الألف وكسروا الشين. والشحر اليوم عاصمة لأكبر مديريات محافظة حضرموت، حيث تضم أربعة مراكز متباعدة مترامية الأطراف هي: الشحر، الديس والحامي، الريدة وقصيعر، غيل بن يُمَيْن (معجم البلدان والقبائل اليمنية 1/852-853).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/290).(1/207)
{ قال الملأ الذين كفروا من قومه } إن قيل: لم وصف الملأ هاهنا بالكفر، ولم يصف ملأ قوم نوح به؟
قلت: عنه جوابان:
أحدهما: أنه خصَّهم بالوصف بالكفر ذمّاً لهم؛ لفرط عتوهم وشدة تجبّرهم وإصرارهم على كفرهم، مع أنهم قد علموا سُنَّةَ الله في المكذّبين قبلهم، وهم قوم نوح، فكانوا أجدر منهم بالتقوى، لعلمهم بما لم يعلموه واقعاً من عذاب المكذبين.
الثاني: أن الملأ من قوم نوح كانوا كلهم كفاراً لم يؤمن منهم أحد، بخلاف الملأ من قوم عاد فإنه آمن منهم مرثد بن سعد، فوصفهم بالكفر ليخرج المؤمنون منهم.
قوله تعالى: { إنا لنراك في سفاهة } أي: في جهلٍ وخفةِ حلم، نسبوه إلى ذلك حيث فارق دينهم، { وإنا لنظنك من الكاذبين } في قولك: "ما لكم من إله غيره"، وفي نزول العذاب بنا.
{ قال يا قوم ليس بي سفاهة } هذا من أحسن الآداب وألطف الأخلاق، فإنه -عليه السلام- لحلمه الراجح وحسن احتماله وجميل عشرته، لم يزدهم على نفي ما نسبوه إليه. وفي قصصه علينا إشارة إلينا بالاقتداء بأخلاق الأنبياء، والإغضاء عن مقابلة السفهاء، واسأل نيل العفو على ما عساه يصدر من جاهل يريد إنقاذه من هلكة وقع فيها.
{ وأنا لكم ناصح أمين } فيما أدعوكم إليه، أمين عليه.(1/208)
وقال الكلبي: كنت فيكم قبل النبوة أميناً (1) .
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم تصريحاً، وحذّرهم من انتقامه منه تلويحاً، فقال: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } يعني: استخلفكم في الأرض من بعدهم. وخلفاء: جمع خليفة، على التذكير لا على اللفظ، مثل: طريف وطرفاء. وجائز أن يكون جمع خلائف على اللفظ، مثل: طريفة وطرائف، و "إذ" مفعول به لا ظرف (2) .
{ وزادكم في الخلق بسطة } اختلف القراء في "بسطة" هاهنا، وفي "يبسط" في البقرة (3) ، فقرأهما هشام وقُنْبُل وأبو عمرو وحمزة بالسين، وقرأهما الباقون بالصاد، غير أن حفصاً روي عنه الوجهان، وكلهم قرأ: "بسطة" في البقرة بالسين، وقد قرأت في "بسطة" في البقرة بالصاد لابن كثير ولحمزة من غير طرقهما المشهورة (4) .
وحجة من قرأ ذلك كله بالسين: أنه الأصل؛ لأن ما كانت الصاد فيه أصلية لا ترد إلى السين، إذ لا ينقل الحرف إلى أضعف منه، والصاد أقوى من السين بكثير؛ لاستعلائها وإطباقها. وحجة من قرأ بالصاد أقوى مما بين الحرفين من الاتفاق في معنى الاستعلاء والإطباق، فيعمل اللسان عملاً
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/382)، وزاد المسير (3/222).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/290).
(3) ... عند الآية رقم: 247.
(4) ... انظر: الحجة للفارسي (1/452-453)، والنشر (2/228-230)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226)، والسبعة في القراءات (ص:185-186).(1/209)
واحداً متصعداً منطبقاً بالحرفين معاً، وأكثر القراء يختارون ما عليه خط المصحف، وهو الصاد.
والبَسْطة: الفضيلة في الجسم وامتداد القامة (1) .
قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستون ذراعاً (2) .
قال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة (3) .
ولقد رأيت مصداق ذلك وشاهدت صحته حين أرسل الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين رئيس الأصحاب محيي الدين أبا محمد يوسف بن أبي الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي إلى صاحب مصر، فرجع في بعض سفراته ومعه ضرس جبار من الجبارة الأول قد استخرج من بعض مدافنهم، وزنه أربعة عشر رطلاً، وقد انكسرت منه فلقة، هذا مع ما نقصه تطاول الأزمان ومرّ السنين والأحقاب عليه.
قوله تعالى: { فاذكروا آلاء الله } يعني: نعمه الجسام من الاستخلاف وبسط الأجسام. وواحد الآلاء: إِلاَ وأَلاَ، بفتح الهمزة وكسرها، مثل: مِعا وقَفا.
{ قالوا أجئتنا } استفهام في معنى الإنكار والاستبعاد لما أمرهم به من التوحيد ورفض الأنداد.
فإن قيل: كأنه لم يكن بينهم حتى قالوا: "أجئتنا"؟
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: بسط).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/382)، وزاد المسير (3/222).
(3) ... ذكره السيوطي في الدر (3/485) وعزاه لابن عساكر.(1/210)
قلتُ: ساغ ذلك وإن كان بين أظهرهم؛ لكونه أقبل عليهم يأمرهم بما لم يعرفوه، وينهاهم عما ألفوه، منفصلاً عمّا هم عليه من الضلالة، مُتّصلاً بعالم الرسالة، أو لعله قد كان مبايناً لهم يتحنّث (1) ، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أُمِرَ بالتبليغ وكلّف أداء الرسالة جاءهم فقالوا له ذلك.
{ فأتنا بما تعدنا } من العذاب، { إن كنت من الصادقين } فيما تدعيه من إنزاله علينا وإرسالك إلينا.
{ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } جعل سبحانه وتعالى المتوقع واقعاً لتحقق حصوله وقرب نزوله.
قال أبو عمرو بن العلاء: الرجس والرجز واحد، قلبت السين زاياً (2) .
قال الفراء (3) : لعل الرجس والرجز لغتان، أبدلت السين زاياً، كما قيل للأسد: أزد.
قال ابن عباس: "رجس وغضب": عذاب وسخط (4) .
{ أتجادلونني في أسماء } فارغة من المعاني { سميتموها أنتم وآباؤكم } آلهة وعبدتموها من دون الله، { ما نزل الله بها من سلطان } أي حجة وبرهان نيّر، { فانتظروا } أي: ارتقبوا نزول العذاب بكم، { إني معكم من
__________
(1) ... التحنّث: التَّعَبُّد الليالي ذوات العدد (انظر: اللسان، مادة: حنث).
(2) ... انظر قول أبي عمرو هذا في: الطبري (8/222)، وزاد المسير (3/223).
(3) معاني الفراء (1/480).
(4) أخرجه الطبري (8/223)، وابن أبي حاتم (5/1511). وذكره السيوطي في الدر (3/486) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/211)
المنتظرين } ذلك لكم.
الإشارة إلى قصتهم
ذكر ابن إسحاق وغيره: أن عاداً لما تمادوا في طغيانهم وأصروا على عبادة أوثانهم، وقهروا أهل الأرض باستحكام قواهم واستفحال ملكهم وسلطانهم، بعث الله تعالى إليهم هوداً من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً، نبياً، فأمرهم بالتوحيد، ورفض الأنداد، والكفّ عن الظلم، ولم يأمرهم بشيء سوى ذلك، فكذبوه وقالوا له: { سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } [الشعراء:136] فحبس الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، فبعثوا إلى مكة وفداً يستسقي، منهم: قَيْل، ولُقيم، وجلهمة -خال معاوية بن بكر-، ومرثد بن سعد -وكان يكتم إيمانه-، ولقمان بن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فنزلوا على معاوية بن بكر سيد العمالقة، وكانت مكة شرفها الله تعالى إذ ذاك في قبضة العمالقة، وكان مع كل واحد من هؤلاء رهط من قومه، حتى بلغوا -فيما رُوي- سبعين رجلاً، فأكرمهم معاوية بن بكر -وكانوا أخواله وأصهاره-، وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية بن بكر-، فلهوا عما جاؤوا له، فقال معاوية: هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه، وهم ضيفي وأكره أن أذكرهم بما جاؤوا له، فشكا ذلك إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعراً نغنيهم به، فقال:
ألا يا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لعلَّ اللهَ يُسقينا غَمَاما
فيسْقِي أرضَ عادٍ إنَّ عاداً ... قدْ أمْسُوا ما يُبينون الكلاما(1/212)
منَ العطش الشديد فليسَ نرجُوا ... به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما
وقد كانتْ نساؤهمُ بخيرٍ ... فقدْ أمستْ نساؤهمُ عَيَامَى
وإنَّ الوحشَ يأتيهم جِهَاراً ... ولا يخشى لعَادِي سِهَاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتُم ... نهارُكُمُ وليلُكُمُ التَّمَامَا
فقبِّحْ وفْدُكُم منْ وَفْدِ قَوْم ... ولا لُقُّوا التحيةَ والسَّلاما
فلما سمعوا ذلك قال بعضهم لبعض -وكان منزل معاوية ظاهر مكة-: ويحكم ادخلوا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد: والله إنكم لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سُقيتم، فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال [جلهمة] (1) حين سمع كلامه وعرف أنه قد اتبع دين هود (2) :
أبَا سعدٍ فإنكَ من قَبِيل ... ذَوِي كَرَمٍ وأمُّكَ من ثمود
أتترُكَ دينَ آباءٍ كرامٍ ... ذوي رأيٍ وتتبعَ دينَ هُود
ثم قال لمعاوية -وكان حيياً شيخاً كبيراً-: احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم خرجوا يستسقون بمكة لعاد، فخرج مرثد بن سعد حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى قام يدعو الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي ولا تدخلني في شيء مما يدعونك به، فلما استسقوا نشأت سحائب، بيضاء وحمراء وسوداء، فنادى منادٍ: يا قَيْل -وكان قَيْل رأس الوفد-: اختر لنفسك ولقومك
__________
(1) ... في الأصل: جهلمة.
(2) ... البيتان في: الطبري (8/219).(1/213)
واحدة منها، فقال: اخترت السوداء، فإنها أكثر ماءً، فنادى:
اخترتَ رَمَاداً رمْدِدَا ... لا يبقي من آل عَادٍ أحَدَا
لا والداً ولا ولدَا ... إلا جعلتُهم هَمِدَا
ثم ساق الله تعالى السحابة إليهم حتى خرجت عليهم من واديهم، فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا، وكان أول من أبصر ما فيها امرأة منهم يقال لها: مَهْدَد، فصاحت وصعقت، فقيل لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت ريحاً فيها شهب النار، أمامها رجال يقودونها، فسخّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حُسوماً، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم منها إلا ما تلين منه الجلود وتلتذ عليه النفوس، فكانت تقلع الشجر وتهدم البيوت، ومن لم يكن في بيته هبت به الريح حتى تقطعه بالجبال، وكانت ترفع الظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وخرج وفد عاد من مكة فنزلوا على معاوية بن بكر، فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هوداً وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر، فكأنهم شكّوا فيما حدثهم به، فقالت هذيلة بنت بكر: صدق والله (1) .
وذكروا: أن مرثد بن سعد، ولقمان بن عاد، وقَيْل بن عنز، حين دعوا قيل لهم: قد أُعْطيتُم مُناكم لدعائكم فاختاروا لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت، فقال مرثد: يا رب أعطني براً وصدقاً، فأعطي
__________
(1) ... ذكره الطبري في تفسيره (8/218-220)، وتاريخه (1/134-136).(1/214)
ذلك. وقال قَيْل: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي، فقيل له: الهلاك، فقال: لا أبالي، لا حاجة لي في البقاء بعدهم، فأصابه ما أصاب قومه فهلك. وأما لقمان فقال: أعطني يا رب عمراً، فقيل له: اختر لنفسك، فاختار عمر سبعة أنسر، وكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته، فيأخذ الذَّكَر لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع، فكان كل نسر يعيش ثمانين سنة، فلما لم يبق غير واحد قال له ابن أخيه: يا عم ما بقي من عمرك إلا هذا النسر، فقال لقمان: هذا لُبَد، ولُبَد بلسانهم: الدهر، فلما انقضى عمر النسر طارت النسور ولم ينهض فمات، ومات لقمان (1) .
وقد ذكر ذلك النابغة في شعره فقال:
أَضْحَتْ خَلاءً وأَضْحَى قومها احْتُمِلُوا ... أَخْنَى عليها الذي أَخْنَى على لُبَدِ (2)
يريد: آخر نسور لقمان. وسنذكر إن شاء الله تعالى الريح التي أرسلت عليهم في موضعها وما جاء فيها.
ثم إن هوداً عليه السلام لحق بمكة فعبد الله بها هو وأصحابه حتى لحقوا بالله عز وجل.
4'n<خ)ur ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ
__________
(1) ... ذكره البغوي (2/172-173)، والطبري في تاريخه (1/136-137).
(2) ... البيت للنابغة الذبياني، وهو في: ديوانه (ص:31)، والقرطبي (19/25)، ولسان العرب (مادة: لبد)، والأغاني (11/33)، والمستقصى في أمثال العرب (1/37)، وتاج العروس (مادة: لبد).(1/215)
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)(1/216)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَن صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)(1/217)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ اذزب
قوله تعالى: { وإلى ثمود } أي: وأرسلنا إلى ثمود، { أخاهم صالحاً } ، وثمود هاهنا: القبيلة، ولذلك لم يصرفه؛ لأنه اجتمع فيه سببان؛ وهما: التعريف والتأنيث.
وقرأ يحيى بن وثاب: "ثمودٍ" بالجر والتنوين (1) ، يريد: وإلى بني ثمود. أو يريد الحي، وهو أجود، وكانوا يسكنون الحِجْر [إلى] (2) وادي القرى بين الحجاز والشام.
وصالح هو: ابن عبيد بن [آسف] (3) بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن حائر -ويقال: جاثر، بالثاء المثلثة- بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/330)، والدر المصون (3/292).
(2) ... في الأصل: وإلى.
(3) ... في الأصل: أنيف. والصواب ما أثبتناه. انظر: القرطبي (7/238)، والبغوي (2/174).(1/218)
نوح.
وقيل: سميت ثمود؛ لقلة مائها، من الثَّمْد، وهو الماء القليل (1) ، وهم من العرب العاربة.
{ قد جاءتكم بينة من ربكم } أي: علامة ظاهرة شاهدة بصدقي ونبوتي، فكأنه قيل له: ما هذه البينة؟ فقال: { هذه ناقة الله لكم آية } أضيفت الناقة إلى الله إضافة تكريم وتشريف؛ تفخيماً لشأنها وتعظيماً لأمرها، ولكونها جاءت من عنده تبارك وتعالى من غير فحل وطروقه.
و"آية" نصب على الحال، والعامل في الحال: ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل (2) ، كأنه قيل: أشير إليها آية.
فإن قيل: هي آية لهم ولغيرهم، فلم قال: { لكم آية } ؟
قلت: المعنى لكم ولسائر الناس آية، غير أنه غلّب المخاطبون، لأنهم هم المقصودون بتكوينها، وهم الذين [اقترحوها] (3) .
وكان من حديثها قصة هلاكهم على ما نقله أهل العلم بالتواريخ والسير؛ كابن إسحاق، والسدي، ووهب، وغيرهم: أنه لما أهلكت عاد وتقَضَّى أمرها، استخلف الله ثمود في الأرض، وأطال أعمارهم، وأمدّ لهم بالأموال والبنين، وكان أحدهم يبني السكن من المدر فينهدم، وهو حي مراراً، فلما طال ذلك عليهم اتخذوا من الجبال بيوتاً، فجابوها ونحتوها وسكنوها، وكانوا
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: ثمد).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/278)، والدر المصون (3/292).
(3) في الأصل: اقتروحها.(1/219)
في سعة من معايشهم، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض، وكفروا نعمة الله، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحاً عليه السلام شاباً، فدعاهم إلى التوحيد، وحذّرهم وأنذرهم، حتى كبر وشَمِط (1) ، فلم يتبعه إلا قليل، وتمادوا في غيّهم، واقترحوا عليه أن يخرج معهم في يوم عيد لهم، وكانوا يخرجون فيه أصنامهم، وقالوا: ندعوا آلهتنا وتدعو إلهك، فإن استجيب لنا اتبعتنا، وإن استجيب لك اتبعناك. فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا في ذلك اليوم وخرج صالح عليه السلام، فدعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة، فلم تجبهم إلى شيء، فاقترح جندع بن عمرو -وكان سيد قومه- على صالح أن يسأل ربه أن يخرج لهم من الكاثبة -وهي صخرة معروفة عندهم في ناحية الحِجْر- ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء، -والمخترجة: المشاكلة للبخت-، فأخذ صالح عليهم الميثاق إن فعل ليصدّقن، قالوا: نعم. فصلّى صالح ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض الحامل بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله، وهم ينظرون، ثم نتجت فصيلاً يناسبها في العِظَم، فآمن به جندع ورهطه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحب أوثانهم، ورباب -وكانوا من أشراف ثمود-، وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له: شهاب بن خليفة، فأراد أن يسلم، فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال رجل من ثمود (2) :
__________
(1) ... الشَّمَط: الشيْب، وهو بياض شعر الرأس يُخالط سواده (انظر: اللسان، مادة: شمط).
(2) ... يقال له: مهوس بن عنمة بن الدميل. انظر الأبيات في: الطبري (8/226).(1/220)
وكانت عصبة من آل عمرو ... إلى دين النبي دعوا شهابا
عزيز ثمود كلهم جميعاً ... فهمّ بأن يجيب ولو أجابا
لأصبح صالح فيهم عزيزاً ... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حِجْر ... تولوا بعد رشدهم ربابا
فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله، لها شربٌ ولكم شربُ يوم معلوم، فمكثت الناقة ومعها فصيلها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء، فكانت تَرِدُ الماء غِبّاً (1) ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحِجْر يقال لها: بئر الناقة، فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها، ويحتلبونها في يوم وِرْدها ما شاؤوا من لبن عوضاً عن الماء، فيشربون ويدّخرون حتى يملؤا [أوانيهم] (2) كلها، وكانت لا تصدر من حيث تَرِد منه لعظمها.
قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً (3) .
فَهُمْ في ذلك في رفاهية ودعة. وكانت الناقة في حمارَّة القيظ (4) إذا تصيّفت بموضع هربت منه مواشيهم، فشقّ ذلك عليهم، فانتدّ لعقرها الشقي قدار بن سالف -وكان عزيزاً منيعاً، قصيراً، أحمر، أزرق- بتزيين امرأة
__________
(1) ... الغِبُّ من وِرْدِ الماء: هو أن تشرب يوماً ويوماً لا (انظر: اللسان، مادة: غبب).
(2) ... في الأصل: أوانهم.
(3) ... قول أبي موسى هذا أخرجه الطبري في تفسيره (8/230).
(4) ... حمارّة القيظ: أي شدة الحرّ (انظر: اللسان، مادة: حمر).(1/221)
منهم كثيرة المواشي، أطمعته في تزويج بنتها، -وقيل: إنه كان يهواها، فرضي ثمود أجمعين، حتى إنهم كانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أرضيت؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم-، وكَمَنَ لها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بسيف فقطع عُرْقُوبها (1) ، فخَرَّتْ ورَغَتْ، ثم نحرها واقتسموا لحمها وطبخوه، فجاء الخبر إلى صالح فأقبل، فأخذوا يعتذرون إليه ويقولون: إنما عقرها فلان، فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فوجدوه قد رقى رأس جبل اسمه: قارة، فذهبوا ليأخذوه، فمنعتهم القدرة الإلهية، وخالف بينهم وبينه بأن تطاول الجبل حتى لا تناله الطير، فأقبل صالح نحوه، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم رغا ثلاثاً، وانصدعت الصخرة فدخل فيها، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، فقال صالح: تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام، لكل رغوة أجل يوم. وآية ذلك: أنكم تصبحون غداة "مُؤْنِس" ووجوهكم مصفرّة، ثم تصبحون غداة "عَروبة" ووجوهكم محمرّة، ثم تصبحون غداة "شِيار" ووجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب غداة "أول"، فأصبحوا في غداة مؤنس كأن وجوههم طُليت بالخَلُوق (2) ، وفي يوم عَروبة كأنها خضبت بالحِنّاء، وفي يوم شِيار كأنها طُليت بالقَار (3) ،
__________
(1) ... العُرْقوب: هو ما ضمّ ملتقى الوظيفين والساقين من مآخرهما من العَصَب (اللسان، مادة: عرقب).
(2) ... الخَلُوق: الزعفران (اللسان، مادة: خلق).
(3) ... القارُ: هو صُعُدٌ يذاب فيستخرج منه القار، وهو شيء أسود تطلى به الإبل والسفن يمنع الماء أن يدخل (اللسان، مادة: قير).(1/222)
فأيقنوا بالعذاب. وخرج صالح بمن آمن معه من بين أظهرهم، وتحنطوا وتكفنوا وألقوا أنفسهم بالأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، يلقون أبصارهم إلى السماء تارة، وإلى الأرض أخرى، فلما أصبحوا في اليوم الرابع وارتفع الضحى أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، فتقطعت [قلوبهم] (1) في صدورهم، فهلكوا (2) .
فصل
قلت لشيخنا [أبي] (3) البقاء إمام عصره في العلوم الشرعية والأدبية: قول الشاعر (4) :
أُؤمّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنّ يَوْمِي ... لأَوّلَ أَوْ لأَهْوَنَ أو جُبارِ
أو التالي دُبَار فَإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِس أو عَروبة أو شِيارِ
ولا يبقى على الحدثان شخص ... ستطوينا الليالي والنهار
هل هذه الأبيات من شعر العرب؟ وما معناها؟
فقال لي: قال ابن دريد (5) : هي مقولة في الجاهلية، ونظم فيها قائلها
__________
(1) في الأصل: قوبهم. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... أخرجه الطبري (8/225) وما بعدها. وانظر: البغوي (2/175-178).
(3) ... في الأصل: أبو، وهو لحن.
(4) ... انظر البيت الأول والثاني في: الإنصاف (2/497)، والأغاني (2/391)، واللسان وتاج العروس (مادة: جبر، دبر، شير، أنس، وأل، هون).
(5) ... انظر: جمهرة اللغة (3/489).(1/223)
أسماء الأسبوع، ولا معنى للام هاهنا، وإنما هي "بأول" أو "بأهون" والباء بمعنى "في"، المعنى: وأن موتي في أول أو في أهون. وأراد "بأول": الأحد، لأنه أول الأسبوع، و"أهون": يوم الاثنين، وأهون بمعنى أقرب، ومنه قوله تعالى: { وهو أهون عليه } [الروم:27] أي: أقرب، فهو أقرب إلى اليوم الأول، و"جُبار": يوم الثلاثاء؛ لأن به انجبر أول الجميع وهو العلامة، و"دُبار": يوم الأربعاء؛ لأنه أول النصف الثاني من الأسبوع، ودُبُر الشيء: آخره، وأَدْبَر الشيء: تولى (1) ، و"مؤنس": يوم الخميس؛ لأنه فيه يحصل الأنس بقرب الجمعة، والجمعة عندهم عظيمة. ويجوز أن يكون من أنست الشيء، أي: أبصرته وعلمته (2) ، و"عَروبة": يوم الجمعة، وأصله من قولهم: امرأة عَروب، أي: متحببة إلى زوجها (3) ، وكانوا يحبون يوم الجمعة؛ لاجتماعهم فيه. وأما "شِيار" -بالشين المعجمة والياء الواقعة آخر حروف التهجي-: فيوم السبت، واشتقاقه من شوار البيت، وهو نجده وزينته (4) ، فكأن هذا اليوم به تكمل الأحوال الواقعة في الأسبوع.
وأما البيت الثالث فغير معروف عند أهل اللغة.
قوله تعالى: { فذروها تأكل في أرض الله } أي: دعوها ترعى في أرض الله، فليست مؤنتها عليكم، إنما تأكل من رزق الله، { ولا تمسوها بسوء } أي:
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: دبر).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: أنس).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: عرب).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: شور).(1/224)
لا تنالوها بشيء من الأذى تكريماً لها وتعظيماً لحقها، لكونها آية { فيأخذكم عذاب أليم } .
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض } أعطاكم منها مساكن ومنازل، { تتخذون من سهولها قصوراً } .
قال ابن عباس: تبنون القصور بكل موضع (1) .
{ وتَنْحِتُونَ الجبال بيوتاً } وقرأ الحسن البصري: "وتَنْحَتُون" بفتح الحاء (2) ؛ لأن فيه حرفاً من حروف الحلق.
قال ابن عباس: اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال للشتاء (3) .
قال وهب: كان أحدهم يبني البنيان فيمرّ عليه مائة سنة فيخرب، ثم يجدده، فيمرّ عليه مائة سنة فيخرب، ثم يجدده، فيمرّ عليه مائة سنة فيخرب، ثم يجدده، فأضجرهم ذلك، فاتخذوا من الجبال بيوتاً (4) .
وجائز أن يكون المراد بقوله: { تتخذون من سهولها } ما يُتّخذ من تراب أرضها ويُعمل لَبِناً وآجُرّاً.
و"بيوتاً" حال مقدّرة (5) ؛ لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، فهو
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/383).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:226).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/383)، وزاد المسير (3/225).
(4) ... زاد المسير (3/225).
(5) ... انظر: الدر المصون (3/293).(1/225)
كقولهم: خطّ هذا الثوب قميصاً.
وباقي الآية تقدم تفسيره.
قوله تعالى: { لمن آمن منهم } بدل من قوله: "للذين استضعفوا" (1) . والضمير في قوله: "منهم" عائد إلى "قومه"، فيكون الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين، ويكون قوله: "من آمن" مفسر لمن استضعف منهم. وجائز أن يكون عائداً إلى "الذين استضعفوا"، فلا يكون الاستضعاف مقصوراً عليهم، فإن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.
{ أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه } استفهام في معنى الهزء والطَّنْز (2) ، كما تقول للمعتزلة: أتعلمون أن المؤمنين لا ينظرون إلى ربهم في الجنة!.
قوله تعالى: { فعقروا الناقة } أسند العقر إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً؛ لرضاهم به.
قال الأزهري (3) : العقر عند العرب: قطع عُرقوب البعير، ثم جُعِلَ العقر نحراً؛ لأن ناحر البعير يَعْقِره ثم ينحره.
{ وعتوا عن أمر ربهم } أي: جاوزوا الحد في كفرهم وغلوا في باطلهم.
والمعنى: عتوا عما أمرهُم به ربهم على لسان صالح من التوحيد وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم، { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/279)، والدر المصون (3/294).
(2) ... الطّنْزُ: السخرية (اللسان، مادة: طنز).
(3) ... تهذيب اللغة (1/215).(1/226)
العذاب { إن كنت من المرسلين } .
{ فأخذتهم الرجفة } وهي [الزلزلة] (1) الشديدة والحركة العنيفة. يقال: رَجَفَ الشيء يرجُف رَجْفاً ورجفَاناً (2) ؛ إذا تحرك، { فأصبحوا في دارهم } أي: في أرضهم { جاثمين } هامدين لا يتحركون موتى. هذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين (3) .
وقال أبو عبيدة (4) : بعضهم على بعض جثوم.
والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل.
وقال ابن قتيبة (5) : الجثوم: البروك على الركب.
وقال الزجاج (6) : أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم.
قوله تعالى: { فتولى عنهم } أي: أعرض عنهم بعد نزول العذاب، وكره المُقام بأرض غضب الله تعالى على أهلها، فلحق بمكة، فأقام بها حتى توفاه الله تعالى، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
__________
(1) ... في الأصل: الزلزة.
(2) ... أصل الرجف: حركة مع صوت، ومنه قول الله تعالى: { يوم ترجف الراجفة } [النازعات:6]. وقال الشاعر:
... ... ... ... ولما رأيت الحج قد آن وقتُهُ ... وظلت مطايا القوم بالقوم تَرْجُفُ
... (انظر: القرطبي 7/242).
(3) ... انظر: الطبري (8/233)، والوسيط (2/384)، والدر المنثور (3/494).
(4) ... مجاز القرآن (1/218).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:169).
(6) ... معاني الزجاج (2/351).(1/227)
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحِجْر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين". ثم قنّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي (1) .
وفيهما أيضاً من حديث ابن عمر: "أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحِجْر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة" (2) .
وروى جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مَرَّ بالحِجْر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا: من هو؟ قال: أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه" (3) .
ويروى: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ بقبره فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب، فابتدروه وبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن" (4) .
قوله تعالى: { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } قال قتادة: ذكر لنا أن
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1237 ح3200)، ومسلم (4/2286 ح2980).
(2) ... أخرجه البخاري (3/1237 ح3199)، ومسلم (4/2286 ح2981).
(3) ... أخرجه الحاكم (2/351 ح3248)، وابن حبان (14/77 ح6197).
(4) أخرجه أبو داود (3/181 ح3088)، والبيهقي في الكبرى (4/156 ح7441).(1/228)
صالحاً أسمع قومه، وأن شعيباً أسمع قومه، كما أسمع نبيكم قومه (1) . يشير بذلك إلى مناداة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل القليب يوم بدر حين وقف على مصارعهم، فقال مُوبّخاً لهم: وجدنا ما وعد ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً!.
{ ونصحت لكم } قال ابن عباس: خوّفتكم بالله من عقابه (2) ، { ولكن لا تحبون الناصحين } لا تجيبونهم إلى ما يدعونكم إليه.
$"غqن9ur إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ
__________
(1) زاد المسير (3/227).
(2) الوسيط (2/385).(1/229)
مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ارحب
قوله تعالى: { ولوطاً } أي: وأرسلنا لوطاً، أي: واذكر لوطاً.
قال بعض أهل اللغة: هو مشتق من لطتُ الحوضَ؛ إذا مَلَّسته بالطين (1) .
قال الزجاج (2) : وهذا غلط؛ لأن لوطاً من الأسماء الأعجمية ليس من العربية. فأما لطت الحوض، وهذا ألوط بقلبي من هذا، فمعناه: ألصق بقلبي (3) ، واللِّيط: القشر، فهذا صحيح في اللغة، ولكن الاسم أعجمي؛ كإبراهيم وإسحاق، لا تقول إنه مشتق من السُّحْق وهو البعد، وهو كتاب الله الذي لا ينبغي أن يقدم على تأويله إلا برواية صحيحة أو حجة واضحة.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: لوط).
(2) معاني الزجاج (2/351-352).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: لوط).(1/230)
وقد ذكرنا في آل عمران (1) أيضاً: أن نوحاً سمي بذلك؛ لنَوْحه، والظاهر أنهما اسمان أعجميان، ولزمهما الصرف مع العجمة والتعريف لخفتهما، وهو: لوط بن هاران -ويقال: هازان، بالزاي المعجمة- بن تارح، والد إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرنا نسبه في الأنعام.
{ إذ قال لقومه } "إذ" ظرف لـ"أرسلنا"، أو بدل من "واذكر" (2) ، أي: واذكر وقت قال لوط لقومه. { أتأتون الفاحشة } أتفعلون السيئة القبيحة، وهي إتيان الرجال في الأدبار.
قال مجاهد: كان بعضهم يجامع بعضاً في المجلس (3) .
{ ما سبقكم بها من أحد من العالمين } قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط (4) .
و"مِنْ" في قوله: { من أحد } زائدة لتوكيد النفي وزيادة معنى
__________
(1) ... عند الآية رقم: 33.
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/279)، والدر المصون (3/296).
(3) ... أخرجه الطبري (20/146)، وابن أبي حاتم (9/3055). وذكره السيوطي في الدر (6/461) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق.
(4) ... أخرجه الطبري (8/234، 20/144)، وابن أبي حاتم (5/1517)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (1/165 ح154)، والبيهقي في الشعب (4/359 ح5400). وذكره السيوطي في الدر (3/495) وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.(1/231)
الاستغراق، والتي تليها للتبعيض (1) .
{ أئنكم لتأتون الرجال } بيان لقوله: { أتأتون الفاحشة } ، والهمزة فيهما للإنكار والتوبيخ العظيم.
وقرأ نافع وحفص: "إنكم لتأتون" على لفظ الخبر (2) .
{ شهوة من دون النساء } مفعول له (3) ، أي: للاشتهاء فقط، لا حامل لكم على ذلك سوى مجرد الشهوة وميل الطبع، وهذا غاية ما يكون من الذم، حيث جُعلوا كالبهائم المنقادة مع الشهوة، لا يزجرها عقل، ولا يحملها على الفعل طلب مصلحة، ولا خوف مفسدة.
ويجوز أن يكون "شهوةً" نصباً على الحال (4) ، بمعنى: مشتهين تابعين للشهوة.
{ بل أنتم قوم مسرفون } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بما هم عليه من الإسراف في ارتكاب القبائح، وانتهاك المحارم، وتجاوز الحدود.
{ وما كان جواب قومه } حين زجرهم عن هذه الفاحشة الشنيعة ووبخهم على فعلها، { إلا أن قالوا } ضجراً وتهوراً { أخرجوهم } يعنون: لوطاً
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/297).
(2) ... الحجة للفارسي (2/248-249)، والحجة لابن زنجلة (ص:287)، والكشف (1/468)، والنشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:226-227)، والسبعة في القراءات (ص:285-286).
(3) انظر: التبيان للعكبري (1/279)، والدر المصون (3/337).
(4) ... مثل السابق.(1/232)
وأتباعه، { من قريتكم } سَدُوم { إنهم أناس يتطهرون } أي: يتنزهون عن إتيان الرجال، قالوا ذلك استهزاءً وسخرية بلوط وأصحابه.
{ فأنجيناه وأهله } يريد: أهل دينه. وقيل: ابنتيه، واسم الكبرى: رمثا، والصغرى: زعرثا.
وقيل: الكبرى: رية، والصغرى: عروبة.
{ إلا امرأته كانت من الغابرين } الباقين في العذاب، أو من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا. وإنما قال: "الغابرين" ولم يقل "الغابرات"؛ تغليباً لمن هلك معها من الذكور، والفعل منه: غَبَرَ يَغْبُرُ غُبوراً (1) .
قال الشاعر:
وأبي الذي فَتَحَ البلادَ بسيْفِهِ ... ... فأذَلَّها لبَنِي أبَانَ الغَابرِ (2)
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: غبر).
(2) ... البيت ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي. وكان شريفاً عزيزاً، وأبوه الحكم بن أبي العاص الثقفي، أحد أصحاب الفتوح الكثيرة في فارس وغيرها، وكذلك عمه عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، دعاه الحجاج بن يوسف الثقفي فولاه فارس، فلما جاء يأخذ عهده، قال له الحجاج: يا يزيد أنشدني بعض شعرك، وإنما أراد أن ينشده مديحاً له، فأنشده قصيدة يفخر فيها يقول:
... ... ... وأبي الذي فتح البلاد بسيفه ... فأذلها لبني أبان الغابر
... ... ... وأبي الذي سلب ابن كسرى راية ... بيضاء تخفق كالعقاب الكاسر
... ... ... وإذا فخرت فخرت غير مكذب ... فخراً أدقّ به فخار الفاخر
... فنهض الحجاج مغضباً، وخرج يزيد من غير أن يودعه، فأرسل الحجاج حاجبه وراءه يرتجع منه العهد، ويقول له: أيهما خير لك؟ ما ورثك أبوك أم هذا؟ فقال يزيد: قل له:
... ... ... ورثت جدي مجده وفعاله ... ... وورثتَ جدّك أعنزاً بالطائف
... ثم سار ولحق بسليمان بن عبدالملك وهو ولي للعهد، فضمه إليه وجعله من خاصته. وانظر: البيت في: الطبري (8/236).(1/233)
يريد: الباقي (1) .
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
فَغَبَرْتُ بَعْدَهُم بعَيْشٍ ناصِبٍ ... وإِخَالُ أَنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبعُ (2)
{ وأمطرنا عليهم مطراً } يريد: الحجارة التي أرسلت عليهم.
قال مجاهد: نزل جبريل فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ورفعها ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا الحجارة (3) . وسنذكر إن شاء الله تعالى قصتهم مستوفاة بكمالها في موضعها من سورة هود (4) .
4'n<خ)ur مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
__________
(1) ... وقد أوضح هذا المعنى الطبري (8/236) فقال: فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به قوم لوط؟
... قيل: لا بل كانت فيمن هلك.
... فإن قال: فكيف قيل: { إلا امرأته كانت من الغابرين } ، وقد قلت إن معنى"الغابر" الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟
... قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما عنى بذلك، إلا امرأته كانت من الباقين قبلَ الهلاك، والمعمَّرين الذين قد أتى عليهم دهرٌ كبيرٌ ومرّ بهم زمن كثيرٌ، حتى هرِمت فيمن هرِم من الناس، فكانت ممن غبرَ الدهرَ الطويلَ قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.
(2) ... انظر البيت في: اللسان (مادة: نصب)، والدر المصون (3/299).
(3) ... أخرجه الطبري (12/97). وذكره السيوطي في الدر (4/463) وعزاه لابن جرير.
(4) ... عند الآية رقم: 82.(1/234)
شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ(1/235)
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ ×pxےح !$sغ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ×pxےح !$sغur لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارذب
قوله تعالى: { وإلى مدين } أي: وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شعيباً } أكثر العلماء بالنسب يقولون: إنه شعيب بن عيفاء بن يوبب بن مدين بن إبراهيم، ويقال: إنه ابن بنت لوط.
قال سعيد بن جبير: كان شعيب عليه الصلاة والسلام رجلاً أعمى (1) .
وقال أبو روق: لم يبعث الله نبياً أعمى ولا به زمانة (2) .
قال أبو الحسين بن المنادي: وهذا القول أَلْيط بالقلوب من قول سعيد.
قلت: والجمع بين القولين ممكن، بأن يكون عمي في آخر عمره، كما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (12/105). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (4/152)، والسيوطي في الدر (4/470) وعزاه لأبي الشيخ وابن عساكر.
(2) ... زاد المسير (4/152).(1/236)
عمي يعقوب عليه السلام. وكان عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه.
قال قتادة وغيره: وابتعثه الله إلى أُمّتين؛ إلى مدين -وهو ابن عشرين سنة- فعتوا وكفروا به فأخذهم عذاب يوم الظلة. -وقال قتادة: أخذتهم الصيحة والرجفة- وإلى أصحاب الأيكة (1) ، فمكث فيهم باقي عمره فكفروا به، فسلّط الله عليهم الحر سبعة أيام، ثم بعث الله عليهم ناراً فأكلتهم، فذلك عذاب يوم الظلة، فتكون الأمّتان -على قول قتادة- قد اتفقتا في التعذيب.
واختلفوا في مدين؛ فقال قتادة: ماء كان عليه قوم شعيب (2) .
وقال مقاتل (3) : هو ابن إبراهيم الخليل لصلبه.
فعلى هذا هو اسم أعجمي، وإن كان عربياً فالياء فيه زائدة، من قولك: مَدَنَ بالمكان؛ إذا أقام به (4) .
قال الزجاج (5) : و"مدين" لا ينصرف؛ لأنه اسم للقبيلة أو للبلدة (6) . وجائز أن يكون أعجمياً.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/110)، وابن أبي حاتم (9/2811). وذكره السيوطي في الدر (5/92) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (20/54)، وابن أبي حاتم (9/2961). وذكره السيوطي في الدر (6/403) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... تفسير مقاتل (1/401).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: مدن).
(5) معاني الزجاج (2/353).
(6) ... في معاني الزجاج: البلدة.(1/237)
{ قد جاءتكم بينة من ربكم } قال الفراء (1) : لم تكن له آية إلا النبوة. وليس هذا القول بشيء؛ لأنه يستلزم إيجاب التصديق والانقياد إلى دعوى النبوة من غير بينة أو شاهد بصحة الدعوى.
ولأن ذلك يفضي إلى التباس الحق بالباطل.
ولأنه يفضي إلى محال، وما يفضي إلى المحال محال.
فبيان أنه يفضي إلى المحال: أنا لو فرضنا وجود شخصين كل واحد منهما يدعي النبوة، ويشهد بكذب الآخر، من غير أن يكون لكل واحدٍ منهما بينة، فلا يخلو إما أن يجب تصديقهما، أو تكذيبهما، أو تصديق أحدهما دون الآخر. الأول ممتنع؛ لأنه يلزم من تكذيبهما تصديقهما، الثالث ممتنع أيضاً؛ لأنه ترجيح من غير مرجح، ولأن لفظ البينة يشعر بالمعجزة.
قوله تعالى: { فأوفوا الكيل والميزان } أي: آلة الكيل، أو سمي ما يكال به: بالكيل؛ كالعيش: اسم لما يُعاش به، وكانت عادتهم التطفيف في المكيال والميزان، فأُمروا بإيفاء الكيل والميزان ونُهوا عن البخس فقال: { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } . يقال: بَخَسَهُ حَقَّه؛ إذا انتقصه (2) .
وقيل: كانوا مكّاسين، فنهوا عن ذلك بقوله: { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } .
{ ولا تفسدوا في الأرض } بالكفر والجور والمعاصي، { بعد إصلاحها } أي: بعدما أصلح فيها الأنبياء وأتباعهم القائمون مقامهم بإحياء العدل، وإماتة
__________
(1) ... معاني الفراء (1/385).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: بخس).(1/238)
الجَوْر، ونشر ألوية الشرع.
والإضافة في قوله: "بعد إصلاحها" على الوجه المذكور كالإضافة في قوله: { بل مكر الليل والنهار } [سبأ:33]، يريد: بل مكركم في الليل والنهار.
وقيل: المعنى: بعد إصلاح أهلها، على حذف المضاف.
{ ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من إيفاء الكيل والميزان، وترك البخس والإفساد في الأرض.
وقيل: إشارة إلى ما تقدم ذكره مما أمروا به من العبادة وغيرها ونهوا عنه.
{ خير لكم } لما يستلزم من صلاح دنياكم وآخرتكم.
وقيل: ذلكم الوفاء، وترك البخس والفساد، خير لكم؛ لأن من اتصف بهذا الوصف رزق ظاهراً وغالباً حسن الذِّكْر، وجميل الأحدوثة، فرغب في معاملته ثقة بأمانته. وهو قول محتمل، إلا أن قوله: { إن كنتم مؤمنين } يأْبَاهُ؛ لأن جميل الأحدوثة وما يترتب عليه من الرغبة في معاملة المتصف بالإنصاف والأمانة لا يتوقف على الإيمان.
ويحتمل أن يقال في دفع هذا الإشكال: المعنى: ذلكم خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي: "ذلكم خير لكم"، ويكون ذلك خارج مخرج التهييج والإلهاب، والحض على إيفاء الكيل والميزان بما أرشدهم إليه من تحصيل مآربهم، ولا يكون ذلك على وجه الشك منه في علمهم وتصديقهم بذلك.
ومثاله: قول الرجل لابنه إذا رام منه امتثال ما يأمره به وينهاه عنه، وأراد ترغيبه في ذلك وتهييجه عليه: إن كنت ابني وتعلم أن الله فرض(1/239)
طاعتي عليك فأطعني، وهو لا يشك أنه ابنه، ولا يرتاب أن الله فرض عليه طاعته.
قوله تعالى: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قال قتادة وجمهور المفسرين: كانوا يقعدون على الطريق يحذرون الناس ويخوفونهم العذاب ويهدّدونهم إن اتبعوا شعيباً (1) .
وقال السدي: كانوا عشّارين (2) .
فعلى هذا؛ يكون ذلك نهياً لهم عن أخذهم بمجامع الطرق المكس.
وقيل: هذا نهي لهم عن قعودهم على سبيل الحق يصدون الناس عنه.
فإن قيل: سبيل الحق واحد. قال الله: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [الأنعام:153] فكيف قال: { بكل صراط } ؟
قلت: السبيل المشار إليه واحد، لكنه يتشعّب إلى أنواع كثيرة من الفرائض والحدود والأحكام، فكانوا إذا رأوا أحداً يتمسك بشيء منها أو يسلك بعض شعبها توعدوه.
قوله تعالى: { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } قال صاحب
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/238)، وابن أبي حاتم (5/1521). وذكره السيوطي في الدر (3/502) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (8/238). وذكره السيوطي في الدر (3/502) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/240)
الكشاف (1) : الضمير في "آمن به" يعود إلى "كل صراط"، تقديره: توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير؛ زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة [على] (2) عظم ما يصدون عنه.
ويجوز عندي -والله تعالى أعلم-: أن يعود الضمير إلى الله تعالى؛ لأنه أقرب المذكورين.
{ وتبغونها عوجاً } سبق تفسيره وتقريره في آل عمران (3) .
قوله تعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم } أي: اذكروا على وجه الشكر لله إذ كنتم قليلاً عددكم، أذلاء فقراء، فكثّر عَدَدكم وعُدَدكم، وأعزكم وأغناكم.
قال ابن السائب: كان مدين بن إبراهيم وزوجتُه بنت لوط، فولدتْ له حتى كثر عدد أولادها (4) .
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } قبلكم؛ كقوم نوح، وهود، وصالح، ولوط.
{ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا } أي: إن اختلفتم في رسالتي فصرتم طائفتين { فاصبروا } أيها المصدقون
__________
(1) ... الكشاف (2/121).
(2) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... عند الآية رقم: 99.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/387).(1/241)
[والمكذبون] (1) { حتى يحكم الله بيننا } بتعذيب أهل التكذيب والمعصية، وإنجاء أهل التصديق والطاعة، { وهو خير الحاكمين } لأنه عدلٌ لا يجور في حكمه وقضائه.
وفي ضمن هذا بشارة للمؤمنين [ونذارة] (2) للكافرين.
* قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ
__________
(1) ... في الأصل: والمذبون.
(2) في الأصل: نذارة.(1/242)
لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ارزب
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } أي: الأشراف الذين تعظموا وانتفوا من متابعته، { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أي: لا نقرّكم على المخالفة ولا بد من أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية، أو عودكم إلى الملة.
فإن قيل: كيف خاطبوا شعيباً بالعود إلى ملّتهم، وكيف أجابهم بقوله: { إن عدنا في ملتكم } ولم يكن شعيب في ملتهم قط؟
قلت: عنه أجوبة:
أحدها: أن العود هاهنا بمعنى الصيرورة، تقول: عاد عَلَيَّ من فلان مكروه، وإن لم يكن له بذلك سابقة، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:(1/243)
هذي الكرامُ لا قَعْبَانَ من لبنٍ ... شِيَبا بماءٍ فَعَادَا بعدُ أبْوَالا (1)
وقول الآخر:
فإن تكن الأيامُ أحْسَنَّ مَرَّةً ... ... إليَّ فقد عادتْ إليَّ ذنوب (2)
الثاني: أن العود على ظاهره، والمشار إليهم بالعَوْد: الذين آمنوا معه، لكنه أجري معهم في الخطاب ونظم نفسه في جملتهم في الجواب؛ إجراء للكلام على التغليب.
الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام (3) كان قبل أن يختصه الله بالنبوة ويشرفه بالرسالة، داخل في غمار قومه، مخالطاً لهم، وإن كان مبايناً لهم في الشرك والكبائر وما يوجب التنفير من الرذائل والصغائر مما لا يجوز على من أهَّلَه الله لمنصب النبوة والرسالة، فخاطبوه وأجابهم على نحو ما كانوا يعتقدون، كما كانت كفار قريش تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذا عاتبتهُ: تركت دين آبائك ورغبتَ عن ملتهم، وأمثال ذلك من الألفاظ الموهمة ما لا يجوز وقوع مثله من الأنبياء.
قوله تعالى: { قال أو لو كنا كارهين } معناه: أو تجبروننا على ملتكم وإن
__________
(1) ... البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر: ديوانه (ص:52)، وتاج العروس (مادة: قعب)، والعين (1/182)، وتهذيب الأسماء (2/369)، وابن الشجري (1/170)، وشرح المفصل لابن يعيش (8/104)، والقرطبي (7/403)، والدر المصون (3/312)، وزاد المسير (1/226)، والإصابة (5/417)، وتاريخ الطبري (1/449)، وسيرة ابن هشام (1/187)، والأغاني (5/19، 20، 17/302، 313).
(2) ... البيت لكعب الغنوي، يرثي أخاه.
(3) ... في الأصل زيادة: أنه.(1/244)
أكرهنا ذلك.
{ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم } كلام مستأنف يتضمن معنى التعجب، تقديره: ما أكذبنا على الله إن عدنا في ملتكم، أو هو قسم بتقدير حذف اللام. المعنى: والله لقد افْتَرَيْنا (1) .
{ وما يكون لنا } أي: ما ينبغي ولا يصلح لنا { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي: إلا أن يريد ربنا إهلاكنا، ويكون ذلك في سابق علمه.
قال الزجاج (2) : اختلف الناس في تأويل هذه الآية، وأولى التأويلات باللفظ أن يكون: ما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله؛ لأنه ما يكون غير ما يشاء الله، وهذا مذهب أهل السُّنَّة. قال الله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [الإنسان:30] والمشيئة في اللغة بيّنة لا تحتاج إلى تأويل.
والمعنى: ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون الله تعالى قد سبق في علمه ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: { وسع ربنا كل شيء علماً } . ثم قال: { على الله توكلنا } ، وفي موضع آخر: { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت } [هود:88].
وقال قوم: { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي: فالله لا يشاء الكفر، قالوا: وهذا مثل قولك: لا أكلِّمك حتى يَبْيَضَّ القار، ويَشِيب الغراب، والقار لا يَبْيضّ، والغراب لا يشيب. قالوا: فكذلك تأويل الآية.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/303).
(2) ... معاني الزجاج (2/355-356).(1/245)
قال الزجاج (1) : وهذا خطأ؛ لمخالفته أقل من ألف موضع في القرآن لا يحتمل تأويلين؛ أنه لا يكون شيء ولا يحدث شيء إلا بمشيئة الله تعالى وعن علمه، وسُنَّة الرسل تشهد بذلك، ولكن الله تعالى غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم، فأمرهم ونهاهم؛ لأن الحجة إنما ثبتت من جهة الأمر والنهي، وكل ذلك جَارٍ على ما سبق من العلم وجَرَتْ به المشيئة. هذا كله مختصر من كلام الزجاج، وهو اعتقادنا، وبه ندين الله تعالى.
قوله تعالى: { وسع ربنا كل شيء علماً } أي: علم ما كان ويكون. و"عِلْماً" منصوب على التمييز (2) .
{ على الله توكلنا } في الثبات على الإيمان وحصول الأمان مما تتوعدوننا به من الإخراج، { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } .
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما معنى: "افتح بيننا وبين قومنا بالحق" حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، تريد: أقاضيك (3) .
قال الفراء والزجاج (4) وغيرهما (5) : أهل عُمَان يُسمّون القاضي: الفاتح
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/356).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/250)، والدر المصون (3/304).
(3) ... أخرجه الطبري (9/2)، وابن أبي حاتم (5/1523)، وابن أبي شيبة (5/280 ح26076، 6/122 ح29984). وذكره السيوطي في الدر (3/503) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في الوقف والابتداء والبيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ... معاني الفراء (1/385)، ومعاني الزجاج (2/357).
(5) ... وهي لغة حمير. وقيل: مراد.(1/246)
والفتَّاح. وأنشد أبو عبيدة (1) :
أَلا أَبْلِغْ بَني عُصْمٍ رَسُولاً ... ... بأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ (2)
قال الزجاج (3) : وجائز أن يكون المعنى: أظهرْ أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف. فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم.
tA$s%ur الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ
__________
(1) ... مجاز القرآن (1/220).
(2) ... البيت ينسب للأسعر الجعفي، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر: إصلاح المنطق (ص:112)، وأمالي القالي (2/281)، ومعجم مقاييس اللغة (4/469)، والصحاح (4/1709)، والبحر المحيط (4/346)، واللسان (مادة: فتح، رسل)، والدر المصون (3/304)، والماوردي (2/240)، والطبري (1/371، 9/2)، وزاد المسير (3/232).
(3) ... معاني الزجاج (2/358).(1/247)
كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ(1/248)
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ازخب
قوله تعالى: { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً } هذه لام القسم.
وقوله: { إنكم إذاً لخاسرون } سدّ مسدّه جوابي الشرط والقسم (1) .
قال ابن عباس: إنكم إذاً لمغبونون (2) .
وقال عطاء: جاهلون (3) .
والمعنى متقارب؛ لأنهم باستبدال الضلالة بالهدى مغبونون جاهلون.
{ فأخذتهم الرجفة } قد ذكرنا معناها في قصة صالح.
وقال ابن عباس وغيره: فتح الله تعالى عليهم باباً من أبواب جهنم، فأرسل عليهم ريحاً ومِدَّة وحراً شديداً فأخذ أنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم البيوت، فلم ينفعهم ظل ولا ماء، وأنضجهم الحر، فبعث الله
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/305).
(2) ... انظر: الطبري (9/3)، والبغوي (2/182) كلاهما بلا نسبة.
(3) ... ذكره البغوي (2/182).(1/249)
سبحانه وتعالى سحابة فيها ريح طيبة، فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة، فتنادوا: عليكم بها، فخرجوا إلى البرية، فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله تعالى عليهم، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي، وصاروا رماداً (1) ، وهو عذاب يوم الظلة، فذلك قوله تعالى: { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } [هود:94].
قال أبو العالية: في منازلهم.
قال ابن إسحاق: بلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له: عمرو بن جلها، لما رأى الظلة فيها العذاب قال شعراً:
يَا قَوْمِ إِنَّ شُعَيْباً مُرْسَلٌ فَدَعُوا عَنْكُمْ ... سَمِيراً وعِمْرانَ بْنَ شَدَّادِ
إِنِّي أَرَى غَيْثَةً يَا قَوْمِ قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلى صِمَّانَةِ الوادي
وَإِنَّهُ لَمْ يَرَوْا فِيها صِحَاءَ غَدٍ ... إِلاَّ الرَّقِيمَ يَمْشي بَيْنَ أَنْجادِ
وسَمِير وعِمْران: كاهنان، والرقيم: كلب لهم (2) .
وقال أبو عبدالله [البجلي] (3) : أبو جاد، وهَوَّز، وحُطِّي، وكَلَمُن،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (19/110)، وابن أبي حاتم (9/2814-2815)، والحاكم (2/620 ح4074). وذكره السيوطي في الدر (6/320) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس.
(2) ... أخرجه الطبري (9/4)، وابن أبي حاتم (9/2814). وذكره السيوطي في الدر (3/504-505) وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم.
(3) ... في الأصل: البلخي. والتصويب من المصادر التالية. ولم أجد من يكنى بهذا، ولكن روى الطبري في تاريخه مثل هذا الخبر، في ذكر هؤلاء الملوك (1/121)، وإسناده يفسّر هذا الإسناد، قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل ، عن يحيى بن العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي قال: "أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكًا جبابرة".
... ويحيى بن العلاء البجلي كنيته: أبو سلمة، ويقال: أبو عمرو. ولم أجد كنيته: أبو عبد الله، ولكن ظاهر هذا الإسناد يرجح أن: أبا عبد الله البجلي، هو نفسه: يحيى بن العلاء البجلي، والله أعلم.(1/250)
وصعْفَص، وقرشت، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة: كَلَمُن، فقالت أخت كلمن تبكيه:
كَلَمُن هَدَّ رُكْني ... [هَلْكُهُ] (1) وَسْطَ الْمَحَلَّهْ
سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ ... الحَتْفُ نار وَسْطَ ظُلَّهْ
جَعَلَتْ نَارٌ عَلَيْهِمْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ (2)
قوله تعالى: { الذين كذبوا شعيباً } مبتدأ، خبره: { كأن لم يغنوا فيها } (3) .
قال الأصمعي والزجاج (4) وغيرهما: المغاني: المنازل، يقال: غَنينا بمكان كذا، أي: نزلناه (5) . فالمعنى: كأن لم يقيموا بها ولم يسكنوا فيها.
__________
(1) ... في الأصل: ملكه. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... أخرجه الطبري (9/4). وانظر: البغوي (2/182)، والبحر المحيط (4/348).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/280)، والدر المصون (3/305).
(4) ... معاني الزجاج (2/358).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: غنا).(1/251)
وقال ابن عباس: كأن لم يعيشوا في ديارهم (1) .
قال الزجاج (2) : يجوز أن يكون المعنى: كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، كما قال حاتم طيء (3) :
غَنِينا زَمَاناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنَى ... فَكُلاًّ سَقاناهُ بكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ
فَمَا زَادَنَا بَغْياً عَلى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنانا وَلا أَزْرَى بأَحْسابنَا الفَقْرُ
قال: معنى غنينا: عشنا زماناً بالتصعلك، وهو الفقر، والعرب تقول للفقير: صُعْلُوك.
ثم استأنف الله تعالى ذكر شعيب وكرره، ولم يُكَنِّ عنه مبالغة في تفخيمه وتعظيمه وتضليل مكذّبيه فقال: { الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } أي: المخصوصين بالخسران العظيم.
قوله تعالى: { فكيف آسى على قوم كافرين } الأسى: شدة الحزن (4) .
قال العَجَّاج:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/5)، وابن أبي حاتم (6/2052). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:230). وذكره السيوطي في الدر (3/504) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... معاني الزجاج (2/358).
(3) ... البيت في ديوانه هكذا:
... ... ... غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... ... كما الدهر في أيامه العسر واليسرُ
... ... ... كسينا صُروف الدهر ليناً وغلظة ... ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهرُ
... انظر: ديوانه (ص:51)، والقرطبي (7/252)، والبحر المحيط (4/348)، وزاد المسير (3/232)، وروح المعاني (9/6)، واللسان (مادة: صعلك).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: أسا).(1/252)
وانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ منْ فَرْطِ الأسَى (1)
قال الزجاج (2) : نقول: أسِيتُ على الشيء آسَى أسىً؛ إذا اشتد حزنُك عليه.
قال ابن إسحاق: أصاب شعيباً على قومه حزن شديد، ثم عاتب نفسه فقال: { فكيف آسى على قوم كافرين } (3) . فيكون منكراً على نفسه فرط حزنه على قومه.
ويجوز أن يكون قوله: "فكيف آسى" خارجاً مخرج الاعتداد، كأن قائلاً قال له: أحزنتَ على قومك، أو هلا حزنتَ على قومك، فقال معتذراً: فكيف آسى على قوم بالغتُ في إنذارهم وبذلتُ جهدي في مناصحتهم فكذبوني وآذوني.
وقرأت لأبي عمرو من رواية القزاز عن عبدالوارث عنه: "أسى" بقصر الهمزة (4) .
قوله تعالى: { وما أرسلنا في قرية من نبي } قال الزجاج (5) : يقال لكل مدينة قرية؛ لاجتماع الناس فيها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن
__________
(1) ... الرجز للعجاج، وقبله: (يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً * قال نعم أعرفه وأبلسا)
... انظر: اللسان وتاج العروس (مادة: حلب، كرس).
(2) ... معاني الزجاج (2/359). وانظر: مجاز القرآن (1/222).
(3) ... أخرجه الطبري (9/6). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/233).
(4) ... لم أجد هذه القراءة فيما تيسير لي من المراجع.
(5) ... معاني الزجاج (2/359).(1/253)
والحجاج.
وفيه إضمار، تقديره: فكُذِّبَ النبي.
{ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } قال الزجاج (1) : قيل: البأساء كل ما نالهم من شدة في أموالهم، والضراء: ما نالهم من الأمراض. وقد سبق تفسيرهما في البقرة.
{ لعلهم يضرعون } أي: يستكينون ويخشعون لعظمتي، ويخضعون لعزتي، ويخلعون أردية الكبر والأنفة من اتباع رسلي.
قوله تعالى: { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي: حولناهم من البأساء والضراء إلى الصحة والرخاء، ونزعنا عنهم لبوس البؤس { حتى عَفَوْا } أي: كثروا وكثرت أموالهم وحسنت حالهم.
قال الشاعر:
عفَوْا من بعد إقلالٍ وكانوا ... ... زماناً ليسَ عندهُمُ بعيرُ
وقالوا جهلاً واغتراراً وأشراً وبطراً: { قد مس آباءنا الضراء والسراء } يريدون: أن الذي نزل بهم إنما هو من غير الدهر وتصاريف الزمان، فليست الضراء لعقوبة، ولا السراء لمثوبة { فأخذناهم } بعد أن بلوناهم بالخير والشر والنفع والضر، فلم يتعظوا ولم يرجعوا عن عنادهم وكفرهم، { بغتة } أي: فجأة، آمنَ ما كانوا، وذلك أشد الأخذ. { وهم لا يشعرون } في محل الحال من الضمير المنصوب في "أخذناهم" (2) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/359).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/308).(1/254)
والمقصود: تحذير هذه الأمة من مثل ذلك، وتخويف العصاة المستدرجين بالنِّعَم من حلول النِّقَم.
ِqs9ur أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ tbqكJح !$tR (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا(1/255)
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ اززب
قوله تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } قال الزجاج (1) : المعنى: أتاهم الغيث من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكياً كثيراً.
وقيل: هو مجيء الخير، وتيسير أسباب الرزق من كل وجه.
{ ولكن كذبوا } ما جاءت به رسلي وجحدوا وحدانيتي، { فأخذناهم } بقطع أسباب البركة في الرزق { بما كانوا يكسبون } من الكفر والفسق.
قوله تعالى: { أفأمن أهل القرى } هذه الفاء والواو التي بعدها في قوله: { أو أمن } حرفا عطف، والهمزة فيهما للإنكار، والمعطوف عليه: { فأخذناهم بغتة } ، وما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراض (2) ، والمعنى: أفأمن أهل القرى الذين كذبوا الرسل، { أن يأتيهم بأسنا بياتاً } ليلاً { وهم نائمون } .
{ أو أمن } وقرأ الحرميان وابن عامر: "أوْ أمن" بإسكان الواو على العطف بـ"أو" (3) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/360).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/308).
(3) ... الحجة للفارسي (2/253)، والحجة لابن زنجلة (ص:289)، والكشف (1/468)، والنشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:227)، والسبعة في القراءات (ص:286).(1/256)
المعنى: أفأمنوا أن يأتيهم بأسنا نائمين أو لاعبين وممكوراً بهم، فعلى العاقل أن يكون وجلاً دائم الحذر من الله.
قيل لابن عباس: أي رجل كان عمر بن الخطاب؟ فقال: كان كالطير الحذر، الذي كان له بكل طريق شَرَكاً (1) .
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (2) بإسناده عن جعفر قال: قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال: يا بنتاه، إن أباك يخاف البَيات.
َOs9urr& يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ اتةةب
قوله تعالى: { أو لم يهد } أي: يتّضح ويتبين، ولذلك عُدِّي باللام، { للذين
__________
(1) ... ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/32) ، والمناوي في فيض القدير (6/257).
... والشَّرَك: حبائل الصائد، وكذلك ما ينصب للطير (انظر: اللسان، مادة: شرك).
(2) ... الزهد (ص:406).(1/257)
يرثون الأرض من بعد أهلها } وهم كفار مكة ومن حولها الذين استُخلفوا في أثر من كان قبلهم.
وقوله: { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } في موضع رفع بإسناد "يهد" إليه، المعنى: أو لم يتبينوا أنا لو شئنا أصبناهم بذنوبهم وكفرهم، فأهلكناهم كما أهلكنا من كان قبلهم بذنوبهم وكفرهم.
وقال الزجاج (1) : المعنى: أو لم يبيّن الله لهم أنه لو يشاء.
وقرأت ليعقوب الحضرمي: "أو لم نَهْد" بالنون (2) ، على معنى: أو لم نبين لهم.
قوله تعالى: { ونطبع على قلوبهم } معطوف على { يرثون الأرض } ، أو على ما دلّ عليه معنى: "أو لم يهد" (3) ، تقديره: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم، أو هو منقطع، على معنى: ونحن نطبع.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون معطوفاً على "أصبناهم"، على معنى: وطبعنا؟
قلت: لا يساعد عليه المعنى؛ لأنهم كانوا مطبوعاً على قلوبهم من قبل، وهذا التفسير يقتضي خلوّهم عن هذه الصفة.
فإن قيل: فهل يجوز العطف على "أصبناهم" إذا جعلته في تأويل: نُصيبهم؟
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/361).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/235).
(3) ... انظر: الدر المصون (3/310).(1/258)
قلت: نعم؛ لصحة المعنى وانتظامه، لا سيما ومعنى الاستقبال في الماضي هاهنا واضح، ونظيره قوله تعالى: { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } [الفرقان:10]، ثم عطف عليه: { ويجعل لك قصوراً } (1) [الفرقان:10]، وأنشد من ذلك قول الشاعر:
إن يسمَعُوا ريبةً طَارُوا بها فَرَحاً ... عَني وما سَمِعُوا من صَالحِ دَفَنُوا (2)
أي: يدفنوا.
{ فهم لا يسمعون } نَفْيُ السماع عنهم هاهنا في معنى إثبات الصمم لهم في قوله: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة:18] وقد سبق تأويله.
وقيل: المعنى فهم لا يقبلون، كقوله: "سمع الله لمن حمده"، وقد سبق تقديره فيما مضى.
y7ù=د? الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ $ygح !$t6/Rr& وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/310).
(2) ... البيت لقعنب بن أم صاحب. وهو في: المثل السائر (1/117)، وديوان الحماسة (2/187)، وروضة العقلاء (ص:173)، وزاد المسير (3/235، 6/476)، وروح المعاني (10/126)، واللسان، مادة: (شور، أذن)، وتاج العروس (مادة: أذن).(1/259)
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ اتةثب
قوله تعالى: { تلك القرى نقص عليك من أنبائها } قال الزمخشري (1) : هو كقوله: { وهذا بعلي شيخاً } [هود:72] في أنه مبتدأ وخبر وحال. ويجوز أن يكون "القرى" صفة [لـ"تلك"] (2) ، و"نقصّ" خبراً، وأن يكون "القرى نقصّ" خبراً بعد خبر (3) .
فإن قلت: ما معنى "تلك القرى" حتى تكون كلاماً مفيداً؟
قلت: هو كلام مفيد، لكن بشرط التقييد بالحال، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم.
__________
(1) ... الكشاف (2/127-128).
(2) ... في الأصل: لذلك. والتصويب من الكشاف (2/127).
(3) ... انظر: الدر المصون (3/312).(1/260)
فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بـ"نقص عليك"؟
قلت: معناه: أن تلك القرى المذكورة نقصّ عليك بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لم نقصّها عليك.
{ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } وهي الدلائل والبراهين، { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيء الرسل إليهم، وظهور البينات والمعجزات، { بما كذبوا من قبل } ذلك.
وقيل: المراد بالقبليّة: ما سبق في العلم والمشيئة. وهو قول أبي بن كعب (1) .
وقيل: المعنى: ما كان الخلف ليؤمنوا بما كذب به السلف من قبل.
وقال ابن عباس: المعنى: فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم، حين أخرجهم من صلب آدم، فآمنوا كرهاً، حيث أقروا بالألسنة وأضمروا التكذيب (2) .
وقال مجاهد: المعنى: فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم، فهو نظير قوله: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } (3) [الأنعام:28].
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/11)، وابن أبي حاتم (5/1530). وذكره السيوطي في الدر (3/507) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... زاد المسير (3/236).
(3) ... أخرجه الطبري (9/11)، وابن أبي حاتم (5/1530)، ومجاهد (ص:241). وذكره السيوطي في الدر (3/507) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/261)
{ كذلك } أي: مثل ذلك الطبع الشديد { نطبع على قلوب الكافرين } .
قوله تعالى: { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } أي: ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بالعهد الذي أخذناه عليهم حين أخرجناهم من ظهر آدم. هذا هو قول ابن عباس وأكثر المفسرين (1) .
وقال الحسن البصري: المراد بالعهد هاهنا: ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئاً (2) .
{ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } قال أبو عبيدة (3) : المعنى: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.
والقاعدة التي راعيناها في هذا الباب من هذا الكتاب، ما عليه حذّاق البصريين: من أنّ "إِنْ" هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية (4) ، على معنى: وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين مارقين من الطاعة.
NèO بَعَثْنَا مِنْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/12)، وابن أبي حاتم (5/1530-1531). وذكره السيوطي في الدر (3/508-509) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن. ومن طريق آخر عن أبي العالية وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن أبي بن كعب، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... زاد المسير (3/236).
(3) ... مجاز القرآن (1/223).
(4) ... انظر: الدر المصون (3/313).(1/262)
بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ(1/263)
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِن هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِن لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ(1/264)
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ اتتحب
قوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم } أي: من بعد الرسل المذكورين { موسى بآياتنا } وهي المعجزات الخارقة التي أعطيها؛ كالعصا وانفلاق البحر، { إلى فرعون وملأه فظلموا بها } أي: جعلوا بدل الإيمان بها الكفر، فظلموا بذلك غاية الظلم، { فانظر } بعين قلبك { كيف كان عاقبة المفسدين } .
قوله تعالى: { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } قرأ نافع: بالتشديد، بمعنى: و(3) عَلَيّ أن لا أقول إلا الحق.
وبها قرأتُ أيضاً لأبان عن عاصم.
وقرأ عبدالله: "حقيق أن لا" بإسقاط "على" (1) .
وقرأ أُبيّ بن كعب: "حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق" بإسقاط "على" وإقامة الباء مقامها (2) .
وقرأ الأكثرون: "حقيق على أن لا أقول" بتخفيف وحذف الباء (3) .
قال الفراء (4) : العرب تجعل الباء في موضع "على"، فتقول: رميت
__________
(1) ... وهذه القراءة شاذة؛ لمخالفتها الرسم العثماني. انظر: مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ص:50)، والدر المصون (3/316).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر (4/356)، والدر المصون (3/315).
(3) ... الحجة للفارسي (2/254-255)، والحجة لابن زنجلة (ص:289)، والكشف (1/469)، والنشر (2/270)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:227)، والسبعة في القراءات (ص:287).
(4) ... معاني الفراء (1/386) وبه قال أبو الحسن والفارسي.(1/265)
بالقوس وعلى القوس، وجئت بحالٍ حسنة وعلى حالٍ حسنة.
وقال أبو عبيدة (1) : "حقيق" بمعنى: حريص.
{ قد جئتكم ببينة من ربكم } قال ابن عباس: يعني: العصا (2) .
{ فأرسل معيَ بني إسرائيل } أي: أطلق عنهم يدك العادية حتى يذهبوا إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وكان اللعين قد استعبدهم واستذلّهم بعزّ سلطانه، واستخدمهم في الأعمال الشاقة بعد موت يوسف عليه السلام، [وانقراض] (3) الأسباط، فاستنقذهم الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر وبين اليوم الذي دخلها فيه موسى رسولاً؛ أربعمائة سنة.
{ قال إن كنت جئت بآية فأت بها } أي: فأتني بها وأظهرها لي { إن كنت من الصادقين } فيما تقول.
{ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } ظاهر لا لبس فيه. والثعبان: الحية الضخم الذّكر.
قال ابن عباس والفراء (4) : الثعبان: أعظم الحيات، وهو الذَّكَر (5) .
__________
(1) ... مجاز القرآن (1/224).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/392)، وزاد المسير (3/237).
(3) ... في الأصل: وانقراظ.
(4) ... معاني الفراء (1/387).
(5) ... أخرجه الطبري (9/15)، وابن أبي حاتم (5/1532). وذكره السيوطي في الدر (3/511) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/266)
قال ابن السائب: [ملأت] (1) الحية دار فرعون، ثم فتحت فاها، فإذا شدقها ثمانون ذراعاً، ثم شدت على فرعون لتبتلعه، فوثب عن سريره وهرب، وقام به بطنه ذلك اليوم أربعمائة مرة، ولم يستمسك بطنه بعد ذلك حتى هلك (2) .
ويروى: أن الناس ازدحموا حين انهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً (3) .
{ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } قال ابن عباس: أدخلها في جيبه ثم أخرجها فإذا هي تبرق مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخروا على وجوههم، ثم أدخلها إلى جيبه فعادت كما كانت (4) .
فلما شاهدوا هذه الخوارق نسبوه إلى السحر، فذلك قوله حاكياً عنهم: { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } .
فإن قيل: القصة واحدة، فكيف عزا هذا القول هاهنا إلى الملأ، وعزاه في الشعراء إلى فرعون فقال: { قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم } ؟
قلت: إما أن يكون القول صدر منه ومنهم، فحكاه سبحانه تعالى في أحد الموضعين عنه، وفي الآخر عنهم. وإما أن يكون ابتداء القول من فرعون،
__________
(1) ... في الأصل: ملأ. والتصويب من الوسيط (2/392).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/392).
(3) ... انظر: الطبري (9/15)، وابن أبي حاتم (5/1532).
(4) ... أخرج نحوه الطبري (9/15)، وابن أبي حاتم (5/1533). وانظر نص المصنف في: زاد المسير (3/238).(1/267)
فتلقّاه الملأ فقالوه لمن دونهم في الرتبة على قبيل التبليغ.
والمعنى: إن هذا لساحر حاذق يعلم السحر، يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم حتى يخيل إليهم الشيء بخلاف ما هو عليه، ومنه: سحر المطر الأرض؛ إذا قلع نباتها من أصوله، وقلب الأرض ظهراً لبطن (1) .
{ يريد أن يخرجكم من أرضكم } يعني: يريد أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر { فماذا تأمرون } أي: ماذا تشيرون به عليّ، من قولك: أمرته فأمرني بكذا، أي: استشرته فأشار عليّ بكذا. وهذا من تمام كلام فرعون.
وقيل: من تمام كلام الملأ لفرعون وخاصته، أو له وحده، على مذهب التعظيم، أو لمن دونه في الرتبة يستخرجون ما عندهم من الرأي.
والأول -وهو اعتقاد كونه من قول فرعون- أجود؛ توفيقاً ما بين هذا الموضع وبين ما في سورة الشعراء، ولقوله عقيبه: { قالوا أرجه وأخاه } .
قرأ نافع وأهل الكوفة: "أَرْجِهِ" بغير همز، هنا وفي الشعراء (2) ، غير أن عاصماً وحمزة سكّنا الهاء، وكسرها قالون. ووصلها بياء في الوصل: ورش والكسائي، وهمزها الباقون، غير أن أبا عمرو يضم الهاء، وابن ذكون يكسرها (3) ، وهشاماً وابن كثير يصلانها بواو في الوصل والهمز (4) ،
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: سحر).
(2) ... عند الآية رقم: 36.
(3) ... قال أبو بكر: وقول ابن ذكوان هذا وهم؛ لأن الهاء لا يجوز كسرها وقبلها همزة ساكنة، وإنما يجوز إذا كان قبلها ياء ساكنة أو كسرة، وأما الهمز فلا.
(4) ... الحجة للفارسي (2/255-258)، والحجة لابن زنجلة (ص:289-291)، والكشف (1/470)، والنشر (2/107)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:227-228)، والسبعة في القراءات (ص:287-289).(1/268)
وتركه لغتان صحيحتان. تقول: أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه، بمعنى: أَخَّرْته (1) .
قال الفراء (2) : بنو أسد يقولون: أرجيت الأمر بغير همز، وكذلك عامة قيس، وبعض بني تميم يقولون: أرجأت الأمر بالهمز، والقراء مولعون بهمزها، وترك الهمز أجود.
وجميع القراءات التي فيها جيدة، غير أن الزجاج قال (3) : من قرأ: "أرجهْ" بإسكان الهاء فلا [يعرفها] (4) الحذاق بالنحو، ويزعمون أن هاء الإضمار اسمٌ لا يجوز إسكانها.
قال (5) : وزعم بعض النحويين أن إسكانها جائز، وقد رُويت لعمري في القراءة، إلا أن التحريك أكثر وأجود.
ومعنى الكلام: أخّرْهما عنك حتى ترى رأيك فيهما.
{ وأرسل في المدائن } أي: مدائن مصر، { حاشرين } رجالاً يحشرون حذّاق السحرة ويجمعونهم إليك، ألا تراه يقول: { يأتوك بكل ساحر عليم } .
قرأ حمزة والكسائي: "سحّار" بلفظ المبالغة هنا وفي يونس (6) ، على
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: رجأ).
(2) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: زاد المسير (3/239).
(3) ... معاني الزجاج (2/365).
(4) ... في الأصل: يعرفه. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(5) ... أي: الزجاج.
(6) ... عند الآية رقم: 79.(1/269)
وزن [فعّال] (1) ، وقرأهما الباقون: "ساحر" بوزن فاعل. واتفقوا على التي في الشعراء (2) فقرؤوها: "سحّار" بتشديد الحاء بلفظ المبالغة (3) .
قوله تعالى: { وجاء السحرة فرعون } قال المفسرون: لم يترك في سلطانه ساحراً إلا أحضره، وكانوا إذ ذاك متوافرين.
وقد اختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون اختلافاً متنافراً؛ فروي عن ابن عباس ثلاث روايات:
إحداها: أنهم اثنان وسبعون. والثانية: سبعون. والثالثة: اثنان وسبعون ألفاً (4) .
وقال عطاء: سبعون ألفاً (5) . وروي مثله عن وهب وقال: فاختار منهم سبعة آلاف (6) .
وقال الحسن: خمسة وعشرون ألفاً (7) .
وقال ابن إسحاق: خمسة عشر ألفاً (8) .
__________
(1) ... في الأصل: فاعل. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... عند الآية رقم: 37.
(3) ... الحجة للفارسي (2/258)، والحجة لابن زنجلة (ص:291-292)، والكشف (1/471)، والنشر (2/270-271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:228)، والسبعة في القراءات (ص:289).
(4) ... زاد المسير (3/240).
(5) ... انظر: المصدر السابق.
(6) ... زاد المسير (3/241).
(7) ... مثل السابق.
(8) ... مثل السابق.(1/270)
وقيل: غير ذلك. والله تعالى أعلم بعددهم.
قال ابن إسحاق: رؤوس السحرة: ساتور، وعاذور، وحُطْحُط، ومصفى، وهم الذين آمنوا (1) . كذا حكاه ابن ماكولا (2) .
قال مقاتل (3) : واسم أكبرهم: شمعون.
{ قالوا أئنّ لنا لأجراً } قرأ الحرميان وحفص: "إن لنا" بهمزة واحدة مكسورة على الخبر (4) . وقرأ الباقون بالاستفهام، على ما عرف من تفاصيل مذهبهم.
قال أبو علي الفارسي في هذه القراءة (5) : هو أشبه بهذا الموضع؛ لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه.
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } فضمن لهم الأجر عليه وزادهم قربهم إليه.
والمعنى: إنكم لمن المقربين عندي في المنزلة إن غلبتم موسى.
ويروى: أن السحرة قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل، فوجدوه
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2766). وذكره السيوطي في الدر (3/515) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... الإكمال (4/249).
(3) ... تفسير مقاتل (1/408).
(4) ... الحجة للفارسي (2/258)، والحجة لابن زنجلة (ص:292)، والكشف (1/472)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:228)، والسبعة في القراءات (ص:289).
(5) ... الحجة (2/258).(1/271)
تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ [لأن الساحر] (1) إذا نام بطل سحره، [فأبى] (2) إلا أن يعارضوه (3) .
(#qن9$s% يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (3/78).
(2) ... في الأصل: فأبوا. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/78). وانظر: البغوي (3/225).(1/272)
الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ اتثثب
{ قالوا يا موسى إما أن تلقي } عصاك { وإما أن نكون نحن الملقين } حبالنا وعصينا، وهذا الإقدام منهم والاجتراء على التخيير في الابتداء بالإلقاء، يدل على وثوقهم من أنفسهم بإتقان صنعة السحر والمهارة فيه.
ويروى: أن رأس السحرة ومعلمهم قال لفرعون: لقد علمتُهم سحراً لا يطيقه أهل الأرض، إلا أن يكون أمراً من السماء، فإنه لا طاقة لهم به (1) .
وقال السدي: قال أمير السحرة لموسى: لآتينك غداً بسحر لا يغلبه
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/19) عن ابن عباس. وانظر: البغوي (2/187).(1/273)
السحر، ولئن غلبتني لأؤمنن بك (1) .
{ قال ألقوا } (2) إن قيل: كيف استجاز موسى عليه السلام أن يأمرهم بالسحر؟
قلت: إن كان السحر محرماً في شريعته، فهذا كان في مبادئ رسالته قبل نزول التوراة عليه، وتفصيل الأحكام تبين الحلال والحرام، على أن أمرهم بالإلقاء ليس مقصوداً لذاته، وإنما لم يستلزم من إظهار معجزته وإبطال سحرهم وإقامة الحجة عليهم، والحرام قد يصير حلالاً، بل واجباً في بعض الصور؛ إذا استلزم مصلحة عامة، أو أمداً مطلوباً في نظر الشرع. ألا ترى أن أكل الميتة حرام، ثم في حالة الاضطرار يصير واجباً؛ حفظاً للنفس من التلف، والكفار إذا تترسوا بالمسلمين ولم يكن لنا وصول إلى قتلهم إلا بهلاك الذين تترسوا بهم من المسلمين، فإنا نقاتلهم وننوي قتل الكفار، ويقع قتل المسلمين بطريق الضمن والتبع؛ نظراً إلى تحقيق المصلحة العامة.
وذكر الماوردي (3) عن هذا السؤال جوابين:
أحدهما: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين فألقوا.
الثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل.
فإن قيل: ما الحكمة في اختيار موسى عليه السلام تقدمهم عليه في الإلقاء؟
__________
(1) ... زاد المسير (3/241).
(2) ... في الأصل: "قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون". وهو خطأ.
(3) ... تفسير الماوردي (2/246).(1/274)
قلت: عنه أجوبة:
أحدها: أنه رأى لهم حرصاً على التقدم ورغبة فيه، ألا ترى إلى قولهم: { وإما أن نكون نحن الملقين } فأكدوا الضمير وعرفوا الخبر، فسوغ موسى لهم ذلك استحالة لهم إلى الإيمان والإنصاف.
الثاني: أنهم خَيَّرُوه، وكان من تمام الأدب وحسن العشرة وكمال المروءة أن يجازيهم بالأحسن والأجمل، فقدَّمهم لذلك.
الثالث: أن في تثبته عليه السلام وكونه لم يعجل ويبادر إلى الإلقاء عقيب التخيير احتقاراً وازدراء بشأنهم الذي قد حشدوا وحشروا الناس لأجله، وإظهاراً لقلة المبالاة به.
والرابع: أنه عليه السلام أراد دفع باطلهم بالحق الذي جاء به، وأن يقروا ذلك في نفوسهم. فلو ألقى قبلهم لخامر قلوبهم من الوجل الذي لزم منه اختلال النظر ما خامرهم أوّلاً حين ازدحموا حتى مات منهم خمسة وعشرون ألفاً، فأمرهم بالإلقاء قبله ليروا بأبصارهم الناظرة، وبصائرهم الحاضرة، أَثَرَ معجزته في سحرهم العظيم الذي جاؤوا به، فيكون ذلك أبلغ في تحقيق معجزته وتحصيل مقصوده وإقامة حجته.
قوله تعالى: { فلما ألقوا سحروا أعين الناس } قلبوها عن صحة إدراكها حتى رأوا الحبال والعصي حيات غلاظاً قد ملأت الأرض، { واسترهبوهم } قال الزجاج (1) : استدعوا رهبَتَهُم حتى رهبهم الناس.
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/366).(1/275)
ويجوز أن تكون السين زائدة كما سبق، على معنى: أرهبوهم (1) .
{ وجاؤوا بسحر عظيم } في بابه.
{ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } فيه إضمار، تقديره: فألقاها، { فإذا هي تلقف } . قرأ حفص: بإسكان اللام وتخفيف القاف حيث وقع. وقرأ الباقون: بفتح اللام وتشديد القاف (2) . يقال: لَقِفْتُ الشيء وألْقَفه لَقْفاً وتَلَقَّفْته
والْتَقَفْته (3) ، والمعنى: فإذا هي تبتلع { ما يأفكون } أي: يكذبون ويزوّرون على الناس.
قال جماعة من المفسرين: كانوا جعلوا في حبالهم وعصيّهم الزئبق (4) وصوروها على صور الحيات، فاضطرب الزئبق؛ لأنه لا يستقر (5) .
وفي هذا بُعد؛ لأن الله تعالى سماه سحراً، [ووصفه] (6) بكونه عظيماً وكونه كيداً.
قال ابن عباس: ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حبالهم وعصيّهم قد سدّت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فابتلعت ما ألقوا، وجعلت تأكل جميع ما وردت عليه من صخرة وشجرة والناس ينظرون، وفرعون
__________
(1) ... وهو قول المبرد.
(2) ... الحجة للفارسي (2/259)، والحجة لابن زنجلة (ص:292)، والكشف (1/473)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:228)، والسبعة في القراءات (ص:290).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: لقف).
(4) الزئبق: عنصر فلزي سائل في درجة الحرارة العادية (المعجم الوسيط 1/387).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/395).
(6) ... في الأصل: ووصوفه.(1/276)
يضحك تجلداً، فأقبلت الحية نحو فرعون فصاح: يا موسى يا موسى، فأخذها، وعرفت السحرة أن هذا من السماء، فَخَرُّوا سُجَّداً (1) .
قوله تعالى: { فوقع الحق } أي: حصل وثبت، { وبطل ما كانوا يعملون } من السحر لما فقدوا حبالهم وعصيّهم.
{ فغلبوا هنالك } في ذلك الجمع العظيم، { وانقلبوا } يعني: فرعون وملأه، { صاغرين } ذليلين.
{ وألقي السحرة } لعظيم ما شاهدوه من المعجز الذي اضطرهم إلى الإيمان { ساجدين } .
قال ابن عباس: خَرُّوا لله سامعين مطيعين (2) .
وقال ابن عباس أيضاً: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل (3) .
{ قالوا آمنا برب العالمين } فقال لهم فرعون: إياي تعنون، فقالوا: { رب موسى وهارون } .
tA$s% فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/395)، وزاد المسير (3/241).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/395).
(3) ... أخرجه الطبري (9/27). وذكره السيوطي في الدر (3/517) وعزاه لابن جرير.(1/277)
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى(1/278)
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِن الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ(1/279)
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ اتثزب
{ قال فرعون آمنتم به } قرأ حفص ووَرْش: "آمنتم" بهمزة واحدة على الخبر، والباقون بالاستفهام، على تفصيلٍ لهم (1) ، وكذلك الذي في طه (2) والشعراء (3) .
والمعنى: أصدقتم موسى { قبل أن آذن لكم } .
ثم أخذ الخبيث عند ظهور الحق يموّه على الخلق فقال: { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } أي: تصنيع صنعتموه في المدينة فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى الصحراء { لتخرجوا منها أهلها } يعني: القبط، وتسكنوها بني إسرائيل. ثم هدّدهم فقال: { فسوف تعلمون } .
ثم فصّل ما أجمله من الوعيد فقال: { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يريد: قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
قال ابن عباس: أول من قطع ذلك وصلب فرعون (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/260-261)، والحجة لابن زنجلة (ص:293)، والكشف (1/473)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:228)، والسبعة في القراءات (ص:290).
(2) ... عند الآية رقم: 71.
(3) ... عند الآية رقم: 49.
(4) ... أخرجه الطبري (9/23)، وابن أبي حاتم (5/1537). وذكره السيوطي في الدر (3/515) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/280)
{ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } فيجازى كلاًّ بعمله.
{ وما تنقم منا } أي: ما تعيب منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا } التي جاء بها موسى من عند الله { لما جاءتنا } وهذا مثل قول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِم ................ ... ... ........................
وقد سبق.
ثم سألوا الله الصبر على ما توعدهم به والثبات على الدين، فقالوا: { ربنا أفرغ علينا صبراً } .
قال مجاهد: أُصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً، { وتوفنا مسلمين } مخلصين على دين موسى (1) .
قال ابن عباس: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء (2) .
{ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } أي: أرض مصر، بإظهار تضليلك وتجهيلك، والدعاء إلى غير سبيلك، والاستيلاء على ملكك، والتسبب إلى هلكك.
{ ويذرك وآلهتك } عطف على "ليفسدوا"، وهو جواب للاستفهام بالواو (3) . وهو قول ابن الأنباري والزجاج (4) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/396)، وزاد المسير (3/243).
(2) ... أخرجه الطبري (9/24، 16/188)، وابن أبي حاتم (5/1538). وذكره السيوطي في الدر (3/513) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/282)، والدر المصون (3/324-325).
(4) ... معاني الزجاج (2/367).(1/281)
وقرأ أنس بن مالك: "ونَذَرَك" بالنون والنصب (1) .
وقرأ الحسن: "ويذرُك" بالرفع (2) ، على معنى: وهو يذرك، أو هو عطف على "أتذر موسى".
فإن قيل: هو في اعتقادهم ربهم الأعلى، فكيف قالوا: "وآلهتك"؟
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال: صنع فرعون أصناماً لقومه وأمرهم بعبادتها وقال: أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: { أنا ربكم الأعلى } (3) [النازعات:24]، فيكون المعنى: ويذرك وآلهتك التي صنعتها ونصبتها للعبادة.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس والحسن في آخرين: "ويذرك وإلاهتك" بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وألف بعدها (4) . المعنى: ويذرك وربوبيتك وعبادة الناس إياك.
فحملته الحمية حين غرّوه وأغروه بموسى وقومه فقال: { سنقتِّل أبناءهم } وخفّفها ابن كثير ونافع، وشدّدها الباقون (5) .
والمعنى: سنعيد عليهم قتل الأبناء، واستحياء النساء، أراد اللعين بذلك
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/367)، والدر المصون (3/325).
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:229).
(3) ... زاد المسير (3/242).
(4) ... انظر هذه القراءة في: الطبري (9/25)، وزاد المسير (3/244).
(5) ... الحجة للفارسي (2/262)، والحجة لابن زنجلة (ص:294)، والكشف (1/474)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:229)، والسبعة في القراءات (ص:292).(1/282)
إيلام بني إسرائيل واستذلالهم، واجتثاث أصلهم، واستئصال نسلهم، وإيهام أغمار (1) القبط وطغامهم أن موسى ليس هو ذلك المولود الموعود به على ألسنة الكهنة، فإنه خاف انخزالهم عن عادتهم في عبادتهم إياه، فتداخلَ بني إسرائيل روعةُ الوعيد والتهديد، فعادوا إلى صاحب الآية، فهداهم إلى الاعتصام بأوثق أسباب النصر، فقال: { استعينوا بالله واصبروا } أي: اصبروا على دينكم.
وقال الواحدي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمهما الله (2) : المعنى: اصبروا على ما يُفعل بكم، فإنه عليه السلام خاف عليهم الردة عند تفاقم الشدة.
{ إن الأرض لله } مُلْكاً وخَلْقاً، واللام في الأمرين للعهد أو للجنس، { يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } .
قال ابن عباس: العاقبة: الجنة لمن اتقى (3) .
وقيل: العاقبة هاهنا: النصر والظفر (4) .
{ قالوا } يعني: قوم موسى له { أوذينا من قبل أن تأتينا } بالرسالة بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستعباد، والاستخدام في الأعمال الشاقة والمهن، وضرب الجزية، { ومن بعد ما جئتنا } بإعادة ذلك علينا، { قال عسى ربكم
__________
(1) الغمر: الرجل الجاهل بالأمور، والجمع: أغمار (الغريب لابن سلام 1/249).
(2) ... الوسيط (2/397)، وزاد المسير (3/245).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/397).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/397)، وزاد المسير (3/245).(1/283)
أن يهلك عدوكم } فرعون وقومه.
{ ويستخلفكم في الأرض } قال ابن عباس: أرض مصر (1) .
وقيل: أرض الشام (2) .
ويجوز عندي: أن يريد جنس الأرض، على معنى: يجعلكم أيها المؤمنون خلفاً فيها، { فينظر كيف تعملون } أي: فيرى الكائنَ منكم من صالح وطالح.
وروي: أن بعض الزُّهَّاد (3) دخل على المنصور قبل أن يلي الخلافة وعلى مائدته رغيفان، فطلب زيادة لأجله فلم يجد، فقرأ الزاهد هذه الآية: { عسى ربكم أن يهلك عدوكم... الآية } ، ثم دخل عليه بعد الخلافة فذكر له ذلك، وقال: قد بقي { فينظر كيف تعملون } .
ô‰s)s9ur أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
__________
(1) زاد المسير (3/246).
(2) مثل السابق.
(3) وهو عمرو بن عبيد بن باب، التميمي بالولاء، أبو عثمان البصري. أحد كبار المعتزلة وزهادهم وشيخهم في عصره، كان جده من سبي فارس، وأبوه نساجاً، ثم شرطياً للحجاج في البصرة. مات سنة 144هـ (وفيات الأعيان 3/460، وأخبار أصفهان 2/33، والبداية والنهاية 10/78، والأعلام 5/81).(1/284)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ اتجتب
قوله تعالى: { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } أي: ابتلينا أهل دينه بالجدب.
قال الزجاج (1) : يقال: مَسَّتهم السَّنَة، ومعناه: جدْب السنة.
وقال غيره: يقال منه: أسنت القوم؛ إذا أجدبوا (2) .
قال الشاعر:
عَمْرو العُلى هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ (3)
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/368).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: سنت).
(3) ... البيت لعبدالله بن الزبعرى. وهو في: تاريخ الطبري (1/504)، واللسان وتاج العروس (مادة: هشم، سنت)، والعين (3/405)، والدر المصون (3/327)، والقرطبي (7/264، 20/205)، والإنصاف (2/663)، وصبح الأعشى (1/412).(1/285)
قال قتادة: أما السَّنَة: فكانت في بواديهم ومواشيهم. وأما نقص الثمرات: فكان في أمصارهم وقراهم (1) .
وقال ابن عباس في رواية الضحاك: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا: إن كنت رباً كما تزعم فاملأ لنا نيل مصر، فقال: [غدوة] (2) يصبحكم الماء. فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت! أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر، أُصبحُ فيكذبوني. فلما كان جوف الليل اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى بطن نيل مصر، فقام في بطنه فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر [أن] (3) تملأ نيل مصر، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء، لِمَا أراد الله به من الهلكة (4) .
قوله تعالى: { لعلهم يذكرون } أي: فعلنا بهم ذلك لعلهم يذكرون؛ لأن أحوال الشدة ترقق القلب وتوجب الخضوع والخشوع، وتكشف أغطية الغفلة.
قوله تعالى: { فإذا جاءتهم الحسنة } وهي الغيث والخصب والعافية
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/29)، وابن أبي حاتم (5/1541). وذكره السيوطي في الدر (3/518) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) في الأصل: غدة. والتصويب من المصادر التالية.
(3) ... زيادة من المصادر التالية.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1542). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/247)، والسيوطي في الدر (3/518) وعزاه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم.(1/286)
وسعة الأرزاق، { قالوا لنا هذه } يعنون بجهة الاستحقاق، نظراً إلى ما ألفوه من الرفاهية، فلم يشكروا مولاها، بل أصروا على كفرهم وتمادوا في غيّهم، { وإن تصبهم سيئة } وهي نقيض الحسنة المذكورة { يطيروا بموسى ومن معه } فيتشاءموا بهم.
قال الزجاج (1) : إنما قالت العرب الطيرة؛ لأنهم كانوا يزجرون الطائر، فإذا كان ذلك على جهة ما يكرهون على ما اصطلحوا عليه بينهم، جعلوا ذلك أمراً يتشاءمون به.
{ ألا إنما طائرهم عند الله } أي: شؤمهم الذي جاءهم من عند الله بسبب كفرهم، أو يكون المقصود من قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } تقليل ما تشاءموا به في الدنيا بالنسبة إلى ما ادخر لهم من الشؤم في الدار الآخرة. وهو قول الزجاج (2) .
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الكل من عند الله.
(#qن9$s%ur مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/368).
(2) ... معاني الزجاج (2/369).(1/287)
الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)(1/288)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ اتجذب(1/289)
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } الذي عليه حذّاق النحاة: أن "مهما" كلمة تستعمل للشرط والجزاء، أصلها "ما ما" الأولى للجزاء، والثانية زيدت للتوكيد، كما في سائر حروف الجزاء، نحو: { فإما تثقفنهم في الحرب } [الأنفال:57]، ومتى ما، ثم إنهم قلبوا الألف في الأولى هاء؛ فراراً من تكرير المتجانسين، وهذا قول الخليل وسيبويه وسائر البصريين (1) .
قال ابن زيد: معناه: ما تأتنا به، والثانية زائدة (2) .
وقال الكسائي: "مَهْ" للزجر، و"ما" للجزاء (3) .
قال الواحدي (4) : ومعنى الآية: أنهم قالوا لموسى: متى ما أتيتنا بآية، مثل: اليد والعصا، لتسحرنا بها فإنا لن نؤمن لك.
وهذا كلام مدخول فيه على الواحدي، فإن "مهما" ليست من أسماء الزمان.
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف بقوله (5) : وهذه الكلمة في عداد الكلمات
__________
(1) ... انظر: العين (3/358)، والكتاب لسيبويه (3/59). وانظر: المفصل لابن يعيش (4/8). وحكى الرازي في تفسيره عن الكسائي: أن الأصل (مه) التي بمعنى الكفّ؛ أي: اكفف، دخلت على (ما) التي للجزاء، كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا.
(2) ... أخرجه الطبري (9/30)، وابن أبي حاتم (5/1544). وذكره السيوطي في الدر (3/519) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: الدر المصون (3/329).
(4) ... الوسيط (2/398).
(5) ... الكشاف (2/138).(1/290)
التي يحرّفها مَنْ لا يد له في العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب "مهما" بمعنى "متى ما"، ثم يذهب فيفسر { مهما تأتنا به } بمعنى الوقت، فيُلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو (1) بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. وإنما سمّوها آية على طريق الاستهزاء.
قوله تعالى: { فأرسلنا عليهم الطوفان } المشهور: أن ذلك كان بعد أن فرغ أمر السحرة.
وقال السدي: كان قبل أمر السحرة.
قال الأخفش (2) : والطوفان: جمع طُوفَانة، وهو السيل الطاغي.
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: أرسل الله عليهم المطر ليلاً ونهاراً ثمانية أيام، فكان الرجل لا يقدر على الخروج، وامتلأت بيوت القبط ماء دون بيوت بني إسرائيل حتى خافوا الغرق (3) .
وقيل: أرسل الله عليهم الطاعون والمَوْتان (4) .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه الموت الذريع الجارف". وهو قول جماعة، منهم: مجاهد، وعطاء (5) .
__________
(1) في الأصل زيادة قوله: في. وانظر: الكشاف (2/138).
(2) معاني القرآن للأخفش (ص:197).
(3) ... أخرجه الطبري (9/38). وذكره السيوطي في الدر (3/519) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(4) الموتان: الموت الكثير الوقوع (اللسان، مادة: موت).
(5) ... أخرجه الطبري (9/31). وذكره السيوطي في الدر (3/519) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن مجاهد. ومن طريق آخر عن عطاء، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ.(1/291)
قال ابن عباس وغيره: فاستغاثوا بموسى وقالوا: سل ربك أن يكشف عنا الطوفان ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فكشفه عنهم، فنبت في ذلك العام من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأصروا على كفرهم وعنادهم، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكل كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فدعا ربه عز وجل فكشفه عنهم، فلم يتوبوا، فسلّط الله على ما بقي عندهم من أقواتهم القمّل (1) .
قال سعيد بن جبير: فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب الرجل وجلده فيمصّه، وكان أحدهم يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يردّ منها إلا شيئاً يسيراً (2) .
واختلفوا في القُمّل؛ فقيل: هو السوس الذي يكون في الحنطة (3) ، وهو معنى قول الحسن وسعيد بن جبير: هو دواب سود صغار (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/34)، وابن أبي حاتم (5/1545-1546). وذكره السيوطي في الدر (3/520) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: التخريج السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (9/32)، وابن أبي حاتم (5/1547)، ومجاهد (ص:244). وذكره السيوطي في الدر (3/520) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. وهذا هو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير.
(4) ... انظر: المصادر السابقة.(1/292)
وقال مجاهد وعطاء وقتادة: هو الدَّبا، وهو الجراد إذا تحرك قبل نبات أجنحته (1) . والقولان عن ابن عباس (2) .
وقيل: القُمَّل: الحمنان، والواحد حمنانة.
قال أبو عبيدة (3) : هو ضرب من القِرْدان.
وقيل: القُمَّل: القَمْل. قاله جماعة، منهم: زيد بن أسلم (4) ، وكذا قرأها الحسن، بفتح القاف وسكون الميم.
قال المفسرون: فعجّوا من ذلك وشكوا إلى موسى وأعطوه عهد الله وميثاقه إن كشف عنهم هذا ليؤمنن وليرسلن معه بني إسرائيل، فدعا لهم موسى فكشف الله تعالى ما بهم، فقالوا: تحققنا الآن أنك ساحر. وقال فرعون: لا نصدقك أبداً، فأرسل الله عليهم الضفادع ولم يكن عليهم شيء أشدَّ منها (5) .
قال المفسرون: أوحى الله تعالى إلى موسى أن يقوم على ضفة النيل ويشير بعصاه إلى أدناه وأقصاه، ففعل ذلك موسى، فتداعت الضفادع بالنقيق من كل جانب، حتى أعلم بعضها بعضاً، ثم خرجت مثل الليل الدامس، حتى دخلت بيوتهم بغتة، وامتلأت منها آنيتهم وأفنيتهم وأطعمتهم، فكان لا يكشف
__________
(1) ... انظر: الطبري (9/32)، وابن أبي حاتم (5/1547)، ومجاهد (ص:244).
(2) ... انظر القول الثاني في: تفسير ابن عباس (ص:233).
(3) ... مجاز القرآن (1/226).
... والقِرْدان: دُوَيْبَة تعضُّ الإبل، واحدته: قُراد (اللسان، مادة: قرد).
(4) ... انظر: الطبري (9/32)، وابن أبي حاتم (5/1547)، ومجاهد (ص:244).
(5) ... انظر: الطبري (9/39).(1/293)
أحد ثوباً ولا إناء ولا طعاماً ولا شراباً إلا وجد فيه الضفادع. وكان الرجل إذا فتح فاه ليتكلم تثب الضفدع فيه، وكانت تلقي أنفسها في القدور وهي تفور، وفي التنور وهو يَسْجُر (1) ، وفي العجين فيشدخ (2) فيه، ومنعهم القرار والنوم، حتى إن الواحد منهم كان إذا نام فاستيقظ، وجد الضفادع قد ركبته ذراعاً بعضها فوق بعض، فاستغاثوا بموسى وأعطوه العهد المؤكد على الإيمان به وإرسال بني إسرائيل معه، فدعا الله عز وجل فكشفها عنهم، وأراحهم منها فلم يؤمنوا ولم يفوا له بالعهد، فأرسل الله عليهم الدّم فصارت أنهارهم وآبارهم ومياههم كلها دماً (3) .
قال قتادة: ذكر لنا أن فرعون كان يجمع بين الرجلين في إناء واحد، القبطي والإسرائيلي، وكان ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دماً (4) .
وقال مجاهد: كان يستقي الإسرائيلي من النيل ماء طيباً، ويستقي الفرعوني دماً (5) .
وقيل: كانت القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك ثم
__________
(1) سَجَرَ التنور يَسْجُرُه سَجْراً: أوقده وأحماه. وقيل: أشبع وقوده (اللسان، مادة: سجر).
(2) الشّدخ: الكسر في شيء رطب. وقيل: هو التهشيم (اللسان، مادة: شدخ).
(3) انظر: الطبري (9/39)، والوسيط (2/401-402)، وزاد المسير (3/250).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1549). وذكره السيوطي في الدر (3/524) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (9/38)، وابن أبي حاتم (5/1548). وذكره السيوطي في الدر (3/524) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/294)
مُجّيه (1) في فيّ، فيصير الماء في فمها دماً (2) .
فقال فرعون: يا موسى قسمٌ لئن [كشفت] (3) عنا الرجز لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه قومه، فلذلك قوله: { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات } .
قال ابن قتيبة (4) : بين الآية والآية فصلٌ.
قال المفسرون: كانت الآية تمكث فيهم من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، ثم تأتيهم الآية الأخرى (5) .
قال وهب بن منبه: بين الآية والآية أربعون يوماً (6) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات (7) .
وقيل: "آيات مفصلات" أي: مبيناتٍ واضحاتٍ لذوي العقول.
__________
(1) ... مَجَّ الماء من الفم: صبَّه من فمه قريباً أو بعيداً (انظر: اللسان، مادة: مجج).
(2) ... أخرجه الطبري (9/37-38).
(3) ... في الأصل: شكفت.
(4) تفسير غريب القرآن (ص:171).
(5) ... أخرجه الطبري (9/40). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/251)، والسيوطي في الدر (3/524) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.
(6) ... زاد المسير (3/251).
(7) ... مثل السابق.(1/295)
والنصب في "آيات" على الحال (1) .
{ فاستكبروا } عن الإيمان بموسى، { وكانوا قوماً مجرمين } .
قوله تعالى: { ولما وقع عليهم الرجز } أي: وجب عليهم العذاب المذكور.
وقيل: هو طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً.
وأصل الرَّجَز: تتابع الحركات، ومنه: ناقة رَجْزاء، وهي التي ترتعد قوائمها عند قيامها (2) .
فسمي العذاب رجزاً؛ لما يوجب من شدة القلق.
{ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } "ما" مصدرية، والباء في "بما" إما أن تتعلق بما قبلها أو بما بعدها، فإن تعلقت بما قبلها كان المعنى: ادع لنا ربك متوسلاً إليه بعهده عندك وبما أوصاك أن تدعو به، أو هو قسم، تقديره: ادع لنا ربك بحق عهده عندك.
وإن تعلقت بما بعدها فهي قسم، جوابه ما بعده وهو: { لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } (3) .
قوله تعالى: { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه } وهو أجل غرقهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/283)، والدر المصون (3/331).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: رجز).
(3) ... انظر: الدر المصون (3/331).(1/296)
وقوله: { إذا هم ينكثون } جواب "لمّا" (1) ، والمعنى: إذا هم ينقضون العهد.
{ فانتقمنا منهم } أي: عاقبناهم، والاسم منه: النقمة، والجمع: نقمات ونقم، مثل: كلمة وكلمات وكلم.
ثم فسَّر العقوبة فقال: { فأغرقناهم في اليم } وهو البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: لُجّة البحر.
قال الزمخشري (2) : واشتقاقه من التيمم، وهو القصد؛ لأن المستنفعين به يقصدونه، وقد ذكرنا قصة إغراقهم في سورة البقرة.
{ بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي: بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عنها.
قوله تعالى: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بقتل الأبناء والاستعباد والاستخدام في الأرض، يعني: أرض مصر، { مشارق الأرض ومغاربها } يعني: أرض الشام ومصر.
وقال الزجاج (3) : كان منهم داود وسليمان صلى الله عليهما، مَلكُوا الأرض.
يريد بذلك: أن الألف واللام في الأرض للاستغراق، والأول أظهر لقوله: { التي باركنا فيها } يعني: بالماء والشجر والزرع، وسعة الأرزاق،
__________
(1) انظر: الدر المصون (3/332).
(2) الكشاف (2/140).
(3) معاني الزجاج (2/371).(1/297)
وهي أرض العمالقة والفراعنة، وليس كل موضع من الأرض قد بارك فيه بذلك، { وتمت كلمة ربك } وهي قوله تعالى: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } إلى قوله: { يحذرون } [القصص:5-6].
ثم وصف الكلمة فقال: { الحسنى } تأنيث الأحسن { بما صبروا } أي: بصبرهم على أذى فرعون وقومه، أو بصبرهم على الطاعة. وفي هذا أوضح دليل على اقتران النصر بالصبر.
{ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } اسم "كان" مستكن فيها، وهو العائد على "ما"، والجملة الخبر. وقيل: اسمها: "فرعون" وخبرها: "يَصْنَعُ" (1) . ولم يجزه بعضهم؛ لأن الفعل الثاني أولى برفع الاسم الذي بعده.
وقيل: "كان" زائدة (2) ، والمعنى: أهلكنا ما كانوا يصنعون من العمارات { وما كانوا يعرشون } . وقرأ ابن عامر وأبو بكر: "يَعرُشون" (3) بضم الراء هنا وفي النحل (4) ، أي: وما كانوا يبنون.
قال ابن عباس: أي: يسقفون من القصور والبيوت (5) .
قال الزجاج (6) : يقال: عَرَشَ يَعْرِشُ ويعرُش؛ إذا بنى.
__________
(1) ... انظر:التبيان للعكبري (1/283)، والدر المصون (3/333-334).
(2) ... انظر: المصدرين السابقين.
(3) ... الحجة للفارسي (2/263)، والحجة لابن زنجلة (1/294)، والكشف (1/475)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:229)، والسبعة في القراءات (ص:292).
(4) ... عند الآية رقم: 68.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/403).
(6) ... معاني الزجاج (2/371).(1/298)
ويجوز أن يكون المعنى: وما كانوا يعرشون من الجنات. قال الله تعالى: { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } [الأنعام:141].
$tRّ-uq"y_ur بِبَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى(1/299)
الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ اتحتب
ثم إن الله تعالى قصَّ علينا خبر بني إسرائيل وما قالوه وفعلوه من عبادة العجل، وسؤال الرؤية في الدنيا، وقولهم: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ، واعتداءهم في السبت، وغير ذلك من أقوالهم الشنيعة وأفعالهم المنكرة الفظيعة عقيب هذه النعم الذي اختصهم بها من إنقاذهم من رقّ العبودية، وذل الاستخدام، وجعلهم بعد أن كانوا مملوكين ملوكاً، واستعلائهم على أعدائهم ومشاهدتهم تلك الآيات المفصلات، ومعافاتهم من العذاب الذي نزل بالقبط، مع كونهم ملابسيهم في منازلهم ومآكلهم ومشاربهم، وفلق البحر لإنجائهم وإهلاك أعدائهم، ليعلم أن الإنسان كفور لنعم الله كنود، جحود ظلوم، وليسلّي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا يتعاظم ما لقي منهم من البهت والعناد والتكذيب، مع العلم الرصين بحقيقة حاله، وأنه الرسول الموعود به على لسان نبيهم موسى بن عمران وغيره من الأنبياء، فقال تعالى: { وجاوزنا(1/300)
ببني إسرائيل البحر } أي: قطعناه بهم، وكان ذلك يوم عاشوراء، { فأتوا على قوم يَعْكُفُونَ } وقرأ حمزة والكسائي: "يَعْكِفُونَ" بكسر الكاف (1) ، والمعنى: يلازمونها ويواظبون على عبادته، { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً } يعنون صنماً نعكف عليه { كما لهم آلهة } يعكفون عليها.
قال ابن جريج: كانت آلهتهم تماثيل البقر (2) .
{ قال إنكم قوم تجهلون } حيث تطلبون معبوداً غير الله، وقد أراكم من تلك الآيات العظام، وأنعم عليكم بتلك النعم الجسام، وجعل أيديكم بنواصي الجبابرة آخذة، وأوامركم في صياصي الفراعنة نافذة.
قوله تعالى: { إن هؤلاء متبر ما هم فيه } يعني: الذين يعكفون على أصنامهم مهلك ما هم فيه من عبادتها؛ لأنها لا تجلب لهم ثواباً ولا تدفع عنهم عقاباً { وباطل ما كانوا يعملون } أي: يذهب ضياعاً بغير نفع؛ لأنه لغير الله.
ويروى: أن يهودياً قال لعلي عليه السلام: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه. فقال له علي عليه السلام: اختلفنا في الدنيا، وأنتم لم تجف أقدامكم من البحر حتى قلتم: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } (3) .
{ قال أغير الله أبغيكم إلهاً } استفهام في معنى الإنكار، لعظيم ما قالوه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/263)، والحجة لابن زنجلة (ص:294)، والكشف (1/475)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:229), والسبعة في القراءات (ص:292).
(2) ... أخرجه الطبري (9/45). وذكره السيوطي في الدر (3/533) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(3) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (2/141).(1/301)
من الكفر، والتعجب من طلبهم إلهاً لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، بعدما شاهدوا من آيات الله لديهم وآلائه عليهم، { وهو فضلكم على العالمين } بالنعم التي اختصكم بها.
قوله تعالى: { وإذ أنجيناكم } قرأ ابن عامر: "أنجاكم" (1) .
فمن قرأ: "أنجيناكم" فهو على مذهب التعظيم، ومن قرأ: "أنجاكم" فعلى لفظ الواحد، حملاً على قوله: { أغير الله أبغيكم إلهاً } ، والمعنى: اذكروا إذ أنجاكم من آل فرعون.
وقوله: { يسومونكم سوء العذاب } استئناف لا محل له. ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين، أو "من آل فرعون" (2) ، { يقتلون أبناءكم } بدل من "يسومونكم"، أو حال من الضمير المرفوع في "يسومونكم" (3) . وقد أسلفنا في سورة البقرة ما تركنا ذكره هاهنا.
* وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
__________
(1) ... الحجة لابن زنجلة (ص:294)، والنشر (2/271)، والكشف (1/475)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:229)، والسبعة في القراءات (ص:293).
(2) ... انظر: الدر المصون (1/218).
(3) ... انظر: الدر المصون (1/219).(1/302)
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ اتحثب
قوله تعالى: { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } أي: تمام أو انقضاء ثلاثين ليلة.
قال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة، فبلغنا أنه لم يحدث حتى هبط منه (1) .
{ وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة } .
فإن قيل: هذا معلوم، فإن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع انضمام عشر إليها تصير أربعين، فما الفائدة في ذكره؟
قلتُ: فائدته زوال اللبس ورفع الوهم، فإن من الجائز أن تكون العشر ساعات، أو تكون داخلة في الثلاثين، فلما قال: "أربعين ليلة" نفى هذين الجائزين، وعُلم أن العشر ليال، وأنها غير الثلاثين.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (1/280)، وابن أبي حاتم (5/1557). وذكره السيوطي في الدر (1/167-168، 3/535) وعزاه في الموضع الأول لابن جرير، وفي الموضع الثاني لابن أبي حاتم.(1/303)
فإن قيل: "أربعين" نصب أو جرّ؟
قلتُ: نصب على الحال (1) ، على معنى: تم ميقات ربه بالغاً هذا العدد.
{ وقال موسى لأخيه هارون } "هارون" عطف بيان (2) . وقرئ بالرفع على النداء (3) ، والمعنى: وكان موسى قال لأخيه عند انطلاقه إلى الجبل: { اخلفني في قومي } ، أي: كن خليفتي فيهم، { وأصلح } في الخلافة، { ولا تتبع سبيل المفسدين } .
$£Js9ur جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/284)، والدر المصون (3/337).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/379)، والدر المصون (3/338).(1/304)
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ اتحجب
قوله تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا } أي: للوقت الذي حددنا له، واللام للاختصاص، كأنه قيل: واختصّ مجيئه بميقاتنا.
{ وكلمه ربه } أسمعه كلامه من غير واسطة، وإلا فأي مزية (1) كانت له بوصف التكليم.
قال المفسرون: لما أراد الله أن يكلمه أهبطه إلى الأرض ظلمة سبع فراسخ (2) ، فلما دنا موسى من الظلمة تنحى عنه ملكان، وطرد عنه شيطانه، وطرد هوام الأرض، ثم كلّمه الله وأدناه، فرأى الملائكة قياماً في الهواء، ورأى العرش بارزاً، وسمع صريف الأقلام (3) ، وتغشّاه نورٌ لم يزل على وجهه إلى أن مات - صلى الله عليه وسلم - ، وكان لا يزال متبرقعاً، وكان لا يستطيع أحد أن
__________
(1) في الأصل زيادة قوله: ميزة.
(2) ... الوسيط (2/405).
(3) ... صريف الأقلام: أي صوت جريانها بما تكتبه من أَقضية الله ووحيه، وما يَنْسَخُونه من اللوح المحفوظ (اللسان، مادة: صرف).(1/305)
ينظر إلى وجهه لما غشيه من النور، فقالت له زوجته: أنا أَيِّم (1) منك مذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخَرَّت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله عز وجل ناجى موسى بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام كلها وصايا، فكان فيما ناجاه أن قال له: يا موسى! لم يتصنَّع المتصنِّعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرَّب المتقرِّبون بمثل الورع عمّا حرّمت عليهم، ولم يتعبّد المتعبّدون بمثل البكاء من خيفتي. قال موسى: يا إله البرية كلها، ماذا أعددت لهم؟ قال: أما الزاهدون في الدنيا فأُبيحهم جنتي يتبوؤا فيها حيث شاؤوا، وأما الورعون عما حرّمت عليهم فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشتُه الحساب، إلا الورعين فإني أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب. وأما البكَّاؤون من خيفتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يُشارَكون فيه" (2) .
قال المفسرون: طمع موسى حينئذ في الرؤية فقال: { رب أرني أنظر إليك } . مفعول "أرني" الثاني محذوف (3) . قال الزجاج (4) : تقديره: أرني
__________
(1) ... الأيِّم في الأصل هي: التي لا زوج لها، بكراً كانت أم ثيباً، مطلقة كانت أو متوفى عنها (اللسان، مادة: أيم).
(2) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (4/188-189). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/295-296) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه جويبر بن سعيد، وهو ضعيف.
(3) ... انظر: الدر المصون (3/338).
(4) ... معاني الزجاج (2/373).(1/306)
نفسك أنظر إليك.
والمعنى: مَكِّنِّي من الرؤية بتَجَلِّيكَ لي.
وفي هذا دليلٌ واضحٌ على أن رؤية الله تعالى غير مستحيلة؛ لأنها لو كانت مستحيلة لما سألها موسى، ولأنكر الله عليه سؤالها. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم ورفضهم صريح الكتاب وصحيح الأحاديث وتكذيبهم بما تتقاصر عقولهم السخيفة عن إدراكه حتى نسبوا موسى عليه السلام في سؤاله الرؤية لله إلى أحد أمرين؛ إما جهله بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وأعظم بها فرية منهم. وإما إقدامه واجتراؤه على السؤال مع علمه بعدم الجواز على ظنهم الفاسد، فيالها جرأة على كليم الله وصفيّه. وزعم بعض غلاتهم أنه إنما سأل الرؤية لتبكيت السبعين الذين قالوا: { أرنا الله جهرة } حتى يشاهد، ولما عساه يحدث به فيعتبروا أو يسمعوا كلام الله لموسى بالنهي أو بالنفي فينزجروا، فما أحقهم وأولاهم بإنشاد ما قيل:
وجواب مثلك أن يعامل ... بالسكوت عن الجواب
فإنهم جعلوا موسى مرشداً لأولئك بإضلال نفسه، ومصلحاً لهم بإفساد دينه، اللهم فاجعل إيماننا بما أوجبته مشفوعاً بتحقيق الرجاء، وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم إذا حجبته عن أهل الاعتزال والإرْجاء.
قوله تعالى: { قال لن تراني } قال ابن عباس: لن تراني في الدنيا (1) .
وقال غيره: هذا جواب لقول موسى: "أرني"، وهو عليه السلام لم يرد
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/406)، وزاد المسير (3/256).(1/307)
"أرني" في الآخرة، إنما أراد في الدنيا، فيجب أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال.
فلئن قالوا "لن" لنفي الأبد؟
قلنا: وترد أيضاً لنفي الوقت والزمان المتطاول، كما في قوله تعالى مخبراً عن اليهود: { ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم } [البقرة:95] يعني: الموت، ثم أخبر أنهم يتمنونه في النار فقال: { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } [الزخرف:77].
قوله تعالى: { ولكن انظر إلى الجبل } وهو جبل بالشام، يقال اسمه: زَبِير، بفتح الزاي وكسر الباء.
{ فإن استقر مكانه فسوف تراني } قال مقاتل (1) : لما قال موسى: { رب أرني أنظر إليك } ، قال له ربه: { لن تراني } ، ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل، { فإن استقر مكانه } أي: سكن وثبت { فسوف تراني } ، وإن لم يستقر مكانه، فإنك لا تطيق رؤيتي.
{ فلما تجلى ربه للجبل } قال الزجاج (2) : ظهر وبان.
{ جعله دكاً } قرأ حمزة والكسائي: "دكّاء" بالمد وفتح الهمزة من غير تنوين (3) ، على معنى: جعله أرضاً دكّاء مستوية.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (1/413-414).
(2) ... معاني الزجاج (2/373).
(3) ... الحجة للفارسي (2/264)، والحجة لابن زنجلة (ص:295)، والكشف (1/475)، والنشر (2/271)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230)، والسبعة في القراءات (ص:293).(1/308)
وقال المبرد: جعله أرضاً دكاء وهي التي لا تبلغ أن تكون تلاًّ (1) .
وقال غيره: هو على حذف المضاف، تقديره: جعله (2) ، مثل: دكّاء، وهي الناقة التي لا سنام لها.
وقرأ الباقون: "دكاً" بالقصر والتنوين، أي: جعله مدقوقاً. تقول: دككت الشيء أدكّه دكّاً؛ إذا دققته (3) .
قال ابن السائب: جعله أجبالاً صغاراً (4) .
ويروى عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قال في قوله: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } : صارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أُحُد (5) ، ووَرِقان (6) ، ورَضْوى (7) . ووقع بمكة: ثَوْر (8) ، وثَبِير (9) ،
__________
(1) ... انظر: معاني الزجاج (2/373)، والوسيط (2/407).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/339).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: دكك).
(4) ... ذكره البغوي (2/197).
(5) ... أُحُد: اسم الجبل الذي كانت عنده غزوة أُحد، وهو جبل أحمر، وبينه وبين المدينة قرابة ميل في شماليها، وعنده كانت الوقعة التي قُتل فيها حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبعون من المسلمين، وكسرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشجّ وجهه الشريف (معجم البلدان 1/109).
(6) ... ورقان: جبل أسود بين العَرْج والرويثة على يمين المصعد من المدينة إلى مكة، ينصب ماؤه إلى ريم (معجم البلدان 5/372).
(7) ... رضوى: جبل بالمدينة، وهو من ينبع على مسيرة يوم، ومن المدينة على سبع مراحل، ميامنه طريق مكة، ومياسره طريق البريراء لمن كان مصعداً إلى مكة (معجم البلدان 3/51).
(8) ... ثور: اسم جبل بمكة فيه الغار الذي اختفى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (معجم البلدان 2/86).
(9) ... ثبير: جبل بمكة، وهي أربعة أثبرة بالحجاز، وهو الذي صعد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرجف به، فقال: اسكن ثبير، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد (معجم ما استعجم 1/335-336).(1/309)
وحِراء (1) " (2) .
وقال ابن عباس: جعله تراباً (3) .
وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض (4) .
أخبرنا الشيخ أبو الفضل سليمان بن محمد بن علي الموصلي قراءة عليه وأنا أسمع ببغداد، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن علي بن محمد بن الطرّاح، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد النقور، أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة البزاز، أخبرنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، حدثنا أبو خالد هُدبة بن خالد البصري، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } قال: وضع إبهامه على قريب من طرف أنملة خنصره، فساخ الجبل. فقال حميد لثابت: تقول هذا، فرفع ثابت يده
__________
(1) ... حراء: جبل من جبال مكة معروف، وهو على ثلاثة أميال منها، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأتيه الوحي يتعبد في غار من هذا الجبل، وفيه أتاه جبريل عليه السلام (معجم البلدان 2/233).
(2) ... أخرجه الأزرقي (2/280-281)، وأبو نعيم في الحلية (6/314)، وابن كثير في تفسيره (2/246) وقال: هذا حديث غريب، بل منكر.
(3) ... أخرجه الطبري (9/53)، وابن أبي حاتم (5/1560). وذكره السيوطي في الدر (3/545) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الرؤية.
(4) ... أخرجه الطبري (9/53)، وابن أبي حاتم (5/1561). وذكره السيوطي في الدر (3/546) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ.(1/310)
فضرب بها صدر حميد وقال: يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقوله أنس وأنا أكتمه" (1) . هذا حديث لا يطعن في إسناده، رواه عن هدبة جماعة، منهم: علي بن أحمد بن بسطام، ورجاله رجال الصحيحين.
والواجب فيه وفي أمثاله الإيمان والتسليم من غير تشبيه ولا تمثيل، وعلى هذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: { وخرّ موسى صعقاً } يعني: مغشياً عليه من هول ما رأى. قاله ابن عباس (2) .
وقال قتادة: خرّ ميتاً (3) .
والأول أصح؛ لقوله: { فلما أفاق } يعني: من غشيته، { قال سبحانك تبت إليك } يعني: من سؤال الرؤية في الدنيا، أو من سؤال الرؤية قبل الإذن في ذلك، { وأنا أول المؤمنين } أنك لا تُرى في الدنيا. هذا قول ابن عباس وأبو العالية وعامة المفسرين (4) .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/265) من حديث عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب وعن عبدالوهاب بن الحكم عن معاذ بن معاذ كلاهما عن حماد بن سلمة.
(2) ... أخرجه الطبري (9/53)، وابن أبي حاتم (5/1561). وذكره السيوطي في الدر (3/545) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الرؤية.
(3) ... أخرجه الطبري (9/53)، وابن أبي حاتم (5/1561). وذكره السيوطي في الدر (3/547) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (9/55)، وابن أبي حاتم (5/1562). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:235). وذكره السيوطي في الدر (3/547) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ومن طريق آخر عن أبي العالية، وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ.(1/311)
سمعت شيخنا أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه يقول: أخبرنا أحمد بن المبارك، أخبرنا جدي لأمي ثابت بن بندار (1) ، أخبرنا أبو علي بن دوما (2) ، أخبرنا مخلد بن جعفر (3) ، أخبرنا الحسن بن علوية، أخبرنا إسماعيل بن عيسى، أخبرنا إسحاق بن بشر، أخبرنا أبو إلياس، عن وهب بن منبه، قال: لما سمع موسى كلام ربه تبارك وتعالى طمع في رؤيته، { قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } .
قال محمد بن إسحاق: حدثني بعض من لا أتهم قال: قال الله تعالى: يا ابن عمران إنه لا يراني أحد فيحيا، قال موسى: رب لا شريك لك، إني أن أراك وأموت أحبّ إلي من أن لا أراك وأحيا، رب أتمم عليّ نعماك وفضلك وإحسانك بهذا الذي أسألك، وأموت على إثر ذلك.
__________
(1) ... ثابت بن بندار بن إبراهيم، أبو المعالي الدينوري البغدادي البقال، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وطلب العلم في حداثته، توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 19/204-205).
(2) ... هو الحسن بن الحسين بن العباس بن الفضل بن المغيرة، أبو علي، المعروف بابن دوما النعالي، كان كثير السماع، إلا أنه أفسد أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم تكن سماعه ولد سنة ست وأربعين وثلاثمائة، ومات يوم السبت ودفن يوم الأحد الخامس من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (تاريخ بغداد 7/300، وتكملة الإكمال 2/566).
(3) ... مخلد بن جعفر بن مخلد الباقرحي الدقاق، كان ثقة صحيح، توفي في ذي الحجة سنة تسع وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/254-255).(1/312)
قال: وأخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: "لما رأى الله الرحيم بخلقه من حرص موسى على أن يعطيه سؤله، قال: انطلق فانظر الحجر الذي في رأس الجبل فاجلس عليه، فإني مهبط عليك جندي، ففعل. فلما استوى عليه عرض الله عليه جنود سبع سموات، فأمر ملائكة سماء الدنيا أن يعترضوا عليه، فمرّوا بموسى ولهم أصوات مرتفعة بالتسبيح والتهليل كصوت الرعد الشديد، ثم أمر ملائكة السماء الثانية أن يعترضوا عليه، ففعلوا، فمرّوا به على ألوانٍ شتى ذوو وجوه وأجنحة، منهم ألوان الأسد، رافعي أصواتهم بالتسبيح، ففزع موسى منهم، وقال: أي رب إني ندمت على مسألتي، رب هل أنت منجيّ من مكاني الذي أنا فيه؟ قال له رأس الملائكة: يا موسى اصبر على ما سألت، فقليل من كثير ما رأيت. ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى، فأقبل ما لا يحصى عددهم على ألوان شتى ألوانهم كلهب النار، لهم زجل بالتسبيح والتهليل، فاشتد فزع موسى وساء ظنه وأيس من الحياة، فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران، اصبر حتى ترى ما لا تصبر عليه، ثم أوحى الله تعالى إلى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا إلى موسى [بالتسبيح] (1) ، فهبطوا ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج، لهم أصوات عالية بالتسبيح والتقديس، لا تشبه أصوات الذين مروا به. فقال له رأس الملائكة: يا موسى اصبر على ما سألت، فكذلك أهل كل سماء إلى السماء السابعة، ينزلون إليه
__________
(1) ... زيادة من التوابين (ص:14).(1/313)
بألوان مختلفة وأبدان مختلفة، وأقبلت ملائكة يخطف نورهم الأبصار ومعهم حراب، الحربة كالنخلة الطويلة العظيمة، [كأنها نار] (1) أشد ضوءاً من الشمس، وموسى عليه السلام يبكي رافعاً صوته يقول: يا رب اذكرني ولا تنسني، أنا عبدك ما أظن أن أنجو مما أنا فيه، إن خرجت احترقت، وإن مكثت مُتّ. قال له رأس الملائكة: قد أوشكت أن تمتلئ خوفاً وينخلع قلبك، هذا الذي جلست لتنظر إليه. قال: ونزل جبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في سبع سموات وحملة العرش والكرسي وأقبلوا عليه يقولون: يا خاطئ يا ابن الخاطئ، ما الذي رقاك إلى هاهنا؟ وكيف اجترأت أن تسأل ربك النظر إليه؟ وموسى عليه السلام يبكي وقد اصطكّت (2) ركبتاه وتخلعت مفاصله. فلما رأى الله عز وجل ذلك من عبده أراه قائمة عرشه، فتعلق بها فاطمأن قلبه، فقال له إسرافيل: يا موسى، والله لنحن رؤساء الملائكة ولم نرفع أبصارنا نحو العرش منذ خلقنا خوفاً وفرقاً، فما حملك أيها العبد الضعيف على هذا؟ فقال موسى: يا إسرافيل -وقد اطمأن-: أحببت أن أعرف من عظمة ربي ما عرفت، ثم أوحى الله عز وجل للسموات أَنِّي مُتَجَلٍّ للجبل، فارتعدت السموات والأرض والجبال والشمس والقمر والنجوم والسحاب والجنة والنار والملائكة والبحار، وخرُّوا كلهم سُجَّداً، وموسى ينظر إلى الجبل. فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكاً، وخرَّ موسى صعقاً ميتاً من نور رب العزة جل وعلا، فوقع عن الحجر، وانقلب عليه، فصار عليه مثل القبة، لئلا يحترق. -
__________
(1) ... في الأصل: كأنهار. والتصويب من التوابين (ص:14).
(2) ... الصَّكَكُ: اضطراب الركبتين والعرقوبين من الإنسان وغيره (اللسان، مادة: صكك).(1/314)
قال الحسن:- فبعث الله تعالى جبريل فقلب الحجر عن موسى وأقامه، فقام موسى فقال: سبحانك تبت إليك مما سألت، وأنا أول المؤمنين، أي: أنا أول من آمن أنه لا ينظر إليك أحد إلا مات. وقيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا (1) . فهذا آخر الحديث الذي سمعت من شيخنا رحمه الله.
tA$s% يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ
__________
(1) ... أخرجه ابن قدامة في: التوابين (ص:12-15).(1/315)
الْفَاسِقِينَ اتحخب
قوله تعالى: { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس } أي: اخترتك واجتبيتك على الناس، { برسالاتي } وقرأ الحرميان: "برسالتي" على التوحيد (1) ، { وبكلامي } قال الزجاج (2) : لو كان إنما سمع (3) كلام غير الله لما قال: { برسالتي وبكلامي } ؛ لأن الملائكة تنزل على الأنبياء عليهم السلام بكلام الله تعالى.
{ فخذ ما آتيتك } أي: ما أعطيتك من النبوة والحكم والألواح، { وكن من الشاكرين } لأنعمي.
قوله تعالى: { وكتبنا له في الألواح } يعني: أسفار التوراة.
واختلفوا في جوهرها وعددها؛ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنها سبعة ألواح (4) .
وروى عنه أبو صالح: أنها لوحان (5) .
قال سعيد: من ياقوت (6) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/265)، والحجة لابن زنجلة (ص:295)، والكشف (1/476)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230)، والسبعة في القراءات (ص:293).
(2) معاني الزجاج (2/375).
(3) في معاني الزجاج: تبع.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1563).
(5) ... زاد المسير (3/258).
(6) ... أخرجه الطبري (9/66)، وابن أبي حاتم (5/1563). وذكره السيوطي في الدر (3/549) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/316)
وقال مجاهد: من زمرد أخضر (1) .
وقال مقاتل (2) : من زمرد وياقوت.
وقال ابن السائب: من زبرجد أخضر (3) .
وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة، وكان طول اللوح اثني عشر ذراعاً" (4) .
وقوله: { من كل شيء } أي: من كل ما تحتاج إليه بنوا إسرائيل من تفاصيل الأحكام والحكم.
قال ابن عباس: مما افترض وأحلَّ وحرَّم (5) .
قوله تعالى: { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } بدل من "كل شيء" (6) . والمعنى: وتفصيلاً لكل شيء من أمر الدين، { فَخُذْهَا } يعني: الألواح، { بقوة } بعزيمة وجد واجتهاد، وهو عطف على: { وكتبنا له } ، أي: وكتبنا له في الألواح فقلنا له: خذها بقوة.
ويجوز أن يكون قوله: "خذها" بدلاً من "فَخُذْ ما آتيتك" (7) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/66). وذكره السيوطي في الدر (3/549) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... تفسير مقاتل (1/414).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/409).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/408)، والسيوطي في الدر (3/548) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
(5) ... أخرجه الطبري (9/57) عن السدي.
(6) ... الدر المصون (3/340).
(7) ... انظر: الدر المصون (3/340).(1/317)
{ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي: مُرهم يأخذوا بأحسن ما اشتملت عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم؛ كالصبر، فإنه أحسن من الانتصار، وإن كانا مشروعين، والعفو فإنه أفضل من جواز الانتقام بالقصاص وغيره مما أذن الشرع فيه، وفعل الواجبات والمندوبات فإنه أحسن من المباحات.
وقال قطرب وابن الأنباري (1) : ناب "أحسن" عن "حسن"، كما قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (2)
أي: دعائمه طويلة عزيزة.
فالمعنى: وأمر قومك يأخذوا بها فإنها كلها حسنة.
ثم هدّد بني إسرائيل فقال: { سأريكم دار الفاسقين } ، قال الحسن ومجاهد: هي جهنم (3) ، وهذا كقوله: { وإن منكم إلا واردها } [مريم:71].
وقيل: سأريكم دار فرعون وقومه -وهي مصر- كيف أصبحت معطلة منهم خالية عنهم، فيكون ذلك خارجاً مخرج التذكير بالنعم، والتحذير من النقم.
__________
(1) ... انظر: الوسيط (2/409)، وزاد المسير (3/259)، وتهذيب اللغة (4/318).
(2) ... البيت من قصيدة يفتخر فيها على جرير ويهجوه. انظر: ديوانه (2/155)، وشرح المفصل (6/97-99)، ومعاهد التنصيص (1/103)، والعمدة لابن رشيد (1/252، 2/144)، والصاحب (ص:534)، ومجاز القرآن (2/21)، وتهذيب اللغة (10/215).
(3) ... أخرجه الطبري (9/59)، وابن أبي حاتم (5/1566). وذكره السيوطي في الدر (3/562) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/318)
وقال قتادة وغيره: "سأريكم دار الفاسقين" يعني: منازل الجبارين والعمالقة من أرض الشام (1) ، فيكون ذلك خارجاً مخرج البشارة باستفحال أمرهم وعز سلطانهم والرجوع إلى أوطانهم.
وقرأ الحسن البصري: "سَأُورِيكم" بزيادة واو (2) ، وهي لغة فاشية بالحجاز، يقولون: أوْرِني كذا.
وقرئ: "سأورثكم" من الميراث (3) ، كقوله: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } [الأعراف:137].
ك$خژٌہr'y™ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ ڑcrمچ 6s3tGtƒ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/59)، وابن أبي حاتم (5/1566). وذكره السيوطي في الدر (3/562) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/388)، والدر المصون (3/341).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/388)، والدر المصون (3/342).(1/319)
سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتحذب
قوله تعالى: { سأصرف عن آيتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } يريد به صرفهم عن الإيمان بآياته المنزلة، وعن التفكر في عجائب مصنوعاته ومخلوقاته، وذلك بالطبع على قلوبهم.
وقيل: سأصرفهم عن إبطال آياتي، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال آيات موسى، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل.
وقوله: "بغير الحق" في محل الحال، على معنى: يتكبرون غير(1/320)
محقين (1) .
{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } ، قرأ حمزة والكسائي: "الرَّشَد" بفتح الراء والشين. وقرأ الباقون: بضم الراء وسكون الشين (2) .
والمعنى: إن يروا سبيل الله لا يتخذوه سبيلاً، أي: لا يسلكوه تكبراً على رسلي وتعظماً عليهم.
{ وإن يروا سبيل الغي } وهو طريق الشيطان، { يتخذوه سبيلاً } أي: فيسلكوه استسلاماً للشيطان، وذهاباً مع الهوى، { ذلك } الصرف، { بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي: بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن التفكير فيها والتدبر لها.
xsƒھB$#ur قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/342).
(2) ... الحجة للفارسي (2/265)، والحجة لابن زنجلة (ص:295-296)، والكشف (1/476-477)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230)، والسبعة في القراءات (ص:293).(1/321)
سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ اتحزب
قوله تعالى: { واتخذ قوم موسى من بعده } أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل لإعطاء التوراة، { من حُلِيّهم } وهو جمع حُلِيّ، كثَدْي وثُدِيّ.
وقرأ حمزة والكسائي: "حِليهم" بكسر الحاء (1) .
[وقرأ يعقوب بفتحها] (2) وسكون اللام وتخفيف الياء على التوحيد (3) .
والحُلِيّ: اسم لما يتحسن به من النقدين والجواهر.
فإن قيل: كيف نسب الحلي إليهم وكان للقبط؟
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/266)، والحجة لابن زنجلة (ص:296)، والكشف (1/477)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230)، والسبعة في القراءات (ص:294).
(2) ... زيادة من زاد المسير (3/261).
(3) ... النشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230).(1/322)
قلت: الإضافة تكفي فيها أدنى ملابسة واختصاص، وقد حصل ذلك هاهنا بالعارية، لا سيما وقد هلك أصحابه وصار بيد بني إسرائيل على وجه الانفراد، على أنه قد قيل: إن الضمير في "حليهم" يعود إلى القبط. وقد تقدم ذكرهم في مواضع.
فإن قيل: المتخذ السامري وحده، فكيف نسب الفعل إلى الجميع؟
قلت: عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه نُسب إليهم لرضاهم به وإرادتهم له، فإن الفعل ينسب إلى الراضي به كما ينسب إلى فاعله، كما عيّر سبحانه اليهود الموجودين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأنبياء ونسب الفعل إليهم بقوله: { ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون } [البقرة:87].
الثاني: أنه نسب إليهم لكون المتخذ منهم داخلاً في غمارهم، كما تقول: فعلت بنو تميم كذا، وإن كان الفاعل واحداً.
الثالث: أن المعنى: واتخذوه إلهاً وعبدوه، وهو الجواب المعتمد؛ لأنهم لم يصنعوا عجلاً جسداً خائراً؛ لأن هذا لا يدخل تحت وسعهم، إنما اتخذوه إلهاً.
وقوله: { جسداً } بدل من المفعول (1) . يريد: جسداً ذا لحم ودم، وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ووهب وعامة المفسرين (2) . ويؤيده قوله تعالى: { له خوار } وهو صوت البقر.
__________
(1) ... الدر المصون (3/344).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1568). وذكره السيوطي في الدر (3/563) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.(1/323)
وقرأ علي عليه السلام: "له جُؤَار" بالجيم مهموزاً (1) ، مِنْ جَأَرَ يَجْأَر؛ إذا صاح (2) .
قال ابن عباس: كان العجل إذا خار سجدوا (3) .
ويروى عن ابن عباس: أنه خار خورة واحدة (4) .
وقال مجاهد: خواره: حفيف الريح فيه (5) ، يشير إلى أنه كان لا روح فيه.
قال ابن الأنباري: ذكر الجسد دلالة على عدم الروح (6) .
وفي هذا بُعْد لوجوه:
أحدها: أنه خلاف الظاهر من قوله: "خوار"، أو "جؤار" على قراءة علي عليه السلام.
الثاني: افتتانهم إنما كان بانفعاله عجلاً خائراً من الحلي، ولو كان ذهباً مصوغاً تجري الريح في منافذه فيظهر له صوت لم يكن ذلك فتنة ولا عجباً.
الثالث: قوله: { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } فإنه كان رأى
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/390)، والدر المصون (3/344).
(2) ... اللسان (مادة: جأر).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1568). وذكره السيوطي في الدر (5/588) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... زاد المسير (3/262).
(5) ... أخرجه الطبري (16/205). وذكره السيوطي في الدر (5/595) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... انظر: زاد المسير (3/261-262).(1/324)
جبريل حين أتى موسى عليه السلام فقال: إن لهذا شأناً، فقبض القبضة من أثر حافر فرسه فألقاها على الحلي، فظهر العجل، فلو لم يكن فيه روح وله خوار حقيقة لم يحتج في وجوده إلى القبضة؛ لأن كل أحد من الصاغة يقدر على ذلك.
قوله تعالى: { ألم يروا أنه لا يكلمهم } أي: لا يقدر على إجابة دعائهم، { ولا يهديهم سبيلاً } المعنى: فكيف اتخذوا إلهاً دون من لو كان ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلماته، ولكن ما هذا بأول أضاليلهم وأباطيلهم وجهالاتهم وظلمهم، ألا تراه يقول: { اتخذوه وكانوا ظالمين } أي: وكانوا قوماً عادتهم الظلم ووضع الأشياء في غير مواضعها.
قوله تعالى: { ولما سقط في أيديهم } كناية عن فرط الندم وشدة الحسرة.
قال الزجاج (1) : يقال للنادم على ما فَعَلَ، الحسير على ما فرط منه: قد سُقِطَ في يده وأُسْقِطَ.
قال الزمخشري (2) : لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده [غماً] (3) ، فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها.
وقرأ ابن السميفع: "سَقَطَ في أيديهم" (4) على تسمية الفاعل، أي: وقع
__________
(1) معاني الزجاج (2/378).
(2) الكشاف (2/151).
(3) زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/263)، والدر المصون (3/346).(1/325)
العض فيها.
وقال الزجاج (1) : معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد [ويرى] (2) بالعين. وكان هذا حين رجع موسى إليهم.
{ ورأو } أي: وتبينوا { أنهم قد ضلوا } عن طريق الهدى وصاروا أسوأ حالاً من القبط، { قالوا لأن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } وقرأ حمزة والكسائي: "ترحمنا" و"تغفر" بالتاء فيهما، "ربَّنا" بالنصب على النداء والاستعانة والدعاء (3) ، { لنكونن من الخاسرين } .
$£Js9ur رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى
__________
(1) معاني الزجاج (2/378).
(2) ... في الأصل: ويروى. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (2/271)، والحجة لابن زنجلة (ص:296)، والكشف (1/477)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:230)، والسبعة في القراءات (ص:294).(1/326)
الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ(1/327)
الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اتخحب
قوله تعالى: { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً } الأسيف: الشديد الغضب (1) ، ومنه: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف:55].
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: أسف).(1/328)
وقيل: الحزين (1) .
{ قال بئسما خلفتموني من بعدي } جائز أن تكون خطاباً للسامري وأشياعه الذين تلبسوا بعبادة العجل، وجائز أن تكون خطاباً لأخيه ووجوه بني إسرائيل.
والمعنى على الأول: بئسما خلفتموني من بعدي حيث اتخذتم العجل إلهاً.
والمعنى على الثاني: بئسما خلفتموني حيث لم تأخذوا على أيدي الكفرة الفجرة الذين عبدوا العجل وأعرضوا عن عبادة الله تعالى.
وفاعل "بئس" مضمر، يفسره: "ما خلفتموني"، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم (2) .
وفائدة قوله: "من بعدي" مع قوله: "خلفتموني" تذكيرهم ما شاهدوا من معجزاته الباهرة وآياته الظاهرة، كأنه قيل: بئسما خلفتموني من بعد ما رأيتم مني من المعجزات الدالة على عظمة الله تعالى وقدرته ووحدانيته.
قوله تعالى: { أعجلتم أمر ربكم } تقول: [عجلت] (3) عن كذا؛ إذا تركته ناقصاً لم تتمه، ويتضمن معنى سبق، فيعدى تعديته، يقال: عجلت كذا. والمعنى: أعجلتم أمر ربكم وميقات الأربعين فلم تصبروا، وحدثتم أنفسكم
__________
(1) ... وهو قول ابن عباس والسدي والكلبي. أخرجه ابن أبي حاتم (5/1569). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:235). وذكره السيوطي في الدر (3/564) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، من طرق عن ابن عباس. وذكره من وجه آخر عن ابن عباس وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/347).
(3) ... في الأصل: عجعلت. وكذا وردت في المواضع التالية.(1/329)
بموتي، فعبدتم غير الله وغيّرتم كما غيّرت الأمم قبلكم.
وكان عليه [الصلاة والسلام] (1) حديداً سريع الغضب، قوي البطش، عظيم الانتقام لله.
{ وألقى الألواح } التي فيها التوراة. قال ابن عباس: لما رمى الألواح فتحطمت رفع منها ستة أسباعها وبقي سُبع (2) .
قال المفسرون: وكان فيما رُفع تفصيل كل شيء، وفي ما بقي الهدى والرحمة (3) .
أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يُلْقِ الألواح، فلما عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت" (4) .
قوله تعالى: { وأخذ برأس أخيه } يعني: هارون عليه السلام وكان أكبر منه، وأحبّ إلى بني إسرائيل وألين عريكة (5) ، كما ذكرناه فيما مضى،
__________
(1) ... في الأصل: السلام والصلاة.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1569). وذكره السيوطي في الدر (3/549) وعزاه لابن أبي حاتم. وذكره أيضاً (3/564) وعزاه لأبي الشيخ.
(3) ... أخرجه الطبري (9/66)، وابن أبي حاتم (5/1424). وذكره السيوطي في الدر (3/565) وعزاه لأبي نعيم في الحلية عن مجاهد وسعيد بن جبير.
(4) ... أخرجه أحمد (1/271).
(5) ... العريكة: الطبيعة، يقال: فلان لَيِّنُ العريكة: إذا كان سَلِساً مطاوعاً قليل الخلاف والنُّفور (اللسان، مادة: عرك).(1/330)
{ يجرّه إليه } بذؤابته (1) ولحيته غضباً لله، وحميّة للدين، وظناً منه أنه أساء في خلافته وعصى بإقامته بين أظهرهم، ألا تراه يقول: { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني } ، فقال له هارون معتذراً ومستعطفاً وباعثاً لدواعي شفقته ومرققاً له؛ بذكر من كان بطنها لهما وعاء، وثديها سقاء، وحجرها حواء، وممتّاً إليه بقرابة من لاقت الأهوال وقاست الشدائد في تربيته، { ابن أمَّ } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص: بفتح الميم، مِنْ أمَّ، هنا وفي طه، وكسرها الباقون (2) .
فمن فتح جعل الاسمين اسماً واحداً لكثرة الاستعمال وبناه على الفتح؛ كخمسة عشر. ومن كسر فعلى حذف ياء الإضافة.
وقرأ ابن السميفع: بإثبات الياء على الأصل (3) . قال الشاعر:
يابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... ... أَنْتَ خَلفتني لدهرٍ شَدِيدِ (4)
قال ابن عباس: كان أخاه لأبيه وأمه، وإنما قال: { يا بن أم } ليرققه
__________
(1) ... الذؤابة: هو الشعر المضفور من شعر الرأس (اللسان، مادة: ذأب، وترتيب القاموس 1/245).
(2) ... الحجة للفارسي (2/272)، والحجة لابن زنجلة (ص:297)، والكشف (1/478)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:231)، والسبعة في القراءات (ص:295).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/394)، والدر المصون (3/348).
(4) ... البيت لأبي زبيد الطائي، من قصيدة يرثي بها أخاه. انظر: ديوانه (ص:48)، وشرح التصريح (2/179)، والكتاب (2/213)، واللسان، مادة: (شقق)، والمقاصد النحوية (4/222)، وأوضح المسالك (4/40)، وشرح الأشموني (2/457)، وشرح قطر الندى (ص:207)، وشرح المفصل (2/12)، والمقتضب (4/250)، وهمع الهوامع (2/54).(1/331)
عليه (1) .
وحكى الثعلبي (2) : أنه كان أخاه من أمه فقط.
وليس بصحيح ولا فرضي من القول.
{ إن القوم استضعفوني } فقهروني { وكادوا يقتلونني } لهواني عليهم، والمعنى: لم يكن ذلك لسوء خلافتي فيهم وتفريطي فيما يجب عليّ حفظه من قوانين الدين والسياسة، { فلا تشمت بي الأعداء } عبدة العجل فتفعل بي ما يتمنونه لي من الاستخفاف بي والانتهاك لحرمتي، { ولا تجعلني } في موجدتك (3) عليّ ونسبتك المعصية إليّ { مع القوم الظالمين } وأنا منهم بري وعنهم عري.
فلما استبان لموسى عليه السلام عذر أخيه وباينه غضبه { قال رب اغفر لي ولأخي } أي: اغفر لي ما صنعته بأخي مع براءته مما اتهمته به، ولأخي إن كان وجد منه تفريط خفي عليه أو عليّ { وأدخلنا في رحمتك } أي: في جنتك { وأنت أرحم الراحمين } .
قوله تعالى: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم } وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم، { وذلة في الحياة الدنيا } قال ابن عباس: هي الجزية (4) .
__________
(1) زاد المسير (3/265).
(2) الثعلبي (6/258).
(3) الموجدة: الغضب (اللسان، مادة: وجد).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/413) بلا نسبة، وزاد المسير (3/265).(1/332)
وقال الزجاج (1) : هي قتلهم أنفسهم.
والذي يظهر لي أن المراد بالذلة: ما لابسهم من العار والشنار بسبب عبادة العجل، فإنه حين سُقِطَ في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، ذلوا واستحيوا لقبيح ما ارتكبوه.
وجائز أن يراد بقوله: { إن الذين اتخذوا العجل } اليهود الموجودون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون تعييراً لهم بصنيع أسلافهم، فيكون قوله: { سينالهم غضب من ربهم } متمحضاً للاستقبال، بمعنى: ينالهم غضب الله في الآخرة، { وذلة في الحياة الدنيا } بالقتل والسبي والنفي، وضرب الجزية عليهم، { وكذلك نجزي المفترين } .
قال ابن عباس: وكذلك أعاقب من اتخذ إلهاً دوني (2) .
قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذِلَّة، وقرأ هذه الآية (3) .
وقال سفيان بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذِلَّةً تغشاه، وهو في كتاب الله. قالوا: وأين هي في كتاب الله؟ قال: أما سمعتم قول الله: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم } قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة، فقال: اتلوا ما بعدها { وكذلك نجزي
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/379).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/414)، وزاد المسير (3/266).
(3) ... زاد المسير (3/266).(1/333)
المفترين } ، وهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة (1) .
قوله تعالى: { والذين عملوا السيئات } قال ابن عباس: الشرك (2) .
وقيل: الشرك وغيره من الذنوب، { ثم تابوا } رجعوا من بعد ذلك، يشير إلى السيئات، { وآمنوا } بالوحدانية وما يجد الإيمان به، { إن ربك من بعدها } أي: من بعد السيئات { لغفور رحيم } .
قوله تعالى: { ولما سكت عن موسى الغضب } أي: [سكتت] (3) فورته وخمدت ناره { أخذ الألواح } يريد: ما بقي منها { وفي نسختها } قال ابن قتيبة (4) : أي: فيما نسخ فيها، { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } أي: يخافون، ودخلت اللام تقوية للفعل وجبراً لما كسبه تقديم معموله عليه من الضعف.
u'$tG÷z$#ur مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/280). وذكره السيوطي في الدر (3/565-566) وعزاه لأبي الشيخ.
(2) الوسيط (2/414)، وزاد المسير (3/266).
(3) في الأصل: سكت. والصواب ما أثبتناه.
(4) تفسير غريب القرآن (ص:173).(1/334)
قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ اتخخب
قوله تعالى: { واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا } أي: من قومه، فلما سقط الحرف الجار تعدى الفعل فنصب (1) ، كقول الشاعر:
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مَالٍ وذا نَشَبِ (2)
تقديره: أمرتك بالخير.
__________
(1) انظر: الرازي (15/15)، وروح المعاني (9/71-72).
(2) ... البيت لعمرو بن معدي كرب، انظر: ديوانه (ص:63)، وخزانة الأدب (9/124)، ومغني اللبيب (ص:315)، والدر المصون (1/210).(1/335)
والنَّشَبُ: المال والعقار.
اختلف العلماء في سبب هذا الإخبار، فقال السدي: أمره الله أن يأتي في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار منهم سبعين رجلاً، فلما سمعوا كلام الله قالوا أرنا الله جهرة، فأخذتهم الرجفة (1) . وقد ذكرنا ذلك في البقرة عند قوله: { فأخذتكم الصاعقة } [البقرة:55].
قال ابن إسحاق: اختارهم [ليتوبوا] (2) إليه مما صنعوا ويسألوا التوبة على من تركوه وراءهم من قومهم (3) .
وقال وهب بن منبه: قالت بنو إسرائيل لموسى: إن طائفة يزعمون أن الله لا يكلمك، ولو كلمك ما قمت لكلامه، ألم تر أن طائفة منا سألوا النظر فماتوا، فأوحى الله تعالى إليه أن اختر من خيارهم سبعين رجلاً، ثم أرتق بهم الجبل، ففعل (4) .
وقال ابن السائب: اختارهم فلم يصب إلا ستين شيخاً، فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشباب عشرة، فاختار فأصبحوا شيوخاً، واختار من كل سبط ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال موسى: إنما أمرت بسبعين فليتخلف منكم رجلاً، فتشاحوا، فقال موسى: لمن قعد مثل أجر من خرج، فقعد رجلان؛ يوشع وكالب، وأمر موسى السبعين أن يصوموا ويطهروا ثيابهم،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/72).
(2) ... في الأصل: ليتوا. والتصويب من الطبري (9/72).
(3) ... أخرجه الطبري (9/72).
(4) ... زاد المسير (3/268).(1/336)
ثم خرج بهم لميقات ربه (1) .
واختلفوا في كيفية هذه الرجفة وسببها؛ فقال السدي وابن إسحاق: إنهم لما سمعوا الكلام، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً (2) .
وقال ابن عباس: إن السبعين الذين قالوا: "لن نؤمن لك حتى نرى الله"، كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر الله تعالى موسى أن يختار منهم سبعين ليدعوا ربهم، فاعتدوا في الدعاء، فقالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك منهم، وأخذتهم الرجفة (3) .
قال وهب: لم تكن الرجفة موتاً، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة، فسكنوا واطمأنوا (4) .
وقال علي عليه السلام: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون كما ذكرناه في وفاة هارون عليه السلام في التيه، فاختاروا سبعين منهم لينطلق بهم موسى فيشاهدوه، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى: يا هارون قتلت أم متّ؟ فقال: ما قتلت، ولكن الله تعالى توفاني.
__________
(1) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (2/155).
(2) ... أخرجه الطبري (9/72). وانظر: الوسيط (2/415)، وزاد المسير (3/269).
(3) أخرجه الطبري (9/72)، وابن أبي حاتم (5/1574). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:236). وذكره السيوطي في الدر (3/568) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ذكره البغوي (2/203)، والقرطبي (7/295).(1/337)
فقالوا: يا موسى، لن نعصي بعد اليوم، فأخذتهم الرجفة فصعقوا فماتوا. فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم؟ يقولون: أنت قتلتهم، فأحياهم الله له جميعاً، وجعلهم أنبياء كلهم (1) .
قال المفسرون: خاف موسى عليه السلام أن يتهمه بنوا إسرائيل ولا يصدقوه إذا عاد إليهم فأخبرهم بالحال، وتضرع إلى الله وقال: { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } يعني: من قبل خروجنا، أو من قبل هذا الميقات، أو من قبل أن تبتليهم بما استوجبوا به الرجفة، { وإياي } فكان بنوا إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني (2) .
{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } قال المبرد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا (3) ، وقد علم موسى أن الله أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره، ولكن هذا كقول عيسى: { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [المائدة:118].
وقيل: استفهام في معنى الجحد، أي: لستَ تفعل ذلك (4) .
وقيل: أراد بالاستفهام: عبدة العجل، كأنه عليه السلام ظن أنهم إنما هلكوا باتخاذ أصحابهم العجل وإقامتهم بين أظهرهم، لم يزايلوهم ولم يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر.
__________
(1) أخرجه الطبري (9/73)، وابن أبي حاتم (5/1573). وذكره السيوطي في الدر (3/567) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/415)، وزاد المسير (3/269).
(3) ... انظر: البغوي (2/204)، والقرطبي (7/295).
(4) ... وهو قول ابن الأنباري. انظر: الوسيط (2/415).(1/338)
{ إن هي إلا فتنتك } أي: إن الفتنة التي وقع فيها السفهاء "إلا فتنتك" امتحانك وابتلاؤك، { تضل بها من تشاء } وهم الذين أصابتهم الفتنة، { وتهدي من تشاء } وهم الذين اعتصموا بدينهم وأقاموا على طاعة ربهم، { أنت ولينا } القائم بأمرنا وحفظنا { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } .
* وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ(1/339)
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ اتخذب(1/340)
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } أي: أوجب لنا في هذه الدنيا الأعمال الصالحة المفضية إلى رضاك، { وفي الآخرة } يعني: المغفرة والجنة، { إنا هُدْنا إليك } مِنْ هَادَ يَهُودُ؛ إذا رجع (1) . قال الشاعر:
قَدْ عَلِمَتْ هِنْد وجَارَتُها ... ... أَنِّي مِنَ الناسِ لَها هَائِدُ (2)
والمعنى: رجعنا إليك.
ومنه قول الشاعر:
يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ ... ... واسْجُدْ كَأنكَ هُدْهُدْ (3)
وقرأ أبو وَجْزَة السعدي: "هِدنا" بكسر الهاء (4) ، مِنْ هادَه يَهِيدُه؛ إذا حَرَّكَه (5) ، ويحتمل أمرين: أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول، بمعنى: حرّكنا إليك أنفسنا وأملناها إليك، أو حركنا إليك، على تقدير: فعلنا.
{ قال عذابي أصيب به من أشاء } وقرأ الحسن وابن السميفع: "من أساء" من الإساءة (6) ، { ورحمتي وسعت كل شيء } ، قال الحسن وقتادة:
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: هود).
(2) ... انظر البيت في: البحر المحيط (4/400)، والدر المصون (3/352) وفيهما: (سلمى) بدل: (هند)، و(الله) بدل: (الناس).
(3) ... انظر البيت في: الكشاف (2/156)، وروح المعاني (9/76)، والدر المصون (3/352).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/270)، والدر المصون (3/353).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: هيد).
(6) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:231)، وزاد المسير (3/270)، والدر المصون (3/353).(1/341)
وسعت البرّ والفاجر في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة فهي للمتقين خاصة (1) .
قال ابن عباس وقتادة: لما نزلت: { ورحمتي وسعت كل شيء } قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله منه فقال: { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } . -قال ابن عباس: يتّقون الشرك (2) . وقال قتادة: الشرك والمعاصي (3) -، فلما نزلت قالت اليهود والنصارى: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات الله، فبرأها منهم وجعلها لهذه الأمة فقال: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - (4) .
وسمي أمّياً؛ لما ذكرناه في البقرة.
وقيل: لأنه من أُمّ القرى (5) .
{ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } منعوتاً فيهما، موصوفاً بما يأمرهم به وينهاهم عنه ويحلّه لهم ويحرّمه عليهم.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/80)، وابن أبي حاتم (5/1578). وذكره السيوطي في الدر (3/571) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... أخرجه الطبري (9/81). وذكره السيوطي في الدر (3/573) وعزاه لابن جرير.
(3) ... أخرجه الطبري (9/81)، وابن أبي حاتم (5/1580).
(4) ... أخرجه الطبري (9/79-80)، وابن أبي حاتم (5/1579)، والبيهقي في الشعب (1/343). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/272)، والسيوطي في الدر (3/572-573) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن قتادة.
(5) ... الماوردي (2/268)، وزاد المسير (3/272).(1/342)
بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار، قال: "لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، [وحرزاً] (1) للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يتوفاه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: (لا إله إلا الله)، ويفتح بها أعيناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً" (2) . هذا حديث صحيح.
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا مالك -وكان من علماء اليهود- عن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، فقال: صفته في كتاب بني هارون عليه السلام الذي لم يغير ولم يبدل: أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يئتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة مثل زِرّ الحَجَلة، ليس بالقصير ولا بالطويل، ويلبس الشَّمْلَة (3) ، ويجتزئ بالبُلْغَة (4) ،
__________
(1) ... في الأصل: وحزاً. والتصويب من الصحيح.
(2) ... أخرجه البخاري (2/747 ح2018).
(3) ... الشَّمْلَة: مئزر من صوف أو شعر يُؤْتَزَرُ به، فإذا لُفِّق لِفْقَيْن فهي مِشْمَلة يَشْتَمِل بها الرجل إذا نام بالليل (اللسان، مادة: شمل).
(4) ... البُلْغَة: ما يُتَبَلَّغُ به من العيش (اللسان، مادة: بلغ).(1/343)
ويركب الحمار، ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، مولده بمكة، ومنشؤه بها، ودار هجرته يثرب، بين حرة ونخل وسبخة، وهو أُمِّيٌ لا يكتب بيده، هو الحمّاد يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه بالشام، صاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديداً، ثم يدال على قومه فيحصدهم حصد الجريد، تكون له وقعات بيثرب، منها له ومنها عليه، ثم تكون له العاقبة بعد، معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، قربانهم دماؤهم، ليوث (1) النهار، رهبان الليل، يرعب منه عدوه مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتى يُجرح ويُكْلَم، لا شرطة معه ولا حرس يحرسه، - صلى الله عليه وسلم - تسليماً (2) .
قوله تعالى: { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } . قال الزجاج (3) : ويجوز أن يكون مستأنفاً. ويجوز أن يكون يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف.
قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، والمنكر: عبادة الأوثان وقطع الأرحام (4) .
__________
(1) جمع ليث، وهو الأسد (اللسان، مادة: ليث).
(2) ذكره المناوي في فيض القدير (4/195).
(3) معاني الزجاج (2/381).
(4) زاد المسير (3/272).(1/344)
وقال مقاتل (1) : المعروف: الإيمان، والمنكر: الشرك.
وقيل: المعروف: الحق؛ لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل؛ لأن العقول تنكر صحته (2) .
{ ويحل لهم الطيبات } وهي ما حُرّم عليهم من المستلذ؛ كالشحوم ولحم الإبل على اليهود، والبحائر والسوائب والوصائل والحوامي التي شرع تحريمها عمرو بن لحي.
وقيل: الطيبات: كل ما طاب في الشرع.
{ ويحرم عليهم الخبائث } كالميتة والدم ولحم الخنزير.
وقيل: كل ما خبث في حكم الشرع؛ كالزنا والرشوة وغيرهما من المكاسب المستخبثة.
{ ويضع عنهم إصرهم } وقرأ ابن عامر: "آصارهم" على الجمع (3) .
والإِصْر: الثقل الذي يأصرهم، أي: يحبسهم عن الحركة. يقال: أَصَرَهُ يَأْصِرُهُ أَصْراً، والموضع مَأْصِرٌ ومَأْصَرْ، والجمع مآصير (4) .
قال الزجاج (5) : الإصر: ما عقدته من عَقْد ثقيل.
قال قتادة: يعني: التشديد الذي كان عليهم في الدين (6) .
__________
(1) تفسير مقاتل (1/418).
(2) الماوردي (2/268)، وزاد المسير (3/272).
(3) الحجة للفارسي (2/274)، والحجة لابن زنجلة (ص:298)، والكشف (1/479)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:231)، والسبعة في القراءات (ص:295).
(4) انظر: اللسان (مادة: أصر).
(5) معاني الزجاج (2/381).
(6) الماوردي (2/269)، وزاد المسير (3/273).(1/345)
وقال سعيد بن جبير: شدة العبادة (1) .
{ والأغلال التي كانت عليهم } وهي المشاق الشديدة؛ كقتل أنفسهم في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحتم القصاص. والإصر والأغلال متقارب في المعنى.
قال مسروق: ولقد كان الواحد من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما (2) .
قال الزجاج (3) : الأغلال تمثيل، ألا ترى أنك تقول: قد جعلت هذا طوقاً في عُنُقِك، وليس هنالك طوق، وإنما جعلت لزومه كالطوق في عنقك.
قلت: وقد حمله قوم على ظاهره.
قال عطاء: كانت بنوا إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه للعبادة (4) .
قوله تعالى: { فالذين آمنوا به } أي: بالرسول النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { وعزّروه } أي: منعوه من أعدائه، وأصل التعزير: المنع، ومنه: التعزير
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1583). وذكره السيوطي في الدر (3/582-583) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) زاد المسير (3/273).
(3) معاني الزجاج (2/381).
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف (2/157).(1/346)
الذي هو بمعنى التأديب (1) ؛ لأنه يمنع من معاودة القبائح.
وقال ابن قتيبة (2) : عظّموه ووقروه.
{ واتبعوا النور الذي أنزل معه } وهو القرآن الكريم، سمي نوراً؛ لأنه يُهتدى به ويُستضاء في طريق النجاة.
فإن قيل: القرآن نزل مع جبريل، فكيف قال "معه"؟
قلت: منهم من فسر المعيّة بالمقارنة في الزمان، أي: النور الذي أنزل في زمانه.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يتعلق بـ"اتبعوا" أي: اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، وبما أمر به ونهى عنه.
أو يكون المعنى: واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه.
وهذه الأوجه حسنة سديدة.
ويحتمل عندي إجراء اللفظ على ظاهره، وأن يكون المراد بالنور الذي أنزل معه: ما نزل به ليلة المعراج من القرآن، وهي خواتيم سورة البقرة -على ما ذكرناه في آخرها-، وما أوحاه الله إلى عبده في تلك الحضرة المقدسة، فإن بعض القرآن يسمى نوراً، قال الله تعالى: { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } [النساء:174].
__________
(1) انظر: اللسان (مادة: عزر).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:173).
(3) ... الكشاف (2/157).(1/347)
ومعلوم أنه قد نزل بعد هذه الآية قرآن كثير.
إذا ثبت ذلك فنقول: إذا اتبع الإنسان خواتيم سورة البقرة واستضاء بنورها كان موافقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان بما أنزل إليه من ربه، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله، وقارنه الفلاح والفوز الأبدي.
ويؤيد هذا: أن خواتيم سورة البقرة سميت نوراً؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس، أن المَلَك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "أبشر بنورين أوتيتهما: فاتحة
الكتاب، وخواتيم سورة البقرة" (1) ، وقد ذكرت الحديث في سورة الفاتحة.
ِ@è% يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/554 ح806).(1/348)
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ اتخزب
قوله تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } أمر الله تعالى نبيه أن يبلغ الناس أنه رسوله إليهم أجمعين، عربهم وعجمهم، ودانيهم وقاصيهم، فحين باداهم بذلك وناداهم آمراً وناهياً، شَرِقُوا بذلك، فكذبوه وآذوه، ولم يسارع إلى تصديقه واتباعه ومعاضدته ومناصرته إلا الصديق الأكبر، شيخ الإسلام وخليفة رسول الله أبو بكر بن أبي قحافة، رضي الله عنه وأرضاه، وأحسن جزاءه عن الإسلام وأهله.
أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (1) بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من صلى أبو بكر رضي الله عنه، ثم تمثّل بأبيات حسان (2) :
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خيرُ البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
__________
(1) ... الزهد (ص:139).
(2) ... انظر الأبيات في: القرطبي (8/236)، والمستدرك (3/67)، ومجمع الزوائد (9/43)، وسنن البيهقي الكبرى (6/369)، وابن أبي شيبة (7/14، 336)، وتاريخ بغداد (14/51)، والاستيعاب (3/964)، وتاريخ الطبري (1/539).(1/349)
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس حقاً صدّق الرسلا
قرأتُ على الشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة، أخبركم عبد الأول.
أخبرنا أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبدالصمد العطار، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف [الفربري] (1) ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد (2) ، حدثنا زيد بن واقد (3) ، عن بسر بن
عبيدالله (4) ، عن عائذ الله أبي إدريس (5) ، عن أبي الدرداء، قال: "كنت جالساً
__________
(1) ... في الأصل: القريري. والصواب ما أثبتناه، وقد تقدمت ترجمته.
(2) ... صدقة بن خالد الأموي، أبو العباس الدمشقي، مولى أم البنين أخت معاوية بن يزيد بن معاوية، وقيل: أخت عمر بن عبد العزيز، ثقة، توفي سنة سبعين أو إحدى وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 4/364، والتقريب ص:275).
(3) ... زيد بن واقد القرشي، أبو عمر -ويقال: أبو عمرو- الدمشقي الفقيه، وثقه ابن معين وغيره، (سير أعلام النبلاء 6/296-297، وتهذيب التهذيب 3/367).
(4) ... بسر بن عبيد الله الحضرمي، شامي جليل ثقة، من علماء دمشق، وكان أحفظ أصحاب أبي إدريس الخولاني، يروي عن واثلة بن الأسقع ورويفع وطائفة، وعنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وثور بن يزيد وزيد بن واقد. توفي في خلافة هشام بن عبد الملك (سير أعلام النبلاء 4/592، والثقات 6/109).
(5) ... عائذ الله بن عبد الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عتبة، أبو إدريس الخولاني، قاضي دمشق وعالمها، وواعظها، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، وحدّث عن أبي ذر وأبي الدرداء وحذيفة وأبي هريرة وغيرهم، وعنه أبو سلام الأسود ومكحول، وليس هو بالمكثر لكن له جلالة عجيبة، مات سنة ثمانين (سير أعلام النبلاء 4/272-276، والتقريب ص:289).(1/350)
عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما صاحبكم فقد غامر فسلم، فقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليّ، فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل أثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنتُ أظلم، مرتين. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بماله ونفسه، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي، مرتين. فما أوذي بعدها" (1) . انفرد بإخراجه البخاري.
قوله تعالى: { جميعاً } حال من "إليكم" (2) ، { الذي له ملك السموات والأرض } في موضع نصب على المدح (3) ، أو في موضع جر على الوصف (4) .
والمراد بكلماته: كتبه ووحيه.
وقرأ شاذاً: "وكَلِمَتِهِ" على التوحيد (5) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في (3/1339 ح3461).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/355).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/287).
(4) ... انظر: الدر المصون (3/355).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/404)، والدر المصون (3/356).(1/351)
وقال مجاهد: أراد: عيسى بن مريم (1) .
وقيل: القرآن.
وقيل: اسم جنس.
ويجوز عندي والله أعلم: أن يراد بالكلمة: كلمة التقوى، وهي: (لا إله إلا الله).
{ واتبعوه } فيما أمركم به ونهاكم عنه { لعلكم تهتدون } .
قوله تعالى: { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } أي: يعلمون به ويدعون إليه، { وبه يعدلون } يحكمون، وهم الذين اعتصموا بالهدى من بني إسرائيل.
قال ابن السائب (2) : هم من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كابن سلام وأصحابه.
وقال ابن عباس [و] (3) أكثر أهل التفسير: هم قوم وراء الصين، آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتركوا تحريم السبت يجمعون ولا يتظالمون (4) .
قال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله أن يفتح بينهم وبينهم، ففتح نفقاً في الأرض، فساروا فيه سنة ونصف سنة، حتى خرجوا من وراء الصين،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/87)، وابن أبي حاتم (5/1587). وذكره السيوطي في الدر (3/584) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/419)، وزاد المسير (3/274).
(3) ... زيادة على الأصل.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/418)، وزاد المسير (3/274).(1/352)
فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا (1) .
قال الربيع والضحاك وعطاء: ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون بالليل [ويسقون] (2) بالنهار ويزرعون، ولا يصل إليهم منا أحد ولا منهم إلينا (3) .
وذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام ذهب به ليلة أسري به وكلّمهم، فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأمي، فآمنوا به، فقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام، فردّ محمد - صلى الله عليه وسلم - على موسى وعليهم السلام، ثم [أقرأهم] (4) عشر سور نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت (5) .
فإن قيل: الصلاة لم تفرض إلا ليلة المعراج، والزكاة فرضت بالمدينة، فكيف يتجه هذا النقل؟
قلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالصلاة والزكاة ومكارم الأخلاق قبل المعراج، وقبل أن يهاجر إلى المدينة، وكان مأموراً بذلك، فأراد بالزكاة
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/87-88). وذكره السيوطي في الدر (3/585) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.
(2) ... في الأصل: ويصحبون. والتصويب من البغوي (2/206).
(3) ... ذكره البغوي (2/206).
(4) ... في الأصل: أقرأ. والتصويب من البغوي، الموضع السابق.
(5) ... ذكره البغوي (2/206). ولم يذكر مستنده في النقل من وجه صحيح.(1/353)
هاهنا الصدقة التي كانت واجبة قبل شرعية الزكاة المعروفة المفروضة في المدينة، وأراد بالصلاة ما كان يتدين به قبل استقرار هذه الصلوات الخمس على الوجه المشروع الذي استقر الحكم عليه.
مNكg"oY÷è©ـs%ur اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا(1/354)
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ اتدثب
قوله تعالى: { وقطعناهم } يعني: بني إسرائيل { اثنتي عشرة أسباطاً(1/355)
أمماً } إن قيل: ما فوق العشرة من العدد لا يفسر بالجمع، فكيف قال: أسباطاً؟
قلت: جعله نعتاً لمحذوف، باعتباره وقع التأنيث في العدد، تقديره: اثنتي عشرة فرقة أسباطاً. وقوله: "أمماً" بدل من "اثنتي عشرة" (1) .
{ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه } يعني: في التيه { أن اضرب بعصاك الحجر } تقديره: فضرب، { فانبجست } أي: انفجرت { منه اثنتا عشرة عيناً } وقد سبق تفسير ما لم أذكره هاهنا في البقرة.
ِNكgù=t"َ™ur عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ اتدجب
قوله تعالى: { واسألهم } يعني: أحبار اليهود الموجودين في زمنك،
__________
(1) ... انظر: التبيان للعكبري (1/287)، والدر المصون (3/357، 358).(1/356)
سؤال تقرير وتقريع وتوبيخ { عن القرية التي كانت حاضرة البحر } أي: مجاورته، وهي أيلة (1) ، في قول جمهور المفسرين (2) .
وقال الزهري: هي طبرية (3) .
{ إذ يعدون في السبت } بدل من "القرية"، والمراد أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم، وهو من بدل الاشتمال (4) . فعلى هذا محله من الإعراب الجر.
ويجوز أن يكون محله من الإعراب: النصب بـ"كانت"، أو بـ"حاضرة". ومعنى عدوانهم فيه: تجاوزهم حدود الله وانتهاكهم حرمته بالتسبب إلى استحلال الصيد فيه.
وقرأ أبو نهيك: "يُعِدّون" بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال (5) ، يعني: يتهيّؤون ويعدّون آلات الصيد.
{ إذ تأتيهم حيتانهم } بدل بعد بدل، أو هو في موضع نصب بـ
__________
(1) ... أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام (مراصد الاطلاع 1/133).
(2) ... أخرجه الطبري (9/90)، وابن أبي حاتم (5/1597). وذكره السيوطي في الدر (3/587) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1597). وذكره السيوطي في الدر (3/587) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... انظر: الدر المصون (3/360).
(5) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/388)، والدر المصون (3/341).
... وفي بعض الروايات عنه: أنها بفتح العين وتشديد الدال.(1/357)
"يعدون" (1) .
وقوله: "شُرَّعاً" نصب على الحال (2) ، والمعنى: تأتيهم الحيتان يوم السبت ابتلاء وامتحاناً، { شُرَّعاً } ظاهرة على وجه الماء، { ويوم لا يسبتون } نصب بقوله: { لا تأتيهم } (3) ، وأفصح اللغات أن ينتصب الظرف مع السبت والجمعة، فتقول: اليومَ السبت، واليومَ الجمعة، ولأن السبت والجمعة بينهما معنى الفعل؛ لأن السبت بمعنى: القطع والراحة، والجمعة بمعنى: الاجتماع. وترفع سائر الأيام فتقول: اليومُ الأحد، واليومُ الاثنين.
وقرأت لعاصم من رواية المفضل عنه: "يُسْبِتُونَ" بضم الياء الواقعة آخر حروف التهجي، وهي قراءة علي عليه السلام (4) .
والذي عليه أكثر العلماء: أن الوقف على قوله: { لا تأتيهم } .
وقيل: الوقف على قوله: { كذلك } ، على معنى: لا تأتيهم الحيتان في غير يوم السبت شُرَّعاً كما تأتيهم في يوم السبت.
والأول أظهر وأشهر. على [معنى] (5) مثل ذلك البلاء الشديد، { نبلوهم } أي: نختبرهم { بما كانوا يفسقون } .
فإن قيل: ما الحكمة في سؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياهم؟
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/360).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:232)، وزاد المسير (3/277)، والدر المصون (3/360).
(5) ... زيادة على الأصل.(1/358)
قلت: تقريرهم وتوبيخهم وتقريعهم وتذكيرهم وتحذيرهم من ارتكاب المعصية والمخالفة أن يصيبهم مثل ما أصاب أسلافهم.
ّŒخ)ur قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ(1/359)
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ اتددب
قوله تعالى: { وإذ قالت أمة منهم } أي: جماعة من صالحيهم لم يتلبسوا بخطيئتهم، قالوا [للذين] (1) شمروا عن ساق الجد والاجتهاد في الإنكار على المعتدين، علماً منهم بأنهم لا يرعوون ولا ينتفعون بالموعظة، { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } مستأصل شأفتهم بالمحق { أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةٌ } أي: موعظتنا معذرة، أي: إبداء عذر إلى الله؛ لئلا ننسب إلى التفريط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقرأ حفص عن عاصم: { معذرةً } بالنصب على المصدر (2) ، أي: وعظناهم معذرة، { إلى ربكم } أي: اعتذرنا معذرة، { ولعلهم يتقون } وطمعاً في تقواهم.
قوله تعالى: { فلما نسوا } أي: تركوا { ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء } وهم الذين أمروهم ونهوهم، { وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } قرأ نافع: "بِيسٍ" بكسر الباء من غير همز، وكذلك ابن عامر إلا أنه همز، وقرأ الباقون: بفتح الباء وكسر الهمزة وياء بعدها، على وزن فَعِيل (3) .
__________
(1) ... في الأصل: الذين.
(2) ... الحجة للفارسي (2/276)، والحجة لابن زنجلة (ص:300)، والكشف (1/481)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:232)، والسبعة في القراءات (ص:296).
(3) الحجة للفارسي (2/276-278)، والحجة لابن زنجلة (ص:300)، والكشف (1/481)، والنشر (2/272)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:232)، والسبعة في القراءات (ص:296).(1/360)
وروي عن أبي بكر عن عاصم: بفتح الباء وياء ساكنة بعدها وهمزة مفتوحة بعد الياء (1) ، على وزن [فَيْعَل] (2) . والمعنى: بعذاب شديد، وقد ذكرنا في البقرة كيفية اعتدائهم وقصة مسخهم.
فإن قيل: ما صنع بالذين لم يعتدوا ولم ينهوا؟
قلت: قد روي عن ابن زيد أنه قال: نجت الناهية وهلكت الفرقتان (3) .
والصحيح: أنه لم يهلك إلا الفرقة الخاطئة الظالمة، وهو قول جماعة، منهم الحسن البصري (4) .
فإن قيل: الآية دلت على إنجاء الذين ينهون عن السوء فقط، وهذه الفرقة لم تنههم عن السوء؟
قلت: قد نهوهم عن السوء زماناً، ولم يسكتوا حتى يئسوا وعلموا أن الوعظ لا ينجع فيهم ولا ينفع، فسقط عنهم وجوبه، إذ لا فائدة فيه، ألا ترى أنك لو رأيت رجلاً مُصِرّاً على معصية قد خامرت عقله وأشربتها نفسه وصارت ديدناً له لا يراها عاراً وشناراً، بل ربما عدَّ تلبّسه بها شرفاً وفخاراً؛ لكونه يبسط ويقبض، ويرفع ويخفض، ويولي ويعزل، ويركب وينزل، على ما هي عادة الطغاة من الولاة الظلمة الفجرة المتلبسين بسخط
__________
(1) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/278)، والدر المصون (3/362).
(2) في الأصل: فعيل. والتصويب من زاد المسير (3/278).
(3) الوسيط (2/421).
(4) الوسيط (2/421).(1/361)
الله المغمورين بغضبه، فأمرته بالمعروف ونهيته عن المنكر مراراً فلم يعرج على عظتك، وأعارك أذناً صُماً، وعيناً عُمْياً، فإن عامة العقلاء يعدونك بمعاودته بعد اليأس من صلاحه عابثاً، واضعاً للمواعظ في غير مواضعها، معرضاً نفسك لما لا يحل من العذاب والهوان والأذى، فإن أحسن إليك ذلك المستهتر المتهالك ولم يودك بذلك انخذل بتقبيحك له ما لا مزيد على استحسانه عنده سفيهاً، كما قال قوم شعيب: { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد } [هود:87].
فإن قيل: هل تجد في الكتاب العزيز ما يدلك على أنهم لم يعذبوا؟
قلت: نعم، قوله عز وجل: { فلما عتوا عما نهوا عنه } وهذه الفرقة لم تكن عاتية. وقوله عز وجل: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } وهؤلاء لم يكونوا معتدين؛ لأن المعتدي هو الذي يتجاوز الحدّ في الظلم والمعصية.
وقد روي: أن ابن عباس قال يوماً: ليت شعري ما فُعل بهؤلاء الذين قالوا: { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } ؟ فقال له عكرمة: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } ، فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة (1) .
وقد ذكرنا معنى العتو في قصة صالح.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/94). وذكره السيوطي في الدر (3/590) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/362)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اتدذب
قوله تعالى: { وإذ تأذن ربك } تفعّل من الإيذان، وهو الإعلام (1) ، والمعنى: عزم ربك وحتم وكتب على نفسه، وجاء بلفظ الإيذان؛ لأن العازم على الشيء يؤذن به نفسه مرة بعد مرة.
وقيل: أعْلَمَ أبناء بني إسرائيل (2) .
وقال الزجاج (3) : قال بعضهم: تألَّى ربك.
{ ليبعثن عليهم } أي: ليسلطن على اليهود لفرط عتوّهم وعلوّهم وتماديهم في غيّهم.
وقال مجاهد: على اليهود والنصارى (4) .
__________
(1) ... يقال: أَذِنَ يَأْذَنُ به إِذْناً، إذا علم، والأذان: الإعلام (اللسان، مادة: أذن).
(2) ... زاد المسير (3/279).
(3) ... معاني الزجاج (2/387).
(4) ... أخرجه الطبري (9/102)، وابن أبي حاتم (5/1603). وذكره السيوطي في الدر (3/592) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ.(1/363)
{ إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } أشده وأقبحه، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة والجزية فكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن ضرب الإسلام بِجِرَانِه (1) ورَسَتْ أوتاده، فاستنزلتهم سيوفهم من معاقلهم، فتفرق من أبقته منهم أيادي سبأ، وطوّقوا الصغار والمهانة طوق العمامة إلى يوم القيامة.
{ إن ربك لسريع العقاب } لمن أراد الانتقام منه من الملحدين، { وإنه لغفور رحيم } لمن أراد التجاوز عنه من الموحدين.
÷Lài"oY÷è©ـs%ur فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
__________
(1) ... أي: قوي الإسلام واستقر (لسان العرب، مادة: جرن).(1/364)
وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ اتذةب(1/365)
قوله تعالى: { وقطعناهم } أي: مزّقناهم وفرقناهم، { في الأرض أمماً } قال ابن عباس: ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة (1) ، { منهم الصالحون } كالذين آمنوا بعيسى ومحمد والذين وراء الصين، { ومنهم دون ذلك } وهم الكفرة والفسقة.
و"دون ذلك" في محل الرفع صفة لموصوف محذوف، تقديره: ومنهم قوم منحطون عن الصلاح (2) .
{ وبلوناهم بالحسنات } كالعافية والخصب ترغيباً، { والسيئات } كالمرض [والجدب] (3) ترهيباً، { لعلهم } يتوبون إلى ربهم ويثوبون عن ذنبهم.
قوله تعالى: { فخلف من بعدهم } أي: من المذكورين الموصوفين، { خَلْف } وقرأ الجوني والجحدري: "خَلَف" بفتح اللام (4) .
قال أبو عبيدة (5) : هما واحد.
وقوم يجعلون الخَلَف -بالتحريك-: الصالح، وبالتسكين: الطالح.
قال ابن الأنباري (6) : وهو الأكثر في الاستعمال، وقد يوضع أحدهما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/104)، وابن أبي حاتم (5/1605). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/279)، والسيوطي في الدر (3/592) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/365).
(3) ... في الأصل: والجذب.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/280)، والدر المصون (3/365-366).
(5) ... مجاز القرآن (1/232).
(6) ... انظر: زاد المسير (3/280).(1/366)
موضع الآخر. والمراد بالخَلْف هاهنا: الرديء. ومنه المثل السائر: "سَكَتَ أَلْفاً ونَطَقَ خَلْفاً" (1) .
وقول لبيد:
ذهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ (2)
والمراد بهم: اليهود [الموجودون] (3) في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ ورثوا الكتاب } التوراة، انتقلت إلى خلفهم من سلفهم كما ينتقل الميراث.
والخَلْف: إما جمع خالف؛ كراكب ورَكْب، وشارب وشَرْب، وإما مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، فلذلك قال: { خَلْف } (4) .
{ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } أي: ما عرض لهم من حطام الدنيا؛ كالرشوة في الحكم وأمثالها، وسمّاه عَرَضاً؛ لقلة بقائه، وسمّاه أدنى؛ لدناءته وخساسته بالنسبة إلى عالم الآخرة ونفاسته، أو لدنوّه وقربه.
{ ويقولون سيغفر لنا } أي: لا نؤاخذ بما أخذنا. وفاعل "سيغفر" هو الجار والمجرور وهو "لنا"، أو مصدر "يأخذون"، أي: سيغفر الأخذ
__________
(1) ... قاله الأحنف لرجل أطال السكوت ثم نطق بالمحال (التمثيل والمحاضرة للثعالبي).
(2) ... البيت للبيد. انظر: ديوانه (ص:36)، ، والطبري (9/105)، والقرطبي (7/310)، والبحر المحيط (4/413)، وروح المعاني (9/96).
(3) ... في الأصل: موجودن.
(4) ... وهو قول ابن الأنباري.(1/367)
لنا (1) .
{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } الواو للحال (2) ، أي: يوجبون المغفرة على الله وهم مصرّون على الذنب، { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } وهو التوراة، { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } عطف بيان لـ"ميثاق الكتاب" (3) ، والاستفهام تقرير وإنكار. والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق بقول الحق، فما بالهم يقولون الباطل ويتمنون على الله الأماني.
ثم أخبرهم عنهم أنهم خالفوه على علم فقال: { ودرسوا ما فيه } المعنى: فلم فعلوا ما ينافيه، وهو عطف على "ألم يؤخذ" (4) ؛ لأنه في معنى: أخذ [عليهم] (5) كما ذكرناه، { والدار الآخرة خير للذين يتقون } الشرك والمعاصي، { أفلا يعقلون } . قرئ بالياء والتاء (6) ، وقد ذكرناه في الأنعام (7) . والمعنى: أفلا تعقلون تفاوت ما بين الدارين فتؤثرون النفيس الباقي على الخسيس الفاني.
قوله تعالى: { والذين يُمَسِّكُون بالكتاب } في موضع جرّ عطفاً "على
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/366).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر: الدر المصون (3/367).
(4) انظر: الدر المصون (3/367).
(5) ... في الأصل: غلبتهم.
(6) ... الحجة لابن زنجلة (ص:301)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:232).
(7) ... عند الآية رقم: 32.(1/368)
الذين يتقون"، أو في موضع رفع بالابتداء، وخبره: "إنا لا نضيع" (1) .
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "يُمْسِكُون" بالتخفيف، من أمسك (2) .
وقرأه أُبيّ: "والذين تَمَسَّكوا" بالتشديد (3) ، وصيغة الماضي تقوّي قراءة الباقين.
قال المفسرون: نزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ كابن سلام (4) . ومعنى تمسّكهم به: عملهم بما فيه.
ثم خَصَّ الصلاة بالذكر مع دخولها في عموم التمسك بالكتاب؛ إظهاراً [لمنزلتها] (5) وعظم شأنها، ولأنها عماد الإسلام، والفارقة بين الكفر والإيمان، فقال: { وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } .
* وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/367-368).
(2) ... الحجة للفارسي (2/279)، والحجة لابن زنجلة (ص:301)، والكشف (1/482)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:232)، والسبعة في القراءات (ص:297).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/416)، والدر المصون (3/368).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/423)، وزاد المسير (3/282).
(5) ... في الأصل: لمنزتها.(1/369)
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اتذتب
قوله تعالى: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } أي: قلعناه من أصله. يقال: نَتَقَهُ يَنْتِقُهُ نَتْقاً (1) ، وهو الجبل المذكور في قوله: { ورفعنا فوقهم الطور } [النساء:154]، وكل ما أظل من سحاب أو سقف فهو ظُلَّة، وقد سبق ذكره.
{ وظنوا أنه واقع بهم } جائز أن يكون بمعنى العلم، وجائز أن يكون على أصله. وباقي الآية سبق تفسيره.
ّŒخ)ur أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا
__________
(1) ... يقال: نَتَقَ الشيء يَنْتِقُهُ ويَنْتُقُه نَتْقاً: جذبه واقتلعه (اللسان، مادة: نتق).(1/370)
عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اتذحب
قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } أخرج الإمام أحمد في المسند من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنَعْمان -يعني عرفة-، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، ثم نثرهم بين يديه كالذرّ، ثم كلمهم قُبُلاً قال: { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } إلى قوله: { المبطلون } " (1) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد (1/272 ح2455).(1/371)
وأخرج مالك في الموطأ: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سُئِل عن قوله: { وإذ أخذ ربك ... الآية } فقال: سُئِل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار" (1) . هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في صحيحه.
قال ابن عباس: لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فنودي يومئذ: أن القلم جفّ بما هو كائن بي إلى يوم القيامة (2) .
قوله تعالى: { من ظهورهم } بدل من { بني آدم } ، وهو بدل البعض من الكل (3) ، وفيه دليل على أن الأبناء أخرجوا من ظهور الآباء على نحو توالدهم.
__________
(1) ... أخرجه مالك (2/898 ح1593)، وأبو داود (4/266 ح4703)، والحاكم (1/80 ح74، 2/354 ح3256، 2/594 ح4001).
(2) ... أخرجه الطبري (9/111). وذكره السيوطي في الدر (3/598) وعزاه لابن المنذر.
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/289)، والدر المصون (3/369).(1/372)
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو: "ذُرِّياتهم" على الجمع، وقرأ الباقون: { ذُرّيَّتَهُمْ } بفتح التاء على التوحيد (1) .
قال أبو علي (2) : الذرية تكون واحداً وتكون جمعاً.
{ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فأقرّوا جميعاً بربوبيته.
قال الزجاج (3) : جائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذَّر فهْماً يعقل به [أمره] (4) ، كما قال: { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [النمل:18]، وكما قال: { وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير } [الأنبياء:79].
قال أبيّ بن كعب: جمعهم جميعاً فجعلهم أزواجاً، ثم صوّرهم ثم استنطقهم، ثم قال: { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أنك إلهنا، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم، { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } لم نعلم بهذا (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/279-280)، والحجة لابن زنجلة (ص:301)، والكشف (1/483)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:233)، والسبعة في القراءات (ص:298).
(2) ... الحجة (2/280). وانظر: زاد المسير (3/284).
(3) ... معاني الزجاج (2/390).
(4) ... زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه الطبري (9/115)، وابن أبي حاتم (5/1615)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/559-560). وذكره السيوطي في الدر (3/600) وعزاه لعبد بن حميد وعبدالله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن منده في كتاب الرد على الجهمية واللالكائي وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر في تاريخه.(1/373)
قال السدي: أجابت طائفة طائعين وطائفة كارهين تقية (1) .
وقوله: "شهدنا" جائز أن يكون من تمام كلام الذرية، فيكون قوله: { أن تقولوا } متعلقاً بفعل مضمر، تقديره: فعلنا ذلك، أو ذَكَّرناهم ذلك على ألسنة الرسل بعد أن أخرجناهم إلى الوجود، كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا (2) . ويجوز أن يكون الوقف على { بلى } .
ثم أخبر الله تعالى عن شهادته وشهادة ملائكته على إقرار عباده فقال: { شهدنا } ، ويكون قوله: { أن تقولوا } متعلقاً بـ"شهدنا"، وهو العامل فيه النصب (3) ، وهذا قول الكلبي والسدي وأكثر المفسرين (4) .
قرأ أبو عمرو: { أن يقولوا } ، { أو يقولوا } بالياء فيهما. وقرأهما الباقون بالتاء على المخاطبة (5) .
{ إنا كنا عن هذا } الإقرار { غافلين } لم نرشد إليه ولم ننبه عليه.
فإن قيل: قد خرجت الآية بأن أخذ الميثاق على الذرية إنما كان قطعاً
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/117). وذكره السيوطي في الدر (3/599) وعزاه لابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/370).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... أخرجه الطبري (9/118).
(5) ... الحجة للفارسي (2/281)، والحجة لابن زنجلة (ص:302)، والكشف (1/483-484)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:233)، والسبعة في القراءات (ص:298).(1/374)
لاحتجاجهم؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ونحن ما فينا من يذكر ذلك؟
قلت: قام إخبار الصادق مقام الذكر، فالمعرض عنه عما أخبر به مقطوع الحجة والاعتذار بالغفلة.
فإن قيل: فأي فائدة فيه مع النسيان؟
قلت: تأكيد الحجة على الكافر الجاحد بعد الإشهاد عليه بإقراره على نفسه بأن الله تعالى ربه لا شريك له، فإن الجحد بعد الإقرار أقبح وأعظم جريمة منه غير مسبوق بإقرار.
فإن قيل: ما الحكمة في إنشاء الإنسان الإقرار الأول؟
قلت: لأنه لو ذكر يوم { ألست بربكم } وكلام الله له بذلك، لكان إيمانه [اضطرارياً] (1) لا اختيارياً، ولزال معنى الابتلاء والامتحان والتكليف بالإيمان بالغيب، وما يترتب عليه من حسن الجزاء.
فإن قيل: فما تقول في قول الزمخشري (2) بأن هذا تخيل وتمثيل، وأن معنى ذلك: أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم؟
قلت: هو قول يصادم صريح القرآن وصحيح السنة وآثار السلف وإجماع الأمة، وأخاف أن يزاحم الكفر؛ لأنه تكذيب وتعطيل في المعنى، فليت شعري، أي ضرورة تحمل على مثل هذا، وليس في المصير إلى
__________
(1) ... في الأصل: اضطراياً.
(2) ... الكشاف (2/166).(1/375)
مدلول اللفظ ما يخالف القضايا العقلية والدلائل النقلية، اللهم فاعصمنا من مخالفة كتابك، وألاّ تعرضنا لغضبك وعقابك.
قوله تعالى: { أو تقولوا } عطف على قوله: { أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } ، { وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم، لا يقدرون على الاحتجاج بذلك.
ولأن الله سدّ عليهم مسالك الاعتذار بما أخذه عليهم من الإقرار وأتتهم به الرسل من الإنذار.
والآية التي بعدها سبق تفسيرها.
م@ّ?$#ur عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ(1/376)
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ اتذرب
قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } أي: اقصص على اليهود. وقيل: على قومك. والأول أظهر؛ لأن المقصود من تلاوة هذا(1/377)
الخبر تحذيرهم وتقريعهم، وتشبيههم بالمنسلخ من آيات [الله] (1) ؛ لكونهم عرفوا الكتاب والعلم الأول، فانسلخوا من ذلك، كفراً بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحسداً له.
ويجوز عندي -والله أعلم-: أن يراد بقوله: "واتل عليهم" جميع الناس، ويرجع الضمير في "عليهم" إلى بني آدم، وقد تقدم ذكرهم في قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم } .
وفي المشار إليه أربعة أقوال:
أحدها: أنه بلعام. واختلف في اسم أبيه، فالمشهور في التفسير والمنصوص عن ابن عباس: أنه ابن باعوراء (2) .
وروي عن ابن عباس: أنه من مدينة الجبارين، من الكنعانيين (3) .
وروى عنه عطية: أنه كان من بني إسرائيل (4) .
وروي عنه: أنه رجل من أهل اليمن (5) .
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... أخرجه الطبري (9/120)، وابن أبي حاتم (5/1616-1617)، ومجاهد (ص:250) وفيه: بلعام بن باعر. وذكره السيوطي في الدر (3/608) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه.
(3) ... أخرجه الطبري (9/121)، وابن أبي حاتم (5/1616-1617). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:240). وذكره السيوطي في الدر (3/608) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (9/121)، وابن أبي حاتم (5/1618) كلاهما عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (3/610).
(5) ... أخرجه الطبري (9/121)، وابن أبي حاتم (5/1618). وذكره السيوطي في الدر (3/609) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/378)
وكان من حديثه على ما ذكره ابن عباس ونقله محمد بن إسحاق والسدي وغيرهم: أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام، وكان بلعام بقرية من قرى البلقاء، وكان أهلها كفاراً، وكان عنده الاسم الأعظم، فغزاهم نبي الله موسى عليه السلام، فأتاه قومه فقالوا: يا بلعام، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا، وإنا قومك، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم، فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون، فكيف أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما [لا] (1) تعلمون؟ فما زالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه، فركب حماره متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، فسار قليلاً فَرَبَضَتْ أتانه (2) ، فنزل عنها فضربها، فأذن الله لها في كلامه فقالت: ويحك يا بلعام أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم يرتدع.
ويروى: أنه رجع، فقال ملكهم: إما أن تدعو عليهم وإما أن أصلبك، فدعا عليهم وعلى موسى بالاسم الأعظم أنهم لا يدخلوا المدينة، [فوقع] (3) موسى وقومه في التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب كما استجبت دعاءه عليّ فاستجب دعائي عليه، فدعا الله تعالى أن ينزع منه الاسم الأعظم فنزعه
__________
(1) زيادة على الأصل.
(2) ربضت الدابة: أي: بَرَكَتْ (اللسان، مادة: ربض). والأتان: الحمارة. والجمع: آتُن (اللسان، مادة: أتن).
(3) في الأصل: قوع.(1/379)
منه (1) .
ويروى: أن موسى قتله بعد ذلك (2) .
ويروى: أن بلعام لما أراد أن يدعو على بني إسرائيل، جعل لا يدعو عليهم بشيء إلا صرف لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بشيء إلا صُرف إلى بني إسرائيل، فقيل له في ذلك، فقال: هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، وسأحتال لكم، جمّلوا النساء وأرسلوهن في عسكر بني إسرائيل، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، فوقع رجل منهم على امرأة، فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة واحدة.
وكان فنحاص بن العيزار صاحب أمر موسى عليه السلام، وكان قد أعطي في الخلق، وقوة في البطش، فأخبر خبر الزانيين، فدخل عليهما مضطجعين فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، وقال: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عباس وجمهور المفسرين (3) .
القول الثاني: أنه أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت، فلعبت به الأطماع الكاذبة ورجا أن يكون هو.
__________
(1) أخرجه الطبري (9/125).
(2) انظر: الطبري (9/125)، وزاد المسير (3/289).
(3) ... أخرجه الطبري (9/125-126).(1/380)
فلما اصطفى الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - واختصه برسالته، حمله الحسد والبغي على الكفر به. فلما مات أمية أتت أخته الفارعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن وفاة أخيها فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان [فكشفا] (1) سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكى، قال: أبى، فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي فصرف عني، ثم غشي عليه فلما أفاق قال:
كلُّ عيش وإن تطاول دهراً ... صائرٌ مرةً إلى أن يَزولا
ليتني كنتُ قبلُ ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يومَ الحساب يومٌ عظيم ... شابَ فيه الصغيرُ يوماً ثقيلا
ثم قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنشديني شعر أخيك، فأنشدته:
لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربنا ... ولا شيء أعلى منك جداً وأمجد
مليكٌ عَلى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
حتى أتت على آخر القصيد.
ثم أنشدته أيضاً:
عند ذي العرش تُعرضون عليه ... يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم نأتي الرحمن وهو رحيم ... إنه كان وعده مأتيا
يوم نأتيه مثلَ ما قال فرداً ... ثم لا بد راشداً وغَويَّا
__________
(1) ... في الأصل: فكشطا. انظر: البغوي (2/215).(1/381)
إلى أن قال:
ربِّ إن تعفُ والمعافاة ظني ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "آمن شعره وكفر قلبه". وأنزل الله فيه: { واتل عليهم ... الآيات } (1) .
وهذا قول جماعة منهم عبدالله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب (2) .
الثالث: أنه أبو عامر الراهب، وكان رجلاً من الأنصار قد ترهبن ولبس المسوح في الجاهلية وبني له مسجد الضرار؛ على ما سنذكره في سورة براءة إن شاء الله تعالى (3) .
قال ابن عباس: الأنصار تقول في هذه الآية: هو أبو عامر الراهب (4) ، الذي بني له مسجد الشقاق. وروي عن سعيد بن المسيب نحوه.
الرابع: أنه البَسُوس، وهو رجل من بني إسرائيل (5) .
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:230-231).
(2) ... أخرجه الطبري (9/121)، وابن أبي حاتم (5/1616)، والنسائي في الكبرى (6/348 ح11194). وذكره السيوطي في الدر (3/609) وعزاه لعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني وابن مردويه.
(3) ... عند الآية رقم: 107.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1616). وذكره السيوطي في الدر (3/610) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) ... انظر: ابن أبي حاتم (5/1617-1618)، والبغوي (2/215)، والقرطبي (7/320)، وأسباب النزول للواحدي (ص:231)، وزاد المسير (3/287)، والدر المنثور (3/608-609).(1/382)
وكان من حديثه:
ما قرأته على الشيخ أبي القاسم علي بن أبي الفرج المعروف بابن الموصلي، أخبركم يحيى بن أسعد بن بوش فأقرَّ به، أخبرنا أحمد بن عبيدالله بن كادش، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي (1) ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا عبدالله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } قال: هو رجل كان في بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ما يدعو به، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت سَمِجة (2) دميمة، فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها. فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمنا كلبة نباحة يُعيّرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولاً، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث (3) .
__________
(1) ... الحسين بن القاسم الكوكبي، أخباري مشهور، وفي أخباره مناكير كثيرة بأسانيد جياد (لسان الميزان 2/309).
(2) ... سَمُجَ الشيء: قَبُحَ، يَسْمُجُ سَماجةً: إذا لم يكن فيه ملاحة. وسميج: قبيح (اللسان، مادة: سمج).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1617-1618). وذكره السيوطي في الدر (3/608-609) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/383)
قال أبو الفرج المعافى بن زكريا: سَمِجَة: بكسر الميم، مثل: بَطِرَة.
وحكى سيبويه عن العرب (1) : رجل سَمْج، بتسكين الميم، مثل: سمح.
قال: وقالوا: سميج؛ كقبيح.
وقول الراوي [في] (2) هذا الخبر: "يعيرنا الناس بها"، الفصيح من كلام العرب: عيرت فلاناً كذا وكذا. وأما عيرته بكذا فلغة مقصرة عن الأولى في الاستشهاد والفصاحة، وإن كانت هي الجارية على ألسنة العامة.
ومن اللغة الأولى قول النابغة:
وعيرتني بنو[ذبيان] (3) وهبته ... وهل عليّ بأن أخشاك من عار؟ (4)
وقال المُتَلَمِّس:
تُعيّرني أمي رجالٌ ولا أرى ... أخا كَرَمٍ إلا بأن يتكرّما (5)
وقال المقنع الكندي في اللغة الأخرى:
يُعيّرني بالدَّيْن قومي وإنما ... ... تديّنت في أشياء تُكسبهم مجدا (6)
والمشهور في التفسير: القول الأول، ومن أضاف نزولها إلى غيره، فلدخوله في عمومها وإن وردت على السبب الخاص. وإلى هذا أشار
__________
(1) ... انظر: الكتاب (4/30).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... في الأصل: ذبان. والتصويب من الديوان (ص:57).
(4) ... البيت للنابغة الذبياني، وهو في: ديوانه (ص:57)، واللسان (مادة: عير).
(5) ... انظر البيت في: أدب الكاتب لابن قتيبة (1/324).
(6) ... انظر البيت في: جمهرة الأمثال (2/206).(1/384)
عكرمة بقوله: هو كل من انسلخ عن الحق بعد أن أعطيه (1) .
وفي بعض الألفاظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفارعة حين أنشدت شعر أخيها أمية: "كان مَثَلُ أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها" (2) ، وإن الآية مكية، وقصة أبي عامر الراهب في المدينة، فدل مجموع ذلك على صحة القول الأول، وأن إضافتها إلى غيره لدخوله في عمومها.
قوله تعالى: { فانسلخ منها } أي: خرج من الآيات -وهي كتب الله ودلائل توحيده، أو اسمه الأعظم- كما تخرج الحية من جلدها.
{ فأتبعه الشيطان } قال ابن قتيبة (3) : لحقه وأدركه.
وقال الأخفش (4) : تبعته وأتبعته بمعنى، مثل: ردفته وأردفته، ومنه: { إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات:10].
قال الزجاج (5) : هما [بمعنى واحد] (6) ، ومنه قوله: { فمن تبع هداي } [البقرة:38]، وقال: { فأتبعهم فرعون } [يونس:90].
وقرأ طلحة بن مصرف: "فاتّبعه الشيطان" بتشديد التاء ووصل
__________
(1) ... زاد المسير (3/288).
(2) ... ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1890)، والسيوطي في الدر (3/609) وعزاه لابن عساكر عن سعيد بن المسيب.
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:174).
(4) ... انظر قول الأخفش في: القرطبي (11/48).
(5) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قول الزجاج في: زاد المسير (3/289).
(6) ... في الأصل: معنى. والتصويب والزيادة من زاد المسير، الموضع السابق.(1/385)
الهمزة (1) .
قال اليزيدي: هما لغتان، وكأن أتبعه -خفيفة- بمعنى: قفاه، واتّبعه -مشدّدة-: حذا حذوه (2) .
قوله تعالى: { فكان من الغاوين } أي: فصار من الفاسدين الهالكين.
قوله تعالى: { ولو شئنا لرفعناه بها } أي: لو شئنا [لرفعنا] (3) منزلته بالآيات وشرفناه بها.
وقال مجاهد وعطاء: المعنى: ولو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا (4) .
{ ولكنه أخلد إلى الأرض } قال الزجاج (5) : يقال: أَخْلَدَ وخَلَدَ. والمعنى: رَكَنَ إلى الدنيا وأهلها، { واتبع هواه } معرضاً عن آياتنا وزواجرنا، وكأن المخذول زجر في منامه وقيل له: لا تدعُ على موسى وبني إسرائيل، فلم ينزجر، وكلّمته أتانه فلم ينته.
وقيل في قوله: "واتبع هواه": أرضى امرأته بذلك، وكانت زَيَّنَتْ له الدّعاء على موسى وقومه.
{ فمثله كمثل الكلب } يريد: الكلب اللاهث، { إن تحمل عليه يلهث } يقال: لَهَثَ الكلب يَلْهَثُ لَهْثاً؛ إذا دَلَعَ لسانه (6) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/289)، والدر المصون (3/372).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/289).
(3) ... زيادة من زاد المسير (3/290).
(4) ... أخرجه الطبري (9/127)، ومجاهد (ص:251) وفيه: "لدفعنا عنه".
(5) ... معاني الزجاج (2/391).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: لهث).(1/386)
والمعنى: إن تحمل عليه زاجراً أو ضارباً يلهث، وإن تتركه يلهث، فهو في حالتيه لم يزل لاهثاً، كذلك بلعام إن زجر أو وعظ فهو ضال، وإن ترك لا يزجر ولا يوعظ، فهو ضال.
وقيل: المعنى ولكنه أخلد إلى الدنيا فوضعنا منزلته، فمثله في الخِسَّة والضَّعَة (1) كمثل الكلب في أخسّ أحواله، وهي حالة لهثه.
وقيل: مثله حين خرج لسانه وتدلى على صدره -كما ذكرناه في قصته- كمثل الكلب اللاهث.
{ ذلك مثل القوم الذين كذبوا يآياتنا } بلعام وغيره من الكفار، { فاقصص القصص } يا محمد { لعلهم يتفكرون } ، فيحدثُ لهم التفكر في قصص المكذبين المعذبين اعتباراً وانزجاراً وخوفاً من سوء العاقبة وزوال العافية، ويستدلوا بقصصك على صحة رسالتك؛ لأن العلم بذلك لا يتلقّى إلا من جهة الوحي أو التعليم، وقد علموا عدم القسم الثاني، وتحققوا أنك أُمِّيٌّ مِنْ أُمَّة أُمِّيَّة، وطائفة جاهليةٍ لم تتشاغل بعلم، ولم تعاشر أهل كتاب، ولم تخرج من بين أظهر قومك، فيتعين القسم الأول.
قوله تعالى: { ساء مثلاً القوم } هو على حذف المضاف، أي: ساء مَثَلاً مَثَلُ القوم (2) .
وقرأ الجحدري: "سَاءَ مَثَلُ القومِ" (3) .
__________
(1) ... الضَّعَة والضِّعَة: خلاف الرِّفعة في القَدْر. والوضيع: الدنيء (انظر: اللسان، مادة: وضع).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/289)، والدر المصون (3/373).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/424)، والدر المصون (3/373).(1/387)
و"مثلاً" منصوب على التمييز (1) ، { وأنفسهم كانوا يظلمون } معطوف على { كذبوا بآياتنا } (2) ، أي: جمعوا بين التكذيب والظلم، فيكون الظلم داخلاً في حيز الصلة. ويجوز أن يكون منقطعاً عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم، وتقديم المفعول للاختصاص (3) ، كأنه قيل: خَصُّوا أنفسهم بالظلم.
قوله تعالى: { من يهد الله فهو المهتدي } أي: من يتولى الله هدايته فهو المهتدي، { ومن يضلل } أي: ومن يخذله ويضلّه { فأولئك هم الخاسرون } .
ô‰s)s9ur ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/373).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/374).
(3) ... مثل السابق.(1/388)
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ اتذزب
قوله تعالى: { ولقد ذرأنا } أي: خلقنا { لجهنم كثيراً } خلقنا كثيراً { من الجن والإنس } وهم الذين حقّت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاء الذين خلقوا للنار.
قرأتُ علي أبي المجد محمد بن الحسين القزويني، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد المعروف بحفدة العطاري فأقرَّ به، قال: حدثنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد الصيرفي (1) ، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي، حدثنا حفص بن غياث، عن طلحة [بن] (2) يحيى (3) ، عن عائشة بنت طلحة (4) ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أدرك
__________
(1) يعقوب بن أحمد بن محمد أبو بكر الصيرفي، حدث بنيسابور عن الحسن بن أحمد المخلدي وأحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الخفاف، وغيرهم، توفي في سنة ست وستين وأربعمائة (التقييد ص:495).
(2) في الأصل: عن. وهو خطأ، والتصويب من البغوي (2/217). انظر ترجمته في المصادر التالية.
(3) هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، نزيل الكوفة، صدوق يخطئ، مات سنة ثمان وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 5/25، وتقريب التهذيب ص:283).
(4) عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية، أم عمران، تابعية ثقة، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، روت عن خالتها عائشة، وعنها ابنها طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن وابن أخيها طلحة بن يحيى بن طلحة وغيرهم (تهذيب التهذيب 5/25، وتقريب التهذيب ص:283).(1/389)
النبي - صلى الله عليه وسلم - جنازة صبي من صبيان الأنصار، فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وما يدريك، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم" (1) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة.
ومنه أيضاً: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم } وقد سبق آنفاً.
قوله تعالى: { لهم قلوب لا يفقهون بها } أي: لا يفهمون ولا يعقلون بها الحق، { ولهم أعين لا يبصرون بها } العجائب [الدالّة] (2) على وحدانية خالقها وقدرته وعظمته، { ولهم آذان لا يسمعون بها } مواعظ القرآن ودلائل التوحيد، { أولئك كالأنعام } في عدم التفكر والاعتبار، وما يُدرك بالأسماع والأبصار.
وقال مقاتل (3) : { أولئك كالأنعام } يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة.
{ بل هم أضل } من الأنعام؛ لأنها تجتلب منافعها وتجتنب مضارّها،
__________
(1) أخرجه مسلم (4/2050 ح2662). وانظر: تفسير البغوي (2/217).
(2) في الأصل: الدلة. والصواب ما أثبتناه.
(3) تفسير مقاتل (1/426).(1/390)
والكفار يقتحمون النار معرضين عن مصالحهم، { أولئك هم الغافلون } الكاملون الغفلة.
!ur الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اترةب
قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } ، سبب نزولها: أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال الأحمق الجاهل أبو جهل: أليس يزعم محمداً وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت هذه الآية (1) .
والحسنى: تأنيث الأحسن، وقد سبق ذكره.
والمعنى: ولله الأسماء الدالة على المعاني الحسنة، والأوصاف الجميلة، من الرحمة والمغفرة والحلم والعفو والرزق والتعظيم والتحميد والتقديس، { فادعوه بها } أي: اسألوه بأسمائه الحسنى وتوسلوا إليه بها، كقولك: يا الله،
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/292).(1/391)
يا رحمن، يا رحيم، يا كريم، يا حليم (1) .
قرأتُ على الشيخ عماد الدين أبي محمد عبدالله بن الحسن بن الحسين بن أبي السنان بالموصل في المحرم سنة أربع وعشرين وستمائة، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، أخبركم الشيخ الحافظ أبو سعيد عبداللطيف بن أبي سعد البغدادي سنة خمس وخمسين وخمسمائة فأقرَّ به، أخبرنا أبو القاسم غانم بن أبي نصير محمد بن عبيد الله البرجي (2) ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن الحسين بن فاذشاه (3) ، حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (4) ، حدثنا أسلم بن سهل (5) ، حدثنا محمد بن أبان
__________
(1) ... انظر: مجاز القرآن (1/233).
(2) ... غانم بن محمد بن عبيد الله بن عمر بن أيوب الخرقي البرجي الأصبهاني، أبو القاسم، ولد في ذي القعدة سنة سبع عشرة وأربعمائة، وتوفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 19/320-322، والتقييد ص:421).
(3) ... أحمد بن محمد بن الحسين ابن محمد بن فاذشاه الأصبهاني. سمع الكثير من أبي القاسم الطبراني، وكان سماعه مع جده الحسين في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، روى المعجم الكبير كله عن الطبراني وغير ذلك. مات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 17/515-516).
(4) سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي، أبو القاسم الطبراني، من طبرية الشام، كان ثقة حافظاً، استوطن أصبهان، وحدّث بها إلى أن مات، ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة (التقييد ص:283-284).
(5) أسلم بن سهل بن سلم بن زياد بن حبيب الواسطي الرزاز، ويعرف ببحشل، وهو ثقة ثبت إمام، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/553).(1/392)
الواسطي (1) ، حدثنا عمران بن خالد الخزاعي (2) ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله تسعة وتسعين اسماً، من [أحصاها] (3) دخل الجنة" (4) .
قال: هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.
فإن قيل: أسماء الله كثيرة جداً، فما وجه الحديث؟
قلت: ليس المراد حصر أسماء الله تعالى في هذا العدد، وإنما المعنى: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، كما تقول: لزيد مائة درهم أعَدَّها للصدقة، ولا يدل على أنه ليس عنده أكثر من ذلك؛ وإنما يدل على أن الذي عنده للصدقة هذا القدر.
فإن قيل: ما معنى: "أحصاها"؟
قلت: عنه أجوبة: أحدها: أن معناه: حفظها. وفي بعض ألفاظ الحديث:
__________
(1) محمد بن أبان بن عمران بن زياد بن ناصح، أبو عمران الواسطي الطحان، صدوق تكلم فيه، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وعاش تسعين سنة (تهذيب التهذيب 9/3، والتقريب ص:465).
(2) عمران بن خالد الخزاعي البصري، روى عن ابن سيرين والحسن وثابت البناني. روى عنه بشر بن معاذ العقدي. قال أبو حاتم: ضعيف. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به (الجرح والتعديل 6/297، ولسان الميزان 4/345).
(3) في الأصل: أحصا. والمثبت من صحيح مسلم (4/2063).
(4) أخرجه مسلم (4/2063 ح2677).(1/393)
"من حفظها" (1) .
الثاني: أن المعنى: من أطاقها، كقوله تعالى: { علم أن لن تحصوه } [المزمل:20]، وقوله عليه السلام: "استقيموا ولن تحصوا" (2) .
والمعنى: من أطاق العمل بها؛ كالسميع والعليم، فالعمل بهما أن يكفّ لسانه عن قول ما لا يجوز، ويجتنب في خلواته ما يكره اطلاع الناس عليه، ولا يركن ويعزم على ما يحرم، وعلى هذا سائر الأسماء.
الثالث: أن المعنى: من عقلها وآمن بها دخل الجنة، مأخوذ من الحَصَاة، وهو العَقْل.
قال طرفة:
وإنَّ لسانَ المرْءِ ما لم يَكُنْ له ... حَصَاةٌ على عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ (3)
قال بعض العلماء: من قرأ القرآن وجمعه أتى على هذه الأسماء وعلى غيرها من أسماء الله تعالى المنزلة في كتابه، فأشار بذلك إلى أنّ من قرأ القرآن دخل الجنة.
والصحيح: أن معنى الإحصاء: الحفظ، لما ذكرناه أولاً، ولما كان في بعض طرق الصحيح: "من حفظها دخل الجنة" ذكرتها لتحفظ، وهي ما قرأته على الشيخ أبي المجد القزويني، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد
__________
(1) ... أخرجه ابن ماجه (2/1269 ح3861).
(2) ... أخرجه ابن ماجه (1/101 ح277)، وأحمد (5/276)، والحاكم (1/220 ح447).
(3) ... البيت لطرفة، وهو في: اللسان، (مادة: حصي)، وديوان الحماسة (2/181)، وشرح كتاب الأمثال (1/262).(1/394)
فأقرَّ به، قال: حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الضحالي الطوسي بها، أخبرنا أبو منصور محمد بن نصر بن أحمد الطوسي، أخبرنا الحاكم أبو أحمد الحافظ، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا صفوان بن صالح بن عبد الملك الدمشقي -واللفظ له-:
وأخبرنا به عالياً أبو محمد عبدالله بن الحسن بن أبي السنان بقراءتي عليه، أخبرنا عبداللطيف بن أبي سعد البغدادي، أخبرنا أبو القاسم البرجي، أخبرنا ابن فاذشاه، حدثنا أبو القاسم الطبراني، حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي (1) وورد بن أحمد بن لبيد البيروتي قالا: حدثنا صفوان بن صالح (2) ، حدثنا الوليد بن مسلم (3) ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة (4) ، عن أبي
__________
(1) ... أحمد بن المعلى بن يزيد الأسدي، أبو يكر الدمشقي، نائب أبي زرعة في قضائها. صدوق، مات في شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/70، وتهذيب الكمال 1/485-187).
(2) ... صفوان بن صالح بن صفوان بن دينار، أبو عبد الملك الثقفي الدمشقي، مؤذن جامع دمشق، ثقة عند أهل الحديث. ولد سنة ثمان أو تسع وستين ومائة، ومات في ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 11/475، وتهذيب التهذيب 4/374).
(3) ... الوليد بن مسلم القرشي، أبو العباس الدمشقي، مولى بني أمية، وقيل: مولى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ثقة كثير الحديث، لكنه كثير التدليس والتسوية، وكان من أوعية العلم، ولد سنة تسع عشرة ومائة، ومات سنة أربع وتسعين ومائة (تهذيب الكمال 31/86-98، والتقريب ص:584، وسير أعلام النبلاء 9/211-220).
(4) ... شعيب بن أبي حمزة، أبو بشر الأموي الحمصي الكاتب، واسم أبيه دينار، الإمام الحجة المتقن. كان مليح الضبط، أنيق الخط، مات سنة اثنتين -أو ثلاث- وستين ومائة (تذكرة الحفاظ 1/221-222، وسير أعلام النبلاء 7/187-192).(1/395)
الزناد (1) ، عن الأعرج (2) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدي، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام،
__________
(1) ... هو عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، المعروف بأبي الزناد، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: مولى عائشة بنت عثمان بن عفان، ثقة فقيه، وثقه أحمد وابن معين، ولد سنة خمس وستين في حياة ابن عباس، ومات سنة ثلاثين ومائة. وقيل بعدها (تهذيب التهذيب 5/178-179، والتقريب ص:302، وسير أعلام النبلاء 5/445-451).
(2) ... هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان ثقة كثير الحديث، مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 6/260، والتقريب ص:352).(1/396)
المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور" (1) .
قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث غريب، حدث غير واحد عن صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
ويعلو لي هذا الحديث من طريق ابن أبي السنان برجلين، فكأنني سمعته من أبي محمد البغوي.
فصل
يتضمن شرح ما أشكل من هذه الأسماء وإن كان معظمها قد مضى في كتابنا، ويأتي فيما بقي إن شاء الله تعالى، إلا أنا نشير إليه بطريق الاختصار ليكون مجموعاً هاهنا.
أما اسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكرناه في أول الكتاب.
"القدوس": الطاهر من العيوب.
و"السلام": الذي يسلم من كل عيب ونقص.
"المؤمن": الذي أمن المؤمنين من عذابه.
"المهيمن": الشهيد.
"المتكبر": البليغ الكبرياء والعظمة.
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/530 ح3507).(1/397)
قال ابن الأنباري: المتكبر: ذو الكبرياء، وهو الملك.
وقال أهل المعاني: المتكبر في صفة الله: الكبير، والعرب تضع نفعل في موضع فعل، مثل: نظلم في موضع ظلم.
"الفتاح": الحاكم.
و"الحكم": الحاكم أيضاً.
"العدل": الذي لا يجور.
"اللطيف": البر بعباده.
"الشكور": الذي يشكر القليل من الطاعة فيثيب عليه.
"المقيت": المقتدر.
و"الحسيب": الكافي.
و"الجليل": العظيم.
و"الرقيب": الحافظ.
"الودود": المحب عباده الصالحين.
"المجيد": الواسع الكرم.
"الوكيل": الكافي.
و"المتين": الشديد القوة.
"الولي": الناصر.
"الحميد": المحمود.
و"القيوم": الدائم بلا زوال.
"الواجد": الغني.(1/398)
و"الماجد": بمعنى المجيد.
و"الأحد": المنفرد بالمعنى الذي لا يشاركه فيه أحد.
و"الواحد": المنفرد بالذات.
و"الصمد": السيد الظاهر بالحجج.
"الباطن": المحتجب عن الأبصار.
"الوالي": المتولي للأشياء.
و"البر": العطوف.
ومعنى "ذو الجلال والإكرام": أنه أهلٌ أن يُجَلّ ويكرم.
و"المقسط": العادل.
و"المانع": الناصر.
ومعنى "النور": الذي بنوره يبصر ذو نعمائه.
و"البديع": المبتدع الأشياء.
و"الوارث": الباقي بعد فناء خلقه.
و"الرشيد": بمعنى المرشد.
و"الصبور": الذي لا يعاجل بالعقوبة.
فإن قيل: هل جاء في الاسم الأعظم بخصوصه حديث يعتمد عليه؟
قلت: نعم. وهو:
ما أخبرنا به محمد بن أبي عبدالله بن أبي المكارم فيما قرأته عليه، قال: أخبرنا أبو منصور بن أسعد، أخبرنا الحسين بن مسعود، أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني، أخبرنا القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد(1/399)
السمناني (1) ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبدالرحمن المخلص (2) ، حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد (3) ، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي (4) ، حدثنا نوح بن الهيثم (5) ، حدثنا خلف بن خليفة (6) ، حدثنا حفص ابن أخي أنس
__________
(1) ... محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد السمناني الحنفي، أبو جعفر. حدث عن نصر المرجي، وعلي بن عمر الحربي، وأبي الحسن الدارقطني، وجماعة، ولازم ابن الباقلاني حتى برع في علم الكلام، وكان صدوقاً، فاضلاً، حنفياً يعتقد مذهب الأشعري، وله تصانيف، وكان من أذكياء العالم. توفي بالموصل سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وله ثلاث وثمانون سنة (سير أعلام النبلاء 17/651-652).
(2) ... محمد بن عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا، أبو طاهر المخلص، شيخ صالح ثقة، ولد ليلة الاثنين لسبع ليال خلون من شوال سنة خمس وثلاثمائة، وأول سماعه كان في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة من ابن بنت منيع، مات في شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة (تاريخ بغداد 2/322-323).
(3) ... يحيى بن محمد بن صاعد بن كاتب، مولى أبي جعفر المنصور، الحافظ الامام الثقة، أبو محمد الهاشمي البغدادي. ولد سنة ثمان وعشرين ومائتين، وله تصانيف في السنن والأحكام، مات في ذي القعدة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة بالكوفة (سير أعلام النبلاء 14/501-507، وتذكرة الحفاظ 2/776-778).
(4) ... الحسين بن الحسن بن حرب السلمي، أبو عبد الله المروزي، صاحب ابن المبارك، نزيل مكة، ثقة صدوق . مات سنة ست وأربعين ومائتين (تهذيب الكمال 6/361-363، وتهذيب التهذيب 2/289، والتقريب ص:166).
(5) ... نوح بن الهيثم الخراساني، صهر آدم بن أبي إياس العسقلاني (الجرح والتعديل 8/485، ولسان الميزان 6/175).
(6) ... خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي، مولاهم، أبو أحمد الكوفي. صدوق اختلط في الآخر، كان بالكوفة، ثم انتقل إلى واسط فسكنها مدة، ثم تحول إلى بغداد فأقام بها إلى حين وفاته، مات سنة إحدى وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب 3/130، والتقريب ص:194).(1/400)
بن مالك، عن أنس قال: "كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجل يصلي، فقال: اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل تدرون ما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" (1) .
وقرأت على أبي المجد محمد بن الحسين، أخبركم أبو منصور حفدة العطاري، حدثنا أبو محمد البغوي، أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا أبو القاسم إبراهيم [بن] (2) محمد بن علي بن الشاه، حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله النيسابوري، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن عمر الضبي، حدثنا عمرو بن مرزوق (3) ، أخبرنا مالك بن مِغْوَل (4) ، حدثنا عبدالله بن بريدة (5) ، عن أبيه (6) قال: "دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ويدي في يده،
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (2/79 ح1493)، والترمذي (5/515 ح3475)، وأحمد (3/158 ح12632)، والحاكم (1/683 ح1856).
(2) ... زيادة على الأصل. انظر: تكملة الإكمال (2/590).
(3) عمرو بن مرزوق الباهلي، مولاهم، أبو عثمان البصري، ثقة مأمون فاضل، له أوهام، مات سنة أربع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب 8/87-88، والتقريب ص:426).
(4) مالك بن مغول بن عاصم بن غزية بن حارثة بن حديج بن بجيلة البجلي، أبو عبد الله الكوفي. ثقة ثبت، مات سنة سبع -أو ثمان أو تسع- وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 10/20، والتقريب ص:518).
(5) عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل المروزي، قاضي مرو. مات سنة خمس ومائة. وقيل: خمس عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 5/137-138، والتقريب ص:297).
(6) بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، أبو عبد الله، أسلم قبل بدر ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وسكن المدينة ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو فمات بها سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد بن معاوية (تهذيب التهذيب 1/378، والتقريب ص:121).(1/401)
وإذا رجلٌ يصلي يقول: اللهم! إني أسألك فإنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب" (1) .
والرجل المذكور في هذا الحديث: عبدالله بن قيس أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
قوله تعالى: { وذروا الذين يُلْحِدون في أسمائه } قرأ حمزة: "يَلحَدون" بفتح الياء والحاء، هنا وفي النحل (2) والسجدة (3) ، وافقه الكسائي في النحل، من لَحَدَ يَلْحَدُ (4) . وقرأ الباقون: بضم الياء وكسر الحاء، من أَلْحَدَ يُلْحِدُ (5) .
وقال الأخفش (6) : أَلْحَدَ ولَحَدَ لغتان.
وقال ابن السكيت: المُلْحِد: العادل عن الحق المُدْخِل فيه ما ليس منه. يقال: قد أَلْحَدَ في الدِّين ولَحَدَ به (7) .
__________
(1) أخرجه ابن حبان (3/174 ح892)، والحاكم (1/683 ح1858).
(2) ... عند الآية رقم: 103.
(3) ... أي: سورة فصلت، عند الآية رقم: 40.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: لحد).
(5) ... الحجة للفارسي (2/281)، والحجة لابن زنجلة (ص:303)، والكشف (1/484)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:233)، والسبعة في القراءات (ص:298).
(6) ... معاني الأخفش (ص:201).
(7) ... انظر: البغوي (2/217).(1/402)
والمُلْحِدون: أبو جهل وأصحابه الذين عَدَلُوا بأسماء الله وسمّوا بها آلهتهم وزادوا ونقصوا، فاشتقّوا اللات من اسم الله، والعزّى من العزيز، ومناة من المنان.
وكل من سمّى الله تعالى بما لم ينزل به كتاب ناطق أو سُنَّة دالّة فقد ألحد في أسمائه.
سمع ابن عباس رجلاً يقول: يا رب القرآن، فأنكر عليه (1) .
قال الزجاج (2) : لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمّ به نفسه، فيقول: يا قوي، ولا يقول: يا جَلْد، ويقول: يا رحيم، ولا يقول: يا رفيق؛ لأنه لم يصف نفسه بذلك.
فصل
ذهب ابن زيد في آخرين إلى أن قوله: { وذروا الذين يلحدون } منسوخ بآية السيف (3) .
والذي عليه [المحققون] (4) من المفسّرين والبُصراء بالعربية: أن ذلك خارج مخرج التهديد، فهو كقوله: { ذرني ومن خلقت وحيداً } [المدثر:11].
ô`£JدBur خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/293).
(2) ... معاني الزجاج (2/392).
(3) ... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:38)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:339).
(4) ... في الأصل: المحقون.(1/403)
وَبِهِ يَعْدِلُونَ اترتب
قوله تعالى: { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه } وهم الهداة الدعاة إلى الحق.
قال ابن عباس: يريد: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
قال ابن جريج: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [قال] (2) : "هذه أمتي، بالحق يأخذون ويعطون ويقضون، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها، { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } " (3) . وروي نحوه عن قتادة (4) .
وقال الربيع بن أنس: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية فقال: إن من أمتي [قوماً] (5) على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم" (6) .
وفي الصحيحين من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم
__________
(1) ... زاد المسير (3/294).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... أخرجه الطبري (9/135) بأقصر منه. وذكره السيوطي في الدر (3/617) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (9/135)، وابن أبي حاتم (5/1623). وذكره السيوطي في الدر (3/617) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... زيادة من المصادر التالية.
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1623). وذكره السيوطي في الدر (3/617) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/404)
حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس" (1) .
tûïد%©!$#ur كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِن كَيْدِي مَتِينٌ اترجب
قوله تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا } قال ابن السائب: يريد: أهل مكة، كذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن (2) .
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قال ابن عباس: سنمكرُ بهم (3) .
قال أبو عبيدة (4) : الاستدراج: أن تتدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً، وأصله من الدرجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة،
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1331 ح3442)، ومسلم (3/1524 ح1037).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/431).
(3) الوسيط (2/431).
(4) ذكر أبو عبيدة في مجاز القرآن (1/233) عند ذكره هذه الآية: والاستدراج: أن تأتيه من حيث لا يعلم ومن حيث تلطُف له حتى تغترّه. وانظر قول أبي عبيدة في: زاد المسير (3/295).(1/405)
ومنه: دَرَجَ الكتاب، إذا طواه شيئاً بعد شيء (1) .
قال الخليل بن أحمد في قوله { سنستدرجهم } : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم (2) .
قال الضحاك: كلما جدّدوا معصية جدّدنا لهم نعمة (3) .
قوله تعالى: { وأملي لهم } أي: أطيل أعمارهم في المعاصي، { إن كيدي متين } .
قال ابن عباس: إن مكري شديد (4) .
قال الحسن البصري رحمه الله: كم من مستدرَج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه (5) .
ِNs9urr& يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ
__________
(1) انظر: اللسان (مادة: درج).
(2) انظر: البحر المحيط (4/428)، وزاد المسير (3/294).
(3) الوسيط (2/431)، وزاد المسير (3/295).
(4) الوسيط (2/432)، وزاد المسير (3/295).
(5) ذكره القرطبي (18/251).(1/406)
وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ اتردب
قوله تعالى: { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم } قال الحسن البصري رحمه الله: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً على الصفا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً، فيقول: يا بني فلان! يا بني فلان! يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبهم هذا لمجنون، بات يُصوِّتُ حتى الصباح، فأنزل الله تعالى هذه الآية يحضهم على التفكر في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والنظر فيما دعاهم إليه (1) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/136)، وابن أبي حاتم (5/1624) كلاهما عن قتادة. وانظر: لباب النقول في أسباب النزول (ص:105)، وزاد المسير (3/296) عن الحسن وقتادة. وذكره السيوطي في الدر (3/618)، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.(1/407)
والوقف على قوله: "أو لم يتفكروا" وقف تام.
ثم نفى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما اقترفوه، فقال: { ما بصاحبهم من جنّة } أي: جنون، { إن هو إلا نذير } للحق، { مبين } للباطل من الحق.
فإن قيل: لم عدل عن اسمه العَلَم، وهو محمد، أو صفته العالية، وهي الرسول، ولم يضيفه إلى نفسه، فلم يقل: ما بمحمد، ما برسولي من جِنَّة، وإنما أضافه إليهم باسم الصحبة فقال: "ما بصاحبهم"؟
قلت: ليُبقي عليهم قبيح ما أقدموا عليه من نسبتهم الجنون إلى من صاحبوه دهراً طويلاً ولازموه عمراً مديداً، وعلموا ما طُبع عليه من الأخلاق الكريمة والأوصاف الجميلة، والفطرة السليمة؛ [وخلوّه] (1) من النقائص الظاهرة والباطنة، فأفاد قوله: "ما بصاحبهم" ذمّهم على كذبهم وظلمهم بنسبتهم الجنون إلى من صحبوه وعرفوا راجح عقله، وتذكيرهم باسم الصحبة ما يجب للصاحب على صاحبه من المعاضدة والمناصرة، وترقيقهم عليه، وتهييج طباعهم على الإحسان إليه، وهذا من الرموز التي لا يهتدي لها إلا غوير غوّاص على معاني كتاب الله تعالى، بحّاث عن غوامضه وأسراره.
قوله تعالى: { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } حثّهم الله تعالى على النظر في ملكوت السموات وما فيها من الآيات الباهرة والأنجم الزاهرة، وملكوت الأرض وما فيها من عجائب المخلوقات، { وما خلق الله }
__________
(1) زيادة على الأصل.(1/408)
أي: وفيما خلق الله { من شيء } قال ابن عباس: من جليل وصغير (1) .
والمعنى: أو لم ينظروا فيستدلوا بهذه المصنوعات العجيبة على عظمة صانعها ومخترعها، وحكمة مبتدعها ومفترعها.
{ وأن عسى } خفيفة من [الثقيلة] (2) ، بإضمار الشأن، والتقدير: أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، وفي أن الحديث والشأن { عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } أي: لعل آجالهم قريبة فيستدركوا الفارط بالتوبة والإيمان، خوفاً أن يهلكوا على الكفر، فيصيروا إلى النار، { فبأي حديث بعده } أي: بعد القرآن وحججه البالغة، ومواعظه الشافية، واشتماله على علم ما كان ويكون { يؤمنون } .
ثم ذكر سبب توغلهم في مهالك الردى مع إثارة مسالك الهدى، فقال: { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة: "ويذرهم" بالياء، لكنه رفع الفعل على الاستئناف، وجزمه الكوفيون عطفاً على موضع الفاء، وقرأ الباقون: بالنون والرفع (3) .
أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي الطوسي في كتابه قال: أخبرنا عبدالجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن يحيى، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر، أخبرنا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/432).
(2) ... في الأصل: الثقلية.
(3) ... الحجة للفارسي (2/282)، والحجة لابن زنجلة (ص:303)، والكشف (1/485)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:233)، والسبعة في القراءات (ص:298).(1/409)
جعفر بن محمد الزيادي، حدثنا عبيدالله بن محمد بن عائشة (1) ، حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذّاء، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبدالله بن الحارث قال: "خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية (2) ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال نصراني: تركس تركس (3) ، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: قال: إن الله يهدي ولا يضل، فقال: كذبت يا عدو الله، الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، لولا وَلْثُ عهد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لضربت عنقك" (4) .
قال ابن الأعرابي: والوَلْثُ: بقية العهد (5) .
y7tRqè=t"َ،o" ا`tم دptم$،،9$# tb$ƒr&
__________
(1) ... عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر القرشي التيمي، أبو عبد الرحمن البصري، المعروف بالعيشي وبالعائشي وبابن عائشة؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، ثقة جواد، رمي بالقدر ولم يثبت (تهذيب الكمال 19/147-151، والتقريب ص:374).
(2) ... الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدور، من ناحية الجولان، قرب مرج الصفر في شمالي حوران، وفي هذا الموضع خطب عمر خطبته المشهورة (معجم البلدان 2/91).
(3) ... عند ابن أبي حاتم: بركست بركست.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1625). وانظر: الوسيط (2/432). وذكره السيوطي في الدر (3/619) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: ولث).(1/410)
$yg8y™َگكD ِ@è% $yJ¯Rخ) $ygمKù=دو y‰Zدم 'خn1u' ںw $pkژدk=pgن† !$pkةJّ%uqد9 wخ) uqèd ôMn=à)rO 'خû دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur ںw ِ/ن3د?ù's? wخ) ZptGَّt/ y7tRqè=t"َ،o" y7¯Rr(x. ;'إ"ym $pk÷]tم ِ@è% $yJ¯Rخ) $ygكJù=دو y‰Zدم "!$# £`إ3"s9ur uژsYٍ2r& ؤ¨$¨Z9$# ںw tbqكJn=ôètƒ اترذب
قوله تعالى: { يسألونك } قال ابن عباس: يعني: اليهود (1) .
وقال الحسن وقتادة: يعني: كفار قريش (2) .
{ عن الساعة } أي: القيامة، سميت ساعة؛ لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لأنها مع طولها عند الله كساعة.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/137). وانظر: الماوردي (2/284).
(2) ... أخرجه الطبري (9/137) عن قتادة. وانظر: الماوردي (2/284) عن الحسن وقتادة. وذكره السيوطي في الدر (3/619) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.(1/411)
وقال الزجاج (1) : الساعة هاهنا: الساعة التي يموت فيها الخلق.
{ أيان } ظرف مبني على الفتح، لتضمنه معنى الاستفهام (2) .
قال أبو عبيدة (3) : المعنى: متى منتهاها.
و { مرساها } السفينة حيث تنتهي.
وقيل: المعنى: متى ثبوتها واستقرارها، ومنه قيل للجبال: رواسي، ومنه: أَرْسى السفينة (4) .
{ قل إنما علمها عند ربي } أي: هو المستأثر بعلمها، { لا يجلّيها لوقتها } أي: لا يوضحها ويظهرها في وقتها { إلا هو } ، { ثقلت في السموات والأرض } أي: ثَقُلَ وقوعها وعَظُمَ على أهل السموات والأرض محسنهم ومسيئهم، { لا تأتيكم إلا بغتة } فجأة، وهو مصدر في محل الحال (5) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبدالصمد العطار وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة الصوفي البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبدالأول بن عيسى بن شعيب السجزي، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن المظفر الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف بن مطر [الفربري] (6) حدثنا محمد بن
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/393).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/290)، والدر المصون (3/379).
(3) ... مجاز القرآن (1/234).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: رسا).
(5) ... انظر: الدر المصون (3/43).
(6) ... في الأصل: القريري. والصواب ما أثبتناه، وقد تقدمت ترجمته.(1/412)
إسماعيل البخاري، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبدالرحمن، [عن] (1) أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كل يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، [وتكثر] (2) الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرْج -وهو القتل-، وحتى يكثر فيهم المال فيفيض، حتى يهم ربُّ المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه لا أَرَبَ لي فيه، وحتى يتطاول الناس بالبنيان، وحتى يمرَّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومنّ الساعة وقد نَشَرَ الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" (3) . وأخرجه مسلم أيضاً.
قوله تعالى: { يسألونك كأنك حفي عنها } أي: كأنك استحفيت في السؤال واستقصيت حتى علمتها.
__________
(1) ... في الأصل: بن. والتصويب من الصحيحين.
(2) ... في الأصل: ويكثر. والتصويب من البخاري (6/2605).
(3) ... أخرجه البخاري (6/2605 ح6704)، ومسلم (4/2214 ح157).(1/413)
وقال الزجاج (1) : المعنى -والله أعلم-: كأنك فرح بسؤالهم. يقال: قد تحفيت بفلان في المسألة، إذا سألت به سؤالاً أظهرت فيه المحبّة والبرّ به، وأحفى فلان بفلان في المسألة، وإنما تأويله الكثرة، يقال: حفى (2) الدابة تَحْفَى حفىً -مقصور- إذا كثر عليه ألم المشي حتى يؤلمه (3) .
{ ولكن أكثر الناس } يعني: أهل مكة، { لا يعلمون } أن الساعة كائنة، وأن الله مستأثر بعلمها.
@è% Hw à7خ=ّBr& سإOّےuZد9 $YèّےtR ںwur # ... ژںر wخ) $tB uن!$x© ھ!$# ِqs9ur àMZن. مNn=ôمr& |=ّtَّ9$# كN÷ژsYٍ6tGَ™]w z`دB خژِچy‚ّ9$# $tBur zسح_،،tB âن q ،9$# ÷bخ) O$tRr& wخ)
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/393-394).
(2) ... كذا في الأصل، وأصول معاني الزجاج، ولكن محقق الكتاب عدلها في صلب الكتاب إلى: حَفت. وقال: في الأصول: حفى. وقال الجوهري في الصحاح (6/2316): حَفِيَ يَحْفى حَفاءً، وهو أن يمشي بلا خُف ولا نعلٍ. فأما الذي حَفِيَ من كثرة المشْي، أي رَقَّتْ قدمه أو حافره، فإنه حَفٍ بيّن الحَفى مقصورٌ.
(3) ... انظر: اللسان (مادة: حفا).(1/414)
ضچƒةtR ×ژچد±o0ur 5Qِqs)دj9 tbqمZدB÷sمƒ اتررب
{ قل لا أملك لنفسي نفعاً } فأتلقاه { ولا ضراً } فأتوقاه.
قال الكلبي: نزلت حين قال أهل مكة: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري من الرخيص لتربح عليه عند الغلاء؟ والأرض التي تريد أن تجدب فترتحل منها؟ (1) .
{ إلا ما شاء الله } أن أملكه. والمعنى: إذا كنت هكذا، فكيف أعلم متى تقوم الساعة؟ { ولو كنت أعلم الغيب } قبل وقوعه { لاستكثرت من الخير } من أسباب الرزق والنصر على الأعداء { وما مسني السوء } الفقر وغيره مما يسوء النفس ويؤلمها، { إن أنا إلا نذير } فيه إضمار، تقديره: إن أنا إلا نذير للكفار من عذاب النار، { وبشير } للمؤمنين بالجنة، وقيل: النذارة والبشارة للمؤمنين؛ لمكان انتفاعهم بها.
* uqèd "د%©!$# Nن3s)n=s{ `دiB <ّے¯R ;oy‰دn؛ur ں@yèy_ur $pk÷]دB $ygy_÷ry- z`ن3َ،uٹد9 $pkِژs9خ) $£Jn=sù $yg8O±tَs? ôMn=yJym
__________
(1) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:232)، والوسيط (2/434)، وزاد المسير (3/299).(1/415)
¸xôJym $Zےدےyz ôNچyJsù ¾دmخ/ !$£Jn=sù Mn=s)ّOr& #uqtم¨ٹ ©!$# $yJكg/u' ÷ûبُs9 $oYtGّٹs?#uن $[sخ="|¹ ¨ûsًqن3uZ©9 z`دB ڑْïجچإ3"O±9$# اترزب !$£Jn=sù $yJكg9s?#uن $[sخ="|¹ ںxyèy_ ¼çms9 uن!%x.uژà° !$yJٹدù $yJكg9s?#uن 'n?"yètGsù ھ!$# $£Jtم tbqن.خژô³ç" اتزةب
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { ليسكن إليها } أي: ليأنس بها لما بينهما من [حسية] (1) الإنسية ومشاكلة البعضية.
{ فلما تغشاها } كناية عن الجماع، { حملت حملاً خفيفاً } يعني: النطفة، وقيل: خفيفاً لم تلق منه ثقلاً ولا مشقّة، كما يجد بعض [الحوامل] (2) .
قوله: { فمرّت به } تحقيق لمعنى خِفَّتِه، وأنه لم يمنعها من القيام والقعود
__________
(1) ... في الأصل: خسية.
(2) ... في الأصل: الحومل.(1/416)
والنزول والصعود.
وقرأ سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود وابن عباس: "فاستمرّت به" (1) .
وقرأ أبي بن كعب والجوني: "فاستمارّت به" بزيادة ألف مع تشديد الراء في الجميع (2) ، والمعنى واحد وهو ما ذكرناه.
وقال قتادة: المعنى: تبيّن حملها (3) .
وقرأ أبو العالية ويحيى بن يعمر: "فَمَرَتْ به" خفيفة الراء (4) ، أي: شكّت وتمارت هل حملت أم لا؟
قال الزجاج (5) : الحَمْل -بفتح الحاء-: ما كان في بطن، أو أخرجته شجرة، والحِمْل -بكسر الحاء-: ما يُحْمَل (6) .
{ فلما أثقلت } صارت ذات ثقل، { دعوا الله ربهما } أي: دعى آدم وحواء ربهما، { لئن آتيتنا صالحاً } بشراً سوياً، فإنهما خافا أن تلد ولداً لا يشاكلهما ويجانسهما. هذا قول الأكثرين.
وقال الحسن وقتادة: المعنى: لئن آتيتنا غلاماً صالحاً (7) ، { لنكونن من
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/301)، والدر المصون (3/382).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (9/144)، وابن أبي حاتم (5/1631).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/301)، والدر المصون (3/382).
(5) ... معاني الزجاج (2/395).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: حمل).
(7) ... أخرجه الطبري (9/144) عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر (3/626) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن.(1/417)
الشاكرين } لك على نعمك.
{ فلما آتاهما صالحاً } أي: أعطاهما ما سألاه، { جعلا له شركاء فيما آتاهما } وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: "شِرْكاً" بكسر الشين وسكون الراء والقصر، على المصدر (1) ، أي: جعلا لله ذا شرك. والمراد به على القراءتين: إبليس، وأوقع الجمع على القراءة المشهورة موقع الواحد.
ومعنى جعلهما إبليس شريكاً لله: طاعتهما له، وكان السبب في ذلك (2) : ما أخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سَمِّيه عبد الحارث فسَمَّته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/283)، والحجة لابن زنجلة (ص:304)، والكشف (1/485-486)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:234)، والسبعة في القراءات (ص:299).
(2) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:232).
(3) ... أخرجه الترمذي (5/267 ح3077) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/545) وصححه، ووافقه الذهبي.
... قلت: في إسناده عند الترمذي وعند الحاكم: عمر بن إبراهيم ، قال الحافظ في التقريب: في حديثه عن قتادة ضعف، والحسن البصري مدلس.
... والحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره (9/146).
... وقد تكلم على هذا الحديث الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة في كتابه: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) فانظره هناك (ص:209-215).(1/418)
ونقل العلماء بالتفسير: أن إبليس جاء إلى حواء في غير الصورة التي كانت تعرفه فيها، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. فقال لها: إني أخاف أن يكون كلباً أو خنزيراً أو بهيمة، وما يدريك من أين يخرج؟ أيشق بطنك؟ أو يخرج من فِيكِ؟ أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك وذكرته لآدم، فدعوا الله حينئذ وهما مع ذلك في همّ وغمّ وخوف، فأتاها إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله أن يسهل خروجه وأن يجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسميه عبد الحارث؟ -وكان اسم إبليس بين الملائكة: الحارث-قالت: نعم. فلما وضعته صالحاً سمّته برضا آدم عبد الحارث (1) . ولم يريدا عليهما السلام أن الحارث ربه ومالكه، وإنما ظنّا أنه كان السبب في نجاته، فأضافاه إليه إضافة طاعة وخضوع، كقول الشاعر:
وإِنّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ من غير ذلة ... وما فيّ إلا ذاك من شيم العبد (2)
وإلى هذا أشار قتادة بقوله: جعلا له شركاً في الاسم لا في العبادة (3) ، وهاهنا تم الكلام.
ثم نزّه نفسه عما يقوله الكافرون، فقال جل وعز: { فتعالى الله عما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/147)، وابن أبي حاتم (5/1632). وذكره السيوطي في الدر (3/624) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... البيت لقيس بن عاصم المنقري، وهو في: القرطبي (7/339)، وزاد المسير (3/303)، والوسيط (2/435)، وروح المعاني (9/142).
(3) ... أخرجه الطبري (9/147)، وابن أبي حاتم (5/1634). وذكره السيوطي في الدر (3/626) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/419)
يشركون } .
وقيل: التقدير: فلما آتاهما صالحاً جعل أولادُهما له شركاء، على حذف المضاف، وكذلك { فيما آتاهما } ، ودلّ على هذا التأويل قوله: { فتعالى الله عما يشركون } .
tbqن.خژô³ç"r& $tB ںw ك,è=ّƒs† $\"ّx© ِNèdur tbqà)n=ّƒن† اتزتب ںwur tbqمèدـtGَ،o" ِNçlm; #ZژَاtR Iwur ِNهk|¦àےRr& ڑcrçژفاYtƒ اتزثب bخ)ur ِNèdqممô‰s? 'n<خ) 3"y‰çlù;$# ںw ِNà2qمèخ6Gtƒ ين!#uqy™ ِ/ن3ّn=tو ِNèdqكJè?ِqtمyٹr& ÷Pr& َOçFRr& ڑcqçFدJ"|¹ اتزجب ¨bخ) tûïد%©!$# ڑcqممô‰s? `دB بbrكٹ "!$# îٹ$t6دم ِNà6ن9$sWّBr& ِNèdqمم÷ٹ$$sù (#qç6ةftGَ،uٹù=sù َOà6s9 bخ)(1/420)
َOçFZن. tûüد%د‰"|¹ اتزحب ِNكgs9r& ×@م_ِ'r& tbqà±ôJtƒ !$pkح5 ôQr& ِNçlm; 7‰÷ƒr& tbqà±دِ7tƒ !$pkح5 ôQr& َOكgs9 ×ûمüôمr& ڑcrçژإاِ7مƒ !$pkح5 ÷Pr& َOكgs9 زc#sŒ#uن tbqمèyJَ،o" $pkح5 ب@è% (#qمم÷ٹ$# ِNن.uن!%x.uژà° NèO بbrك‰د. ںxsù بbrمچدàZè? اتزخب
قوله تعالى: { أيشركون } يعني: الذين اتخذوا الأوثان آلهة، { ما لا يخلق شيئاً } لأنه جمادٌ لا يقدر على شيء فيجعلونها شركاء لله، الذي خلق ورزق ويعبدونها من دونه، { وهم يخلقون } يعني: الأصنام. وإنما أجريت مجرى من يعقل؛ لأن عابديها اعتقدوا فيها أنها تعقل وتميز.
{ ولا يستطيعون } يعني: الأصنام { لهم نصراً } يعني: لعابديها، { ولا أنفسهم ينصرون } فيدفعوا عنها ما يؤذيها ويرديها.
{ وإن تدعوهم } يعني: الأصنام. وقيل: الكفار.(1/421)
فإن قلنا: هم الأصنام، فالمعنى: إن تدعوهم إلى ما هو هدى ليهدوكم إليه ويدلوكم عليه، كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعونكم إلى ما تريدون منهم.
وإن قلنا: هم المشركون، فالمعنى: وإن تدعو أيها الرسول والمؤمنون المشركين إلى الهدى لا يتبّعوكم.
وقرأ نافع: "يَتْبَعُوكُمْ" بالتخفيف (1) ، وهما لغتان بمعنى واحد.
{ سواء عليكم } أي: متعادل عندكم، { أدعوتموهم أم أنتم صامتون } عن ذلك الدعاء؛ لأنه لا يرجى منهم الإجابة.
{ إن الذين تدعون من دون الله } يعني: الأصنام، { عباد أمثالكم } قال ابن السائب: مملوكون أمثالكم (2) .
وقال الأخفش: عباد أمثالكم في التسخير، أي: أنهم مسخرون مذللون لأمر الله (3) .
وقال صاحب الكشاف (4) : قوله: "عباد أمثالكم" استهزاء، أي: قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم، لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال: { ألهم أرجل يمشون بها } .
__________
(1) ... وقرأ الباقون: "يَتَّبِعُوكُم". انظر: الحجة للفارسي (2/284)، والحجة لابن زنجلة (ص:305)، والكشف (1/486)، والنشر (2/273)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:234)، والسبعة في القراءات (ص:299).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/436).
(3) ... انظر: الوسيط (2/436)، وزاد المسير (3/306) بلا نسبة.
(4) ... الكشاف (2/178).(1/422)
وقرأ سعيد بن جبير: "إنِ الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم" بتخفيف: "إنْ"، ونصب "عباداً أمثالكم" (1) . والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله [إلا] (2) عباداً أمثالكم، على إعمال "إن" النافية عمل "ما" الحجازية.
ثم إن الله تعالى بيّن نقصان الآلهة بالنسبة إلى عابديها توبيخاً لهم، وتضليلاً لآرائهم، وتجهيلاً لأحلامهم؛ فذلك قوله: { ألهم أرجل يمشون بها ... الآية } ، المعنى: فكيف عبدتموها وأنتم أفضل منها بالأرجل الماشية، والأيدي الباطشة، والأعين الباصرة، والآذان السامعة، { قل } لهم يا محمد مجيباً لهم عن تخويفهم إياك بآلهتهم، { ادعوا شركاءكم } أي: استعينوا بهم في معاداتي، { ثم كيدوني } أنتم وهم، { فلا تنظرون } أي: لا تمهلون.
¨bخ) }'دd؟د9ur ھ!$# "د%©!$# tA¨"tR |="tGإ3ّ9$# uqèdur '¯<uqtGtƒ tûüإsخ="¢ء9$# اتزدب z`ƒد%©!$#ur tbqممô‰s? `دB ¾دmدRrكٹ ںw ڑcqمèدـtGَ،o" ِNà2uژَاtR Iwur ِNهk|¦àےRr& ڑcrçژفاYtƒ اتزذب bخ)ur
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/440)، والدر المصون (3/384).
(2) ... زيادة على الأصل.(1/423)
ِNèdqممô‰s? 'n<خ) 3"y‰çlù;$# ںw (#qمèyJَ،o" ِNكg1tچs?ur tbrمچفàZtƒ y7ّs9خ) ِNèdur ںw tbrçژإاِ7مƒ اتزرب
ثم بيّن السبب الموجب لعدم اكتراثه فقال: { إن وليي الله } إن الذي يتولى نصري وحفظي الله، { الذي نزّل الكتاب } دليلاً على صدقي ومعجزةً شاهدةً برسالتي، { وهو يتولى الصالحين } .
قال ابن عباس: هم الذين لا يعدلون بالله شيئاً (1) .
والمعنى: هو يتولاهم بالنصر على أعدائهم.
قوله تعالى: { وتراهم ينظرون إليك } أي: كأنهم ينظرون إليك بالأعين المصورة، { وهم لا يبصرون } على الحقيقة.
ةè{ uqّےyèّ9$# َگكDù&ur إ$َ مèّ9$$خ/ َعجچôمr&ur ا`tم ڑْüخ=خg"pgّ:$# اتززب $¨Bخ)ur ڑپ¨Zxîu"\tƒ z`دB ا`"sـّO±9$# طّ÷"tR ُدètGَ™$$sù "!$$خ/
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/436).(1/424)
¼çm¯Rخ) ىىدJy™ يOٹخ=tو اثةةب
قوله تعالى: { خذ العفو } أخرج البخاري في صحيحه: "أن عبد الله بن الزبير قال في هذه الآية: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس" (1) ، أي: الميسور من أخلاقهم، ولا يستقصي عليهم فينفرهم.
وقيل: المعنى: خذ ما تيسر من صدقاتهم، ثم نسخ بالزكاة المفروضة.
وقيل: هو أمر بمساهلة الكفار، فيكون منسوخاً بآية السيف (2) .
قوله تعالى: { وأمر بالعرف } قال عطاء: لا إله إلا الله (3) .
والمشهور في التفسير: عمومه في كل ما تعرف العقول حُسنه من مكارم الأخلاق.
{ وأعرض عن الجاهلين } يعني: المشركين.
فعلى هذا: تكون منسوخة بآية السيف.
__________
(1) ... أخرجه البخاري في (4/1702 ح4367).
(2) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:90-91)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:38)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:340-342).
... قلتُ: هذه الآية من عجيب المنسوخ؛ لأن أولها منسوخ -وهو قوله تعالى: { خذ العفو } -وآخرها منسوخ -وهو قوله تعالى: { وأعرض عن الجاهلين } -، وأوسطها محكم -وهو قوله تعالى: { وأمر بالعرف } -. (انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ولابن حزم، الموضعان السابقان).
(3) ... ذكره القرطبي (7/346)، والبغوي (2/224).(1/425)
وقد يمتحن بهذه الآية فيقال: ما آية نسخ طرفاها وبقي وسطها؟ فيجاب بهذه.
والصحيح: أنها كلها محكمة، والمعنى: لا تكافئ الجاهلين بسفههم إكراماً لنفسك النفيسة عن الأخلاق الخسيسة.
وقال الربيع بن أنس: الناس رجلان: مؤمن وجاهل، فأما المؤمن فلا تؤذه، وأما الجاهل فلا تجاهله (1) .
ويدل على إحكامها بالمعنى الذي ذكرت، ما أخرج البخاري بإسناده عن ابن عباس قال: "قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير [فتستأذن عليه. فاستأذن] (2) الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: ها يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا [الجزل] (3) ، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يقع به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافاً عند كتاب الله" (4) .
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/353)، وأبو نعيم في الحلية (2/111) كلاهما من حديث الربيع بن خثيم.
(2) ... في الأصل: فتستان عليه فاستان. والتصويب من الصحيح.
(3) ... في الأصل: الجزيل. والتصويب من الصحيح.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1702 ح4366).(1/426)
ويروى: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عن هذه الآية، فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد! إن ربك يأمرك أن تصِل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك" (1) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزّاً، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (2) .
وقال جعفر الصادق عليه السلام: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (3) .
وقال عبدالرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كيف يا رب؟ والغضب". فنزل: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } (4) .
النَّزْغُ في اللغة: الحركة اليسيرة (5) . والمعنى: وإما يعرضن لك الشيطان بوسوسة يستميلك بها أو غضب يستفزك به، إلى خلاف ما اقتضته هذه الآية.
{ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } معتصماً به من كيده.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/155). وذكره ابن حجر في فتح الباري (8/306) وعزاه للطبري مرسلاً، وابن مردويه موصولاً.
(2) ... أخرجه مسلم (4/2001 ح2588).
(3) ... ذكره القرطبي (7/345)، والبغوي (2/224).
(4) ... أخرجه الطبري (9/156-157). وذكره السيوطي في الدر (3/631) وعزاه لابن جرير.
(5) ... انظر: اللسان (مادة: نزغ).(1/427)
وفي الصحيحين من حديث سليمان [بن] (1) صُرَد قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبّان، وأحدهما قد احمرّ وجهه وانتفخت أَوْداجُه (2) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب ما يجد" (3) .
إنه سميع لدعائك، عليم بذاتك ودوائك.
فإن قيل: ما الحكمة في الاستعاذة عند الغضب؟
قلت: لأنها حالة يضعف عنها عقل الإنسان، ويقوى عليه الشيطان.
قال بعض الحكماء: أول الغضب جنون، وآخره ندم.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: الغضب عدو العقل، فلذلك يحول بينه وبين السمع والفهم، فإذا ثبت ذلك فأحب أن يعتصم المقهور بالغضب بقوة الله وعز سلطانه من شر الشيطان.
ومن جملة أدوية الغضب: ما أخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غضب أحدكم فليسكت" (4) .
وروى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) ... زيادة على الأصل. وانظر ترجمته في: تقريب التهذيب (ص:252).
(2) ... الأوداج: هما وَدَجان، وهما عرقان غليظان عريضان عن يمين ثُغْرَةِ النحر ويسارها (اللسان، مادة: ودج).
(3) ... أخرجه البخاري (5/2248 ح5701)، ومسلم (4/2015 ح2610).
(4) ... أخرجه أحمد (1/239 ح2136).(1/428)
"إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" (1) .
وأنزل الله في بعض كتبه: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ، فلا أمحقك مع من أمحق، وإذا ظُلِمْتَ [فارض] (2) بنصرتي، فإن نُصرتي لك خير من نصرتك لنفسك (3) .
cخ) ڑْïد%©!$# (#ِqs)¨?$# #sŒخ) ِNهk،¦tB ×#ح´¯"sغ z`دiB ا`"sـّO±9$# (#rمچ2xs? #sŒخ*sù Nèd tbrçژإاِ7oB اثةتب ِNكgçR؛uq÷zخ)ur ِNهktXr'‰كJtƒ 'خû ؤcسxِّ9$# ¢OèO ںw tbrçژإاّ)مƒ اثةثب
قوله تعالى: { إن الذين اتقوا } قال ابن عباس: يعني: الشرك والفواحش (4) .
{ إذا مسهم طيف من الشيطان } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي:
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (4/249 ح4782).
(2) ... في الأصل: فأعرض. والتصويب من الدر المنثور (3/559).
(3) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/559) وعزاه لأحمد عن وهيب المكي.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/438).(1/429)
"طَيْفٌ" (1) ، وهو إما مصدر من قولهم: طَافَ يَطِيفُ طَيْفاً، وإما تخفيف طيف، فعيل، من طَافَ يَطيفُ، كَلانَ يَلينُ، أو طافَ يَطوفُ، كَهَانَ يَهونُ، فهو طَيِّف منهما، كَلَيِّن وهَيِّن.
ويؤيد هذا قراءة ابن عباس في آخرين: "طيّف" بالتشديد (2) . وقرأ الباقون "طائف"، وهما بمعنى واحد (3) .
المعنى: إذا مسّهم لَمَمٌ من الشيطان؛ وسوسة أو غضب أو همّ بمعصية، { تذكروا } حجج الله وزواجره، وتفكروا في اطلاعه عليهم وعظمته وقدرته، فاستحيوا وخافوا غضبه وعقابه، { فإذا هم مبصرون } بأعين قلوبهم آثار قبح المعاصي وسوء عاقبتها، فاستتروا من ذلك، خوفاً يردعهم، وحياء يقرعهم.
قال محمد بن كعب القرظي: ما عُبِدَ الله بشيء أحب إليه من ترك المعاصي (4) .
فصل
يتضمن نبذة زاجرة عن ارتكاب المعاصي:
أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/287)، والحجة لابن زنجلة (ص:305)، والكشف (1/486-487)، والنشر (2/275)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:234)، والسبعة في القراءات (ص:301).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/309).
(3) ... انظر مصادر التعليق ما قبل السابق.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في ذم الهوى (ص:184).(1/430)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أذنب الرجل كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل في كتابه: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " (1) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو الدرداء: إن العبد يخلو بمعاصي الله، فيُلقي الله بغْضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر (2) .
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاماً (3) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن العبد ليحرم الرزق قد هيء له بالذنب يصيبه" (4) .
وقال وهب بن منبه: يقول الله عز وجل: "إني إذا أُطعتُ رضيتُ، وإذا رَضيتُ باركتُ، وليس لبركتي نهاية، وإذا عُصيتُ غَضبتُ، وإذا غضبتُ لعنتُ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد" (5) .
وروي: أن الله تعالى أوحى إلى موسى: يا موسى! أول من مات إبليس،
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/434 ح3334)، وأحمد (2/297 ح7939).
(2) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/215).
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/198).
(4) ... أخرجه ابن ماجه (2/1334 ح4022)، وأحمد (5/277 ح22440)، وابن حبان (3/153 ح872).
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:69). وذكره السيوطي في الدر (5/429-430) وعزاه لأحمد في الزهد.(1/431)
وذاك لأنه عصاني، وإنما أُعِدُّ من عصاني من الأموات (1) .
قوله تعالى: { وإخوانهم } جائز عود الضمير إلى "الذين اتقوا"، وهو قول جماعة، منهم: ابن الأنباري. والمعنى: وإخوان الذين اتقوا من المشركين، أو كونهم من بني آدم، { يمدونهم في الغي } بما يزينون لهم من الاقتداء بالآباء.
والمشهور في التفسير: أن الضمير يعود إلى "الجاهلين"، التقدير: وإخوان الجاهلين وهم الشياطين.
وقيل: يرجع الضمير إلى الشيطان، وهو اسم جنس، تقديره: وإخوان الشياطين وهم الكفار (2) .
{ يمدونهم } يعني: الشياطين يمدون الكفار.
وقرأ نافع: "يُمِدُّونَهُم" بضم الياء وكسر الميم (3) ، من الإمداد، وقد سبق ذكره فيما مضى.
قال المفسّرون: المعنى: يمدونهم بالتزيين والإغواء.
{ ثم لا يقصرون } وقرأ الزهري: "يُقَصِّرُون" بالتشديد (4) ، أي: لا يقصّرون في إغوائهم.
__________
(1) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/304)، وابن الجوزي في: صفة الصفوة (2/233).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/389).
(3) ... الحجة للفارسي (2/288)، والحجة لابن زنجلة (ص:306)، والكشف (1/487)، والنشر (2/275)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:235)، والسبعة في القراءات (ص:301).
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/311).(1/432)
#sŒخ)ur ِNs9 Nخgد?ù's? 7ptƒ$t"خ/ (#qن9$s% ںwِqs9 $ygtFّu;tGô_$# ِ@è% !$yJ¯Rخ) كىخ7¨?r& $tB #سyrqمƒ ¥'n<خ) `دB 'خn1' #x"yd مچح !$|ءt/ `دB ِNà6خn/' "Y‰èdur ×puH÷qu'ur 5Qِqs)دj9 tbqمZدB÷sمƒ اثةجب
قوله تعالى: { وإذا لم تأتهم } يعني: المشركين { بآية } يتعنتونك بسؤالها أو يتأخر عنك إنزالها، { قالوا لولا } أي: هلاَّ { اجتبيتها } افتعلتها من قبل نفسك، لأنهم كانوا يقولون: إنْ هذا إلا إفك افتراه. فَأَمَرَ الله رسوله أن يخبرهم أنه مُتَّبِعٌ لا مُبْتَدِع، فقال: { قل إنما أَتَّبِعُ ما يوحى إليّ من ربي هذا } يعني: القرآن، { بصائر من ربكم } ، أي: حُجَجٌ نَيِّرة، { وهدى } من الضلالة، { ورحمة لقوم يؤمنون } .
#sŒخ)ur چکجچè% مb#uنِچà)ّ9$# (#qمèدJtGَ™$$sù ¼çms9 (#qçFإءRr&ur ِNن3ھ=yès9(1/433)
tbqçHxqِچè? اثةحب
قوله تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } نزلت في جماعة من الصحابة كانوا يقرؤون ويرفعون أصواتهم فيما يجهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقال قتادة: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت: { فاستمعوا له } (2) ، أي: فاصغوا { وأنصتوا } اسكتوا. يقال: أنصتوه وأنصتوا له. قال الشاعر:
إذا قالت حَذامِ فَأَنْصِتوها ... ... فإن القولَ ما قَالَتْ حَذامِ (3)
ويروى: فصدّقوها.
چن.ّŒ$#ur ڑپ/' 'خû ڑپإ،ّےtR %Yوoژ|طn@ Zpxےإzur tbrكٹur جچôgyfّ9$# z`دB ةAِqs)ّ9$# حirك‰نَّ9$$خ/ ةA$|¹Fy$#ur ںwur `ن3s? z`دiB tû,خ#دے"tَّ9$# اثةخب ¨bخ) tûïد%©!$# y‰Zدم ڑپخn/u' ںw
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/164)، وابن أبي حاتم (5/1645). وانظر: الدر المنثور (3/634).
(2) ... أخرجه الطبري (9/164) من حديث أبي هريرة. وذكره السيوطي في الدر (3/636) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن قتادة.
(3) ... البيت لِلُحَيْم بن صعب. انظر: القرطبي (7/354)، واللسان (مادة: نصت).(1/434)
tbrçژة9ُ3tGَ،o" ô`tم ¾دmد?yٹ$t7دم ¼çmtRqكsخm6|،ç"ur ¼م&s!ur ڑcrك‰àfَ،o" ) اثةدب
قوله تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } هذا عام في أنواع الأذكار من قراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والدعاء، وغير ذلك تضرعاً في طلب ثوابه، وخيفة من عقابه، { ودون الجهر } أي: متكلماً كلاماً دون الجهر، { من القول } ؛ لأن الإخفاء أقعد في الإخلاص، وأبعد من شوائب الرياء وأقرب إلى [الإخلاص] (1) ، { بالغدو } .
وقال الواحدي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي (2) : الغُدُوّ: جمع غَدْوَة.
والمعروف في اللغة: غُدْوة وغدىً، وقولهم: غَدَوات: جمع غَداة، مثل: قَطَاة وقَطَوات (3) .
[وقولهم] (4) : إني لآتيه بالغدايا والعشايا، هو الازدواج [في] (5) الكلام، كما قالوا: هَنَأَني الطعام ومَرَأَني، وإنما هو أَمْرَأَني، والغدو نقيض
__________
(1) ... في الأصل: الخلاص.
(2) ... الوسيط (2/441)، وزاد المسير (3/314).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: غدا).
(4) ... في الأصل: وقلهم.
(5) ... زيادة على الأصل.(1/435)
[الرواح] (1) ، تقول: غَدَا يَغْدُو غَدْواً (2) ، فمعنى الآية: اذكر ربك بأوقات الغدو، وهي الغَدَوات، فعبّر بالفعل عن الوقت، كما يقال: أتيتك طلوع الشمس، أي: وقت طلوعها.
{ والآصال } جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل، وهي العشيات (3) .
قال أبو عبيدة (4) : هي ما بين صلاة العصر إلى المغرب.
ويجمع أيضاً أَصِيل على أُصَيْلان، مثل: بعير وبِعران، ثم صَغَّروا الجمع فقالوا: أُصْلان، ثم أبدلوا من النون لاماً فقالوا: أُصَيْلال (5) ، ومنه قول النابغة:
وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أُسَائِلُها ... عَيَّتْ جَوَاباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ (6)
ويروى عن ابن عباس: أن المراد بالذِّكر: القراءة في الصلاة (7) ، صلاة الفجر وصلاة العصر.
__________
(1) ... في الأصل: الرواج.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: غدا).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: أصل).
(4) ... مجاز القرآن (1/239).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: أصل).
(6) ... البيت للنابغة. انظر: ديوانه (ص:30)، والكتاب (2/321)، والمقتضب (4/414)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/80)، وأوضح المسالك (2/389)، ومجاز القرآن (1/328)، والتصريح (2/367)، والإنصاف (1/170)، والطبري (1/78)، والقرطبي (7/356)، واللسان (مادة: أصل).
(7) ... زاد المسير (3/313).(1/436)
{ ولا تكن من الغافلين } اللاَّهين عن الذِّكر.
قوله تعالى: { إن الذين عند ربك } يريد: الملائكة، { لا يستكبرون عن عبادته } أي: طاعته والخضوع لجلاله في الصلاة وغيرها.
{ ويسبحونه } قال عبدالله بن عمرو بن العاص: الملائكة عشرة أجزاء، الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون تسعة أجزاء، وجزء واحد الذين وكلوا بخزانة كل شيء (1) .
وقال هارون بن رئاب [الأُسَيِّدي] (2) : حملة العرش ثمانية، يتجاوبون بصوت رخيم، تقول أربعة: سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول الأربعة الأخرى: سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك (3) .
وقال سعيد بن جبير: يقال: أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة، يقولون: سبحان ذي العز والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/89) من طريق عمرو البكالي. وذكره السيوطي في الدر (7/274) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن عبد الله بن عمر.
(2) ... في الأصل: الأسدي. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (30/82)، وسير أعلام النبلاء (5/263).
(3) ... أخرجه الطبري (19/7) من طريق هارون بن رئاب عن شهر بن حوشب، والبيهقي في الشعب (1/327)، وأبو نعيم في الحلية (3/55) وأبو الشيخ في العظمة (3/954 ح481). وذكره السيوطي في الدر (7/274) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان.(1/437)
يوم القيامة، يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت (1) .
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أذن لي أن أحدث عن ملك قد خرقت (2) رجلاه الأرض، وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا. قال: فيرد عليه ما يعلم بذلك الذي يحلف به كاذباً" (3) .
وقال علي عليه السلام في المَلَك المسمى [بالرُّوح] (4) : هو مَلَك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله بتلك اللغات كلها، ويخلق من كل تسبيحة مَلَك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (5) .
أخرج الإمام أحمد في المسند من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّت السماء وحق لها أن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (1/210)، وأبو نعيم في الحلية (4/277-278). وذكره السيوطي في الدر (1/114) وعزاه لابن جرير وأبي نعيم في الحلية.
(2) ... في مصادر تخريج الحديث: مرقت.
(3) ... أخرجه أبو يعلى في مسنده (11/496)، والحاكم (4/330 ح7813) وصححه. وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (1/253): رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الأوسط (6/314) من حديث أنس بن مالك.
(4) ... في الأصل: بالجروح. والتصويب من مصادر التخريج.
(5) ... أخرجه الطبري (15/156)، وأبو الشيخ في العظمة (3/868 ح408). وذكره السيوطي في الدر (5/331-332) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي الشيخ.(1/438)
تَئِطّ، ما فيها موضع أربع -يعني: أصابع- إلا عليه ملك ساجد" (1) .
{ وله يسجدون } أي: يصلّون، وهذا تعريض بالمكلف من بني آدم وتحريضٌ له على الطاعة؛ لأن الملائكة الكروبيين مع قربهم وفضلهم وعصمتهم بهذه المثابة، فالمتلوثُ بأنجاس المعاصي أولى بتطهير نفسه لله وتزكيتها بفعل العبادة والطاعة لرب العالمين.
وقيل: إنها نزلت حين قال الكفار: { أنسجد لما تأمرنا } [الفرقان:60].
فصل
وهذه أول سجدات القرآن، وهي أربع عشرة سجدة، في الحج منها اثنتان.
وسجود التلاوة مستحب عند جمهور العلماء، ويشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة وغيرها.
قرأتُ على الشيخ ثابت بن مشرف بن أبي سعد البناء البغدادي برأس عين على عين بانورا، أخبركم أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي فأقرَّ به، أخبرنا أبو عاصم بن أبي منصور الفضيلي، أخبرنا عبدالرحمن بن أبي شريح الأنصاري، حدثنا أحمد بن علي الجرجاني، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال أو عن أبي سعيد -شَكَّ الأعمش-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويله! أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة،
__________
(1) ... أخرجه أحمد (5/173 ح21555).(1/439)
وأمرتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار" (1) هذا حديث صحيح، انفرد مسلم بإخراجه، فرواه عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش.
آخرها ولله الحمد.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/87 ح81).(1/440)
سورة الأنفال
ijk
وهي [خمس و] (1) سبعون آية مدنية، استثني منها آيات نذكرها إن شاء الله في موضعها.
وفي الصحيحين: "أن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال، [قال] (2) : نزلت في بدر" (3) .
y7tRqè=t"َ،o" عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) ... زيادة من الصحيحين.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1703 ح4368)، ومسلم (4/2322 ح3031).(1/356)
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ احب
قوله تعالى: { يسألونك عن الأنفال } ، سبب نزول هذه الآية: أن أهل بدر اختلفوا في الغنيمة وتَشاحُّوا (1) فيها، فقال الشُّبَّان: هي لنا؛ لأنهم سارعوا إلى القتل والأسر وأبلوا بلاءً حسناً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "من قتل
__________
(1) ... تَشاحُّوا في الأمر وعليه: شحَّ به بعضهم على بعض وتبادروا إليه حَذَرَ فَوْتِه (اللسان، مادة: شحح).(1/357)
قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا". وقال الشيوخ والوجوه الذين ثبتوا تحت الرايات: كنا ردءاً لكم، ولو انهزمتم لانحزتم إلينا. وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المغنم قليل والناس كثير، وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم خرجت أصحابك، فنزلت: { يسألونك عن الأنفال } (1) . رواه عكرمة عن ابن عباس.
فعلى هذا يكون المعنى: يسألونك عن حكم الأنفال سؤال استفتاء.
قال الزجاج (2) : إنما سألوا عنها؛ لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم.
وقال صاحب النظم: المعنى: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ يدل عليه قوله: { قل الأنفال لله والرسول } يحكمان فيها ما أرادا، ويضعانها حيث شاءا، فلما نزلت هذه الآية قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أهل بدر على السواء.
والأنفال: جمع نَفْل، وهي الغنيمة (3) ، في قول الحسن ومجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك والزجاج (4) وجمهور العلماء (5) .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (3/77)، والنسائي في الكبرى (6/349)، وابن حبان (11/490)، والحاكم (2/143) وابن أبي شيبة (7/354)، والطبري (9/172)، والبيهقي في السنن (6/291). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:235)، ولباب النقول (ص:106). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/6) وعزاه لابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.
(2) ... معاني الزجاج (2/399).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (نفل).
(4) ... معاني الزجاج (2/399).
(5) ... أخرجه الطبري (9/168-169)، وابن أبي حاتم (5/1649)، ومجاهد (ص:257).(1/358)
وقيل: الأنفال: ما نفّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القاتل بقوله: "من قتل قتيلاً فله كذا وكذا".
وأخرج أبو داود في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "لما كان يوم بدر جئت بسيف، فقلت: يا رسول الله، قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا، هب لي هذا السيف. فقال: هذا ليس لي ولا لك، فقلت: عسى أن يُعطى هذا من لا يبلي بلائي، فجاءني الرسول [فقال] (1) : إنك سألتني [هذا السيف] (2) وليس لي، وإنه قد صار لي وهذا لك. قال: ونزلت: { يسألونك عن الأنفال ... الآية } " (3) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم طرفاً من حديث طويل.
وقيل: إن "عن" زائدة، على معنى: يسألونك الأنفال، وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبيّ بن كعب في آخرين، على نحو ما سأله إنسان وتعدى.
{ قل الأنفال لله والرسول } قال عبادة بن الصامت: "اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله عز وجل من أيدينا فجعله لرسول الله، يقسمه
__________
(1) ... زيادة من السنن.
(2) ... زيادة من سنن أبي داود (3/77).
(3) ... أخرجه مسلم (4/1877 ح1784)، وأبو داود (3/77 ح2740).(1/359)
بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين" (1) .
والمعنى: هي مختصة بالله وبالرسول، يقضي فيها بأمر الله على ما تقتضيه حكمته من المساواة والمواساة بين الشباب الذين شرط لهم الأنفال، وبين الشيوخ الذين كانوا ردءاً لهم؛ لما فيه من [انتظام] (2) أمرهم، وإصلاح ذات بينهم، وإلفة قلوبهم.
وزعم بعضهم أنها منسوخة بقوله: { واعلموا أنما غنمتم من ... الآية } (3) .
{ فاتقوا الله } بامتثال أمره واجتناب نهيه، وترك المنازعة والاختلاف بينكم، وفعل ما يفضي إلى المصافاة والموافقة والتوادد.
{ وأصلحوا ذات بينكم } بالتواسي والتراحم والتساعد.
قال الزجاج (4) : البَيْنُ: الوَصْل، والمعنى: حقيقة وصْلِكُم (5) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد (5/322)، والبيهقي في سننه (9/57)، والحاكم (2/356)، والطبري (9/172). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/5) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه.
(2) ... في الأصل: انتضام.
(3) ... الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:92-93)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:39)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:343-344).
(4) ... معاني الزجاج (2/400).
(5) ... الصِّلات والروابط التي بينكم.(1/360)
وقال صاحب الكشاف (1) : حقيقته أصلحوا أحوال بينكم، يعني: ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال إلفة ومحبة واتفاق، كقوله: { بذات الصدور } [الأنفال:43] وهي مضمراتها، لما كانت الأحوال ملابسة للبَيْن قيل لها: ذات البَيْن، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريد ما في الإناء من الشراب.
{ وأطيعوا الله } في حكمه وقضائه، { ورسوله } في إنفاذ ما أمر به وأمضى به، { إن كنتم مؤمنين } كاملي الإيمان.
ثم وصف المؤمنين الكاملي الإيمان فقال: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي: ذكرت عظمته وقدرته وعز سلطانه وشدة عقابه وبطشه بالعصاة من خلقه قرعت قلوبهم.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } [الزمر:23]؟
قلتُ: الذِّكر الذي نيط به الوجل هاهنا: هو ذكر الصفات الدالة على العظمة والجبروت على ما ذكرناه. والذِّكر الذي نيط به لين الجلود والقلوب: الرحمة والرأفة والعفو، ونحو ذلك.
فصل يتضمن الإشارة إلى ذكر جماعة من الخائفين
أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن الحسن البصري رحمه الله قال: صحبتُ أقواماً كانوا بحسناتهم أن تُردَّ عليهم أخوفَ منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها (2) .
__________
(1) ... الكشاف (2/185).
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:318-319).(1/361)
وبإسناده عن إبراهيم التيمي: أنه كان يذكر في منزل أبي وائل، فكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطير (1) .
وبإسناده عن مالك بن دينار أنه قال: لو استطعتُ أن لا أنام لم أنم، مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدتُ أعواناً لفرَّقتهم يُنادون في منار الدنيا كلِّها: يا أيها الناس! النار النار (2) .
وبإسناده عن بشر بن منصور قال: كنت أوقد بين يدي عطاء السلمي في غداة باردة، فقلت له: يا عطاء! أيسرّكَ الساعة لو أنك أمرتَ أن تلقيَ نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ قال: فقال لي: إي ورب الكعبة. قال: ثم قال: والله لو أمرت بذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أصل إليها (3) .
وبإسناده عن أبي خباب القصاب -قلت: واسمه عون بن ذكوان البصري- قال: صلّى بنا زرارة بن أوفى صلاة الصبح فقرأ: { يا أيها المدثر } [المدثر:1] حتى إذا بلغ: { فإذا نقر في الناقور } [المدثر:8] خَرَّ مَيتاً (4) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:427).
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:387).
(3) ... لم أقف عليه في المطبوع من كتاب الزهد. والحديث أخرجه البيهقي في الشعب (1/522-523)، وأبو نعيم في الحلية (6/216). وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/325).
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:302).(1/362)
سمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي يقول: أخبرنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصبهاني في كتابه، قال: أخبرنا عبدالرزاق بن محمد بن الشرابي، [أخبرنا سعيد بن محمد بن سعيد الولي، أخبرنا علي بن أحمد بن علي الواقدي] (1) ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى يقول: سمعت محمد بن إسحاق السراج يقول: [سمعت] (2) محمد بن خلف يقول: حدثني يعقوب بن يوسف قال: كان الفضيل بن عياض إذا علم أن ابنه علياً خلفه -يعني: في الصلاة- مرّ ولم يقف ولم يخوف، وإذا علم أنه ليس خلفه تنوّق (3) في القرآن وحزّن وخوّف، فظن يوماً أنه ليس خلفه، فأتى على ذكر هذه الآية: { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين } [المؤمنون:106]، فخرّ عليٌّ مغشياً [عليه] (4) ، فلما علم أنه خلفه وأنه قد سقط تَجَوَّزَ في القراءة، فذهبوا إلى أمه، فقالوا: أدركيه، فجاءت فرشّت عليه ماء فأفاق، فقالت لفضيل: أنت قاتلُ هذا الغلام عليّ، فمكث ما شاء الله، فظن أنه ليس خلفه فقرأ: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
__________
(1) ... زيادة من التوابين (ص:209).
(2) ... زيادة من التوابين، الموضع السابق.
(3) ... تَنَوَّق: من التنوّق في الشيء إذا عُمل على استحسان وإعجاب به، يقال: تنوَّقَ وتأنَّق (اللسان، مادة: توق).
(4) ... زيادة من التوابين (ص:209).(1/363)
يحتسبون } [الزمر:47]، فخرّّ ميتاً، وتَجَوَّزَ [أبوه] (1) في القراءة، وأتيت أمه فقيل لها: أدركيه، فجاءت فرشَّت عليه ماء فإذا هو ميت، رحمه الله (2) .
وقال أبو طارق: شهدتُ ثلاثين رجلاً ماتوا في مجالس الذِّكر يمشون بأرجلهم صحاحاً إلى المجلس وأجوافهم والله قرحة، فإذا سمعوا الموعظة انصدعت قلوبهم، فماتوا (3) .
وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأينا أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة (4) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، فما أشتهيه (5) .
قوله تعالى: { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } ، قال ابن عباس: تصديقاً ويقيناً (6) ، يريد -والله أعلم- أن بسماع القرآن تتظاهر الأدلة عند المؤمنين، فتزداد نفوسهم إيقاناً وإيماناً وطمأنينة.
__________
(1) ... في الأصل: أبو. والتصويب من التوابين، الموضع السابق.
(2) ... أخرجه ابن قدامة في التوابين (ص:209).
(3) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/532).
(4) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:316)، وأبو نعيم في الحلية (2/133).
(5) ... ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/215)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (2/347)، وابن رجب في كتاب التخويف من النار (1/114).
(6) ... أخرجه الطبري (9/179)، وابن أبي حاتم (5/1656). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/12) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/364)
وقيل: المعنى أنه كلما تجدد نزول القرآن فتلي عليهم تجدد إيمانهم به، فازدادوا إيماناً على إيمانهم.
وقيل: المراد به زيادة العمل، كما جاء في الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (1) .
{ وعلى ربهم يتوكلون } قال ابن عباس: بالله يتقون لا يرجون غيره (2) .
ثم وصفهم ونعتهم بمواطأة الجوارح للقلوب في العبادة والطاعة فقال: { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً } أي: إيماناً حقاً.
وقيل: هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أولئك هم المؤمنون حقاً } ، كقولك: هو عبد الله حقاً، أي: حق ذلك حقاً.
قال ابن عباس: نقول: برئوا من الكفر (3) .
وقال مقاتل (4) : أولئك هم المؤمنون لا شكَّ في إيمانهم كَشَكِّ المنافقين.
فصل
قال الزمخشري (5) : كان أبو حنيفة ممن لا يستثني في الإيمان.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/63 ح35).
(2) ... أخرجه الطبري (9/179)، وابن أبي حاتم (5/1656). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/12) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (9/180)، وابن أبي حاتم (5/1657). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/13) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... تفسير مقاتل (2/4).
(5) ... الكشاف (2/186).(1/365)
قلت: والذي عليه جمهور السلف شرعية الاستثناء في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده من حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة وخفاء علم الله فيه عليه. فإنَّ أمر السعادة والشقاوة ينبني على ما يعلم الله من عبده، لا على ما يعلمه العبد من نفسه، والاستثناء يكون في المستقبل وفيما خفي عليه أمره، لا فيما مضى وظهر، فإنه لا يسوغ في اللغة لمن يتيقن أنه أكل وشرب، أكلت إن شاء الله، وشربت إن شاء الله. ويصح أن يقول: آكلُ إن شاء الله، وأشربُ إن شاء الله. ولو قال: أنا مؤمن، من غير استثناء، يريد أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله فجائز. ولو أراد أنه مؤمن عند الله لم يجز.
قال سفيان الثوري: من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو عندنا مرجئ.
قوله تعالى: { لهم درجات عند ربهم } قال عطاء: درجات الجنة يرقونها بأعمالهم، { ومغفرة } لذنوبهم، { ورزق كريم } وهو ما أُعدّ لهم من النعيم (1) .
قال سفيان الثوري رحمه الله: من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف هذه الآية (2) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/444)، وزاد المسير (3/321).
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (2/229).(1/366)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى بû÷ütGxےح !$©ـ9$# أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ(1/367)
الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ارب
قوله تعالى: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } الكاف (1) في "كما" جائز أن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ تقديره: هذه الحال التي كرهوها يوم بدر مما يتعلق بالغنائم مثلُ إخراجك، وجائز أن يكون في موضع نصب نعتاً لحقاً، تقديره: أولئك هم المؤمنون حقاً مثلَ إخراجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر تقديره: قل الأنفال استقرّت وثبتت لله والرسول ثباتاً مثلَ ثبات إخراجك من بيتك وهم كارهون (2) .
وقيل: الكاف متعلقة بقوله: { فاتقوا الله وأصلحوا } تقديره: فاتقوا الله وأصلحوا فإنه خير لكم، كما كان إخراج الله نبيه خيراً لكم وأنتم كارهون.
وقوله: { من بيتك } يحتمل وجوهاً:
أحدها: مكة، فيراد بالإخراج: الهجرة إلى المدينة.
الثاني: المدينة؛ لأنها مهاجره ومسكنه، فهي لاختصاصها به كبيته الذي يسكنه.
الثالث: بيته بالمدينة، وهذان الوجهان أصح من الأول.
قوله تعالى: { بالحق } أي: إخراجاً ملتبساً بالحق والحكمة.
__________
(1) ... اختلف المفسرون في الكاف على عشرين قولاً. انظر: البحر المحيط (4/456)، والدر المصون (3/394-396).
(2) ... انظر: التبيان (2/3)، والدر المصون (3/394-396).(1/368)
{ وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } في موضع الحال (1) ، أي: [أخرجك] (2) في حال كراهتك. وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً، منهم أبو سفيان، وعمرو بن العاص، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير؛ لكثرة الخير وقلة الرجال، فلما خرجوا بلغ أبا سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري سريعاً إلى مكة ليُشعر قريشاً، فرقى أبو جهل فوق الكعبة ونادى: يا أهل مكة النجا النجا على كل صعب وذلول، عيركم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، فغضبوا وانتدبوا وتنادوا: لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره.
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبر بهم، وبعث - صلى الله عليه وسلم - عيناً له من جهته يدعى ابن أريقط، فأتاه بخبر القوم، وطلب أبو سفيان سِيفَ (3) البحر ونجا بالعير، وكتب إلى أبي جهل: إن كنتم لِتحرزوا عيركم فقد أحرزتها لكم، فارجعوا. فقال أبو جهل: لا والله لا نرجع حتى ننزل بدر فننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القَيْنات (4) والمعازف، فتتسامع العرب بخروجنا، وأن محمداً لم يُصب عيرنا.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/3)، والدر المصون (3/396).
(2) ... في الأصل: أخرك.
(3) ... في هامش الأصل: قال في الصحاح: السِّيف -بكسر السين-: هو ساحل البحر.
(4) ... القَيْنة: الأَمَة المُغنّية (اللسان، مادة: قين).(1/369)
ونزل جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدك إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشاً، فكان العير أحبَّ إليهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن العير قد مضت إلى ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل على كل صعب وذلول، فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، فإنا لم نخرج لقتال ولم نتهيأ له، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا فأحسنا، وقام المقداد فقال: امض لما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [المائدة:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، والله لو سرتَ بنا إلى برك الغماد -يعني: مدينة الحبشة- لجالدنا معك حتى تبلغه، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم استشار أصحابه فقال: أشيروا عَلَيَّ أيها الناس -كأنه يريد الأنصار-، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل، فقال: والذي بعثك بالحق، لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضّته لخضناه معك، وإنا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله.
وقال سعد بن عبادة: والله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، فحينئذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم (1) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/185-186) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/16-17) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس.(1/370)
فكان أوَّل مشهدٍ أعزّ الله فيه الإسلام، وقُتل من صناديد قريش سبعون، وأُسِرَ منهم سبعون.
في ذلك تقول عاتكة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبة الرؤيا، وكانت رأت قبل قدوم ضمضم بثلاث، كأن راكباً أقبل على بعير ينادي: انفروا لمصارعكم يا آل رعل (1) "ثلاث"، ثم مثل بعيره على ظهر الكعبة فصرخ بمثلها، ثم علا على أبي قبيس فأخذ صخرة فرمى بها فارفضّت، فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخلته فلقةٌ منها، فقصت رؤياها على العباس، فحدّث بها العباس الوليد بن عتبة وكان صديقاً له، فنمى الحديث إلى أبي جهل، فمرَّ به العباس وهو في ناديه فقال: يا أبا الفضل! إذا قضيتَ طوافك فمر بنا. فلما قضى طوافه أتاهم، فقال له أبو جهل: يا أبا الفضل! متى حدثت هذه النبيّة فيكم؟ أما ترضون أن تتنبّأ رجالكم حتى تنبّأت نساؤكم، والله لنعدنّ ثلاثاً، ثم لنكتبنّ عليكم كتاباً أنكم أكذب العرب.
قال العباس: فلما أمسيتُ لم يبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أقبلت تلومني وتقول: ما يرضى هذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى وقع في نسائكم، وليس عندكم كبير غيرة، فقلت لهن: والله لا تعرضن له، ولئن عاد لأكفينكُنّه، فخرجتُ في اليوم الثالث فدخلت المسجد، فلما رآني أقبل خارجاً يشتد فقلتُ: ما له لعنه الله، وإذا بالخبيث قد سمع ما لم أسمع، سمع ضمضم بن عمرو الغفاري قد جدع بعيره، وَحَوَّلَ رداءه يصرخ ويقول: يا معشر
__________
(1) ... في بعض الروايات: آل غدر.(1/371)
قريش! اللطمة اللطمة، قد عرض لها محمد وأصحابه وما أراكم تدركونها، العرب العرب، فجمعوا وحشدوا ولم يتخلفْ أحد من عظمائهم إلا لعذر فيستنيب من يقومُ مقامه، وكانت وقعةُ بدر (1) . فقالت عاتكة (2) :
ألم تكن رؤياي حقاً ويأتكم ... بتأولها فل من القوم هارب
رأى فأتاكم باليقين الذي رأى ... بعينيه ما يفري السيوفَ القواضب
فقلتم ولم أكذب كذبت وإنما ... يُكذبني بالصدق من هو كاذب
وما جاء إلا رهبة الموت هارباً ... حكيم وقد أعيت عليه المذاهب
إلى أن قالت:
فما بال قتلى في القليب ومثلهم ... لدى ابن أخي أسرى له ما تضارب
أكانوا نساء أم أتى لنفوسهم ... من الله حين ساق فالحين جالب
فكيف رأى يوم اللقاء محمداً ... بنو عمه والحرب فيها التجارب
ألم يغشهم ضرباً يحار لوقعه ... الجَنان وتبدو بالنهار الكواكب
حَلَفْتُ لئن عادوا لنَصْطَلِمَنَّهُمْ ... بِجَأْواءَ (3) تُرْدِي حجرتيها المَقَانِبُ
__________
(1) ... ذكر نحوه السيوطي في الدر المنثور (4/17-18).
(2) ... انظر الأبيات في: مجمع الزوائد (6/72)، والمعجم الكبير للطبراني (24/348).
(3) ... يقال: كتيبة جَأْواء: وهي التي يعلوها لون السواد لكثرة الدروع. والمعنى: أي: بجيش عظيم تجتمع مقانِبُه من أطرافه ونواحيه (اللسان، مادة: جأي، والنهاية في غريب الحديث 1/233).(1/372)
قوله تعالى: { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } إن قلنا: "من بيتك": يريد به مكة، فالذي كرهوه فراق الأولاد والأهل والأموال.
وإن قلنا: يريد ببيته المدينة أو بيته منها: فالذي كرهوه؛ ما فاتهم من العير وابتلوا به من جهاد النفير، وهذه الكراهية طَبَعِيَّة لا شرعية؛ لأنها لو كانت شرعية لسلبتهم وصف الإيمان.
{ يجادلونك في الحق بعدما تبين } أي: بعدما ظهر وصحّ لهم من أنهم ينصرون على أعدائهم، وأن العاقبة لهم، وكانت مجادلتهم أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما خرجنا للعير ولم نتأهب للنفير.
{ كأنما يساقون } وأنت سائر بهم إلى النصر والظفر والغنيمة والاستعلاء على أعدائهم { إلى الموت } لما لابسهم من الرعب، { وهم ينظرون } أسبابه، فإن من يُساق إلى الموت عالماً به أسوأُ حالاً وأعظم قلقاً وأكثر ألماً ممن يفاجأ به. هذا قول جمهور العلماء.
ويجوز عندي: أن يكون قوله: { وهم ينظرون } حالاً من الضمير المرفوع في "يجادلونك"، على معنى: يجادلونك وحالهم أنهم ينظرون براهين صدقك ودلائل نصرك.
وشذّ ابن زيد فقال: { يجادلونك } يعني: المشركين، { في الحق } يريد: التوحيد، { بعدما تبين كأنما يساقون } إذا دعوتهم إلى التوحيد { إلى الموت } لكراهتهم إياه (1) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/183). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/323).(1/373)
قوله تعالى: { وإذ يعدكم الله } "إذ" نصب بإضمار "اذكروا" (1) ، { إحدى الطائفتين } العير أو النفير.
قوله: { أنها لكم } بدل من "إحدى"، وهو بدل الاشتمال (2) .
{ وتودون أن غير ذات الشوكة } أي: غير ذات السلاح، تقول: فلان شاكِ السلاح، بالتخفيف، كقوله: شاكي السلاح؛ بطل مجرِّب، وشائك وشاكّ في السلاح، بتشديد الكاف.
قال أبو عبيدة وغيره (3) : مجازُ الشوكة: [الحدّ] (4) ، مستعار من واحدة الشوك. يقال: ما أشدَّ شوكةَ بني فلان، أي: حدَّهم.
والمعنى: تحبون وتتمنون أن العير لكم، رغبة في المال ورهبة من القتال.
{ ويريد الله أن يحق الحق } فيعلي مناره ويظهر أنواره { بكلماته } أي: بِعِدَاته السابقة بنصر أوليائه وقهر أعدائه، { ويقطع دابر الكافرين } مُفَسَّرٌ في الأنعام.
قوله تعالى: { ليحق الحق } متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحق، { ويبطل الباطل } فعل ذلك، وقيل: هو متعلق بقوله: { ويقطع } .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/4)، والدر المصون (3/397).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مجاز القرآن (1/241).
(4) ... في الأصل: الحدة. والتصويب من مجاز القرآن، الموضع السابق.(1/374)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ اتةب
قوله: { إذ تستغيثون ربكم } بدل من قوله: { إذ يعدكم الله } (1) . ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: { ليحق الحق ويبطل الباطل } .
والمعنى: إذ تجأرون إلى الله طالبين منه النصر والغوث على عدوكم لقلة عَدَدِكُم وعُدَدِكُم.
صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيُّ الله القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/4)، والدر المصون (3/397).(1/375)
بربه، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبدُ في الأرض، فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجزُ لك ما وعدك. فأنزل الله: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } فأمده الله تعالى بالملائكة" (1) .
قوله: "وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر" قول يخالف أكثر ما عليه أهل العلم على اختلافهم في العدد.
قال ابن إسحاق: كانوا ثلثمائة وأربعة عشر.
وقال أبو معشر والواقدي: ثلثمائة وثلاثة عشر.
وقال موسى بن قتيبة: ثلثمائة وستة عشر (2) .
وقوله عليه السلام: "أنجز لي ما وعدتني" قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله (3) : لم يكن حَدَّ له وقتاً معيناً في النصر، فسأل تعجيل ما وعد به.
والذي يظهر لي أنه - صلى الله عليه وسلم - استنجز ما وُعد به من النصر في قوله: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } مقروناً بسلامة أصحابه الذين وعوا عنه ما جاء به، وقاموا بنصر دينه، وترشَّحوا للنيابة عنه في دعائه الخلق إلى
__________
(1) ... أخرجه مسلم (3/1383-1384 ح1763).
(2) ... ذكره ابن سعد في طبقاته (3/601).
(3) انظر: زاد المسير (3/325).(1/376)
الله، ألا تراه يقول: "إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض" أي: لا تُطاع حق طاعتك؛ لأن العبادة تستلزم العلم، وهؤلاء حملة العلم ودعاة عبادك إليك، فيذهب دينك أو يقل بذهابهم.
وفي إلحاحه أيضاً في الدعاء حكمة بالغة، وهو تقوية قلوب أصحابه؛ لعلمهم واعتقادهم أن الله تعالى لا يرد سؤال رسوله لكرامته عليه.
وقول أبي بكر وفعله لم يكن لأن حاله في الثقة بالله أقوى من حال المؤيد بالوحي والعصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كَلاَّ ولما، لا يجوز أن يتوهم ذلك متوهّم أو يظنّه ظانّ، وإنما كان الصدّيق واسطة عقد الصحابة سناً وقدراً وحلماً وسناء وفضلاً وعلماً، وكان أقدَمهم سبقاً وأعظمهم حقاً، فبادر بإيمانه الراجح، وعلمه الواضح، وثقته بصدق ما وُعدوا به من الظَّفَر وبإجابة الله دعاء رسوله إلى تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يوجب إراحة قلبه الكريم، وإراحة أفكاره المؤملة التي أوجبها فرط شفقته على أمته، وما ينطوي عليه من الحرص على إعلاء كلمة الإيمان، وإعدام عبدة الأوثان، وتسكين قلوب أصحابه في ذلك الوقت الذي هو مظنة تقلقل القلوب وتزلزل [الأقدام] (1) ، فرضي الله عن أبي بكر ما كان أكثر توفيقه وأعظم تحقيقه وتصديقه وأكرم طباعه وأطول في الفضائل باعه.
قوله تعالى: { فاستجاب لكم أني } بأني، فلما سقطت الباء وتسلط الفعل فنصب.
__________
(1) ... في الأصل: الأقام.(1/377)
وقرأ عيسى بن عمر: "إني" بالكسر (1) ، على إضمار القول، أو أن الاستجابة ضرب من القول.
{ ممدكم بألف } وقرأ الضحاك وأبو رجاء: "بآلاف" على الجمع (2) .
وقرأ أبو العالية وأبو المتوكل: "بألوف" على صيغة الجمع أيضاً (3) .
وقرأ الجحدري: "بأُلُف" بضم الألف واللام من غير واو (4) .
وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران الجوني: "بيلف" بياء مفتوحة، على قلب الهمزة إلى جنس ما قبلها (5) .
وقد ذكرنا عددهم وما قيل فيه في آل عمران (6) .
{ من الملائكة مردفين } قرأ نافع: "مُرْدَفين" بفتح الدال، أي: متبعين بآخرين، أو أردف الله المسلمين بهم (7) ، وهو معنى قول مجاهد (8) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/460)، والدر المصون (3/398).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/326).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/326).
(5) ... مثل السابق.
(6) ... عند تفسير قوله تعالى: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم ... } [الآية:125].
(7) ... قال الطبري (9/192): وهو قول لا معنى له، إذا الذكر الذي في "مردفين" من الملائكة دون المؤمنين، وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم ببعض، ثم حذف ذكر الفاعل وأخرج الخبر غير مسمى فاعله، فقيل: مردفين، بمعنى: مردف بعض الملائكة ببعض، ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون في المردفين ذكر المسلمين لا ذكر الملائكة، وذلك خلاف ما دل عليه ظاهر القرآن.
(8) ... أخرجه الطبري (9/191). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/30) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.(1/378)
وقرأ الباقون بكسر الدال (1) .
قال ابن عباس: متتابعين (2) .
يعني: يتبع بعضهم بعضاً، أو أنهم جاؤوا بعد المؤمنين. يقال: رَدَفَهُ وأَرْدَفَهُ، إذا جاء بعده (3) . قال الله تعالى: { قل عسى أن يكون ردف لكم } [النمل:72]، أي: ردفكم. قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ... ظننت بآل فاطمة الظنونا (4)
أي: جاءت طالعةً بعدها.
وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو مجلز: "مُرَدَّفين" بفتح الراء وتشديد الدال وفتحها (5) ، بصيغة التكثير، على معنى: مُتْبَعينَ بأمثالهم.
وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران بالتشديد مع ضم الراء وكسر الدال (6) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/290)، و الحجة لابن زنجلة (ص:307)، والكشف (1/489)، والنشر (2/275)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:236)، والسبعة في القراءات (ص:304).
(2) ... أخرجه الطبري (9/190)، وابن أبي حاتم (5/1663). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/326).
(3) ... اللسان، مادة: (ردف).
(4) ... البيت لخزيمة بن مالك بن نهد. انظر البيت في: الطبري (9/191)، والقرطبي (13/230)، واللسان، مادة: (ردف).
(5) ... انظر: زاد المسير (3/326).
(6) ... مثل السابق.(1/379)
وقرئ بكسر الراء والدال مع التشديد، أصلها: مرتدفين، فأدغمت تاء الافتعال في الدال، فاجتمع ساكنان الراء والدال، فمن ضم الراء فعلى الاتباع لضمة الميم، ومن كسرها فعلى الأصل، أو لاتباع كسرة الدال.
وقال الزجاج (1) : يجوز في الراء مع تشديد الدال: كسرها وفتحها وضمها، والدال مُشدَّدَة مكسورة على كل حال. والراء يجوز فيها الفتح والكسر والضم.
قال الزجاج (2) : قال سيبويه (3) : الأصل: مُرْتَدِفِينَ، فأدغمت التاء في الدال فصارت مُردِّفين؛ لأنك طرحت حركة التاء على الراء، وعَلَّل ضم الراء بالاتباع، وكسرها على أصل التقاء الساكنين.
والآية التي بعدها مفسرة في آل عمران (4) .
ّŒخ) يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/403).
(2) ... معاني الزجاج (2/403).
(3) ... انظر: الكتاب (4/444).
(4) ... عند تفسير قوله تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به } [آل عمران:126].(1/380)
بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ(1/381)
وَرَسُولَهُ فَإِن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَن لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ اتحب
قوله تعالى: { إذ يغشاكم النعاسُ } بدل ثان من { وإذ يعدكم الله } ، أو منصوب بـ"النصر"، أو بإضمار "اذكروا"، أو على معنى: ما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت (1) .
قرأ أهل الكوفة وابن عامر: "يُغَشِّيكم" بضم الياء وفتح الغين وكسر الشين وتشديدها وبياء بعدها، و"النعاسَ": بالنصب. ومثلهم قرأ نافع، إلا أنه خفف الشين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يَغْشَاكم" بفتح الياء وسكون الغين وتخفيف الشين وألف بعدها بدل الياء، "النعاسُ" بالرفع (2) .
{ أَمَنَةً } مفعول لأجله (3) ، وهو مصدر أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْناً، و"أَمَنَة" بفتح الميم وسكونها (4) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (1/154)، والدر المصون (3/401).
(2) ... الحجة للفارسي (2/291)، والحجة لابن زنجلة (ص:308)، والكشف (1/489)، والنشر (2/276)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:236)، والسبعة في القراءات (ص:304).
(3) ... انظر: التبيان (1/154)، والدر المصون (3/402).
(4) ... انظر: اللسان، مادة: (أمن).(1/382)
{ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وذاك أن المسلمين نزلوا على كثيب أخضر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب على غير ماء، فاحتلم أكثرهم وصلوا مُحْدِثين، وأصابهم العطش، فوسوس لهم الشيطان وقال: تزعمون أنكم أولياء الله [وفيكم] (1) رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وما ينتظرون بكم إلى أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم وثبوا عليكم قتلاً وأسراً، [فحزن] (2) المسلمون حزناً شديداً، فأرسل الله عز وجل مطراً سال منه الوادي، فشربوا وتطهروا، واتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه الحياض على عُدْوة الوادي (3) ، وذهب عنهم وسواس الشيطان، فذلك قوله: { ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني: كيده وما خامر نفوسهم من القلق حين خوفهم بالعطش [والقتل] (4) .
{ وليربط على قلوبكم } الربط: الشدّ، وهو هاهنا مجاز عن استحكام الصبر وقوة اليقين.
{ ويثبت به } أي: بالماء النازل من السماء { الأقدام } كيلا تسوخ في الرمل، فإن الأرض تلبدت به.
__________
(1) ... في الأصل: فيكم.
(2) ... في الأصل: فحز.
(3) ... عُدْوةُ الوادي: جانبه وحافّتُه (انظر: اللسان، مادة: عدا).
(4) ... في الأصل: والتقل. انظر: زاد المسير (3/328).(1/383)
وقيل: الضمير في قوله: "به" يعود إلى الربط، التقدير: ويثبت أقدامكم بالربط على قلوبكم.
قوله تعالى: { إذ يوحي ربك } بدل ثالث من { وإذ يعدكم الله } ، أو هو منصوب بـ"يثبت"، أو بـ"يربط" أو بإضمار "اذكروا" (1) .
والمعنى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة الذين أمدّ الله بهم المؤمنين وأيدهم بهم.
قال ابن عباس: ألهمهم ذلك (2) .
"أني" مفعول "يوحي" (3) ، والمعنى: أني معكم بالنصر والتثبيت.
{ فثبتوا الذين آمنوا } قال الحسن: بالقتال معهم (4) .
وقال مقاتل (5) : بشروهم بالنصر، فكان المَلَك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا، فإن الله ناصرُكم.
وقال الزجاج (6) : جائز أن يكونوا يثبتونهم بأشياء يلقُونها في قلوبهم تقْوَى بها، وجائز أن يكونوا يروْنهم مدَداً، فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا.
وقوله: { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } بيان لمعنى قوله: { أني معكم } .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/403).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/329).
(3) ... انظر: الدر المصون (3/403).
(4) ... الماوردي (2/301)، والوسيط (2/448)، وزاد المسير (3/329).
(5) ... تفسير مقاتل (2/8).
(6) ... معاني الزجاج (2/404).(1/384)
قال ابن السائب: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السوائي عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم كيف كان، [كان] (1) يأخذُ الحصا فيرمي به الطشت فيطنّ، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا (2) .
قال ابن الأنباري: لم تعلم الملائكة أين يُقصدُ بالضرب من الناس، فعلّمهم الله تعالى ذلك، فقال: { فاضربوا فوق الأعناق } (3) .
فعلى هذا هو خطاب للملائكة، وقيل: هو خطاب للمؤمنين. والمعنى: اضربوا الهامَ والوُجوهَ.
وقال جماعة منهم الضحاك والأخفش وابن قتيبة: "فوق" صلة، تقديره: فاضربوا الأعناق (4) .
وقال أبو عبيدة (5) : "فوق" بمعنى: على، تقول: ضربته فوق الرأس وعلى الرأس بمعنى.
{ واضربوا منهم كل بنان } قال ابن الأنباري: البنان: أطراف الأصابع، فاكتفى به عن ذكر الأيدي والأرجل (6) .
__________
(1) زيادة من المصادر التالية.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (22/237 ح623)، والطبري (10/103)، وعبد بن حميد (1/163).
... قال الهيتمي في مجمع الزوائد (6/183): ورجاله ثقات.
(3) ... انظر: زاد المسير (3/329).
(4) ... معاني الأخفش (ص:203)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:177). وانظر: زاد المسير (3/330).
(5) ... مجاز القرآن (1/242).
(6) ... انظر: زاد المسير (3/330).(1/385)
وقال الزجاج (1) : أباحهم الله قتلهم بكل نوع يكون في الحرب. واحِدُ البنان: بنانَة، ومعناه هاهنا: الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء. واشتقاقه من قولهم: أبَنَّ بالمكان؛ إذا أقام به، [فالبناء] (2) به يعْتَمل كل ما يكون للإقامة والحياة.
فصل
الذي ذهب إليه جمهور العلماء وشهدت الأخبار والآثار بصحته: أن الملائكة قاتلت يوم بدر، ففي الصحيحين من حديث سماك الحنفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ -يعني: يوم بدر- يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه خرَّ مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد [خطم] (3) أنفه، وشق وجهه بضربة كضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدّث بذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال: صدقتَ، ذاك من مدد السماء الثالثة" (4) .
وفي أفراد البخاري عنه أيضاً: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب" (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/405).
(2) ... في الأصل: فالبنان. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: حطم. والتصويب من الصحيح.
(4) ... أخرجه مسلم (3/1384-1385 ح1763). ولم أقف عليه عند البخاري.
(5) ... أخرجه البخاري (4/1468 ح3773).(1/386)
وقد ذكرنا في سورة آل عمران قول أبي واقد الليثي (1) .
وقال سهل بن حنيف: لقد رأيت يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف (2) .
وقال أبو جهل لابن مسعود: من أين كان يأتينا الضرب ولا ندري الشخص؟ فقال: من قبل الملائكة، فقال: هم غلبونا لا أنتم.
وقال أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كنتُ غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا، وأسلمت أمُّ الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير فنفر مع قومه، وكان عدوُّ الله أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاء الخبر بمصاب أهل بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا نحن في أنفسنا قوة وعزاً، فبينا أنا أنحتُ القِداح في حجرة زمزم وأمُّ الفضل جالسة عندي، أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس وظهرُه إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ فقال: والله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله! مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلق بين السماء والأرض لا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: تلك الملائكة، فرفع أبو
__________
(1) ... عند تفسير الآية رقم: (125).
(2) ... أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/74 ح5556)، والحاكم (3/463 ح5736). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/33) وعزاه لأبي الشيخ وابن مردويه.(1/387)
لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته (1) فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك عليَّ يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فضربتْه أم الفضل بعمودٍ ضربة فلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده، فقام مُوَلِّياً ذليلاً، فالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعَدَسة (2) فقتلته. ولقد تركه أبناؤه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفنانه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان، إن أباكما قد أنتن في بيته ولا تُغَيِّبانه، فقالا: نخشى هذه القرحة. قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم حملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار قذفوا عليه الحجارة حتى واروه" (3) .
وروى مقسم عن ابن عباس قال: "كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً، وكان العباس رجلاً جسيماً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف أسرتَ العباس يا أبا اليسر؟ فقال: يا رسول الله أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد أعانك عليه ملك كريم" (4) .
__________
(1) ... ثار إليه ثوراً وثوراناً: وثب. والمُثاورة: المواثبة (اللسان، مادة: ثور).
(2) ... العدسة: بَثْرة تشبه العَدَسة تخرج في مواضع من الجسد، من جنس الطاعون، تقتل صاحبها غالباً (اللسان، مادة: عدس).
(3) ... أخرجه الحاكم (3/363 ح5403)، والطبراني في الكبير (1/308 ح912).
(4) ... أخرجه أحمد (1/353 ح3310)، والطبري (4/78). وذكره الهيثمي في مجمعه (6/85) وعزاه لأحمد.(1/388)
قوله تعالى: { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } أي: ذلك الضرب بأنهم حاربوا الله ورسوله، { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } .
قال الزجاج (1) : يشاقّ ويشاقِق جميعاً، إلا أنها هاهنا بإظهار التضعيف مع الجزم لغة أهل الحجاز، وغيرهم يدغم، فإذا أدغمت قلت: من يشاقّ زيداً أُهِنْه، بفتح القاف، لأن القافين [ساكنتان] (2) فحركت الثانية بالفتح لالتقاء الساكنين، ولأن قبلها ألفاً. وإن شئت كسرت قلت: ومن يشاقِّ زيداً، كسرت القاف؛ لأن أصل التقاء الساكنين الكسر، فإذا استقبلَتْها ألف ولام اخترت الكسر، فقلت: ومن يشاقِّ الله، ويجوز: ومن يشاقَّ الله، ولا أعلم أحداً قرأ بها.
قوله تعالى: { ذلكم فذوقوه } "ذلكم" في محل الرفع، على معنى: ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم، أو في محل نصب، كقولك: زيداً فاضْرِبْهُ (3) .
{ وأن للكافرين عذاب النار } في فتح "أنَّ" وجهان، أحدهما: الرفع، على معنى: ذلكم فذوقوه وذلكم أن للكافرين عذاب النار. والآخر: النصب؛ إما بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن للكافرين. وإما أن يكون التقدير: وبأن للكافرين، فلما حذفت الياء انتصب، وإما أن تكون الواو بمعنى: مع، تقديره:
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/405).
(2) ... في الأصل: ساكنان. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... انظر: التبيان (2/5)، والدر المصون (3/405-406).(1/389)
ذوقوا هذا العذاب العاجل، مع أن لكم في الآجل عذاب النار. فوُضع الظاهر موضع المضمر (1) .
وقرأ الحسن البصري: "وإنّ" بالكسر على الاستئناف (2) .
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اتدب
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/406).
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/467).(1/390)
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } أي: متزاحفين، فهو نصب على الحال، إما من "الذين كفروا" أو من الفئتين (1) ، أي: لقيتموهم متزاحفين أنتم وهم.
والزحف: الجيش الذي يبين لكثرته كأنه يدب ويزحف قليلاً قليلاً، سمي بالمصدر، والجمع: زحوف.
{ فلا تولوهم الأدبار } أي: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم، فهو نهي للمؤمنين عن الهزيمة إذا لقوا الكفار، فإنها من الكبائر، على ما ذكرناه في قوله تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } في النساء (2) .
{ ومن يولهم يومئذ دبره } يعني: منهزماً، بدليل قوله: { إلا متحرفاً لقتال } ، و"متحرفاً" نصب على الحال من الضمير المرفوع في ["يولّهم"] (3) ، ومثله: { أو متحيزاً } ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء (4) ، على معنى: إلا رجلاً متحرفاً.
والمعنى: إلا متعطفاً لانتهاز فرصة يبادرها فَيَفِرّ ثم يكرّ، وهو ضرب من خدع الحرب لا تعده الأبطال عاراً ولا شناراً، وكذلك المتحيز وهو الذي ينضم إلى فئة، أي جماعة يعتصم بهم لا يكون توليه عن القتال عند العجز إثماً ولا عاراً أيضاً، بل ربما عَدُّوا الثابت في مركز القتال عند تيقن الهلكة
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/5)، والدر المصون (3/407).
(2) ... الآية رقم: (31).
(3) ... في الأصل: توليهم.
(4) ... انظر: التبيان (2/5)، والدر المصون (3/408).(1/391)
وعدم النكاية في العدو سفهاً وخبلاً في العقل. والمعيّر حسان بن ثابت رضي الله عنه الحارث بن هشام رضي الله عنه حين فرّ يوم بدر وهو على دين قومه هزيمته وتركه نصر قومه فقال (1) :
أنت كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
أجابه الحارث معتذراً فقال:
القوم أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أُقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
وكان الأصمعي يقول: ما قيل في الاعتذار من الفرار أحسن من هذه الأبيات.
وقال خلف الأحمر: أبيات عمير بن وهب (2) أحسن منها (3) :
لعمرك ما وليت ظهري محمداً ... وأصحابه جبناً ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي
__________
(1) ... انظر الأبيات في: المستدرك (3/313)، وتهذيب الكمال (5/297)، والإصابة (1/606)، والاستيعاب (1/301-302).
(2) ... في السيرة النبوية والاستيعاب: هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ.
(3) ... انظر الأبيات في: السيرة النبوية لابن هشام (4/229)، والاستيعاب (4/1963).(1/392)
وقفتُ فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعودٍ كالهزبر أبي الشبل
أخبرنا الشيخان شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع بجامع دمشق وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري بقراءتي عليه ببغداد قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان [الكرجي] (1) ، أخبرنا القاضي أبو بكر [أحمد] (2) بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحاص المسلمون حيصة، فأتينا المدينة فقلنا: يا رسول الله، نحن الفرّارون. قال: بل أنتم العَكَّارون، وأنا فيئتكم" (3) . قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث [يزيد] (4) بن أبي زياد.
قوله: "فحاص الناس حيصة" أي: حادوا. والعَكَّارون: العائدون إلى القتال. يقال: عكر على الشيء؛ إذا عطف عليه (5) .
__________
(1) ... في الأصل: الكرخي. والصواب ما أثبتناه. وقد سبقت ترجمته.
(2) ... في الأصل: أمحمد. والصواب ما أثبتناه. وقد سبقت ترجمته.
(3) ... أخرجه الترمذي (4/215 ح1716).
(4) ... في الأصل: زيد. وانظر: ترجمته في: تقريب التهذيب (ص:601).
(5) ... انظر: لسان العرب، مادة: (عكر).(1/393)
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم -منهم أبو سعيد الخدري، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك-: إلى أنها خاصة في أهل بدر (1) ، أوجب الله عليهم أن يثبتوا ذلك اليوم للكفار، وتوعدهم على توليهم فقال: { ومن يولهم } إلى قوله: { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } ولم يكن لهم يومئذ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو سعيد: فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة بعض (2) .
وذهب قوم إلى عمومها في كل منهزم غير متخوف ولا متحيز، قلّ العدد أو كثر، وهما مرويان عن ابن عباس (3) .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (3/46)، والنسائي في سننه الكبرى (5/198)، والطبري (9/201-202) وابن أبي حاتم (5/1670) من حديث أبي سعيد، وابن أبي شيبة (6/542)، والنحاس في ناسخه (ص:460-461) كلاهما من حديث الحسن، وعبد الرزاق (5/251) من حديث قتادة والضحاك. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/36-37) وعزاه لعبد بن حميد وأبي داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم عن أبي سعيد الخدري. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لأبي الشيخ وابن مردويه. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة وابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (9/202). وانظر: الوسيط (2/449).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/331).(1/394)
قال عطاء بن أبي رباح: ثم نسخت بقوله تعالى: { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } (1) ، وهذا عند الفقهاء تخصيص لا نسخ (2) .
قال الإمام أحمد: لا يفرّ رجل مؤمن من رجلين كافرين، فإن كانوا ثلاثة فلا بأس (3) .
وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ الجيش اثنا عشر ألفاً فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثروا (4) . وروي نحوه عن مالك.
ووجهه: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما هزم قوم إذا بلغوا اثنا عشر ألفاً من قلة إذا صبروا وصدقوا" (5) .
ِNn=sù تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
__________
(1) ... في الأصل: فإن تكن مائة صابرة.
(2) ... أخرجه الطبري (9/203). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/331-332)، والسيوطي في الدر المنثور (4/38) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ. وانظر دعوى النسخ ورده في: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:459) وما بعدها، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:344-346).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/332).
(4) ... انظر: رد المحتار، كتاب الجهاد.
(5) ... أخرج نحوه أبو داود (3/36 ح2611)، والترمذي (4/125 ح1555)، وابن ماجه (2/944 ح2827)، والحاكم في المستدرك (1/611 ح1621، 2/110 ح2489)، وابن حبان (11/17 ح4717).(1/395)
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَن اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ اترب
قوله تعالى: { فلم تقتلوهم } اعلم أن هذا ليس على وجه النفي؛ لحُسن بلاء الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر، فإن الله تعالى جعلهم بذلك المشهد الذي شهدوه والبلاء الذي أبلوه أفضل أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه على وجه التنبيه لهم بموضع النعمة عليهم بنصرهم مع ضعفهم على أضعافهم؛ لينهضوا بواجب الشكر، وليتحفظوا من خواطر العجب.
{ ولكن الله قتلهم } بإنزال الملائكة لقتالهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، والربط على قلوبكم، وما فعل من التقليل والتكثير منكم ومنهم في أعينكم وأعينهم.
{ وما رميت إذ رميت } كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي عليه السلام: "ناولني كفاً من حصباء الوادي، فناوله، فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه،(1/396)
فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا" (1) ، وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، فذلك قوله: { وما رميت إذ رميت } ، أي: ما بلغ رميك كفاً من حصباء الوادي أن يملأ عيون ألف رجل، فإن ذلك غير داخل في قوة البشر (2) . هذا قول أكثر المفسرين.
وروى سعيد بن المسيب عن أبيه: أن المراد بذلك طعنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبيّ بن خلف حين أقبل عليه يريد قتله، فلم يخرج منها دم، فأقبل عليه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان ما بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة، وذلك يوم أُحد (3) .
وذهب جماعة من المفسرين: إلى أن ذلك في قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي الحقيق، فرووا أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى يوم خيبر بسهم، فقتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه في حصنه (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبراني في الكبير (11/285 ح11750). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/84).
(2) ... تفسير الطبري (9/205)، وابن أبي حاتم (5/1673). وذكر نحوه السيوطي في الدر (4/40) وعزاه لأبي الشيخ وابن مردويه عن جابر.
(3) ... أخرجه الطبري (9/205-206)، وابن أبي حاتم (5/1673). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:236). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/41) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1673-1674). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:236-237). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/41) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/397)
قوله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً } أي: لينعم عليهم نعمة عظيمة بالأجر والغنيمة والاستيلاء على أعدائهم.
فإن قيل: على أي شيء عطف: "وليبلي"؟
قلت: على محذوف تقديره: فَعَلَ ذلك (1) ، ليكرم المؤمنين وليبليهم، أو ظهر قدرته للكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً.
{ إن الله سميع عليم } سميع لأقوال الطائفتين، عليم بأعمال الفئتين.
قوله تعالى: { ذلكم } إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع، { وأن الله موهن } معطوف على "ذلكم" (2) . والمعنى: مرادنا البلاء للمؤمنين وتوهين كيد الكافرين.
قرأ الحرميان وأبو عمرو: "مُوَهِّن" بتشديد الهاء، وخفّفها الباقون، واتفقوا على التنوين ونصب { كيد } ، إلا حفصاً فإنه قرأ بغير تنوين، والجرّ في "كيد" على الإضافة (3) .
bخ) تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/409).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... الحجة للفارسي (2/291)، والحجة لابن زنجلة (ص:309-310)، والكشف (1/490)، والنشر (2/276)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:236)، والسبعة في القراءات (ص:304-305).(1/398)
لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ اتزب
قوله تعالى: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم المسلمون، وقد استنصروا الله تعالى على كفار قريش وسألوه الفتح. قاله أُبيّ بن كعب (1) .
والثاني -وهو الأظهر-: أنهم المشركون (2) .
قال ابن عباس: قال أبو جهل يوم بدر قبل القتال: اللهم أيهم كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، فنزلت هذه الآية (3) .
وقال السدي: أخذ المشركون بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين (4) .
__________
(1) ... زاد المسير (3/334).
(2) ... أخرجه الطبري (9/207)، وابن أبي حاتم (5/1675). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/42) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: الوسيط (2/450)، وزاد المسير (3/335).
(4) ... أخرجه الطبري (9/208)، وابن أبي حاتم (5/1675).(1/399)
وقال عكرمة: قالوا: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق (1) .
{ وإن تنتهوا } أيها الكفار عن الكفر ومعاداة رسولي والمؤمنين { فهو خير لكم } في الدنيا والآخرة، وقيل: وإن تنتهوا عن الاستفتاح، { وإن تعودوا } إلى قتال محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين { نعد } إلى نصرهم. وقيل: وإن تعودوا إلى الاستفتاح نعد إلى الفتح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
{ ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت } لأنهم حزب الشيطان، والله مع المؤمنين بالنصر والمعونة؛ لأنهم حزب الرحمن.
قرأ نافع وابن عامر وحفص: "وأن الله" بفتح الهمزة، وكسرها الباقون (2) .
فمن فتح فعلى معنى: ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك.
ومن كسر فعلى الاستئناف؛ وهو الأظهر. ويعضده قراءة ابن مسعود: "واللهُ مع المؤمنين" (3) .
وفي هذه [الآيات] (4) توهين للكفار وإعلام لهم أن كثرتهم ومعاضدتهم مظاهرتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين مع قلة عَدَدِهم وعُدَدهم لا ينفعهم شيئاً،
__________
(1) ... أسباب النزول للواحدي (ص:238)، وزاد المسير (3/335).
(2) ... وحجتهم في ذلك: أنها مردودة على قوله قبلها: { وأن للكافرين } ، { وأن الله موهن } ، { وأن الله مع المؤمنين } فيكون الكلام واحداً يتبع بعضه بعضاً. انظر: الحجة للفارسي (2/292)، والحجة لابن زنجلة (ص:310)، والكشف (1/491)، والنشر (2/276)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:236)، والسبعة في القراءات (ص:305).
(3) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/473).
(4) ... في الأصل: الآياية.(1/400)
وتقويةٌ لقلوب المؤمنين [ليثبتوا] (1) عند لقاء عدوهم لكونهم على ثقة بموعد الله بنصرهم واستيلائهم.
وكان ذوو البصائر والأقدام الراسخة في الإيمان يعلمون أن العاقبة لهم، وأن الله مظهرٌ رسوله وناصرٌ دينه، وهم إذ ذاك قليل عددهم، ضعيف مددهم، بهذه الآية وما أشبهها من الآيات والأحاديث المبشرة بإظهار الإسلام واستفحال أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قرأتُ على الشيخ الثقة أبي عبدالله محمد بن داود بن عثمان الدرابندي الصوفي بمسجد الخليل صلوات الله عليه، أخبركم الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني بثغر الإسكندرية فأقرّ به، أخبرنا الرئيس أبو عبدالله القاسم بن الفضل بن أحمد بن محمود الثقفي الأصبهاني، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي النيسابوري، أخبرنا عبدالله بن إسحاق بن الخراساني ببغداد، حدثنا أبو سعيد عبدالرحمن بن محمد بن منصور (2) ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان (3) ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد (4) ، حدثنا
__________
(1) ... في الأصل: لثبتوا.
(2) ... عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري، أبو سعيد، يعرف بكريزان، نزيل سامراء، مات سنة إحدى وسبعين ومائتين (الجرح والتعديل 5/283، والثقات 8/383، وتاريخ بغداد 10/273).
(3) ... يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي، أبو سعيد البصري الأحول، ثقة متقن، حافظ إمام قدوة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله ثمان وسبعون سنة (تهذيب التهذيب 11/190-192، والتقريب ص:591).
(4) ... إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي، كان رجلاً صالحاً ثقةً ثبتاً، وكان طحاناً، مات سنة ست وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 1/254-255، والتقريب ص:107، وطبقات الحفاظ ص:74).(1/401)
قيس (1) ، عن خباب (2) ، قال: "شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو [متوسدٌ] (3) بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر الله لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: قد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فينشر باثنين، فما يصده ذلك عن دينه، [ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه] (4) . والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (5) . هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه عن محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد، وكأنني سمعته من طريق البخاري عن أبي الوقت.
__________
(1) ... قيس بن أبي حازم، واسمه: حصين بن عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث، ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي. ثقة، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه، فقبض وهو في الطريق، مات سنة سبع أو ثمان وتسعين (تهذيب التهذيب 8/346-347، والتقريب ص:456).
(2) ... خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد التميمي، كنيته: أبو عبد الله، شهد بدراً ثم نزل الكوفة، وكان من المهاجرين الأولين، وكان من المستضعفين الذين يعذبون بمكة، مات سنة سبع وثلاثين (تهذيب التهذيب 3/115، والتقريب ص:192).
(3) ... في الأصل: متوسداً. والمثبت من الصحيح.
(4) ... زيادة من الصحيح.
(5) ... أخرجه البخاري (3/1322 ح3416).(1/402)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ اثجب
قوله تعالى: { ولا تولوا عنه } أي: ولا تعرضوا عن الرسول ولا تخالفوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، { وأنتم تسمعون } ما قرأه عليكم من(1/403)
الكتاب الذي شهد إعجازه بصدقه، وما يشتمل عليه من المواعظ والزواجر والبشارة لكم في هذه الدنيا بالظهور والغلبة وفتح البلاد، وفي الآخرة بالمصير إلى رضوان الله وجنته.
{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } أي: قالوا بألسنتهم سمعنا { وهم لا يسمعون } سماع قبول.
قال الزجاج (1) : لم يتفكروا فيما سمعوا، فكانوا كمن لم يسمع.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: هم بنو عبد الدار بن قصي (2) .
وقال في رواية أخرى: هم بنو قريظة والنضير (3) .
وقال ابن إسحاق والواقدي: هم المنافقون (4) .
قال الزجاج (5) : يعني به الذين قالوا: { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } .
قوله تعالى: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } نزلت في بني عبد الدار (6) ، وكانوا شديدي الكفر والعناد، لم يسلم منهم سوى
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/408).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/337).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/451)، وزاد المسير (3/337).
(4) ... أخرجه الطبري (9/211)، وابن أبي حاتم (5/1677).
(5) ... معاني الزجاج (2/408).
(6) ... أخرجه البخاري (4/1703)، والطبري (9/212)، وابن أبي حاتم (5/1677). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/43) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.(1/404)
رجلين، أحدهما: مصعب بن عمير، والآخر: سويد بن حرملة، وكانوا يقولون لفرط غلوّهم وعتوّهم: نحن صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ عما جاء به محمد.
والمعنى: إن شر من دبّ ودرج على وجه الأرض، أو أن شرّ البهائم الصم عن سماع الحق، البكم عن النطق به، العمي عن النظر إليه، الذين لا يعقلون، فجعلهم سبحانه وتعالى من جنس البهائم، جعلهم شرّ البهائم، تحقيقاً لمعنى صممهم وبكمهم وعماهم، وعدم عقلهم الموجب لشدة إعراضهم عن الحق الواضح.
ثم أخبر سبحانه وتعالى بما طُبعوا عليه من الشقاء في سابق العلم والقضاء، فقال جل وعز: { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } يعني: لأسمعهم سماع تفهّم وقبول، { ولو أسمعهم } بعد أن علم أنهم لا خير فيهم { لتولوا } لرجعوا القهقرى ناكصين على أعقابهم ارتداداً وعناداً.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اثحب(1/405)
قوله تعالى: { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } يريد: إذا دعاكم الرسول، فوحَّد الضمير؛ لأن دعاء الرسول دعاء مرسله، وإجابته إجابته. قال الله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء:80]، ومن ذلك قوله تعالى: { ولا تولوا عنه } بعد قوله: { أطيعوا الله ورسوله } والمعنى: إذا دعاكم لما فيه حياتكم. وفيه أقوال:
أحدها: أنه الإيمان، وهذا قول السدي ومجاهد في رواية عنه (1) .
الثاني: أنه القرآن. قاله قتادة، وهو أعم الأقوال وأجمعها (2) .
والثالث: أنه الجهاد، وهو قول الأكثرين (3) .
وقد صح من حديث أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على أُبيّ بن كعب وهو قائم يصلي، فصاح به فقال: تعال يا أُبيّ، فعجّل أُبيّ في صلاته، ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أُبيّ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟! أليس الله يقول: { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } . قال أُبيّ: لا جرم يا رسول الله، لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصلياً" (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/213)، وابن أبي حاتم (5/1680)، ومجاهد (ص:260).
(2) ... أخرجه الطبري (9/214)، وابن أبي حاتم (5/1680). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/44) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
(3) ... أخرجه الطبري (9/214)، وابن أبي حاتم (5/1680). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/44) وعزاه لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير.
(4) ... أخرجه الترمذي (5/155 ح2875)، وأحمد (2/412 ح9334)، والبيهقي (2/375)، والطبري (9/214).(1/406)
ففي هذا الحديث دليلٌ على وجوب إجابته - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يدعو إليه، وأن إجابته في الصلاة لا تبطلها، كما أنك تخاطبه بقولك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، ومثله تبطل الصلاة مع غيره.
فإن قيل: لماذا سمّى ما يدعوهم إليه حياة؟
قلتُ: إن كان [ما بدعوهم إليه الإيمان والقرآن] (1) فهو حياة، باعتبار ما يستثمره المؤمن والقارئ لكتاب الله العامل به من سعادة الدنيا والآخرة والثناء الجميل الباقي على مرّ الأحقاب، كما قال علي عليه السلام: "العلماء باقون ما بقي الدهر" (2) .
وقال المتنبي:
ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثَّانِي وَحَاجَتُهُ ... ... مَا قَاتَهُ وفُضُولِ العَيْشِ أَشْغَالُ (3)
ولأجل ما فات من ذلك؛ سُمّي الكافر ميتاً، وسُمّي الجاهل ميتاً. قال الله تعالى في حق الكفار: { فإنك لا تسمع الموتى } [الروم:52].
وقال بعضهم:
لا تعجبنَّ الجَهُولَ حلتهُ ... ... فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ (4)
__________
(1) ... في الأصل: أو الإقران. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) ... ذكره المناوي في فيض القدير (6/294)، وأبو نعيم في الحلية (1/80)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/379).
(3) ... البيت للمتنبي. وهو في: قرى الضيف (1/258).
(4) انظر البيت في: البحر المحيط (4/476)، والكشاف (2/200)، وروح المعاني (9/191).(1/407)
وإن كان الذي يدعوهم إليه الجهاد فهو حياة؛ لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وهو حياة لهم لما يستلزم من حياة أمرهم ونفوسهم؛ لأنهم لو تخاذلوا عن الجهاد وتقاعدوا عنه تسلط العدو على قتلهم وأسرهم وإماتة أمرهم وكسرهم.
قال علي عليه السلام: إن الجهاد بابٌ من أبوابٌ الدِّين، من تركه رغبة عنه ألبسه الله سيما الذل وديَّثَه (1) بالصَّغار (2) .
قوله تعالى: { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } فهو الذي حال بين قلوب الكفار والأمن، وبين قلوبكم أيها المؤمنون وبين الخوف، حتى دلفتم مع ضعفكم وقلة عَددكم وعُددكم إلى صناديد قريش واجترأتم عليهم تقتلون وتأسرون.
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المعنى: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان (3) .
وقيل: إن ذلك استعارة من قربه سبحانه وتعالى من عباده بعلمه، كما قال تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق:16]. وقال تعالى: { وهو معكم أينما كنتم } [الحديد:4].
__________
(1) ديثه: أي: ذلَّلَه (اللسان، مادة: ديث).
(2) أخرج نحوه الضياء في الأحاديث المختارة مرفوعاً من حديث عبادة بن الصامت (8/280 ح343).
(3) ... أخرجه الطبري (9/215)، وابن أبي حاتم (5/1680)، والحاكم موقوفاً (2/358). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/44) وعزاه لابن أبي شيبة وحشيش بن أصرم في الاستقامة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس.(1/408)
وقيل: هو تقليب قلوب العباد ما بين خوف وأمن، وحل وعزم، وذكر ونسيان، وكفر وإيمان، وغير ذلك من الأحوال المتناقضة.
ثم حرّضهم على الإجابة معلماً لهم أنهم يموتون ثم ينشرون فقال: { وأنه إليه تحشرون } .
(#qà)¨?$#ur فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ اثخب
قوله تعالى: { واتقوا فتنة } أي: احذروا ما ينشأ عن الخلاف وافتراق الكلمة من القتل وغيره.
قال الزبير رضي الله عنه: لقد قرأناها زماناً وما ندري أنا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها (1) .
وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير (2) .
قال السدي: أصابتهم الفتنة يوم الجمل (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (9/218)، وابن أبي حاتم (5/1682). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/46) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الطبري (9/218).
(3) ... مثل السابق.(1/409)
{ لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } بل تشمل الصالح والطالح، وكأن المراد قتل الذين ظلموا وأفسدوا في الأرض بقتل الإمام العادل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعظمت البلوى وعمّت الفتنة، وأفضت الحال إلى قتل خيار المسلمين والملأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كطلحة والزبير ومحمد بن طلحة المعروف بالسَّجاد (1) .
وكان علي عليه السلام يقول في ذلك اليوم: إياكم وصاحب البرنس -يريد السَّجاد-. فكان إذا حمل عليه أحد يقول: نشدتك بحم، فيرجع، حتى حمل عليه بعضهم فناشده فلم يرجع، وأنفذه بالرمح، وأنشد (2) :
وأشعثُ قوَّام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلا حم قبل التقدم
ضممت إليه بالقناة ثيابه ... فخرَّ صريعاً لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لم يتبع الحق يظلم
__________
(1) ... محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، أبو سليمان، المعروف بالسَّجَّاد؛ لكثرة تعبّده، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه باسمه، قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين (الإصابة 6/18، والأعلام 6/175).
(2) ... يقال: أن قاتل محمد بن طلحة رجل من بني أسد بن خزيمة، ويقال إن الذي قتله ابن مكيس الأزدي، وقال بعضهم: معاوية بن شداد العبسي، وقال بعضهم: عصام بن المقشعر النصري (انظر: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال 1/313).
... وانظر الأبيات في: الاستيعاب (3/1372)، وطبقات ابن سعد (5/54)، والمغني (9/6)، وتاريخ الطبري (3/51).(1/410)
فلما وقف علي عليه السلام عليه صريعاً بكى واسترجع، وقال: والله هذا فزع قريش (1) .
فإن قيل: هل تجد في قوله: { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } معنًى اقتضاه التعيين بقوله: "منكم"؟
قلت: نعم. وهو التعريض بتعظيم ما عساه أن يصدر من السادة القادة، بُدور الهدى وبحور الندى رضي الله عنهم، فإنهم لموضع اختصاصهم وظهور فضلهم وشرفهم يُستعظم منهم ما يصدر عنهم.
كفوفة الطرف تخفي من حقارتها ... ومثلها في سواد العين منظور (2)
وقال ابن عباس: في هذه الآية أمرٌ للمؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب (3) .
وفي مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعثوا على أعمالهم" (4) .
فعلى هذا القول؛ يكون المراد بالفتنة: العذاب.
__________
(1) ... انظر: المستدرك (3/423 ح5609)، والاستيعاب (3/1372).
(2) ... البيت لطاهر بن الحسين المخزومي البصري. وهو في: قرى الضيف (5/29)، ويتيمة الدهر للثعالبي، وزهر الأكم في الأمثال والحكم، وفيهم: كفوفة الظفر.
(3) ... أخرجه الطبري (9/218)، وابن أبي حاتم (5/1682). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/47) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه البخاري (6/2602 ح6691)، ومسلم (4/2206 ح2879)، وأحمد (2/40 ح4985، 2/110 ح5890).(1/411)
فإن قيل: كيف دخلت النون المؤكدة في جواب الأمر؟
قلت: لتضمن الجواب معنى النهي.
قال الفراء (1) : هو جزاء فيه طرف من النهي، كما تقول: انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك.
وقال جماعة من نحاة الكوفة: أمرهم ثم نهاهم، وفيه طرفٌ من الجزاء وإن كان نهياً، مثل قوله: { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } [النمل:18] (2) .
(#ےrمچà2ّŒ$#ur إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اثدب
__________
(1) ... معاني الفراء (1/407).
(2) ... انظر: الطبري (9/219)، وزاد المسير (3/341).(1/412)
ثم إن الله تعالى ذَكَّرَهُم نِعَمَهُ عليهم ليبعثهم على شكره باجتناب نهيه وامتثال أمره فقال: { واذكروا إذ أنتم قليل } "إذ أنتم" مفعول به لا ظرف (1) ، تقديره: واذكروا وقت كونكم أقلّة. والمعنى: قليل عددكم، { مستضعفون في الأرض } يعني: أرض مكة، { تخافون } لقلّتكم وضعفكم { أن يتخطفكم الناس } كفار قريش وغيرهم، { فآواكم } إلى المدينة، { وأيدكم بنصره } في يوم بدر وغيره، حتى خضعت لكم رقاب الفراعنة والجبابرة، وعنت لكم وجوه الأكاسرة والأقاصرة، { ورزقكم من الطيبات } أحلّ لكم الغنائم وبسط لكم في الملاذّ.
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس وأشقاهم عيشاً، وأعراهم جلداً، وأجوعهم بطناً، وأبينهم ضلالاً، يُؤكلون ولا يَأكلون، ومَكَّنَ لهم في البلاد، ووَسَّعَ لهم الرزق والغنائم، وجعلهم ملوكاً (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/413).
(2) ... أخرجه الطبري (9/220). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/47) وعزاه لابن المنذر وابن جرير وأبي الشيخ.(1/413)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَن اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ اثرب
قوله تعالى: { لا تخونوا الله والرسول... الآية } ذهب ابن عباس والأكثرون إلى أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر. وكان من قصته على ما حدثنيه شيخنا موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي -قدّس الله روحه- بإسناده، عن السائب بن أبي لبابة، عن أبيه قال: "لما أرسلت قريظة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتدّ عليهم الحصر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اذهب إلى حلفائكم، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس. قال: فدخلتُ عليهم فَبَهَشُوا إليّ (1) وقالوا: يا أبا لبابة، نحن مواليك دون الناس كلهم، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نُكَثّر عليه جمعاً أبداً، فما ترى في النزول على حكمه؟ قال: نعم فانزلوا، وأومأ إلى حلقه هو الذبح. قال: فندمت واسترجعت، وقلت: خنت الله ورسوله، فنزلت وإن لحيتي مبتلة بالدموع، والناس [ينتظرون] (2) رجوعي، فأخذت من وراء الحصن طريقاً
__________
(1) بَهَشُوا: أي: أقبلوا (اللسان، مادة: بهش).
(2) في الأصل: ينظرون. والتصويب من مصادر التخريج.(1/414)
آخر حتى أتيت المسجد [فارتبطت] (1) ، وقال: لا أزال هكذا أو يتوب الله عليّ. قال: فمكث سبعاً في حرّ شديد لا يأكل ولا يشرب حتى لا يسمع الصوت من الجهد. فلما تاب الله عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطلاقه، فقال: لا والله حتى أفارق الدنيا أو يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقه بيده.
قال: قالت أم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلّ رباطه ويرفع صوته يخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول من الجهد والضعف، وكان الرباط حزَّ في ذراعيه -وكان من شَعْر-فكان يداويه بعد ذلك دهراً" (2) .
وقال جابر بن عبدالله: نزلت في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان: أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أنه في مكان، فأمر أصحابه بالخروج إليه (3) .
وقال السدي: نزلت في قوم كانوا يسمعون الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفشونه حتى يبلغ إلى المشركين (4) .
وقال المغيرة بن شعبة: نزلت في قتل عثمان بن عفان (5) .
__________
(1) في الأصل: فأرتبط.
(2) ... أخرجه الطبري (9/221)، وابن أبي حاتم (5/1684). وانظر: سيرة ابن هشام (4/196)، وأسباب النزول للواحدي (ص:238-239). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/48) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... أخرجه الطبري (9/221). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/48) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (9/222). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/344).
(5) ... أخرجه الطبري (9/222). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/50) وعزاه لابن جرير.(1/415)
والمعنى: لا تخونوا الله والرسول بقتله.
{ وتخونوا أماناتكم } داخلٌ في جملة النهي، فهو مجزوم لا منصوب (1) .
وقيل: هو منصوب بإضمار "أَنْ"، كقوله: { وتكتموا الحق } (2) [البقرة:42]، والمعنى: لا تخونوا الله فيما ائتمنكم عليه من دين الحق، { وأنتم تعلمون } أنها خيانة، أو تعلمون قبح ذلك. فيكون الإثم أعظم. والواو في "وأنتم" للحال (3) .
{ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي: بلاء ومحنة، وكان أهل أبي لبابة وولده في بني قريظة، فلذلك تورّط في الخيانة التي كادت تورده المهالك، لولا أن تداركته رحمة الله تعالى، [فاستنقذته] (4) بالتوبة والندم.
{ وأن الله عنده أجر عظيم } في الحال والمآل، فلا يصدنكم عنه حب المال والآل.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
__________
(1) ... التبيان (2/6)، والدر المصون (3/414).
(2) انظر: الدر المصون (3/414).
(3) مثل السابق.
(4) في الأصل: فاستنقذه.(1/416)
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اثزب
قوله تعالى: { إن تتقوا الله } يعني: بترك معاصيه، { يجعل لكم فرقاناً } نوراً وهدى في قلوبكم تفرّقون به بين الحق والباطل.
قال ابن عباس ومجاهد: نجاة ومخرجاً من الضلال (1) . وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت:69].
فمتى كان مقصود الإنسان طلب الهدى ومجانبة الهوى أتته الألطاف الخفية، وفاضت عليه الأسرار الإلهية، وضاءت له الأنوار الربانية، فجلت عن مرار قلبه الظلمة الصادّة عن إدراك الأشياء على حقائقها.
حدثنا شيخنا الإمام موفق الدين عبدالله بن أحمد قال: قرأت على الشيخ أبي عبدالله مظفر بن أبي نصر البواب وابنه أبي محمد عبدالله بن مظفر ببغداد قلت لهما: حدثكما الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر
__________
(1) أخرجه الطبري (9/225)، وابن أبي حاتم (5/1686)، ومجاهد في تفسيره (ص:261) ولفظه: مخرجاً في الدنيا والآخرة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/346)، والسيوطي في الدر (4/50) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.(1/417)
السلامي (1) قال: كنت أسمع الفقهاء بالنظامية (2) يقولون: إن القرآن معنى قائم بالذات والحروف، والأصوات عبارات ودلالات على الكلام القديم القائم بالذات، فحصل في قلبي شيء من ذلك، حتى صرت أقول بقولهم موافقة، وكنت إذا صليت أدعو الله عز وجل أن يوفقني لأحب المذاهب والاعتقادات إليه، وبقيت على ذلك مدة طويلة [أقول: اللهم وفقني لأحب المذاهب إليك وأقربها عندك] (3) . فلما كان في أول ليلة من رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة، رأيت في المنام كأني قد جئت إلى مسجد الشيخ أبي منصور الخياط (4) المقرئ في مسجد ابن جردة، والناس على باب المسجد مجتمعون
__________
(1) محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر، الحافظ الإمام، محدث العراق، أبو الفضل السلامي. ولد سنة سبع وستين وأربعمائة، وبرع في اللغة، وحصل الفقه والنحو، وكان ثقةً حافظاً ضابطاً، ثبتاً متقناً، من أهل السنة، رأساً في اللغة، أخذ عنه ابن الجوزي علم الحديث، وكان شافعياً ثم تحنبل، وهو مقدم أصحاب الحديث في بغداد في وقته. مات في ثاني عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة (طبقات الحفاظ ص:467).
(2) المدرسة النظامية: أنشأها ببغداد أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس، الملقب نظام الملك قوام الدين الطوسي وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملكشاه السلجوقيين سنة 457هـ، وفي سنة 462هـ أوقف عليها أوقافاً جليلة، وكانت مفخرة للإسلام، درّس فيها أعيان العلماء والأئمة من رجال المذهب الشافعي (هامش العقد الثمين 7/30، وهامش إتحاف الورى 2/497، وهامش غاية المرام 1/518).
(3) زيادة من التوابين (ص:231).
(4) محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق الشيرازي الأصل المقرئ، المعروف بأبي منصور الخياط. كان يؤم بمسجد ابن جردة ببغداد، اعتكف فيه مدة يعلم العميان القرآن، وختم خلقاً كثيراً، حتى بلغ عدد من أقرأهم القرآن سبعين ألفاً. كان من كبار الصالحين الزاهدين المتعبدين، شيخاً صالحاً زاهداً، صائماً أكثر وقته، ولد سنة إحدى وأربعمائة، وتوفي يوم الأربعاء وقت الظهر السادس عشر من المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة (المقصد الأرشد 2/344-345، والتقييد ص:54).(1/418)
وهم يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الشيخ أبي منصور، فدخلت المسجد وقصدت الزاوية التي كان يجلس فيها الشيخ أبو منصور، فرأيت الشيخ أبا منصور قد خرج من زاويته وجلس بين يدي شخص، فما رأيت شخصاً أحسن منه، على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي وصف لنا، وعليه ثياب ما رأيت أشد بياضاً منها، وعلى رأسه عمامة بيضاء، والشيخ أبو منصور مقبل عليه بوجهه، فدخلت فسلمت [فرد عليّ السلام، ولم أتحقق من الرادّ عليّ لدهشتي برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ] (1) ، وجلست بين أيديهما، فالتفت إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن أسأله عن شيء أو أستفتحه بكلام أصلاً وقال لي: عليك بمذهب هذا الشيخ، عليك بمذهب هذا الشيخ، عليك بمذهب هذا الشيخ -ثلاثاً-.
قال الحافظ أبو الفضل: وأنا أقسم بالله ثلاثاً وأشهد بالله لقد قال لي ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً، ويشير في كل مرة بيده اليمنى إلى الشيخ أبي منصور.
قال: فانتبهت وأعضائي ترعد، فناديت والدتي رابعة بنت الشيخ أبي حكيم [الخبري] (2) وحكيت لها ما رأيت، فقالت: يا بني هذا منام وحي، فاعتمد عليه. فلما أصبحت بكرت إلى الصلاة خلف الشيخ أبي منصور، فلما صلينا الصبح قصصت عليه المنام، فدمعت عيناه وخشع قلبه [وقال لي: يا
__________
(1) زيادة من التوابين (ص:232).
(2) ... في الأصل: الخيري. والتصويب من التوابين (ص:232).(1/419)
بني مذهب الشافعي حسن، فتكون على مذهب الشافعي في الفروع وعلى مذهب أحمد وأصحاب الحديث في الأصول] (1) ، فقلت: يا سيدي! أنا أُشهد الله وملائكته وأنبياءه وأشهدك على أني منذ اليوم لا أعتقد ولا أدين الله ولا أعتمد إلا على مذهب أحمد رضي الله [عنه] (2) في الأصول والفروع، فقبّل الشيخ أبو منصور رأسي وقال: وفقك الله، فقبّلت يده.
وقال لي الشيخ أبو منصور: وأنا كنت في ابتدائي شافعياً، وكنت أتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري وأسمع الخلاف عليه، فحضرت يوماً عند الشيخ أبي الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه، فقطع عليّ القراءة مرة أو مرتين ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا، فلا هم يرجعون إلينا في قولنا ولا نحن نرجع إليهم، فأي فائدة في هذا. ثم كرر عليّ الكلام، فقلت في نفسي: والله ما عنى الشيخ بهذا أحداً غيري. فتركت الاشتغال بالخلاف، وقرأت مختصر أبي القاسم الخرقي.
قال الحافظ: ورأيت بعد ذلك ما زادني يقيناً وعلمت أن ذلك [تثبيت] (3) من الله عز وجل لي وتعليم؛ لأعرف حق نعمة الله عليّ وأشكره، إذ أنقذني من اعتقاد البدعة إلى اعتقاد السنة، والله المسؤول الخاتمة بالموت على الإسلام والسنة (4) .
__________
(1) ... زيادة من التوابين (ص:233).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... في الأصل: تثبت. والتصويب من التوابين (ص:235).
(4) ... أخرجه ابن قدامة في التوابين (ص:231-235).(1/420)
حدثنا الشيخ الصالح أبو حفص عمر بن أبي الرضي المعروف بابن زريق الشحام قال: سمعت الشيخ أبا أحمد عبدالله بن المثنى، المعروف بابن الحداد -وكان من خيار عباد الله علماً وعملاً وزهداً وورعاً، وكان في عنفوان شبابه من غلاة الأشاعرة والدعاة إلى مذهبهم مصنفاً فيه-، يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله، كثرت البدع والأهواء، فبمن نقتدي؟ فقال: عليك بأحمد، عليك بأحمد، فأصبح تائباً إلى الله مما كان عليه، معتقداً مذهب الإمام أحمد، داعياً إليه، واتخذ الفضيلة مسكناً، وانقطع إلى العبادة، وعزفت نفسه عن الدنيا وأهلها، وصنَّف في السُّنَّة كُتباً، وكان ذا كرامات ظاهرة.
وكتب إلى المستضيء بأمر الله كتاباً بالغاً يَعِظُهُ فيه وخوّفه، قال: فبلغنا أن المستضيء قرأ منه أسطراً ثم طواه، فقيل له في ذلك فقال: رأيت كلام رجل صادق، فخفت أن أقف منه على ما أعجز عن العمل به، فتتأكد حجة الله عليّ، فتركته.
وكان ملوك الموصل وأمراؤها وكبراؤها يغشونه ويترددون إليه، فكان عامة ما يكلم الناس به؛ الأمر بعقيدة الإمام أحمد، والنهي عن مذهب الأشعري. وحاله مشهورة بذلك.
ولما فرغ من عمارة الجامع النوري بالموصل ضُرِعَ إليه في الخطابة به فلم يفعل، فسألوه أن يخطب به جمعة واحدة، فرقى المنبر وخطب وأحسن، فلما انتهى إلى الدعاء قال: اللهم أصلح الإمام والأمة، والراعي والرعية، ثم نزل.(1/421)
قال الشيخ عمر: فسمعته يوماً يقول: رأيت بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت له: يا رسول الله! ألست على الحق؟ أليس الذي أدعو إليه الحق؟ فقال: بلى، بلى، بلى.
وسمعت عماد الدين عبدالرحمن بن الشيخ شهاب الدين محمود بن بلدحي مدرس الحنفية بالموصل وابن مدرّسها يقول: سمعت أبي رحمه الله يقول -وكان متمسكاً بعقيدة الإمام أحمد متنسكاً بها، وكان من أصحاب الفقه والحديث رحمه الله، وكان مبايناً لما عليه عامة المتفقهة في هذا الزمان-: حججت فلما زرت النبي - صلى الله عليه وسلم - نمتُ في الروضة، فرأيته - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله! دلني على عقيدة أهل الحق؟ قال: هي ما أنت عليه من عقيدة أصحاب الحديث. فكان بعد ذلك يفتي الناس بها ويدعوهم إليها.
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رآني في النوم فقد رأى الحق" (1) .
وصح من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" (2) .
فصل
وكم من كافر أفضى به حسن القصد في الطلب إلى دين الحق، ولقد كنتُ أعرف رجلاً من أهل ماردين غالياً في دين النصرانية، شديد الشكيمة
__________
(1) ... أخرجه البخاري (6/2568 ح6595)، ومسلم (4/1776 ح2267).
(2) ... أخرجه البخاري (6/2568 ح6593)، ومسلم (4/1775 ح2266) من حديث أبي هريرة.(1/422)
في التمسك به، ثم رأيته بعد ذلك في دمشق حافظاً لكتاب الله وكثير من سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألته عن حاله، فقال: إني سكنت منزلاً قريباً من جامع دمشق، فكنت أسمع المؤذنين وقراءتهم القرآن بالأسحار، فنوّر الله الإيمان في قلبي، وكرّه إليّ الكفر ذات ليلة، فأسلمت من حيث لا يشعر بي أحد سوى الله تعالى. فلما أصبحت قصدت موضعاً من المواضع التي يتطهر المسلمون فيها للصلاة فتوضأت مثل ما رأيتهم يتوضؤون، ثم دخلت الجامع فصليت الصبح مع المسلمين، ثم خرجت إلى زيارة بيت المقدس، فقيّض لي رجل مغربي فقذف في قلبي شيء من البدعة وأنا حديث عهد بالإسلام لا علم لي بذلك، وكان يحذرني من أصحاب الإمام أحمد.
ثم اختار الله لي ثانياً كما اختار لي أولاً، فألهمني زيارة الحافظ أبي موسى عبدالله بن الحافظ عبدالغني المقدسي -وكان إذ ذاك يصلي إماماً بمهد عيسى بالمسجد الأقصى شرفه الله-، فلما رأيت هديه وسَمْتَهُ وسمعت قراءته للحديث، ألقى الله حبه في قلبي فلزمته، وقرأت عليه طرفاً من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفارقت تلك البدعة، ودنت الله بمذهب الإمام أحمد وأصحاب الحديث ولله الحمد. فقلت له:
ألا قد تم هلال العلا ... وصار في مطلعه بدرا
فسبحان من إذا أنعم أمعن وأنعم، بَيْنَا هذا يدين بالتثليث أصبح من أهل القرآن والحديث.(1/423)
سمعت شيخنا السعيد شيخ الإسلام موفق الدين المقدسي يقول: أنبأنا الحافظ أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو الحسين بن [الطيوري] (1) ، أخبرنا عبدالعزيز بن علي، أخبرنا علي بن عبدالله الصوفي، حدثنا محمد بن داود، حدثني حامد الأسود صاحب إبراهيم الخواص، قال: كان إبراهيم إذا أراد سفراً لم يحدث به أحداً ولم يذكره، وإنما يأخذ رَكْوَته (2) ويمشي، فبينا نحن معه في مسجده تناول ركوته ومشى فاتبعته، فلم يكلمني حتى وافينا الكوفة، فأقام بها يومه وليلته، ثم خرج نحو القادسية، فلما وافاها قال لي: يا حامد! إلى أين؟ قلت: يا سيدي خرجت لخروجك، قال: أنا أريد مكة. قلت: وأنا إن شاء الله أريد مكة، فمشينا يومنا وليلتنا. فلما كان بعد أيام إذا شابّ قد انضم إلينا في بعض الطريق، فمشى معي يوماً وليلة لا يسجد لله سجدة، فعرّفت إبراهيم وقلت: إن هذا الغلام لا يصلي، فجلس وقال له: يا غلام ما لك لا تصلي، والصلاة أوجب عليك من الحج، فقال: يا شيخ ما عليّ صلاة. قال: ألست برجل مسلم؟ قال: لا. قال: فأي شيء أنت؟ قال: نصراني، ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل، وادّعت نفسي أنها قد أحكمت حال التوكل، فلم أصدقها [فيما ادعت] (3) حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود، أثير ساكني وأمتحن خاطري، فقام إبراهيم ومشى وقال: دعه يكون معك، فلم يزل يسايرنا إلى بطن مَرّ، فقام إبراهيم ونزع
__________
(1) ... في الأصل: الطوري. والتصويب من التوابين (ص:298).
(2) ... الرَّكْوَة: إناء صغير من جِلْد يُشرب فيه الماء. والجمع: رَكَوات (اللسان، مادة: ركا).
(3) ... زيادة من التوابين (ص:299).(1/424)
خلقانه وطهرها بالماء، ثم جلس، وقال له: ما اسمك؟ قال: عبد المسيح، فقال: يا عبد المسيح، هذا دهليز مكة، وقد حرّم الله على أمثالك الدخول إليه، وقرأ: { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [التوبة:28]، والذي أردتَ أن تستكشف من نفسك فقد بان لك، فاحذر أن تدخل مكة، فإن رأيناك بمكة أنكرنا عليك.
قال حامد: فتركناه ودخلنا مكة، وخرجنا إلى الموقف، فبينا نحن جلوس بعرفات إذا هو قد أقبل وعليه ثوبان وهو محرم يتصفّح الوجوه، حتى وقف علينا، فأكبّ على إبراهيم يقبّل رأسه، فقال له: ما وراءك يا عبد المسيح؟ فقال: هيهات، أنا اليوم عبدُ مَنِ المسيحُ عبده، فقال له إبراهيم: حدثني حديثك. فقال: جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج، فقمت وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم، فساعة وقعت عيني على الكعبة اضمحلّ عندي كل دين سوى الإسلام، فأسلمت واغتسلت وأحرمت، وها أنا أطلبك يومي. فالتفت إلينا إبراهيم وقال: يا حامد، انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام، وصحبنا حتى مات بين الفقراء، رحمه الله (1) .
ّŒخ)ur يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
__________
(1) ... أخرجه ابن قدامة في التوابين (ص:298-300).(1/425)
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ اجةب
قوله تعالى: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } قد روي عن ابن عباس: أن من هاهنا إلى رأس الآية السابعة مما نزل بمكة، وغيره لم يستثن شيئاً وجعلها كلها مدنية (1) .
على معنى: اذكر يا محمد اليوم إذ يمكر بك كفار قريش وأنت بمكة خائفاً. والمراد من ذلك: تنبيهه - صلى الله عليه وسلم - على ما أتاح له بعد ذلك من النصر والاستيلاء على الذين مكروا به، حتى صار من أبقت سيوفه منهم في قبضته وأسره، وتحت حكمه وسلطانه.
الإشارة إلى قصتهم:
قال ابن عباس وغيره: لما بويع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة وأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة، خافت قريش من استفحال أمره وحدة شوكته، وقال بعضهم لبعض: والله لكأنكم به وقد كرّ عليكم بالرجال. واجتمعوا للمشورة في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير فقالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، بلغني ما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقالوا: ادخل. فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا
__________
(1) ... الماوردي (2/292)، وزاد المسير (3/316).(1/426)
الرجل، فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه وتسدّوا بابه غير كوة تلقون منها إليه طعامه وشرابه وتتربصون به ريب المنون. قال إبليس: ما هذا برأي، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو -من بني عامر بن لؤي-: أما أنا فأرى أن تحملوه من بين أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع ولا أين وقع. فقال إبليس: بئس الرأي، تعمدون إلى رجل أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة منطقه وطلاقة لسانه، فوالله لئن فعلتم ليجمعنّ عليكم ثم ليسيرنّ إليكم. قالوا: صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش غلاماً وتعطوه سيفاً، ثم تضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا أظن هذا الحي من قريش -يعني بني هاشم- يقوى على حرب قريش كلها، فيقبلون العقْل (1) ونستريح. فقال إبليس: صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأياً، فتفرقوا على هذا الرأي. وأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له بالخروج إلى المدينة، وأمر علياً بالمبيت في مضجعه، وخلفه بمكة ليؤدي عنه الودائع التي توضع عنده لصدقه وأمانته، وخرج - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً هو وأبو بكر رضي الله عنه، وبات المشركون يحرسون علياً ظناً منهم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ليقتلوه.
__________
(1) ... أي: الدية.(1/427)
فلما رأوا علياً قالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره حين سمعوا الهاتف يقول (1) :
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... لقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجارى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد
دَعاها بشاةٍ حَائلٍ فَتَحَلَّبَتْ ... لهُ بِصَريحٍ ضَرَّةُ الشاةِ مُزْبِدِ
فغادرها رهناً لديها لحالب ... يرددها في مصدرٍ ثم مورد
فلما أتوا على أم معبد قالوا: مَرَّ بك الصابئ؟ قالت: الصابئ ما مرّ بي. وكانت قد أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأت معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، ولو قدر لهم أن يسألوا الشاة لشهدت، ولكن الله عمى عليهم وأضلهم عن طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والوصول إلى رسوله. فلما أتوا الجبل مرّوا بالغار الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نسج عليه العنكبوت، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا. قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. فلما رأوا نسج العنكبوت قالوا: هذا قبل أن يخلق محمد، فرجعوا عنه (2) .
__________
(1) ... انظر الأبيات في: المستدرك (3/11)، ومجمع الزوائد (6/57)، وصفة الصفوة (1/141)، والاستيعاب (4/1960)، وطبقات ابن سعد (1/231).
(2) ... أخرجه أحمد (1/348)، وعبد الرزاق (5/389-390)، والطبراني في الكبير (11/407)، والطبري (9/227-228)، وابن أبي حاتم (5/1687)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/191). وانظر: سيرة ابن هشام (3/6-8). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/50-51) وعزاه لعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل والخطيب.(1/428)
قال ابن عباس: ليثبتوك في الوثاق (1) .
وقال عطاء: في السجن (2) .
وقرأ إبراهيم النخعي: "لِيُبَيِّتوك" (3) ، من البَيَات، أي: ليأخذوك ليلاً.
{ ويمكرون } يخفون المكائد لك. وقد سبق تفسيره في آل عمران (4) .
#sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ
__________
(1) أخرجه الطبري (9/226)، وابن أبي حاتم (5/1688). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/53) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (9/226)، وابن أبي حاتم (5/1688). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/348).
(3) انظر: البحر المحيط (4/481).
(4) عند تفسير قوله تعالى: { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [الآية:54].(1/429)
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اججب
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي: إذا قرأت على قريش آيات القرآن { قالوا قد سمعنا } ؛ ذكر الماوردي والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي (1) في معناها قولين:
أحدهما: سمعنا قولك ولا نطيعك.
والثاني: سمعنا قبل هذا مثله.
ويظهر عندي: أن مقصودهم بهذا القول: إظهار التبرم بسماع القرآن إيهاماً للطغام الأغمار أنه إفك مفترى وحديث مختلق، وتحقيراً لشأنه عندهم.
__________
(1) الماوردي (2/313)، وزاد المسير (3/348).(1/430)
وكذلك قالوا: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } وهو كلام يستخفون به أحلام السفهاء بينهم، وإلا فما بال الفصحاء الخطباء من العرب العرباء مع فرط أنفتهم، وشدة حميتهم، وحرصهم على إطفاء نور المبعوث بتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم وآرائهم، وسبِّ آلهتهم، يتحداهم باقتضاب سورة مثله، ويسجل عليهم بالعجز في قوله: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء:88]، ثم يضربون عن ذلك صفحاً، هذا مع قدرتهم على المعارضة والمناقضة، لا والله ما ذاك إلا القصور الناسوتي أو العرف اللاهوتي.
هذا الوليد بن المغيرة المخزومي مع براعته وشجاعته وإبائه بأبنائه وآبائه [لم] (1) يجد بداً من الاستسلام لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حتى قال وهو من أشد العرب شكيمة في عداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما رأيته يلتئم بها، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يَعلو ولا يُعلى.
وشمائل شهد العدو بفضلها ... ... والفضل ما شهدت به الأعداء
والمشهور في التفسير أن القائل: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } النضر بن الحارث، المقتول صبراً بالصفراء (2) يوم بدر، وكان كثير الاختلاف إلى فارس والحيرة، وكان يتبع أخبار رستم واسفنديار، وكان يسمع قراءة أهل
__________
(1) ... زيادة على الأصل.
(2) الصفراء: قرية كثيرة النخل والمزارع، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة (معجم البلدان 3/412).(1/431)
الكتاب ويرى صلاتهم، واشترى كليلة ودِمنة، وكان يقعد مع المستهزئين ويقرأ عليهم من ذلك. فلما سمع اقتصاص الله أخبار القرون الماضية قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فنزلت هذه الآية (1) .
وهو القائل أيضاً: { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر ... الآية } في قول ابن عباس وأكثر المفسرين (2) .
ولا منافاة بين هذا القول وبين ما أخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قال أبو جهل: { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ... الآية } فأنزل الله: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ... الآية } ، فلما أخرجوه نزلت: { وما لهم أن لا يعذبهم الله ... الآية } (3) لجواز نزولها بسبب قولهما.
والإشارة بقولهم: { إن كان هذا } إلى القرآن، وهو كلام ينبئ باستحكام الجحود واستيلائه على قلوب قائليه.
{ فأمطر علينا حجارة } يعنون: كما أمطرت على أصحاب الفيل، ولذلك قالوا: { من السماء } ، { أو ائتنا بعذاب أليم } أي: بنوع آخر من العذاب غير الحجارة.
__________
(1) أخرجه الطبري (9/231)، وابن أبي حاتم (5/1689). وانظر: الوسيط (2/455). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/54) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (9/232)، وابن أبي حاتم (5/1690). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:239). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/55) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه البخاري (4/1704-1705 ح4371 و ح4372)، ومسلم (4/2154 ح2796).(1/432)
قال صاحب الكشاف (1) : هذا أسلوب من الجحود بليغ، يعني: إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسِّجِّيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفي كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقاً [لم يستوجب منكره عذاباً، فكان تعليق العذاب بكونه حقاً] (2) مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقاً فأمطر علينا حجارة.
وقوله: { الحق } تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق.
وقرأ الأعمش: "هو الحقُّ" بالرفع (3) ، على أن "هو" مبتدأ غير منفصل، وهي في القراءة الأولى فصل (4) .
يقال: [أمطرت] (5) السماء؛ كقولك: أسبلت، وأنجمت. ومطرت؛ كقولك: هتنت وهتلت، وقد كثر الإمطار بمعنى العذاب.
ومن الأجوبة السَّادَّة المسكتة ما يروى: أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما كان أجهل قومك حيث قالوا: { ربنا باعد بين أسفارنا } [سبأ:19]، وحيث ملكوا أمرهم امرأة (6) ، فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم
__________
(1) الكشاف (2/205-206).
(2) زيادة من الكشاف (2/205).
(3) انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/482)، والدر المصون (3/414).
(4) انظر: التبيان (2/6)، والدر المصون (3/414).
(5) في الأصل: أطرت.
(6) وهي بلقيس.(1/433)
النبي - صلى الله عليه وسلم - : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ... الآية } ألا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا له (1) .
قوله تعالى: { وما كان الله ليعذبهم } يعني: المشركين الذين قالوا: { أمطر علينا حجارة } ، { وأنت فيهم } مقيم بين أظهرهم.
قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا (2) .
وفي قوله: { وأنت فيهم } تخويف لهم من انفصاله عنهم وإعلام لهم أنهم بعَرَضِيّة العذاب.
{ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } الواو في "وهم" واو الحال (3) .
ومعنى الكلام: ليسوا بمستغفرين فيستحقون العذاب. هذا قول قتادة واختيار أكثر اللغويين (4) .
والمشهور في التفسير أن المراد بالعذاب هاهنا: ما يجتاحهم ويستأصلهم، أي: ما كان الله ليفعل ذلك بهم وفي علمه أن فيهم من يؤول إلى الإسلام؛ كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وأن فيهم من سيلد مؤمناً مستغفراً.
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (2/456).
(2) أخرجه الطبري (9/235)، وابن أبي حاتم (5/1692)، والنحاس في ناسخه (ص:464). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/59) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل.
(3) انظر: الدر المصون (3/416).
(4) انظر: الطبري (9/236)، وزاد المسير (3/351).(1/434)
وقال ابن الأنباري: المعنى: وما كان الله معذبهم والمؤمنون بين أظهرهم يستغفرون، فأوقع العموم على الخصوص، ووصفوا بصفة بعضهم. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس (1) .
والمراد بالاستغفار هاهنا: المعهود. وقيل: الصلاة. رويا عن ابن عباس (2) .
وقيل: الإسلام. روي عن مجاهد (3) ، وبه قال عكرمة (4) .
$tBur لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ
__________
(1) انظر: الطبري (9/235)، وزاد المسير (3/350-351).
(2) أخرجه الطبري (9/237)، وابن أبي حاتم (5/1692)، والنحاس في ناسخه (ص:465) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/59) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل.
(3) أخرجه مجاهد (ص:262).
(4) أخرجه الطبري (9/236-237)، وابن أبي حاتم (5/1692). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/56) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/435)
أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اجخب
قوله تعالى: { وما لهم أن لا يعذبهم الله } أي: لم لا يعذبهم الله بالسيف.
وقال الزمخشري (1) : المعنى: أي شيء لهم من انتفاء العذاب عنهم. يعني: لا حظ لهم في ذلك، { وهم } [معذبون] (2) لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم { يصدون } المؤمنين { عن المسجد الحرام } ويمنعونهم زيارته والطواف به، { وما كانوا أولياءه } تكذيبٌ لهم في قولهم: نحن ولاة البيت، { إن أولياؤه إلا المتقون } الذين يتقون الشرك والفواحش، { ولكن أكثرهم } يعني: أهل مكة { لا يعلمون } ذلك.
__________
(1) الكشاف (2/206).
(2) ... في الأصل: يعذبون. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.(1/436)
ثم أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما يوجب نزع الولاية منهم فقال: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } يقال: مَكا يَمْكُو مَكْواً ومُكاء. ومكاء -بالمد والقصر-: إذا جمع يديه وصَفَّرَ فيهما (1) ، والتصدية: التصفيق، وهو ضرب اليد على اليد (2) .
قال ابن عمر: كانوا يطوفون بالبيت ويُصَفِّقُونَ ويُصَفِّرُونُ، ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية (3) .
وقال مقاتل (4) : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى في المسجد الحرام، قام رَجُلان من بني عبد الدار عن يمينه يُصَفِّران، ورَجُلان عن شماله يُصَفِّقان، [ليخلطا] (5) على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر. فذلك قوله: { فذقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .
فإن قيل: فما موقع قوله: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } ؟
قلت: موقع قول الفرزدق:
__________
(1) انظر: اللسان (مادة: مكا).
(2) انظر: اللسان (مادة: صدي).
(3) ... أخرجه الطبري (9/241)، وابن أبي حاتم (5/1696). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:240). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/61) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير.
(4) تفسير مقاتل (2/16).
(5) في الأصل: فتختط. والتصويب من تفسير مقاتل، الموضع السابق.(1/437)
أَخَافُ زياداً أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا (1)
وقد سبق إنشاده في موضع آخر.
والأداهم: القيود، والمحدرجة: السياط. أي: أخاف أن يضع الأداهم والمحدرجة موضع العطاء.
وموقع الآخر:
قلت [له] (2) أطعمني عميم تمراً ... ... فكان تمري كهرةً وزيراً (3)
أي: أقام الصياح على مقام التمر.
قال ابن الأنباري (4) : المكاء والتصدية ليست بصلاة، ولكن الله أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك أعظم الأوزار.
قوله: { فذوقوا العذاب } يريد عذاب السيف وفقد الأحبة، فإنه لم يبق يوم بدر بمكة دار إلا دخلتها مصيبة.
¨bخ) الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) البيت للفرزدق، من قصيدة قالها عندما أشاع زياد ابن أبيه أن الفرزدق لو أتاه لحباه وأكرمه. انظر: ديوانه (1/188)، والطبري (4/134)، واللسان، مادة: (حدرج).
(2) زيادة من زاد المسير (3/354).
(3) انظر البيت في: زاد المسير (3/354).
(4) انظر: الوسيط (2/458)، وزاد المسير (3/354).(1/438)
فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ اجذب
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } قال ابن عباس وجمهور المفسرين: نزلت في المُطْعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ومُنبِّه ونُبَيْه ابنا الحجاج، وأبو جهل والحارث ابنا هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشيان المخزوميان، [والنضر] (1) بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد
__________
(1) ... في الأصل: والنظر.(1/439)
الدار القرشي، [وزمعة] (1) بن الأسود، وأبو البختري بن هشام، وأبيّ بن خلف بن وهب الجمحي القرشي، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي ابن أخي خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والعباس بن عبدالمطلب (2) .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان استأجر يوم أُحُد [ألفين] (3) من الأحابيش لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سوى من استجاش من العرب (4) .
قال ابن إسحاق، عن رجاله: لما رجع الموتورون يوم بدر كلّموا أبا سفيان وأرباب الأموال والتجارات التي كانت في العير، فقالوا: يا معشر قريش! إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال الذي أفْلَتَ، لعلنا ندرك منه ثأراً، ففعلوا، فنزلت هذه الآية (5) .
__________
(1) ... في الأصل: وزعمة.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/458-459)، وفي أسباب النزول (ص:240)، وزاد المسير (3/355).
(3) زيادة من مصادر التخريج.
(4) ... أخرجه الطبري (9/244)، وابن أبي حاتم (5/1697). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:240)، والسيوطي في الدر المنثور (4/63) وعزاه لابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير.
(5) ... أخرجه الطبري (9/245)، وابن أبي حاتم (5/1697). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/63) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.(1/440)
قوله تعالى: { ليصدوا عن سبيل الله } يعني: اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } ندامة وأسفاً حيث لم يظفروا بالسؤل في اضمحلال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن العاقبة لهم فقال: { ثم يغلبون } .
ولما كان في كفار قريش والموتورين منهم ممن قام يطلب الثأر من عَلِمَ الله أنه سيؤمن ويحسُن عمله؛ كالحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، أخرجهم من الوعيد اللاحق بالمنافقين فقال: { والذين كفروا } أي: داموا وثبتوا على كفرهم، { إلى جهنم يحشرون } .
{ ليميز الله } وقرأ حمزة والكسائي: "لِيُمَيِّزَ الله" بالتشديد (1) . تقول: مِزْتُ الشيء أَمِيزُهُ مَيْزاً؛ إذا عزلته وفرزته، وكذلك مَيَّزْتُهُ تَمْييزاً فانْمازَ وامْتازَ وتَمَيَّزَ واسْتَمازَ، كل ذلك بمعنى (2) .
واختلفوا في متعلق اللام فقال قوم: ["يحشرون"] (3) ، أي: والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب.
وقال قوم: ["فسينفقونها] (4) ثم تكون عليهم حسرة"، ليميز الله المال الخبيث الذي أنققه المشركون للصدّ عن سبيل الله من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون؛ كأبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/304)، والحجة لابن زنجلة (ص:182)، والنشر (2/244)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:237)، والسبعة في القراءات (ص:306).
(2) انظر: اللسان، مادة: (ميز).
(3) في الأصل: يخشون. وهو خطأ. انظر: الدر المصون (3/418).
(4) في الأصل: فينفقونها.(1/441)
{ ويجعل الخبيث بعضه على بعض } وهو معنى: { فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم } ، إن قلنا هو الفريق الخبيث، فجعله في جهنم لتعذيبه، وإن قلنا هو مال الكفار فجعله في جهنم لتعذيبهم به، كما قال: { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } [التوبة:35].
{ أولئك هم الخاسرون } لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله لهم.
@è% لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِن اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا(1/442)
أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ احةب
قوله تعالى: { قل للذين كفروا } قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان وأصحابه (1) .
{ إن ينتهوا } عن الشرك والتكذيب والمحاربة، { يغفر لهم ما قد سلف } من ذلك ومن غيره، حتى أن الحربي إذا أسلم لا يُتْبَعُ بحقوق الله ولا بحقوق الآدميين، وأما الذمي إذا أسلم فَيُتْبَعُ بحقوق الآدميين دون حقوق الله.
وفي وجوب قضاء العبادات المتروكة زمن الردة خلاف بين الفقهاء.
قال يحيى بن معاذ: إن توحيداً لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر، أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب (2) .
{ وإن تعودوا } يعني: إلى المحاربة، { فقد مضت سنة الأولين } بنصر الله رسولَه والمؤمنين على الكافرين، وشاهدوا ما صنع يوم بدر بصناديدهم، وسمعوا بوقائع الله مع الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الخالية.
قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي: شرك، { ويكون الدين كله لله } فلا يُعْبَدُ غيرُه، { فإن انتهوا } عن كفرهم { فإن الله بما يعملون } من فعل الحسنات وترك السيئات { بصير } وعليه مُجاز.
__________
(1) الوسيط (2/459)، وزاد المسير (3/356).
(2) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/27 ح1073).(1/443)
{ وإن تولوا } يعني: عن الإيمان ولم [ينتهوا] (1) عن عبادة الأوثان وأصرّوا على حربك، { فاعلموا أن الله مولاكم } ناصركم ومعينكم، فيه فثقوا وعليه فتوكلوا، { نعم المولى ونعم النصير } .
* وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ احتب
__________
(1) في الأصل: تنتهوا.(1/444)
قوله تعالى: { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } "ما" بمعنى الذي، والهاء محذوفة من الصلة، أصله: غنمتموه، والخبر { فأن لله خُمُسه } (1) .
قال الزجاج (2) : الأموال ثلاثة أصناف: فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب فقد سمّاه الله أنفالاً وغنائم. وما صار من المشركين في خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب فقد سمّاه الله فَيْئاً. وما خرج من أموال المسلمين؛ كالزكاة والنذر والقُرَب فقد سمّاه الله صدقة.
ومعنى الآية: اعلموا أن ما غنمتم من المشركين قسراً وقهراً، من شيء قليل أو كثير.
قال مجاهد رحمه الله: المَخِيطُ من الشيء (3) .
{ فأن لله خُمُسه } وقرأتُ لأبي عمرو من رواية عبد الوارث: "خُمْسَه" بتسكين الميم (4) .
__________
(1) انظر: التبيان (2/6-7)، والدر المصون (3/419).
(2) معاني الزجاج (2/413-414).
(3) أخرجه عبد الرزاق (5/242)، وابن أبي شيبة (6/502)، والطبري (10/2)، وابن أبي حاتم (5/1702). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/65) وعزاه لعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) زاد المسير (3/358).(1/445)
فصل
لا نعلم خلافاً بين العلماء: أن أربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة على قصد الجهاد وإن لم يقاتل، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان (1) . فأما من حضر بعد انقضاء الحرب فلا حق له فيها.
قال أبو حنيفة: إذا لحق المدد بعد انقضاء الحرب أسهم لهم (2) . واحتجوا بحديث أبي موسى قال: "قدمنا، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم" (3) . وهو حديث مخرج في الصحيحين.
وأجاب عنه الآخرون، فقالوا: إنما أعطاهم من الجنس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الوقعة، وإن كان قد أعطاهم من الغنيمة فلموضع حاجتهم بإذن الغانمين.
فإن قيل: قد أسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان وطلحة من غنائم بدر ولم يشهداها؟
__________
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر (24/237)، وشرح النووي على صحيح مسلم (12/83)، والمغني (6/322).
(2) انظر: جواهر العقود (1/382)، ومغني المحتاج (4/227)، وروضة الطالبين (10/275)، وحاشية ابن عابدين (4/137)، والكافي (1/475).
(3) أخرجه البخاري (3/1142 ح2967)، ومسلم (4/1946 ح2502).(1/446)
قلت: كان ذلك في وقت كانت الغنيمة خالصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول هذه الآية.
وأما السهم الخامس؛ فقال مالك: هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام يضعه حيث يرى (1) .
المشهور من قول مشاهير الأئمة وجماهير الأمة: أنه يقسم على ما نطقت به هذه الآية على خمسة أسهم.
وشذّ أبو العالية فقال: يقسم على ستة أسهم، وجعل السهم المضاف إلى الله للكعبة، والجمهور على خلافه.
والمعنى: فأن للرسول خُمُسه، وذكر اسم الله للتبرّك به، أو لإظهار شرف المكسبة وطيبها حيث أضيفت إلى الله تعالى.
فصل
وأما سهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان يصنع فيه ما شاء مدة حياته.
واختلفوا: هل سقط بموته؟
فقال أبو حنيفة: سقط بموته كالصَّفِيّ.
وقال الأكثرون: لا يسقط بموته.
ثم اختلفوا في ماذا [يُصنع] (2) به؟ فقال قتادة: هو للخليفة بعده.
وقال أحمد والشافعي: يصرف في المصالح (3) .
__________
(1) انظر: المغني (6/320).
(2) في الأصل: يوضع.
(3) زاد المسير (3/360).(1/447)
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يصرف إلى أهل الديوان الذين نصبوا أنفسهم للجهاد (1) .
وقال بعضهم: يرد في الخمس ثم يقسم على أربعة أسهم، سهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
فصل
وأما سهم ذوي القربى فاختلفوا في مصرفه، فقال مجاهد وعلي بن الحسين وأبو حنيفة: يصرف إلى بني هاشم فقط. وقيل: إلى قريش.
قال ابن عباس: كنا نقول: نحن هم، فأبى علينا قومنا وقالوا: قريش كلها ذوو قربى (2) .
وقال الإمامان أحمد والشافعي: يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب (3) .
والدليل على صحته: ما أخبرنا به الشيخان أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق بن الخازن النيسابوري قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان [الكرجي] (4) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن
__________
(1) جواهر العقود (1/381).
(2) أخرجه الطبري (10/6). وانظر: الماوردي (2/320)، وزاد المسير (3/360).
(3) زاد المسير (3/360).
(4) في الأصل: الكرخي. والصواب ما أثبتناه. وقد سبقت ترجمته.(1/448)
المسيب، عن جبير بن مطعم قال: "لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك [الله به] (1) منهم، أرأيت إخواننا [من] (2) بني المطلب أعطيتهم وتركتنا [أو منعتنا] (3) ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا، وشبك بين أصابعه" (4) .
وفي رواية: "لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام" (5) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
وكان يحيى بن معين يرويه: "سيء واحد" بالسين المهملة، أي مثلٌ واحد، تقول: هذا سيء هذا، أي: مثله ونظيره. قال الخطابي: وهو أجود.
قال الحافظ أبو الفضل بن ناصر رحمه الله: بنو المطلب دخلوا مع بني هاشم إلى الشِّعْب لما حاصروهم المشركون، دون غيرهم.
__________
(1) زيادة من مسند الشافعي (ص:324).
(2) مثل السابق.
(3) زيادة من مسند الشافعي (ص:324).
(4) أخرجه البخاري (3/1143 ح2971)، وأبو داود (3/146 ح2980)، والنسائي (3/45 ح4439)، والشافعي في مسنده (ص:324).
(5) أخرجه أبو داود (3/146)، والنسائي (3/45)، وأحمد (4/81).(1/449)
فصل
واختلفوا في سهم ذوي القربى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فذهب الإمامان أحمد والشافعي إلى أنه لهم أبداً؛ لأنهم استحقوه عوضاً عن الصدقة أو بالقرابة وهي باقية، وكذلك سوينا فيه بين الغني والفقير.
قال الإمام أحمد: يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين (1) .
وقال أبو حنيفة: سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوي القربى بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - مردود على باقي السهام الثلاثة، وجعلهم أسوة الفقراء.
فصل
وتصرف الأخماس الثلاثة إلى فقراء يتامى المسلمين ومساكينهم، وأبناء السبيل، لكل صنف خُمْس. وقد ذكرناهم فيما مضى.
قوله تعالى: { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف، تقديره: إن كنتم آمنتم بالله فاقبلوا وأطيعوا (2) ، { وما أنزلنا على عبدنا } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
فإن قيل: لم قال: "على عبدنا" دون أن يذكره باسمه أو بوصفه الغالب وهو الرسالة؟
قلت: يُعَلِّمُهُم أنه لم يُخرجْه وصفُ الرسالة وشرف النبوة وإنزال الكتاب عليه ورَفْعِه ليلة المعراج إليه؛ عن أن يكون عبداً لله. وقلَّ أن يُطلق عليه هذه اللفظة إلا مقترنة بأمر عظيم وشرفٍ منيف، كقوله سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده... الآية } [الإسراء:1]، وقوله تبارك وتعالى: { تبارك الذي
__________
(1) المغني (6/317).
(2) انظر: التبيان (2/7)، والدر المصون (3/420).(1/450)
نزل الفرقان على عبده... الآية } [الفرقان:1]، وليشرفه باسم العبودية المضافة إليه جلّت عظمته، ألا ترى أن الملك العظيم من ملوك الدنيا إذا أضاف شخصاً إليه بلفظ العبودية فقال: فلان عبدي وغلامي، فإنه يجد لذلك لذاذة وسروراً، ويكسب به شرفاً وفخراً؛ لأن ذلك دليل على أنه رضيه لنفسه واختاره لقربه وموالاته. كأنّ المعنى: على عبدنا الذي هو عبدنا على الحقيقة، كما جاء في الحديث: "أولئك عبادي حقاً".
ولأن زيادة الخضوع لله والتواضع لعظمته مما يوجب زيادة الشرف وارتفاع الدرجات للعبد، ومما تتلذذ به نفوس المحبين لله والعارفين به، كما قيل:
ذُلُّ الفتى في الحبّ مكرمة ... ... وخضوعه لحبيبه شرف (1)
وقال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها ... ... فإنه أشرف أسمائي (2)
والمراد بيوم الفرقان: يوم بدر؛ لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل.
{ يوم التقى الجمعان } جمع الموحدين وجمع المشركين.
والذي أنزل عليه ذلك اليوم: وجوب التفويض إلى الله ورسوله، والأمر بالتقوى، وإصلاح ذات البين، والطاعة. وذلك في قوله: { يسألونك عن الأنفال... الآية } .
__________
(1) انظر البيت في: المدهش لابن الجوزي، الفصل السادس والسبعون.
(2) انظر البيت في: القرطبي (1/232)، وروح المعاني (9/85)، وكشف الخفاء (1/16)، وفتح القدير (3/206).(1/451)
والمعنى: إن كنتم آمنتم بالله والمنزل على عبده يوم بدر، وهو أول هذه السورة فاعملوا بموجب ما شرع لكم وبيّن في هذه الآية، من أمر الغنيمة.
{ والله على كل شيء قدير } قال ابن عباس: يقدر على نصركم وأنتم أقلّة أذلة (1) .
ّŒخ) أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ احثب
__________
(1) الوسيط (2/462).(1/452)
قوله تعالى: { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين في الموضعين، وقرأهما الباقون بالضم (1) .
قال ابن السكيت (2) : عُدْوةُ الوادي وعِدْوتُه: جانبُه وحافَّتُه، والجمع عِدًى وعُدًى (3) . والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى، وهو الأبعد.
وما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو، فإن العرب تحوله إلى الياء، نحو: الدنيا مِنْ دنوت، والعليا مِنْ علوت؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف، إلا أن أهل الحجاز قالوا: القُصْوَى، فأظهروا الواو وهو نادر، وغيرهم يقول: القُصْيا (4) .
وكان نزول المسلمين على شفير الوادي الأدنى من المدينة، والمشركون على شفيره الأقصى مما يلي مكة.
{ والركب } أبو سفيان وأصحابه { أسفل منكم } نصبه على الظرف (5) ، يعني: أنهم قد أخذوا مكاناً أسفل من مكانكم، فطلبوا ساحل البحر، { ولو تواعدتم } أنتم وأهل مكة للقتال والنزول بعدوتي الوادي على تلك الهيئة
__________
(1) الحجة للفارسي (2/292)، والحجة لابن زنجلة (ص:310-311)، والكشف (1/491)، والنشر (2/276)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:237)، والسبعة في القراءات (ص:306).
(2) إصلاح المنطق (ص:115).
(3) انظر: اللسان، مادة: (عدا).
(4) انظر: اللسان، مادة: (قصا).
(5) انظر: التبيان (2/7)، والدر المصون (3/422).(1/453)
{ لاختلفتم في الميعاد } بالتقدم [والتأخر] (1) ، ولتثبطتم لقلّتكم وكثرتهم، ولكنه سبحانه مهّد للفريقين أسباب الانقياد وَجَمَعَهُم على غير ميعاد، { ليقضي الله أمراً كان } في سابق علمه { مفعولاً } وهو إعزاز دينه [وأوليائه] (2) وإذلال أعدائه.
واللام في "ليقضي" تتعلق بمحذوف تقديره: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً دبّر ذلك وهيأ أسبابه (3) ، يدل عليه قوله: { ليهلك من هلك عن بينة } أي: ليهلك من هلك في ذلك اليوم بالقتل أو بالدوام على الكفر، { عن بينة } أي: دلالة واضحة، فإنهم شاهدوا آيات؛ منها نزول الملائكة، حتى أن اللعين -فرعون هذه الأمة- أبا جهل قال لابن مسعود حين جاءه يُذَفِّف (4) عليه: من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص؟ قال: من قبل الملائكة، فقال: هم غلبونا لا أنتم.
{ ويحيى من حَيَّ } وقرأت لنافع والبزي والقزاز عن عبدالوارث، وأبي بكر عن عاصم، ونصير عن الكسائي وأبي جعفر وخلف في اختياره ويعقوب: "حَيِيَ" بياءين، الأُولى مكسورة والثانية مفتوحة بإظهار التضعيف (5) .
__________
(1) في الأصل: وتأخر.
(2) في الأصل: وأولائه.
(3) انظر: الدر المصون (3/423).
(4) الذَّفُّ: الإجهاز على الجريح وتحريرُ قتله (اللسان، مادة: ذفف).
(5) النشر (2/276)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:237).(1/454)
{ وإن الله لسميع عليم } يسمعُ تَضَرُّعَكُم ودعاءَكم ، ويعلمُ كيف يُدَبِّرُ أمورَكم ويصلحُ أحوالكم.
ّŒخ) يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ اححب(1/455)
قوله تعالى: { إذ يريكهم الله } نُصِبَ بإضمار "اذكر"، أو هو بدل ثان من "يوم الفرقان"، أو متعلِّق بقوله: "لسميع عليم" (1) ، أي: يعلم المصالح، إذ يقللهم في عينك في منامك، أو سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرون إذ حدثتهم بما رأيت في منامك، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في منامه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه.
قال مجاهد: كان ذلك تثبيتاً للصحابة (2) .
وقال الحسن: { في منامك } أي: بعينك التي تنام بها (3) ؛ لأنها مكان النوم (4) .
قال الزجاج (5) : وكثير من النحويين (6) يذهبون إلى هذا المذهب.
قال الزمخشري (7) : وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية فيه عن الحسن صحيحة، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته.
__________
(1) انظر: الدر المصون (3/424).
(2) أخرجه الطبري (10/12)، وابن أبي حاتم (5/1709). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/74) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) قال ابن كثير (2/316): وهذا القول غريب، وقد صرح بالمنام هاهنا، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1709). وانظر: الطبري (10/12) والوسيط (2/463).
(5) معاني الزجاج (2/419).
(6) كأبي عبيدة. انظر: مجاز القرآن (1/247).
(7) الكشاف (2/213).(1/456)
قال ابن عباس: المعنى: إذ يريكهم الله يا محمد في منامك قليلاً لتحتقرهم فتجترئ عليهم (1) .
{ ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } لجبُنتم وتأخرتم عن حربهم، { ولتنازعتم في الأمر } أي: ولاختلفت آراؤكم وتفرقت كلمتكم، { ولكن الله سلم } من الفشل والتنازع، { إنه عليم بذات الصدور } .
قال ابن عباس: عَلِمَ ما في صدوركم من الحب لله (2) .
وقيل: عَلِمَ ما فيها من الجرأة والجبن، والصبر والجزع.
قوله تعالى: { وإذ يريكموهم } الضميران مفعولان، و { قليلاً } نصب على الحال (3) .
والمعنى: إذ يبصركم أيها المؤمنون إياهم قليلاً تصديقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتحقيقاً لرؤياه، ولتزدادوا جرأة عليهم.
قال ابن مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا، حتى قلتُ لرجل إلى جانبي: أتراهم
سبعين؟ فقال: أراهم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم قلنا: كم كنتم؟ قال: كنا ألفاً (4) .
__________
(1) ... انظر: الطبري (10/13)، والوسيط (2/463)، وزاد المسير (3/364).
(2) الوسيط (2/463).
(3) انظر: الدر المصون (3/424).
(4) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/360)، والطبري (10/13)، وابن أبي حاتم (5/1710). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/74) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه.(1/457)
{ ويقللكم في أعينهم } لئلا يُحجموا عنكم فلا تظفروا فيهم بالمقصود.
قال الكلبي: استقل المؤمنون بالمشركين والمشركون المؤمنين ليجترئ بعضهم على بعض (1) .
وقد حررتُ القول في هذا المعنى في سورة آل عمران عند قوله: { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران:13].
{ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور } سبق تفسيره.
قال ابن عباس في قوله: { وإلى الله ترجع الأمور } أي: بعد هذا مصيركم إليّ، فأُكرمُ أوليائي وأعاقب أعدائي (2) .
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
__________
(1) الوسيط (2/463).
(2) انظر: الوسيط (2/463).(1/458)
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ احدب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } أي: جماعة كافرة. وتَرَكَ وصفَهم بالكفر لانحصار القتال إذ ذاك لهم.
والمعنى: فاثبُتوا لقتالهم.
{ واذكروا الله كثيراً } في ذلك الموطن، بالدعاء والثناء والاستنصار على الأعداء، فإن الله ذَاكِرٌ مَنْ ذَكَرَهُ، ونَاصِرٌ مَنْ نَصَرَه.
{ لعلكم تفلحون } تفوزون بمقصودكم ورضا معبودكم.
ثم حذّرهم من اختلاف الآراء فقال: { ولا تنازعوا فتفشلوا } قوله: "فتفشلوا" نصب بإضمار "أَنْ"، ويجوز أن يكون داخلاً في جملة النهي، فيكون مجزوماً (1) . ويؤيده ما قرأته على شيخنا أبي البقاء عبدالله بن الحسين اللغوي: "وَيَذْهَبْ" بالياء وسكون الباء (2) . ويؤيد الأول قراءة الباقين.
ومعنى قوله: { وتذهب ريحكم } : دولتكم. قاله أبو عبيدة (3) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/8)، والدر المصون (3/425).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/365).
(3) ... مجاز القرآن (1/247). وهو قول الأخفش أيضاً. انظر: الوسيط (2/464)، وزاد المسير (3/365).(1/459)
قال الزمخشري (1) : شُبِّهَتْ في نفوذ أمرها وتمشيته (2) بالريح وهبوبها. يقال: هَبَّتْ رياح فلان؛ إذا دالت له الدولة ونفذ أمره (3) .
وقيل: لم يكن نصرٌ قط إلا بريح يبعثها الله (4) .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "نُصِرْتُ بالصَّبَا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُور" (5) .
قلت: وإلى قول أبي عبيدة تؤول أقوال المفسرين؛ من أن الريح: الصولة أو الحدّة أو الشدة أو النصر.
ںwur تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ
__________
(1) الكشاف (2/215).
(2) ... في الكشاف: وتمشيه.
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (روح).
(4) ... وهو قول قتادة وابن زيد. أخرجه ابن أبي حاتم (5/1712). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/76) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(5) ... أخرجه البخاري (1/350 ح988)، ومسلم (2/617 ح900).
... والدَّبُور: هي الريح التي تقابل الصبا والقَبول، وهي ريح تهبُّ من نحو المغرب، والصبا تقابلها من نحو المشرق (اللسان، مادة: دبر).(1/460)
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ(1/461)
عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ احزب
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني: النفير، { بطراً ورئاء الناس } .
قال الزجاج (1) : البطرُ: الطغيان في النعمة وترك شكرها، والرياء: إظهار الجميل ليُرى مع إبطان القبيح.
قال قتادة: هؤلاء أهل مكة خرجوا ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادك ورسولك". فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصرة الدين (2) .
وقد ذكرنا فيما مضى: أن أبا سفيان أرسل إليهم يُؤذنهم بسلامة العير، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نقدم بدراً فنشرب الخمور، وننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونُقيم القِيان (3) والمعازف، فتسمع بنا العرب فتهابنا (4) ،
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/150).
(2) ... أخرجه الطبري (10/17)، وابن أبي حاتم (5/1713). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/77) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... وهنّ الإماء المغنيات (انظر: اللسان، مادة: قين).
(4) ... أخرجه الطبري (10/17)، وابن أبي حاتم (5/1714). وانظر: الماوردي (2/324)، وزاد المسير (3/366).(1/462)
فانعكس عليهم الأمر، فنَحروا أنفسهم بدل الجزور، وشَربوا المنايا عوضاً عن الخمور، وناحت عليهم النوائح مكان القيان والمعازف.
قوله تعالى: { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } أي: واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداتك وإبطال ما جئت به، { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } وذلك أنهم لما أجمعوا المسير خافوا بني كنانة، فتبدّا لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك -وكان من أشراف بني كنانة- فقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، { وإني جار لكم } أي: حافظ ومجير من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعاً، { فلما تراءت الفئتان } التقى الجمعان؛ المسلمون والمشركون { نكص على عقبيه } أي: رجع القَهْقَهرى وذلك أن إبليس رأى جبريل عليه السلام ومعه الملائكة، وكان إبليس آخذاً بيد الحارث بن هشام على صورة سراقة، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفراراً من غير قتال؟ فقال: { إني أرى ما لا ترون } ، فانهزم وانهزم المشركون، فقال الناس: هزمهم سراقة. فلما بلغ ذلك سراقة قال: والله ما شعرت بمسيركم حتى تلقّتني هزيمتكم.
وقيل: إن قول الشيطان كان بطريق الوسوسة، وأن نكوصه مجاز عن بطلان كيده.
والأول هو التفسير الصحيح.(1/463)
{ إني أخاف الله } قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: "إني أرى ما لا ترون"، [ذُكِرَ لنا] (1) أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله في قوله: "إني أخاف الله" والله ما به مخافة الله، ولكنه علم أنه لا قوة له بهم (2) .
وقال عطاء: المعنى: إني أخاف الله أن يهلكني (3) .
قال ابن الأنباري (4) : لما رأى نزول الملائكة خاف أن تكون القيامة، فيكون انتهاء إنظاره، فيقع به العذاب.
{ والله شديد العقاب } من تمام الحكاية عن إبليس. وجائز أن يكون ابتداء كلام من الله تعالى.
أخرج مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيدالله بن كريز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر. فقيل: ما رأى من يوم بدر؟ قال: رأى جبريل يَزَعُ الملائكة" (5) . هذا حديث مرسل.
__________
(1) ... في الأصل: ذكرنا. والتصويب من زاد المسير (3/367).
(2) ... أخرجه الطبري (10/19)، وابن أبي حاتم (5/1716). وانظر: الوسيط (2/465-466)، وزاد المسير (3/367). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/79) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/466)، وزاد المسير (3/367).
(4) ... انظر: زاد المسير (3/367).
(5) ... أخرجه مالك (1/422 ح944).
... ويَزَعُ الملائكة: أي يُرَتِّبُهم ويُسَوِّيهم ويَصُفُّهم للحرب (اللسان، مادة: وزع).(1/464)
قوله تعالى: { إذ يقول المنافقون } قال ابن عباس: هم قوم من أهل المدينة من الأوس والخزرج (1) .
{ والذين في قلوبهم مرض } أي: شكٌ، وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا، فأخرجهم المشركون يوم بدر كرهاً، فلما رأوا قلة المسلمين ارتابوا في الدين وقالوا: { غرّ هؤلاء دينهم } .
وعدّهم مقاتل فقال (2) : [هم] (3) قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس (4) بن
الفاكه بن المغيرة، والوليد بن الوليد (5) بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعلي (6) بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والوليد بن عتبة بن ربيعة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/466)، وزاد المسير (3/367).
(2) تفسير مقاتل (2/22)، وليس فيه الحارث بن زمعة والعاص بن منبه، بل ذكر عمرو بن أمية بن سفيان بن أمية.
(3) ... في الأصل: لهم. والتصويب من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(4) كذا في الأصل وزاد المسير. وفي تفسير مقاتل: قيس بن الفاكه.
(5) ... في الأصل زيادة: والوليد. انظر: تفسير مقاتل (2/22)، وزاد المسير (3/368).
(6) كذا في الأصل وزاد المسير. وفي تفسير مقاتل: والعلاء.(1/465)
وروي عن ابن عباس والحسن أن الذين قالوا: { غر هؤلاء دينهم } : هم المشركون (1) .
وفي قوله عقيب ذلك جواباً لقولهم: { غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } إيذان بحسن نيات المسلمين في ذلك الموطن، وثقتهم بالاعتماد عليه في ذلك اليوم، وأن توكلهم على الله كان السبب الأقوى في استعلائهم على أعدائهم.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من سرّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله" (2) .
ِqs9ur تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
__________
(1) انظر: تفسير ابن عباس (ص:255)، وزاد المسير (3/368).
(2) أخرجه الحارث في مسنده (2/967 ح1070)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/364 ح986). وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/190)، والجرجاني في الكامل (7/106).(1/466)
وَأَن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ(1/467)
بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ اخحب
قوله تعالى: { ولو ترى } أي: لو شاهدت؛ لأن "لو" تَرُدُّ الفعل المضارع إلى معنى الماضي، كما تَرَدُّ "إن" الماضي إلى معنى الاستقبال.
{ إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } قرأ ابن عامر: "تتوفى" بتاءين، لتأنيث لفظ الملائكة، وقرأ الباقون بالياء والتاء (1) ؛ لأن التأنيث غير حقيقي، وللفصل بين الفعل والفاعل.
والمراد بالملائكة: مَلَكُ الموت وأعوانه، في قول مقاتل (2) .
وملائكة العذاب، في قول أبي سليمان الدمشقي (3) .
وحكى الماوردي (4) : أنهم الملائكة الذين نزلوا لنصر المسلمين يوم بدر.
والمراد بالتوفي على القول الأول: قبض أرواحهم.
وعلى القول الثاني: الاستيفاء والقبض، كما تقول: توفيتُ حقي واسْتوفيتُه؛ إذا قبضته (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/307)، والحجة لابن زنجلة (ص:311)، والكشف (1/493)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:307).
(2) ... تفسير مقاتل (2/23).
(3) ... زاد المسير (3/368).
(4) ... تفسير الماوردي (2/326).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: وفى).(1/468)
وعلى القول الثالث: قبض الأرواح أيضاً، لكنه إضافة الشيء إلى نفسه.
وقوله: { يضربون } حال من "الملائكة" (1) .
فإن قلنا: هم مَلَكُ الموت وأعوانه؛ فقد ورد في الأثر: أنهم يضربون الكافر عند الموت بسياط من نار (2) .
وإن قلنا: ملائكة العذاب، فقد ورد أنهم يَضربون وجوهَهم حين يتلقونهم يوم القيامة، وأدبارَهم حين يسوقونهم إلى النار (3) .
وإن قلنا: هم ملائكة النصر، فالمعنى: يضربون وجوه بعضهم يوم بدر وأدبار بعضهم (4) .
وقيل: يضربون وجوههم إذا أقبلوا للقتال، وأدبارهم إذا انهزموا (5) .
وقال ابن جريج: يضربون ما أقبل منهم وأدبر، يريد أجسادهم كلها (6) .
قال الحسن: قال رجل: يا رسول الله إني رأيت ظهر أبي جهل مثل الشراك. قال: ذلك ضرب الملائكة (7) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/8)، والدر المصون (3/427).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في: زاد المسير (3/369).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/369).
(4) ... الماوردي (2/326)، وزاد المسير (3/369).
(5) ... زاد المسير (3/368).
(6) ... انظر: زاد المسير (3/369).
(7) ... أخرجه الطبري (10/22).(1/469)
{ وذوقوا عذاب الحريق } عطف على "يضربون"، على إرادة القول، أي: ويقولون ذوقوا عذاب.
وقال الحسن: هذا يوم القيامة، يقول لهم خَزَنَةُ جهنم: ذوقوا عذاب الحريق (1) .
وقيل: كان مع الملائكة الذين نزلوا للنصر مَقَامِعُ (2) من حديد، كلما ضربوا التهبتْ في الجراحات، فذلك قوله: { وذوقوا عذاب الحريق } (3) .
وجواب "لو" محذوف، تقديره: لو ترى يا محمد ذلك لرأيت منظراً فظيعاً هائلاً (4) .
{ ذلك بما قدمت أيديكم } جائز أن يكون من تمام الحكاية عن كلام الملائكة لهم، وجائز أن يكون من كلام الله تعالى.
والمعنى: ذلك العذاب بما قدمت أيديكم، الآية سبق تفسيرها في أواخر آل عمران (5) ، والتي بعدها سبق تفسيرها في أوائل آل عمران (6) .
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى الذي حلّ بالكفار من الانتقام والأخذ، { بأن الله } أي: بسبب أن الله { لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم } فيُحوِّلهم
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/369) من قول مقاتل.
(2) ... المَقَامِعُ: سِياط من حديد رؤوسها معْوَجَّة (اللسان، مادة: قمع).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/466).
(4) ... انظر: الدر المصون (3/427).
(5) ... الآية رقم: (182).
(6) ... الآية رقم: (11).(1/470)
مما يحبون إلى ما يكرهون { حتى يغيروا ما بأنفسهم } فينتقلون من الحال الجميلة إلى الحال القبيحة، أو من الحال المرضية إلى الحال المسخوطة.
قال مقاتل (1) : هم أهل مكة أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ثم بَعَثَ فيهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يعرفوا المنعم عليهم، فغيّر الله ما بهم [من النِّعَم] (2) .
قال السدي: كذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فنقله إلى الأنصار (3) .
فإن قيل: ليت شعري من أين للقبط أو لمشركي مكة حال جميلة أو مرضية فغيروها؟
قلت: لعمري إنهم ما زالوا على حال سيئة مسخوطة، لكن ببعثة الرسول إليهم تبين لهم بطلان ما كانوا عليه، ووضح لهم صحة ما يدعوهم إليه، ولأجل ذلك وجب عليهم اتباعه، وهذه حالة جميلة ونعمة جليلة، فلما غيروها بملازمة ما كانوا عليه من الضلالة ومعاندة صاحب الرسالة، غيّر الله ما بهم، ونقلهم من النعم إلى النقم.
وقال الزمخشري (4) : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسل إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزَّبوا عليه،
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/23).
(2) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (10/24)، وابن أبي حاتم (5/1718). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/81) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) الكشاف (2/218).(1/471)
ساعين في إراقة دمه، غيّروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغيّر الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب.
قوله تعالى: { فأهلكناهم بذنوبهم } يعني: الأمم المكذبة، { وكل كانوا ظالمين } يعني: قتلى قريش وآل فرعون والذين من قبلهم.
¨bخ) شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اخذب
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { الذين عاهدت منهم } وهو بدل من قوله: { الذين كفروا } وهو بدل البعض من الكل (1) .
والمعنى: الذين عاهدت من الذين كفروا، فـ"مِنْ" على هذا للتبعيض (2) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/8)، والدر المصون (3/428).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/428).(1/472)
{ ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } قال ابن عباس وغيره: هم بنو قريظة، [عاهدوا] (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه الثانية فنكثوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق (2) ، ومنهم كعب بن الأشرف الذي كان يحرض أهل مكة ويبكي قتلى بدر (3) .
{ وهم لا يتقون } نقض العهد، ولا يخشون ما في ذلك من العار وعذاب النار.
{ فإما تثقفنهم في الحرب } تصادفنهم وتظفرنّ بهم في الحرب، وقد سبق في { فإما } في أوائل البقرة (4) .
{ فشرّد بهم من خلفهم } أي: فرّق بما تفعل بهم من التنكيل والعقوبة جَمْعَ مَنْ [وراءهم] (5) من أعدائك وناقضي عهدك (6) حتى لا يجسروا عليك.
وقرأ ابن مسعود: "فشرّذ" بالذال المعجمة (7) . قيل: هما بمعنى واحد.
__________
(1) ... في الأصل: عاهد.
(2) أخرج نحوه الطبري (10/25)، وابن أبي حاتم (5/1719)، ومجاهد (ص:266). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/372).
(3) قال أبو حيان في البحر المحيط (4/503): قال البغوي: من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم، بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيد قريظة.
(4) الآية: 38.
(5) في الأصل: وائهم.
(6) في هامش الأصل: عهودك.
(7) إتحاف فضلاء البشر (ص:238).(1/473)
وقال الزمخشري (1) : كأنه مقلوب "شذر"، من قولهم: شذر مذر.
$¨Bخ)ur تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ tûüدYح !$sƒّ:$# اخرب
قال المفسرون: الخوف هاهنا بمعنى: العلم (2) ، ويحتمل أن يجرى الخوف على أصله.
المعنى: { وإما تخافن من قوم } بينك وبينهم عهد { خيانة } تَبْدُ لك أمارتها وتظهر آياتها، { فانبذ } أي: فاطرح إليهم العهد ناقضاً له، { على سواء } والجار والمجرور في محل الحال (3) .
والمعنى: على عدل واستواء واتفاق منك ومنهم في العلم [بالنقض] (4) ، فلا تأخذهمْ غرة من غير أن تشعرهم بالنقض، فإن ذلك خيانة يأباها منصب الرسالة، وغدر لا يليق بسياسة الإيالة.
__________
(1) الكشاف (2/219).
(2) ... زاد المسير (3/373).
(3) ... انظر: التبيان (2/9)، والدر المصون (3/429).
(4) ... في الأصل: باتقض.(1/474)
{ إن الله لا يحب الخائنين } بنقض العهد وغيره من أنواع الخيانات.
قال ابن مسعود: كلُّ الخلال يطوف عليها المؤمن، إلا الخيانة والكذب (1) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (2) .
ںwur يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا
__________
(1) ... أخرج نحوه البيهقي في سننه (10/197)، والبيهقي في الشعب (4/207)، وابن أبي شيبة (5/236) كلهم عن سعد بن أبي وقاص.
(2) ... أخرجه البخاري (1/21 ح33)، ومسلم (1/78 ح59).(1/475)
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ادةب
قوله تعالى: { ولا تحسبن } وقرأ ابن عامر وحمزة: "يحسبن" بالياء، لما اكتنف ذلك من ألفاظ الغيبة، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره: لا يحسبن الكافرون أنفسهم سبقوا.
أو يكون المعنى: لا تحسبن محمد والسامع أن { الذين كفروا سبقوا } .
أو يكون التقدير: أن سبقوا، فحذف "أَنْ" كما في قوله: { ومن آياته يريكم البرق خوفاً } [الروم:24] فتسدّ "أَنْ" مسدّ [المفعولين] (1) ؛ كقوله: { أحسب الناس أن يتركوا } [العنبكوت:2].
وقيل: التقدير: لا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوماً.
وقيل: وقع الفعل على "إنهم لا يعجزون" على أنّ "لا" صلة، و"سبقوا" في محل الحال (2) ، يعني: سابقين أي: [مفلتين] (3) هاربين.
__________
(1) ... في الأصل: المفعلولين.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/429).
(3) ... في الأصل: مفلتتن. انظر: البحر المحيط (4/505).(1/476)
وقرأ الباقون: "تحسبن" بالتاء (1) ، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: "الذين كفروا سبقوا" مفعولا "حسب"، وهو الوجه الظاهر النير الذي لا تعسف فيه ولا تمحل. وحيث جاء هذا الحرف في القرآن: تحسبن، وتحسبهم، وتحسب، ويحسبون، وما جاء منه على صيغة الاستقبال، قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها (2) .
قال شيخنا أبو البقاء عبدالله بن الحسين اللغوي رحمه الله: فَعِلَ مثل عَلِمَ، فمستقبله يفعَل، بفتح العين، إلا أربعة أحرف: حَسِبَ يَحْسِب، ويَئِس يَيْئِس، وبَئِس يَبْئِس، والفتح في كلها جائز.
ومعنى { سبقوا } : فاتوا.
ثم استأنف فقال: { إنهم لا يعجزون } وفتح ابن عامر الهمزة على إضمار اللام وحذفها (3) ، أي: لأنهم لا يعجزون.
وقرأ ابن محيصن: "يُعْجِزُونِ" بكسر النون (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/305)، والحجة لابن زنجلة (ص:312)، والكشف (1/493)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:307).
(2) ... الحجة للفارسي (2/305)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:307).
(3) ... الحجة للفارسي (2/306-307)، والحجة لابن زنجلة (ص:312)، والكشف (1/494)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:308).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:238).(1/477)
قوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال السدي وابن قتيبة (1) : هو كل ما يتقوى به من سلاح وكُراع (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث عقبة بن الحارث بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي "ثلاثاً"" (3) .
واعلم أن هذا ليس على وجه حصر القوة في الرمي، إنما هو إعلام بما في الرمي من شدة النكاية في الحرب وحثٌ على تعاطيه، ولهذا قال عليه السلام: "ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا" (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة، ومن رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر" (5) .
قوله تعالى: { ومن رباط الخيل } أي: ما يُربط منها في سبيل الله، ويجوز أن يكون جمع ربيط؛ كفصيل [وفِصَال] (6) .
وقرئ "ومن رُبُط" بضم الراء والباء (7) ، وسكون الباء أيضاً (8) ، جمع رباط.
__________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:180). وانظر: زاد المسير (3/375).
(2) ... أخرجه الطبري (10/30).
... والكراع: اسم يجمع الخيل (اللسان، مادة: كرع).
(3) ... أخرجه مسلم (3/1522 ح1917).
(4) ... أخرجه الترمذي (4/174 ح1637).
(5) أخرجه الحاكم (2/132 ح2560).
(6) ... في الأصل: وفصائل. انظر: البحر المحيط (4/507).
(7) ... وهي قراءة الحسن وعمرو بن دينار وأبي حيوة. انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والبحر المحيط (4/507).
(8) ... وهي قراءة الحسن وأبي حيوة أيضاً. انظر: البحر المحيط (4/507)، والدر المصون (3/432).(1/478)
فإن قيل: الخيل من جملة القوة، فلم خُصَّتْ بالذِّكْر؟
قلت: للمعنى الذي ذكرته في الرمي، ألا ترى إلى قول الشاعر:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَها ... ... رِمَاحاً طِوَالاً وخَيْلاً ذُكُورا (1)
وسُئِلَ ابن سيرين عن رجل أوصى بثلث ماله في الحصون، فقال: يُشترى به الخيل ويغزى عليها. فقيل له: إنما أوصى في الحصون؟ فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
.......................... ... ... أَنّ الحُصونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرى (2)
قوله تعالى: { ترهبون به } وقرأتُ لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه، وليعقوب من رواية [رويس] (3) عنه: "تُرَهِّبُون" بتشديد الهاء وفتح الراء (4) . والمعنى: تخيفون به.
__________
(1) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:71)، ومشاهد الإنصاف (1/251)، وتهذيب اللغة (13/244)، والقرطبي (16/229)، والبحر المحيط (8/75)، والدر المصون (6/147).
(2) ... عجز بيت للجعفي، وصدره: (ولقد عَلِمْتُ على توقّي الرَّدى). انظر: اللسان، مادة: (حصن)، وروح المعاني (10/25).
(3) ... في الأصل: ريس. انظر: زاد المسير (3/375).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:238).(1/479)
{ عدو الله وعدوكم } يعني: أهل مكة وكفار العرب.
{ وآخرين من دونهم لا تعلمونهم } روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنهم كفرة الجن (1) ، فيكون الضمير في قوله: "ترهبون به" عائداً [على] (2) "رباط الخيل".
وجاء في الحديث: "إن الشيطان لا يخبل أحداً في داره فرس عتيق" (3) .
ويروى: أن صهيل الخيل يطرد الجن (4) .
وقال مجاهد ومقاتل (5) : يعني: قريظة (6) .
وقال السدي: هم فارس (7) .
__________
(1) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (5/1646). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/97) وعزاه لأبي الشيخ. وقد رجح هذا القول الطبري في تفسيره (10/32).
(2) ... زيادة على الأصل.
(3) ... أخرجه الحارث في مسنده (2/676)، وأبو الشيخ في العظمة (5/1646). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/97) وعزاه لسعد والحارث بن أبي أسامة وأبي يعلى وغيرهم.
(4) ... انظر: الطبري (10/32).
(5) ... تفسير مقاتل (2/25).
(6) ... أخرجه الطبري (10/31)، وابن أبي حاتم (5/1723). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/97) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
(7) ... أخرجه الطبري (10/31)، وابن أبي حاتم (5/1724). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/98) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/480)
وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم (1) ، لأنهم معكم يقولون: "لا إله إلا الله" (2) .
فإن قيل: نَفْيُ العلم عن المؤمنين بالعداوة في حق الجن والمنافقين ظاهر، فما وجه نفيه عنهم بالنسبة إلى اليهود وأهل فارس؟
قلت: أما اليهود فإنهم كانوا يخادعون المؤمنين ويظهرون لهم المواددة ويعاهدونهم، وكان همّ المسلمين منحصراً في مكافحة العرب ومحاربتهم ومناهدتهم.
وأما فارس فإنهم وإن كانوا أعداء لهم، غير أن بُعْد المسافة والاشتغال بالعدو المجاور، أغفل المؤمنين عن أن يتهيؤوا لهم، فأمر الله المؤمنين بالاستعداد لأعدائهم؛ إرهاباً لهم، ولمن في علمه سبحانه وتعالى أنهم بعَرَضِية أن يقاتلوا المؤمنين ويظهروا لهم المعاداة (3) .
__________
(1) ... قال الطبري (10/32): فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون؛ فما تنكر أن يكون عني بذلك المنافقون؟
... قيل: إن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم، وإنما كان يروعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرون من الكفر، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو، فأما من لم يرهبه ذلك فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون وقيل: "لا تعلمونهم"، فاكتفى للعلم بمنصوب واحد في هذا الموضع؛ لأنه أريد: لا تعرفونهم.
(2) ... أخرجه الطبري (10/32)، وابن أبي حاتم (5/1724). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/97) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.
(3) ... قال الطبري (10/32): قول من قال: عنى به الجن أقرب وأشبه بالصواب؛ لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله: { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كل عدو لله وللمؤمنين يعلمونهم. ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم؛ لعلمهم بأنهم مشركون وأنهم لهم حرب، ولا معنى لأن يقال وهم يعلمونهم لهم أعداء { وآخرين من دونهم لا تعلمونهم } ، ولكن معنى ذلك: إن شاء الله ترهبون بارتباطكم أيها المؤمنون الخيل عدو الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنساً آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم؛ لأن بني آدم لا يرونهم.(1/481)
ولما كانت النفوس في مظنة الشحّ حباً لاقتناء الأموال، وَعَدَهُمُ الله الخلف في العاجل والثواب في الآجل، فقال: { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون } .
أخرج مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوي ناصية فرس بإصبعه، وهو يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة" (1) .
وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شِبَعَه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" (2) .
ومات عقبة بن عامر عن سبعين فرساً في سبيل الله.
* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
__________
(1) ... أخرجه مسلم (3/1493 ح1872).
(2) ... أخرجه البخاري (3/1048 ح2698).(1/482)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِن حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ادجب
قوله تعالى: { وإن جنحوا للسلم } ، وقرأ أبو بكر عن عاصم: "للسِّلْم" بكسر السين (1) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/307)، والحجة لابن زنجلة (ص:312)، والكشف (1/494)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:308).(1/483)
قال الزجاج (1) : يقال: سَلَمٌ وسِلْمٌ وسَلَم، وهي تؤنث وتذكر، بفتح السين واللام بمعنى واحد.
والمعنى: إن مالوا إلى الصلح { فاجنح لها } كناية عن السِّلْم، وهي تؤنث وتذكر.
وقيل: كناية عن الفعلة.
فصل
اختلف المفسرون في المشار إليهم بقوله: { وإن جنحوا } فقال الحسن والأكثرون: هم المشركون (2) ، وهي منسوخة بآية السيف (3) .
وقال ابن السائب: هم قريظة (4) ، فتكون مُحْكَمة، إلا أن يراد الموادعة بغير جزية، فتكون منسوخة بآية الجزية (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/422).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/469)، وزاد المسير (3/376).
(3) ... وهي قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم ... } [التوبة:5]. انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:93-94)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:39)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:347-348).
... وذكر النحاس في ناسخه (ص:468) عن ابن عباس أن الناسخ لها: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } [محمد:35]. وذكره أيضاً عن قتادة وقال أنها نسخت بآية السيف. ثم قال: والقول في أنها منسوخة لا يمتنع؛ لأنه أمر بالإجابة إلى الصلح والهدنة بغير شرط، فلما قال الله: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } حظر الصلح والهدنة مع قوة اليد والاستعلاء على المشركين.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/469).
(5) ... وهي قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } [التوبة:29].
... انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:93-94)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:39)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:348-349).(1/484)
وقيل: إنها محكمة، وأن ذلك مَوْكُول إلى اجتهاد الإمام، فيعمل ما يراه من المصلحة لأهل الإسلام.
قوله تعالى: { وإن يريدوا } (1) يريد: بني قريظة { أن يخدعوك } بطلب الصلح حتى إذا أمكنتهم الفرصة وثبوا، { فإن حسبك الله } فهو يكفيك أمرهم ومكرهم، { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } أي: قوّاك بأسباب النصر من إنزال الملائكة وتثبيت قلوب أصحابك، وإلقاء الوهن في قلوب أعدائك وغير ذلك من الأسباب، { وألّف بين قلوبهم } أي: بين قلوب الأوس والخزرج بعد انطوائهم على الأحقاد والضغائن وإيقاد نَائِرَة (2) الحرب والفساد بينهم مائة وعشرين سنة، فَنَظَمَ الله تعالى لنصر نبيه ألفتهم وجَمَعَ لأجله كلمتهم، وما ذاك إلا بعض معجزاته الباهرة وآياته الظاهرة.
{ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم } ولا كان ذلك في طوقك ولا في طوق بشر، ولكن الله تعالى الذي لا رادّ لما قضاه، ولا ضادّ لما أمضاه، ألّف بين قلوبهم حتى اتفقوا على كلمة الإسلام ومعاداة من يخالفك من أهل الكتاب وعَبَدَة الأصنام.
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: خيانتك. وهو خطأ.
(2) ... نائرة الحرب: شرّها وهَيْجها (اللسان، مادة: نور).(1/485)
قال الزجاج (1) : وهذا من الآيات العظام، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى قوم أنفتُهم شديدة، ونصرة بعضهم لبعض، بحيث لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يُدركوا ثأره، فألّف الإيمان بين قلوبهم، حتى قاتل الرجل أخاه وابنه وأباه.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/423).(1/486)
يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ اددب
قوله تعالى: { يا أيها النبي حسبك الله } المعنى: توكل عليه وثِقْ به، فهو يكفيك أمر أعدائك.
قوله: { ومن اتبعك من المؤمنين } جائز أن يكون في موضع نصب عطفاً على تأويل الكاف من "حَسْبُكَ" (1) ، على معنى: يكفيك ويكفي أتباعك المؤمنين. قال الشاعر:
إذا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا ... ... فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ (2)
__________
(1) انظر: التبيان (2/10)، والدر المصون (3/433).
(2) البيت لم أعرف قائله. ونسبه في ذيل الأمالي (ص:140) لجرير. وقال في السمط (ص:899) نسبه القالي لجرير، وعليه العهدة. وانظر: شرح المفصل لابن يعيش (2/48)، ومعاني الفراء (1/417)، والقرطبي (8/42)، والرازي (15/191)، والبحر المحيط (4/511)، ولسان العرب، مادة: (حسب).(1/487)
وجائز أن يكون في موضع رفع، على معنى: حسبك الله وأتباعك المؤمنون.
والأول قول ابن عباس والأكثرين. والثاني قول مجاهد (1) .
وقال الثعلبي (2) : كل من خفض، عطفاً على الكاف في قوله: "حسبك الله".
قلت: وهذا قبيح عند النحاة؛ لأن عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع، وقد ذكرنا علته فيما مضى.
قوله تعالى: { يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال } أي: بالغ في حَثِّهم عليه، حتى تعلم من تخلَّف منهم عنه أنه حارض، أي: مقارب للهلاك، ومنه: { حتى تكون حَرَضاً } [يوسف:85]. هذا قول الزجاج (3) .
قال ابن عباس: حَرِّضهم على نصر دين الله (4) .
{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } هذا خارج مخرج البشارة، والإعلام بأن النصر [مقرونٌ] (5) بالصبر.
__________
(1) انظر قول ابن عباس ومجاهد في: زاد المسير (3/377).
(2) الثعلبي (4/370).
(3) معاني الزجاج (2/423-424).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/470).
(5) ... في الأصل: مقروناً.(1/488)
قال أكثر المحققين: صورته صورة الخبر، ومعناه: الأمر.
{ وإن يكن منكم مائة } قرأ أهل الكوفة:"يكن منكم" بالياء على الموضعين؛ نظراً إلى معنى المائة، ولتذكير المخاطبين، وافقهم أبو عمرو في الأولى (1) ، وقرأهما الباقون بالتاء؛ لتأنيث لفظ المائة (2) .
ولله [درّ] (3) أبي عمرو البصري ما كان أبصره بالعربية وأدراه بالمعاني وأحذقه في الدراية، وأصدقه في الرواية. ومن تلمّح سرّ اختياره التذكير في الموضع الأول لقوله: "يغلبوا" ولم يقل: "تغلب"، والتأنيث في الموضع الثاني لتأنيث الصفة وهي "صابرة" ولم يقل: "صابرون"، علم فوز ابن العلاء بالمعلّى من بين العلماء.
قوله تعالى: { بأنهم } أي: بسبب أن المشركين قومٌ جهلة، لا يُقاتلون رغبةً في الثواب ولا رهبةً من العقاب.
قال مجاهد: كان هذا التشديد يوم بدر (4) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة: وقرأ.
(2) ... الحجة للفارسي (2/307-308)، والحجة لابن زنجلة (ص:313)، والكشف (1/494)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:308).
(3) ... زيادة على الأصل. وقد ورد لفظ "أبي" مرفوعاً في الأصل.
(4) ... انظر: الطبري (8/44)، ومجاهد (ص:267)، والماوردي (2/332)، وزاد المسير (3/378).(1/489)
وقال ابن عباس: أمر الله الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار، فلما شقّ ذلك عليهم رحمهم فأنزل: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضَعْفاً } (1) .
قرأ عاصم وحمزة: "ضَعْفاً" بفتح الضاد، وضمها الباقون (2) ، وهما لغتان بمعنى. وقد ذكرنا نظائرها فيما سبق.
وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء لأبي جعفر يزيد بن القعقاع: "ضُعَفاءَ" بضم الضاد وفتح العين والمد والهمز، جمع ضعيف (3) .
وقرأتُ على أبي [عمرو] (4) عثمان بن مقبل الياسري للمُفَضَّل عن عاصم: "وعُلم" بضم العين، "ضُعفاء" مثل أبي جعفر، إلا أنه يرفع الهمزة على ما لم يُسمَّ فاعله (5) .
ثم بيّن ما به وقع التخفيف عنهم فقال: { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } . أي: بإرادته ومشيئته، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1707)، والنحاس في ناسخه (ص:470)، والبيهقي في سننه (9/76)، والطبري (10/39)، وابن أبي حاتم (5/1728). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/102) وعزاه للبخاري والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(2) ... الحجة للفارسي (2/308)، والحجة لابن زنجلة (ص:313)، والكشف (1/495)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:238)، والسبعة في القراءات (ص:308-309).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:238-239).
(4) ... زيادة على الأصل. انظر ترجمته في: المقصد الأرشد (2/202-203).
(5) ... انظر: زاد المسير (3/378).(1/490)
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبد الصمد بن عبد الرزاق السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الهروي، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر بن محمد بن الداودي، أخبرنا أبو محمد عبدالله بن حمويه بن أحمد بن يوسف بن أعين السرخسي، أخبرنا أبو عبدالله محمد بن يوسف بن مطر الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا جرير بن حازم (1) ، أخبرني الزبير [بن] (2) خِرِّيت (3) ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لما نزلت: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم" (4) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.
__________
(1) ... جرير بن حازم بن عبد الله بن شجاع الأزدي ثم العتكي، وقيل: الجهضمي، أبو النضر البصري. كان ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره، مات سنة سبعين (تهذيب التهذيب 2/60-62، والتقريب ص:138).
(2) ... زيادة من الصحيح (4/1707).
(3) ... الزبير بن خِرِّيت البصري، من أهل البصرة، وثقه ابن معين وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب 3/270، والتقريب ص:214، والثقات 6/332).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1707ح4376).(1/491)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ادزب
قوله تعالى: { ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: "لما كان يوم بدر التقوا فهزم الله المشركين، وقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون رجلاً، استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن(1/492)
تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يهوَ ما قلتُ، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد قال عمر بن الخطاب: غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وإذا هما يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة، فأنزل الله تعالى: { ما كان لنبي أن تكون له أسرى } إلى قوله: { لولا كتاب من الله سبق ... الآية } " (1) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي حديث آخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لَيُلَيِّنُ قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: { فمن تبعني فإنه مني
__________
(1) ... أخرجه مسلم (3/1385 ح1763)، وأحمد في مسنده (1/30).(1/493)
ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [إبراهيم:36]. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [نوح:26]" (1) .
قرأ أبو عمرو: "أن تكون" بالتاء، لتأنيث لفظ "الأسرى"، وقرأ الباقون بالياء (2) ، لتذكير معناه كما سبق.
قرأ أبو جعفر [والمُفَضَّل] (3) عن عاصم فيما قرأته لهما: "له أُسَارى" بضم الهمزة فيهما وإثبات ألف بعد السين، وافقهما أبو عمرو وأبان عن عاصم في الموضع الثاني، الباقون بفتح الهمزة من غير ألف (4) .
قال الزجاج (5) : والإِثْخَانُ في كل شيء: قوة الشيء وشدته. يقال: قد أَثْخَنَهُ المرض؛ إذا اشتدت قوته عليه (6) .
والمعنى: ما يصلح وما ينبغي لنبي أن يحبس أعداء الله وأعداء دينه للمنّ والفداء والاسترقاق حتى يبالغ في قتلهم وإذلالهم وإيقاع الرهب في قلوبهم بالفتك فيهم.
{ تريدون عَرَضَ الدنيا } وهو الفداء.
__________
(1) ... أخرجه أحمد في مسنده (1/383).
(2) ... الحجة للفارسي (2/309)، والحجة لابن زنجلة (ص:313)، والكشف (1/495)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:239)، والسبعة في القراءات (ص:309).
(3) ... في الأصل: والفضل. وقد سبق صوابه قبل قليل كما أثبتناه.
(4) ... الحجة للفارسي (2/309)، والحجة لابن زنجلة (ص:314)، والكشف (1/495)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:239)، والسبعة في القراءات (ص:309).
(5) ... معاني الزجاج (2/425).
(6) ... انظر: اللسان، مادة: (ثخن).(1/494)
قال قتادة: كان هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة آلاف أربعة آلاف (1) .
{ والله يريد الآخرة } قال ابن عباس: يريد لكم الجنة (2) . فالمعنى: يريد لكم ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام وإذلال الأصنام، { والله عزيز } فاحذروا انتقامه { حكيم } فاتبعوا أحكامه، وهذا كان يوم بدر كما ذكرناه.
فلما استفحل سلطان الإسلام وظهر أمر الله وضرب الدين بجِرانه (3) أذن الله لهم في المنّ والفداء فقال: { فإما مناً بعد وإما فداء } [محمد:4].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، وإنما كانت تنزل نار من السماء فتأكلها. فلما كانت يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } " (4) .
وفي معنى الكلام أقوال:
أحدها: لولا ما سبق في اللوح المحفوظ من إحلال الغنائم لكم، لَمَسَّكُم فيما تعجلتم وأخذتم يوم بدر قبل الإذن لكم في ذلك عذاب عظيم. وهذا قول ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة (5) ، وإليه ذهب مقاتل (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/43). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/109) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/472)، وزاد المسير (3/381).
(3) ... أي: قَوِيَ الدِّينُ واسْتَقَرَّ (انظر: اللسان، مادة: جرن).
(4) أخرجه الترمذي (5/271 ح3085).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1734). وانظر: الطبري (10/44)، وزاد المسير (3/381).
(6) ... تفسير مقاتل (2/28).(1/495)
الثاني: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب من أتى ذنباً على جهالة، لَمَسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم. رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد (1) .
الثالث: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أنه لا يعذبهم، -وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (2) -. قاله الحسن وسعيد بن جبير (3) .
الرابع: لولا كتاب من الله سبق، وهو ما اشتمل عليه القرآن من التجاوز عن الصغائر. حكاه الماوردي (4) .
أنبأنا أبو علي بن عبدالله بن الفرج أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس قال: "استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في الأسارى يوم بدر فقال: إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (5/1735). وانظر: الطبري (10/47)، وزاد المسير (3/381-382). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/110) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) أخرجه البخاري (3/1095 ح2845)، ومسلم (4/1941 ح2494).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1735). وانظر: الطبري (10/46)، والماوردي (2/332)، وزاد المسير (3/382). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/110) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن سعيد بن جبير.
(4) تفسير الماوردي (2/333).(1/496)
عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام [عمر] (1) فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفوَ عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه من الغمّ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله عز وجل: { لولا كتاب من الله سبق... الآية } " (2) .
قال المفسرون: لم يكن أحد يوم بدر إلا أحبّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعد بن معاذ. أما عمر فكان لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم؟! نحن قوم نجاهد في سبيل الله (3) .
وأما سعد بن معاذ؛ فقال ابن إسحاق: "لما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحاً بالسيف في نفر من الأنصار رضي الله عنهم يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفاً عليه من كَرَّة العدو، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه سعد بن معاذ الكراهية، فقال: يا سعد، لكأنك تكره ما يصنع الناس؟ فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من
__________
(1) زيادة من مسند أحمد (3/243).
(2) أخرجه أحمد (3/243 ح13580).
(3) أخرجه الطبري (10/48) عن ابن زيد. وانظر: الوسيط (2/472).(1/497)
استبقاء الرجال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ" (1) .
قال مجاهد: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: "كاد يصيبنا في خلافك بلاء" (2) .
قال أهل التفسير: فلما نزل هذا تحرجوا حينئذ من الغنائم، فأنزل الله: { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } (3) .
قال الزجاج (4) : الفاء للجزاء، والمعنى: قد أحللت لكم الغنائم فكلوا. وقد سبق في البقرة "حلالاً طيباً".
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة أنه قال: "لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا، ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا" (5) .
{ واتقوا الله } فلا تجترؤوا على ما لم يأذن لكم فيه، { إن الله غفور رحيم } قال ابن عباس: غفر لكم ما أخذتم من الفداء، ورحمكم لأنكم أولياؤه (6) .
__________
(1) ذكره الطبري في تاريخه (2/34)، وابن هشام في سيرته (3/176).
(2) أخرجه الحاكم (2/359 ح3270).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/473).
(4) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر: زاد المسير (3/382).
(5) ... أخرجه مسلم (3/1366 ح1747).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/473).(1/498)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اذتب
قوله تعالى: { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } قال أهل التفسير: لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأسارى المدينة، وفيهم العباس بن عبدالمطلب وعقيل، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، ولم يبلغه النَّوْبَة في الإطعام، فأخذت منه في الحرب، فكلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتسب بها من فدائه، فأبى وقال: شيء خرجت(1/499)
تستعين به علينا لا أتركه لك، وألزمه بفداء ابني أخيه عقيل ونوفل ثمانين أوقية من ذهب، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية (1) .
وقال محمد بن سيرين: كان فداء كل أسير مائة أوقية، والأوقية أربعون درهماً (2) .
وقال العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تركت عمك يتكفف قريشاً ما عاش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وأين الذهب الذي تركته عند أم الفضل، فقلت لها: ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبدالله والفضل ولقثم" يعني: بنيه، فقال: يا ابن أخي وما يدريك؟ فقال: "أخبرني به ربي عز وجل". فقال العباس: أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع على هذا أحد سوى الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل. فأسلم، وأمر ابني أخيه فأسلما. وأنزل الله تعالى هذه الآية (3) .
وروي عن ابن عباس: أنها نزلت في جميع من أُسِرَ يوم بدر (4) .
وقال ابن زيد: لما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجال فقالوا: [لولا] (5) أنا نخاف القوم لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فلما كان
__________
(1) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:245)، وفي الوسيط (2/473)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/383).
(2) ... أخرجه الطبري (10/46) من طريق ابن سيرين عن عبيدة.
(3) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:245)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/383).
(4) ... أخرجه الطبري (10/49)، وابن سعد في الطبقات (4/15). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/383)، والسيوطي في الدر المنثور (4/113) وعزاه لابن سعد وابن عساكر.
(5) ... في الأصل: لا. والمثبت من مصادر التخريج.(1/500)
يوم بدر قالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستحللنا ماله، فخرج أولئك القوم، فقتلت طائفة وأسرت طائفة. فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله فيهم: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [النساء:97]، وأما الذين أُسِروا فقالوا: يا رسول الله، أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفاً منهم، فذلك: { قل لمن في أيديكم من الأسارى } إلى قوله: { عليم حكيم } (1) .
قوله تعالى: { إن يعلم الله في قلوبكم خيراً } يعني: صدقاً وإيماناً { يؤتكم خيراً مما أُخِذَ منكم } .
وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة: "أَخَذ" بفتح الهمزة والخاء (2) ، يعني: أكثر مما أخذ منكم من الفداء وأحل وأطيب.
قال العباس رضي الله عنه: فأعطاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني عشرين عبداً كلهم يضرب بمال كثير، وأدناهم من يضرب بعشرين ألف درهم، وأنا أرجو المغفرة من ربي (3) .
أخرج البخاري في صحيحه تعليقاً من حديث أنس بن مالك قال: "أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به
__________
(1) ... أخرجه الطبري (5/236). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/383)، والسيوطي في الدر المنثور (2/648) وعزاه لابن جرير.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:239).
(3) ... أخرجه الطبري (10/49). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:245)، والوسيط (2/473). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/112) وعزاه لأبي نعيم في الدلائل.(1/501)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله! إني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً، فقال: خذ. فحثا في ثوبه، ثم ذهب لِيُقِلَّهُ (1) فلم يستطع. فقال: مُرْ بعضهم يرفعه عليّ، قال: لا. قال: فارفعه أنت عليّ، قال: لا، فنثر منه، ثم ذهب ليقله فلم يستطع، فقال: مُرْ بعضهم يرفعه عليّ، قال: لا. قال: فارفعه أنت عليّ، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله على كاهله ثم انطلق، فما زال يُتبعه بصره حتى خفي علينا عجباً من حرصه، فما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثمّ منه درهم واحد" (2) .
قوله تعالى: { وإن يريدوا خيانتك } يعني: نكث ما عاهدوك عليه من الإسلام بالعود إلى الكفر { فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } يوم بدر قتلاً وأسراً.
وعلى قول ابن زيد: يكون المعنى: فقد خانوا الله من قبل بخروجهم مع المشركين (3) .
¨bخ) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
__________
(1) أَقَلَّ الشيء يُقِلُّه واستقلَّه يستقلُّه: إِذا رفعه وحمله (اللسان، مادة: قلل).
(2) أخرجه البخاري تعليقاً (1/162 ح411).
(3) زاد المسير (3/384).(1/502)
اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اذثب
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا } أي: هجروا أوطانهم وأهلهم وأموالهم { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } ونصرة دينه، { والذين آووا ونصروا } يعني: الأنصار آووا المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم(1/503)
ونصروهم على أعدائهم، { أولئك بعضهم أولياء بعض } في المعاضدة والمناصرة.
وقيل: في الميراث.
قال المفسرون: فكان المهاجرون يتوارثون بالهجرة دون القرابة، وهو معنى قوله: { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ، ثم نسخ ذلك بقوله: { وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } (1) .
قرأ حمزة: "من وِلايتهم من شيء" بكسر الواو، وافقه الكسائي في الكهف، وفتحها الباقون (2) .
قال ابن الأنباري (3) : الوَلاية -بالفتح-: مصدر الوَليّ، وبالكسر: مصدر الوالي، يقال: وَلِيٌّ بَيِّن الوَلاية، ووالٍ بَيِّن الوِلاية، ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا.
وقال أبو عبيدة (4) : الوَلاية للخالق، والوِلاية -بالكسر- للمخلوق.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/51-52). وانظر: الوسيط (2/474). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/114) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. وانظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:474-475)، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:95)، ونواسخ القرآن (ص:353-356).
(2) ... الحجة للفارسي (2/310)، والحجة لابن زنجلة (ص:314)، والكشف (1/497)، والنشر (2/277)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:239)، والسبعة في القراءات (ص:309).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/385).
(4) ... ذكر أبو عبيدة في مجاز القرآن (1/251) عند قوله: { من ولايتهم } : إذا فتحتها فهي مصدر المَوْلى، وإذا كسرتها فهي مصدر الوالي الذي يلي الأمر، والمَوْلَى والمُوْلَى واحد. وانظر نص المصنف في: زاد المسير (3/385).(1/504)
وقال يونس النحوي: الوَلاية -بالفتح- لله عز وجل، والوِلاية: من وليت الأمر (1) .
وقيل: هما بمعنى واحد كالوَكالة والوِكالة.
{ وإن استنصروكم في الدين } يعني: الذين آمنوا ولم يهاجروا { فعليكم النصر } أي: فواجب عليكم نصرهم والذبّ عنهم لكونهم مؤمنين، { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي: عهد، فلا تنصروهم عليهم لما في ذلك من الغدر والنقض.
tûïد%©!$#ur كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ اذجب
قوله تعالى: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } قال ابن عباس: في الميراث (2) .
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/385).
(2) ... أخرجه الطبري (10/56)، وابن أبي حاتم (5/1740). وانظر: تفسير الماوردي (2/335)، وزاد المسير (3/386). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/116) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/505)
وقال قتادة: في النصرة (1) .
وليس هذا على وجه الحكم عليهم بذلك، كما في الآية التي قبلها، وإنما هو نهي للمؤمنين عن موالاتهم ومناصرتهم.
{ إلا تفعلوه } أي: تفعلوا ما أمرتكم به من الموالاة والمعاضدة والميراث ومصارمة الكفار، وقطع ما بينكم وبينهم من المودة والقرابة، وغير ذلك من أسباب الوصل، { تكن فتنة في الأرض } أي: ضلال وشرك، { وفساد كبير } أي: عظيم.
وقرأ أبو هريرة وابن سيرين وابن السميفع: "كثير" بالثاء (2) ، وبها قرأت على شيخنا أبي البقاء للكسائي من رواية الشيزري عنه.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/55). وانظر: الماوردي (2/335)، وزاد المسير (3/386).
... وهذا القول هو الذي اختاره الطبري (10/56) وقال: وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة؛ لأن المعروف في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين، أو ابن العم والنسيب. فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده، وذلك معنى بعيد؛ وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
(2) ... انظر: زاد المسير (3/386).(1/506)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اذخب(1/507)
قوله تعالى: { أولئك هم المؤمنون حقاً } أي: حققوا إيمانهم وصدقوه بالعمل بمقتضاه وفعل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، والرزق الكريم: الحسن. وهذه الآية ثناء عليهم، والتي قبلها أمر لهم بالتواصل والتناصر، فلا تكرار.
قوله: { والذين آمنوا من بعد } يريد اللاحقين بالسابقين إلى الهجرة.
قال ابن عباس: هم الذين هاجروا بعد الحديبية (1) .
{ فأولئك منكم } في الموالاة وغيرها، { وأولوا الأرحام } يعني: القرابات { بعضهم أولى ببعض } في الميراث.
قال المفسرون: وهذا نسخ لما كانوا يتوارثون به من الهجرة والمؤاخاة (2) .
وقد استدل علماؤنا بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والشافعي: لا يرثون.
وقد روى الإمام أحمد بإسناده: "أن أبا عبيدة كتب إلى عمر رضي الله عنه في رجل قتل ولا وارث له إلا خال، فكتب إليه عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له" (3) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/474)، وزاد المسير (3/387).
(2) ... مثل السابق.
(3) أخرجه الترمذي (4/421 ح2103)، وابن ماجه (2/914 ح2737)، وأحمد (1/28 ح189).(1/508)
ولأن ذوي الأرحام ساووا المسلمين في الإسلام وامتازوا بقرابة الرّحم فوجب تقديمهم.
فصل
وميراثهم عند الإمام أحمد رضي الله عنه بالتنزيل، فإذا مات عن بنت بنت وبنت أخت، فلكل واحد منهما النصف، ويرث الأبعد مع الأقرب إذا كانا من جهتين.
مثاله: (خالة وبنت عمة): للخالة الثلث، والباقي لبنت العمة.
وقال أكثر المنزلين: المال للأقرب، وهي الخالة، كما لو كانا من جهة واحدة.
وهل يستوي بين الذكور والإناث في الميراث؟ فيه عن إمامنا روايتان:
إحداهما: يسوّى بينهم؛ لأنهم يرثون بالرحم المحض، فلا يفضل الذكر على الأنثى كالإخوة من الأم.
والأخرى: يفضل الذكر على الأنثى، وبها قال أبو حنيفة وأصحابه.
والمراد بقوله { في كتاب الله } : اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن، فأتى فيه قسمة الموارث، وقيل: في حكمه وقسمته.
{ إن الله بكل شيء } مما خلق وفرض وحدّ { عليم } .(1/509)
سورة براءة
ijk
وهي مائة وثلاثون آية، وقيل: مائة وتسعة وعشرون آية. والكلام عليها تحصره فصول:
الأول: في أسمائها:
وهي تسعة أسماء: براءة والتوبة، وهما مشهوران.
الثالث: سورة العذاب. قاله حذيفة (1) .
الرابع: سورة البَحوث؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين. قاله المقداد (2) .
الخامس: المُقَشْقِشَة؛ لأنها تبرئ من مرض الشك والنفاق، من قولك: تَقَشْقَشَ المريض؛ إذا برأ (3) .
قال الأصمعي: وكان يقال لـ { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } المقشقشتان؛ لأنها تبرئان من النفاق (4) .
قال أبو عبيدة (5) : كما يُقَشْقِشُ الهِنَاءُ (6) الجَرَبُ فَيُبْرِئُه. قاله ابن عمر (7) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم (2/361)، وابن أبي شيبة (6/152)، والطبراني في الأوسط (2/85-86). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/120) وعزاه لابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/129)، والبيهقي في سننه (9/21).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (قشش).
(4) ... انظر: القرطبي (20/225).
(5) ... مجاز القرآن (1/6).
(6) ... الهِنَاءُ: ضَرْبٌ من القَطِران (اللسان، مادة: هنأ).
(7) ذكره السيوطي في الدر (4/121) وعزاه لأبي الشيخ وابن مردويه.(1/510)
السادس: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين. قاله ابن عباس (1) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: "هي الفاضحة، ما زالت تقول: ومنهم [ومنهم] (2) ، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها" (3) .
السابع: المثيرة. قاله قتادة (4) ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين.
الثامن: المبعثرة. قاله ابن إسحاق (5) . ومعناه قريب من الذي قبله.
التاسع: الحافرة؛ لأنها حفرت عما في ضمائرهم (6) .
الفصل الثاني:
ذهب عامة أهل العلم إلى أنها مدنية، وأنها من أواخر ما نزل من القرآن (7) ، نزلت في سنة تسع.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/171)، وابن أبي حاتم (6/1829) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/120) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وذكره السيوطي أيضاً (4/229) من طريق قتادة، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... زيادة من الصحيحين.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1852 ح4600)، ومسلم (4/2322 ح3031).
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1829). وذكره السيوطي في الدر (4/229) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(5) ... الماوردي (2/336). وذكره السيوطي في الدر (4/121) وعزاه لابن المنذر.
(6) ... زاد المسير (3/389).
(7) ... قال السيوطي في الإتقان (1/48): قال ابن الغرس: مدنية إلا آيتين: { لقد جاءكم رسول ... } إلى آخرها.
... قلت -يعني السيوطي-: غريب، كيف ورد أنها آخر ما نزل واستثنى بعضهم { ما كان للنبي ... الآية } لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب : "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك".(1/511)
ويروى: أن أعرابياً سمع قارئاً يقرؤها فقال: أحسبها من آخر ما نزل. فقيل له: من أين علمت هذا؟ فقال: أسمع عهوداً تنبذ، ووصايا تنفذ.
وقد ذكرنا في مقدمة الكتاب حديثاً مسنداً صحيحاً في بيان صحة هذا المعنى.
الفصل الثالث: في سبب نزولها
ذكر محمد بن إسحاق وغيره من أهل العلم بالتفسير والسير: أنه لما انتظم الصلح بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سهيل بن عمرو عام الحديبية كتبوا: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبدالله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع [الحرب] (1) عشر سنين (2) [يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه لا إِسْلال ولا
إِغْلال (3) ، وأن بيننا عَيْبَةٌ مَكفوفة (4) ، وأنه من أحبَّ أن يدخل في عهد محمد
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (3/400).
(2) ... من هنا سقط عدة لوحات من الأصل وذلك إلى قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ... الآية } . وقد استدركنا بقية الأثر من زاد المسير (3/400).
(3) ... الإسلال: السرقة الخفية (اللسان، مادة: سلل).
... والإغلال: الخيانة (اللسان، مادة: غلل).
(4) ... العيبة: ما يجعل فيه الثياب. والعيبة المكفوفة: قال ابن الأعرابي: معناه: أن بيننا وبينهم في هذا الصلح صَدْراً مَعْقُوداً على الوفاءِ بما في الكتاب، نَقِيّاً من الغِلِّ والغَدْرِ والخِداعِ. والمَكْفُوفةُ: المُشرَجَة المَعْقُودة. والعربُ تَكني عن الصُّدُور والقُلُوب التي تَحْتوي على الضمائر المُخْفاةِ: بالعِيابِ. وذلك أَن الرجلَ إِنما يَضَعُ في عَيْبَته حُرَّ مَتاعِه، وصَوْنَ ثيابه، ويَكتُم في صَدْرِه أَخَصَّ أَسراره التي لا يُحِبُّ شُيوعَها، فسُمِّيت الصدور والقلوبُ عِياباً؛ تشبيهاً بعِياب الثياب (اللسان، مادة: عيب).(1/512)
وعقده فَعَل، ومن أحبَّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فَعَل، وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليّه رَدَّه إليه، وأنّه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يَرُدُّوه، وأنّ محمداً يرجع عنا عامه هذا وأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القُرُب (1) ، فوثبت خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشاً أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح، فبيتوا خزاعة ليلاً فقتلوا منهم عشرين رجلاً، ثم إن قريشاً ندمت على ما صنعت، وعلموا أن هذا نقض للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم، وكانت غزاة الفتح] (2) .
__________
(1) ... القُرُب: جمع، واحده: قِراب، وهو: غِمْدُ السيف والسكين (اللسان، مادة: قرب).
(2) ... ما بين المعكوفين استدرك من زاد المسير (3/400).(1/513)
[عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم قال: خرجت مع شداد بن أوس فنزلنا مرج الصفر، فقال: ائتوني بالسفرة نبعث بها، فكان القوم يحفظونها منه، فقال: يا بني أخي، لا تحفظوها عني، ولكن احفظوا مني ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا اكتنز الناس الدنانير والدراهم، فاكتنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد] (1) وأسألك شكر نعمتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك لساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" (2) .
¨bخ) عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من صحيح ابن حبان (3/215-216).
(2) أخرجه ابن حبان (3/215-216)، وابن أبي شيبة (6/46)، والحاكم في المستدرك (1/688).(1/514)
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ اجدب
قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } قال الزجاج (1) : أعلم الله عز وجل أن عدة شهور المسلمين التي تُعُبِّدُوا بأن يجعلوها لسَنَتِهم اثنا عشر شهراً على منازل القمر، واستهلال الأهلة.
{ في كتاب الله } وهو اللوح المحفوظ.
قال ابن عباس: هو الإمام، الذي عند الله كتبه (2) .
{ يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } وقد ذكرناها عند قوله: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } .
{ ذلك الدين القيم } قال ابن عباس: القضاء المستقيم (3) .
وقال ابن قتيبة (4) : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي.
{ فلا تظلموا فيهن } أي: في الأشهر الحرم { أنفسكم } .
__________
(1) معاني الزجاج (2/445-446).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/494)، وزاد المسير (3/432).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1792). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/184) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) تفسير غريب القرآن (ص:185).(1/515)
قال قتادة: الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً (1) .
وقال ابن إسحاق: المراد بالظلم فيهن: فعل الشيء، وهو تحليل شهرٍ محرّم وتحريم شهرٍ محلّل (2) .
وقال مقاتل (3) : المعنى: لا تظلموا أحداً بالقتال في الشهر الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتل.
وقد ذكرنا في البقرة أن تحريم بداية مشركي العرب بالقتال في الشهر الحرام منسوخ عند أكثر العلماء.
وقيل: المعنى: لا تظلموا فيهن أنفسكم بترك قتال الكفار (4) .
وقد روي عن ابن عباس: أن الضمير في قوله: { فلا تظلموا فيهن } يعود إلى قوله: { اثنا عشر شهراً } (5) .
والأول اختيار أكثر اللغويين والمفسرين.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/127)، وابن أبي حاتم (6/1793). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/187) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... أخرج نحوه الطبري (10/127)، وابن أبي حاتم (6/1793). وانظر: الوسيط (2/494).
(3) ... تفسير مقاتل (2/46).
(4) ... وهو قول ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. انظر: الماوردي (3/360)، وزاد المسير (3/434).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1792). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/433)، والسيوطي في الدر المنثور (4/187) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/516)
وقال ابن الأنباري (1) : العرب تعد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه، والقلة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة ما جاوز العشرة. يقولون: وجهت إليك أكبشاً فاذبحهن، وكباشاً فاذبحها، فلذلك قال: { منها أربعة حُرُم } ، وقال: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } لأنه يعني بقوله: "فيهن": الأربعة الأشهر (2) .
ومن قال أن الضمير في "فيهن" يعود إلى قوله: "اثنا عشر" فإنه ممكن؛ لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل.
قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كافة } يعني: جميعاً، ونصبه على الحال من الفاعل، أو المفعول (3) . والأول أظهر.
ثم ضمن لهم النصر بشرط التقوى فقال: { واعلموا أن الله مع المتقين } .
$yJ¯Rخ) النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/433).
(2) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (3/434): السرّ في أنّ الله تعالى عظّم بعض الشهور على بعض؛ ليكون الكفّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها، تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعاً.
(3) ... انظر: التبيان (2/15)، والدر المصون (3/462).(1/517)
عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ اجذب
قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر } قرأتُ لأبي جعفر ولأبي عمرو من رواية فرج عن اليزيدي: "النَّسِيُّ" بالتشديد من غير همز (1) .
قال الزمخشري (2) : النسيء مصدر نسأه؛ إذا أخّره (3) ، يقال: نَسَأَهُ نَسْأً ونَساءً ونًسيئاً؛ كقولك: مَسَّهُ مَسّاً ومِسَاساً ومَسِيساً (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/323)، والنشر (1/405)، والكشف (1/502)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:242)، والسبعة في القراءات (ص:314).
(2) الكشاف (2/258).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (نسأ).
(4) ... انظر: اللسان، مادة: (مسس).(1/518)
وقال الجوهري (1) وغيره: هو فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نَسَأْتُ الشَّيْءَ فهو مَنْسُوءٌ؛ إذا أَخَّرْتَهُ، ثم صرفوا منسوءاً إلى نَسِيءٍ، كما صرفوا مقتولاً ومجروحاً إلى قتيل وجريح.
وقيل: نَسَأْتُ الشَّيْءَ نَسْأً؛ إذا أَخَّرته، وكذلك أَنْسَأْتُهُ (2) .
واختلفوا في أصل الكلمة؛ فذهب الأكثرون إلى أنها من التأخير.
قال الأخفش (3) : ومنه: النسيء في البيع، ويُقال: أَنْسَأَ الله في أَجَلك.
وقال قطرب: هو من الزيادة، فكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء، وقال: ومنه: قد نَسَأْتُ الناقة وَأَنْسَأْتُها؛ إذا زَجَرْتَها ليزداد سَيْرُها.
والأول أظهر وأشهر.
قال ابن عباس وقتادة وعامة المفسرين واللغويين: كانت العرب تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل، وكانوا ربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر فيؤخرونه إلى الشهر الذي بعده، ثم كذلك حتى يستدير التحريم على السنة كلها (4) .
فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم؛ لأنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال.
__________
(1) ... الصحاح (1/77).
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (نسأ).
(3) ... انظر: معاني الأخفش (ص:210).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/494)، وزاد المسير (3/435).(1/519)
وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" (1) ، أي: رجع التحريم إلى الشهور الأربعة، وبطل أمر النسيء، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في الموسم.
قال الفراء (2) : كانت العرب في الجاهلية إذا [أرادوا] (3) الصَّدر عن منى، قام رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة -وكان رئيس الموسم-، يقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، ولا يُردّ لي قضاء، فيقولون: [صدقت] (4) ، أَنْسِئْنا شهراً، يريدون: أخِّر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، [وأحِلَّ المحرم] (5) ، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي الأشهر الثلاثة، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وكانت عامة معيشتهم من الغارات.
قوله تعالى: { يضل به الذين كفروا } أي: بالنسيء.
واختلف القراء في "يُضَلُّ" فقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بضم الياء وفتح الضاد على ما لم يُسَمَّ فاعله.
وقرأتُ لجماعة، منهم يعقوب الحضرمي: بضم الياء وكسر الضاد (6) .
وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد (7) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1168 ح3025)، ومسلم (3/1305 ح1679).
(2) ... معاني الفراء (1/436-437).
(3) ... في الأصل: أراد. والتصويب من معاني الفراء (1/436).
(4) ... زيادة من معاني الفراء، الموضع السابق.
(5) ... زيادة من معاني الفراء (1/437).
(6) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:242).
(7) ... الحجة للفارسي (2/324)، والحجة لابن زنجلة (ص:318-319)، والكشف (1/502-503)، والنشر (2/279)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:242)، والسبعة في القراءات (314).(1/520)
فعلى القراءة الأولى والثالثة: "الذين كفروا" في موضع رفع. وعلى القراءة الثانية: جائز أن يكون في موضع رفع، على معنى: يضلون به أتباعهم. وجائز أن يكون في موضع نصب، على معنى: يضل الله، أو يضل الشيطان به الكفار.
{ يحلونه عاماً } قال ابن عباس: إذا قاتلوا فيه أحلّوه وحرّموا مكانه صَفَر، وإذا لم يقاتلوا فيه حرَّموه (1) .
{ ليواطئوا عدة ما حرم الله } المواطأة: المماثلة والموافقة على الشيء. يقال: أوطأت فلاناً على كذا؛ إذا وافقته عليه (2) ، فالمعنى: ليوافقوا عدة ما حرَّم الله، فلا يَخرجون من تحريم أربعة أشهر، ويقولون: هي بمنزلة الحرم.
{ فيحلوا } بهذه المواطأة { ما حرم الله } .
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/495).
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (وطأ).(1/521)
إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ(1/522)
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ احةب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } قال المفسرون: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغزوة تبوك -وكان زمن عسرة وجدب وحَرّ شديد- كرهوا ذلك إيثاراً للثمر والظلال، وفراراً من السفر والقتال، وكان زمنَ طيب الثمار واستوائها، فنزلت هذه الآية (1) .
والاستفهام في معنى التوبيخ. وأصل النَّفْر: مفارقة مكان إلى مكان لا هاج على ذلك، يقال: نفَرَ فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نفْراً ونفِيراً (2) ، ومنه: نُفُور الدابّة ونِفَارها.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/134)، وابن أبي حاتم (6/1796) كلاهما عن مجاهد، ومجاهد في تفسيره (ص:278-279). وانظر: الوسيط (2/495)، وأسباب النزول للواحدي (ص:250-251). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/190) وعزاه لسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (نفر).(1/523)
[والأصل] (1) في "اثَّاقَلْتُم": تثاقلتم، ومنه على الأصل قرأ ابن مسعود والأعمش (2) ، فأدغمت التاء في الثاء؛ لاشتراكهما في الهمس، وتقاربهما في المخرج، ثم اجتلبت الهمزة توصلاً إلى النطق بالساكن. والمعنى: تثاقلتم وتقاعستم ذهاباً مع طلب الراحة والدَّعَة.
{ أرضيتم بالحياة الدنيا } المُنَغَّصَةُ بالفناء { من الآخرة } المُخَصَّصَةُ بالبقاء، { فما متاع الحياة الدنيا } وهو نعيمها الذي مِلْتُمْ إليه بالنسبة إلى نعيم الآخرة { إلا قليل } .
أخبرنا الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني بقراءتي عليه في رأس عين (3) بالجامع، أخبرنا أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي،
__________
(1) ... في الأصل: والأ.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:242).
(3) ... رأس عين: مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر، بينها وبين نصيبين خمسة عشر فرسخاً، وقريب من ذلك بينها وبين حران، وهي إلى دنيسر أقرب، بينهما نحو عشرة فراسخ، وفيها عيون كثيرة عجيبة صافية، تجتمع كلها في موضع فتصير نهر الخابور (معجم البلدان 3/14).(1/524)
أخبرنا عبدالله بن محمود (1) ، أخبرنا إبراهيم بن عبدالله الخلال (2) ، حدثنا عبدالله بن المبارك.
وأخبرنا عالياً أبو حفص عمر بن طبرزد إذناً، أخبرنا الشيخ أبو غالب أحمد بن الحسن بن البناء، أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، وأبو بكر محمد بن إسماعيل الوراق قالا: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، أخبرنا عبدالله بن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد (3) ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع" (4) . هذا حديث صحيح، انفرد مسلم بإخراجه في صحيحه، فرواه عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل.
__________
(1) ... عبدالله بن محمود المروزي، أبو عبد الرحمن، روى عن حبان بن موسى، وعلى بن حجر، وعبدالوارث بن عبيد الله صاحب ابن المبارك، وإبراهيم بن عبدالله الخلال صاحب ابن المبارك (الجرح والتعديل 5/183).
(2) ... إبراهيم بن عبد الله بن أحمد المروزي الخلال، أبو إسحاق، صدوق، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب 1/115، والتقريب ص:90).
(3) ... المستورد بن شداد بن عمرو بن حنبل بن الأحنف بن حبيب بن عمرو بن سفيان بن محارب بن دثار القرشي الفهري الحجازي، سكن الكوفة، وتوفي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين (تهذيب التهذيب 10/97، والتقريب ص:527).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2193 ح2858).(1/525)
قوله تعالى: { إلا تنفروا } أي: تخرجوا من بيوتكم مع نبيكم لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الإسلام { يعذبكم عذاباً أليماً } قال ابن عباس: استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياً من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك الله المطر عنهم فكان عذابهم (1) .
{ ويستبدل قوماً غيركم } خيراً منكم وأطوع.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه غني عنهم، وأن تثاقلهم غير قادح في إظهار دينه فقال: { ولا تضروه شيئاً } والضمير في "تضرّوه" يرجع إلى الله تعالى، في قول الحسن (2) .
وقيل: يرجع إلى ما يرجع إليه قوله تعالى: { إلا تنصروه } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والمعنى: إلا تنصروه أيها المتثاقلون عن النفير معه المتثبطون عن طاعته { فقد نصره الله } ولستم معه حين كان بمكة وأجمعوا على المكر به، { إذ أخرجه الذين كفروا } أي: اضطروه إلى الخروج بأنواع الأذى، وما تمالؤوا عليه من الفتك به يوم اجتمعوا بدار الندوة.
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (3/11)، والبيهقي في سننه (9/48)، والحاكم (2/114)، والطبري (10/134)، وابن أبي حاتم (6/1797). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/193-194) وعزاه لأبي داود وابن المنذر وأبي الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(2) ... الماوردي (2/363)، وزاد المسير (3/438).(1/526)
وقوله: { ثاني اثنين } كقوله: { ثالث ثلاثة } [المائدة:73]، ونصبه على الحال (1) ، وهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ويروى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل لما أمره بالخروج: "من يخرج معي؟ قال: أبو بكر" (2) .
وقوله: { إذ هما في الغار } بدل من { إذ أخرجه الذين كفروا } (3) . والغار في جبل قريب من مكة يقال له: ثور.
قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً (4) .
قال عروة: وكان لأبي بكر منيحة من غنم، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغار (5) .
قال قتادة: وكان عبدالرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج جاءهم بناقتين فانطلقوا (6) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/15)، والدر المصون (3/465).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/45)، والزمخشري في الكشاف (2/259). ولم يتعرض له الحافظ ابن حجر في تخريجه على الكشاف.
(3) ... انظر: التبيان (2/15)، والدر المصون (3/465).
(4) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/345)، والطبري (10/136). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/202) وعزاه لابن أبي شيبة.
(5) ... أخرجه الطبري (10/136). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/204) من حديث طويل، وعزاه لعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
(6) ... ذكره السيوطي في الدر (4/204) بلا نسبة.(1/527)
قال الزهري: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجاً من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتاً. فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما قال: لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ بيت العنكبوت (1) .
وفي الصحيحين من حديث أنس: "أن أبا بكر رضي الله عنه قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وعلى رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه!! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (2) .
وقال محمد بن سيرين: "ذُكِرَ رجالٌ في عهد عمر، فكأنهم فَضَّلُوهُ على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر. لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال له: يا أبا بكر! ما لك تمشي ساعة بين يديّ وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك. فقال: يا أبا بكر! لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني، فقال: نعم والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (2/296). قال الماوردي في تفسيره (2/364): وذهب بعض المتعمقة في غوامض المعاني إلى أن قوله تعالى: { إذ هما في الغار } أي: في غيرة على ما كانوا يرونه من ظهور الكفر فغار على دين ربه. وهو خلاف ما عليه الجمهور.
(2) أخرجه البخاري (3/1337 ح3453)، ومسلم (4/1854 ح2381).(1/528)
رسول الله حتى أستبرئ الغار. ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل. فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر" (1) .
قال الشعبي: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعاً غير أبي بكر في هذه الآية (2) .
وفي الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان بن ثابت: قلتَ في أبي بكر شيئاً؟ [قال: نعم. قال] (3) : قل حتى أسمع. قال: قلت:
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الغَارِ المُنِيفِ وَقَدْ ... طَافَ العَدُوُّ بِهِ إِذْ صَاعَدَ الجَبَلا
وَكَانَ حِبَّ رَسُولِ الله قَدْ َعِلمُوا ... مِنَ الخَلائِقِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ بَدَلا
الثَّاني التَّالي المَحْمُود مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّل النَّاس مِنْهُم صَدَّقَ الرُّسُلا
فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (4) .
قوله تعالى: { إذ يقول لصاحبه } بدلٌ ثانٍ من "إذ أخرجه الذين كفروا" (5) .
__________
(1) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (3/7 ح4268) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه، ولم يخرجاه.
(2) الوسيط (2/496)، وزاد المسير (3/439). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/199-200) وعزاه لابن عساكر عن سفيان بن عيينة.
(3) ... زيادة من المستدرك (3/67).
(4) ... أخرجه الحاكم في المستدرك (3/67 ح4413). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/199) وعزاه لابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري عن أنس.
(5) ... انظر: التبيان (2/15)، والدر المصون (3/465).(1/529)
قال أهل العلم: من أنكر أن يكون عمر أو علي أو عثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو كذاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر؛ لأنه ردّ نص القرآن (1) .
ويروى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوم السقيفة حين تنازع المهاجرون والأنصار فقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، وأخذ بيد أبي بكر، سيفان في غمد لا يصطلحان فقال: من الذي له هذه الثلاثة؟ { إذ هما في الغار } من هما؟ { إذ يقول لصاحبه } من صاحبه؟ { لا تحزن إن الله معنا } مع من؟ قال: فبسط يد أبي بكر وضرب عليها، ثم قال للناس: بايعوا، فبايع الناس أحسن بيعة (2) .
أخبرنا حنبل بن عبدالله بن الفرج في كتابه، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، أخبرنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي قال: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم (3) ، حدثنا المبارك بن فضالة (4) ، حدثنا أبو عمران الجوني، عن ربيعة الأسلمي (5) قال: "كان
__________
(1) الوسيط (2/499).
(2) أخرجه النسائي في الكبرى (5/37)، والبيهقي في الكبرى (8/145).
(3) هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي، أبو النضر البغدادي، خراساني الأصل، ولقبه قيصر، توفي سنة سبع ومائتين (تهذيب التهذيب 11/18، والتقريب ص:570).
(4) مبارك بن فضالة بن أبي أمية، أبو فضالة البصري، مولى زيد بن الخطاب. صدوق، توفي سنة خمس وستين ومائة (تهذيب التهذيب 10/27-28، والتقريب ص:519).
(5) ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي، أبو فراس المدني، كان من أهل الصفة، خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مات سنة ثلاث وستين بعد الحرة (تهذيب التهذيب 3/226، والتقريب ص:208).(1/530)
بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم، فقال لي: يا ربيعة، ردّ عليّ مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولنّ أو لأستعْدينّ عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت: ما أنا بفاعل. قال: فانطلق أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وانطلقت أتلوه. فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي [شيء] (1) يستعدي عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي قال لك ما قال. فقلت: أتدرون ما هذا؟! هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما، فيهلك ربيعة. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. قال: فانطلق أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتبعته وحدي، حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: يا ربيعة! ما لك والصدّيق؟ قلت: يا رسول الله، كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها, فقال لي: قل كما قلت لك حتى تكون قصاصاً، فأبيت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل فلا تردّ عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. وقال: فولّى أبو بكر وهو يبكي" (2) .
__________
(1) ... زيادة من المسند (4/58).
(2) ... أخرجه أحمد (4/58).(1/531)
قوله تعالى: { فأنزل الله سكينته عليه } أي: على أبي بكر، في قول علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- وابن عباس وعامة المفسرين (1) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ساكناً مطمئناً.
وقال مقاتل (2) : "عليه" أي: على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ وأيده } يعني: الرسول - صلى الله عليه وسلم - { بجنود لم تروها } يعني: الملائكة، وذلك يوم بدر والأحزاب وحُنين.
وقال الزجاج (3) : ذلك في الغار حين صَرَفَتِ الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.
{ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } وهي كلمة الشرك، { وكلمة الله } وهي كلمة التوحيد { هي العليا } .
وقرأت ليعقوب الحضرمي: "وكلمةَ الله" بالنصب (4) .
{ والله عزيز حكيم } .
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1801) عن ابن عباس وحبيب بن أبي ثابت، وابن أبي شيبة (6/349) عن حبيب. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/207) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن حبيب بن أبي ثابت، وعزاه للخطيب في تاريخه.
(2) تفسير مقاتل (2/48).
(3) معاني الزجاج (2/449).
(4) إتحاف فضلاء البشر (ص:242).(1/532)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ احتب
قوله تعالى: { انفروا خفافاً وثقالاً } قال أكثر المفسرين: شباباً وكهولاً (1) .
وروى عطاء عن ابن عباس: رجالة وركباناً (2) .
وروي عنه أيضاً: "خفافاً": أهل اليسرة من المال، "وثقالاً": أهل العسرة (3) . وهو اختيار الزجاج، قال (4) : مُوسرين ومُعْسرين.
وبعكس هذا القول قال أبو صالح والفراء، قال الفراء (5) : "الخفاف": ذوو العسرة وقلّة العيال، و"الثقال": ذوو العيال والميسرة.
وقال جويبر: أصحّاء ومرضى (6) .
__________
(1) أخرجه الطبري (10/138)، وابن أبي حاتم (6/1802). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/208) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2) الوسيط (2/499)، وزاد المسير (3/442).
(3) مثل السابق.
(4) معاني الزجاج (2/449).
(5) معاني الفراء (1/439).
(6) زاد المسير (3/443).(1/533)
قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو قد ذهبت إحدى عينيه، فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع (1) .
وقال صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً من أهل دمشق، قد سقط حاجباه على عينيه وهو على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً (2) .
وقال أهل المعاني: هذا عامٌّ في كل أحد؛ لأنه ما من أحد إلا وتخف عليه الحركة أو تثقل، فهو ممن أمر الله في هذه الآية بالنفير (3) .
ويؤيد ذلك قول ابن عباس: نسخت بقوله: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } (4) .
وقول السدي: هي منسوخة بقوله: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } (5) .
__________
(1) ذكره البغوي (2/296-297)، والقرطبي (8/151).
(2) ... أخرجه الطبري (10/138).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/499).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/499)، وزاد المسير (3/443).
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1803-1804). وانظر: الوسيط (2/500)، وزاد المسير (3/443). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/208) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
... وانظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:100)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:366).(1/534)
وعند الفقهاء: أن هذا تخصيص لا نسخ.
{ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } قال القاضي أبو يعلى: أوجب الله الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مالٌ وهو مريض أو مقعد أو ضعيف [لا يصلح للقتال] (1) فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به، [كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً] (2) . وإن كان له مال وقوة فعليه الجهاد بهما، ومن كان معدماً عاجزاً فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله؛ لقوله تعالى: { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } (3) .
{ ذلكم خير لكم } من التثاقل إلى الأرض { إن كنتم تعلمون } ما في ذلك من الثواب يوم المآب.
ِqs9 كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (3/443).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... زاد المسير (3/443).(1/535)
الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ احثب
قوله تعالى: { لو كان عرضاً قريباً } نزلت في المنافقين. والمعنى: لو كان الذي دُعوا إليه غنيمة قريبة، { وسفراً قاصداً } وسطاً سهلاً { لاتبعوك } طمعاً في اكتساب المال، وخوفاً من انكشاف الحال، { ولكن بعدت عليهم الشُّقَّة } وهي المسافة الشاقة، { وسيحلفون بالله } عند رجوعكم إليهم اعتذاراً من تخلفهم عنكم { لو استطعنا لخرجنا معكم } أي: لو قدرنا وكان لنا سعة في المال وما يتوصل به إلى الجهاد لخرجنا معكم، { يهلكون أنفسهم } بالكذب والأَيْمان الفاجرة والنفاق، { والله يعلم إنهم لكاذبون } فما يغني عنهم الاعتذار والكذب.
$xےtم اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ(1/536)
الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ(1/537)
ِNكgsـ 7sVsù وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ احذب
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لجماعة منهم في التخلف حين خرج إلى تبوك، فأنزل الله عز وجل: { عفا الله عنك لم أذنت لهم } .
قال عمرو بن ميمون الأودي: اثنان فعلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون (1) .
قال مورق: عاتبه ربه بهذا (2) .
__________
(1) ... أخرجه عبدالرزاق (5/210)، والطبري (10/142). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/210) وعزاه لعبد الرزاق في المصنف وابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (10/142)، وابن أبي حاتم (6/1805). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/210) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/538)
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يُعيّره بالذنب (1) .
وهذا أسلوب لطيف من أساليب العتاب. وقريب منه قول قيس فيما بعث به إلى ليلى العامرية:
عَفَا اللهُ عَنْها أَنَّها كُلَّ لَيْلَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ قَدْ يَدْنُوا إِليَّ خَيَالُها
فأجابته:
وَعَنْهُ عَفَى رَبّي وَأَصْلَحَ حَالَهُ ... فَعَزَّ عَلَيْنا حَاجَة لاَ يَناَلها
قال الزمخشري عند تفسير هذه الآية (2) : { عفا الله عنك } هذا كناية عن الجناية؛ لأن العفو رادف لها، ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت (3) .
وهذا تغفيل من الزمخشري عن اللطيفة المودعة في تصدير هذه الآية بذكر العفو، وعبارة جافية لا يليق إطلاقها على آحاد ذوي الأقدار، فكيف بسيد ولد آدم؟ الذي جعل الله تعالى تعظيمه فرضاً، فقال: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } [النور:63].
ولقد أجاد محمد بن الحنفية في قوله: البلاغة قول مفقه في لطف.
وأَحْسَنَ الحسن بن سهل في قوله: البلاغة ما فهمه العامة، ورضيته الخاصة. والعبارة المنكرة هاهنا لا يرضاها والله الخاصة ولا العامة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/500)، وزاد المسير (3/445).
(2) الكشاف (2/261).
(3) قلتُ: هذا قولٌ خبيثٌ، يستدل به على خبث طويته وفساد عقيدته. وقد أجاد المؤلف في الرد عليه.(1/539)
وقال بعضهم: البلاغة: وضوح الدلالة وحسن الإشارة.
وقال أعرابي: البلاغة: حسن الاستعارة.
ولستُ أجهل أن لهذا الرجل المشار إليه (1) بالرد عليه أقواماً ترعد أنفسهم غضباً وحمية له، { والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } .
ولله درّ حسان حيث يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... ... لعرض محمد منكم وقاء (2)
قوله تعالى: { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم [الكاذبين] (3) } أي: حتى يظهر لك الذين صدقوا في اعتذارهم من الذين كذبوا فيه.
قال قتادة: نُسختْ بقوله: { فأذن لمن شئت منهم } (4) [النور:62].
__________
(1) أي: الزمخشري.
(2) ... انظر البيت في: لسان العرب، مادة: (عرض)، وسير أعلام النبلاء (2/515)، وسيرة ابن هشام (5/87)، والاستيعاب (4/1885)، والطبري (18/88).
(3) ... زيادة على الأصل.
(4) ... أخرجه الطبري (10/142)، والبيهقي (9/173)، وابن أبي حاتم (6/1805). وانظر: الوسيط (2/500)، وزاد المسير (3/445)، ومعاني القرآن للنحاس (3/214). وذكره السيوطي في الدر (4/211) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبي الشيخ.
... قال أبو حيان في البحر المحيط (5/49): وهذا غلط؛ لأن النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق، في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بقائهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.(1/540)
قوله تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } قال الزجاج (1) : أَعْلَمَ اللهُ عز وجل أن علامة المنافق في ذلك الوقت: الاستئذان في التخلُّف عن الجهاد.
قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } (2) [النور:62].
وأنكر أبو سليمان الدمشقي دعوى النسخ هاهنا؛ لإمكان العمل بالآيتين، فإنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لحاجة (3) .
قال الزجاج (4) في قوله { أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } : موضع "أن" النصب. المعنى: لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا، ولكن "في" حذفت، فأفضى الفعل فنصبت "أَنْ".
قال سيبويه: ويجوز أن يكون موضعها جراً؛ لأن حذفها هاهنا إنما جاز مع ظهور "أَنْ"، ولو أظهرت المصدر لم تحذف "في"، لا يجوز: (لا
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/450).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1806)، والبيهقي (9/173). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/446)، والسيوطي في الدر (4/211) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(3) انظر: زاد المسير (3/446). وانظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:100)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:40)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:505-506)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:367-368).
(4) ... معاني الزجاج (2/450).(1/541)
يستأذنك القوم الجهاد) حتى تقول: في الجهاد، ويجوز: (لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا).
{ إنما يستأذنك } يعني: في القعود عن الجهاد { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } أي: شكُّوا في دينهم { فهم في ريبهم يترددون } متحيرين.
قال مقاتل (1) : كانوا تسعة وثلاثين رجلاً.
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } قال ابن عباس: لأعدوا له النية وما يصلح للخروج من السلاح والمركوب (2) .
{ ولكن كره الله انبعاثهم } انطلاقهم بسرعة ونشاط، { فثبطهم } بما قذف في قلوبهم من كراهية الخروج.
قال صاحب الكشاف (3) : لما كان قوله: "ولو أرادوا الخروج" معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: "ولكن كره الله انبعاثهم"، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا.
قوله تعالى: { وقيل اقعدوا مع القاعدين } إما أن يكون القول هاهنا مجازاً عن إلهامهم أسباب الخذلان، أو عن وسوسة الشيطان لهم، أو هو قول بعضهم لبعض.
وحكى الماوردي (4) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لهم غضباً عليهم.
__________
(1) تفسير مقاتل (2/49).
(2) زاد المسير (3/446).
(3) ... الكشاف (2/263).
(4) تفسير الماوردي (2/368).(1/542)
قال ابن السائب: يعني: مع القاعدين بغير عذر (1) .
وقيل: مع القاعدين بعذر؛ كالنساء والصبيان، وهو أظهر، لقوله تعالى: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } ، ولأنه أبلغ في ذمهم.
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } أي: شراً وفساداً.
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (2) : فإن قيل: كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل: ما زادوكم إلا خبالاً؟
فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع. والمعنى: ما زادوكم قوة، لكن أوقعوا بينكم خبالاً.
قلت: والذي يظهر في نظري: أن هذا ليس من الاستثناء المنقطع؛ لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، والمستثنى منه هاهنا غير مذكور، فيقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً، فيكون استثناء متصلاً.
{ ولأوضعوا خلالكم } الإيضاع: الإسراع في السير. يقال: وضع البعير وغيره؛ إذا أسرع، وأوضعه: ركبه (3) . وخلال الشيء: وسطه (4) .
والمعنى: ولأوضعوا ركابهم بينكم بالتضريب والنميمة والإفساد.
__________
(1) ... الماوردي (2/368)، وزاد المسير (3/447).
(2) زاد المسير (3/447).
(3) انظر: اللسان، مادة: (وضع).
(4) انظر: اللسان، مادة: (خلل).(1/543)
{ يبغونكم الفتنة } أي: يحاولون إيقاع الخلاف بينكم وتشتيت كلمتكم وافتراق جماعتكم، { وفيكم سمّاعون لهم } أي: قوم ينقلون إلى المنافقين أخباركم.
وقيل: المعنى: وفيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم.
د‰s)s9 ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ احرب
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } أي: لقد طلبوا لك العنت والشر من قبل غزوة تبوك، { وقلبوا لك الأمور } نصبوا لك الغوائل (1) تارة بالسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك، وتارة بالعزم على الفتك بك.
قال المفسرون: وقف اثنا عشر رجلاً من المنافقين على طريقه ليلاً ليغتالوه وليفتكوا به فسلمه منهم (2) .
__________
(1) الغوائل: الغَوْل: المشقّة. والغول: الخيانة (انظر: اللسان، مادة: غول).
(2) الوسيط (2/501-502)، وزاد المسير (3/448).(1/544)
وتارة بالانخزال عنك في مضايق الحروب والكروب، كما انسلّ ابن سلول يوم أحد بالصحابة.
{ حتى جاء الحق } وهو استعلاؤك على أعدائك، { وظهر أمر الله } أي: غلب دينه وعلا شرعه، { وهم } يعني: المنافقين { كارهون } .
Nكg÷ZدBur مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِن جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ احزب
قوله تعالى: { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } أي: ائذن لي في القعود ولا تفتني بالخروج، وذلك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجَدّ بن قيس الأنصاري السلمي: هل لك في جلاد بني الأصفر -يعني: الروم- لعلك تغنم بعض بناتهم؟ فقال: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني بذكر النساء، فقد علم قومي أنني مغرم بهن، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: قد أذنت لك" (1) .
__________
(1) أخرجه الطبري (10/148)، وابن أبي حاتم (6/1809)، والطبراني في الكبير (2/275)، والأوسط (5/375). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/213) وعزاه لابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن جابر، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.(1/545)
قال ابن عباس: اعتلّ، لم تكن له عِلَّة إلا النفاق (1) .
{ ألا في الفتنة } يعني: فتنة التخلف عنك.
قال ابن عباس: هي الكفر (2) .
{ سقطوا } وقعوا.
ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني سلمة: "من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس على بخل فيه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور" (3) . هكذا ذكره ابن إسحاق والزهري.
وقال الشعبي وابن عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بل سيدكم عمرو بن الجموح" (4) .
والأول أكثر عند أهل العقل. وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (5) :
وقال رسول الله والحق لاحق ... بمن قال منا: مَنْ تعدّون سيدا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/502).
(2) ... زاد المسير (3/449).
(3) ... أخرجه الطبري (10/149)، والحاكم (3/242)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/430)، والطبراني في الأوسط (8/373). وانظر: أسباب نزول القرآن للواحدي (ص:252).
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (11/397 ح12116)، والأوسط (4/74 ح3650)، والصغير (1/199 ح317)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/430) كلهم عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/314) وعزاه للطبراني في الأوسط والكبير عن أبي هريرة.
(5) ... انظر الأبيات في: أسباب النزول للواحدي (ص:252-253).(1/546)
فقلنا له: جد بن قيس على الذي ... نبخله فينا وإن كان أنكدا
فقال: وأيّ الداء أدوى من الذي ... رميتم بها جداً وغلّ بها يدا
وسوَّد بشر بن البراء لجوده ... وحُقَّ لبشر ذي الندا أن يُسوَّدا
إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله ... وقال: خذوه إنه عائد غدا
قوله تعالى: { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أي: محدقة بهم يوم القيامة.
bخ) تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ اختب
قوله تعالى: { إن تصبك حسنة } أي: نصر وغنيمة { تسؤهم } تحزنهم، { وإن تصبك مصيبة } قتل أو هزيمة { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } أي:(1/547)
علمنا بالحزم من قبل فلم نخرج، { ويتولوا } عن مقامهم الذي قالوا فيه: قد أخذنا أمرنا من قبل إلى أهلهم { وهم فرحون } مسرورون.
وقيل: "يتولوا": يعرضوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الإيمان به.
{ قل } لهم يا محمد { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } قال ابن عباس: قضى علينا (1) .
وقال الزجاج (2) : ما بيّن لنا في كتابه من أنَّا نظفَر، فيكون ذلك حسنى لنا، أو نُقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضاً.
{ هو مولانا } ناصرنا ومعيننا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } سبق تفسيره في آل عمران (3) .
ِ@è% هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ
__________
(1) ... انظر: الطبري (10/150)، وزاد المسير (3/450).
(2) معاني الزجاج (2/452).
(3) عند تفسير الآية رقم: (22).(1/548)
مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ اخحب
{ قل هل تربصون } أي: تنتظرون { بنا إلا إحدى الحسنيين } النصر أو الشهادة، { ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } قال ابن عباس: الصواعق (1) .
وقيل: الموت (2) .
__________
(1) زاد المسير (3/451).
(2) مثل السابق.(1/549)
وقيل: ما أصاب الأمم الخالية.
{ أو بأيدينا } يعني: القتل، { فتربصوا } إحدى الحسنيين لنا { إنا معكم متربصون } إحدى السوأيين لكم.
{ قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم } نزلت في الجد بن قيس، فإنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرض عليه الغزو: هذا مالي أعينك به (1) .
قال الزجاج (2) : وهذا لفظ أمر، ومعناه: الشرط والجزاء، تقديره: إن أنفقتم طائعين أو كارهين لن يتقبل منكم. ومثله في الشعر قول كثيّر:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ ... لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ (3)
وقال الزمخشري (4) : هو أمر في معنى الخبر، كقوله: { فليمدد له الرحمن مداً } [مريم:75]، وهذا إنما يجوز إذا دل الكلام عليه، كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيداً وغفر له.
ومعنى قوله: { طوعاً } : تبرعاً ونفلاً، { أو كرهاً } : إلزاماً من الله، { لن يتقبل منكم } لتوقف القبول على الإيمان والإخلاص.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/152). وانظر: الوسيط (2/504)، وزاد المسير (3/451). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/217) وعزاه لابن جرير.
(2) ... معاني الزجاج (2/453).
(3) ... البيت لكثيّر. انظر: ديوانه (ص:101)، واللسان، مادة: (حسن)، وأمالي ابن الشجري (1/49)، ومعاني الفراء (1/441)، وتهذيب اللغة (4/813)، والبحر المحيط (5/54)، والدر المصون (3/472).
(4) الكشاف (2/266).(1/550)
{ إنكم كنتم قوماً فاسقين } مارقين من الدين، فلا يُتقبل منكم الإنفاق ما دمتم على النفاق.
{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم } قرأ حمزة والكسائي: "يُقْبَلَ" بالياء الواقعة آخر حروف التهجي؛ لأن النفقة في معنى الإنفاق. وقد أشرنا إلى تعليل مثل ذلك فيما سبق.
و"أَنْ" في قوله: "[أَنْ] (1) تقبل منهم نفقاتهم" في موضع نصب، وفي "أنهم كفروا" في موضع رفع بـ"مَنَعَهُمْ" (2) ، وتقديره: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وبرسوله.
{ ولا يأتون الصلاة } التي هي عماد الإسلام { إلا وهم كسالى } لأنهم لا يرجون ثواب فعلها، ولا يخافون عقاب تركها، { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } لأنهم يَعُدُّون الإنفاق مَغْرماً.
ںxsù تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
__________
(1) ... في الأصل: لن. وهو خطأ.
(2) ... انظر: التبيان (2/16)، والدر المصون (3/473).(1/551)
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ اخذب
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } معنى الإعجاب: السرور [بما] (1) يتعجب منه.
والمعنى: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد، كما قال في موضع آخر: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } [الحجر:88].
__________
(1) ... في الأصل: وربما. انظر: الوسيط (2/504).(1/552)
{ إنما يريد الله ليعذبهم بها } أي: بالأموال، وذلك بالتعب في جمعها وحفظها وتثميرها، والخوف عليها والمصائب فيها، وأخذ الزكوات والنفقات منها في الغزاة وغير ذلك.
وقال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وقتادة: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة (1) .
{ وتزهق أنفسهم } يقال: زهقت الخيل: خرجت عن الحلبة، وزهق السهم؛ إذا جاوز الهدف (2) . فالمعنى: وتخرج أرواحهم وهم على الكفر.
قوله تعالى: { ويحلفون بالله } يعني: المنافقين، { إنهم لمنكم } يعني: في الدين، { وما هم منكم } لأنهم يضمرون من الكفر خلاف ما يظهرون من الإيمان، { ولكنهم قوم يفرقون } أي: يخافون القتل، فلذلك يحلفون لكم إنهم لمنكم وما هم منكم.
{ لو يجدون ملجأً } مكاناً يلجؤون إليه، { أو مغارات } وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، ومنه: غَارَ الماء (3) .
قال ابن عباس: يعني: سراديب (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/153)، وابن أبي حاتم (6/1813) كلاهما عن قتادة.
... وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/452)، والسيوطي في الدر (4/218) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (زهق).
(3) ... انظر: النهاية في غريب الحديث (3/393).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/504).(1/553)
{ أو مُدّخلاً } يعني: مكاناً يدخلون فيه، أو قوماً يدخلون في غمارهم. وأصله: "مدتخلاً" فأبدلوا من التاء دالاً وأدغموا فيه الأولى.
وقرأتُ ليعقوب الحضرمي: "مَدْخلاً" بفتح الميم والتخفيف (1) .
{ لولّوا إليه وهم يجمحون } يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء، ومنه: الفرس الجَمُوح، وهو الذي إذا حَمَلَ لم يَرُدُّه اللجام (2) .
Nهk÷]دBur مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:243).
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (جمح).(1/554)
وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ اخزب
قوله تعالى: { ومنهم من يلمزك في الصدقات } وهو ذو الخويصرة التميمي، ويقال: ابن ذي الخويصرة، ويقال: أبو الخواصر، وهو أصل الخوارج (1) ، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسماً: "اعدل فإنك لم تعدل، فقال: ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! فنزلت هذه الآية" (2) .
قرأ الأكثرون: "يَلْمِزُكَ" بكسر الميم. وقرأتُ على شيخنا أبي البقاء عبدالله بن الحسين ليعقوب الحضرمي ولابن كثير من رواية نظيف عن قنبل عنه، ولعاصم من رواية أبان عنه، ولأبي عمرو من رواية القزاز عن عبدالوارث عنه: "يَلْمُزُكَ" بضم الميم (3) ، و"يلمُزون" [التوبة: 79] ولا ["تلمُزوا"] (4) [الحجرات:11] بضم الميم فيهن.
والمعنى: ومنهم من يُعَنِّيكَ ويطعن عليك. يقال: لمزت فلاناً وهمزته بمعنى. قال الشاعر:
__________
(1) ... الخوارج: سُمُّوا بذلك؛ لخروجهم عن البَيْضة وشقّهم العصا، ولذلك سُمُّوا المارقين، والمُروق: الخروج (الغريب لابن قتيبة 1/252).
(2) أخرجه البخاري (6/2540 ح6534)، ومسلم (2/740 ح1063).
(3) ... الحجة للفارسي (2/325)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:243)، والسبعة في القراءات (ص:315).
(4) في الأصل: تلمز.(1/555)
إِذا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً ... وَإنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الْهَامِزَ اللُّمَزَهْ (1)
قال الضحاك: كان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه، وأما المنافقون فإن أُعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً سخطوا، فذلك قوله: { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } (2) .
{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله } أي: قنعوا بما أعطاهم الله قضاء وتقديراً، ورسوله قسماً، { وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله } ما نحتاج إليه، { إنا إلى الله راغبون } في الزيادة وسعة الرزق، التقدير: لكان خيراً لهم وأعود عليهم، فحذف الجواب للعلم به.
* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
__________
(1) ... البيت لزياد الأعجم. انظر: ديوانه (ص:78)، ولسان العرب، مادة: (همز)، والطبري (10/156)، وزاد المسير (3/455)، وجمهرة اللغة (ص:727)، ومقاييس اللغة (6/66)، ومجمل اللغة (4/488)، وأساس البلاغة (ص:414)، وإصلاح المنطق (ص:428).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1816). وانظر: الوسيط (2/505).(1/556)
الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ادةب
قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } اختلف العلماء في هذين الصفتين أيهما أشد حاجة، فذهب الإمامان أحمد والشافعي إلى أن الفقراء أشد حاجة من المساكين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الفقر، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" (1) . أخرجه الترمذي.
قال أحمد بن عبيد: المسكين أحسن حالاً من الفقير (2) ؛ لأن الفقير أصله في اللغة: المَفْقُور الذي نُزِعَتْ فِقْرة من فقر ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر (3) ، فصرف عن مفقور إلى فقير، كما قالوا في مجروح جريح، ومطبوخ طبيخ. قال الشاعر:
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/577 ح2352).
(2) ... انظر: القرطبي (8/169)، والتمهيد لابن عبدالبر (18/51).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (فقر).(1/557)
لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورَ تَطَايَرَتْ ... ... رَفَعَ القَوادِمَ كَالفَقِير الأَعْزَلِ (1)
قال: ومن الحجة لهذا القول، قوله تعالى: { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } [الكهف:79]، فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً (2) .
وذهب الأصمعي وأبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة (3) ، واحتج كذلك ابن السكيت (4) بقول الراعي (5) :
أما الفقير الذي كانت حَلُوبَتُه ... وفْق العيال فلم يُترك له سَبَدُ
فسَمَّاهُ فقيراً وله حلوبة تكفيه وعياله.
وقال يونس بن حبيب (6) : قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين (7) . يريد: أنا أسوأ حالاً من الفقير.
__________
(1) البيت للبيد وهو يصف لُبَداً، (وهو السابع من نُسور لقمان بن عاد). انظر: ديوانه (ص:274)، واللسان، مادة: (فقر)، والقرطبي (8/169)، والتمهيد (18/51)، والمغني (6/323)، ومعجم البلدان (4/194)، والماوردي (2/275)، ومعجم مقاييس اللغة (4/90).
(2) زاد المسير (3/456-457).
(3) انظر: المغني (6/323).
(4) إصلاح المنطق (ص:326).
(5) البيت للراعي. وهو في: القرطبي (8/169)، والتمهيد (18/50)، والمحلى (6/149)، والمغني (6/323)، وزاد المسير (3/456).
(6) يونس بن حبيب الضبي بالولاء، أبو عبد الرحمن، ويعرف بالنحوي، علاّمة بالأدب، كان إمام نحاة البصرة في عصره، أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء وغيرهم من الأئمة، من كتبه: "معاني القرآن"، و"اللغات"، و"النوادر". توفي سنة 182هـ (الأعلام 8/261).
(7) زاد المسير (3/456).(1/558)
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: الفقير: المتعفف عن السؤال، والمسكين: الذي يسأل (1) .
وقال قتادة: الفقير: المحتاج الذي به زَمَانة، والمسكين: المحتاج الذي لا زَمَانة به (2) .
ويجوز أن يعطيا من الزكاة ما يصير بهما إلى الغنى.
قوله تعالى: { والعاملين عليها } يعني: السُّعاة لجبايتها، فيُعْطَوْنَ منها بقدر أجورهم عندنا. وعند الشافعي وعند مالك وفقهاء العراق: هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام.
قوله تعالى: { والمؤلفة قلوبهم } يُعطون بقدر ما يحصل به التأليف. وهم قسمان؛ مسلمون وكافرون.
فأما المسلمون فقسمان؛ قسم دخلوا في الإسلام ونياتهم ضعيفة، فيعطون من الصدقات ما يثبتهم على الإسلام، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/158). وانظر: الوسيط (2/506)، وزاد المسير (3/455). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/222) وعزاه لابن أبي شيبة عن جابر بن زيد.
(2) ... أخرجه الطبري (10/158)، وابن أبي حاتم (6/1819، 1820)، والنحاس في ناسخه (1/507-508). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/221) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبي الشيخ.
(3) أخرج البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "بعث علي رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة فقسمها بين الأربعة؛ الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: إنما أتألفهم ..." (3/1219 ح3166).(1/559)
وقسم دخلوا فيه على بصيرة وهدى لا تزلزل عندهم، إلا أنهم شرفاء في قومهم، فيعطون منها ما يرغب أمثالهم في الإسلام، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، وأعطى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة (1) .
وأما الكافرون: فيعطى منهم من الزكاة من يُرجى إسلامه، أو يخاف شره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه (2) ؛ ترغيباً له واستمالة إلى الإسلام حتى أسلم.
فصل
اختلف العلماء في انقطاع حكم المؤلفة الكفار؛ فذهب الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وإسحاق إلى أن حكمهم انقطع؛ لأن الله تعالى أعزّ الإسلام وأغناه عن أن يتألف له الرجال.
وذهب الإمام أحمد رضي الله عنه إلى بقاء حكمهم. وهو الصحيح؛ لأن سهمهم ثابت بكتاب الله وسنة رسوله، فلا يزول إلا بناسخ، ولا ناسخ، فيجب بقاء حكمهم، ولا [نزاع] (3) في المقدمة الأولى.
__________
(1) ... انظر: تاريخ دمشق (40/80).
(2) ... عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إليّ فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ". أخرجه الترمذي (3/53 ح666).
(3) ... في الأصل: نزاغ.(1/560)
وأما المقدمة [الثانية] (1) فبيانها من وجهين:
أحدهما: أن الأصل عدم الناسخ، فيحتاج مدعيه إلى وجوده، وأنى له ذلك.
الثاني: أن الإمام أحمد كان أقومَ الناس بكتاب الله وأجمعَهم لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان ثَمَّ آية ناسخة أو حديث ناسخ لِحُكْمهم لظفر به. ويؤيد ذلك قول الزهري: لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلفة (2) .
قوله تعالى: { وفي الرقاب } وهم المكاتَبون، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في كتابتهم.
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله هل يجوز الإعتاق من الزكاة؟
وقال مالك: يُشترى بسهم الرقاب عبيد يعتقون. ويجوز أن [يفكّ] (3) منها أسيراً مسلماً.
قوله تعالى: { والغارمين } وهم ضربان، ضربٌ غَرِمَ لإصلاح ذات البين، فإنهم يُعطون بقدر حَمَالَتهم، وإن كانوا أغنياء.
والضرب الثاني: من غَرِمَ لإصلاح نفسه أو عياله في مباح، فيعطى مع الحاجة ما يقضي دينه.
__________
(1) ... في الأصل: البانية.
(2) ... انظر: المغني (2/280)، وزاد المسير (3/457)، والتحقيق في أحاديث الخلاف (2/62).
(3) ... في الأصل: يفتك.(1/561)
وإن غَرِمَ في معصية لم يدفع إليه قبل التوبة؛ لأنه لا يؤمن أن يعاود المعصية.
وفيما بعد الموت خلاف بين العلماء.
قوله تعالى: { وفي سبيل الله } يعني: الغُزاة والمرابطين الذين لا حَقَّ لهم في الديوان، فيعطون ما يحتاجون إليه لغزوهم، من النفقة، والسلاح، والخيل، وإن كانوا أغنياء؛ لأنهم في مصلحة الإسلام وأهله.
وقال أبو حنيفة: لا يعطون مع الغنى.
ولا يجوز صرف الزكاة في الحج، في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وبها قال أكثر العلماء (1) .
وكان ابن عباس وابن عمر يجيزان ذلك، وإليه ذهب الحسن وإسحاق، وهي رواية أخرى.
قال أبو لاس (2) : حَمَلَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج (3) .
__________
(1) ... انظر: المغني (6/334).
(2) ... أبو لاس الخزاعي المزني، ويقال له: ابن لاس، صحابي. قيل: هو عبد الله بن عنمة، والصواب أنه غيره، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين (تهذيب التهذيب 12/301، والتقريب ص:683).
(3) ... أخرجه أحمد (4/221)، والحاكم (1/612 ح1624) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح. وقد ذكره البخاري تعليقاً (2/534).(1/562)
قوله تعالى: { وابن السبيل } وهو المسافر المنقطع به كما ذكرناه في البقرة، فيعطى من الزكاة -وإن كان له مال في بلده- ما يبلغه إلى بلده، وإن أراد إنشاء السفر فليس بابن سبيل.
وقال الشافعي: هو كالمنقطع به، وعن [الإمام] (1) أحمد نحوه.
قوله تعالى: { فريضة من الله } سبق القول عليه في النساء (2) .
{ والله عليم } بخلقه { حكيم } فيما فرض وشرع.
فصل
اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير هذه الأصناف الثمانية، من بناء مسجد، أو إصلاح طريق، أو كفن ميت؛ لأن الله تعالى خصّهم بها بقوله: { إنما الصدقات } ، ولفظة: "إنما" تُثبتُ المذكور، وتنفي ما عداه.
واختلفوا هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؛ فذهب [الإمامان] (3) أحمد وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب تعميمهم، وأنه لو اقتصر على واحد من أحد الأصناف الثمانية جاز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" (4) ، فأمر بردها في صنف واحد.
__________
(1) ... في الأصل: إمام.
(2) ... عند الآية رقم: (11).
(3) في الأصل: الإمان.
(4) أخرجه البخاري (2/505 ح1331)، ومسلم (1/50 ح19).(1/563)
وقال الشافعي: يجب التعميم والدفع إلى ثلاثة من كل صنف؛ تمسكاً بما اقتضته الآية من التشريك بينهم، وأصحابنا يقولون: هذه الآية بيّنت أصناف المستحقين للزكاة على وجه لا تخرج عنهم، وهذا كما تقول: الخلافة في بني هاشم، وبني عبد شمس، وبني تيم، وبني عدي، يريد: أنها فيهم لا تتعداهم إلى غيرهم.
فصل
وأربعة من هؤلاء يأخذون (1) أخذاً مستقراً وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والباقون يأخذون أخذاً مراعاً. فإن صرفوه فيما أخذوه له، وإلا رُجع عليهم به، ومن فَضَلَ منه شيء أُخِذَ منه (2) .
مNهk÷]دBur الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا
__________
(1) ... في الأصل زيادة لفظة: مع.
(2) ... انظر: المغني (2/282)، والكافي (1/336).(1/564)
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادتب
قوله تعالى: { ومنهم الذين يؤذون النبي } أي: ومن المنافقين الذين يؤذون النبي.
قال مقاتل (1) وغيره: منهم الجلاس بن سويد، وشاس (2) بن قيس، ومخشي (3) بن الحمير، ورفاعة بن زيد، ورفاعة بن عبدالمنذر، وعبيدة بن الحارث، قالوا ما لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بنا. فقال جلاس: نقول ما شئنا، فإنما محمد أذن سامعة، فنأتيه فيصدقنا بما نقول، فنزل في الجلاس: { ومنهم الذين يؤذون النبي ... الآية } (4) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/55).
(2) ... في تفسير مقاتل: وشماس.
(3) ... في تفسير مقاتل: والمخش.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1826) عن السدي. وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:254)، والماوردي (2/377). وذكره السيوطي في الدر (4/227) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.(1/565)
فائدة ينبغي أن تلاحظ:
اعلم أنه يجب على العاقل أن لا يبادر إلى سبّ كل من سمع عنه النفاق والوقيعة فيهم، فإن جماعة من المنافقين بل أكثرهم راجعوا رشدهم حين اطلعوا على محاسن الإسلام وظهرت لهم براهين صحته، وشاهدوا معجزات المبعوث به - صلى الله عليه وسلم - . هذا مخشي بن الحمير كان يُلْمَز بالنفاق، ثم تاب وحسنت توبته، وسمي عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يُقتل شهيداً، ولا يُعلم مكانه، فقُتل يوم اليمامة شهيداً، ولم يُرَ له أثر (1) .
وأما الجلاس فحَسُنَتْ توبته، على ما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
ورفاعة حَسُنَ إسلامه أيضاً. ورفاعة بن عبد المنذر هو أبو لبابة، ولا مغمز فيه، شهد بدراً والعقبة.
ومعنى قوله: { هو أذن } يُصَدِّقُ كل ما يسمع، فسماه بالجارحة التي هي آلة السماع، مبالغة في استعداده لقبول كل ما يسمعه، وانحلال عزيمته عن ظنهم الفاسد.
وكان نافع يُسَكِّن الذال حيث وقع (2) .
{ قل أذن خير لكم } أي: هو أذن خير لا أذن شَرّ، يسمع الخير وينقاد إليه، وإذا سمع الشر أعرض عنه تنزهاً منه.
__________
(1) ... انظر: الإصابة (6/71)، ولباب النقول (ص:119)، والدر المنثور (4/231).
(2) ... الحجة للفارسي (2/326)، والحجة لابن زنجلة (ص:319)، والكشف (1/503)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:243)، والسبعة في القراءات (ص:315).(1/566)
وقرأت لعاصم من طريقي الأعشى والبرجمي عن أبي بكر عنه: "قل أذنٌ" بالتنوين، "خيرٌ" بالرفع (1) . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد، على معنى: قل هو أذن كما تقولون يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يحاققكم ويكذبكم.
{ يؤمن بالله } يصدق بوحدانيته وتنزيله، { ويؤمن للمؤمنين } يصدقهم فيما يخبرونه به. فأما أنتم أيها المنافقون فإنه يجري معكم على وفق طباعه المستقيمة وأغراضه السليمة فيعيركم أذناً سامعة، يتغابى عن فضائحكم وقبائحكم، وهو أعلم بكم منكم كرماً ووقاراً. كما قيل:
ليس الغبي بسيد في قومه ... ... لكن سيد قومه المتغابي (2)
{ ورحمة للذين آمنوا منكم } أي: هو رحمة لهم؛ لأنه أوضح لهم مسالك النجاة.
وقيل: ورحمة للذين أظهروا الإيمان من المنافقين، حيث لم يُنقب عن ضمائرهم ويستكشف عن سرائرهم.
وقرأ حمزة: "رحمةٍ" بالجر، عطفاً على قوله: "أذن خير" (3) .
وقرأ ابن أبي عبلة: "ورحمةً" بالنصب (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/329)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:243).
(2) ... البيت للمتنبي. وهو في: كشف الخفاء (2/78)، وروح المعاني (28/150).
(3) الحجة للفارسي (2/329)، والحجة لابن زنجلة (ص:320)، والكشف (1/503)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:243)، والسبعة في القراءات (ص:315).
(4) انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (5/65)، والدر المصون (3/477).(1/567)
قال الزمخشري (1) : هي عِلَّة معلَّلُها محذوف، تقديره: ورحمة لكم يأذن لكم، فحذف؛ لأن قوله: "أُذُن خير لكم" يدل عليه.
ثم توعد الذين يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين فقال: { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } .
ڑcqàےخ=ّts† بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ادجب
__________
(1) الكشاف (2/272).(1/568)
قوله تعالى: { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزاة تبوك، فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم ويحلفون، فنزلت هذه الآية (1) .
قال مقاتل (2) : منهم عبدالله بن أبيّ، حلف [ألاّ] (3) يتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليكونن معه على عدوه.
وقيل: حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم من قولهم: "هو أذن" وغير ذلك مما يبلغ الرسول والمؤمنين عنهم من الطعن والأذى.
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه } قال الزمخشري (4) : وَحَّد الضمير لاتحاد رضى الله ورضى رسوله، فكانا في حكم مرضي واحد.
وقال الزجاج (5) : لم يقل: يُرْضوهما؛ لأن المعنى يدل عليه، فحذف استخفافاً. والمعنى: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. كما قال الشاعر:
نَحْنُ بمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بمَا ... ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ (6)
__________
(1) زاد المسير (3/461).
(2) ... تفسير مقاتل (2/55).
(3) ... في الأصل: لا. والمثبت من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(4) الكشاف (2/272).
(5) ... معاني الزجاج (2/458).
(6) ... البيت نُسب لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، ونُسب أيضاً لقيس بن الخطيم، ولدرهم بن زيد. انظر: الكتاب (1/75)، ومعاني الفراء (1/434)، وملحقات ديوان قيس (ص:173)، والمقتضب (3/112، 4/73)، وأمالي ابن الشجري (1/310)، والهمع (2/109)، والأشموني (3/152)، والبحر المحيط (5/65)، والدر المصون (2/572، 3/478).(1/569)
والمعنى: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض.
{ إن كانوا مؤمنين } إيماناً حقيقياً.
قوله تعالى: { ألم يعلموا } وقرأتُ لعاصم من رواية أبي زيد عن المُفَضَّل عنه: "تعلموا" بالتاء (1) ، على الخطاب للمنافقين { أنه من يحادد الله ورسوله } بالمخالفة والمعاداة، { فأن له نار جهنم } قرأ الأكثرون: "فأن له" بفتح الهمزة. وقرأ أبو رزين وأبو عمران وابن أبي عبلة: "فإن له" بالكسر (2) .
قال الزجاج (3) : من كسر فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم، ودخلت "إن" مؤكدة. ومن قال: "فأن له" فإنما أعاد "أن" الأولى توكيداً؛ لأنه لما أطال الكلام كانت إعادتها أوكد.
وقال غيره: التقدير: فحق أن له نار جهنم.
قال الزمخشري (4) : ويجوز أن يكون "فأن له" معطوفاً على "أنه"، على أن جواب "مَنْ" تقديره: ألم تعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك، فأن له نار جهنم.
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/461).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/462).
(3) ... معاني الزجاج (2/459).
(4) ... الكشاف (2/272).(1/570)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِن اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ادحب
قوله: { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم } قال الحسن وقتادة: هذا إخبار من الله عن حالهم (1) .
وقال الزجاج (2) وغيره: هو أمر من الله لهم بالتحذر. المعنى: ليحذر المنافقون.
قال ابن الأنباري: العرب ربما أخرجت الأمر إلى لفظ الخبر، فيقولون: يرحم الله المؤمن ويعذب الكافر (3) .
قال صاحب الكشاف (4) : والضمير في "عليهم" و"تنبئهم" للمؤمنين، و"في قلوبهم" للمنافقين. وصح ذلك؛ لأن المعنى يقود إليه.
__________
(1) ... الماوردي (2/378)، وزاد المسير (3/463).
(2) ... معاني الزجاج (2/459).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/463).
(4) ... الكشاف (2/272-273).(1/571)
ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم.
ومعنى: "تنبئهم بما في قلوبهم" كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعني: أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى [يسمعوها] (1) مذاعة، وكأنها تخبرهم بها.
قال مجاهد: كانوا يعيبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا، فنزلت هذه الآية (2) .
قال السدي: قال بعض المنافقين: وددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا، فنزلت هذه الآية (3) .
وقال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العقبة ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحذيفة يسوق به، فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى [نحاها] (4) .
__________
(1) ... في الأصل: سمعوها. والتصويب من الكشاف (2/273).
(2) ... أخرجه الطبري (10/171)، وابن أبي حاتم (6/1829)، ومجاهد (ص:283). وانظر: الوسيط (2/507)، وأسباب النزول للواحدي (ص:255)، وزاد المسير (3/463). وذكره السيوطي في الدر (4/229) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... انظر: ابن أبي حاتم (6/1826)، وأسباب النزول للواحدي (ص:255)، وزاد المسير (3/463).
(4) ... في الأصل: نحاهم. والتصويب من زاد المسير (3/463).(1/572)
فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإنهم فلان وفلان، حتى عدهم كلهم. فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيناهم الله بالدبيلة. قيل: يا رسول الله، ما الدبيلة؟ قال: شهاب من جهنم يضعه الله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه، فكان كذلك، ونزلت هذه الآية (1) .
{ قل استهزؤا } وعيد وتهديد لهم، { إن الله مخرج } أي: مظهر ومبين لرسوله وللمؤمنين { ما تحذرون } إظهاره من نفاقكم.
ûبُs9ur سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ
__________
(1) ... زاد المسير (3/463). وذكره السيوطي في الدر (4/243-244) وعزاه للبيهقي في الدلائل عن عروة.(1/573)
نَعْفُ عَنْ 7pxےح !$sغ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ Opxےح !$sغ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِن الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا(1/574)
هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ادرب
قوله تعالى: { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } قال ابن عباس: كان الجد بن قيس ووديعة بن خذام والجهير بن خمير يسيرون بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والثالث يضحك ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره، فقال لعمار: اذهب فاسألهم مِمَّ يضحكون؟ وقل لهم: أحرقكم الله، فلما سألهم وقال لهم: أحرقكم الله، علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال [الجهير] (1) : والله ما تكلمت بشيء، وإنما ضحكت تعجباً من قولهم، فأنزل الله: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } يعني: جد بن قيس ووديعة (2) .
{ إن نَعْفُ عن طائفة منكم } يعني: الجهير، { نعذب طائفة } يعني: الجد ووديعة.
وقال ابن عمر: قال رجل من المنافقين: ما رأيت مثل قرّاءنا هؤلاء لا أرغب بطوناً، ولا [أكذب ألسناً] (3) ، ولا أجبن عند اللقاء -يعني: رسول الله
__________
(1) ... في الأصل: الجمهور. والتصويب من زاد المسير (3/464).
(2) ... زاد المسير (3/464).
(3) ... في الأصل: أكذ. والتصويب والزيادة من مصادر التخريج.(1/575)
- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه-، فقال له عوف بن مالك: كذبت، لكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذهب ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب (1) .
وقال قتادة: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في غزوة تبوك وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : احبسوا عَلَيَّ الرَّكْب، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا. قالوا: يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب، وحلفوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
{ ولئن سألتهم } المنافقين عما صدر منهم وبلغك عنهم فـ { ليقولن إنما كنا نخوض } ونلهو بالحديث { ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن } فلم يعبأ باعتذارهم؛ لأنهم كانوا كاذبين فيه.
وفي قوله تعالى: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } دليل على استواء الجد واللعب في الكفر.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/172)، وابن أبي حاتم (6/1829). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/464-465)، والواحدي في أسباب النزول (2/255). والسيوطي في الدر المنثور (4/230) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه، وفي لباب النقول (ص:119).
(2) أخرجه الطبري (10/172)، وابن أبي حاتم (6/1830). وذكره الماوردي (2/378)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/465)، والواحدي في أسباب النزول (2/255). والسيوطي في الدر المنثور (4/230) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وفي لباب النقول (ص:119).(1/576)
حدثني بعض فقهاء الحنابلة: أن رجلاً قال -وقد سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين نسائه بغسل واحد- على سبيل اللعب: كان قد ثار برسول الله - صلى الله عليه وسلم - [جماعه] (1) ، فبلغ الإمام أبا الوفاء بن عقيل، فأفتى بكفره وبإباحة دمه، واحتجّ بهذه الآية.
قوله تعالى: { إن يُعْفَ عن طائفة منكم } يعني: بإحداثهم التوبة وإخلاصهم في الإيمان { تُعَذَّبْ طائفةٌ بأنهم كانوا مجرمين } بإصرارهم على النفاق.
وقرأ عاصم: "[إن] (2) نَعْفُ" بالنون المفتوحة وضم الفاء، "نُعَذِّبْ" بنون مضمومة وكسر الذال، "طائفةً" بالنصب (3) .
وقد ذكرنا عن ابن عباس: أن الطائفة المعفو عنها: جهير بن خمير (4) .
وقال محمد بن إسحاق: مخشي بن حمير (5) . وكأنه والله أعلم أشبه بالصواب؛ لأن مخشياً معروف بحسن التوبة وصلاح السريرة، وجهير غير معروف بذلك.
وقد ذكرنا فيما مضى تسمية الواحد باسم الجماعة.
__________
(1) ... في الأصل: جما. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... في الأصل: وإن. وهو خطأ.
(3) ... الحجة للفارسي (2/330)، والحجة لابن زنجلة (ص:320)، والكشف (1/504)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:243)، والسبعة في القراءات (ص:316).
(4) ... انظر: زاد المسير (3/464، 466).
(5) ... أخرجه الطبري (10/173). وانظر: الوسيط (2/508)، وسيرة ابن هشام (5/205).(1/577)
وقال ابن الأنباري (1) : إذا أريد بالطائفة الواحد كان أصلها: طائف، فدخلت الهاء للمبالغة، كما قيل: رَاوِيَة، وعَلاَّمَة، ونَسَّابَة.
قوله تعالى: { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } قال ابن عباس: بعضهم على دين بعض (2) .
وفيه تكذيب لقولهم فيما أضربه عنهم في قوله: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } ، وتقرير لقوله: { وما هم منكم } .
ثم أوضح أمرهم وبيّن كفرهم فقال: { يأمرون بالمنكر } وهو الكفر والنفاق، { وينهون عن المعروف } وهو الإيمان والإخلاص، { ويقبضون أيديهم } عن الإنفاق في سبيل الله أو عن جهاد أعدائه، { نسوا الله فنسيهم } .
قال الزجاج (3) : تركوا أمر الله فتركهم من رحمته وتوفيقه.
{ إن المنافقين هم الفاسقون } الكاملون في فسقهم وتمرّدهم، الْمُخْرِج لهم من الإيمان إلى الكفر.
{ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم } قال الزجاج (4) : كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذبتك حسب فعلك، وحَسْبُ فُلان ما نَزَل به، أي: ذلك على قدر فعله.
{ ولعنهم الله } سبق تفسيره.
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/466).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/508)، وزاد المسير (3/467).
(3) ... معاني الزجاج (2/460).
(4) ... معاني الزجاج (2/460).(1/578)
{ ولهم عذاب مقيم } لا انقطاع له، ففي الدنيا الخوف والعار، وفي الآخرة عذاب النار.
ڑْïد%©!$%x. مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ادزب(1/579)
قوله تعالى: { كالذين من قبلكم } قال الزجاج (1) : الكاف في موضع نصب، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم.
وقال غيره: في موضع رفع، على معنى: اسم مثل الذين من قبلكم (2) .
{ كانوا أشد منكم قوة } فلم تدفع عنهم قوتهم أمر الله لما نزل بهم، { وأكثر
أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا (3) .
وقال الزجاج (4) : استمتعوا بنصيبهم وحظهم من الدنيا.
{ وخضتم } يعني: في اللهو واللعب والباطل وتكذيب الرسل، { كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } ، فاحذروا أنتم أيها المشابهون لهم أن يَحِلَّ بكم من غضب الله وعقابه مثلَ ما حَلَّ بهم.
فإن قيل: لم خَصَّ المشيئة بهم بما ذكر من حبط الأعمال والخسران مع اشتراك الجميع في الموجب لذلك؟
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/460).
(2) الدر المصون (3/482).
(3) ... انظر: الطبري (10/175)، وزاد المسير (3/467).
(4) ... معاني الزجاج (2/460).(1/580)
قلت: أولئك استقر حكمهم وتبين حالهم بالموت على كفرهم، وهؤلاء بعرضية التوبة والإنابة، وقد وجد ذلك من بعضهم. ألا تراه يقول في معرض التخويف لهم مما نزل بأمثالهم من أهل الكفر والتكذيب والنفاق: { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } يعني: خبر هلاكهم.
َOs9r& يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اذةب(1/581)
ثم بيّنهم فقال: { قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم } قال ابن عباس: يعني: [نمرود] (1) بن كنعان، وما نزل به من انتقام الله منه، وسلب النعمة عنه (2) .
{ وأصحاب مدين } قوم شعيب، { والمؤتفكات } جمع مُؤْتَفِكَة، وهي المُنْقَلِبَة، يريد: مدائن قوم لوط، أو جميع من أهلك، فانقلبت حاله من الخير إلى الشر، { أتتهم رسلهم بالبينات } التقدير: فكذبوهم.
{ فما كان الله ليظلمهم } قال ابن عباس: ما كان الله ليهلكهم حتى يبعث إليهم نبياً ينذرهم (3) .
{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } قال الزجاج (4) : أخبر سبحانه وتعالى أن تعذيبهم كان باستحقاقهم.
tbqمZدB÷sكJّ9$#ur وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) ... في الأصل: ثمود. والتصويب من المصادر التالية.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/509)، وزاد المسير (3/468).
(3) ... مثل السابق.
(4) ... معاني الزجاج (2/461).(1/582)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اذثب(1/583)
قوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في المعاضدة والمناصرة والرحمة والمودة.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، ثم شبّك بين أصابعه" (1) .
[وفيهما] (2) أيضاً من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المؤمنين في تراحمهم وتواددهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (3) .
{ يأمرون بالمعروف } وهو التوحيد، { وينهون عن المنكر } وهو الشرك والشك، { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله } فيعملون بالكتاب والسنة، { أولئك سيرحمهم الله } .
قال صاحب الكشاف (4) : السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، يعني: أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه: { سيجعل لهم الرحمن وداً } [مريم:96]، { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [الضحى:5].
__________
(1) ... أخرجه البخاري (5/2242 ح5680)، ومسلم (4/1999 ح2585).
(2) ... في الأصل: وفيها.
(3) ... أخرجه البخاري (5/2238 ح5665)، ومسلم (4/1999 ح2586).
(4) ... الكشاف (2/275).(1/584)
قوله تعالى: { ومساكن طيبة } قال ابن عباس: قصور الزبرجد والدرّ والياقوت، يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام (1) .
{ في جنات عدن } قال ابن عباس: هي بطنان الجنة، وبطنانها وهي وسطها، وهي أعلا درجة في الجنة، وهي دار الرحمن، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها (2) .
واشتقاقه من عَدَنَ بالمكان؛ إذا أقام به (3) .
قال الأعشى:
وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ ... ... يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ (4)
أي: إلى رزين ثابت لا يستخفه الغضب.
قوله تعالى: { ورضوان من الله أكبر } أي: وشيء من رضوان الله أكبر، أعظم من ذلك النعيم كله؛ لأن رضاه سبحانه أصل كل خير، وبتمامه يتم النعيم ويتكامل السرور.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عز وجل لأهل الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/509).
(2) ... زاد المسير (3/469).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (عدن).
(4) ... البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:69)، ومجاز القرآن (1/274)، واللسان، مادة: (وزن)، والقرطبي (20/146)، والماوردي (2/381)، والبحر المحيط (5/63)، والدر المصون (3/484). ورواية الديوان:
... ... ... ... وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى هادن قد رَزَنْ(1/585)
نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً" (1) .
قوله تعالى: { ذلك هو الفوز العظيم } أي: ذلك الذي وعدتم به أيها المؤمنون والمؤمنات، من الجنات والمساكن الطيبة في جنات عدن، ورضوان من الله، الفوز العظيم الذي يتضاءل بالنسبة إليه كل ما يُعَدُّ فوزاً.
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا
__________
(1) أخرجه البخاري (5/2398 ح6183)، ومسلم (4/2176 ح2829).(1/586)
بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ اذحب
قوله تعالى: { جاهد الكفار والمنافقين } قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين باللسان (1) .
{ واغلظ عليهم } أي: على الكفار والمنافقين في الجهادين.
__________
(1) أخرجه الطبري (10/183)، وابن أبي حاتم (6/1841-1842)، والبيهقي في سننه (9/11). وذكره السيوطي في الدر (4/239-240) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.(1/587)
قال ابن مسعود: هو أن [يكفهرّ] (1) في وجوههم (2) .
وقال ابن عباس: يريد: شدة الانتهار والنظر بالبغضة والمقت (3) .
قال عطاء: وهذه الآية نسخت كل شيء في القرآن من العفو والصفح (4) .
قوله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا } ذهب جمهور العلماء بالتفسير والسير إلى أن هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن صامت الأنصاري، وكان متهماً بالنفاق، وممن تخلف عن تبوك وثبط عن الخروج، وكان قال يوماً: إن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعه ربيبه عمير بن سعد الأنصاري -من بني عمرو بن عوف، رضي الله عنه، وكان يقال له: نسيج وحده، وهو الذي ولاّه عمر رضي الله عنه على حمص، وقصته مشهورة معروفة عند أهل العلم- يقول هذه الكلمة، -وكان يتيماً في حجره، وكان ينفق عليه ويحسن إليه-، فقال: يا جلاس، والله لقد كنت أحبّ الناس إليّ وأحسنهم عندي يداً، وأعزهم عليّ أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلتَ مقالة لئن قلتُها لأفضحنك، ولئن كتمتُها لأهلكنّ، ولكن إحداهما أهون عليّ من الأخرى، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه فسأله عما قال عمير،
__________
(1) في الأصل: يكفرّ. والمثبت من مصادر التخريج.
... والمُكْفَهِرّ: العابس. واكْفَهَرَّ الرَّجُلُ؛ إذا عبس (اللسان، مادة: كفهر).
(2) أخرجه الطبري (10/183)، وابن أبي حاتم (6/1841). وانظر: الوسيط (2/512). وذكره السيوطي في الدر (4/240) وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
(3) الوسيط (2/512)، وزاد المسير (3/470).
(4) ذكره القرطبي (8/205).(1/588)
فحلف بالله ما تكلم به قط، وأن عميراً لكاذب، فقام عمير من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: اللهم أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به، فأنزل الله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } فتاب بعد ذلك الجلاس واعترف بذنبه، وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه إلى عمير رضي الله عنه (1) .
وقال قتادة: نزلت في قول عبدالله بن أبيّ: { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } (2) [المنافقون:8].
قوله تعالى: { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهو سبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والطعن في الدين، وغير ذلك مما يوجب كفرهم ونفاقهم، { وكفروا بعد إسلامهم } بعد أن أظهروا الإسلام، { وهموا بما لم ينالوا } وهو الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة مرجعه من تبوك، حين توافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي؛ إذا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/185) عن عروة، وابن أبي حاتم (6/1843، 1846) عن كعب بن مالك وابن عباس وعروة. وانظر: الاستيعاب (1/264-265)، والسيرة النبوية لابن هشام (3/52-53)، والماوردي (2/383)، وزاد المسير (3/470). وذكره السيوطي في الدر (4/240، 241) وعزاه لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن عروة، وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... أخرجه الطبري (10/186)، وابن أبي حاتم (6/1843-1844). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:256-257)، والماوردي (2/383)، وزاد المسير (3/471). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/241) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/589)
تَسَنَّمَ (1) العقبة، فسمع حذيفة قعقعة السلاح وَوَقْعَ أخفاف الإبل، فالتفت إليهم، فقال: إليكم إليكم أعداء الله، فهربوا (2) . وقد ذكرنا قصتهم آنفاً (3) .
وقيل: هموا بما لم ينالوا من توبيخ عبدالله بن أُبيّ.
وقيل: قولهم: { ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون:8].
قوله تعالى: { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة في ضيق وضنك معيشة، فركبوا الخيل وأَثْرَوا بالغنائم، وقتل مولى الجلاس، فقضى له النبي - صلى الله عليه وسلم - بديته اثني عشر ألفاً، فاستغنى.
فإن قيل: ما موقع قوله: { وما نقموا إلا أن أغناهم الله } ؟
قلت: موقع قول النابغة:
ولا عيب فيهم ............ ... ......................
وقد سبق.
ومثله قول ابن قيس الرقيات:
مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّةَ إِلاَّ ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
وَأَنَّهُمْ سَادَةُ المُلُوكِ وَلاَ ... تَصْلُحُ إِلاَّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ (4)
__________
(1) ... سَنَّمَ الشيء تَسَنَّمَهُ: عَلاهُ (اللسان، مادة: سنم).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1844). وذكره السيوطي في الدر (4/242) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) ... ص: 572.
(4) ... البيتان لابن قيس الرقيات. انظر: ديوانه (ص:4)، والخزانة (7/288)، والبحر المحيط (5/74)، وزاد المسير (3/471-472).
... وانظر البيت الأول في: تهذيب اللغة (9/202)، ومجاز القرآن (1/170)، والقرطبي (8/207)، والطبري (6/292)، وروح المعاني (6/173، 10/139).(1/590)
قوله تعالى: { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } قال ابن السائب: فقام الجلاس حين نزلت هذه الآية فقال: أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما قلته، فقبل رسول الله توبته (1) .
{ وإن يتولوا } يعرضوا عن التوبة، كما أعرض [المخذول] (2) عبدالله بن أبي بن سلول، { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة } .
قال جمهور المفسرين: في الدنيا بالخزي والقتل (3) .
وهذا إنما يكون عند المجاهرة بالتولي والإعراض والكفر. أما إذا نافقوا وداهنوا، فالعذاب اللاحق بهم في الدنيا تقلقلهم واضطرابهم، كما أخبر عنهم سبحانه وتعالى: { يحسبون كل صيحة عليهم } [المنافقون:4].
{ وما لهم في الأرض من ولي } نافع { ولا نصير } دافع.
* وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/512).
(2) ... في الأصل: المخذلول.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/512)، وزاد المسير (3/472).(1/591)
مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَن اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اذرب
قوله تعالى: { ومنهم من عاهد الله... الآية } ذهب عامة المفسرين إلى أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري.(1/592)
وذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي رضي الله عنه قولاً آخر (1) : أنه رجل من بني عمرو بن عوف، وقال: قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال ابن السائب: والرجل حاطب بن أبي بلتعة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف.
وقول ابن السائب: هو حاطب بن أبي بلتعة، إن أراد به أن الرجل الذي من بني عمرو بن عوف هو حاطب بن أبي بلتعة، فهو قول باطل، لأن حاطباً من ولد نجم بن عدي، وقيل: إنه من مذحج، وقيل: بل كان عبداً لعبيد الله بن حميد من ولد أسد بن عبدالعزى.
والأكثرون قالوا: هو حليف لبني أسد بن عبد العزى.
وإن لم يرد هذا؛ بل قال قولاً مستأنفاً أن الآية نزلت فيه، فهو قول فاسد لا محالة؛ لأن حاطباً كان مؤمناً مخلصاً لا [مغمز] (2) فيه، وقد شهد الله له بالإيمان في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [الممتحنة:1]. وستأتي إن شاء الله قصته وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عند تفسير هذه الآية (3) .
وهذه الآية التي في هذه السورة شاهدة للذي أنزلت فيه بالنفاق إلى يوم التلاق. وكان من حديث ثعلبة على ما أخبرنا به أبو الحسن المؤيد بن محمد
__________
(1) زاد المسير (3/474).
(2) ... في الأصل: تغمز.
(3) ... وذكر القرطبي في تفسيره (8/209-210) أن آية الممتحنة نزلت في ثعلبة.(1/593)
بن علي الطوسي في كتابه، قال: أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري البيهقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن الفضل، حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، أخبرنا أبو عمران موسى بن سهل الجوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا [معان] (1) بن رفاعة السلامي، عن أبي عبدالملك علي بن يزيد، أنه أخبره عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه: "أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويحك يا ثعلبة! قليلٌ تؤدي شكره خيرٌ من كثير لا تطيقه، ثم قال مرة أخرى، فقال: ألا ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسيل معي الجبال ذهباً لسالت. فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، لئن دعوتَ الله أن يرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ارزق ثعلبة مالاً، فاتخذ غنماً فَنَمَتْ كما ينمو الدُّود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نَمَتْ وكثُرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدُّود، حتى ترك الجمعة. فسأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله اتخذ غنماً وضاقت عليه المدينة، وأخبروه بخبره. فقال: يا ويح ثعلبة، ثلاثاً، وأنزل الله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
__________
(1) ... في الأصل: عمان. وهو خطأ. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (10/181)، والتقريب (ص:537).(1/594)
وتزكيهم بها ... الآية } ، وأنزل الله تعالى عليهم فرائض الصدقة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة، رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين. قال لهما: مُرَّا بثعلبة وبفلان -رجل من بني سليم- فَخُذَا صدقتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا، ثم تعودان إليّ، فانطلقا وأخبرا السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة، ثم استقبلهم بها، فلما رأوها قالا: ما يجب هذا عليك، وما نريد أن نأخذها منك، قال: بلى خذوه، فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذوها منه، فلما فرغا مَرَّا على ثعلبة فقال: أروني كتابكما أنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة، قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، وأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل الله تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } -إلى قوله-: { وبما كانوا يكذبون } وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج إلى ثعلبة فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله منعني أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل منه شيئاً، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموضعي في الأنصار، فاقبل(1/595)
صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا أقبلها؟! فقبض أبو بكر، وأبى أن يقبلها. فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر، فأنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها، وقبض عمر رضي الله عنه. ثم ولي عثمان رضي الله عنه، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، فأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان" (1) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/189)، وابن أبي حاتم (6/1847-1849)، والبيهقي في الشعب (4/79-80)، والدلائل (3/260)، والطبراني في الكبير (8/218-219). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/31) وقال: فيه علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك، والواحدي في الوسيط (2/513). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/246) وعزاه للحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن منده والباوردي وأبي نعيم في معرفة الصحابة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي.
... والحديث إسناده ضعيف جداً، فيه معان بن رفاعة السلامي. قال الجوزجاني: ليس بحجة. وقال الأزدي: لا يحتج به (انظر: الكامل لابن عدي 6/328، وتهذيب التهذيب 10/181، والمجروحين 3/36).
... وفيه أيضاً: علي بن يزيد الألهاني، قال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، حديثه منكر. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال النسائي: ليس بثقة (التاريخ الكبير 6/301، والمجروحين 2/110، وتهذيب التهذيب 7/346، وتقريب التهذيب ص:406).
... وقال الحافظ ابن عبدالبر: ولعل قول من قال ثعلبة إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. (انظر: الإصابة 1/400).(1/596)
وقال الضحاك: نزلت في ثعلبة بن حاطب، ونبتل بن الحارث، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير (1) .
قوله: { ومنهم } أي: ومن المنافقين { من عاهد الله } قال: عليّ عهد الله، وقيل: هو شيء نَوَوْهُ في أنفسهم استدلالاً بقوله: { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم } ، وليس هذا القول بشيء. { لئن آتانا من فضله } أي: لئن أعطانا من فضله مالاً { لنصَّدقن } ، لنعطين الصدقة، { ولنكونن من الصالحين } لنعملن فيه عمل أهل الصلاح بالإنفاق منه في سبيل الله وصلة الرحم.
{ فلما آتاهم من فضله بخلوا به } فنقضوا العهد وهو قوله: { وتولوا وهم معرضون } .
{ فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم } أي: فأعقبهم الله. وقيل: فأعقبهم البخل (2) .
والأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني قول الحسن وقتادة.
والمعنى: صير عاقبة أمرهم نفاقاً متمكناً في قلوبهم لا ينفك عنهم { إلى يوم يلقونه } فيموتون على نفاقهم؛ لإخلافهم وعد الله وكذبهم في عهده، فذلك قوله: { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن [عمرو] (3) أنه قال: "أربعٌ من كُنَّ فيه
__________
(1) ... زاد المسير (3/474).
(2) ... زاد المسير (3/475).
(3) ... في الأصل: عمر. والتصويب من الصحيحين.(1/597)
كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا وَعَدَ أَخْلَف، وإذا عَاهَدَ غَدَر، وإذا خَاصَمَ فَجَر" (1) .
وروى الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: إذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا وَعَدَ أَخْلَف، وإذا اؤْتُمِنَ خَان" (2) .
وقال عبدالله بن مسعود: "اعتبروا المنافق بثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر. وأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله -إلى قوله-: وبما كانوا يكذبون } " (3) .
وقد ذكرنا حديث أبي هريرة عند قوله في الأنفال: { إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال:58].
وقالت عائشة: "ما كان خُلُقٌ أبغض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذبة، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه أحدث منها توبة" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1160 ح3007)، ومسلم (1/78 ح58).
(2) ... أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/490) عن الحسن. وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (1/78-79 ح59).
(3) أخرجه الطبري (10/191)، وابن أبي شيبة (5/237 ح25611)، والطبراني في الكبير (9/222). وذكره الهيثمي في مجمعه (1/108) وعزاه للطبراني في الكبير وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(4) ... أخرجه أحمد (6/152 ح25224)، والبيهقي (10/196).(1/598)
الإشارة إلى تأويل هذه الأحاديث:
قال مقاتل بن حيان: كنت على قضاء سمرقند، فقرأت يوماً حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، فتوزع فلذي، وتقسم قلبي، وخفت على نفسي وعلى جميع الناس. فقلت: من ينجو من هذه الخصال؟ فأخللت بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها، فلم أجد فرجاً، فأتيت مرو فلم أجد فرجاً، فأتيت نيسابور فلم أجد عند علمائها فرجاً، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان، فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألته عن الخبر، فقال: يا أخي، أنا منذ سمعت هذا الحديث كالحية على المقلى خوفاً، فعليك بسعيد بن جبير فإنه مُتَوارٍ بالرّي (1) ، فاطلبه واسأله فلعلك تجد لي ولك وللمسلمين فرجاً، فأتيت الري وطلبت سعيد بن جبير، وأتيته فعرضت عليه قصتي، وسألته عن معنى الخبر، فقال: أنا كديدان الحل في الخل منذ سمعت هذا الحديث، وإني خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال، ولقد قاسيت وعانيت سفراً طويلاً وبلاءاً، فعليك بالحسن البصري، فإني أرجو أنك تجد لي ولك عنده وللمسلمين فرجاً، فأتيت البصرة وطلبت الحسن، وقصصت عليه القصة بطولها، قال: رحم الله شهراً وسعيداً، بلغهما نصف الخبر ولم
__________
(1) الري: مدينة مشهورة، وهي محط الحاج على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخاً، وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخاً (معجم البلدان 3/116).(1/599)
يبلغهما النصف، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه ملياً وهابوه أن يسألوه، فأتوا فاطمة عليها السلام وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر، فأتت فاطمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بشغل قلوب أصحابه، فأمر سلمان فنادى: الصلاة جامعة. فلما اجتمعوا صعد المنبر وقال: يا أيها الناس، إني كنت قلت لكم: "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف"، ما عنيتكم بهنّ، إنما عنيت المنافقين. أما قولي: "إذا حدث كذب"، فإن المنافقين أتوني فقالوا: والله إن إيماننا كإيمانك، وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك، فأنزل الله: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون:1].
وأما قولي: "وإذا ائتمن خان"، فإن الأمانة الصلاة، والدين كله أمانة، قال الله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } [النساء:142]، وفيهم قال: { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون } [الماعون:4-6].
وأما قولي: "[وإذا] (1) وعد أخلف"، فإن ثعلبة أتاني فقال: إني مولع بالسائمة، ولي غنيمات، فادْعُ الله أن يبارك فيهن، فدعوت الله فَنَمَتْ وزادت حتى ضاقت الفجاج بها، فسألته الصدقة، فأبى عليّ وبخل بها، فأنزل الله
__________
(1) ... في الأصل: إذا.(1/600)
فيه: { ومنهم من عاهد الله } -إلى قوله-: { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } ، فَسُرِّيَ عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبرّوا وتصدقوا بمال عظيم (1) .
وقال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبدالله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة، الذين حدثوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذبوه، وائتمنهم على سرّه فخانوه، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه (2) .
قوله تعالى: { ألم يعلموا أن الله يعلم سرّهم } وهو ما أضمروه في أنفسهم من النفاق والتكذيب، والعزم على إخلاف ما وعدوه، { ونجواهم } ما يتناجون به في الطعن في الدين وتكذيب سيد المرسلين.
ڑْïد%©!$# يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
__________
(1) انظر: القرطبي (8/213-214).
(2) ... أخرجه الطبري (10/192).(1/601)
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اذزب
قوله تعالى: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } أخرجا في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مُراءٍ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: { الذين يلمزون المُطّوعين ... الآية } " (1) .
قال أهل التفسير: حض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً على الصدقة، فجاء عبدالرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب، وقيل: بنصف ماله وكان ثمانية آلاف، فقال: يا رسول الله، كان لي ثمانية آلاف أقرضت ربي نصفها، وتركت لعيالي نصفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت، فبارك الله له حتى صولحت زوجته تماضر عن ربع الثُّمُن، وكان خلف أربع زوجات، على ثمانين ألفاً.
وجاء عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، واعتذر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قلّته.
وجاء رجل من -الأنصار قيل: هو أبو خيثمة، وقيل: أبو عقيل بن قيس- بصاع واحد، وقال: يا رسول الله تركت لعيالي مثله، فلمزهم المنافقون قالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم بن عدي إلا رياء وسمعة، وإن كان الله
__________
(1) ... أخرجه البخاري (2/513 ح1349)، ومسلم (2/706 ح1018).(1/602)
ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحب أن يُذَكِّرَ بنفسه ليعطى من الصدقات، فأنزل الله: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ... الآية } (1) .
قوله تعالى: { الذين } نصب على الذم، أو رفع، على معنى: هم الذين، أو جر على البدل من الضمير في "سرهم ونجواهم" (2) .
{ والذين لا يجدون إلا جُهدهم } يعني: طاقتهم، والجَهْد -بالفتح-: المشقة. وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
{ فيسخرون منهم سخر الله منهم } أي: جازاهم على سخريتهم بهم حيث صاروا إلى النار، { ولهم عذاب أليم } بما أضمروا من النفاق وأظهروا من لمز المؤمنين على الإنفاق.
وفي الحديث: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل. قال: فأي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً" (3) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/197)، وابن أبي حاتم (6/1851). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/249) وعزاه للبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) ... انظر: الدر المصون (3/485-486).
(3) هذا الحديث روي مجزءاً، فالشطر الأول منه إلى قوله: "طول القنوت" أخرجه مسلم (1/520 ح756). والشطر الثاني إلى قوله: "جهد المقل" أخرجه أبو داود (2/129 ح1677)، والحاكم (1/574 ح1509) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والشطر الأخير أخرجه أبو داود (4/220 ح4682)، والترمذي (5/9 ح2612)، وابن ماجه (2/1423 ح4259).(1/603)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ارةب
قوله تعالى: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } قال ابن عباس: لما نزل وعيد اللامزين قالوا: يا رسول الله، استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سوف أزيد على السبعين لعل الله يغفر لهم، فنزلت: { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } (1) [المنافقون:6].
فإن قيل: النبي صلوات الله عليه وسلامه أفصح العرب لساناً، وأعلمهم بمواقع البيان ومقاصد الخطاب، فكيف قال: سوف أزيد على السبعين، مع وضوح المعنى وظهوره بنفي المغفرة، لا سيما وقد ختم الآية بقوله: { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين } ؟
__________
(1) أخرجه الطبري (10/199)، وابن أبي حاتم (6/1854) كلاهما عن قتادة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/477)، والسيوطي في الدر المنثور (4/253-254) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة.(1/604)
قلت: لما احتمل الكلام ذلك -وإن كان في غاية البعد- صار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جرياً مع طباعه الكريمة، وأعرافه المستقيمة، وانقياداً مع دواعي شفقته ورحمته لأمته.
فإن قيل: ما معنى حصر العدد في سبعين؟
قلت: لظهوره في كلام العرب وجريانها مجرى المثل للتكثير.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لأُصَبِّحَنَّ العَاصَ وابْنَ العَاصِ ... سَبْعِينَ أَلْفاً عَاقِدِي النَّواصِي (1)
yyجچsù الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا
__________
(1) ... انظر البيت في: تاريخ الطبري (3/71)، والبحر المحيط (5/79).(1/605)
يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ارثب
قوله تعالى: { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } وهم الذين تخلفوا بالمدينة عن غزاة تبوك.
فإن قيل: اللفظ مشعر بمخلِّف، فمن هو؟
قلت: هو الله الذي خذلهم وسلبهم التوفيق، أو الرسول حين أذن لهم في التَّخَلُّفِ أو الفشل والكسل، والشيطان بوسوسته وتزيينه.
قوله: "بمقعدهم" مصدر كالقعود، "خلاف رسول الله" أي: خلفه.
وفي قراءة ابن مسعود: "خَلْفَ رسول الله" (1) ، ومثله: "ثم لا يلبثون خَلْفَكَ" و"خِلاَفَكَ"، والمعنى واحد. قال الشاعر:
فَقُلْ لِلَّذي يَبْغِي خِلافَ الَّذِي مَضَى ... ... تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلَها فَكَأَنْ قَدِ (2)
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/478).
(2) ... البيت منسوب للشافعي، انظر: معجم الشعراء للمرزباني (ص:6)، واللسان، مادة: (خلف)، والمحرر الوجيز (3/554)، وحلية الأولياء (9/150)، وسير أعلام النبلاء (10/72)، والكامل (2/460)، وتهذيب الكمال (3/298)، والبحر المحيط (5/80)، والدر المصون (3/487)، وروح المعاني (17/44).(1/606)
وقيل: هو بمعنى المخالفة، فانتصابه على هذا على الحال، أو هو مفعول له (1) . أي: فرحوا بمقعدهم مخالفين أو للمخالفة.
{ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } لأنهم لا يرجون بالجهاد ثواباً، ولا يخافون بتركه عقاباً، { وقالوا لا تنفروا في الحر } أي: قال بعضهم لبعض. ويجوز أن يكونوا قالوا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين على معنى إظهار الشفقة والإرشاد إلى المصلحة.
{ قل } لهم يا محمد: { نار جهنم أشد حراً } من حر الدنيا.
وفي قوله: { لو كانوا يفقهون } استجهال لهم، حيث آثروا لذة حائلة، [وراحة] (2) زائلة، يستلزم إيثارها الاشتمال في الدنيا بالعار، والاصطلاء في الآخرة بالنار.
قوله تعالى: { فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً } خبر جاء بلفظ الأمر، إشعاراً بتحتمه وكونه لا محالة، والتقدير: يضحكون قليلاً في الدنيا، ويبكون كثيراً في النار.
وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عُمر الدنيا لا يَرْقَأ (3) لهم دمع (4) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/19)، والدر المصون (3/487).
(2) ... في الأصل: وراحلة. وفي هامش الأصل: لعلها: راحة.
(3) ... رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ تَرْقَأُ رَقْأً ورُقُوءاً: جَفَّتْ وانْقَطَعَتْ (اللسان، مادة: رقأ).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/516).(1/607)
وقال أبو موسى: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أُجْرِيَتْ السفن في دموعهم لَجَرَتْ، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليبكَى (1) .
قرأتُ على الشيخ أبي المجد محمد بن الحسين القزويني، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي فأقرَّ به، قال: حدثنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا محمد بن عبدالله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب، أخبرنا عبدالله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبدالله الخلال، حدثنا عبدالله بن المبارك، عن عمران بن زيد (2) ، حدثنا يزيد الرقاشي (3) ، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أيها الناس ابكوا، فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون
__________
(1) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:247)، والحاكم (4/648)، وأبو يعلى (7/161)، وابن أبي شيبة (7/50)، وابن سعد في الطبقات (4/110). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/479)، والسيوطي في الدر المنثور (4/257) وعزاه لابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد.
(2) ... عمران بن زيد التغلبي، أبو يحيى البصري ويقال: الكوفي الملائي الطويل، قال ابن معين: ليس يحتج بحديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه وليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب 8/117، والتقريب ص:429).
(3) ... يزيد بن أبان الرقاشي، أبو عمرو البصري القاص، زاهد صالح، إلا أنه منكر الحديث ضعيف (تهذيب التهذيب 11/270-271، والتقريب ص:599).(1/608)
في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء مثل العيون، فلو أن سُفُناً أُجْرِيَتْ فيها لَجَرَتْ" (1) .
bخ*sù رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى 7pxےح !$sغ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ارجب
قوله تعالى: { فإن رجعك الله } أي: ردك إلى المدينة { إلى طائفة منهم } أي: من المخلَّفين، والمراد بالطائفة المنافقون، فإن المخلَّفين لم يكونوا كلهم منافقين.
__________
(1) ... أخرج نحوه ابن ماجه (2/1446 ح4324)، وابن أبي شيبة (7/50 ح34130). وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1/85 ح295)، والبغوي في التفسير (2/316). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/256-257) وعزاه لابن أبي شيبة وابن ماجه وأبو يعلى.(1/609)
ويجوز أن يكون المعنى: فإن رجعك الله إلى طائفة من المنافقين، وهم الذين أصروا على النفاق ولم يتوبوا، { فاستأذنوك للخروج } في غزاة، فقل معاقباً لهم بتخلفهم ونفاقهم، ومُسْقِطاً لهم من ديوان الغُزاة، ومُلْحِقاً بهم عاراً وشَنَاراً لا يفارقهم: { لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } .
قال عامة المفسرين: هي غزاة تبوك (1) .
فإن قيل: تبوك آخر غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف قال: "أول مرة"؟
قلت: قد أجاب عنه الماوردي فقال (2) : أول مرة دعيتم أو رضيتم به أول مرة قبل استئذانكم.
ويجوز عندي أن يقال: المراد بالأولية هاهنا: مبادئ الغزوات، وتبوك وإن تأخرت يصدق عليها كونها أولاً، كما يقال: كان هذا في أول الإسلام.
فإن قيل: قد علم الله تعالى أنها آخر غزوات رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف أمره أن يقول لهم: { لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي } ؟
قلت: المراد بها: إسقاطهم من ديوان الغُزاة -كما أشرت إليه قبل-، وقطع الموالاة والنصرة بينهم وبين المسلمين، وأنهم لا يخرجون مع أهل دينه ولا يقاتلون معهم عدواً.
قوله تعالى: { فاقعدوا مع الخالفين } قال ابن عباس: هم ذووا الأعذار من الرجال (3) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/514)، وزاد المسير (3/479).
(2) ... تفسير الماوردي (2/388).
(3) أخرجه الطبري (10/204)، وابن أبي حاتم (6/1857). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/480)، والسيوطي في الدر المنثور (4/258) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/610)
وقال الحسن وقتادة: النساء والصبيان (1) .
وقيل: المعنى: فاقعدوا مع أهل الفساد (2) ، ومنه: نَبِيذٌ خَالِف، أي: فاسد، وخَلَفَ اللَّبن؛ إذا حَمُضَ من طول لبثه في السقاء، وخَلَفَ فَمُ الصَّائم؛ إذا تغيَّرت ريحه (3) .
ويجوز أن يكون المعنى: فاقعدوا مع الخالفين.
قال الفراء (4) : يقال: عبد خَالِف، وصاحب خَالِف؛ إذا كان مخالفاً.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (10/204). وذكره الواحدي في الوسيط (2/516).
(2) ... واختار الطبري هذا القول ورجحه، قال (10/204): والصواب من التأويل في قوله: { الخالفين } ما قال ابن عباس. وأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء؛ فقول لا معنى له؛ لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال بالياء والنون، ولا بالواو والنون. ولو كان معنياً بذلك النساء لقيل: فاقعدوا مع الخوالف أو مع الخالفات، ولكن معناه ما قلنا من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرجال وأهل زمانتهم والضعفاء منهم والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر، فإن العرب تغلب الذكور على الإناث، ولذلك قيل: فاقعدوا مع الخالفين، والمعنى ما ذكرنا.
... ولو وجه معنى ذلك إلى فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم: خلف الرجال عن أهله يخلف خلوفاً؛ إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوء، كان مذهباً، وأصله إذا أريد به هذا المعنى من قولهم: خلف اللبن يخلف خلوفاً؛ إذا خبث من طول وضعه في السقاء حتى يفسد، ومن قولهم: خلف الصائم؛ إذا تغيرت ريحه.
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (خلف).
(4) ... معاني الفراء (1/447).(1/611)
وقيل: المعنى: فاقعدوا مع الخساس من الناس. يقال: فلان خالفه أهله؛ إذا كان دونهم (1) .
فإن قيل: كيف أمرهم بما لا يجوز فعله، وهو القعود والتخلف عن نصر الرسول والإسلام؟
قلت: هذا خارج مخرج التهديد؛ كقوله: { اعملوا ما شئتم } [فصلت:40].
ںwur تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ارخب
__________
(1) ... انظر: اللسان، مادة: (خلف).(1/612)
قوله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } ، أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبد الصمد العطاري قراءة عليه وأنا أسمع، والشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة بقراءتي عليه قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الصوفي، أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله -يعني: ابن عمر-، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلي عليه فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟! فقال: إنما خيرني الله أو أخبرني الله فقال: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } فقال: سأزيده على سبعين. قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلينا معه، فأنزل الله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } " (1) .
وفي الصحيح من رواية ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما قال: "فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبتُ إليه فقلت: يا رسول لله، أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا كذا وكذا، قال: أَعُدُّ عليه. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أخر
__________
(1) ... أخرجه البخاري في صحيحه (4/1716 ح4395)، ومسلم (4/1865 ح2400).(1/613)
عني يا عمر، فلما أكثرتُ عليه قال: إني خيرت فاخترت، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والله ورسوله أعلم" (1) .
وفي هذا الحديث الصحيح إبطال لقول من زعم أنه لم يصل عليه، فإن الزمخشري (2) حكى: أن جبريل جذبه حين أراد أن يصلي عليه.
فإن قيل: كيف أكرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقميصه؟
قلت: عنه أجوبة:
أحدها: أنه رامَ مكافأته على يد كانت له على عمه العباس عليه السلام، فإنه كان رجلاً جسيماً طويلاً، ولم يجدوا يوم بدر له قميصاً، فكساه عبدالله بن أبيّ قميصه. وهذا الجواب ذكره جماعة من العلماء، ويَرِدُ عليه إشكال وهو: أن عبدالله بن أبيّ لم يحضر بدراً، ولم يكن أسلم يومئذ؟
ويجاب عنه بأن يقال: المراد بيوم بدر الذي كسى فيه ابن أبيّ العباس قميصه، الزمان المقارب للوقعة، كما تقول: يوم صفين ويوم بُعاث، كأنهم -والله أعلم- التمسوا له قميصاً يوم ورودهم المدينة، فتعذر في ذلك الوقت، فأعطاه ابن أبيّ قميصه؛ لأنه كان نظيره في الجسامة وامتداد القامة.
__________
(1) أخرجه البخاري (1/459 ح1300).
(2) الكشاف (2/283).(1/614)
والجواب الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرد سائلاً، وكان أرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب أحد ثوبيه ليكفن فيه، فأرسل إليه الدِّثار (1) فأرسل يقول: أريد ثوبك الذي يلي جلدك، فأرسله له.
الثالث: أنه أكرم بذلك ابنه عبدالله، وكان رجلاً صالحاً.
الرابع: أنه رام بذلك استعطاف غيره واستمالتهم إلى الإسلام.
فإن قيل: هل ناله بركة القميص؟
قلت: كلا.
قال قتادة: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يغني عنه قميصي من عذاب الله من شيء" (2) .
فإن قيل: تضمَّن دفع القميص لتكفينه فائدة وحكمة ظهر أثرها.
قلت: نعم، فإنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله إني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه" (3) ، فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج حين رأوا استشفاءه بقميص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . حكى هذا جماعة؛ منهم الزجاج (4) والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي (5) ، ثم إن في ذلك [حضاً] (6) للمؤمنين على المعاطفة
__________
(1) ... الدثار: هو الثوب الذي يكون فوق الشِّعار (اللسان، مادة: دثر).
(2) أخرجه الطبري (10/206). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/480)، والواحدي في أسباب النزول (ص:262). والسيوطي في الدر المنثور (4/259) وعزاه لأبي الشيخ.
(3) ... انظر: المصادر السابقة.
(4) ... معاني الزجاج (2/463).
(5) زاد المسير (3/480-481).
(6) ... في الأصل:حظاً.(1/615)
والمراحمة؛ لأنهم إذا رأوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك مع رجل معروف بالنفاق لكونه نطق بكلمة الإسلام، حرّك دواعيهم وهيّج شفقة بعضهم على بعض.
قوله تعالى: { ولا تَقُمْ على قبره } قال أهل التفسير: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له (1) ، فنهي عن ذلك في حق المنافقين.
قال ابن جرير (2) : المعنى: لا تتولى دفنه، وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان؛ [إذا كفاه أمره] (3) .
وقد سبق تفسير الآية التي بعدها.
!#sŒخ)ur أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (3/215 ح3221). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/481).
(2) ... تفسير الطبري (10/204).
(3) ... ما بين المعكوفين زيادة من الطبري، الموضع السابق.(1/616)
الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ارذب
قوله تعالى: { وإذا أنزلت سورة } يجوز أن يراد السورة بتمامها، ويجوز أن يراد بعضها. والمعنى: وإذا أنزلت سورة تأمرهم بالإيمان والجهاد.
قال مقاتل (1) : هي براءة.
والأظهر: إطلاقها في كل سورة تشمل على الأمر بالإيمان والجهاد.
{ أَنْ آمنوا } هي "أَنْ" المفسِّرة، ثم إن كان الخطاب للمنافقين، فالمعنى: آمنوا بقلوبكم، وإلا فالمراد: اثبتوا على الإيمان، أو افعلوا فعل المؤمنين { استأذنك أولوا الطول منهم } وهم ذوو اليسار الذين لا عذر لهم في التخلف، { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } من ذوي الأعذار.
فوبخهم الله تعالى بقوله: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } وهي النساء، أو الخساس الأدنياء.
قال ابن الأنباري (2) : العرب تجمع فاعلة فواعل فيقولون: ضاربة وضوارب، وشاتمة وشواتم، ولا يجمعون فاعلاً فواعل إلا في حرفين، فوارس وهوالك.
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/64).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/482).(1/617)
وقال غيره: لا يجمع فاعل على فواعل إلا في الشعر أو قليل من الكلام.
{ وطبع على قلوبهم } قال ابن عباس: بالنفاق (1) .
{ فهم لا يفقهون } ما في الجهاد من المثوبة، وفي التخلف عنه من العقوبة.
ا`إ3"s9 الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/517).(1/618)
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ارزب
ثم أثنى الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين فقال: { لكن الرسول ... الآية } أي: إن تخلف المنافقون فقد نَهَدَ (1) إلى الجهاد الرسول، { والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } .
{ وأولئك لهم الخيرات } قال الأخفش والمبرد: هو جمع خيرة، وهن الجواري الفاضلات الحسان (2) ، ومنه قوله: { فيهن خيرات حسان } [الرحمن:70].
وقيل: "الخيرات": منافع الدنيا والآخرة.
uن!%y`ur الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ
__________
(1) ... نَهَدَ إليه: قام (اللسان، مادة: نهد).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/517)، وزاد المسير (3/483).(1/619)
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ(1/620)
أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ازجب
قوله تعالى: { وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم } قال أبو عبيدة (1) : المعذرون من تعذر وليس بجاد، إنما يُعَرِّضُ بما لا يفعله ويُظهر غير ما في نفسه.
وقال [ابن] (2) قتيبة (3) : يقال: عَذَّرت في الأمر؛ إذا قصّرت (4) .
وقال الفراء (5) والزجاج (6) وابن الأنباري (7) : المُعَذِّرون هم المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود (8) .
__________
(1) مجاز القرآن (1/267).
(2) زيادة على الأصل. وانظر: زاد المسير (3/483).
(3) تفسير غريب القرآن (ص:191).
(4) انظر: اللسان، مادة: (عذر).
(5) معاني الفراء (1/447).
(6) معاني الزجاج (2/464).
(7) انظر: زاد المسير (3/382).
(8) مثل السابق.(1/621)
قال مجاهد: هم نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله (1) .
وقيل: هم أسد وغطفان، قالوا: إن لنا عيالاً وإن بنا جَهْداً فأْذن لنا في التخلف.
وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سيغنيني الله عنكم.
قال قتادة: اعتذروا بالكذب (2) .
وقال الزجاج (3) : المتعذرون هم الذين يعتذرون، كان لهم عذر أو لم يكن، وهم هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر، وأنشدوا:
إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَد اعْتَذَرْ (4)
المعنى: فقد جاء بعذر.
__________
(1) أخرجه الطبري (10/210)، وابن أبي حاتم (6/1860) عن ابن إسحاق. وانظر: الوسيط (2/517) من قول ابن إسحاق. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/261) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن إسحاق.
(2) أخرجه الطبري (10/210).
(3) معاني الزجاج (2/464).
(4) البيت للبيد بن ربيعة، يوصي ابنتيه بزيارة قبره حولاً بعد موته، ويقول: إن هذا كاف. انظر: ديوان حاتم (2/21)، ومجاز القرآن (1/16)، واللسان، مادة: (عذر)، ومعاني الزجاج (2/464)، والطبري (1/52، 10/210)، والقرطبي (1/98، 8/224، 10/231)، وزاد المسير (3/483، 9/87)، وروح المعاني (12/57).(1/622)
قال الزجاج (1) وغيره: ويجوز الْمُعِذّرون -بكسر العين- لالتقاء الساكنين، ويجوز الْمُعُذَّرون -بضم العين- لاتباع ضمة الميم، ولم يُقرأ بهذين الوجهين.
وقرأ ابن عباس بسكون العين وتخفيف الذال (2) ، وهم الذين يأتوا بالعذر الصحيح، وكان يقول: هم الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه، وهذا يؤيد قول الزجاج.
{ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } وهم المنافقون المخلفون بغير عذر، ومعنى: "كذبوا الله": لم يَصْدُقُوا في إيمانهم.
وقرأ أُبيّ بن كعب: "كَذَّبُوا" بالتشديد (3) .
{ سيصيب الذين كفروا منهم } أي: داموا على كفرهم { عذاب أليم } .
قوله تعالى: { ليس على الضعفاء } قال الضحاك: نزلت في ابن أم مكتوم -وكان ضرير البصر-، قال: يا نبي الله، إني شيخ ضرير البصر، خفيف الحال، نحيف الجسم، وليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (4) .
__________
(1) معاني الزجاج (2/464).
(2) ... الحجة لابن زنجلة (ص:321)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:244).
(4) ... زاد المسير (3/484).(1/623)
قال ابن عباس: "الضعفاء": الزَّمْنَى (1) والمشايخ والعَجَزَة (2) .
والمرضى: جمع مريض.
{ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } وهم الفقراء { حرج } أي: ضيق بسبب الإثم، { إذا نصحوا لله ورسوله } بالإخلاص في إيمانهم وطاعتهم، وحفظ ذراري المجاهدين، وحسن الخلافة عليهم في أموالهم ونسائهم.
وفي قوله: { ما على المحسنين من سبيل } نفي لما عساه يتوهم من عتاب أو عقاب يلحقهم بسبب تخلفهم مع عذرهم ونصحهم، { والله غفور رحيم } للمحسنين.
قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } قال الحسن البصري: هم أبو موسى وأصحابه (3) .
وقال مجاهد: هم بنو مُقَرِّن، وكانوا سبعة (4) .
وقال ابن إسحاق: كانوا سبعة من الأنصار (5) . وهؤلاء قوم عدموا آلة الجهاد فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعونة.
__________
(1) ... الزَّمانة: العاهة. وجل زَمِنٌ: أي مُبْتَلى بَيِّنُ الزَّمانة (اللسان، مادة: زمن).
(2) الوسيط (2/518)، وزاد المسير (3/484).
(3) ... الماوردي (2/392)، وزاد المسير (3/486).
(4) ... أخرجه الطبري (10/212)، وابن أبي حاتم (6/1862). وانظر: الطبقات الكبرى (2/165)، وأسباب النزول للواحدي (ص:262)، والماوردي (2/392)، وزاد المسير (3/486). وذكره السيوطي في الدر (4/264) وعزاه لابن سعد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (10/213). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/486).(1/624)
قال ابن عباس: سألوه الدواب (1) .
وقال أنس بن مالك: سألوه الزاد (2) .
وقال الحسن: سألوه النعال (3) .
ولا تَنافي بين هذه الأقوال؛ لجواز أن يكون كل واحد سأل ما يحتاج إليه، ويتوقف خروجه عليه.
{ قلت لا أجد ما أحملكم عليه } فانصرفوا باكين، فذلك قوله: { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع } .
والجار والمجرور في موضع نصب على التمييز (4) .
وقوله: { حزناً } مفعول له (5) ، { أن لا يجدوا ما ينفقون } معناه: لئلا يجدوا ما يخرجون في جهاز الغزو.
وقوله: "أن لا يجدوا" في محل النصب على أنه مفعول له أيضاً، وناصبه المفعول له الذي هو "حَزَناً" (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/518)، وزاد المسير (3/486).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1863). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/486)، والسيوطي في الدر (4/265) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: المصادر السابقة.
(4) الدر المصون (3/493).
(5) ... التبيان (2/20)، والدر المصون (3/493).
(6) الدر المصون (3/493).(1/625)
ثم عاب الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون بالنفاق ويستأذنون في القعود مع القدرة على الخروج والإنفاق، فقال: { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ... الآية } .
ڑcrâ'ةtF÷ètƒ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ(1/626)
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ازدب
قوله تعالى: { لن نؤمن لكم } أي: لن نصدقكم في اعتذاركم، { قد نبأنا الله من أخباركم } فأطلعنا على نيط ما انطوت عليه ضمائركم من النفاق والفساد، { وسيرى الله عملكم } فيما تستأنفون، هل تتوبون إليه أو تقيمون على النفاق وتثبتون عليه، { ورسوله } يرى عملكم أيضاً فيشهد عليكم يوم القيامة، { ثم تردون } بعد الموت { إلى عالم الغيب والشهادة } يعني: السر والعلانية، { فينبئكم بما كنتم تعملون } المعنى: يجازيكم عليه.
قوله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم } أي: إذا رجعتم إليهم من تبوك.(1/627)
قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس ومعتب [بن] (1) قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلاً من المنافقين (2) .
{ لتعرضوا عنهم } أي: لتعرضوا عن توبيخهم وتعنيفهم وتصفحوا عنهم، { فأعرضوا عنهم } أي: دعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، وهو كلام يلوح منه الوعيد والتهديد.
{ إنهم رجس } قال عطاء: إن عملهم رجس (3) .
وهذا تعليل للأمر بالإعراض عنهم؛ لأن من كان عمله رجساً لا ينفع تلافيه، ولا ينجع الوعظ فيه.
قوله تعالى: { يحلفون لكم لترضوا عنهم } وذلك أن عبدالله بن أبيّ حلف للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يتخلف عنه، وليكونن معه على عدوه، وسأله الرضى عنه طلباً لنفع العاجلة، فأخبر الله أن ذلك غير مغن عنه شيئاً مع سخطه عليه، وكونه عرّض نفسه للعقوبة في الآجلة فقال: { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } .
ـ>#{ ôمF{$# أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (3/487).
(2) زاد المسير (3/487) من قول مقاتل.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/518) بلا نسبة.(1/628)
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ tچح !#urO$!$# عَلَيْهِمْ نotچح !#yٹ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي(1/629)
رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اززب
قوله تعالى: { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً } قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب حول المدينة (1) .
والمعنى: أشد كفراً ونفاقاً من أهل الحضر ممن هو على مثل رأيهم؛ لأنهم أقسى قلوباً وأجفى طباعاً.
ومن الحديث المخرج في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفَدَّادِين (2) عند أصول أذناب الإبل" (3) .
{ وأجدر أن لا يعلموا حدود } أي: أحق وأولى أن لا يعلموا حدود { ما أنزل الله على رسوله } لأنهم [أبعد عن] (4) العلم والحكمة، ولذلك شبهوا بالموتى. ومنه قول معاوية: "أهل الكُفُور هم أهل القبور" (5) . والكُفُور: جمع،
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/519)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/488). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/266) وعزاه لأبي الشيخ عن الكلبي.
(2) ... الفدّادون: جمع فدَّاد، من الفديد، وهو الصوت الشديد، وهم أصحاب الوبر أو الفلاّحون؛ لغلظ أصواتهم وجفائهم (اللسان، مادة: فدد).
(3) أخرجه البخاري (3/1202 ح3126)، ومسلم (1/71 ح51).
(4) ... في الأصل: بعدا من.
(5) ... ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم (8/204) عن عمر رضي الله عنه. وذكره ابن منظور في اللسان، مادة: (كفر)، وياقوت في معجم البلدان (4/468).(1/630)
واحده: كَفْر، وهو القرية (1) . يقول: إن أهل القرى الذين لا يسكنون المدن هم الموتى؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم وسماع القرآن والحديث، فهم موتى من هذا الوجه.
قوله تعالى: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } يعني: في الصدقة والغزو وغيرهما مما ينفق في جهة القربة إلى الله، "مغرماً" يعني: غرامة وخسراناً، والغرامة: التزام ما لا يلزم، { ويتربص بكم الدوائر } يعني: دوائر الزمان من ظهور أعدائكم عليكم، أو قتل نبيكم، أو موته ليتخلصوا من الإنفاق والنفاق.
{ عليهم دائرة السَّوْء } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "السُّوء" بضم السين، وقرأ الباقون بفتحها (2) .
قال الفراء (3) : من فَتَحَ أراد المصدر، من سُؤْتُهُ [سُوْءاً] (4) ومَسَاءَةً. ومن رَفَعَ السين جعله اسماً؛ كقولك: دائرة السّوء: البلاء والعذاب. ولا يجوز ضم السين في قوله: { ما كان أبوك امرأ سَوْء } [مريم:28]، ولا في قوله:
__________
(1) ... انظر: اللسان، مادة: (كفر).
(2) ... الحجة للفارسي (2/330-331)، والحجة لابن زنجلة (ص:321-322)، والكشف (1/505)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:316).
(3) ... معاني الفراء (1/450).
(4) ... في الأصل: سوءة. والتصويب من معاني الفراء، الموضع السابق.(1/631)
{ وظننتم ظن السَّوْء } [الفتح:12]، [لأنه] (1) ضد؛ كقولك: رجل صدق. وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء فيُضَمّ.
وهذا إخبار من الله تعالى.
المعنى: عليهم تدور الدوائر بما يكرهونه.
وقيل: هو دعاء معترض؛ كقوله: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم } [المائدة:64].
{ والله سميع } لأقوالهم، { عليم } بنياتهم وأفعالهم.
قوله تعالى: { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } قال ابن عباس: هم من أسلم من الأعراب، مثل: جهينة وأسلم وغفار (2) .
{ ويتخذ ما ينفق } في الجهاد والصدقة وغيرهما من النفقات التي يرجى بها نفع المثوبة ودفع العقوبة، { قُرُبات عند الله } يتوصل بها إلى مرضاته، ويتوسل بها إلى جناته.
و"قُرُبات": مفعول ثان لـ "يَتَّخِذُ" (3) ، وهو جمع قُربة، بسكون الراء وضمها.
{ وصلوات الرسول } استغفاره ودعاؤه؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى" (4) .
__________
(1) ... في الأصل: لأ. والتصويب من معاني الفراء، الموضع السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/519)، وزاد المسير (3/489).
(3) ... انظر: التبيان (2/20)، والدر المصون (3/496).
(4) ... أخرجه البخاري (2/544 ح1426)، ومسلم (2/756 ح1078).(1/632)
{ ألا إنها } صلوات الرسول. وقيل: النفقة { قُرْبَة لهم } .
وقرأتُ على شيخي أبي البقاء اللغوي للمُفَضَّل وأبان عن عاصم وإسماعيل بن جعفر ووَرْش عن نافع: "قرُبة"، بضم الراء على الأصل (1) .
قال ابن عباس: المعنى: ألا إنها نور لهم ومكرمة عند الله تعالى (2) .
{ سيدخلهم الله في رحمته } أي: في جنته.
ڑcqà)خ6"،،9$#ur الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/332)، والحجة لابن زنجلة (ص:322)، والكشف (1/505)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:317).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/519).(1/633)
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اتةةب
قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } اختلف العلماء في السابقين الأولين من المهاجرين، فقال أبو موسى وسعيد بن المسيب وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقال عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر (2) .
وقال الشعبي: أهل بيعة الرضوان (3) .
ونقل عن محمد بن كعب القرظي ما يدل على أنهم جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فروى أبو صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب يوماً: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كان من رأيهم، وإنما أريد الفتن، فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأوجب لهم الجنة في
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/7)، وابن أبي حاتم (6/1868). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/269) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأبي نعيم في المعرفة عن أبي موسى. ومن طريق آخر عن سعيد بن المسيب، وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة. ومن طريق آخر عن الحسن ومحمد بن سيرين، وعزاه لابن المنذر وأبي نعيم.
(2) ... ذكره الماوردي (2/395)، والواحدي في الوسيط (2/520) وابن الجوزي في زاد المسير (3/490).
(3) ... أخرجه الطبري (11/6)، وابن أبي حاتم (6/1868). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/269) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ وأبي نعيم في المعرفة.(1/634)
كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت: في أي موضع أوجب لهم الجنة في كتابه؟ فقال: سبحان الله، ألا تقرأ قوله: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ... الآية } ، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرط عليهم. قلت وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعونهم بإحسان، يقول: يقتدون بأعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ محمد بن كعب (1) .
وقال القاضي أبو يعلى: هم الذين أسلموا قبل الهجرة (2) .
واختلف القراء في قوله: { والأنصار } ؛ فقرأ القراء السبعة والأكثرون: "والأنصارِ" بالجر، نسقاً على "المهاجرين" (3) ، وهم أهل العقبة الأولى، وكانوا سبعة، وأهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين. والذين بادروا إلى الإيمان حين قدم إليهم مصعب بن عمير وأبو زرارة، وتجيء فيهم الأقوال التي في المهاجرين.
__________
(1) ... انظر: الوسيط (2/520)، وزاد المسير (3/490). وذكره السيوطي في الدر (4/272) وعزاه لأبي الشيخ وابن عساكر.
(2) ... زاد المسير (3/491).
(3) ... النشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244).(1/635)
وقرأ جماعة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن البصري: "والأنصارُ" بالرفع، وبها قرأت على الشيخين أبي بقاء النحوي وأبي عمرو الياسري ليعقوب الحضرمي نسقاً على "والسابقون" (1) .
قوله تعالى: { والذين اتبعوهم بإحسان } قال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء، ويذكرون محاسنهم (2) ، فيسألون الله أن يجمع بينهم، فأحسنوا.
وطائفة جعلت مكان الصلاة عليهم [والدعاء] (3) لهم: اللعنة والتنفير عنهم، فتراهم [مجاهرين في سبّ] (4) السابقين الأولين من المهاجرين.
ولقد سمعتُ عظيماً من عظمائهم وطاغية من طغاتهم يذكر الزبير بن العوام حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته، وأول من سلّ سيفاً في سبيل الله، ويقول: هو من أهل النار. فقلت للطاغي الباغي: رسول الله قد شهد له بالجنة، فشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوم من شهادتك وأعدل، ولو استطعت لزدت في الرد والنكير عليه، ولكني خفت حَيْفَه وسيفه، ثم إني نهضتُ كمداً وأنشدت مستشهداً:
لَوْ كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَقُولا ... لَشفيتُ مِنْ قَلْبي غَلِيلا
لَكنَّ لِسَاني صَارِمٌ ... مُلِئَتْ مَضَارِبُهُ فُلُولا
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/521)، وزاد المسير (3/491).
(3) ... في الأصل: الدعاء.
(4) ... في الأصل: مجاهدين في بسبب. والصواب ما أثبتناه.(1/636)
اللهم فإليك المشتكى، وأنت المستغاث، وبك المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وهذه الآية تنعي على الطائفة الخسيسة الخبيثة الذين رفضوا دين الإسلام، وتدينوا بسب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوء حالهم، وتخرجهم عن أن يكونوا ممن رضي الله عنهم وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد ثبت بالدلائل القطعية والبراهين العقلية والسمعية أن من تنسك بِسَبّ السابقين الأولين من المهاجرين وبغضهم وتمسك بالبراءة منهم ورفضهم لم يتبعهم بإحسان.
قوله تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } قال الزجاج (1) : رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به.
{ وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } وقرأ ابن كثير: "من تحتها" بزيادة "مِنْ"، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة (2) .
ô`£JدBur حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/466).
(2) ... الحجة لابن زنجلة (ص:322)، والنشر (2/280)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:317).(1/637)
النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ اتةتب
قوله تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منافقون } وهم من جهينة ومزينة وأسلم وغفار، وكانوا نازلين حول المدينة، { ومن أهل المدينة } من الأوس والخزرج، { مردوا } صفة موصوف محذوف، تقديره: قوم مردوا، أو هو صفة "منافقون" على الفصل بالمعطوف أو بإضمار "مِنْ". التقدير: ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق (1) .
قال ابن الأنباري (2) : وهو كقوله: { وما منا إلا له مقام معلوم } [الصافات:164].
ومعنى قوله: "مردوا" أي: مرنوا على النفاق وتمهروا فيه.
وفي قوله تعالى: { لا تعلمهم } تحقيق لمعنى مرودهم في النفاق وتوغلهم فيه، بحيث خفي على أنور الناس بصيرة وأدقهم نظراً وأصدقهم قرآنية.
وفي قوله: { نحن نعلمهم } تهديد لهم وتخويف من سوء عاقبة نفاقهم.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/21)، والدر المصون (3/498).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/492).(1/638)
{ سنعذبهم مرتين } قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المرة الأولى: فضيحتهم، "فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطيباً يوم جمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج ناساً ففضحهم" (1) .
والمرة الثانية: عذاب القبر (2) .
وقال الحسن: سنعذبهم مرة بأخذ الزكاة من أموالهم، ومرة بنهك أبدانهم في الجهاد (3) .
وقال مقاتل بن سليمان (4) : سنعذبهم عند الموت بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وفي القبر بمنكر ونكير.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/10)، وابن أبي حاتم (6/1870)، والطبراني في الأوسط (1/241 ح792).
... قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/34): فيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، وهو ضعيف.
(2) ... أخرجه الطبري (11/10)، وابن أبي حاتم (6/1870). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/492).
... قلت: ولابن عباس قول آخر هو: أن إحدى المرتين: الحدود، والأخرى: عذاب القبر. لكن الطبري عقب على هذا القول (11/11) بقوله: ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرضي.
(3) ... أخرجه الطبري (11/11). وذكره الماوردي (2/397)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/493).
(4) ... تفسير مقاتل (2/68).(1/639)
وقال ابن زيد: نعذبهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار (1) . وفيه بعد؛ لقوله: { ثم يردون إلى عذاب عظيم } وهو عذاب جهنم.
tbrمچyz#uنur اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اتةثب
قوله تعالى: { وآخرون } يعني: من المؤمنين { اعترفوا بذنوبهم } نزلت في أبي لبابة ونفر معه تخلفوا عن تبوك ثم ندموا، فقاموا وربطوا أنفسهم في السواري، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقهم. فلما قدم رسول الله قال: ما هؤلاء؟ فذكر له شأنهم، فقال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ويعذرهم، رغبوا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/11)، وابن أبي حاتم (6/1871). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/274) وعزاه لأبي الشيخ.(1/640)
عني وتخلفوا عن المسلمين. فلما أنزل الله هذه الآية أطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعذرهم (1) .
قال الإمام أحمد ويحيى بن معين: اسم أبي لبابة: رفاعة بن عبد المنذر.
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: اسمه: بشير بن عبد المنذر.
وقال مقاتل (2) : اسمه: مروان بن عبد المنذر.
والمعول على القول الأول، وهو قول الإمام، وهو الأكثر والأشهر عند علماء النقل.
وقلّ أن ترى قضية نقلية أو عقلية اضطربت فيها العقول، واختلف فيها أهل المنقول، إلا وجدت برهانه أنور وأوضح [ونقله] (3) أصح وأرجح.
إذا قالت حَذام فصدِّقوها ... ... فإن القولَ ما قالت حذام (4)
اللهم فارزقنا لزوم الاقتداء به [بمآثره] (5) والاهتداء بأنواره.
قوله تعالى: { خلطوا عملاً صالحاً } وهو توبتهم، { وآخر سيئاً } وهو تخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/13)، وابن أبي حاتم (6/1872). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:263)، والسيوطي في الدر (4/275) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.
(2) ... تفسير مقاتل (2/68).
(3) ... في الأصل: نقله.
(4) ... البيت للُجَيم بن صعب. انظر: لسان العرب مادة: (حذم).
(5) ... في الأصل: بماره.(1/641)
وقيل: العمل الصالح: ما سبق لهم من الجهاد، والعمل السيء: تخلفهم عن غزوة تبوك.
وقال ابن جرير (1) : وضع الواو مكان الباء كما يقال: خُلط الماء واللبن.
وهذا تعسف وعدول عن حقيقة اللفظ، فإن الواو جعلت كل واحد من العملين مخلوطاً [ومخلوطاً] (2) به، وكذلك في النظير الذي ذكره، فإنه جعل الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خلط الماء باللبن واللبن بالماء.
{ عسى الله أن يتوب عليهم } سبق القول في "عسى".
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبد الصمد السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا عبدالله بن أحمد السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا مؤمل (3) ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا عوف (4) ، حدثنا أبو
__________
(1) ... تفسير الطبري (11/12).
(2) ... في الأصل: ومخوطاً.
(3) مؤمل بن هشام اليشكري، أبو هشام البصري، ثقة صدوق، ذكره ابن حبان في الثقات، مات في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائتين (تهذيب التهذيب 10/342، والتقريب ص:555).
(4) عوف بن أبي جميلة الأعرابي العبدي البصري، ثقة رمي بالقدر والتشيع، مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 8/148، والتقريب ص:433).(1/642)
رجاء، حدثنا سمرة بن جندب (1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا: "أتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانتهينا إلى مدينة [مبنية] (2) بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قالا: أما القوم الذين كانوا [شطر] (3) منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم" (4) .
ُè{ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ
__________
(1) سمرة بن جندب بن هلال بن جريج بن مرة بن حزم بن عمرو بن جابر بن ذي الرياستين الفزاري، أبو سعيد، كان حليف الأنصار، سكن البصرة، وكان زياد يستحلفه عليها، فلما مات زياد أقرّه معاوية عاماً أو نحوه، ثم عزله، وكان شديداً على الحرورية، فهم ومن قاربهم يطعنون عليه، وكان الحسن وابن سيرين وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه، مات سنة ثمان وخمسين (تهذ?ب التهذيب 4/207، والتقريب ص:256).
(2) زيادة من الصحيح.
(3) ... في الأصل: شطراً. والتصويب من الصحيح.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1717 ح4397).(1/643)
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَن اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اتةخب
قال أهل التفسير: لما تاب الله على أبي لبابة وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خَلَّفَتْنا عنك فتصدق بها عنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما(1/644)
أُمِرْتُ أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله عز وجل: { خذ من أموالهم صدقة } فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلث أموالهم (1) .
قال الحسن البصري رحمه الله: هذه الصدقة كفارة الذنوب التي أصابوها، وليست الزكاة المفروضة (2) .
وقال عكرمة: هي الزكاة (3) .
قوله تعالى: { تطهرهم } في موضع نصب صفة لـ"صَدَقَةً" (4) .
وقرأ الحسن: "تُطْهِرْهُمْ" بالجزم جواباً للأمر (5) . والمعنى: تطهرهم بها من دنس الذنوب.
{ وتزكيهم بها } تصلحهم وترفع منازلهم.
وقيل: تزكي أموالهم وتُنَمِّيها.
{ وصلّ عليهم } ادع لهم واستغفر لذنوبهم.
{ إن صلواتك } وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "صَلاَتَكَ" بالتوحيد (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/17)، وابن أبي حاتم (6/1874-1875). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/275) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(2) ... ذكره الماوردي (2/398)، والواحدي في الوسيط (2/522)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/496) كلهم من قول ابن زيد.
(3) ... ذكره الماوردي (2/398)، والواحدي في الوسيط (2/522)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/496).
(4) ... انظر: التبيان (2/21)، والدر المصون (3/500).
(5) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:244).
(6) ... الحجة للفارسي (2/334)، والحجة لابن زنجلة (ص:322)، والكشف (1/505)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:317).(1/645)
{ سكن لهم } تثبيت وطمأنينة لهم أن الله قبلها منهم، { والله سميع } لاعترافهم { عليم } بندمهم على اقترافهم.
قوله تعالى: { ألم يعلموا } وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: "ألم تعلموا" بالتاء على المخاطبة لهم (1) .
المعنى: ألم يعلم المتوب عليهم قبل أن يُتاب عليهم { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } إذا صَحَّتْ عن عقيدة صالحة، { ويأخذ الصدقات } إذا صدرت عن نية خالصة.
وقال المفسرون: لما نزلت توبة هؤلاء، قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء بالأمس كانوا معنا لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم؟ فأنزل الله هذه الآية (2) .
ومعنى التخصيص في قوله: "هو يقبل" إعلامهم أن القبول ليس إلى الرسول، وإنما هو إلى الله تعالى.
أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع بجامع دمشق، والشيخ أبو بكر بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري برباط دار الذهب ببغداد قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي ببغداد، قال: أخبرنا أبو الحسن
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:244).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1876)، والطبري (11/19).(1/646)
مكي بن منصور بن علان الكرجي، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي الحيري، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان (1) ، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كَسْبٍ طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، [ولا يصعد إلى السماء إلا طيب] (2) ، إلا كأنما يضعها في يد الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فُلوَّه، حتى أن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم، ثم قرأ: { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } " (3) .
وقرأتُ على الشيخ الصالح أبي المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي فأقرَّ به، قال: حدثنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، أخبرنا عبد الواحد
__________
(1) ... محمد بن عجلان المدني القرشي، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، أبو عبد الله، أحد العلماء العاملين، صدوق كثير الحديث، مات بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب 9/303-304، والتقريب ص:496).
(2) ... زيادة من مسند الشافعي (ص:100).
(3) أخرجه البخاري (2/511 ح1344)، ومسلم (2/702 ح1014)، والشافعي في مسنده (ص:100) واللفظ له.
... والفُلُوُّ: الْمُهْر الصغير (اللسان، مادة: فلا).(1/647)
بن أحمد المليحي (1) ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن [زنجويه] (2) ، حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا عباد بن منصور، سمعت القاسم بن محمد، سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوماً: "إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب، يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، حتى تصير اللقمة مثل أُحُد. وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [البقرة:276]، و { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } " (3) . هذا حديث صحيح.
وقال ابن مسعود: الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل (4) .
__________
(1) ... عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم بن محمد بن داود بن أبي حاتم المليحي الهروي، أبو عمر، مسند هراة، كان ثقةً صالحاً، توفي في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وله ست وتسعون سنة (سير أعلام النبلاء 18/255).
(2) ... في الأصل: زجوية. وهو خطأ. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (12/19)، والجرح والتعديل (3/223)، وتذكرة الحفاظ (2/550).
(3) أخرجه الترمذي (3/50 ح662)، وأحمد (2/471 ح10090).
(4) أخرجه الطبري (11/19)، وابن أبي حاتم (6/1877)، والطبراني في الكبير (9/109)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/354). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/282) وعزاه لعبد الرزاق والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم والطبراني.(1/648)
قوله تعالى: { وقل اعملوا } خطاب للتائبين وغيرهم، { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } يريد: أن الله يُطلع المؤمنين على ما في الضمائر من صالح وطالح، وذلك بما يقذفه في القلوب من المحبة والبغض.
أخبرنا أبو علي بن سعادة المذكر إذناً، قال: أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي الواعظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر، حدثنا عبدالله بن الإمام أحمد، حدثنا أبي، حدثنا حسن بن موسى (1) ، حدثنا [ابن] (2) لَهِيعَة، حدثنا درّاج (3) ، عن أبي الهيثم (4) ، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان" (5) .
__________
(1) الحسن بن موسى الأشيب، أبو علي البغدادي، قاضي طبرستان والموصل وحمص، كان صدوقاً في الحديث، وثقه ابن معين وغيره، مات سنة تسع -أو عشر- ومائتين (تهذيب التهذيب 2/279، والتقريب ص:164).
(2) زيادة على الأصل. وابن لهيعة هو: عبد الله بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي الأعدولي، ويقال: الغافقي، أبو عبد الرحمن المصري، صدوق ثقة، لكنه خلط بعد احتراق كتبه سنة تسع وستين ومائة، ومات سنة أربع وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 5/327-331، والتقريب ص:319).
(3) دراج بن سمعان، يقال: اسمه عبد الرحمن، ودرّاج لقب، أبو السمح القرشي السهمي مولاهم المصري، القاص، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق ثقة، مات سنة ست وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب 3/180، والتقريب ص:201).
(4) سليمان بن عمرو بن عبدة -ويقال: عبيد- الليثي العتواري، أبو الهيثم المصري، تابعي ثقة (تهذيب التهذيب 4/186، والتقريب ص:253).
(5) أخرجه أحمد (3/28 ح11246)، والحاكم (4/349 ح7877).(1/649)
وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اتةدب
قوله تعالى: { وآخرون مُرْجَئُون } وقرأ نافع وأهل الكوفة إلا أبا بكر: "مُرْجَوْنَ" بغير همز (1) .
والأولى من أَرْجَأْتُهُ، والثانية من أَرْجَيْتُهُ، وهما بمعنى التأخير -كما سبق-.
والمعنى: وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر الله ليقضي الله فيهم ما هو قاض، وهم الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
{ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } قال الزجاج (2) : "إما" لأحد الشيئين، والله عالم بما يكون وبما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا لأولئك الذين خوطبوا بما يعلمون. فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء.
والمعنى: إما يعذبهم إن بقوا على الإصرار، وإما يتوب عليهم إن تداركوا دينهم بالتوبة والاستغفار.
__________
(1) الحجة لابن زنجلة (ص:323)، والكشف (1/506)، والنشر (1/406)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244).
(2) معاني الزجاج (2/468).(1/650)
{ والله عليم } بمآلهم { حكيم } في إرجائهم وإمهالهم.
ڑْïد%©!$#ur اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا(1/651)
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ اتةرب
قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً } قرأ نافع وابن عامر بغير واو، كذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام على إضمار المبتدأ وإضمار الخبر. وقرأ الباقون بالواو عطفاً على ما قبله (1) ، أي: ومنهم الذين اتخذوا. ويجوز أن يكون محل "والذين اتخذوا" النصب على الاختصاص؛ كقوله: { والمقيمين الصلاة } (2) [النساء:162].
"ضراراً" مفعول له (3) ، المعنى: اتخذوه لضرار المؤمنين.
{ وكفراً } بالله ورسوله، { وتفريقاً بين المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء فأرادوا تفريق جماعتهم.
{ وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل } أي: إعداداً لأجل أبي عامر الراهب ليصلي فيه.
وقوله: "من قبل" يتعلق بـ"اتخذوا مسجداً" من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف.
وقيل: يتعلق بـ"حَارَبَ"، أي: حارب الله ورسوله، من قبل بناء مسجد الضرار.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/346)، والحجة لابن زنجلة (ص:323)، والكشف (1/507)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:318).
(2) ... الدر المصون (3/502).
(3) ... التبيان (2/22)، والدر المصون (3/502).(1/652)
{ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } أي: إن أردنا ببناء المسجد إلا الخصلة أو الإرادة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، والتوسعة على المصلين، وإظهار منار الدين.
وقيل: الحسنى: الطاعة. وقيل: الجنة.
{ والله يشهد إنهم لكاذبون } في قولهم وحلفهم أنهم أرادوا الحسنى.
الإشارة إلى قصتهم:
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن بني عمرو بن عوف لما اتخذوا مسجد قباء وأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فيه، حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلي فيه، ونرصده لأبي عامر الراهب ليصلي فيه إذا قدم من الشام، وكان أبو عامر الراهب رجلاً منهم تَنَصَّرَ في الجاهلية وترهَّب ولبس المُسوح. فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئتَ به؟ قال: جئتُ بالحنيفية دين إبراهيم. قال أبو عامر: فأنا عليها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لستَ عليها. فقال: بلى ولكنك أدخلتَ فيها ما ليس [منها] (1) . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما فعلتُ، ولكن جئتُ بها بيضاء نقية. قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً غريباً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : آمين. وسمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو عامر الفاسق. فلما كان يوم أُحُد قال أبو عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج
__________
(1) ... زيادة من البغوي (2/326).(1/653)
هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين: أن أعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجنود الروم فأخرج محمداً وأصحابه، فبنوا له هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء. فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تصلي فيه، فدعى بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبرهم، فدعا معن بن عدي ومالك بن الدخشم في آخرين، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه، فاستنفروا رهط مالك بن الدخشم فهدموا المسجد وحرقوه، فتفرق عنه أهله. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُتَّخَذَ كُناسة تُلقى فيها الجِيَف والنتن والقُمامة. ومات أبو عامر الفاسق بقنّسرين بالشام طريداً وحيداً غريباً (1) . وفيه يقول كعب بن مالك:
مَعَاذ اللهِ مِنْ فِعْلٍ قَبيحٍ ... كَسَعْيِكَ في العَشِيرَةِ بَعْدَ (2) عَمْرو
وَقُلْتَ بأَنَّ لي شَرَفاً وَذِكْراً ... فقد تابعت إِيماناً بكُفْرِ (3)
__________
(1) ... أخرج جزءاً منه الطبري (11/23) عن الزهري وغيره. وانظر: البغوي (2/326)، وأسباب النزول للواحدي (ص:264)، وزاد المسير (3/498-499)، وسيرة ابن هشام (5/212).
(2) ... في مصادر البيت: عبد.
(3) ... انظر البيتين في: سيرة ابن هشام (3/129)، والبحر المحيط (5/102).(1/654)
الإشارة إلى الذين اتخذوا مسجد الضرار:
كانوا اثني عشر رجلاً وهم: خذام بن خالد -ومن داره أخرج المسجد-، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، ووديعة بن ثابت، وعباد بن حنيف -أخو سهل بن حنيف-، وأبو [حبيبة] (1) بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وجارية بن عامر -وكان يلقب: حمار الدار-، وابناه: زيد ومجمع، ومجمع هو الذي كان يؤمهم، وبحزج -جدّ عبد الله بن حنيف-، وهو الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أردتَ بما أرى؟ فقال: والله ما أردتُ إلا الحسنى، وهو كاذب" (2) .
قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلاً منهم: ماذا أعنتَ في هذا المسجد؟ قال: أعنتُ فيه بسارية، فقال له عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم (3) .
ولا خلاف بين العلماء أن مجمعاً صلحت حاله وصح إيمانه.
وروي: أن بني عمرو بن عوف سألوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لهم في الائتمام بمجمع بن جارية بمسجد قباء، فقال: لا
__________
(1) ... في الأصل: حيثمة. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) أخرجه الطبري (11/24)، وابن أبي حاتم (6/1881).
... وانظر: سيرة ابن هشام (5/212)، والماوردي (2/400)، وزاد المسير (3/499).
... وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/285) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
(3) القرطبي (8/254).(1/655)
ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليتُ بهم وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صليت معهم فيه، كنت غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً قد عشوا (1) ، وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئاً، فصلّيت، ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، فعذره عمر رضي الله عنه وصدقه، وأمره بالصلاة في مسجد قباء (2) .
قوله تعالى: { لا تَقُمْ فيه أبداً } أي: لا تُصَلِّ في مسجد الضرار ولا تتخذه معبداً، { لمسجد أسس على التقوى } أي: على الطاعة، وهو المسجد الذي فيه القبر والمنبر على صاحبهما أفضل الصلاة والسلام. هذا قول ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب (3) .
وقد روى سهل بن سعد: "أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال الآخر: هو مسجد قباء. فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو مسجدي هذا" (4) .
__________
(1) في القرطبي: وكانوا شيوخاً قد عاشوا على جاهليتهم.
(2) القرطبي (8/255). وانظر: الماوردي (2/401).
(3) أخرجه الطبري (11/27)، وابن أبي حاتم (6/1881). وانظر: الوسيط (2/524)، وزاد المسير (3/501).
(4) ... أخرجه ابن أبي شيبة (2/148 ح7522)، والطبراني في الكبير (6/207 ح6025).(1/656)
وعن أبي سعيد الخدري قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ الحصباء فضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة" (1) .
وأنبأنا حنبل بن عبدالله بن الفرج، أخبرنا ابن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، أخبرنا عبدالله بن أحمد، حدثني أبي، أخبرنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى، حدثني أبي، سمعت أبا سعيد الخدري قال: "اختلف رجلان، رجل من بني عمرو بن عوف ورجل من بني خدرة في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال العمري: هو مسجد قباء. فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد -لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: في ذلك خير كثير، -يعني: مسجد قباء-" (2) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (2/1015 ح1398).
(2) ... أخرجه مسلم (2/1015)، والترمذي (2/144)، والنسائي (1/257)، وأحمد (3/23)، وابن حبان (4/483)، وابن أبي شيبة (2/148)، وأبو يعلى (2/272)، والطبري (11/27)، وابن أبي حاتم (6/1881). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/287) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري.(1/657)
وقيل: هو مسجد قباء. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (1) ، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وعروة وأبو سلمة بن عبدالرحمن والضحاك ومقاتل (2) .
قال صاحب الكشاف (3) : هو أولى؛ لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع.
وقيل: كل مسجد بالمدينة بُنِيَ على الطاعة (4) .
{ من أول يوم } أي: منذ أول يوم.
قال الزجاج (5) : دخلت "مِنْ" في الزمان، والأصل مُنْذُ ومُذْ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول "من"؛ لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير (6) :
لمن الديار [بقنة] (7) الحجر ... ... أقوين من حجج ومن دهر
قيل: معناه: من مَرِّ حِجج ومن دهر.
__________
(1) ... انظر: تفسير ابن عباس (ص:273).
(2) ... أخرجه الطبري (11/27)، وابن أبي حاتم (6/1882). وانظر: تفسير مقاتل (2/71)، والماوردي (2/402)، والوسيط (2/524)، وزاد المسير (3/501). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/288) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.
(3) ... الكشاف (2/296).
(4) ... وهو قول محمد بن كعب. انظر: الماوردي (2/403)، وزاد المسير (3/501).
(5) ... معاني الزجاج (2/478). وانظر: زاد المسير (3/500).
(6) ... البيت لزهير. انظر: ديوانه (ص:89)، والقرطبي (8/260)، وزاد المسير (3/500، 4/433). ويروى البيت: (أقوين مذ حجج ومذ دهر).
(7) ... في الأصل: بقية. والتصويب من مصادر البيت.(1/658)
قوله تعالى: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم" (1) .
وقيل: لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: ما الذي أثنى الله به عليكم؟ فقالوا: يا رسول الله نُتْبِعُ الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نُتْبِعُ الأحجار الماء (2) .
وقيل: يحبون أن يتطهروا من الذنوب.
{ والله يحب المطهرين } من الشرك والمعاصي والأنجاس والأقذار.
ô`yJsùr& أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/11 ح44).
(2) أخرجه ابن ماجه (1/127 ح355) بنحوه.(1/659)
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اتتةب
قوله تعالى: { أفمن أسس بنيانه } ، قرأ نافع وابن عامر: "أُسِّسَ بُنْيَانُهُ" بضم الهمزة وكسر السين ورفع "البنيان"، على ما لم يُسَمَّ فاعله في الموضعين، وقرأها الباقون بفتح الهمزة وفتح السين ونصب "البنيان" (1) .
والتأسيس: إحكام أُسّ البناء، وهو أصله، والبنيان: مصدر، يراد به: المبني.
{ على تقوى من الله } في محل الحال (2) ، التقدير: أسس بنيانه متقياً لله يرجو ثوابه ويخاف عقابه.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/336)، والحجة لابن زنجلة (ص:323-324)، والكشف (1/507)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:244)، والسبعة في القراءات (ص:318).
(2) ... انظر: التبيان (2/22)، والدر المصون (3/505).(1/660)
{ خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار } قال الزجاج (1) : شفا الشيء: [حرفه] (2) وحدُّه، والشَّفا مقصور، يكتب بالألف، ويثنى: شَفَوان (3) .
وقال الزمخشري (4) : الشَّفا: الحرف والشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً، والهار: الهائر، وهو الْمُتَصَدّع الذي أشفى على التهدم والسقوط.
قال ابن قتيبة وغيره (5) : ومنه تهوَّرَ البناء وانهار؛ إذا تداعى للسقوط.
قال صاحب الكشاف (6) : المعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أمن أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد [وأرخاها وأقلها بقاء] (7) وهو الباطل والنفاق، الذي مَثَلُه مَثَلُ شفا جُرُفٍ هارٍ في قلة الثَّبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى؛ لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى.
فإن قلتَ: فما معنى قوله: { فَانْهَارَ به في نار جهنم } ؟
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/470).
(2) ... في الأصل: جرفه. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (شفي).
(4) ... الكشاف (2/297).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:192).
(6) الكشاف (2/297).
(7) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/661)
قلتُ: لما جعل الجرف الهائر [مجازاً عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى] (1) : فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز، فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف.
قال الزجاج (2) : وهذا مَثَلٌ. المعنى: أن بناء هذا المسجد الذي بني ضراراً وكفْراً كبناء على جَرْف جهنم يتهور بأهله فيها.
قال قتادة: ذُكر لنا أنهم حفروا حفرة في مسجد الضرار فرؤي فيها الدخان (3) .
قال جابر: رأيت الدخان يخرج منه (4) .
قوله تعالى: { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } قال ابن عباس: شكاً ونفاقاً في قلوبهم؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه (5) .
وقيل: المعنى: لا يزالُ هدْمُ بنيانهم حزازة وغيظاً (6) ، وسبباً لتصميمهم على الشك والنفاق لا يضمحل أثره ولا يزول رسمه عن قلوبهم.
__________
(1) ... زيادة من الكشاف (2/297).
(2) ... معاني الزجاج (2/470).
(3) ... أخرجه الطبري (11/32)، وابن أبي حاتم (6/1884). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/293) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) ... أخرجه الطبري (11/33)، وابن أبي حاتم (6/1884)، والحاكم (4/638). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/293) وعزاه لمسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1885). وانظر: الطبري (11/33). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/293) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
(6) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1885). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/503).(1/662)
{ إلا أن تقطع قلوبهم } قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: "تَقَطَّعَ" بفتح التاء، وقرأ الباقون بضم التاء (1) .
وقرأتُ ليعقوب الحضرمي: "إلى أن"، جعله حرف جرّ (2) .
فمن قرأ "إلا" بحرف الاستثناء معناه: إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً، وتفرق أجزاؤهم بالموت أو بالقتل، فحينئذ ينمحي آثار الريبة من قلوبهم. فأما ما دامت سالمة فالريبة لازمة لهم. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين (3) .
وقال الزجاج (4) : قال بعضهم: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم.
فصل
قال بعض العلماء: كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/342)، والحجة لابن زنجلة (ص:324)، والكشف (1/508)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:245)، والسبعة في القراءات (ص:319).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:245).
(3) انظر: الطبري (11/33).
(4) معاني الزجاج (2/471).
(5) الطبري (11/26). وانظر: القرطبي (8/254).(1/663)
وروي: أن شقيقاً فاتته الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، قال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار (1) .
وقال عطاء: لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه (2) .
* إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا
__________
(1) الطبري (11/26). وانظر: القرطبي (8/254).
(2) ذكره البغوي في تفسيره (2/327).(1/664)
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اتتتب
قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } سبب نزولها: "أن الأنصار لما بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة -وكانوا سبعين-. قال عبد الله بن رواحة: اشترط يا رسول الله لربك ولنفسك. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نُقيل ولا نَستقيل" (1) .
ويروى: أن أعرابياً مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ هذه الآية فقال: كلام مَنْ هذا؟ فقال: كلام الله. فقال: بيعٌ والله مُربح، لا نُقيله ولا نَستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد (2) .
وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة، بايع الله بها كل مؤمن (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري (11/35-36)، وابن أبي حاتم (6/1886). وانظر: أسباب النزول للواحدي (ص:266)، والوسيط (2/526)، وزاد المسير (3/503). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/294) وعزاه لابن جرير.
(2) ذكره القرطبي في تفسيره (8/268).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1886). وانظر: الوسيط (2/526). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/295) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/665)
وقال قتادة: ثامَنهم الله فأغلى لهم (1) .
وكان جعفر الصادق عليه السلام يقول: يا من ليست له همة، إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها (2) .
وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق (3) :
أُثَامِنُ بالنَّفْسِ النَّفيسَة رَبَّها ... فَلَيْسَ لَهَا فِي الخَلْقِ كُلّهُم ثمَن
بهَا تُشْتَرى الجَنّات إِنْ أَنَا بعْتها ... بشَيء سِواها إِنّ ذلِكُم غَبَن
إِذا ذهَبَتْ نَفْسِي بدُنْيا أَصَبْتها ... فَقَدْ ذهَبَتْ نفْسِي وَقَدْ ذهَبَ الثَّمَن
وأنشد بعضهم:
مَنْ يَشْتَري قُبَّة في العَدن عَالية ... في ظِلِّ طُوبى رَفيعاتٌ مَبَانيها
دَلاَّلها المصطفى واللهُ بائعُها ... مِمَّنْ أَرَادَ، وَجبْريلُ مُنَادِيها
وذِكْرُ الاشتراء مجازٌ عن إثابتهم الجنة في مقابلة ما بذلوا من الأنفس والأموال لله في جهاد أعدائه به، اللهم فلك الحمد كما ينبغي لكرم وجهك وعظمة جلالك، وعزتك يا رب ما بذلوا لك إلا أنفساً أنت خلقتها وأموالاً أنت رزقتها، فماذا يستحقون عليك وقد تقربوا بنعمتك إليك، فما أحق المتلبس بهذه القضية والموفق لهذه البيعة المرضية بإنشاد ما قيل:
__________
(1) أخرجه الطبري (11/35). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/295) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(2) ذكره الآلوسي في تفسيره روح المعاني (11/30).
(3) انظر الأبيات في: القرطبي (8/268)، وروح المعاني (11/30)، وجامع العلوم والحكم (1/221).(1/666)
أُزَاهِدُ نَفْسي فَهوَ مَالِكُها ... وَلَهُ أَصُونُ كَرائمَ الذُّخْرِ
أَوْ أَهْدِ مَالاً فَهوَ وَاهبُهُ ... وَأَنا الحَقِيقُ عَلَيْهِ بالشُّكْرِ
قوله تعالى: { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } قرأ حمزة والكسائي: "فيُقتلون" بضم الياء، "ويَقتلون" بفتح الياء، وقرأ الباقون بالعكس من ذلك (1) .
ومعنى الكلام: منهم من يَقْتِل، ومنهم من يُقْتَل في سبيل الله.
ثم أخبر الله عز وجل أن هذا الوعد المذكور مثبت في كتبه المنزلة فقال: { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } .
وفي قوله: { ومن أوفى بعهده من الله } ترغيب للمؤمنين في الجهاد بأبلغ الطرق، ضرورة الانقياد إلى اعتقاد تحقق الوفاء بوعد مالك الأشياء.
{ فاستبشروا } أي: افرحوا أيها المؤمنون الباذلون أنفسهم وأموالهم { ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } .
ڑcqç6ح³¯"F9$# الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/342)، والحجة لابن زنجلة (ص:325)، والكشف (1/509)، والنشر (2/246)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:245)، والسبعة في القراءات (ص:319).(1/667)
السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ اتتثب
قوله تعالى: { التائبون } [رفعٌ] (1) على المدح، أي: هم التائبون.
قال الزمخشري (2) : وتدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ: "التائبين" و"الحافظين" نصباً على المدح. ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين.
وقال الزجاج (3) : هو رفع بالابتداء، وخبره مضمر تقديره: التائبون العابدون لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا.
وقيل: "التائبون" بدل من الضمير في "يقاتلون" (4) .
ويجوز أن يكون مبتدأ، خبره "العابدون"، وما بعده خبر بعد خبر (5) .
__________
(1) ... في الأصل: وقع. والصواب ما أثبتناه.
(2) الكشاف (2/299).
(3) معاني الزجاج (2/471).
(4) انظر: الدر المصون (3/508).
(5) انظر: التبيان (2/23)، والدر المصون (3/507).(1/668)
قال ابن عباس: التائبون: الرّاجعون عن الشرك (1) .
و { العابدون } المطيعون لله بالعبادة (2) .
وقال سعيد بن جبير: العابدون: الموحدون (3) .
{ الحامدون } لله على كل حال.
قال الزجاج (4) : { السائحون } في قول أهل التفسير واللغة جميعاً: الصائمون، قال: مذهب الحسن أنهم الذين يصومون الفرض (5) . وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام (6) .
قال (7) : وقول الحسن في هذا أبْيَن.
فإن قيل: لم سُمِّيَ الصائم سائحاً؟
قلت: لتشبيهه بالسائح في امتناعه من شهواته.
فإن قيل: هل قيل في السائحين غير ذلك؟
قلت: قد روي عن عطاء: أنهم الغزاة (8) .
__________
(1) الوسيط (2/527)، وزاد المسير (3/505).
(2) زاد المسير (3/505).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1889). وانظر: الماوردي (2/407)، وزاد المسير (3/505).
(4) معاني الزجاج (2/472).
(5) أخرجه الطبري (11/38). وانظر: الماوردي (2/407)، والوسيط (2/527).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم (6/1890)، والطبري (11/38). وذكره السيوطي في الدر (4/298) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمر والعبدي.
(7) ... أي: الزجاج.
(8) ... زاد المسير (3/506).(1/669)
وعن عكرمة: أنهم طلاب العلم (1) .
وعن ابن زيد: أنهم المهاجرون (2) .
قوله تعالى: { الراكعون الساجدون } يريد: المصلين، { الآمرون بالمعروف } وهو الإيمان. وقيل: كل معروف.
{ والناهون عن المنكر } الكفر. وقيل: كل منكر.
{ والحافظون لحدود الله } وهم القائمون بأمره.
$tB كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1890). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/506)، والسيوطي في الدر المنثور (4/298) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1890). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/506)، والسيوطي في الدر المنثور (4/298) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/670)
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ اتتحب
قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ... الآية } . اختلفوا في سبب نزولها على أقوال؛ أثبتُها: ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبدالأول، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا عبدالله بن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب،(1/671)
أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فنزلت: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } " (1) . هذا حديث متفق على صحته.
وأخرجه مسلم عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري.
وفي بعض طرق الصحيح: "فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: أنا على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: { ما كان للنبي والذين آمنوا ... الآية } ، وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } [القصص:56]" (2) .
وقال محمد بن كعب: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت فوجده مملوءاً، فقال: خلّوا بيني وبين عمّي، فجلس إليه فقال: يا عم، جزيت عني خيراً، كفلتني صغيراً، وحفظتني كبيراً، فجزيت عني خيراً، يا عماه! أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة. قال: ما هي يا ابن أخي؟ قال: قل: لا إله إلا الله
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1717 ح4398)، ومسلم (1/54 ح24).
... قال القرطبي (8/273): فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه، فإنه استغفر له بعد موته، على ما روي في غير الصحيح.
... وقال الحسين بن الفضل: وهذا بعيد؛ لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة.
(2) ... أخرجه مسلم (1/54 ح24).(1/672)
وحده لا شريك له. قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تُعيّر بها بعدي يقال: جَزَعَ عمّك عند الموت، لأقررت بها عينك. قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ، فقال: على ملة الأشياخ، لا تحدّث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا أزال أستغفر لك ربي حتى ينهاني، فاستغفر له بعد [ما] (1) مات. فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا؟ وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه. فاستغفر المسلمون للمشركين، فنزلت هذه الآية (2) .
قال أبو الحسن بن المنادي: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه: "لأستغفرنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ" قبل أن يموت وهو في السياق. وأما أن يكون استغفر له بعد الموت فلا، وانقلب ذلك على الرواة.
وقال أبو هريرة [وبريدة] (3) : لما مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبر أمه وقف عليه حتى حميت عليه الشمس، رجاء أن يؤذن له في الاستغفار لها، فلم يؤذن له، فقام ونزلت هذه الآية، فبكى وأبكى من حوله (4) .
قال الزمخشري (5) : وهذا أصح؛ لأن موت أبي طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة.
__________
(1) ... زيادة من أسباب النزول (ص:268).
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:267-268). وإسناده ضعيف: موسى بن عبيدة، ضعيف (المجروحين 2/234، والتاريخ الصغير 2/93، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3/147، والكامل 6/333).
(3) ... في الأصل: وأبو بريدة. والتصويب من البغوي (2/331).
(4) ... ذكره البغوي في تفسيره (2/331).
(5) الكشاف (2/300-301).(1/673)
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث علي رضي الله عنه قال: "سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك. قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } " (1) .
قلتُ: والذي ذكره الزمخشري غير مُرْض؛ لأن الحديث صحيح، على أنه غير ممتنع أن ينزل بالمدينة ما كان سببه بمكة، وأن يكون المجموع سبباً لنزول الآية. هذا ما جاء في سبب النزول.
وأما التفسير فقوله: { ما كان للنبي والذين آمنوا } أي: ما ينبغي ولا يصح لهم أن يسألوا الله المغفرة لمن مات على الشرك ولو كانوا أقرب الناس إليهم.
{ من بعد ما تبين لهم } بموتهم على الشرك { أنهم أصحاب الجحيم } .
{ وما كان استغفار إبراهيم إلا عن موعدة وعدها إياه } ، وهي قوله: { سأستغفر لك ربي } [مريم:47]، وقوله: { لأستغفرنَّ لك } [الممتحنة:4].
فعلى هذا يكون ضمير الفاعل في "وعدها": "إبراهيم"، والضمير في "إياه" يعود إلى الأب. ويؤيده قراءة الحسن وابن السميفع ومعاذ القارئ: "وعدها أباه" بالباء المعجمة من تحت بنقطة واحدة (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/281 ح3101)، والنسائي (4/91 ح2036).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/509).(1/674)
وقيل: أباه وعده بالإيمان وخلع الأنداد إن استغفر له، فيكون ضمير الفاعل للأب، وضمير "إياه" يعود إلى إبراهيم، والهاء في "وعدها" نصب على المصدر لا تعود إلى الموعدة، والموعدة مصدر، فكذلك ما يعود إليه.
{ فلما تبين له } أي: لإبراهيم بطريق الوحي، أو بموت أبيه على الشرك { أنه عدو لله تبرأ منه } فقطع الاستغفار له { إن إبراهيم لأواه حليم } .
قال صاحب الصحاح (1) : قولهم عند الشكاية: أَوْهِ من كذا، ساكنة الواو، إنما هو تَوَجُّعٌ.
قال [الشاعر] (2) :
فَأَوْهِ لِذِكْرَاهَا إِذا مَا ذكَرْتُهَا ... ... وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ (3)
وربما قلبوا الواو ألفاً فقالوا: آهِ، وربما شدَّدوا الواو وكسروها وسكّنوا الهاء، فقالوا: أَوِّهْ من كذا، وربما مع التشديد حذفوا الهاء [فقالوا: أَوِّ من كذا، بلا مدٍّ] (4) .
وبعضهم يقول: آوَّه، بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء؛ لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيه التاء فقالوا: أَوَّتاهُ، يُمَدُّ ولا يُمَدُّ. وقد أَوَّهَ
__________
(1) ... الصحاح (6/2225).
(2) ... زيادة من الصحاح (6/2225).
(3) ... انظر: البيت في: لسان العرب، مادة: (أوه)، والطبري (11/52)، والقرطبي (8/276)، وروح المعاني (11/35).
(4) ... زيادة من الصحاح (6/2225).(1/675)
الرَّجُلُ تَأْوِيهاً [وَتَأَوَّهَ] (1) تَأَوُّهاً؛ إذا قال: أَوَّهْ. والاسم منه: الآهَةُ، بالمد. قال المُثَقَّب:
إِذا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بلَيْلٍ ... ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزينِ (2)
ويروى: أَهَّةَ، من قولهم: أَهَّ؛ إذا تَوَجَّعَ.
وقال أبو عبيدة (3) : هو فَعَّال من التأوه، [ومعناه] (4) : متضرع شفقاً وفَرَقاً ولزوماً لطاعة ربه.
وقال الفراء (5) : هو الذي يتأوَّه من الذنوب.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الأوّاه: "أنه الخاشع الدَّعّاء المتضرّع" (6) .
قال إبراهيم النخعي: كان أبو بكر الصديق يسمى الأوّاه؛ لرأفته ورحمته (7) .
__________
(1) ... في الأصل: وتأوها. والتصويب من الصحاح، الموضع السابق.
(2) ... البيت للمثقب العبدي، وهو العائذ بن محصن بن ثعلبة من بني عبد القيس من ربيعة: شاعر جاهلي من أهل البحرين. انظر البيت في: ديوانه (ص:194)، واللسان، مادة: (رحل)، والطبري (11/52)، والقرطبي (8/276)، والوسيط (2/529)، والماوردي (2/411)، وزاد المسير (3/510)، وطبقات فحول الشعراء (ص:231).
(3) ... مجاز القرآن (1/270).
(4) ... في الأصل: ومعنى. والتصويب من مجاز القرآن، الموضع السابق.
(5) ... معاني الفراء (2/23).
(6) ... أخرجه الطبري (11/51)، وابن أبي حاتم (6/1896). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/305)، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
(7) ... ذكره القرطبي (8/276) بلا نسبة. وانظر: تهذيب التهذيب (5/276)، وطبقات ابن سعد (3/170)، والإصابة (4/174).(1/676)
وقال أبو سريحة: سمعت علياً على المنبر يقول: ألا إن أبا بكر أَوَّاه منيب القلب، ألا إن عمر نَاصَحَ الله فنصحه (1) .
$tBur كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
__________
(1) ... أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/138، 176، 406)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/170)، والترمذي في نوادر الأصول (1/229)، وعلل الدارقطني (4/97). وذكره الطبري في الرياض النضرة (1/380). وقوله: "ألا إن عمر ..." أخرجه ابن أبي شيبة (6/356 ح31997).(1/677)
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ اتتذب
ثم أعلم الله تعالى نبيه والمؤمنين أنه لا إثم عليهم بما صدر منهم من الاستغفار قبل النهي فقال: { وما كان الله ليضل قوماً } أي: ليحكم عليهم بالضلالة { بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ، وفيه إضمار تقديره: فلا يتقونه.
وما بعده ظاهر إلى قوله: { لقد تاب الله على النبي } قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف، كقوله: { عفا الله عنك لم أذنت لهم } (1) .
وقيل: هو إشعار بأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، ألا تراه يقول: { واستغفر لذنبك } [محمد:19]، وفيه تنبيه على فضل التوبة وإعلام بأنها بالمنزلة التي يفتقر إليها الأنبياء.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/529)، وزاد المسير (3/511).(1/678)
وقال أهل المعاني: ذِكْرُ النبي في التوبة مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: { فأن لله خمسه وللرسول } (1) [الأنفال:41].
{ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } أي: في وقت العسرة.
قال الزمخشري وغيره (2) : الساعة تستعمل في معنى الزمان، كما يستعمل اليوم.
والمراد: غزوة تبوك، وكانوا في عسرة من الظَّهْر، يعقب العشرة على بعير واحد، وكانوا في عسرة من الزاد، حتى اقتسم التمرة الواحدة اثنان، وربما مصّها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وكانوا في عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فُرُوثها وشربوها، وجعلوا ما بقي منها على أكبادهم، وكانوا في عسرة وشدة من حَمَّارَة القيظ (3) والقحط.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن ساعة العسرة فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، ونزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عَوَّدَكَ في
__________
(1) ... زاد المسير (3/511).
(2) ... الكشاف (2/303).
(3) ... حَمَّارة القيظ: أي شدَّة حرّه (اللسان، مادة: حمر).(1/679)
الدعاء خيراً، فادْعُ لنا. قال: تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه، فلم يُرْجعهما حتى قالت السماء، فأظلت فسكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر" (1) .
قوله تعالى: { من بعد ما كاد تزيغ } وقرأ حفص وحمزة: "يزيغ" بالياء على تذكير الجمع (2) ، كقوله: { وقال نسوة } [يوسف:30] وفي "كاد" ضمير الشأن، أي: من بعد ما كاد الشأن والأمر يزيغ قلوب فريق منهم، فالفعل والفاعل تفسير الأمر والشأن.
وقال محمد بن يزيد: التقدير: من بعد ما كاد القبيل؛ لتقدم ذكر المهاجرين والأنصار.
والمعنى: من بعد ما كاد تميل قلوب فريق منهم عن اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن جماعة هَمُّوا بالتخلّف عنه ثم لحقوه. هذا قول ابن عباس (3) .
وقال الزجاج (4) : لم تزغ عن الإيمان، ولكن مالت إلى الرجوع؛ للشدة التي لقوها.
وحكى الماوردي (5) : أن المعنى: من بعد ما كاد تزيغ قلوبهم تلفاً بالجهد والشدة.
__________
(1) أخرجه ابن حبان (4/223 ح1383)، والحاكم (1/263 ح566)، والبيهقي في سننه (9/357)، والطبري (11/55).
(2) ... الحجة للفارسي (2/344)، والحجة لابن زنجلة (ص:325)، والكشف (1/510)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:245)، والسبعة في القراءات (ص:319).
(3) ... زاد المسير (3/512)
(4) ... انظر: معاني الزجاج (2/474).
(5) ... تفسير الماوردي (2/412).(1/680)
وهذا القول ليس بشيء، لقوله: ثم تاب عليهم.
وإنما أعاد سبحانه وتعالى ذكر التوبة عليهم لأجل ذكر الذَّنْب.
'n?tمur الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ اتتزب(1/681)
قوله تعالى: { وعلى الثلاثة } أي: وتاب على الثلاثة { الذين خُلّفوا } وقرأ جماعة منهم جعفر الصادق والشعبي: "خالفوا" (1) .
وقرأتُ لعبد الوارث عن أبي عمرو: "خَلَفُوا" بالتخفيف (2) ، أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو بمعنى: فسدوا، ومنه: خَلُوفُ (3) فَم الصائم.
ومن قرأ: "خالفوا"؛ فمعناه ظاهر.
والمعنى على القراءات المشهورة: خُلِّفُوا عن التوبة، وقيل: عن الغزوة. وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع -ويقال: ابن ربيعة-، وهلال بن أمية.
{ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي: بسعتها { وضاقت عليهم أنفسهم } بالهمّ والغمّ.
سئل بعض المحققين عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الأرض وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه (4) .
{ وظنوا } أي علموا وأيقنوا { أن لا ملجأ من الله } أي: لا وزر ولا معتصم من عذابه وسخطه، { إلا إليه } . وجواب ["إذا"] (5) محذوف، تقديره: ندموا.
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (3/512).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/512-513).
(3) ... خَلَفَ فَمُ الصائم خُلُوفاً: أي تغيَّرت رائحته (اللسان، مادة: خلف).
(4) ... زاد المسير (3/513).
(5) ... في الأصل: إذ.(1/682)
{ ثم تاب عليهم } فـ"ثم" عاطفة ما بعدها على "ندموا"، أو بمعنى: "ثم تاب عليهم" رجع عليهم بالرحمة والمغفرة والقبول، { ليتوبوا } ليستقيموا على التوبة بتوفيقه ورحمته إياهم.
وقيل: ليتوبوا فيما يستقبلون إن فرطت منهم خطيئة.
{ إن الله هو التواب } الرَّجَّاع بالرحمة والقبول ولو عاد في اليوم مائة مرة، { الرحيم } بالمؤمنين.
ذكر حديث كعب بن مالك وصاحبيه وما كان من توبتهم:
وقع لي من طرق كثيرة أعلاها سنداً وأحسنها سياقة ومتناً، ما حدثنا به شيخنا الإمام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في ذي القعدة سنة خمس وستمائة بجامع دمشق، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبدالباقي، أخبرنا أبو الفضل جعفر بن يحيى المكي، أخبرنا محمد بن الحسين بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا محمد بن أحمد النقوي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: "لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً، ولم يعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً تخلّف عن بدر، إنما خرج يريد العير، فخرجت قريش مغوثين لعيرهم، فالتقوا على غير موعد، كما قال الله تعالى (1) ، لعمري إن أشرف مشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس لبدر، وما أحب أني كنت
__________
(1) ... في سورة الأنفال: { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } [الأنفال:42].(1/683)
شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف بعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة غزاها، حتى إذا كان غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها، وآذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بالرحيل، وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار، وكان قلما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها، وكان يقول: "الحرب خُدْعَة" -يعني: إلا غزوة تبوك فإنه جلا للناس أمرهم-، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم، وأنا أيسر ما كنت، قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة [الحاذ] (1) وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال وطيب الثمار. فلم أزل كذلك حتى قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً بالغداة، وذلك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، فأصبح غادياً، فقلت: أنطلق غداً إلى السوق فأشتري جهازي ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غداً إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني، فقلت: أرجع غداً إن شاء الله، فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة، فيحزنني أنني لا أرى أحداً تخلّف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، وكان ليس أحد تخلف إلا يرى أن ذلك سيخفى له، وكان الناس كثيراً لا يجمعهم ديوان، وكان جميع من تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة وثمانين رجلاً، ولم يذكرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوكاً، فلما بلغ تبوكاً قال: ما فعل كعب بن مالك؟ قال رجل من
__________
(1) ... في الأصل: الجاذ. والتصويب من التوابين (ص:95). والحاذ: خفيف الظهر.(1/684)
قومي: خلفه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا نبي الله ما نعلم إلا خيراً.
قال: فبينا هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخط النبي - صلى الله عليه وسلم - وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا قيل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مصبحكم غداً [بالغداة] (1) زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى فصلّى في المسجد، وكان إذا جاء من سفر فعل ذلك، دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس، فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم، ويقبل علانيتهم، ويَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى، فدخلت المسجد فإذا هو جالس، فلما رآني تبسم تبسم المغضب، فجئت فجلست بين يديه فقال: ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى يا نبي الله. قال: فما خلفك؟ فقلت: والله لو بين يدي أحد من الناس غيرك جلست لخرجت من سخطته عَلَيَّ بعذر، لقد أوتيت جدلاً، ولكن قد علمت يا نبي الله أني إن أخبرك اليوم بقول تجد عليّ فيه وهو حق، فإني أرجو فيه عقبى الله، وإن حدثتك اليوم [حديثاً] (2) ترضى عني فيه وهو كذب، أوشك أن يطلعك الله عليّ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخفّ حاذاً مني حين تخلفت عنك. قال: أما هذا فقد صدقكم الحديث، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فثار على أثري أناس من قومي
__________
(1) في الأصل: بالغداء. والتصويب من التوابين (ص:96).
(2) زيادة من التوابين (ص:97).(1/685)
يؤنبونني، فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا، فهلا اعتذرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعذر يرضى عنك به؟ وكان استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيأتي من وراء ذنبك، ولم تقف نفسك موقفاً لا تدري ماذا يقضى لك فيه، فلم يزالوا يؤنبوني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي, فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قاله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ولا أكذب نفسي، قال: ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عن كلامنا أيُّها الثلاثة، قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد، وتنكر [لنا الناس] (1) حتى ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي، فكنت أخرج وأطوف في السوق وآتي إلى المسجد فأدخل، وآتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُسلِّم عليه فأقول: هل حرّك شفتيه بالسلام؟ فإذا قمت أصلي إلى السارية، فأقبلت قبل صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه، فإذا نظرت إليه أعرض عني، قال: واستكان صاحباي، فجعلا يبكيان الليل والنهار لا يُطلعان رؤوسهما، فبينا أنا أطوف في السوق إذا رجل نصراني قد جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ، فأتاني وأتاني بصحيفة من ملك غسان، فإذا فيها:
__________
(1) ... في الأصل: وتنكر لناس. والمثبت من التوابين (ص:98).(1/686)
أما بعد! فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك، ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسك، فقلت: هذا أيضاً من البلاء والشر، فَأَسْجَرْتُ لها التنور وأحرقتها. فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتاني فقال: اعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا، ولكن لا تقربنّها (1) ، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف، فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربنك، قالت: يا نبي الله! والله ما به من حركة لشيء، ما زال مكتئباً يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان.
قال كعب: فلما طال عليّ البلاء اقتحمت على أبي قتادة حائطه -وهو ابن عمي- فسلّمت عليه، فلم يرد عليّ، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة، أتعلم (2) أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجاً، حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا، إذ سمعت نداءً من ذروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج، ثم جاء رجل يركض على فرس يبشرني، فكان الصوت أسرع
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: تعني.
(2) ... قوله: "أتعلم" مكرر في الأصل.(1/687)
من فرسه، يعني: فلما جاءني الذي سمعت صوته، فأعطيته ثوبي بشارة، ولبست ثوبين آخرين.
قال: وكانت توبتنا نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلث الليل، فقالت أم سلمة: يا نبي الله! ألا نبشر كعب بن مالك؟ قال: إذاً يحطمكم الناس ويمنعونكم من النوم من سائر الليلة.
قال: وكانت أم سلمة رضي الله عنها محسنة في شأني تحزن بأمري، فانطلقتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون، وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سرّ استنار، فجئت فجلست بين يديه فقال: أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: يا نبي الله، أمن عند الله أم من عندك؟ قال: بل من عند الله، ثم تلا عليهم: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } حتى بلغ: { التواب الرحيم } ، قال: وفينا نزلت: { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } .
قال: فقلت: يا نبي الله، إن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: أمسك بعض مالك فهو خير لك، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صدقته أنا وصاحباي أن لا نكون كذبناه فهلكنا كما هلكوا، وإني لأرجو أن لا يكون الله أبلى أحداً في الصدق مثل الذي أبلاني، ما تعمدت لكذبة بعد، وإني لأرجو أن يحفظني(1/688)
الله فيما بقي" (1) . هذا حديث اتفق الأئمة الإسلام على إخراجه وتدوينه، فرواه الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل في مسنده عن يعقوب [بن] (2) إبراهيم، عن ابن أخي الزهري، عن عمه الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب -وكان قائد كعب بن مالك من [بنيه] (3) حين عَمِيَ- قال: سمعت كعب بن مالك، وساق الحديث.
وأخرجه مسلم عن غندر، عن يعقوب بن إبراهيم. وأخرجه البخاري عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري.
وفي جميع الروايات يقول الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله، عن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك حدثه عن كعب، إلا عبدالرزاق، فإنه رواه عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، وعبدالرحمن سمع من أبيه ومن جده كعب بن مالك.
وقد أخرج البخاري وغيره من الحفاظ من حديث الزهري عن عبدالرحمن، عن جده كعب بن مالك، فكأن عبدالرحمن سمع هذا الحديث من أبيه ومن جده، فرواه عن كل واحد منهما.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1603-1608 ح4156)، ومسلم (4/2120-2127 ح2769)، وأحمد (6/387-389 ح27219)، وعبد الرزاق (5/397-405 ح9744)، وابن قدامة في التوابين (ص:94-101).
(2) ... في الأصل: عن. وهو خطأ. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (11/333)، والتقريب (ص:607).
(3) ... في الأصل: بيته. والتصويب من الصحيحين.(1/689)
وفي بعض ألفاظ الصحيح: "فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر، وما من شيء أهم إليّ من أن أموت ولا يصلي عَلَيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو يموت [رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكون من الناس بتلك المنزلة] (1) ولا يكلمني أحد منهم ولا يسلم عَلَيَّ ولا يصلي عَلَيَّ" (2) .
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } جاء في أثناء حديث كعب بن مالك أنها نزلت فيهم، فيكون أمراً لجميع المؤمنين بأن يَنْظُمُوا أنفسهم في سلك الثلاثة ومن ضاهاهم من الصادقين الذين استثمروا من الإخلاص في إيمانهم والصدق في مقالهم وإيمانهم مقالاً جميلاً وثواباً جزيلاً.
قال ابن عمر: "الصادقين": محمد وأصحابه (3) .
وقال سعيد بن جبير: أبو بكر وعمر (4) .
ويؤيده قراءة ابن السميفع وأبي المتوكل ومعاذ القارئ: "الصَّادِقَيْنِ" بفتح القاف وكسر النون على التثنية (5) .
__________
(1) ... زيادة من البخاري (4/1718).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1718 ح4400).
(3) ... أخرجه الطبري (11/63) عن نافع، وابن أبي حاتم (6/1906). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/514)، والسيوطي في الدر المنثور (4/316) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) ... أخرجه الطبري (11/63)، وابن أبي حاتم (6/1906) عن الضحاك. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/514)، والسيوطي في الدر المنثور (4/316) وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.
(5) ... انظر: زاد المسير (3/514).(1/690)
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "مع الصادقين": مع علي وأصحابه (1) .
وقال ابن جريج: "مع الصادقين" أي: المهاجرين (2) .
ويروى: أن أبا بكر احتج بهذه الآية يوم السقيفة فقال: يا معشر الأنصار! إن الله يقول في كتابه: { للفقراء المهاجرين } إلى قوله: { أولئك هم الصادقون } [الحشر:8] من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال: فإن الله يقول: { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء (3) .
وقال السدي: "الصادقين": الثلاثة الذين خلفوا (4) .
والصحيح: ما ذكرته أولاً من القول بعمومه في جميع الصادقين، وهو قول قتادة (5) .
__________
(1) ... ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/316) وعزاه لابن مردويه. ومن طريق آخر عن أبي جعفر، وعزاه لابن عساكر.
(2) ... أخرجه الطبري (11/63). وانظر: الماوردي (2/414)، وزاد المسير (3/514).
(3) ... انظر: زاد المسير (3/514).
(4) ... أخرجه ابن حاتم (6/1907). وانظر: الماوردي (2/414)، وزاد المسير (3/514). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/316) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(5) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1907). وانظر: الماوردي (2/414)، وزاد المسير (3/514).(1/691)
وسائر الأقوال المذكورة لا تنافي ما ذكرته؛ لأنه ليس مقصود القائل حصر الصادقين فيما خصه بالذكر، بل مقصوده بيان الصادقين وتعريفهم بذكر الأشهر منهم والأظهر في نظره.
وقيل: إن الخطاب بقوله: { يا أيها الذين آمنوا } لأهل الكتاب. المعنى: "يا أيها الذين آمنوا" بموسى والذين آمنوا بعيسى "اتقوا الله" في إيمانكم بمحمد "وكونوا مع الصادقين" من المهاجرين والأنصار ومن سلك سبيلهم (1) .
ويجوز عندي أن يكون الخطاب بقوله: { يا أيها الذين آمنوا } للمنافقين؛ لأن هذه السورة كثيرة اللهج بذكرهم والإلمام بحديثهم، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم اتقوا الله بترك النفاق وكونوا مع الصادقين في إيمانهم من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
قال ابن مسعود: لا يصلح الكذب في جدٍّ ولا هَزْل، اقرؤوا إن شئتم: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } (2) .
$tB tb%ں2 ب@÷dL{ دpuZƒد‰yJّ9$# ô`tBur Oçlm;ِqym z`دiB ة>#{ ôمF{$#
__________
(1) ... وهو قول مقاتل بن حيان. انظر: الماوردي (2/413)، وزاد المسير (3/514).
(2) أخرجه الطبري (11/63)، وابن أبي حاتم (6/1906)، وسعيد بن منصور في سننه (5/292)، وابن أبي شيبة (5/236)، والبيهقي في الشعب (4/202). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/316) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.(1/692)
br& (#qàے¯=y‚tGtƒ `tم ةAqك™' "!$# ںwur (#qç7xîِچtƒ ِNحkإ¦àےRr'خ/ `tم ¾دmإ،ّے¯R ڑپد9؛sŒ َOكg¯Rr'خ/ ںw َOكç6 إءمƒ ط'yJsك ںwur ز=|ءtR ںwur ×p|ءyJّƒxC 'خû ب@خ6y™ "!$# ںwur ڑcqن"sـtƒ $Y¥دغِqtB àلةَtƒ u'$Oےà6ّ9$# ںwur ڑcqن9$uZtƒ ô`دB 5irك‰tم ¸xّ¯R wخ) |=دGن. Oكgs9 ¾دmخ/ ×@yJtم ىxخ="|¹ cخ) ©!$# ںw كىإزمƒ tچô_r& tûüدZإ،َsكJّ9$# اتثةب ںwur ڑcqà)دےYمƒ Zps)xےtR Zouژچةَ|¹ ںwur Zouژچخ7ں2 ںwur ڑcqمèsـّ)tƒ $؛ƒدٹ#ur wخ) |=دGà2 ِNçlm; قOكgtƒج"ôfuد9 ھ!$# z`|،ômr& $tB (#qçR$ں2(1/693)
tbqè=yJ÷ètƒ اتثتب * $tBur ڑc%x. tbqمZدB÷sكJّ9$# (#rمچدےYuٹد9 Zp©ù!$ں2 ںwِqn=sù tچxےtR `دB بe@ن. 7ps%ِچدù ِNهk÷]دiB ×pxےح !$sغ (#qكgO)xےtGuٹدj9 'خû ا`ƒدe$!$# (#râ'ةYمٹد9ur َOكgtBِqs% #sŒخ) (# qمèy_u' ِNحkِژs9خ) َOكg¯=yès9 ڑcrâ'xّts† اتثثب
قوله تعالى: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } وقد ذكرناهم عند قوله: { وممن حولكم من الأعراب منافقون } (1) .
{ أن يتخلفوا عن رسول الله } يعني: في الجهاد، { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } أي: ولا يترفَّعوا بأنفسهم عن نفسه الكريمة إيثاراً للخفض والدَّعَة والرفاهية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخوض غمرات الشدائد والأهوال.
سمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد الله بن أحمد يقول: أخبرنا عبدالله بن منصور بن هبة الله الموصلي، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي،
__________
(1) الآية: 101.(1/694)
أخبرنا محمد بن عبدالواحد، أخبرنا أبو بكر بن شاذان، أخبرنا أبو عبدالله بن المغلس، أخبرنا أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: تخلف أبو خيثمة -أحد بني سالم- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة تبوك، حتى إذا سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريش لهما في حائط لهما، قد رَشَّتْ كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له طعاماً، فلما دخل قام على باب العريش فنظر فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضَّح (1) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف!! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى أَلْحَقَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قَدَّمَ ناضِحَهُ (2) فأرحلها، ثم خرج في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركه حين نزل تبوكاً، فلما طلع قال الناس: هذا راكب مقبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كن أبا خيثمة، فلما دنا قال الناس: يا رسول الله، هذا والله أبو خيثمة، فلما أناخ سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبره الخبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خيراً ودعا له (3) .
__________
(1) ... الضَّحُّ: الشمس (اللسان، مادة: ضحح).
(2) ... النَّاضِحُ: البعير (اللسان مادة: نضح).
(3) أخرجه ابن قدامة في التوابين (ص:92-93). وذكره الطبري في تاريخه (2/183)، وابن هشام في السيرة (5/200-201).(1/695)
وقال الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم، فقال: يا حائطاه! ما خلفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله (1) .
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى ما دل عليه قوله: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } كأنه قيل: ذلك النهي عن التخلف، أو ذلك الوجوب بسبب أنهم { لا يصيبهم ظمأ } أي: عطش { ولا نصب } أي: تعب { ولا مخمصة } أي: مجاعة { في سبيل الله ولا يطؤون } أي: يدوسون بحوافر خيولهم أو خفائف [رواحلهم] (2) وأرجلهم { موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً } أي: يرزؤونهم شيئاً من غنيمة أو قتل أو هزيمة { إلا كتب لهم به عمل صالح } يزلفهم إليه، ويجازيهم عليه.
وقد دَلَّت هذه الآية والتي قبلها: على أن الساعي في طاعة الله تعالى يُثاب على جميع حركاته وسَكَناته ونفقته وعلف دابته وغير ذلك.
قال عطية العوفي: ما أعظم بركة الطاعة (3) .
وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" (4) .
__________
(1) ذكره أبو السعود في تفسيره (4/109).
(2) في الأصل: روالهم. والتصويب من تفسير أبي السعود (4/111).
(3) الوسيط (2/534).
(4) ... أخرجه البخاري (3/1048 ح2698).(1/696)
قوله تعالى: { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } قال ابن عباس: تمرة فما فوقها (1) .
{ ولا يقطعون وادياً } أي: يجاوزونه في مسيرهم طالبين العدو أو آيبين إلى أوطانهم { إلا كتب لهم } آثارهم ونفقتهم وخُطاهم { ليجزيهم الله } اللام متعلقة بـ"كُتِبَ لهم"، أي: كتب لهم في صحائف أعمالهم لأجل الجزاء، { أحسن } أي: أحسن { ما كانوا يعملون } .
قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } السبب في نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما أَنْزَلَ الله عيوبَ المنافقين في غَزاة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ولا سَرِيَّة أبداً. فلما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [بالسرايا] (2) إلى العدو نفر المسلمون جميعاً وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده، فنزلت هذه الآية" (3) .
والمعنى: ما ينبغي للمؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد جميعاً، بل تبقى طائفة منهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ { ليتفقهوا في الدين } فإن قَوَامَ الإسلام الجهاد، وعماد الدين الفقه، { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } فعلموهم ما أنزل الله بعدهم من القرآن والسنة { لعلهم يحذرون } أي: إرادة أن يحذروا.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/534)، وزاد المسير (3/515).
(2) ... في الأصل: بالسايا. والتصويب من المصادر التالية.
(3) ... أسباب النزول للواحدي (ص:269)، وزاد المسير (3/516).(1/697)
وهذا مقصودٌ قد عَزَّ وجوده، واستدل به عامة المتفقهين الأغراض الدنيوية والأغراض الدنيّة، فأصبحوا مجانين بالدنيا، مخمورين بحبها، يتنافسون في طلبها، ويتهالكون في نيل زينتها، دأبهم السياسة لقوانين الرئاسة.
ولله در شيخنا الإمام عماد الدين إبراهيم بن عبدالواحد بن علي المقدسي رضي الله عنه ما كان أقومه بشرائط العلم وأقوله للحق. ولقد كتب إلى بعض فقهاء أهله حين بلغه أنه انتحل سبباً يجتلب (1) به الرئاسة والمناصب يقول كلاماً، منه: ما لهذا أريدُ العلم لأدل عليه، وإنما ذكر الله نعيم الجنة ثم قال: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [المطففين:26].
وقد أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب الزهد (2) بإسناده عن مالك بن دينار قال: إذا طلبتَ العلم لتعمل به سرّك العلم، وإذا طلبته لغير العمل لم يزدك إلا فخراً".
وأخرج الإمام أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" (3) .
__________
(1) ... يجتلب: أي: يطلب.
(2) ... الزهد (ص:390).
(3) ... أخرجه أحمد (2/338 ح8438)، والحاكم (1/160 ح288)، وابن أبي شيبة (5/285 ح26127)، وابن حبان (1/279 ح78).(1/698)
وقال عبدالرزاق بن همام في قوله: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ... الآية } : هم أصحاب الحديث (1) .
فصل
أخرج أبو داود في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } ، و { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } قال: نسخها قوله: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (#qمZtB#uن (#qè=دG"s% ڑْïد%©!$# Nن3tRqè=tƒ ڑئدiB ح'$Oےà6ّ9$# (#rك‰ةfuّ9ur ِNن3ٹدù Zpsàù=دٌ (# qكJn=÷و$#ur ¨br& ©!$# yىtB ڑْüة)GكJّ9$# اتثجب
__________
(1) ... انظر: القرطبي (8/297).
(2) ... أخرجه أبو داود (3/11 ح2505).
... انظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:527)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:370).(1/699)
قوله تعالى: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } قال ابن عمر: هم الروم (1) .
وقال ابن عباس: قريظة والنضير وخيبر [وفدك] (2) .
قال قتادة: هو عام في قتال الأقرب فالأقرب (3) .
قال الزجاج (4) : فيه دليل على أنه ينبغي أن يُقاتِل أهلُ كُلِّ ثَغْر (5) الذين يلونهم.
{ وليجدوا فيكم غلظة } أي: شدة ونكاية وصبراً على الجهاد، وعنتاً وعنفاً في القتل والأسر.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء العكبري وأبي عمرو الياسري لعاصم: "غَلْظَة" (6) بالحركات الثلاث على الغين، ومثله: الجذوة، والرغوة، والربوة.
#sŒخ)ur !$tB ôMs9ج"Ré& ×ou'qك™ Oكg÷YدJsù `¨B مAqà)tƒ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (11/71). وانظر: الماوردي (2/415)، وزاد المسير (3/518).
(2) ... في الأصل: فدك. والتصويب من زاد المسير (3/518). انظر: الوسيط (2/535)، وزاد المسير (3/518).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1914). وانظر: الماوردي (2/416)، وزاد المسير (3/518). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/324) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... معاني الزجاج (2/476).
(5) ... الثَّغْر: الموضع الذي يكون حدّاً فاصلاً بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أطراف البلاد (اللسانن مادة: ثغر).
(6) ... الحجة للفارسي (2/347)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:245)، والسبعة في القراءات (ص:320).(1/700)
ِNà6oƒr& çmّ?yٹ#y- ے¾حnة"yd $YZ"yJƒخ) $¨Br'sù ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن ِNكgّ?yٹ#t"sù $YZ"yJƒخ) َOèdur tbrمچد±ِ;tGَ،o" اتثحب $¨Br&ur ڑْïد%©!$# 'خû Oخgخ/qè=è% ذكtچ¨B ِNهkّEyٹ#t"sù $²،ô_ح' 4'n<خ) َOخgإ،ô_ح' (#qè?$tBur ِNèdur ڑcrمچدے"ں2 اتثخب ںwurr& tb÷rtچtƒ َOكg¯Rr& ڑcqمZtFّےمƒ 'خû بe@à2 5Q$tم ¸oچ¨B ÷rr& ةْ÷üs?چtB NèO ںw ڑcqç/qçGtƒ ںwur ِNèd ڑcrمچ2Otƒ اتثدب #sŒخ)ur !$tB ôMs9ج"Ré& ×ou'qك™ tچsà¯R َOكgàز÷èt/ 4'n<خ) Cظ÷èt/ ِ@yd Nà61tچtƒ ïئدiB 7‰tnr& NèO (#qèùtچ|ءR$# ڑ'uژ|ہ ھ!$#(1/701)
Nهku5qè=è% ِNهk¨Xr'خ/ ×Pِqs% w tbqكgs)ّےtƒ اتثذب
قوله تعالى: { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم } أي: فمن المنافقين { من يقول } أي: يقول بعضهم لبعض إنكاراً واستهزاءً وتهكماً بالمؤمنين { أيكم زادته هذه إيماناً } قال الله تعالى: { فأما الذين آمنوا } يعني: صدقوا تصديقاً لا مرية فيه ولا فرية تعتريه { فزادتهم إيماناً } ؟ تصديقاً ويقيناً.
وقيل: المعنى: فزادتهم عملاً ازدادوا به إيماناً { وهم يستبشرون } بنزولها.
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } شرك وشكّ { فزادتهم رِجْساً إلى رِجْسِهم } أي: كُفْراً منضماً إلى كفرهم { وماتوا وهم كافرون } .
قوله تعالى: { أَوَ لا يرون } يعني: المنافقين.
وقرأ حمزة ويعقوب: "تَرَوْنَ" بالتاء على المخاطبة للمؤمنين (1) .
{ أنهم } يعني المنافقين { يُفْتَنُونَ } بالمرض والقحط وغيرهما من أنواع البلاء.
وقال ابن عباس: "يفتنون" أي: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون (2) .
وقال قتادة: يفتنون بالجهاد (3) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/343)، والحجة لابن زنجلة (ص:326)، والكشف (1/509)، والنشر (2/281)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:245-246)، والسبعة في القراءات (ص:320).
(2) ... زاد المسير (3/519).
(3) ... أخرجه الطبري (11/74)، وابن أبي حاتم (6/1916). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/325) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/702)
{ في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون } من نفاقهم { ولا هم يذكرون } أي: يتعظون بذلك.
قوله تعالى: { نظر بعضهم إلى بعض } قال ابن عباس: كانت إذا نزلت السورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرّض بهم في خطبته؛ شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يودّون الهرب من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلين: { هل يراكم من أحد } من المؤمنين إن تسللتم، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، فذلك قوله: { ثم انصرفوا } على عزم التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به (1) .
قال الزجاج (2) : وجائز أن يكونوا ينصرفون عن المكان الذي استمعوا فيه.
{ صرف الله قلوبهم } قال الفراء (3) : هو دعاء عليهم.
ويجوز عندي: أن يكون ذلك إخباراً عنهم أن الله جازاهم على انصرافهم بالإضلال عن الهدى.
{ بأنهم } أي: بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } أي: لا يفهمون الحق ولا يتدبرونه.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/535)، وزاد المسير (3/520).
(2) ... معاني الزجاج (2/477).
(3) ... معاني الفراء (1/455).(1/703)
ô‰s)s9 ِNà2uن!%y` ر^qك™u' ô`دiB ِNà6إ،àےRr& î"ƒحotم دmّn=tم $tB َOڑGدYtم ëبƒجچym Nà6ّn=tو ڑْüدZدB÷sكJّ9$$خ/ ش$râنu' زOٹدm' اتثرب bخ*sù (#ِq©9uqs? ِ@à)sù ڑ_ة<َ،ym ھ!$# Iw tm"s9خ) wخ) uqèd دmّn=tم àMù=2uqs? uqèdur >u' ؤ¸ِچyèّ9$# ةOٹدàyèّ9$# اتثزب
قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي: من جنسكم ونسبكم لتفهموا عنه.
قال ابن عباس: يريد محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في العرب قبيلة إلا [وقد ولدته] (1) وله فيهم نسب (2) .
وقرأ جماعة منهم فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدة نساء العالمين وعائشة أم المؤمنين وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وابن محيصن ومحبوب
__________
(1) ... زيادة من الوسيط (2/535).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/535-536)، وزاد المسير (3/520).(1/704)
عن أبي عمرو: "مِنْ أَنْفَسِكُم" بفتح الفاء (1) ، أي: من أشرفكم وأفضلكم وأجملكم خَلقاً وأحسنكم خُلقاً.
{ عزيز عليه ما عنتم } "ما" مع الفعل بتأويل المصدر، وهو مرفوع بـ"عزيز". ويجوز أن يكون مبتدأ، "عزيز" خبره، والجملة نعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
والمعنى: شديد عليه عنتكم؛ لكونه منكم حسباً ونسباً، فهو يخاف عليكم ويشق عليه ما يلحقكم من الضرر والعَنَت بترك الإيمان، يقال: عَنِتَ الرجل يَعْنتُ عَنَتاً؛ إذا وقع في مَشَقَّة (3) .
ثم أثنى الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } قال ابن عباس: سَمَّاه باسمين من أسمائه (4) .
{ فإن تولوا } أعرضوا عن الإيمان بك بغياً وحسداً وعناداً { فقل } لائذاً بالله عائذاً به { حسبي الله } فهو يكفيني ويتولى نصرتي عليكم، { لا إله إلا هو عليه توكلت } في الانتقام منكم والانتصار عليكم، { وهو رب العرش العظيم } وقد ذكرناه في الأعراف (5) .
ووَصَفَ العرش بالعِظَمِ؛ لتضاؤل جميع المخلوقات بالنسبة إليه.
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:246).
(2) ... انظر: التبيان (2/23)، والدر المصون (3/514).
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (عنت).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/536)، وزاد المسير (3/521).
(5) ... عند الآية رقم: 54.(1/705)
قال ابن عباس: لا يقدر أحد قدره (1) .
وقرأ ابن محيصن: "العظيمُ" بالرفع، على نعت الرب عز وجل (2) .
هذا آخر سورة [براءة] (3) ، وهي التي فضحت المنافقين وبحثت عما في قلوبهم، حتى خشي المؤمنون أفاضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل فيهم قرآن.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما فرغ من تنزيل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء (4) .
وقد ذكر في مقدمة الكتاب ما يدل على أنها من أواخر ما نزل من القرآن.
قال قتادة: إن آخر القرآن عهداً بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى قوله: { رب العرش العظيم } (5) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (6/1920). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/335) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:246).
(3) ... في الأصل: براء.
(4) ... زاد المسير (3/521). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/121) وعزاه لأبي الشيخ.
(5) ... أخرجه أحمد (5/117)، والطبري (11/78)، والحاكم (2/368) كلهم عن أبي بن كعب. وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/331) وعزاه لابن الضريس في فضائل القرآن ولابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن الحسن عن أبي بن كعب.(1/706)
سورة الحج
ijk
وهي خمس وسبعون آية في العدد البصري، وثمان وسبعون في العدد الكوفي.
قال ابن عباس: هي مكية غير آيات: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } والتي تليها، و { هذان خصمان } واللتان بعدها (1) .
قال الثعلبي (2) : مِنْ { هذان خصمان } إلى { صراط الحميد } مدني.
وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إلى قوله: { وبشر المحسنين } ، وسائرها مكي (3) .
$ygoƒr'¯"tƒ النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِن زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
__________
(1) ... انظر: الإتقان (1/42-43).
(2) ... ذكره الثعلبي في تفسيره (7/5)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/402).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/402).(1/3)
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ اثب
أمر الله سبحانه وتعالى الناس بالتقوى، ثم عقَّبه بذكر الساعة [وأهوالها] (1) مبالغة في إثارة دواعيهم إلى التمسك بأسباب التقوى، فقال: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } .
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة؛ فقال الحسن: يوم القيامة (2) .
وقد روي عن (3) عمران بن حصين: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وقال: تدرون أي يوم ذلك؟ فإنه يوم ينادي الرب عز وجل آدم [عليه السلام] (4) : ابعث بعثاً إلى النار ... فذكر الحديث)) (5) ، وهو:
ما أخبرنا به الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين القزويني بقراءتي عليه قال: أخبرنا الإمام أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي قراءةً عليه، قال: حدثنا الإمام أبو محمد [الحسين] (6) بن مسعود البغوي، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش
__________
(1) ... في الأصل: وأهولها. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/257).
(3) ... ساقط من ب.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الترمذي (5/323 ح3169).
(6) ... في الأصل: الحسن. وهو خطأ. والتصويب من ب.(1/4)
الزيادي (1) ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر التاجر، حدثنا إبراهيم بن عبدالله الكوفي العبسي، أخبرنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! قم فابعث بعث النار، قال: فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، وما بعث النار يا رب (2) ؟ قال: فيقول: من كل ألف، تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. قال: فيقولون: وأيّنا ذلك الواحد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج، ومنكم واحد، قال: فقال الناس: الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، قال: فكبر الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، والشعرة السوداء في الثور الأبيض)) (3) . هذا حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري عن إسحاق بن [نصر] (4) ، عن أبي أسامة، عن الأعمش. وأخرجه
__________
(1) ... محمد بن محمد بن محمش بن علي بن داود، أبو طاهر الزيادي، ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وتوفي بعد سنة أربعمائة، وكان أبوه من أعيان العُبَّاد الذين يتبرّك بهم وبدعائهم (تهذيب الأسماء 2/525).
(2) ... في ب: يا رب وما بعث النار.
(3) ... أخرجه البخاري (3/1221 ح3170)، ومسلم (1/202 ح222).
(4) ... في الأصل: منصور، والتصويب من البخاري (3/1221). وانظر ترجمته في: التقريب (ص:99)، وتهذيب الكمال (2/388-389).(1/5)
مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع وعن أبي كريب، عن [أبي] (1) معاوية، كلاهما عن الأعمش.
وقال علقمة والشعبي: هذه الزلزلة تكون قبل القيامة (2) ، وهي من أشراط الساعة (3) .
وقد روى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت، ففزع الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير [والوحش] (4) ، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحور فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، والسماء إلى السماء السابعة، فينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فماتوا (5) .
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... قال الطبري (17/111): وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبي، قول لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله، والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه.
(3) ... أخرجه الطبري (17/109)، وابن أبي شيبة (7/151). وذكره السيوطي في الدر (6/7) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علقمة، ومن طريق آخر عن الشعبي وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... في الأصل: والجن. والمثبت من الطبري (30/63)، وابن أبي حاتم (10/3402).
(5) ... أخرجه الطبري (30/63-64)، وابن أبي حاتم (10/3402-3403). وذكره السيوطي في الدر (8/427) وعزاه لابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/6)
قوله تعالى: { يوم ترونها } منصوب بـ { تذهل } ، والضمير للزلزلة (1) ، يقال: ذَهَلَ عن كذا يَذْهَلُ ذُهُولاً؛ إذا تَرَكَه أو شَغَلَهُ عنه شَاغِل (2) ، ومنه قول عبدالله بن رواحة:
ضَرْباً يُزيلُ الهامَ عنْ مَقيلِه ... ... ويُذْهِلُ الخليلَ عنْ خَليله (3)
وقرأ أبو عمران الجوني: "تُذهِلُ" بضم التاء وكسر الهاء. { كُلَّ } بالنصب (4) .
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فِطَام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهو قوله: { وتضع كل ذات حمل حملها } (5) .
[قال صاحب الكشاف (6) ] (7) : فإن قلت: لم قيل: مُرضعة دون مُرضع؟
قلتُ: المرضعة هي التي في حال الإرضاع مُلْقِمَةٌ ثدْيَها الصبي، والمُرْضِعُ التي شأنها أن تُرْضِعَ وإن لم تُباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مُرْضِعةٌ، ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/139)، والدر المصون (5/121).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: ذهل).
(3) ... انظر البيت في: القرطبي (12/4، 13، 151)، وسير أعلام النبلاء (1/235)، والاستيعاب (3/1139)، والإصابة (4/85)، والماوردي (4/6).
(4) ... انظر: البحر المحيط (6/325)، والدر المصون (5/121).
(5) ... أخرجه الطبري (17/114). وذكره السيوطي في الدر (6/7) وعزاه لابن جرير.
(6) ... الكشاف (3/143).
(7) ... زيادة من ب.(1/7)
الرضيع ثديها نزعته من (1) فيه لما يَلْحَقُها من الدهشة.
قوله تعالى: { عما أرضعت } أي: عن إرضاعها، أو عن الذي أرْضَعَتْه، وهو الطفل.
قال المفسرون: وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن يوم البعث لا حُبْلَى فيه ولا مُرْضِعَة (2) .
قلتُ: ومعنى الكلام على القول الآخر: يوم ترون أماراتها وتشاهدون علامتها، تَذْهَلُ المراضع وتضع الحوامل، أو يكون ذلك خارجاً مخرج التمثيل، على معنى: لو وُجِدَ في ذلك اليوم مُرْضِعةٌ لذَهَلَتْ، أو حاملٌ لوَضَعَتْ.
قوله تعالى: { وترى الناس سُكارى } أي: تراهم لِمَا عَرَاهم من أهوال القيامة وشدائدها، كأنهم سُكارى لشدة اضطرابهم وقلقهم، { وما هم بسكارى } على التحقيق.
وقال ابن جريج: وترى الناس سُكارى من الخوف، وما هم بسُكارى من الشراب (3) .
وقرأ عكرمة: "وتُرى الناس" بضم التاء (4) ، على معنى: تظنّهم.
__________
(1) ... في ب: عن.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/257)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/404).
(3) ... أخرجه الطبري (17/115). وذكره السيوطي في الدر (6/8) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) ... انظر: البحر المحيط (6/325)، والدر المصون (5/122).(1/8)
قال الفراء (1) : لهذه القراءة وجه جيد.
وقرأ حمزة والكسائي: "سَكْرى وما هم بسَكْرى" (2) .
قال أبو علي (3) : يجوز أن تجمع سكران على "سَكْرى".
قال (4) : حكى سيبويه (5) : رجلٌ سَكِرٌ، وقد جمعوا هذا البناء على فَعْلَى، فقالوا: هَرِمٌ وهَرْمَى، وزَمِنٌ وزَمْنَى، وضَمِنٌ وضَمْنَى؛ لأنه من باب الأدواء والأمراض التي يُصاب بها، ففعْلى من هذا الجمع، وإن كان كعطْشى فليس يراد بها المفرد، إنما يراد بها تأنيث الجمع.
ومن قرأ: "سكَارى" فحجته: أنه لفظ يختص به الجمع، وليس بمشترك للجمع والواحد، كقولهم: سَكْرى، ونظيره قولهم: أُسَارَى وكُسَالى، فجاء الأول منه مضموماً، وإن كان الأكثر من هذا الجمع مفتوح الأول، نحو: حَذَارى.
z`دBur النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
__________
(1) ... معاني الفراء (2/215).
(2) ... الحجة للفارسي (3/164)، والحجة لابن زنجلة (ص:472)، والكشف (2/116)، والنشر (2/325)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:313)، والسبعة في القراءات (ص:434).
(3) ... الحجة (3/164).
(4) ... أي: أبو علي الفارسي، الموضع السابق.
(5) ... انظر: الكتاب (3/649).(1/9)
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ احب
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } قال ابن عباس وغيره: نزلت في النضر بن الحارث (1) ، وكان جَدِلاً يكذب بالقرآن (2) ، ويقول: الملائكة بنات الله (3) ، ويزعم أن الله لا يقدر على إحياء الموتى (4) .
وروى عطاء عن ابن عباس أيضاً: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة (5) .
وفي قوله: { ويتبع كل شيطان مريد } إشارة إلى أن جداله لا يستند إلى برهان عقلي، ولا بيان نقلي، وإنما هو جِدَالٌ شيطاني، فهو لعناده يَتَّبع ما
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/115) عن ابن جريج، وابن أبي حاتم (8/2474) عن أبي مالك. وذكره السيوطي في الدر (6/8) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي مالك، ومن طريق آخر عن ابن جريج وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(2) ... هو قول ابن عباس.
(3) ... وهذا هو قول مقاتل.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/258) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (5/405) عن أبي سليمان الدمشقي.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/258).(1/10)
تُسَوِّلُ له شياطينه. وقد سبق ذكر المَرِيد في سورة النساء (1) .
قوله تعالى: { كُتب عليه } أي: قُضِيَ على الشيطان { أنه من تولاه } أي: جعله ولياً له، { فأنه يضله } عن طريق الجنة { ويهديه إلى عذاب السعير } ، وهذه الآية وإن نزلت على سبب خاص فإنها عامة في كل مجادل في الله؛ في صفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، بغير كتاب ناطق ولا سُنَّةٍ واضحة، بل يخبط بآرائه الغائلة [المختلّة] (2) وأهوائه المُرْدِيَة المُضِلَّة.
فإن قيل: الضمير في "أنه" "فأنه" إلى أي شيء يرجع؟
قلتُ: الظاهر اتحاد الضمائر، وأنّ الضمير فيهما يرجع إلى الشيطان. وقد جَوَّزَ بعضهم أن يكون ضمير الشأن، على معنى: كتب على الشيطان أن الأمر والشأن من تولى الشيطان، فالشأن أن الشيطان يُضِلُّه.
فإن قيل: ما وجه الفتح في "أنه" "فأنه"، ووجه قراءة أبي مجلز وأبي العالية بالكسر فيهما؟
قلتُ: من فتَحَهُما جعل الأولى فاعل "كُتِبَ"، والثاني عطف عليه (3) . ومن كسرهما فعلى حكاية المكتوب، كما تقول: كتبتُ أن الله هو الغني
__________
(1) ... عند آية رقم: 117.
(2) ... في الأصل: المختلفة. والتصويب من ب.
(3) ... قال أبو حيان في البحر (6/326): وهذا لا يجوز؛ لأنك إذا جعلت "فأنه" عطفاً على "أنه" بقيت "أنه" بلا استيفاء خبر؛ لأن "من تولاه" مَنْ فيه مبتدأة، فإنه قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبر لأنه، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها، إذ جعلت "فأنه" عطفاً على "أنه".(1/11)
الحميد، أو على تقدير: قيل له، أو على أن "كُتِبَ" فيه معنى القول (1) .
فإن قيل: "من" هاهنا شرطية، أو [بمعنى] (2) الذي؟
قلتُ: جائز أن تكون بمعنى الذي، وقوله: "تولاه" في صلة "مَنْ". وقوله: { فأنه يضله } مبتدأ، تقديره: الشأن أنه يضله، والمبتدأ مع أنَّ واسمه وخبره خبر "مَنْ"، ودخلت الفاء؛ لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. وجائز أن تكون شرطية، و"تولاه" في موضع الجزم بـ"مَنْ"، والفاء مع "أنَّ" وما بعده في موضع الجواب والشرط، والجواب خبر "أنّ" الأولى (3) .
$ygoƒr'¯"tƒ النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ
__________
(1) ... ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف (3/145).
(2) ... في الأصل: معنى. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: التبيان (2/139)، والدر المصون (5/123-124).(1/12)
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ اخب
قوله تعالى: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } أي: إن كنتم في شَكٍّ من صحته وكونه، فانظروا ببصائركم في دلائل قدرتي ومبتدأ خلقكم لتستدلوا بالابتداء السابق على الإيجاد اللاحق.
وقوله: { فإنا خلقناكم من تراب } معناه: خلقنا أصلكم آدم من تراب، { ثم من نطفة ثم من علقة } وهي دم عبيط جامد، تنقلبُ عينُ النطفة إليه إذا(1/13)
استقرت في الرَّحم أربعين يوماً.
وفي طهارتها عن الإمام أحمد روايتان: مثارُهُما التردد بين كونها دماً وبَدْؤُ خلق آدمي.
{ ثم من مضغة } وهي اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، { مخلّقة وغير مخلّقة } .
قال ابن مسعود: المخلّقة: ما خلق سوياً، وغير المخلّقة: ما ألقَتْهُ الأرحام من النُّطَفِ قبل أن يكون خلقاً (1) .
وقال الحسن: مُصَوَّرة وغير مُصَوَّرة (2) .
وقال ابن عباس: المُخَلَّقَة: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولد حياً لِتَمَام، وغير المخلَّقة: ما سقط غير حَيٍّ لم يكمل خلقُه بنفخ الروح فيه (3) .
قال صاحب الكشاف (4) : المخلَّقَة: المُسَوَّاة الملساء من النقصان والعيب، يقال: خَلَّقّ السواك والعود؛ إذا سوّاه [ومَلَّسَه] (5) ، من قولهم: صخرة خَلْقَاء؛ إذا كانت مَلْسَاء (6) .
__________
(1) ... ذكره الطبري (17/116)، والماوردي (4/7)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/406).
(2) ... ذكره الطبري (17/116)، والماوردي (4/7) من قول مجاهد، وابن الجوزي في زاد المسير (5/407).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ مقارب (8/2475). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/406)، والسيوطي في الدر (6/10) وعزاه لابن أبي حاتم وصححه.
(4) ... الكشاف (3/145).
(5) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: خلق).(1/14)
قوله تعالى: { لنبين لكم } أي: لنُظهر لكم ونُوضّح بهذا التدريج والتنقل من حال إلى حال كمال قدرتنا وبليغ حِكْمتنا، وأن من قَدَرَ على خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، مع ما بين التراب والماء والدم من المُبَايَنَة، ثم جعل العَلَقَة مضغة والمضغة عظاماً، قادرٌ على إنشائكم بعد فنائكم.
قوله تعالى: { ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء } كلام مستأنف، أي: نُثْبِتُ فيها ما نشاء فلا يكون سقطاً، وما لم نشأ إقراره تَمُجُّهُ الأرحام وتُسْقِطُهُ.
والأجل المسمى: أجل الولادة والوضع.
وقرأتُ على الشيخين أبي البقاء عبدالله بن الحسين اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري: "ونقرَّ" بالنصب (1) ، عطفاً على "لنُبَيِّنَ". وضعّفها الزجاج (2) .
{ ثم نخرجكم طفلاً } قال الزجاج (3) : "طفلاً" في معنى أطفال، ودلّ عليه ذكر الجماعة.
وقال غيره: المعنى: ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً.
{ ثم لتبلغوا أشدكم } فيه إضمار، تقديره: ثم نُعمِّركم لتبلغوا كمال قوتكم، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
{ ومنكم من يتوفى من قبل } أي: من قبل بلوغ الأشُدّ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أخسّه وأدْوَنه، وهو سِنّ الخَرَف والهَرَم.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/125)، والبحر (6/327).
(2) ... انظر: معاني الزجاج (3/412).
(3) ... معاني الزجاج (3/412).(1/15)
{ لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } مُفسّرٌ في النحل (1) .
ثم أوضح لهم طريق الاستدلال بذكر المثال ليعتبروا الغائب بالشاهد فقال: { وترى الأرض هامدة } أي: ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات { ورَبَتْ } انتفخت.
قال الزجاج (2) : هو من رَبَا يَرْبُو؛ إذا زاد على أي الجهات زاد.
وقال المبرد: أراد: اهتزّ نباتُها ورَبَا، فحذف المضاف (3) .
وقرأتُ لأبي جعفر: "وربأت" بهمزة مفتوحة بعد الباء (4) .
قال الفراء (5) : إن كان ذهب إلى الرَّبيئة الذي يحرس القوم [فهذا مذهب] (6) ، أي: أنه يرتفع، وإلا فهو غلط.
وقال الزجاج (7) : معنى [رَبَأَت] (8) : ارتفعت.
{ وأنبتت من كل زوج بهيج } قال ابن عباس: من كل صنف حَسَن (9) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 70.
(2) ... معاني الزجاج (3/413).
(3) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (3/260)، وزاد المسير (5/408).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:313)، والنشر (2/325).
(5) ... معاني الفراء (2/216).
(6) ... زيادة من معاني الفراء، الموضع السابق.
(7) ... معاني الزجاج (3/413).
(8) ... في الأصل: رأيات. والتصويب من ب.
(9) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2475). وذكره الواحدي في الوسيط (3/260)، والسيوطي في الدر (6/11) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/16)
والبهجة: حُسْنُ الشيء [ونضارَتُهُ] (1) .
y7د9؛sŒ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَن اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ اذب
قوله تعالى: { ذلك } أي: ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض وما في ضمن ذلك من أنواع الحِكَمِ حاصل بهذا السبب، وهو أن الله تعالى { هو الحق } أي: الثابت [الوُجُود] (2) القادر على إيجاد المعدوم وإعدام الموجود، { وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } .
قوله تعالى: { وأن الساعة } أي: وليعلموا أن الساعة { آتية لا ريب فيها } في نفس الأمر، [أو هو] (3) نفي في معنى النهي.
__________
(1) ... في الأصل: ونظارته. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: الموجود. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: وهو. والتصويب من ب.(1/17)
وفي قوله: { وأن الله يبعث من في القبور } دلالة على إنشاء الأجساد البالية يوم النشور.
z`دBur النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اتةب
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } سبق من قبل ذكر سبب نزولها.
قوله تعالى: { ثاني عطفه } نصبٌ على الحال من الضمير في(1/18)
"يجادل" (1) ، والتقدير: ثانياً عِطْفَهُ -بالتنوين-، لكنه أضاف اسم الفاعل وإن أراد به الحال؛ لأنه في تقدير الانفصال، ومثله: { هدياً بالغ الكعبة } [المائدة:95]، و { كل نفس ذائقة الموت } [آل عمران:185]، و { مستقبل أوديتهم } [الأحقاف:24].
والعِطْف: الجانب، وعِطْفا الرَّجُل جانباه عن يمين وشمال (2) ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان، أي: يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء.
قال الزجاج (3) : وجاء في التفسير: لاَوِياً عُنُقَه.
وقال غيره: ثَنْيُ العِطْفِ مجازٌ عن الكِبْر والخُيَلاء، والتقدير: ومن الناس من يجادل في الله مُتكبراً آنفاً من اتّباع الحق.
{ ليُضِلَّ } وقرئ: "ليَضِلَّ" وقد سبق ذكره (4) ، واللام في "ليضل" -بفتح الياء وضمّها-: لام الصيرورة والعاقبة.
{ له في الدنيا خزي } ذُلٌّ وهوان، فإنه أُسر يوم بدر (5) [وقُتِلَ] (6) صَبْراً بالصَّفْراء. وقد تقدم ذكره في الكتاب (7) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/140)، والدر المصون (5/128).
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (عطف).
(3) ... معاني الزجاج (3/414).
(4) ... في سورة يونس عند الآية رقم: 88.
(5) ... العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولقد روى ابن جرير الطبري هذا الخبر عن ابن جريج بدون تحديد لشخص معين (17/122).
(6) ... في الأصل: وقيل. والتصويب من ب.
(7) ... في سورة الأنفال عند الآية رقم: 31.(1/19)
وقيل: نزلت هذه الآية في أبي جهل (1) ، ولقد شاهد اللعين يوم بدر من أنواع الهوان ما أسخن عينه، ولقد وطئ ابن مسعود بأخْمَصِهِ صفحة عنُقِه يوم بدر وهو في آخر رَمَقٍ، فقال: لقد ارتقيتَ مُرتقى صَعْباً يا رُوَيْعِ الغَنَم (2) .
{ ونذيقه يوم القيامة } مُنْضَمّاً إلى الخزي الذي أصابه في الدنيا، { عذاب الحريق } وهو عذاب النار.
{ ذلك } الخزي والعذاب { بما قدمت يداك } من الكبر والكفر، { وأن الله ليس بظلام للعبيد } سبق تفسيره.
z`دBur النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/261).
(2) ... ذكره ابن حبان في الثقات (1/172).(1/20)
(11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ اتجب
قوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال مجاهد وقتادة: على شَكٍّ (1) .
وأصله من حَرْفِ الشيء وهو طَرَفُه (2) ، كأنه لشدة قلقه واضطرابه وعدم استقراره وتمكنه في الدين على حَرْفٍ منه.
{ فإن أصابه خير } رخاء وعافية { اطمأن به } وسكن وثبت على الدين بذلك الخير، { وإن أصابته فتنة } ابتلاء واختبار بقلَّةِ مالٍ وجدبٍ ومرضٍ،
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/123)، ومجاهد (ص:420). وذكره السيوطي في الدر (6/14) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... انظر: اللسان، مادة: (حرف).(1/21)
{ انقلب على وجهه } ارتدّ إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر، { خسر الدنيا } حيث لم يظفر بسؤله، { والآخرة } بكفره بالله وبرسوله.
وقرأتُ ليعقوب من رواية زيد عنه: "خاسر الدنيا" بألف والنصب على الحال، "والآخرة" بالجر (1) .
{ ذلك هو الخسران المبين } الظاهر لمن له أدنى مُسْكَةٍ من دراية وهداية.
قال المفسرون: نزلت في أعاريب كانوا يقدمون المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان أحدهم إذا صَحَّ جسمه، ونُتِجَتْ فرسه، وكَثُرَتْ ماشيته، وولدت امرأته غلاماً سوياً، اطمأنّ وقال: ما أصبت منذ دخلت في دين هذا إلا خيراً، وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبتُ إلا شراً، وانْقَلَب (2) .
قوله تعالى: { يدعو } أي: يعبد { من دون الله } هذا المرتد المنقلب على وجهه (3) { ما لا يضره } إن لم يعبده، { وما لا ينفعه } إن عبده، وهي الأصنام، { ذلك هو الضلال البعيد } عن سنن الرشاد.
{ يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } قال السدي: المعنى: يدعو لمن ضره في الآخرة بعبادته أقرب من نفعه (4) .
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:413-414)، والنشر (2/325-326).
(2) ... أخرجه البخاري (4/1768)، والطبري (17/122-123). وذكره السيوطي في الدر (6/13-14) وعزاه للبخاري وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... في ب: أخّر قوله: { من دون الله } إلى هنا.
(4) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2477). وذكره السيوطي في الدر (6/15) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/22)
قال المفسرون: هو الصنم لا [نفع] (1) عنده أصلاً، وإنما جاء هذا على لغة العرب، وهم يقولون في الشيء الذي لا يكون: هذا بعيد (2) . ومنه قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: { ءإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد } [ق:3]، فلهذا قال: { أقرب من نفعه } ، وهذا اختيار الزجاج (3) .
وقال صاحب الكشاف (4) : إن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض؟
قلتُ: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفَّه الكافر بأنه يَعْبُدُ جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به. ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصُرَاخٍ، حين يرى استضرارَهُ بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادّعاها: { لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } أو كرَّرَ يَدْعُو، كأنه قال: يَدْعُو يَدْعُو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً: لبئس المولى.
[فإن] (5) قيل: لا شبهة أنه لا يجوز: ضربت لزيداً، ولا دعوت لزيداً،
__________
(1) ... في الأصل: ينفع. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/261)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/412).
(3) ... معاني الزجاج (3/415).
(4) ... الكشاف (3/148).
(5) ... في الأصل: فا. وهو تصحيف. والتصويب من ب.(1/23)
فإنها لام الابتداء، ولا تسوغ هاهنا، فما وجه قوله: "يدعو لمن ضره"؟
قلتُ: هذه الآية كَثُرَ فيها نزاع الكوفيين والبصريين، وأنا أشيرُ لك إلى مقاصدهم بطريق الاختصار فأقول: زعم الفراء (1) أن التقدير: مَنْ لَضَرُّهُ أقرب من نفعه، اللام داخلة على قوله: "ضَرُّهُ"؛ لأن ضَرُّهُ مبتدأ، قال: ولكن اللام قُدِّمَتْ كما يقدم أشياء في كلامهم، وأوردوا على الفراء إشكالاً لازماً، فقالوا: يلزم على هذا أن تكون اللام في صلة "مَنْ"، وقد عُلِمَ أن الصلة أو شيئاً منها لا يتقدم على الموصول؛ لأن الصلة مع الموصول كالكلمة الواحدة، ولا يجوز أن يتقدم بعض الكلمة على بعض [كالدال] (2) مثلاً على الزاي من زيد (3) .
وقال البصريون: الوجه في الآية: أن يكون في "يدعو" ضمير عائد "إلى ذلك"، تقديره: ذلك هو الضلال البعيد يدعو، والجملة في موضع النصب على الحال، أي: ذلك هو الضلال البعيد [مَدْعُوّاً] (4) ، ويكون قوله: "لمن ضره" مبتدأ، والخبر قوله: "لبئس المولى ولبئس العشير"، فـ"ضره" مبتدأ و"أقرب" خبره، والجملة صلة "مَنْ"، وتمام الصلة عند قوله: "نفعه" (5) .
وفيه وجه آخر عندهم: وهو أن يكون قوله: "ذلك" بمعنى: الذي،
__________
(1) ... معاني الفراء (2/217).
(2) ... في الأصل: كالذال. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الدر المصون (5/130).
(4) ... في الأصل: يدعو. والتصويب من ب.
(5) ... انظر: التبيان (2/140)، والدر المصون (5/130).(1/24)
والجملة التي هي قوله: "الضلال البعيد" صلة "ذلك" الذي بمعنى الذي، وذلك منصوب الموضع بـ"يدعو"، تقديره: يدعو الذي هو الضلال البعيد، ويكون قوله: "لمن ضره" مبتدأ (1) . وهذا الوجه ذكره الزجاج (2) ، وأظنه لم يُسْبَق إليه.
وقال الزجاج (3) : فيه وجه ثالث: يكون "يدعو" في معنى يقول، ويكون "مَنْ" في موضع رفع، وخبره محذوف (4) ، ويكون المعنى: يقول لمن ضره أقرب من نفعه: هو مولاي، ومثل "يدعو" في معنى يقول قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... ... أشطان بئر في لبان الأدهم (5)
وقال قوم: اللام صلة.
وفي قراءة ابن مسعود: "يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ" (6) .
والمولى: الناصرُ أو الوليّ، والعشير: الصاحبُ والخليل.
¨bخ) اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... معاني الزجاج (3/416).
(3) ... معاني الزجاج (3/416).
(4) ... انظر: التبيان (2/140)، والدر المصون (5/130).
(5) ... من معلقته. انظر: شرح الزوزني (ص:54). وانظر البيت في: اللسان، مادة: (شطن، دعا)، والقرطبي (12/19)، وروح المعاني (17/125).
... ويدعون: ينادون باسم عنترة، والأَشْطَان: الحبال، ولبان الأدهم: صدره. يريد أن الأبطال يهتفون باسمه والرماح الطويلة تدق في صدر جواده.
(6) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (6/332)، والدر المصون (5/130).(1/25)
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ اتخب
قوله تعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } المشهور في التفسير: أن الضمير في "يَنْصُرُهُ" لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
قال ابن قتيبة (2) : هذه كناية عن غير مذكور، وكان قوم من المسلمين
__________
(1) ... ذكره الطبري (17/125)، والواحدي في الوسيط (3/262)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/413).
(2) ... تأويل مشكل القرآن (ص:358).(1/26)
لشدة حَنَقِهِم على المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النصر، وقوم من المشركين يريدون اتباعه ويخافون أن لا يتم أمره، فنزلت هذه الآية للفريقين.
قال مقاتل (1) : نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: إنا نخاف أن [لا] (2) يُنصر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، [فلا يجيرونا ولا يأوونا] (3) .
فعلى هذا؛ المراد بالنصر: الغلبة والقهر للأعداء.
وقال مجاهد: الضمير في "ينصره" يرجع على "مَنْ" (4) .
والنصر بمعنى: الرزق، ومنه قول الأعشى:
أبوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بنصره ... فأنْصَبَ عَنِّي بعْدَه كُلَّ قائل (5)
أي: من كان يظن أن لن يرزقه.
قال أبو عبيدة (6) : وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من يَنْصُرُني نصره الله؟ أي: من يعطيني أعطاه الله.
ويقال: نصر المطر أرض كذا، أي: جادها وأحياها.
قال الراعي:
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/379).
(2) ... في الأصل و ب: لن. والتصويب من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/412).
(5) ... انظر البيت في: اللسان، مادة: (نصت)، والماوردي (4/12).
(6) ... مجاز القرآن (2/46).(1/27)
إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فَوَدِّعِي ... بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامر (1)
قوله تعالى: { فليمدد بسبب إلى السماء } أي: فليشْدُد حبلاً في سقف بيته، { ثم ليقطع } قال الزجاج (2) : أي: ثم ليمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت [مُخْتَنِقاً] (3) .
وحمل الزمخشري القَطْعَ على الخنْق فقال (4) : سُمِّي [الاختناق] (5) قطعاً؛ لأن المخْتنق يقطعُ نَفَسَه بحبس مجاريه.
ومعنى الآية: ليُصَوِّرُ الظان المستبطئ النصر هذا الأمر في نفسه، بدليل قوله: "فلينظر"، ولا نظر بعد الاختناق.
وقال ابن زيد: المعنى: فليمدد بسبب إلى السماء المعروفة، ثم ليقطع عن محمد - صلى الله عليه وسلم - الوحي إن قدر (6) .
والمعنى: ليجهد جهده.
{ هل يذهبن كيده } أي: حيلته، { ما يغيظ } "ما" مصدرية، تقديره: هل يُذهبنَّ كيده غيظه.
وأكثر القراء قرأوا: "ثم لْيَقْطَعْ فلينظر" بجزم اللام فيهما.
__________
(1) ... البيت للراعي يخاطب خيلاً، وهو في اللسان مادة: (نصر).
(2) ... معاني الزجاج (3/417).
(3) ... في الأصل: منخنقاً. والتصويب من ب، ومعاني الزجاج، الموضع السابق.
(4) ... الكشاف (3/148).
(5) ... في الأصل: الانخناق. والتصويب من ب، ومن الكشاف، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه الطبري (17/126)، وابن أبي حاتم (8/2478). وذكره السيوطي في الدر (6/16) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/28)
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وورش بكسر اللام من "ليقطع" (1) .
وفَتَحَ اللام من "فلينظر": القزاز عن عبد الوارث عن أبي عمرو.
قال أبو علي (2) : أصل هذه اللام -[يعني] (3) في "ليقطع"- الكسر، بدليل أنك إذا ابتدأت بها قلت: لِيقم [زيد، كسرتها لا غير] (4) ، فإذا ألحقتَ الكلمة التي فيها اللام الواو أو الفاء أو ثُمَّ جاز إسكان اللام؛ لأن الفاء والواو يصيران من نفس الكلمة؛ لأن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه، فصار بمنزلة كَتِفٍ وفَخِذٍ، فإذا كان موضع الواو والفاء "ثمَّ" لم يُسَكِّنْه أبو عمرو؛ لأن "ثُمَّ" ينفصل بنفسه ويُسْكَتُ عليه دون ما بعده، ومن أَسْكَنَ اللام عنده [شَبّهَ] (5) الميم من "ثمّ" بالفاء والواو.
y7د9؛xں2ur أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/166)، والحجة لابن زنجلة (ص:473)، والكشف (2/116)، والنشر (2/326)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:314)، والسبعة (ص:434).
(2) ... الحجة (3/166).
(3) ... في الأصل: بمعنى. والتصويب من ب.
(4) ... زيادة من الحجة (3/166).
(5) ... في الأصل: أشبه. والتصويب من ب.(1/29)
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اتذب
قوله تعالى: { وكذلك } أي: ومثل ذلك الإنزال المتقدم { أنزلناه } يعني: القرآن { آيات بينات وأن الله } أي: وأنزلنا إليك أن الله { يهدي من يريد } .
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } مبتدأ، خبره: { إن الله يفصل بينهم } ، دخلت "إن" في المبتدأ، والخبر توكيداً (1) ، ونحوه قول جرير:
إنَّ الخليفةَ إنَّ الله سَرْبَلَهُ ... ... سِرْبَالَ مُلْكٍ به تُرْجَى الخواتيم (2)
{ والذين هادوا } يعني: اليهود { والصابئين } سبق ذكرهم واختلاف القرّاء فيه، { والمجوس والذين أشركوا } عبدة الأوثان.
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/141)، والدر المصون (5/132).
(2) ... البيت لجرير من قصيدة يمدح بها بني مروان، انظر: ديوانه (ص:431) ط بيروت، وفيه: (يكفي الخليفة أن الله سربله)، واللسان مادة: (ختم)، ومعاني الفراء (2/218)، والبحر المحيط (6/333)، والدر المصون (5/132).(1/30)
قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان، وواحد للرحمن (1) .
فإن قيل: ما وجه قول قتادة: الأديان خمسة مع تصريح الآية بستة أديان؟
قلتُ: الصابئون نوع من النصارى، على ما ذكرناه في موضعه.
والمعنى: { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } بإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار { إن الله } تعالى { على كل شيء } من أعمالهم وأقوالهم { شهيد } .
َOs9r& تَرَ أَن اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/129) بلفظ: والأديان ستة؛ خمسة للشيطان وواحد للرحمن. وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/16) بلفظ الطبري، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.(1/31)
مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) اترب
قوله تعالى: { ألم تر } أي: ألم تعلم، { أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } قد سبق في سورة النحل (1) تفسير هذه الآية، وذكرنا أقوال المفسرين في معنى سجود ما لا يعقل، وبيّنّا ما هو المختار عندنا.
قال أبو العالية: ما في السماء نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ إلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له (2) .
فصل
قرأ الزهري: { والدَّوَابُ } بالتخفيف (3) .
قال أبو الفتح (4) : لا أعلم أحداً خَفَّفَها سواه. ولَعَمْري أنّ تخفيفها قليل
__________
(1) ... آية رقم: 49.
(2) ... أخرجه الطبري (17/130). وذكره السيوطي في الدر (6/18) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... انظر: البحر المحيط (6/333).
(4) ... المحتسب (2/76).(1/32)
وضعيف قياساً وسماعاً، لكن له بعد ذلك ضربٌ من العُذْر، وذلك أنهم إذا كرهوا تضعيف الحرف فقد [يُخَفِّفُون] (1) أحدهما، من قولهم: ظَلْتُ، ومَسْتُ، وأحَسْتُ، يريدون: ظَلَلْتُ، ومَسِسْتُ، وأحْسَسْتُ. قال أبو [زُبيد] (2) :
خَلا أنَّ العِتَاقَ من المطَايَا ... ... أحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوس (3)
وقال عمران بن حطّان:
قد كنتُ عندكَ حولاً ما تُروِّعني ... ... فيه روائعُ من إنسٍ ولا جان (4)
قوله تعالى: { وكثير من الناس } قال المفسرون: يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله سجود طاعة (5) .
قال صاحب الكشاف (6) : فإن قلتَ: فما يصنع بقوله: { وكثير من الناس } بما فيه من الاعتراضين:
أحدهما أن السجود على المعنى الذي فسرتُه به، -[يعني] (7) من التسخير
__________
(1) ... في الأصل: يخفون. والتصويب من ب. وفي المحتسب: يحذفون.
(2) ... في الأصل: زيد. والتصويب من ب، والمحتسب (2/76).
(3) ... البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في: القرطبي (11/242)، والطبري (16/207)، وروح المعاني (4/205)، والدر المصون (2/312).
(4) ... انظر البيت في: اللسان، مادة: (جنن، ظلل)، والحجة للفارسي (2/397)، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (8/153).
(5) ... أخرجه الطبري (17/130) عن مجاهد. وذكره الواحدي في الوسيط (3/262)، والسيوطي في الدر (6/17) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.
(6) ... الكشاف (3/149-150).
(7) ... زيادة من ب.(1/33)
والخضوع لخالقها- لا يسجده بعض الناس دون بعض.
الثاني: أن السجود قد أُسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولاً، فإسناده إلى كثير منهم آخراً (1) مناقضة؟
قلتُ: لا أنظم كثيراً في المفردات [المتناسقة] (2) الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفَعُهُ بفعل مُضْمَر يدُلُّ عليه قوله: "يسجد"، أي: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، ولم أفسر [يسجد] (3) الذي هو ظاهرٌ بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء؛ لأن اللفظ الواحد لا يَصِحُّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفَعُهُ على الابتداء، والخبر محذوف وهو مُثَابٌ؛ لأن خبر مُقابِلِه يدل عليه، وهو قوله: { حق عليه العذاب } ، ويجوز أن تجعل "من الناس" خبراً له، أي: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقُوقين بالعذاب، فيُعْطَفَ "كثيرٌ" على "كثيرٍ"، ثم يخبر عنهم بـ"حق عليهم العذاب"، كأنه قيل: وكثيرٌ وكثيرٌ من الناس حق عليهم العذاب.
وقرئ: "حُقَّ" بالضم. وقرئ: "حَقّاً" أي: حُقَّ عليهم العذاب حَقّاً.
{ ومن يهن الله } أي: من يُشْقِهِ الله { فما له من مكرم } أي: من مُسْعِد، { إن الله يفعل } في خلقه { ما يشاء } من الإهانة والإكرام.
* هَذَانِ خَصْمَانِ
__________
(1) ... في ب: أجزاء.
(2) ... في الأصل و ب: المناسقة. والتصويب من الكشاف (3/150).
(3) ... في الأصل: بسجود. والتصويب من ب، ومن الكشاف، الموضع السابق.(1/34)
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ اثثب
قوله تعالى: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث قيس بن عباد قال: (( سمعت أبا ذر رضي الله عنه يُقْسِمُ قَسَماً: إن { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين برزوا يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني(1/35)
ربيعة، والوليد بن عتبة )) (1) .
وقال ابن عباس وقتادة: نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحنُ أولى بالله وأقدُم منكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا ثم كفرتُم حَسَداً (2) .
وقال الحسن ومجاهد: نزلت في جميع المؤمنين والكفار (3) .
وقال عكرمة: نزلت في اختصام الجنة والنار، قالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله تعالى لرحمته (4) .
والخصم يقع على الواحد والجمع، وهو هاهنا صفة وصف بها الفريق أو الجمع، ولهذا قال: "اختصموا" (5) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1459 ح3751)، ومسلم (4/2323 ح3033).
(2) ... أخرجه الطبري (17/132) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/20) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (17/132). وذكره السيوطي في الدر (6/20) وعزاه لابن جرير. وهذا القول هو الذي رجحه الطبري. قال ابن كثير في تفسيره (3/213): وهذا القول يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن.
(4) ... أخرجه الطبري (17/132-133). وذكره السيوطي في الدر (6/20) وعزاه لابن جرير.
(5) ... فائدة: قال ابن جرير الطبري (17/133): فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر في قوله: إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟
... قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له. فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم.
... فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه.(1/36)
وفي حرف ابن مسعود: "اختصما" (1) . ووجهه ظاهر.
وقوله: "في ربهم" أي: في دين ربهم.
ثم بَيَّنَ حال الفريقين فقال: { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } أي: سُوِّيَتْ لهم على مقادير جُثَثِهِم.
قال ابن عباس: قُمُصٌ من نار (2) .
قال سعيد بن جبير: المراد بالنار هاهنا: النُّحاس (3) .
{ يصب من فوق رؤوسهم الحميم } وهو الماء الحار.
{ يُصْهَرُ به } وقرأ الحسن: "يصهَّر" بتشديد الهاء للمبالغة (4) .
والمعنى: يُذابُ به، يقال: صهرتُ الشحْم بالنار.
{ ما في بطونهم } من شحم ولحم ومعىً حتى يخرج من أدبارهم.
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (5/417).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/417).
(3) ... أخرجه الطبري (17/133)، وابن أبي حاتم (8/2481). وذكره السيوطي في الدر (6/21) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:314).(1/37)
وفي قوله: { والجلود } دليل على أن تأثيره في الباطن كتأثيره في الظاهر، وذلك أبلغ من قوله: { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } [محمد:15].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الحميم ليُصَبُّ على رؤوسهم فينفُذُ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فَيَسْلُتُ ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصَّهْر، ثم يُعاد كما كان )) (1) . قال الترمذي: هذا حديث [حسن] (2) غريب.
قوله تعالى: { ولهم مقامع من حديد } ، وهي السِّياط، سُميت بذلك؛ لأنها تَقْمَعُ المضروب.
قال الضحاك: هي المطَارق (3) .
أخبرنا حنبل بن عبدالله بن الفرج في كتابه، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبدالواحد، أخبرنا أبو علي [الحسن] (4) بن علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا أبو عبدالرحمن عبدالله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/705 ح2582).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/54 ح34163)، وابن أبي حاتم (8/2482). وذكره السيوطي في الدر (6/22) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4) ... في الأصل: الحسين. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في: ميزان الاعتدال (2/262)، ولسان الميزان (2/236).(1/38)
لو أن مِقْمَعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقَلُّوه من الأرض )) (1) .
وقال الحسن: إن النار ترميهم بلهبها، حتى إذا كانوا في أعلاها ضُربوا بمقامع من حديد فَهَوُوا فيها سبعين خريفاً، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربَهم زفيرُ لهبها فلا يستقرُّون ساعة (2) .
قال مقاتل (3) : إذا جَاشَتْ جهنم ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج منها، فتتلقاهم خَزَنَةُ جهنم بالمقامع فيضربونهم، فيَهْوي أحدهم من تلك الضربة إلى قعرها، فذلك [قوله] (4) : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } .
{ من غمّ } وهو الكرب الذي أخذ بأنفاسهم، { أعيدوا فيها وذوقوا } أي: وقيل لهم ذوقوا { عذاب الحريق } .
قال الزجاج (5) : هذا لأحد الخصمين.
cخ) اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
__________
(1) ... أخرجه أحمد (3/29 ح11251).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/264).
(3) ... تفسير مقاتل (2/380).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... معاني الزجاج (3/419).(1/39)
الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ اثحب
وقال في الخصم الذين هم المؤمنون: { إن الله يدخل الذين آمنوا... الآية } وهي مفسرة في الكهف (1) إلى قوله: { ولؤلؤٍ } .
قرأ نافع وعاصم: "ولؤلؤاً" بالنصب. وقرأ الباقون بالجر (2) .
فمن نصب حمله على موضع الجار والمجرور، كما أجازوا: مررتُ بزيد وعمراً. ويجوز أن يكون النصب على معنى: ويؤتون لؤلؤاً، أو: ويحلّون لؤلؤاً؛ لأن اللؤلؤ حلية، بدليل قوله: { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } [النحل:14]. ومن جَرّ عطفه على الذهب، على معنى: يُحلَّون فيها
__________
(1) ... عند تفسير الآية رقم: 31.
(2) ... الحجة للفارسي (3/165)، والحجة لابن زنجلة (ص:474)، والكشف (2/117)، والنشر (2/326)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:314)، والسبعة (ص:435).(1/40)
من أساور من ذهب ومن ولؤلؤٍ، أي: منهما، كأن أساور الذهب رُصِّعَتْ باللؤلؤ أو فُصِّلَتْ به.
{ ولباسهم فيها حرير } قال أبو سعيد الخدري: من لبس الحرير في الدنيا لم يَلْبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة كلهم غيره (1) . قال الله تعالى: { ولباسهم فيها حرير } .
وقال عبدالله بن الزبير: ((لا تلبسوا الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) : من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة؛ لأن الله تعالى يقول: { ولباسهم فيها حرير } )) (3) .
قوله تعالى: { وهدوا إلى الطيب من القول } قال ابن عباس وابن زيد: هُدوا إلى [لا] (4) إله إلا الله، والحمد لله، والله أكبر (5) .
__________
(1) ... أخرجه النسائي في الكبرى (5/470 ح9607)، والحاكم (4/212 ح7404)، وابن حبان (12/253 ح5437) كلهم رفعه.
(2) ... في الأصل زيادة: يقول.
(3) ... أخرجه البخاري (5/2194 ح5496)، ومسلم (3/1641 ح2069)، وأحمد (1/37 ح251) أشار إلى أن قوله: ((ومن لم يلبسه في الآخرة ... إلخ)) من كلام ابن الزبير. ولفظ مسلم وأحمد: لا تلبسوا نساءكم الحرير...
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (17/136) عن ابن زيد. وذكره السيوطي في الدر (6/24) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.(1/41)
وقال السدي: الطَّيِّبُ من القول: القرآن (1) .
{ وهدوا إلى صراط الحميد } قال ابن عباس: هو دين الإسلام (2) .
فالمعنى: إلى صراط الدين الحميد، أو إلى صراط الله الحميد، أو هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كقوله: { ولدار الآخرة خير } [يوسف:109].
¨bخ) الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ اثخب
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } أي: يَمْنَعُون
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/265)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/418)، والسيوطي في الدر (6/24) عن إسماعيل بن أبي خالد وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/418).(1/42)
الناس عن الدخول في دين الإسلام.
قال الزجاج (1) : "يصدون" لفظ مستقبل عُطِفَ به على لفظ الماضي؛ لأن معنى "الذين كفروا": الذين هم كافرون، فكأنه قال: إن الكافرين والصّادّين.
وقال الزمخشري (2) : يقال: فلان يُحسن إلى الفقراء ويُنْعش المضطهدين، لا يراد حالٌ ولا استقبالٌ، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه، والنَّعْشِ في جميع أزمنته، ومنه قوله: { ويصدون عن سبيل الله } أي: الصدود منهم مستمر دائم.
وقال غيره: يجوز أن تكون الواو في "ويصدون" واو الحال، على معنى: إن الذين كفروا صادّين عن سبيل الله، وخبر "إن" محذوف، تقديره: إنّ الذين هذه صفتهم هالكون أو مُعذَّبون (3) .
قوله تعالى: { والمسجد الحرام } (4) قال ابن عباس: كانوا يرون الحرم كله مسجداً (5) .
وقيل: المراد به: نفس المسجد (6) ، كما قال تعالى: { إن أول بيت وضع للناس } [آل عمران:96] على معنى: خلقناه لهم حرماً آمناً، أو جعلناه لهم قبلة
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/420).
(2) ... الكشاف (3/151).
(3) ... انظر: التبيان (2/142)، والدر المصون (5/139).
(4) ... قال ابن كثير (3/214): وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/419)، والسيوطي في الدر (6/24) وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... هو قول الماوردي (4/15)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/419) عن الماوردي.(1/43)
ومطافاً ومَنْسَكاً لحَجِّهِم.
{ سواء العاكف فيه والباد } "العاكف" مبتدأ، و"البادي" عطف عليه، و"سواء" خبر مقدم، والجملة حال إن قلنا "للناس" هو الوقف، وإلا فهي مفعول ثان (1) .
وقرأ حفص: "سواءً" بالنصب (2) .
قال أبو علي (3) : أبدل "العاكف" و"البادي" من "الناس" من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء.
وقال الزمخشري (4) : وجه النصب: أنه ثاني مفعولي "جعلناه"، أي: جعلناه مستوياً العاكف فيه والبادي.
والعاكف: المقيم، والبادي: النازع إليه من غربة، من قولهم: بدا القوم؛ إذا خرجوا إلى الصحراء (5) .
ومعنى استوائهما فيه: تساويهما في سُكْنى مكة والنزول بها، فليس أحد أحق بالمنزل من أحد، إلا أنه ليس للّاحقِ إخراج السابق. هذا قول ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير (6) . وهو مذهب الإمامين [أبي] (7) حنيفة وأحمد، وفيه
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/142)، والدر المصون (5/140).
(2) ... الحجة للفارسي (3/167)، والحجة لابن زنجلة (ص:475)، والكشف (2/118)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:314)، والسبعة (ص:435).
(3) ... الحجة (3/168).
(4) ... الكشاف (3/152).
(5) ... انظر: اللسان، مادة: (بدا).
(6) ... ذكره الماوردي (4/16)، والواحدي في الوسيط (3/265).
(7) ... في الأصل: أبو. وهو لحن. والتصويب من ب.(1/44)
مستدلٌّ لهما حيث ذهبا إلى الامتناع من بيع رباع مكة وإجارتها (1) .
وقال الحسن ومجاهد: معناه: تساويهما في تفضيله وتعظيم حرمته وإقامة المناسك به (2) ، وهو قول الذاهبين إلى جواز بيع رباع مكة.
قوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } الباء في "بإلحاد" زائدة، كقوله: { تنبت بالدهن } [المؤمنون:20]، وقول الأعشى:
ضَمِنَتْ برزقِ عِيَالِينا أرماحُنا ... ............................... (3)
وقال الآخر:
نحن بنو جَعْدَةَ أربابُ الفَلَجْ ... نضربُ بالسيفِ ونرجُوا بالفَرَجْ (4)
أي: ضَمِنَتْ رزق، ونرجو الفرج.
وأنشدوا أيضاً:
بوادٍ يمانٍ يُنْبتُ الشَّثَّ صدرُه ... وأسفلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَان (5)
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/420).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/265)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/420).
(3) ... صدر بيت للأعشى، وعجزه: بين المراجل والصريح الأجردا، انظر: ديوانه (ص:154)، وشرح الأشموني (2/95)، ومجاز القرآن (2/49)، والبحر (6/337)، والدر المصون (5/141)، والطبري (17/139).
(4) ... البيت للنابغة الجعدي، انظر: الطبري (29/20)، وزاد المسير (5/421، 8/329)، والخزانة (4/59)، وغريب القرآن لابن قتيبة (ص:292)، والماوردي (4/16).
(5) ... البيت لرجل من عبد القيس، وقيل: للأحول اليشكري، وهو في: اللسان (مادة: شثث، شبه)، والطبري (17/138)، وزاد المسير (5/420)، والدر المصون (4/500)، ومجاز القرآن (2/48)، والبحر (6/174).(1/45)
أي: ويُنْبتُ أسفله المرخ والشَّبَهَان.
والشَّثُّ: شجر طيب الريح، مُرُّ الطعم. والمرخ: شجر سريع الوَرْي، ومنه قولهم: في كل شَجَرٍ نار، واستَمْجَدَ المرْخَ والعَفَارْ (1) .
والشَّبَهان: النمَّام من الرياحين.
وقال الزجاج (2) : الذي ذهب إليه أصحابنا: أن الباء ليست بمُلْغاةٍ، المعنى عندهم: ومَنْ إرادتُهُ فيه بأن يُلحِدَ بظُلْم، وهو مثل قوله:
أريدُ لأنْسَى ذكرَها فكأنما ... ... تمثَّلُ لي ليلى بكلِّ مكان (3)
المعنى: أريد، وإرادتي لهذا.
وقال الزمخشري (4) : "بإلحاد بظلم" حالان مترادفان، ومفعول "يُرِدْ" متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال: ومن يرد فيه مراداً [ما] (5) ، عادلاً عن القصد ظالماً { نذقه من عذاب أليم } .
وأصل الإلحاد في اللغة: العدول عن القصد (6) , وقد سبق ذكرُه.
قال ابن عباس في معناه هاهنا: هو الشرك وعبادة غير الله (7) .
__________
(1) ... يضرب هذا المثل في تفضيل بعض الشيء على بعض (انظر: المستقصى في أمثال العرب 2/183، وجمهرة الأمثال 2/92، ومجمع الأمثال 2/74).
(2) ... معاني الزجاج (3/421).
(3) ... البيت لكثيّر، وهو في: اللسان (مادة: رود)، والقرطبي (5/148)، وروح المعاني (22/13).
(4) ... الكشاف (3/152).
(5) ... زيادة من الكشاف (3/152).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: لحد).
(7) ... أخرجه الطبري (17/140). وذكره السيوطي في الدر (6/27) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/46)
وقال في رواية أخرى: هو الظلم (1) .
وقال عطاء: هو استحلال محظورات الإحرام (2) .
وقال ابن جريج: استحلال الحرم (3) .
والقول الشامل لهذه الأقوال: أن الإلحاد فيه ارتكاب كل شيء نُهِيَ عنه، وإلى عموم هذا نظر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: (( لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم )) (4) . وفي هذا دليل ظاهر على اختصاص الحرم بمزيد مزية على سائر المواضع، حتى إن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى وجوب تنزيهه عن الهمَّة والإرادة في المعاصي.
قال ابن مسعود: لو أن رجلاً هَمَّ بخطيئة لم تُكتب عليه ما لم يَعملْها، ولو أن رجلاً هَمَّ بقتل مؤمن عند البيت وهو بعَدَنِ أبْيَنَ (5) أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/141) عن ابن زيد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/421).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/422).
(3) ... أخرجه الطبري (17/140) من طريق ابن جريج عن ابن عباس. وذكره الماوردي (3/16)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/422) كلاهما من قول ابن عباس.
(4) ... أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/51 ح1776) بإسناد حسن.
(5) ... عدن أبين: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن (معجم البلدان 4/89).
(6) ... أخرجه أحمد (1/428 ح4071، 1/451 ح4316)، والحاكم (2/420 ح3460)، والبزار (5/390-391 ح2024). وفي هامش ب: حديث ابن مسعود أخرجه الإمام أحمد والبزار من حديث شعبة عن السدي أنه سمع مُرّة أنه سمع عبدالله قال شعبة، ورفعه وأنا لا أرفعه لك. كذا وقع في المسندين.(1/47)
وقال الضحاك: إن الرجل ليَهُمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى فتكتب عليه ولم يعملها (1) .
وقال مجاهد: تُضاعف السيئات بمكة كما تُضاعف الحسنات (2) .
وسُئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: هل تُكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إلا بمكة لتعظيم البلد (3) .
ّŒخ)ur بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ڑْüدےح !$©ـ=د9 ڑْüدJح !$s)ّ9$#ur وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/141). وذكره السيوطي في الدر (6/29) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/422)، والسيوطي في الدر (6/29) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
(3) ... انظر: فتح الباري (11/329)، وزاد المسير (5/422).(1/48)
(26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ اثذب
قوله تعالى: { وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي: واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت، أي: مباءة، أي: مرجعاً يُرْجَعُ إليه للعمارة والعبادة.
وقال الزجاج (1) : أي: جعلنا مكان البيت مبوءاً لإبراهيم، والمُبَوَّأُ: المَنْزِلُ (2) .
فالمعنى: أن الله تعالى أعلم إبراهيم عليه السلام مكان البيت، فبنى البيت على أُسِّهِ القديم.
قال السدي: لما أمره الله تعالى ببناء البيت لم يَدْرِ أين يبني، فبعث الله تعالى ريحاً خَجُوجاً (3) فكشفتْ له ما حول الكعبة من (4) الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل أن يُرفع أيام الطوفان (5) .
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/422).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: بوأ).
(3) ... الخجوج من الريح: الشديد المر (لسان العرب، مادة: خجج).
(4) ... في ب: عن.
(5) ... أخرجه الطبري (17/143)، وابن أبي حاتم (8/2486). وذكره السيوطي في الدر (6/31) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.(1/49)
وقد سبق ذكرُ بناء البيت وما قيل فيه في سورة البقرة (1) .
قوله تعالى: { أن لا تشرك بي شيئاً } "أن" هي المفسِّرَة.
قال صاحب الكشاف (2) : إن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟
قلتُ: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تَعَبَّدْنا إبراهيم، قلنا له: لا تشرك بنا شيئاً.
{ وطهّر بيتي للطائفين } حوله { والقائمين } في الصلاة متوجهين إليه. وقيل: المقيمين بمكة، { والرّكّع السجود } ، والآية مُفَسَّرة في البقرة (3) .
قوله تعالى: { وأذن في الناس بالحج } أي: نَادِ فيهم. والمشهور في التفسير: أن المأمور بالأذان: إبراهيم (4) .
وقال الحسن: محمد - صلى الله عليه وسلم - (5) .
قال المفسرون: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: وما يبلغ صوتي؟ فقال الله تعالى جل وعلا: عليك الأذان وعليّ البلاغ، فقام إبراهيم عليه السلام على المقام، -وقيل: على أبي قبيس-، فنادى: يا (6) أيها الناس! إن ربكم قد بنى بيتاً
__________
(1) ... عند الآية رقم: 129.
(2) ... الكشاف (3/153).
(3) ... عند الآية رقم: 125.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/423).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/424).
(6) ... ساقط من ب.(1/50)
فحُجُّوهُ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه: لبيكَ اللهم لبيك (1) .
قوله تعالى: { يأتوك رجالاً } مشاة، وهو جمع رَاجل، مثل: صَاحِب وصِحَاب.
وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وجعفر بن محمد: "رُجَّالاً" بضم الراء وتشديد الجيم، ومثلهم قرأ عكرمة إلا أنه خفَّفَ الجيم. وقُرئ أيضاً "رُجالى" مثل: حُبارى (2) .
قال أبو الفتح (3) : "رُجَّالاً" جمع راجل، [ككاتب] (4) وكُتَّاب، وعالم وعُلاَّم. وأما "رُجَالاً" فجمع غريب. وأما "رُجَالى" فمثل حُبَارَى وسُكَارَى.
ويروى: أن إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما حَجَّا ماشِيَيْن (5) .
وحج الحسن بن علي رضي الله عنهما خمساً وعشرين حجة ماشياً من
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/329)، والحاكم (2/421)، والبيهقي في الكبرى (5/176)، والطبري (17/144)، وابن أبي حاتم (8/2486) كلهم عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/32) وعزاه لابن أبي شيبة في المصنف وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس.
(2) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (6/338)، والدر المصون (5/143).
(3) ... المحتسب (2/79).
(4) ... في الأصل: ككتاب. والتصويب من ب، والمحتسب، الموضع السابق.
(5) ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/437)، والطبري (17/146) كلاهما عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (6/35) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد.(1/51)
المدينة إلى مكة، والنجائب تُقَادُ معه (1) .
وحج الإمام أحمد رضي الله عنه ماشياً مرتين أو ثلاثاً (2) .
وحج علي بن شعيب على قدميه من نيسابور نيفاً وستين حجة.
قوله تعالى: { وعلى كل ضامر } حال معطوفة على الحال التي قبلها (3) ، التقدير: رجالاً وركباناً على ما ضَمُرَ وأصابه الهزال من طول السُّرَى.
{ يأتين } صفة لكل ضامر (4) ؛ لأنه في معنى الجمع.
قال الفراء (5) :"يأتين" فعل للنُّوق.
وقرأ ابن مسعود: "يأتون" صفة للرجال والركبان (6) .
{ من كل فج عميق } أي: طريق بعيد. وبئرٌ عميقة: أي (7) : بعيدة القعر.
وقرأ ابن مسعود: "معيق" يقال: بئر مَعِيقةٌ وعَمِيقةٌ (8) بمعنى واحد. والأماعِقُ: أطرافُ المفازة (9) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/437) عن جعفر عن أبيه. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/424).
(2) ... زاد المسير (5/424)، ومناقب الإمام أحمد (ص:290).
(3) ... انظر: التبيان (2/143)، والدر المصون (5/144).
(4) ... انظر: التبيان (2/143)، والدر المصون (5/143).
(5) ... معاني الفراء (2/224).
(6) ... انظر: زاد المسير (5/424)، والبحر (6/338).
(7) ... ساقط من ب.
(8) ... في ب: عميقة ومعيقة.
(9) ... انظر: اللسان (مادة: معق).(1/52)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا }ح !$t6ّ9$# الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ اثزب
قوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم } أي: ليحصلوا منافع (1) .
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يعني: التجارة والأسواق (2) .
__________
(1) ... في ب: { ليشهدوا } أي: ليحضروا منافع لهم.
(2) ... أخرجه الطبري (17/146)، وابن أبي حاتم (8/2488). وذكره السيوطي في الدر (6/37) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/53)
وقال مجاهد: منافع الدنيا والآخرة (1) . وهو أصح.
{ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } قال الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين: هي أيام العشر (2) .
وقيل لها معلومات؛ للحرص على علمها بالحساب مُراعاة لوقت الحج.
وقيل: هي أيام الحج؛ يوم عرفة، ويوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده. والقولان عن ابن عباس (3) .
وقيل: هي أيام النحر (4) .
قال الزجاج مُرجِّحاً لهذا القول (5) : الذِّكْر هاهنا يدل على التسمية على ما يُنْحَر؛ لقوله: { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } .
وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن يكون الذِّكْر المذكور هاهنا هو الذِّكْر على الهدايا الواجبة؛ كالدم الواجب لأجل التمتع والقِران، ويحتمل أن يكون
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/147)، ومجاهد (ص:422) ولفظه: ((يعني: الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا)). وذكره السيوطي في الدر (6/37) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (17/148) عن قتادة. وذكره الماوردي (4/19) عن الحسن ومجاهد. وذكره السيوطي في الدر (6/37-38) وعزاه لأبي بكر المروزي في كتاب العيدين وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2489). وذكره السيوطي في الدر (6/37) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (17/148) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/38) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن الضحاك وعزاه لابن جرير.
(5) ... معاني الزجاج (3/423).(1/54)
الذِّكْر المفعول عند رمي الجمرات (1) وتكبير التشريق؛ لأن الآية عامة في ذلك (2) .
قوله تعالى: { فكلوا منها } أباح الله تعالى الأكل من بهيمة الأنعام التي تنحر قُرْبَةً وتطوعاً، فأما الدماء الواجبة فلا يأكُلُ منها صاحبها شيئاً، إلا أنّ إمامنا أحمد وأبا حنيفة رحمهما الله تعالى جَوَّزا الأكل من دم المتعة (3) والقِران، وجوّز أيضاً إمامنا في رواية عنه الأكل من جميع الدماء الواجبة إلا النذر وجزاء الصيد، وهو قول مالك، إلا أنه استثنى أيضاً فدية الأذى.
{ وأطعموا البائس الفقير } البائس: الذي أصابه بُؤْسٌ، أي: شدة، والفقير تقدم ذكره.
قوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم } قرأ ابن عامر وأبو عمرو وورش: "ثم لِيَقْضُوا" بكسر اللام. وقرأ الباقون بسكونه (4) ، وقد أشرنا إلى علة ذلك في { ثم ليقطع } (5) .
والتَّفَث: الوَسَخُ والقذارة (6) ، وقضاؤه: إزالته وإذهابه؛ كقصّ الشارب، والأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط.
__________
(1) ... في ب: الجمار.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/425).
(3) ... في ب: التمتع.
(4) ... الحجة للفارسي (3/166)، والحجة لابن زنجلة (ص:473)، والكشف (2/116)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:314)، والسبعة (ص:434-435).
(5) ... عند الآية رقم: 15.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: تفث).(1/55)
قال الزجاج (1) : أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإِحْرام إلى الإِحْلال.
قوله تعالى: { وليوفوا نذورهم } روى ابن ذكوان والمفسِّرُ عن ابن زيد عن الدّاجوني عن هشام: "ولِيوفوا ولِيطوفوا" بكسر اللام، وسكّنه الباقون (2) ، وعلته ما ذكرناه آنفاً في قوله: { ثم ليقطع } .
قال ابن عباس: { وليوفوا نذورهم } يعني: نحر ما نَذَرُوا من البدن (3) .
وقال غيره: نذروا من أعمال البِرِّ في أيام الحج (4) .
{ وليطوفوا بالبيت العتيق } قال المفسرون: هذا هو الطواف الواجب الذي هو ركن من أركان الحج، ويسمى طواف الإفاضة (5) .
فإن قيل: لم سُمِّيَ البيت العتيق؟
قلتُ: عنه أجوبة، أصحها: ما أخرجه الترمذي من حديث ابن الزبير
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/423-424).
(2) ... الحجة للفارسي (3/166)، والحجة لابن زنجلة (ص:473)، والكشف (2/116)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:314)، والسبعة (ص:434-435).
(3) ... أخرجه الطبري (17/150). وذكره السيوطي في الدر (6/40) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (17/150) عن مجاهد. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/427).
(5) ... أخرجه الطبري (17/152) عن الحسن. وذكره الواحدي في الوسيط (3/268)، والسيوطي في الدر (6/40) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد، ومن طريق آخر عن الضحاك، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد.(1/56)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما سمي البيت [العتيق] (1) ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار )) (2) .
قال قتادة: كم من جَبَّار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى (3) .
وقال سعيد بن جبير: أقبل تُبَّع يريد هدم البيت، حتى إذا كان بقُدَيْد (4) أصابه الفَالِج (5) ، فدعا الأحبار فقالوا: إن لهذا البيت رباً ما قصده قاصد بسوء إلا حجبه عنه بمكروه، فإن كنتَ تريد النجاة مما عرض لك فلا تتعرّضه بسوء، قال: فأهدى للبيت أنطاعاً وكسوة فألبسها، وكان أول من ألبسه، ونحر عنده ألف ناقة، وعفا عن أهله وبَرَّهُم ووصَلَهُم (6) .
فإن قيل: فما [نصنع] (7) بفعل الحَجَّاج؟
قلتُ: لم يكن قصده انتهاك حرمة البيت، إنما (8) كان قصده ابنَ الزبير حين تَحَصَّن بالبيت، فكان هدمه ضِمْناً وتَبِعاً، لا أصلاً ومقصوداً.
__________
(1) ... في الأصل: العتق. والتصويب من ب، وجامع الترمذي (5/324).
(2) ... أخرجه الترمذي (5/324 ح3170) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/102).
(4) ... قديد: موضع قرب مكة (معجم البلدان 4/313)، وهو وادٍ فحل من أودية الحجاز، وينقسم إلى قسمين: علوي وسفلي. فالعلوي يسمى ستارة، والسفلي يسمى قديداً، ويسكن النصف السفلي زبيد بن حرب، ويبعد عن مكة (130) كيلاً من ناحية الشمال على طريق المدينة المنورة (معجم معالم الحجاز 7/96-97). وما زال معروفاً بهذا الاسم إلى الآن.
(5) ... الفالج: شلل يصيب أحد شقي الجسم طولاً (المعجم الوسيط 2/699).
(6) ... ذكره الآلوسي في تفسيره (17/147).
(7) ... في الأصل: تصنع. والمثبت من ب.
(8) ... في ب: وإنما.(1/57)
الجواب الثاني: أنه سُمِّيَ عتيقاً؛ أنه لم يُملك قط. رواه سفيان بن عيينة عن مجاهد (1) .
الثالث: أنه أعتق من الغرق زمن الطوفان. قاله ابن السائب (2) .
الرابع: لقدمه، وكونه أول بيت وضع للناس. قاله الحسن (3) .
الخامس: لكرمه على الله، ومنه: عِتاقُ الخيل والطير (4) .
y7د9؛sŒ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/151) بلفظ: ((إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه ليس لأحد فيه شيء))، ومجاهد (ص:423) بلفظ: ((أعتقه الله عز وجل من الجبابرة أن يدعيه أحد منهم))، والماوردي (4/21).
(2) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/21) من قول ابن زيد، وابن الجوزي في زاد المسير (5/428) من قول ابن السائب.
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2490). وذكره السيوطي في الدر (5/428) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/102).(1/58)
الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ اجتب
قوله تعالى: { ذلك } خبر مبتدأ، تقديره: الأمر أو الشأن ذلك الذي ذُكِرَ من أعمال الحج (1) .
{ ومن يعظم حرمات الله } الحُرُمات: جمع حُرْمَة، وهي ما لا يَحِلُّ هتْكُه (2) .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/145).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: حرم).(1/59)
قال الزجاج (1) : الحُرْمَة: ما وجب القيامُ به وحَرُمَ التفريط فيه.
وقال غيره: جميعُ ما كلَّفَه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج.
وقال ابن زيد: الحُرُمات هاهنا: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام (2) .
{ فهو } يعني: التعظيم { خير له عند ربه } في الآخرة، { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } أي: إلا ما يُقرأ عليكم تحريمه، وهو ما ذَكَرَهُ في سورة المائدة (3) في قوله: { حرمت عليكم الميتة... الآية } .
وقيل: المعنى: وأُحِلَّت لكم الأنعام في حال إحرامكم، إلا ما يتلى عليكم في الصيد فإنه حرام.
{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان } الرِّجْس مُفسرٌ في المائدة (4) .
وقوله: "من الأوثان" بيان للرجس (5) ، كقولك: عندي عشرون من الدراهم.
وقال الزجاج (6) :"مِنْ" هاهنا لتخليص جنس من أجناس. المعنى: فاجتنبوا
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/424).
(2) ... أخرجه الطبري (17/153). وذكره السيوطي في الدر (6/44) وعزاه لابن جرير.
(3) ... آية رقم: 3.
(4) ... عند الآية رقم: 90.
(5) ... انظر: التبيان (2/143)، والدر المصون (5/146).
(6) ... معاني الزجاج (3/425).(1/60)
الرجس الذي هو وَثَن.
{ واجتنبوا قول الزور } قال ابن مسعود: هو الكذب وشهادة الزور (1) .
وقال الزجاج (2) : هو قولهم: { هذا حلال وهذا حرام } [النحل:116].
وقال صاحب الكشاف (3) : جمع [الشرك] (4) وقول الزور في قران واحد، وذلك أن الشرك من باب الزور؛ لأن المشرك زاعم أن الوثن تَحِقُّ له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، لا تقربوا شيئاً منه لتماديه في القبح والسَّمَاجَة.
وقوله: { حنفاء لله } سبق تفسيره. وهو نصب على الحال (5) .
ولما كان المشركون يتسمّون حنفاء لمكان اعتصامهم بالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات وغير ذلك من شريعة إبراهيم قال: { غير مشركين به } .
ثم إن الله تعالى ضرب للمشرك مثلاً فقال: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير } وقرأ نافع: "فتخَطَّفُه" بفتح الخاء وتشديد الطاء (6) ، أصله: تَتَخَطَّفُه، تَتَفَعَّلُ من الخطف، فحذفت تاء التفعل.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/270)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/429).
(2) ... معاني الزجاج (3/425).
(3) ... الكشاف (3/155).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... انظر: التبيان (2/143)، والدر المصون (5/146).
(6) ... الحجة للفارسي (3/170)، والحجة لابن زنجلة (ص:476)، والكشف (2/119)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:315)، والسبعة في القراءات (ص:436).(1/61)
والمعنى: تأخذه بسرعة.
{ أو تهوي به الريح } أي: تُسْقِطُه { في مكان سحيق } أي: بعيد.
قال بعضهم: شبّه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة، فهو هالك لا محالة؛ إما باستلاب الطير، وإما بسقوطه في المكان السحيق (1) .
وقيل: شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، والمشرك بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تردده (2) في [أودية] (3) الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
y7د9؛sŒ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/270) عن الزجاج.
(2) ... في ب: والشيطان الذي يردده.
(3) ... في الأصل: أردية. والتصويب من ب.(1/62)
اججب
قوله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر الله } القول على ذلك هاهنا كالقول على التي قبلها، ومثله أيضاً { ذلك ومن عاقب } ، والشعائر مذكورة في سورة البقرة (1) .
والمراد بها هاهنا: الهدايا المُشْعَرَة بشَقِّ صفحة سنامها؛ ليُعلم أنها هدي.
ومعنى تعظيمها: استحسانها واستسمانها وتخيُّرها وترك المِكَاس فيها.
وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه: (( أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة درهم، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً، فنهاه عن ذلك، وقال: بل اهديها (2) )) (3) .
و ((أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه بُرَةٌ من ذهب)) (4) .
وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي (5) فيتصدق بلحمها (6) وبجِلالها (7) .
__________
(1) ... عند الآية رقم: 158.
(2) ... في ب: أَهْدِهَا.
(3) ... أخرجه البيهقي في الكبرى (9/288).
(4) ... أخرجه أحمد (1/269 ح2428). والبُرَةُ: الحَلْقَة في أنف البعير (اللسان، مادة: بري).
(5) ... القباطي: القبطية: ثياب من كتان بيض رقاق تنسج في مصر. وهي منسوبة إلى القِبط (المعجم الوسيط 2/711).
(6) ... في ب: بلحومها.
(7) ... أخرج البيهقي نحوه (5/233 ح9967).(1/63)
{ فإنها من تقوى القلوب } قال الزمخشري (1) : المعنى: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه الإضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها؛ لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى "من" [ليرتبط] (2) به.
وإنما ذُكِرَت القلوب؛ لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء.
{ لكم فيها منافع } أي: لكم في الشعائر منافع بركوبها، وشُرْبِ لبنها الفاضل عن ولدها، { إلى أجل مسمى } وهو وقت نحرها. هذا قول عطاء (3) ، ومذهب الأئمة الثلاثة؛ أحمد، ومالك، والشافعي، ومنع من ذلك أبو حنيفة وكثير من المفسرين.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "لكم فيها منافع" يعني: قبل أن يسميها صاحبها هدياً [أو يشعرها] (4) ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء (5) .
والأول أصح؛ لما أُخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة فقال له: اركبها، فقال: يا رسول
__________
(1) ... الكشاف (3/158).
(2) ... في الأصل: يرتبط. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الطبري (17/158). وذكره السيوطي في الدر (6/46-47) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك وعطاء.
(4) ... في الأصل: ويشعها. والتصويب من ب.
(5) ... أخرجه الطبري (17/157-158)، ومجاهد (ص:424) بمعناه.(1/64)
الله إنها بدنة (1) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اركبها ويلك، في الثانية أو الثالثة)) (2) .
وأباح ذلك قوم عند الضرورة؛ لما أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها )) (3) .
ولأن الله تعالى قال: { لكم فيها منافع } أي: في الشعائر، وقبل إيجابها لا تسمى شعائر، وهذا الذي ذكرناه من تفسير الشعائر وفرّعنا عليه هو المشهور عند المفسرين والفقهاء.
وقد روي عن ابن عباس أيضاً: أن الشعائر: المناسك ومشاهد مكة (4) . فيكون المعنى: لكم فيها منافع بالتجارة، أو منافع الآخرة؛ وهو الأجر والثواب، أو مجموع ذلك، إلى أجل مسمى، وهو انقضاء الموسم.
قوله تعالى: { ثم محلها إلى البيت العتيق } يتفرع القول فيه على القولين في الشعائر.
فعلى الأول؛ المعنى: ثم محل نحرها إلى البيت، أي: عند البيت العتيق، وهو الحرم كله.
وعلى الثاني: المعنى: ثم محل الناس من شعائر الحج ومناسكه إلى البيت العتيق، وهو الطواف به بعد قضاء المناسك.
بe@à6د9ur أُمَّةٍ جَعَلْنَا
__________
(1) ... في هامش الأصل زيادة: هدي.
(2) ... أخرجه البخاري (2/606 ح1604)، ومسلم (2/960 ح1322).
(3) ... أخرجه مسلم (2/961 ح1324).
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/430).(1/65)
مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ اجخب
قوله تعالى: { ولكل أمة جعلنا منسَكاً } قرأ حمزة والكسائي: "منسِكاً" بكسر السين في الموضعين، وفتحها الباقون (1) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/171)، والحجة لابن زنجلة (ص:476-477)، والكشف (2/119)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:315)، والسبعة (ص:436).(1/66)
فمن فتح أراد المصدر، ومن كسر أراد موضع النسك، كالمجْلِس والمطْلِع.
وقال أبو علي (1) : فتح السين أولى؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مصدراً أو مكاناً، وكلاهما مفتوح العين، إذا كان الفعل [على فَعَلَ] (2) : يَفْعُلُ، نحو: قَتَلَ يقْتُلُ مَقْتَلاً، وهذا مقْتَلُ القوم، وكذلك نَسَكَ ينْسُكُ مَنْسَكَاً، وهذا منْسَكُ القوم.
ووجه الكسر: أنه قد يجيء اسم المكان من هذا النحو على المَفْعِل، نحو المَطْلِع، وهو من طَلَعَ يَطْلُعُ، والمسجد، وهو من سَجَدَ يسْجُدُ، فيمكن أن يكون هذا مما شذّ أيضاً عن قياس الجمهور، فجاء اسم المكان على غير القياس، ولا يقدم على هذا إلا بالسمع، ولعل الكسائي سمع ذلك.
ومعنى الآية: لكل جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبائح يتقربون بها إلينا، أو أمكنة يتقربون بالذبائح فيها إلينا.
{ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم } أي: [على] (3) نحر ما رزقهم { من بهيمة الأنعام } . وقد أفادت هذه [الآية] (4) أمرين:
أحدهما: إعلامنا أن النسائك ليست من خصائص هذه الأمة.
والثاني: شرعية التسمية عليها أيضاً عند ذوي الهدي من الأمم الخالية.
{ فإلهكم إله واحد } فلا ينبغي أن تذكروا اسم غيره، على ما رزقكم
__________
(1) ... الحجة (3/171).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... في الأصل: الآ. والتصويب من ب.(1/67)
وخلقه لكم، { فله أسلموا } انقادوا { وبشر المخبتين } ذكرنا اشتقاقه فيما مضى وما قيل فيه.
وقال الخليل بن أحمد: هم الذين لا يَظلمون، [وإذا] (1) ظُلموا لا ينتصرون (2) .
{ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم } سبق تفسير ذلك كله.
{ والمقيمي الصلاة } جمهور القراءة على جرّ "الصلاةِ" بالإضافة من غير احتفال بالألف واللام؛ لأنها بمعنى: الذين، بدليل قوله: { وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ، فـ"الذين" نصب صفة "للمخبتين" (3) ، ثم قال: "والصابرين"، تقديره: والذين صبروا. ثم قال: "والمقيمي الصلاة" أي: والذين أقاموا الصلاة.
ولما كانت بمعنى: الذي، وكان الاسم في صلته بمعنى الفعل، نَصَبَ الحسن البصري وأبو عمرو فيما قرأتُه على شيخنا أبي البقاء النحوي له من رواية عبد الوارث عنه، فقرأ: "والمقيمي الصلاةَ" بنصب التاء (4) ، وعلى هذا أنشدوا:
__________
(1) ... في الأصل: إذا. والتصويب من ب.
(2) ... انظر قول الخليل هذا في: الماوردي (4/25).
(3) ... انظر: التبيان (2/144)، والدر المصون (5/148).
(4) ... انظر: الدر المصون (5/148)، والبحر (6/342).(1/68)
الحافِظُوا عورةَ العشيرةِ لا ... ... يأتيهمُ مِنْ وَرائهمْ نَطَفُ (1)
والنَّطَفُ: التَّلَطُّخُ بالعَيْب.
وقرأ ابن مسعود: "والمقيمين الصلاة" بالنصب على الأصل (2) .
وقال ابن جني (3) : أراد: والمقيمين، فحذف النون تخفيفاً، لا لِتُعَاقِبَها الإضافة، وشبّه ذلك باللَّذَيْن والذِين في قوله:
فَإِنَّ الذِي حَانَتْ بفَلْجٍ (4) دِمَاؤُهُمْ ... ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (5)
حذف النون من "الذين"؛ تخفيفاً لطول الاسم، فأما الإضافة فساقطة، وعليه قول الأخطل:
أَبَنِي كُلَيْبٍ إِنَّ عَمِّيَ اللَّذا ... ... قَتَلا المُلُوكَ وفكّكا الأغلالا (6)
__________
(1) ... البيت لقيس بن الخطيم، أو عمرو بن امرئ القيس الخزرجي. انظر: الكتاب (1/186)، والخزانة (2/188)، والدرر اللوامع (1/23)، والمحتسب (2/80)، والطبري (1/263)، واللسان (مادة: وكف) وفيه: "وكف" بدل: "نطف".
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:315).
(3) ... المحتسب (2/80-81).
(4) ... فَلْج: وادٍ بين البصرة وحمى ضرية (معجم البلدان 4/272).
(5) ... البيت للأشهب بن رميلة. انظر: الكتاب لسيبويه (1/187)، والمحتسب (1/185، 2/80)، والخزانة (2/507)، وشواهد المغني للسيوطي (ص:175)، وابن الشجري (2/307)، واللسان (مادة: فلج).
(6) ... البيت للأخطل يهجو جريراً. وأحد عمّيه: عصم أو حنش قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو آكل المرار يوم الكلاب، والآخر: عمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند. وانظر البيت في: ديوانه (ص:44)، والكتاب لسيبويه (1/186)، والمحتسب (1/185، 2/80)، والخزانة (2/499)، وابن الشجري (2/306)، واللسان (مادة: فلج).(1/69)
فحذف النون من "اللّذان" لما ذكرنا.
لكن الغريب من ذلك؛ ما حكاه أبو زيد عن أبي السَّمَّال أو غيره: أنه قرأ: "غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ" [التوبة:2] بالنصب (1) ، فهذا يكاد يكون لحناً؛ لأنه ليست معه لام التعريف [المشابهة] (2) للذي [ونحوه] (3) ، غير أنه شبّه "معجزي" بالمعجزي، وسوغ له ذلك علمه أن "معجزي" هذه لا تنصرف (4) بإضافتها إلى اسم الله، كما لا تنصرف بها ما فيه الألف واللام، وهو "المُقِيمي الصلاة"، فَشُبّه به، ونحوه بيت الكتاب (5) :
الحَافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ ... ... ... .......................
وأنشده ثم قال: نصب "عورةَ" على ما ذكرتُ لك.
وقال آخر (6) :
قَتَلْنَا نَافعاً (7) بقَتِيلِ عَمْرٍو ... ... وَخَيْرُ الطَّالِبي التِّرَةَ الغَشُومُ
ومثل: "غَيْرَ مُعجزي الله" بالنصب، قول سويد (8) :
وَمَسَامِيحُ بمَا ضُنَّ بهِ ... [حَابِسُوا] (9) الأَنْفُسَ [عَنْ] (10) سُوءِ الطَّمَعْ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/441).
(2) ... في الأصل و ب: المشابه. والتصويب من المحتسب (2/80).
(3) ... زيادة من المحتسب، الموضع السابق.
(4) ... في ب: تتعرف. وكذا وردت في الموضع التالي.
(5) ... الكتاب لسيبويه (1/186، 202).
(6) ... انظر البيت في: اللسان، مادة: (غشم)، والمحتسب (2/80).
(7) ... في المحتسب: ناجياً.
(8) ... انظر البيت في: المفضليات (ص:194)، والمحتسب (2/80).
(9) ... في الأصل: حابس. والتصويب من ب، ومصادر البيت.
(10) ... في الأصل و ب: من. والتصويب من مصادر البيت.(1/70)
وقرأ بعض الأعراب: { إنكم لذائقوا العذابَ الأليم } [الصافات:38] بالنصب (1) .
أخبرنا أبو علي قال: أخبرنا أبو بكر عن أبي العباس قال: سمعت عُمارة يقرأ: { ولا الليلُ سابق النهارَ } (2) [يس:40] ، فقلت له: ما أردتَ؟ فقال: أردتُ سابقٌ النهارَ. فقلت له: فهلاّ قلتَه؟ فقال: لو قلتُهُ لكان أوْزَنَ.
ڑcô‰ç7ّ9$#ur جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
__________
(1) ... انظر: البحر (7/343)، والدر المصون (5/500).
(2) ... انظر: البحر (7/323)، والدر المصون (5/486).(1/71)
تَشْكُرُونَ اجدب
قوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } البُدْن: جمع بَدَنَة، سُميت بذلك؛ لأنها تَبْدُنُ، أي: تَسْمَنُ، أو لعِظَمِ بدنها (1) .
وقرأ الحسن: "والبدُن" بضم الدال (2) ، وهما لغتان، مثل: ثَمَرة وثُمُر.
قال جمهور المفسرين: البُدُن: الإبل والبقر (3) .
والصحيح ما قاله صاحبنا القاضي أبو يعلى بن الفراء رحمة الله عليه: أن البدنة: اسم يختص الإبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم (4) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة (5) .
والمعنى: جعلناها لكم من أعلام الدين وسُنَنِه المشروعة، فشرعنا لكم سَوْقَها إلى البيت وتقليدَها وإشعارَها ونحرَها والإطعام منها، وأضافها إلى اسمه تعظيماً لها.
{ لكم فيها خير } قال ابن عباس: دنيا وآخرة (6) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: بدن).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:315).
(3) ... أخرجه الطبري (17/163) عن عطاء، وابن أبي حاتم (8/2493) عن ابن عمر. وذكره السيوطي في الدر (6/49) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: البدنة ذات البدن من الإبل والبقر.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/432).
(5) ... أخرج مسلم في صحيحه (2/955 ح1318) عن جابر بن عبد الله قال: ((نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة)).
(6) ... ذكره الطبري (17/163)، والواحدي في الوسيط (3/272)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/432) كلهم بلا نسبة.(1/72)
قال إبراهيم النخعي: إن احتاج إلى ظهرها ركب، أو إلى لبنها شرب (1) .
{ فاذكروا اسم الله عليها صواف } هو قوله عند نحرها: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك.
قرأ الأكثرون: "صَوَافَّ"، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر ومحمد بن علي والأعمش وقتادة: "[صَوافِنَ] (2) " (3) . وقرأ أبيّ بن كعب وأبو موسى والحسن: "صَوافيَ" (4) .
فمن قرأ "صَوَافَّ" أراد: قائمات مُصْطَفَّةَ الأيدي والأرْجُل.
ومن قرأ "صوافن" فهو من صُفُون الفرس، وهو أن يقوم على ثلاث وينصبُ الرابعة على طرف سُنْبُكِه، وهكذا السنة في نحر الإبل.
قال مجاهد: إذا عُقِلَتْ إحدى يديها وقامت على ثلاث تُنْحَرُ كذلك، ويُسَوَّى
بين [أوْظِفَتِها] (5) لئلا يتقدم بعضها على بعض (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (17/163)، وابن أبي حاتم (8/2494). وذكره السيوطي في الدر (6/50) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... في الأصل: صوفن. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الطبري (17/163)، والدر المصون (5/150).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:315).
(5) ... في الأصل: أوصفتها. والتصويب من ب. والأوظفة: جمع وظيف، وهو لكل ذي أربع: ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق (اللسان، مادة: وظف).
(6) ... أخرجه الطبري (17/164). وذكره الواحدي في الوسيط (3/272).(1/73)
ومن قرأ "صَوَافيَ" أراد: خوالص لله تعالى.
والنصب في القراءات الثلاث على الحال (1) .
{ فإذا وجبت جنوبها } سقطت إلى الأرض ميتة، { فكلوا منها } أمر إباحة أو استحباب، وذلك فيما يشرع له الأكل منه، { وأطعموا القانع والمعتر } (2) .
قال ابن عباس وقتادة: القانع: المُتَعَفِّف، والمُعْتَرّ: السائل (3) .
وقال ابن عباس في رواية أخرى: القانع: السائل، والمعترُّ: المتعرِّضُ (4) .
__________
(1) ... انظر: التبيان(2/144)، والدر المصون (5/149).
(2) ... قال ابن كثير في تفسيره (3/224): وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، فثلث لصاحبها يأكله، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } .
(3) ... أخرجه الطبري (17/167)، وابن أبي حاتم (8/2495). وذكره السيوطي في الدر (6/54) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(4) ... أخرجه الطبري (17/168) من طريق الحسن. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/433)، والسيوطي في الدر (6/55) وعزاه لابن المنذر.
... وهذا القول هو اختيار الطبري (17/170) قال: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بالقانع السائل؛ لأنه لو كان المعني بالقانع في هذا الموضع المكتفي بما عنده والمستغني به لقيل: وأطعموا القانع والسائل، ولم يقل: وأطعموا القانع والمعترّ، وفي إتباع ذلك قوله: "والمعتر" الدليل الواضح على أن القانع معني به السائل، من قولهم: قنع فلان إلى فلان، بمعنى: سأله وخضع إليه، فهو يقنع قنوعاً، ومنه قول لبيد: وأعطاني المولى على حين فقره إذا قال أبصر خلتي يعرفوهم.
... وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي، فإنه من قنِعت به -بكسر النون- أقنع قناعة وقنعاً وقنعاناً. وأما المعترّ فإنه الذي يأتيك معتراً بك لتعطيه وتطعمه.(1/74)
قال ابن قتيبة (1) : يقال: قَنَعَ يَقْنَعُ قُنُوعاً؛ إذا سَأل، وقَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعةً؛ إذا رضي (2) . ويقال في المعتر: اعتَرَّني واعْتَرَاني وعَرَاني (3) .
وقال الزجاج (4) : مذهب أهل اللغة: أن القانع: السائل، يقال: قَنَعَ يقْنَعُ قُنُوعاً؛ إذا سأل. قال الشمَّاخ:
لمالُ المرء يُصلحُهُ فَيُغْنِي ... ... مَفَاقِرَهُ أعَفُّ من القُنُوع (5)
أي: من السؤال، ويقال: قَنِعَ قناعةً؛ إذا رضِيَ، فهو قَنِعٌ.
{ كذلك سخرناها لكم } أي: مثل ما وصفنا لكم من نحرها صَوَافَّ، سخَّرْناها لكم، ذللناها لكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المشروع، ولولا تسخير الله تعالى لم يُقدر عليها، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش الصغار الممتنعة، { لعلكم تشكرون } إحساني إليكم وإنعامي عليكم.
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:293).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: قنع).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: عرر).
(4) ... معاني الزجاج (3/428).
(5) ... البيت للشماخ، انظر: ديوانه (ص:221)، والبحر (6/323)، والدر المصون (5/151)، والجمهرة (3/132)، واللسان (مادة: فقر، قنع)، والطبري (17/168)، والقرطبي (12/64)، والماوردي (4/24)، وزاد المسير (5/434)، ومجاز القرآن (2/51).
... والمَفَاقِر: وجوه الفقر، وقيل: جمع فَقْر على غير قياس، مثل: مَشَابِه ومَلامِح. والقُنُوع: السؤال.(1/75)
`s9 يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ اجذب
قوله تعالى: { لن ينال الله } أي: لن يصل إليه { لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } أي: يرتفع إليه ويصل إليه التقوى منكم والأعمال الصالحة التي أريد بها وجه (1) الله تعالى.
قال ابن السائب: كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا دماءها حول البيت قُرْبَةً إلى الله، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
__________
(1) ... في ب: أريد بها وجهه.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2495) عن ابن جريج. وذكره الماوردي في تفسيره (4/28) ونسبه لابن عباس، والواحدي في الوسيط (3/272) من قول ابن السائب الكلبي. وذكره السيوطي في الدر (6/55-56) وعزاه لابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن جريج وعزاه لابن أبي حاتم.(1/76)
وقرأتُ ليعقوب: "لن تنال الله"، "ولكن تناله التقوى منكم" بالتاء فيهما (1) .
قال الزجاج (2) : من قرأ بالياء فلِجَمْع اللحوم، ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم. ومن قرأ: "تناله" بالتاء أنَّثَ للفظ التقوى. ومن قرأ بالياء ذكَّر؛ لأن معنى التقوى والتُّقَى واحد.
قوله تعالى: { لتكبروا الله على ما هداكم } أي: على ما بيّن لكم من معالم الدين ومناسك الحج، { وبشر المحسنين } .
قال ابن عباس: يريد: الموحدين (3) .
* إِن اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:315)، والنشر (2/326).
(2) ... معاني الزجاج (3/429).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/272)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/435).(1/77)
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ(1/78)
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ احتب
قوله تعالى: { إن الله يَدْفَعُ عن الذين آمنوا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يَدْفَعُ". وقرأ الباقون: "يُدَافِعُ" من المفاعلة (1) ، والمعنى واحد.
والمراد: إعلام العباد بنصره سبحانه وتعالى للمؤمنين، كما قال تعالى في موضع آخر: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } [غافر:51]، ثم بيّن العلة في ذلك فقال: { إن الله لا يحب كل خوان كفور } وهم الذين خانوا الله والرسول وجعلوا لله شركاء.
قوله تعالى: { أذن } قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم: "أُذن" بضم الهمزة، وفتحها الباقون.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص: { يقاتَلون } بفتح التاء، وكسرها الباقون (2) ، والمعنى ظاهر.
قال المفسرون: كان المشركون بمكة يُؤْذُون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا شَكَوْا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال، حتى
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/171)، والحجة لابن زنجلة (ص:477-478)، والكشف (2/119-120)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:315)، والسبعة (ص:437).
(2) ... الحجة للفارسي (3/172-173)، والحجة لابن زنجلة (ص:478-479)، والكشف (2/120-121)، والنشر (2/326)، والإتحاف (ص:315)، والسبعة (ص:437).(1/79)
هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية نزلت في إباحة القتال (1) .
ثم أشار إلى علة إباحته بقوله: { بأنهم } أي: بسبب أنهم { ظلموا } حيث أخرجوهم من ديارهم [وأموالهم] (2) .
وفي قوله تعالى: { وإن الله على نصرهم لقدير } ترغيب للمؤمنين في الالتجاء إليه والاعتماد عليه، وتعريض لهم بنصره إياهم.
ثم وصفهم فقال: { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } تقديره: أُذِنَ للمقاتلين المخرَجِين من ديارهم بغير حق. وما بين الصفة والموصوف جملة اعتراضية، كما في قوله تعالى: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [الواقعة:76]، ففصل بين الصفة والموصوف بقوله: "لو تعلمون".
{ إلا أن يقولوا ربنا الله } قال سيبويه (3) : هذا من الاستثناء المنقطع. المعنى: لكن بأن قالوا ربنا الله، أي: أخرجوهم بسبب توحيدهم.
وقال الزجاج والزمخشري (4) : "أن يقولوا" في محل الجرّ على الإبدال من "حق"، أي: بغير موجب سوى التوحيد.
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } مُفسّر في البقرة (5) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/273)، وأسباب النزول (ص:318)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/436).
(2) ... في الأصل: وأمولهم. والتصويب من ب.
(3) ... انظر: الكتاب (2/325).
(4) ... معاني الزجاج (3/430)، والكشاف (3/161).
(5) ... آية رقم: 251.(1/80)
{ لهُدِّمَتْ صوامع } قرأ ابن كثير ونافع: "لهُدِمَتْ" بالتخفيف، وشدّده الباقون (1) .
قال ابن عباس ومجاهد: يعني: صوامع الرهبان (2) .
{ وبيع } جمع بِيعَة، وهي مُتعبّدات النصارى.
{ وصلوات } على حذف المضاف، أي: مواضع صلوات.
قال اللغويون: هي بالعبرانية صلوثا، فعُرِّبَت (3) .
قال قتادة: هي كنائس اليهود (4) .
وقال أبو العالية: مساجد الصابئين (5) .
وقيل: هي الصلوات حقيقة، على معنى: ولولا دفع الله عن المسلمين
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/172)، والحجة لابن زنجلة (ص:479)، والكشف (2/121)، والنشر (2/327)، والإتحاف (ص:316)، والسبعة (ص:438).
(2) ... أخرجه الطبري (17/175) عن مجاهد، ومجاهد (ص:427)، وابن أبي حاتم (8/2497). وذكره السيوطي في الدر (6/59-60) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن أبي العالية، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... انظر: زاد المسير (5/437).
(4) ... أخرجه الطبري (17/176)، وابن أبي حاتم (8/2497). وذكره السيوطي في الدر (6/60) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (17/177)، وابن أبي حاتم (8/2497). وذكره السيوطي في الدر (6/60) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/81)
بالمجاهدين لانقطعت الصلوات (1) .
{ ومساجد } قال ابن عباس: يريد: مساجد المسلمين (2) .
قال الزجاج (3) : معنى الآية: لولا دفع بعض الناس ببعض لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيَع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد.
وقوله تعالى: { يذكر فيها اسم الله كثيراً } يجوز أن يكون مختصاً بالمساجد، ويجوز أن يكون شاملاً للأماكن المذكورة.
{ ولينصرن الله من ينصره } أي: ينصر دينه وشرعه، { إن الله لقوي } شديد لا يُغالب { عزيز } منيع في سلطانه.
قوله: { الذين إن مكناهم في الأرض } قال الزجاج (4) : "الذين" في موضع نصب على تفسير مَنْ. المعنى: ولينصرن الله من ينصره.
ثم بيَّن عز وجل صفة ناصريه فقال: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } .
فصفة حزب الله الذين يُوحِّدونه: [إقامة] (5) الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما واجبان كوجوب الصلاة
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/437) عن ابن زيد.
(2) ... أخرجه الطبري (17/177) عن قتادة، وابن أبي حاتم (8/2497) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (6/59) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3) ... معاني الزجاج (3/431).
(4) ... معاني الزجاج (3/431).
(5) ... في الأصل: بإقامة. والتصويب من ب.(1/82)
والزكاة، أعني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا كله كلام الزجاج.
قال قتادة في هذه الآية: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقال كثير من المفسرين: هذا إخبار من الله تعالى وثناء على الخلفاء الراشدين من المهاجرين، ومدح لهم بما سيظهر منهم من السيرة العادلة، وإثبات لصحة أمرهم وخلافتهم؛ لأن الله تعالى لم يُعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم (2) .
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء (3) .
{ ولله عاقبة الأمور } ولما كانت الرهبة من القادر والرغبة إليه من أوكد الأسباب الصَّادَّةِ لغالب الناس عن الإقدام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخبر الله سبحانه وتعالى عباده أنه أحقُّ من خِيفَ منه، وأولى من توجهت الرغبة إليه؛ لأن جميع الأمور إليه تؤول، وكل مُلْك سوى مُلْكه يزول، فقال: { ولله عاقبة الأمور } .
bخ)ur يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2498) عن أبي العالية. وذكره الواحدي في الوسيط (3/274) عن قتادة، والسيوطي في الدر (6/60) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي العالية.
(2) ... انظر: الكشاف (3/162)، والنسفي (3/106).
(3) ... ذكره المناوي في فيض القدير (2/202)، والزمخشري في الكشاف (3/162).(1/83)
نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى(1/84)
الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ احدب
قوله تعالى: { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذِّبَ موسى } وقد ذكرنا قصصهم فيما مضى.
والمقصود من هذه السياقة تعزية النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: لم قيل: "وكذب موسى" ولم يقل: وقوم موسى؟
قلتُ: لأن موسى ما كذّبه قومه بنوا إسرائيل، وإنما كذّبه القبط. وفيه شيء آخر؛ كأنه قيل بعدما ذُكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعِظَمِ معجزاته، فما ظَنُّكَ بغيره.
{ فأمليت للكافرين } أخَّرتُ عقوبتهم وأمْهلتهم، { ثم أخذتهم } أي: بالعذاب { فكيف كان نكير } استفهام في معنى التقرير، والنكير بمعنى الإنكار والتعيير.
والمعنى: كيف أنكرتُ عليهم ما فعلوا من التكذيب، أبدلتهم بالنعمة العذاب، وبالعمارة الخراب.
قوله تعالى: { فكأيٍّ من قرية أهلكتُها } قرأ أبو عمرو: "أهلكْتُها" بالتاء
__________
(1) ... الكشاف (3/162).(1/85)
على لفظ الواحد. وقرأ الباقون: "أهلكناها" بالنون على لفظ الجمع (1) .
{ وهي ظالمة } في محال الحال (2) . وَصَفَها بالظلم، والمراد: أهلها.
{ فهي خاوية على عروشها } ساقطة على سقوفها. وقد ذكرنا تفسيره فيما مضى، وهذا هو الظاهر من التفسير.
ويجوز أن يكون "على عروشها" خبراً بعد خبر (3) ، كأنه قيل: هي خاوية، وهي على عروشها، أي: هي قائمة مُطِلَّةٌ على عروشها، على معنى: أن السقوف تهدمت وبقيت الحيطان قائمة مطلة على السقوف المتهدمة.
قوله تعالى: { وبئر معطلة وقصر مشيد } معطوفان على "قرية" (4) ، تقديره: فكم من قرية وبئر معطلة، أي: متروكة معطلة من الاستقاء والعمل، وقصر مُجَصَّص.
واختلف القُرّاء في تحقيق الهمزة وتخفيفه في "بئر"، فخفَّفه الأكثرون (5) .
قال أبو علي (6) : كلاهما حسن، والتحقيق هو الأصل، والتخفيف دخيل عليه استثقالاً للهمزة، وتخفيف هذا النحو: أن تُقْلَبَ الهمزة فيه ياء بحسب
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/173)، والحجة لابن زنجلة (ص:479-480)، والكشف (2/121)، والنشر (2/327)، والإتحاف (ص:316)، والسبعة (ص:438).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/155).
(3) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (3/163).
(4) ... انظر: التبيان (2/145)، والدر المصون (5/156).
(5) ... الحجة للفارسي (3/174)، والإتحاف (ص:316)، والسبعة (ص:438).
(6) ... الحجة (3/174).(1/86)
الحركة التي قبلها، وكذلك "الذئب" (1) وما أشبهه مما فيه همزة ساكنة قبلها كسر (2) .
وقال الزجاج (3) : أصل الشِّيد: الجصُّ والنُّورَة، وكل ما بُنيَ بهما أو بأحدهما فهو مَشِيد.
وقيل: مَشِيدٌ: مُحَصَّنٌ مُرتَفعٌ، من قولهم: شَادَ بناءه؛ إذا رفعه (4) .
وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة النساء (5) ، وفيه إضمار تقديره: وكم قصر مشيد أخليناه من (6) ساكنه، فتُرك لدلالة معطلة عليه.
وقد قيل: إن هذه بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم الله تعالى من العذاب، وهي بحضرموت. وإنما سُميت بذلك؛ لأن صالحاً حين حضرها مات، وثَمَّ بلدة عند البئر اسمها: حاضوراء، بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم رجلاً منهم، وأقاموا بها دهراً وتناسلوا حتى نَمَوْا، ثم إنهم عَبَدُوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله تعالى إليهم نبياً يقال له: حنظلة بن صفوان، فكفروا به وقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى، وعُطِّلت بئرهم وخربت قصورهم (7) .
__________
(1) ... في سورة يوسف، آية رقم (13).
(2) ... في ب: كسرة.
(3) ... معاني الزجاج (3/432).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: شيد).
(5) ... عند الآية رقم: 78.
(6) ... في ب: عن.
(7) ... ذكره الزمخشري في: الكشاف (3/163). وفي ب: وخرب قصرهم.(1/87)
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض } قال صاحب الكشاف (1) : يحتمل أنهم لم يسافروا، فحُثُّوا على السفر؛ ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، أو أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجُعلوا كأن لم يُسافروا ولم يَرَوْا.
والمعنى: يعقلون ما يجب أن [يُعقل] (2) من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي.
وقال غيره: { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } إذا نظروا آثار من هلك، { أو آذان يسمعون بها } أخبار الأمم المكذبة.
{ فإنها لا تعمى الأبصار } قال الفراء (3) : الهاء في "فإنها" عِمَاد (4) . وقيل: ضمير الشأن.
والقصة والضمير يجيء مذكراً [ومؤنثاً] (5) .
وقوله: { التي في الصدور } توكيد؛ لأن القلوب لا تكون إلا في الصدور، ومثله: { يقولون بأفواههم } [آل عمران:167].
وقال صاحب الكشاف (6) : إن قلت: أي فائدة في ذكر الصدور؟
__________
(1) ... الكشاف (3/164).
(2) ... في الأصل: يفعل. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... معاني الفراء (2/228).
(4) ... العماد: هو ضمير الفصل عند البصريين.
(5) ... في الأصل: مؤنثاً. والتصويب من ب.
(6) ... الكشاف (3/164).(1/88)
قلتُ: الذي قد تعورف واعتقد: أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو [أن تصاب] (1) الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومَثَلٌ، فلما أريد [إثبات] (2) ما هو خلاف الحقيقة المعْتَقَد من نسبة العَمَى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل [تعريف، ليتقرر] (3) أن مكان العَمَى هو القلب لا الأبصار، كما تقول: ليس المَضَاءُ للسيف، ولكنه للسانك الذي بين فَكَّيْكَ، فقولك: "الذي بين فكَّيْك" تقرير لما ادّعيته للسانه [وتثبيت، لأن محل المضاء هو هو لا غير] (4) ، وكأنك قلت: ما نفيته عن السيف وأثبته للسانك قلته لا سهواً مني، ولكني تعمدته تعمداً.
أخبرنا الشيخ عبدالعزيز بن معالي بن غنيمة بن منينا قال: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي الأنصاري، أخبرنا الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا عبدالملك بن محمد بن بشران [الواعظ] (5) ، أخبرنا دعلج بن أحمد، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن هارون المعوذي، حدثنا عمرو بن الحُبَاب (6) ، حدثنا يعلى بن الأشدق (7) ، حدثنا
__________
(1) ... في الأصل و ب: ارتكاب. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) ... زيادة من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: وتعريف لتقرر. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(4) ... زيادة من الكشاف (3/164).
(5) ... في الأصل: الوعظ. والتصويب من ب.
(6) ... عمرو بن الحباب البصري، أبو عثمان العلاف، ويقال: الصباغ، كان بالمربد، مقبول (تهذيب التهذيب 8/15، والتقريب ص:419).
(7) ... يعلى بن الأشدق، أبو الهيثم الجزري الحراني، كان حياً في دولة الرشيد، روى عن عمه عبد الله بن جراد، سكن الرقة مدة، وأصله من نواحي الطائف (لسان الميزان 6/312).(1/89)
عبدالله بن جراد (1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس الأعمى من يعمى بصره، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته )) (2) .
y7tRqè=ةf÷ètGَ،o"ur بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِن يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ احرب
قوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب } نزلت في النضر بن الحارث
__________
(1) ... عبد الله بن جراد بن المنتفق بن عامر بن عقيل العامري، روى عنه يعلى بن الأشدق، مات سنة أربع وستين ومائة (الثقات 3/244، والإصابة 4/39).
(2) ... أخرجه البيهقي في الشعب (2/127 ح1372). وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/211)، والديلمي في الفردوس (3/403).(1/90)
وغيره (1) ، من المستعجلين بالعذاب العاجل [أو الآجل] (2) ، تكذيباً واستهزاءً.
{ ولن يخلف الله وعده } في إنزال العذاب بهم.
قال ابن عباس: هو ما أصابهم يوم بدر (3) .
{ وإن يوماً عند ربك } يعني: من أيام الآخرة { كألف سنة مما تعدون } .
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "يعدون" بالياء، حملاً على قوله: { ويستعجلونك بالعذاب } ليكون اللام من وجه واحد. والباقون قرأوا بالتاء؛ نظراً إلى كونه أعمّ (4) .
والمعنى: مما تَعُدُّونَ من أيام الدنيا.
المعنى: فكيف تستعجلون بعذاب أيام هذا شأنها وطولها.
وقال الزجاج (5) : المعنى: أن يوماً عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما استعجلوا به وبين تأخيره في القدرة، إلا أن الله تعالى تفضَّل عليهم بالإمهال.
قوله تعالى: { وكأيٍّ من قرية أمليت لها وهي ظالمة } قال
__________
(1) ... هو قول مقاتل. انظر: تفسير مقاتل (2/386)، وزاد المسير (5/439).
(2) ... في الأصل: والآجل. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/275).
(4) ... الحجة للفارسي (3/174)، والحجة لابن زنجلة (ص:480)، والكشف (2/122)، والنشر (2/327)، والإتحاف (ص:316)، والسبعة (ص:439).
(5) ... معاني الزجاج (3/433).(1/91)
الزمخشري (1) : إن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء وهذه بالواو؟
قلت: الأولى وقعت بدلاً من (2) قوله: { فكيف كان نكير } ، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين [المعطوفتين] (3) بالواو، أعني قوله: { ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك } .
ِ@è% يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ اختب
وما بعده ظاهر أو مُفسّر إلى قوله تعالى: { والذين سعوا في آياتنا
__________
(1) ... الكشاف (3/165).
(2) ... في ب: عن.
(3) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/92)
مُعجِّزين } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "مُعجِّزين" بتشديد الجيم من غير ألف، هنا، وفي الموضعين الآخرين بسبأ (1) . وقرأها الباقون: "مُعَاجِزين" بالألف مع تخفيف الجيم (2) .
فمن قرأ: "مُعَجِّزين" فمعناه: ينسبون من تَبعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العجْز، كقولهم: جَهَّلْتُه، أي: نسبته إلى الجَهْل، وفَسَّقْتُه: نسبته إلى الفسق.
وقال مجاهد: "مُعَجِّزين": مثبّطين، أي: يثبّطون الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
ومن قرأ: "مُعَاجزين" فمعناه: ظانّين ومُقدِّرين أنهم يُعَجِّزوننا؛ لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، فيكون ثواب أو عقاب. وهذا المعنى كقوله: { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [العنكبوت:4].
!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
__________
(1) ... الآية رقم: 5 و 38.
(2) ... الحجة للفارسي (3/174-175)، والحجة لابن زنجلة (ص:480-481)، والكشف (2/122)، والنشر (2/327)، والإتحاف (ص:316)، والسبعة (ص:439).
(3) ... أخرجه الطبري (17/186)، ومجاهد (ص:427)، وابن أبي حاتم (8/2500). وذكره السيوطي في الدر (6/64) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، كلهم بلفظ: "معجزين" مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/93)
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِن الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ(1/94)
مُسْتَقِيمٍ اخحب
قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } قال الواحدي (1) : الرسول: الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته إياه شفاهاً، والنبي: الذي تكون نُبُوَّتُه إلهاماً أو مناماً.
وقال الزمخشري (2) : الرسول من الأنبياء، من جمع [إلى] (3) المعجزة الكتاب المنْزَل عليه. والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أُمِرَ أن يدعو إلى شريعة من قبله.
قوله تعالى: { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } قال محمد بن كعب القرظي وغيره: تمنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه قومه، لعله يتخذ ذلك سُلَّماً إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم، فاستمر به ما تمناه، حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: { ومناة الثالثة الأخرى } [النجم:20] ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها على سبيل السهو والغلط فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى (4) . (5) .
__________
(1) ... الوسيط (3/276).
(2) ... الكشاف (3/165-166).
(3) ... في الأصل: مع. والتصويب من ب، والكشاف (3/165).
(4) ... أخرجه الطبري (17/186-187). وذكره السيوطي في الدر (6/67) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس.
(5) ... إن هذه القصة والمعروفة بقصة الغرانيق قد ذكرها أكثر المفسرين دون تعليق فقد ذكرها الطبري وابن كثير في تفسيره (3 /230-231) ثم قال: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا كلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم. والذي يتتبع طرق هذه القصة يجد أن جميع طرقها مرسلة أو منقطعة أو معلة أو فيها جهالة، فالطرق مهما كثرت وكانت ضعيفة لا تزيد الرواية إلا ضعفاً. فإن قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق لا تقبل على إطلاقها وهذا ما حققه الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح في مقدمته وغيره من علماء الحديث المحققين. لقد وقف على هذه القصة غير واحد من العلماء المحققين وبينوا زيف وبطلان هذه المرويات التي أوردها بعض المفسرين. فقد ذكر الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني في تفسيره: (3/462) عند قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } [الحج:52] فقال: ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه قال تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين } [الحاقة:44-46] وقوله: { وما ينطق عن الهوى } [النجم:3] وقوله: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً } [الإسراء:74]. قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وصنف في ذلك كتاباً. وللقاضي عياض في كتاب الشفاء (2/750) كلام حول نقض هذه القصة فيقول: فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: المأخذ الأول: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، والمتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح، وقد أعاذنا الله من صحته ولكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. ثم سرد أحاديث بين زيفها ورد العلماء عليها. ويقول الإمام القرطبي في تفسيره (12/84) عند قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول } بعد أن سرد بعض الروايات: ومما يدل على ضعفه أيضاً وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: { وإن كادوا ليفتنونك... الآيتين } [الإسراء:73-74]؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه في أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً فكيف كثيراً؟
... إن هذه الأقاويل يجب تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وقد ثبت بطلان هذه القصة سنداً ومتناً.(1/95)
قال ابن عباس: قال ذلك الشيطان على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحساس بذلك (1) .
وقال قتادة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند المقام، فنعس، فألقى الشيطان تلك الكلمات على لسانه وهو نائم، ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر آلهتنا بأحسن الذِّكْر، فأتاه جبريل فأخبره بما جرى على لسانه، فاشتد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييباً لقلبه وإعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا (2) .
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: تمنّى [بمعنى] (3) تلا (4) ، وأنشدوا:
تمنّى كتابَ الله أوّل ليلِهِ ... ... تمنِّيَ داوُدَ الزبورَ على رِسْل (5)
{ فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي: يبطله ويذهبه (6) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/277).
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (8/2502). وذكره الماوردي (4/35)، والسيوطي في الدر (6/68) وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/441).
(5) ... انظر البيت في: البحر (6/353)، واللسان (مادة: مني)، والقرطبي (2/6)، وزاد المسير (1/105، 5/442)، وروح المعاني (17/173)، والدر المصون (1/269).
(6) ... قال البغوي في تفسيره (3/293-294): فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين؟ وقال جل ذكره في القرآن: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [فصلت:42] يعني إبليس؟
... قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه، فقال بعضهم: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته، فظن المشركون أن الرسول قرأه.
... وقال قتادة: أغفى النبي - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.
... والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
... وقيل: إن شيطاناً يقال له أبيض عمل هذا العمل، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء.(1/97)
{ ثم يحكم الله آياته } قال مقاتل (1) : يحكمها من الباطل، { والله عليم حكيم } .
قوله تعالى: { ليجعل } اللام متعلقة بقوله: { ما يلقي الشيطان } (2) في أمنية رسوله { فتنة } ابتلاء وامتحاناً { للذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق، { والقاسية قلوبهم } .
قال ابن عباس: يريد: المشركين، وهم الذين لا تلين قلوبهم لتوحيد الله (3) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/387).
(2) ... قال أبو حيان في البحر (6/353): واللام في "ليجعل" متعلقة بـ"يحكم" وقيل: بـ"ينسخ". وقيل: بـ"ألقى"، والظاهر أنها للتعليل. وقيل: هي لام العاقبة. و "ما" في "ما يلقي" الظاهر أنها بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/277).(1/98)
ثم حكم عليهم بالظلم فقال: { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } يريد: وإن هؤلاء المنافقين والمشركين، فوضع الظاهر موضع المُضْمَر.
وقوله: { لفي شقاق بعيد } مفسّر في البقرة (1) .
قوله تعالى: { وليعلم الذين أوتوا العلم } أي: وليتيقن الذين أعطوا القرآن والتوحيد وكانوا على بصيرة من أمرهم { أنه الحق } أي: أن نسخ ذلك وإبطاله الحق { من ربك } .
وقيل: وليعلم الذين أوتوا العلم أن تمكن الشيطان من الإلقاء هو الحق من ربك والحكمة.
{ فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } أي: تَذِلُّ وتخضع.
ثم بيّن سبحانه وتعالى أن الإيمان والإخبات إنما هو بلطفه وهدايته إياهم فقال: { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } .
ںwur يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ
__________
(1) ... عند آية رقم: 176.(1/99)
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ اخذب
قوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي: في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقولون: ما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها. وهذا قول سعيد بن جبير والأكثرين (1) .
وقال ابن جريج: الكناية ترجع إلى القرآن (2) .
وقيل: إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ويجوز عندي: أن يعود الضمير إلى "صراط مستقيم" لقربه وصحة المعنى في ردّه إليه، واشتماله على القولين المذكورين في القرآن والرسول
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/277)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/444).
(2) ... أخرجه الطبري (17/192). وذكره السيوطي في الدر (6/69-70) وعزاه لابن المنذر.(1/100)
- صلى الله عليه وسلم - .
{ حتى تأتيهم الساعة بغتة } يعني: القيامة (1) ، { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } وهو ما أصابهم يوم بدر (2) . هذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين (3) .
وقال الواحدي (4) : حتى تأتيهم ساعة موتهم، أي: حتى يموتوا أو يقتلوا، وهو قوله: { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } .
فإن قيل: لم وصف يوم بدر بأنه عقيم؟
قلتُ: لأنه لم يُنْتِج [للكفار] (5) خيراً، ولأنه لا مثل له؛ لقتال الملائكة فيه.
__________
(1) ... قال ابن كثير في تفسيره (3/232): وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد، ولهذا قال: { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } ؛ كقوله: { مالك يوم الدين } [الفاتحة:4]، وقوله: { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً } [الفرقان:26].
(2) ... وهو اختيار ابن جرير الطبري (17/193) قال: وهذا القول أولى بتأويل الآية؛ لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو تأتيهم الساعة، وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضاً هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرتين باختلاف الألفاظ، وذلك ما لا معنى له.
(3) ... أخرجه الطبري (17/193)، والضياء المقدسي في المختارة (10/89) عن ابن عباس، وابن أبي حاتم (8/2503). وذكره السيوطي في الدر (6/70) وعزاه لابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ... الوسيط (3/277).
(5) ... في الأصل: للكافر. والتصويب من ب.(1/101)
وقيل: أصل العقم في الولادة، يقال: امرأة عقيم: [لا تَلِد] (1) ، ورجل عقيم: لا يُولد له (2) . وأنشدوا:
عَقِمَ (3) النساءُ فلا يَلِدْنَ شبيهَه ... إن النساءَ بمثلِهِ عُقْمُ (4)
فوصفَ يوم الحرب بالعقيم؛ لأن النساء يقتُلْن أولادهن كأنهن عُقْمٌ لم يلدن.
قوله تعالى: { الملك يومئذ } يعني: يوم القيامة { لله } يعني: لله وحده لا شريك له ولا منازع.
{ يحكم بينهم } أي: بين المؤمنين والكافرين.
ثم بيّن الحكم والفصل بينهم فقال: { فالذين آمنوا } إلى قوله: { عذاب مهين } .
ڑْïد%©!$#ur هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (5/444).
(2) ... انظر: زاد المسير (5/444-445).
(3) ... في الأصل: عقيم. والتصويب من ب، ومن مصادر البيت.
(4) ... البيت لأبي دهبل يمدح عبدالله بن الأزرق المخزومي. وقيل: هو للحزين الليثي. انظر البيت في: اللسان (مادة: عقم)، والقرطبي (16/48)، وزاد المسير (5/444).(1/102)
رِزْقًا حَسَنًا وَإِن اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِن اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ادةب
ثم ذكر فضل المهاجرين فقال: { والذين هاجروا في سبيل الله } . قال المفسرون: يعني: من مكة إلى المدينة (1) .
ويندرج في عموم اللفظ كل من هاجر ابتغاء مرضاة الله من مكة وغيرها.
{ ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً } وهو رزق الجنة.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/278)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/445) كلاهما بلا نسبة.(1/103)
وفي قوله: { وإن الله لهو خير الرازقين } تنبيه على عظمة ذلك الرزق وحُسْنه.
{ ليُدخلنهم مُدْخَلاً يرضونه } قد ذكرنا في سورة النساء (1) اختلاف القرّاء في "مُدْخَلاً"، وتعليل القراءتين.
{ وإن الله لعليم } بنياتهم { حليم } حيث تجاوز عن سيئاتهم.
قوله تعالى: { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به } أي: جازى الظالم بمثل ما ظلمه به.
قال الزجاج (2) : الأول لم يكن عقوبة، وإنما العقوبة الجزاء، ولكنه سُمي عقوبة؛ لأن الفِعلَ الذي هو عقوبة كان جزاء، فسمي الأول الذي جوزي عليه عقوبة؛ لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كما قال: { وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها } [الشورى:40].
وقال علي بن الحسين النحوي: "مَنْ" بمعنى الذي، و"عاقب" صلته، وقوله: { لينصرنه الله } خبر المبتدأ (3) ، ولا يكون قوله: "مَنْ عَاقَبَ" شرطاً؛ لأنه لا لام فيه، كما في قوله: { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } [الأعراف:18].
{ ثم بُغِيَ عليه } قال الحسن: قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بُغي عليه
__________
(1) ... عند الآية رقم: 31.
(2) ... معاني الزجاج (3/435).
(3) ... انظر: الدر المصون (5/162).(1/104)
بإخراجه من منزله (1) .
فعلى هذا يكون التقدير: ثم كان قد بغي عليه.
{ لينصرنه الله } يعني: المظلوم بنصره على الباغي عليه.
وفي قوله: { إن الله لعفو غفور } تنبيه للمجني عليه وتلويح له، ليتصف بما اتصف الله تعالى به من العفو والمغفرة.
وقال مقاتل (2) : سبب نزول هذه الآية: أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلة بقيت من المحرّم، فقاتلوهم، فناشدهم المسلمون الله أن لا (3) يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبوا إلا القتال، فثبت المسلمون ونصرهم الله تعالى، ونزلت هذه الآية.
فالمعنى: إن الله لعفو عن المسلمين، غفور لهم قتالهم في الشهر الحرام.
ڑپد9؛sŒ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/278)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/446).
(2) ... تفسير مقاتل (2/388). وانظر: الطبري (17/195)، وابن أبي حاتم (8/2503). وذكره السيوطي في الدر (6/71) وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل.
(3) ... ساقط من ب.(1/105)
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَن اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِن اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ادحب
قوله تعالى: { ذلك } أي: ذلك النصر بسبب أنه سبحانه وتعالى قادر على الانتقام من الباغي. ومن قدرته: أنه { يولج الليل في النهار ويولج النهار في(1/106)
الليل } وقد فسرنا ذلك في آل عمران (1) .
{ وأن الله } تعالى { سميع } لأقوالهم، عليم (2) بنياتهم ومقادير جزائهم.
{ ذلك } الذي فعل من نصر المؤمنين وإيلاج أحد الجديدين في الآخر { بأن الله } أي: بسبب أن الله { هو الحق } الثابت الإلهية، { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } ؛ لأنه لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء، { وأن الله هو العلي } العالي على كل شيء بقدرته { الكبير } الذي يَصْغُرُ كل شيء بالنسبة إلى عظمته.
قوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } يعني: المطر { فتصبح الأرض مخضرة } يعني: بالنبات.
قال الخليل (3) : معنى الكلام: التنبيه، كأنه قال: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا (4) .
وقال ثعلب: لو كان استفهاماً والفاء شرطاً لنَصَبْتَه (5) .
وقال الزمخشري (6) : إن قلت: ما له رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟
قلتُ: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض؛ لأن معناه إثبات
__________
(1) ... عند الآية رقم: 27.
(2) ... نص الآية القرآنية: { سميع بصير } .
(3) ... انظر قول الخليل في: الدر المصون (5/163)، والبحر (6/355)، والكتاب لسيبويه (3/40).
(4) ... جملة: "كذا وكذا" هي كناية على الأحدوثة. حكاها سيبويه (2/170).
(5) ... انظر قول ثعلب في: زاد المسير (5/447).
(6) ... الكشاف (3/170).(1/107)
الاخضرار، فيقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله: أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمتُ عليك فتشكر. إن نصبْتَه فأنت نافٍ لشكره شاكٍ تفريطه، وإن رفعْتَه فأنت مُثْبِتٌ للشكر.
{ إن الله } تعالى { لطيف } باستخراج أرزاق عباده من بلاده، موصول (1) إليهم فضله من حيث لا يشعرون، { خبير } بمصالحهم ومنافعهم.
{ له ما في السموات وما في الأرض } عبيداً وملكاً، { وإن الله لهو الغني } عنهم، { الحميد } : سبق تفسيره.
وحاصل القول فيه: أنه فَعِيلٌ بمعنى مفعول أو فاعل، بمعنى: الحامد لأوليائه وأهل طاعته.
َOs9r& تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) ... في ب: موصل.(1/108)
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ اددب
قوله تعالى: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } أي: ذَلَّلَ لكم ما فيها من البهائم، { والفلك تجري } أي: وسخر لكم السفن تجري { في البحر } لمعايشكم ومصالحكم، { بأمره ويمسك السماء أن تقع } أي: كراهية أن تقع { على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فيما سخر لهم وحبس عنهم.
والرؤوف مفسر فيما مضى.
{ وهو الذي أحياكم } بعد أن كنتم نطفاً ثم مضغاً ثم عَلَقاً لا حياة فيكم، { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يحييكم } للبعث والحساب، { إن الإنسان لكفور } لجحود لنعم الله حيث لم يُوحِّدْه.
بe@ن3دj9 أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ(1/109)
إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ادزب
قوله تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكاً } سبق تفسيره في هذه السورة (1) .
{ هم ناسكوه } عاملون به.
{ فلا ينازعنك في الأمر } قال المفسرون: يعني: في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعنون: الميتة (2) .
وقيل: هو نهي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكِّنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمنازعة في الدين، وهم جُهّال لا علم عندهم.
__________
(1) ... عند تفسير الآية رقم: 34.
(2) ... انظر: الطبري (17/199)، والوسيط (3/279).(1/110)
وقال الزجاج (1) : هو نهي له عن منازعتهم، كما تقول: لا يُضَاربنَّكَ فلان، أي: لا تضاربه. وهذا جائز في القول الذي لا يكون إلا بين اثنين. ولا يجوز هذا في قولك: لا يَضربنَّكَ فلان وأنت تريد: لا تضْربَنَّه.
قوله تعالى: { وادع إلى ربك } أي: إلى دينه والإيمان به، { إنك لعلى هدى مستقيم } .
قال الزمخشري (2) : المراد: زيادة التثبيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يهيج حميته ويُلْهِبُ غضبه لله تعالى ولدينه، ومنه قوله: { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } [القصص:87]، { ولا تكونن من المشركين } [الأنعام:14]، { فلا تكونن ظهيراً للكافرين } [القصص:86]. وهيهات أن ترتع همة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول ذلك الحمى، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب.
قوله تعالى: { وإن جادلوك } أي: خاصموك في أمر الذبيحة والدين وأبوا إلا الإصرار على المكابرة والمعاندة { فقل الله أعلم بما تعملون } من التكذيب.
المعنى: وهو لكم مُجاز.
{ الله يحكم بينكم } أيها المسلمون والمشركون { يوم القيامة } حكم فصل وجزاء { فيما كنتم فيه تختلفون } في الدنيا من أحكام الدين.
__________
(1) ... معاني الزجاج (3/437).
(2) ... الكشاف (3/171).(1/111)
فصل
أكثر المفسرين يقولون: هذا منسوخ بآية السيف، وبعضهم يقول: هذا في حق المنافقين وكانت تظهر منهم فَلَتاتٌ، فإذا عوتبوا أنكروا وحلفوا وجادلوا. فعلى هذا: لا نسخ (1) .
َOs9r& تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي
__________
(1) ... الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:128)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:400).(1/112)
وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اذثب
قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } استفهام في معنى التقرير. أي: قد علمت ذلك.
وقوله: { إن ذلك في كتاب } تحقيق لعلم الله تعالى، والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ.
{ إن ذلك } يعني: العلم بما في السماء والأرض { على الله يسير } لا يتعذر عليه.
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً } حجة ظاهرة من دليل نقلي أو برهان عقلي، { وما ليس لهم به علم } يريد: الأصنام، فإنهم لا يعلمون أنها آلهة بوجه من الوجوه، { وما للظالمين } الذين ارتكبوا مثل(1/113)
هذا الظلم الفظيع والجهل الشنيع { من نصير } ينصرهم ويُصوِّبُ مذهبهم، أو منيع يمنعهم من العذاب.
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا } يعني: القرآن، { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } أي: أثر الإنكار من الكراهة والتعبيس والتقطيب، { يكادون يسطون } يَثِبُون ويبطشون { بالذين يتلون عليهم آياتنا } محمد وأصحابه كراهة لما جاؤوا به، { قل } لهم يا محمد { أفأنبئكم بشر من ذلكم } أي: بأشد عليكم وأكره إليكم من هذا القرآن، ثم بيّنه فقال: { النارُ } أي: هو النار.
وقُرئ شاذاً: "النارَ" بالنصب على الاختصاص، وبالجر على البدل من "بِشَرٍّ" (1) .
{ وعدها الله الذين كفروا } كلام مستأنف. ويجوز أن يكون "النار" مبتدأ وما بعده الخبر (2) ، { وبئس المصير } تفسيره.
$ygoƒr'¯"tƒ النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/167)، والتبيان (2/146)، والبحر المحيط (6/359).
(2) ... انظر: المصادر السابقة.(1/114)
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اذحب
قوله تعالى: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: الذي جاء به ليس بمَثَل، فكيف سمّاه مَثَلاً؟
قلتُ: قد سُمّيت الصفة أو القصة الرائعة المتلقّاة بالاستحسان والاستغراب: مَثَلاً؛ تشبيهاً لها ببعض الأمثال المُسَيَّرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم.
{ إن الذين تدعون } وقرأ يعقوب: "يدعون" بالياء (2) . ووجه القراءتين ظاهر.
__________
(1) ... الكشاف (3/172).
(2) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:317)، والنشر (2/327).(1/115)
والمعنى: أن الأوثان الذين تدعونهم آلهة { من دون الله لن يخلقوا ذباباً } الذي هو أقلّ مخلوقات الله وأحقرها.
قوله تعالى: { ولو اجتمعوا له } في محل الحال (1) ، كأنه قيل: مُحالٌ أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه.
ثم بالغ في وصفهم بالعجز فقال: { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } أي: وإن يسلبهم الذباب الذي هو أحقر المخلوقات وأضعفها من الآلهة التي عبدوها شيئاً من الأشياء { لا يستنقذوه منه } أي: لا يستخلصوه منه، فكيف اتخذوها آلهة. وهي النهاية في العجز المُنافي للإلهية.
قال ابن عباس: كانوا يَطْلُون أصنامهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه فلا [يقدرون أن يَستردُّوه] (2) من الذباب ويستنقذوه منه (3) .
وقال السدي: كانوا يجعلون لآلهتهم طعاماً فيقع الذباب عليه فيأكل منه (4) .
{ ضعف الطالب والمطلوب } أي: ضعف الصنم والذباب، فهو على معنى التسوية بينهم في الضعف.
وعند التحقيق تجد الصنم أضعف من الذباب؛ لأنه جماد، والذباب حيوان.
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/169).
(2) ... في الأصل: يقدون أن يستردونه. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/280)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/452).
(4) ... مثل السابق.(1/116)
وقال السدي: "الطالب": عابد الصنم، "والمطلوب": الصنم (1) .
{ ما قدروا الله حق قدره } أي: ما عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق عظمته، حيث جعلوا ما هو أعجز من الذباب وأحقر شركاءه في الإلهية.
{ إن الله لقوي عزيز } فكيف يعدلون به الضعيف الذليل.
ھ!$# يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِن اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ اذدب
قوله تعالى: { الله يصطفي من الملائكة رسلاً } يعني: كجبريل وميكائيل، { ومن الناس } كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين، { إن الله سميع } لما يجهر به العبد ويخفيه { بصير } [بمن] (2) يختصه
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/280)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/452).
(2) ... زيادة من ب.(1/117)
[للرسالة] (1) ويصطفيه.
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله (2) : الإشارة إلى الذين تقدم ذكرهم من الملائكة والناس، { وإلى الله ترجع الأمور } مفسر في البقرة (3) .
والمراد: الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بالأشياء، وأن إليه المرجع في الانتهاء، والتنبيه على أن من كان بهذه المثابة لا يجوز أن يُعترض له في تدبيره وقضائه واختياره واصطفائه.
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
__________
(1) ... في الأصل: بالرسالة. والتصويب من ب.
(2) ... زاد المسير (5/453).
(3) ... عند الآية رقم: 210.(1/118)
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ اذرب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } قال المفسرون: صلُّوا؛ لأن الصلاة تشتمل على الركوع والسجود (1) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/281)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/454).(1/119)
{ واعبدوا ربكم } وحِّدُوه.
وقيل: اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجهه سبحانه وتعالى.
{ وافعلوا الخير } أبواب البرِّ كلها؛ من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق.
أمرهم سبحانه وتعالى بالصلاة على سبيل التعيين؛ لعظم خطرها، ثم عَقَّبَ ذلك بالأمر بغيرها من أفعال الخير على سبيل العموم.
{ لعلكم تفلحون } أي: افعلوا هذا وأنتم راجون الفلاح.
وقد قررنا هذا فيما مضى، وذكرنا أقوال العلماء في معنى "لعلَّ".
فصل
لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في السجدة الأولى من هذه السورة، واختلفوا في الثانية؛ فذهب عمر وابنه وعمار وأبو الدرداء وابن عباس في آخرين: إلى أنها سجدة وقالوا: فُضِّلَت على سائر السور بسجدتين (1) ، وإليه ذهب إمامنا والشافعي (2) .
واحتج القائلون بهذا بما روي عن عقبة بن عامر قال: (( قلت: يا رسول الله! في الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما )) (3) .
وذهب الحسن وسعيد بن المسيب وإبرهيم النخعي وأبو حنيفة ومالك إلى أنها ليست بسجدة. وعلل بعضهم باقتران الركوع بها، فدل على أنها سجدة
__________
(1) ... أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (1/372 ح4287) عن ابن عمر عن عمر: ((أنه سجد في الحج سجدتين ثم قال: إن هذه السورة فضلت على سائر السور بسجدتين)).
(2) ... انظر: زاد المسير (5/454).
(3) ... أخرجه أبو داود (2/58 ح1402)، والترمذي (2/470 ح578).(1/120)
صلاة، لا سجدة تلاوة.
قوله تعالى: { وجاهدوا في الله حق جهاده } وحمل أكثر المفسرين الجهاد هاهنا على جميع أفعال الطاعة، وقالوا: حق الجهاد: إخلاص العمل من شوائب الرياء.
وقال الضحاك: هو جهاد الكفار (1) ، وهو مُندرجٌ في القول الأول.
وقال ابن المبارك: هو جهاد النفس والهوى (2) . ولعمري إنه أكبر الجهاد وأشَقُّه.
{ هو اجتباكم } اختاركم لدينه، { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي: من ضيق، بل وسّع عليكم وسهّل لكم السُّبُل التي ضيّقها على بني إسرائيل، على ما ذكرناه في سورة الأعراف. وهذا معنى قول ابن عباس (3) .
وقال مقاتل (4) : يعني: الرُّخَص عند الضرورة؛ كالقَصْر، والتيمم، وأكل الميتة، والإفطار في المرض والسفر.
وقيل: ما جعل عليكم في الدين من حرج بل فتح لكم باب التوبة.
{ ملة أبيكم إبراهيم } قال الأخفش والفراء والمبرد والزجاج (5) : المعنى: عليكم ملة أبيكم إبراهيم.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/281)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/455).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/456).
(4) ... انظر: تفسير مقاتل (2/391)، والوسيط (3/282)
(5) ... معاني الفراء (2/231)، ومعاني الزجاج (3/440).(1/121)
وقيل: النصب على الاختصاص، تقديره: أعني بالدين ملة أبيكم (1) .
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله (2) : إن قيل: هذا الخطاب للمسلمين وليس إبراهيم أباً لكلهم؟
فالجواب: أنه [إن] (3) كان خطاباً عاماً للمسلمين، فهو كالأب لهم؛ لأن حرمته وحقه عليهم كحق الوالد. وإن كان خطاباً للعرب خاصة؛ فإبراهيم أبو العرب قاطبة. هذا قول المفسرين.
قال: والذي يقع لي: أن الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن إبراهيم أبوه، وأمّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داخلة فيما خوطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى: { هو سماكم المسلمين من قبل } قال ابن عباس: المعنى: الله سمّاكم المسلمين من قبل نزول القرآن في الكتب السالفة المتقدمة، { وفي هذا } الكتاب (4) .
وقال ابن زيد: المعنى: إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل، حين قال: { ربنا واجعلنا مسلمين لك } ، وفي هذا وهو قوله: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } (5) [البقرة:128].
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/169).
(2) ... زاد المسير (5/456).
(3) ... زيادة من زاد المسير، الموضع السابق.
(4) ... أخرجه الطبري مختصراً (17/207)، وكذا ابن أبي حاتم (8/2507). وذكره الواحدي في الوسيط (3/282) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (5/457)، والسيوطي مختصراً في الدر (6/80) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... أخرجه الطبري (17/208)، وابن أبي حاتم (8/2507). وذكره السيوطي في الدر (6/81) وعزاه لابن أبي حاتم.
... قال ابن جرير الطبري بعدما ذكر رواية ابن زيد: ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك؛ لأن معلوم أن إبراهيم لم يسم أمة محمد مسلمين في القرآن؛ لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل.(1/122)
والأول أصح.
قوله تعالى: { ليكون الرسول } أي: اجتباكم وسمّاكم بهذا الاسم الأكرم ليكون الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - { شهيداً عليكم } يوم القيامة بالتبليغ، { وتكونوا شهداء على الناس } بأن رسلهم بلّغتهم.
ولما ذكّرهم بالنعم أمرهم بالشكر فقال: { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله } قال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يُسْخِطُ ويَكْرَه (1) .
وقال الحسن: "واعتصموا بالله": تمسكوا بدينه (2) .
{ هو مولاكم } ناصركم ومعينكم، { فنعم المولى ونعم النصير } مفسر فيما مضى (3) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/457).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/282)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/457).
(3) ... في سورة الأنفال عند الآية رقم: 40.(1/123)
سورة [المؤمنون] (1)
ijk
وهي مائة وتسع عشرة آية بإجماعهم.
أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (( كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يُسمع عند وجهه كدويّ النحل، فمكثنا ساعة واستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقُصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا، [وأعطنا] (2) ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضَ عنا. ثم قال: لقد أُنزلت علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ: { قد أفلح المؤمنون } إلى عشر آيات )) (3) .
وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [قال] (4) : (( إن الله حاط حائط الجنة لَبِنَة من ذهب ولَبِنَة من فضة، وغرس غرسها بيده، فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون. فقال لها: طُوبى لك منزل الملوك )) (5) .
ô‰s% أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
__________
(1) ... في الأصل و ب: المؤمنين.
(2) ... زيادة من مسند أحمد ومستدرك الحاكم.
(3) ... أخرجه أحمد (1/34 ح223)، والحاكم (2/425 ح3479).
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه الطبراني في الأوسط (4/99 ح3701).(1/124)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)(1/125)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ اتتب
قوله: { قد أفلح المؤمنون } قال الفراء (1) : "قد" هاهنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال؛ لأن "قد" تُقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: "قد قامت الصلاة" قبل حال قيامها، فيكون المعنى في الآية: أن الفلاح قد حصل [لهم] (2) وأنهم عليه في الحال (3) .
وقال الزمخشري (4) : "أفلح" دخل في الفلاح، كأبْشَرَ: دخل في البشارة، ويقال: أفلحه: أصاره إلى الفلاح، وعليه قراءة طلحة بن مصرّف: "أُفْلِحَ"، على البناء للمفعول (5) .
__________
(1) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: الوسيط (3/284)، وزاد المسير (5/459).
(2) ... زيادة من ب.
(3) ... قال الزركشي في البرهان (4/305): واعلم أنه ليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جواباً لمتوقع، كقوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون } ؛ لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله.
(4) ... الكشاف (3/177).
(5) ... انظر: الدر المصون (5/171)، والبحر (6/365).(1/126)
وقال ابن عباس: معناه: قد سَعِدَ المصدِّقون وبَقُوا في الجنة (1) .
قوله تعالى: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال أبو هريرة: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } ، فنكَّس رأسه )) (2) .
قال ابن عباس: خشع من خوف الله، فلا يعرف مَنْ على يمينه ولا مَنْ على يساره (3) .
وقال بعض أرباب الإشارات: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعاً: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التام، وجمع الهمّ (4) .
وقال عصام بن يوسف لحاتم الأصم: هل تُحسن تُصلي؟ قال: نعم، قال: ممن تعلمت؟ قال: من شقيق بن إبراهيم. قال: كيف تصلي؟ قال: إذا تقارب وقت الصلاة أسبغت [الوضوء] (5) ، ثم أستوي في الموضع الذي أُصلِّي فيه حتى يستقر كل عضو مني، وأرى الكعبة بين حاجِبيَّ، والمقام حيال
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/284).
(2) ... أخرجه البيهقي في سننه (2/282 ح3357)، والحاكم (2/426 ح3483) وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد بن سيرين، فقد قيل عنه مرسلاً، ولم يخرجاه. وعقب الذهبي بأن الصحيح أنه مرسل.
... وذكره السيوطي في الدر (6/84) وعزاه لابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/284).
(4) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/116) عن أبي الدرداء.
(5) ... في الأصل: الضوء. والتصويب من ب.(1/127)
صدري، والله فوقي، وكأنّ قدميَّ على الصراط، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، ومَلَكُ الموت من خلفي، وأظن أنها آخر صلاتي، ثم أُكَبِّرُ بإخبات، وأقرأ بالتفكُّر، وأركع بالتواضع، وأسجد بالتضرع، ثم أتشهد على الرجاء، وأُسلِّم بالإخلاص، وقد أدَّيتها بأكل الحلال، وأنا بين الخوف والرجاء، لا أدري قُبلت أم رُدّت. فقال: يا حاتم هكذا صلاتك؟ قال: هكذا صلاتي منذ ثلاثين سنة. فبكى عصام وعانقه طويلاً حتى ابتلّ رداؤه (1) .
قوله تعالى: { والذين هم عن اللغو معرضون } قال الزجاج (2) : "اللغو" كل باطل ولهو وهَزْل ومعصية، وما لا يجمل في القول والفعل. وهذا يشمل قول ابن عباس: هو الشرك (3) ، وقول الحسن: المعاصي (4) ، وقول السدي: الكذب (5) .
وقال مقاتل (6) : اللغو: ما كانوا يسمعونه من الكفار من الشتم والأذى.
قوله تعالى: { والذين هم للزكاة فاعلون } أي: مُؤدُّون، فعبّر عن التأدية بالفعل؛ لأنه فِعْل.
قال صاحب الكشاف (7) : الزكاة: اسم مشترك بين عين ومعنى. فالعين:
__________
(1) ... انظر: حلية الأولياء (8/74).
(2) ... معاني الزجاج (4/6).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/284)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/460).
(4) ... أخرجه الطبري (18/3). وذكره السيوطي في الدر (6/87) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر.
(5) ... ذكره الماوردي (4/46)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/460).
(6) ... تفسير مقاتل (2/392).
(7) ... الكشاف (3/179-180).(1/128)
القدر الذي يخرجه المُزَكِّي من النصاب إلى الفقير. والمعنى: فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله تعالى، فجعل المزكِّين فاعلين له، ولا يسوغ فيه غيره؛ لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدّثه: فاعل، تقول للضارب: فَاعِلُ الضَّرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكِّي: فاعل التزكية. والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: مَنْ فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله تعالى أو بعض الخلق. ولم تمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون، لخروجها من صحة تناولها الفاعل، ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
المطْعِمُون الطعام في السَّنة الأزْ ... مَةِ والفاعِلُون للزكوات (1)
ويجوز أن [يراد] (2) بالزكاة العين، ويُقدَّر مضاف محذوف وهو الأداء، وحَمْلُ البيت على هذا أصح؛ لأنها فيه مجموعة.
قوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون } قال ابن السائب: يَعُفُّون عما لا يحلّ لهم (3) .
__________
(1) ... البيت لأمية بن أبي الصلت، وهو في: البحر (6/366)، والدر المصون (5/173)، والكشاف (3/179)، والقرطبي (12/105)، وروح المعاني (18/5).
... والأزمة: يريد اشتد القحط وقلّ الخير، يقول: إنهم يطعمون الطعام للناس عند الحاجة ويؤدون زكاة أموالهم. والشاهد في قوله: "والفاعلون للزكوات" حيث أسند الأداء إليهم.
(2) ... في الأصل: يرد. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/284).(1/129)
{ إلا على أزواجهم } قال الفراء (1) : "على" بمعنى "مِنْ".
وقال الزمخشري (2) : "على أزواجهم" في موضع الحال، أي: إلاّ وَالِينَ على أزواجهم، أو [قوّامين] (3) عليهنّ، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان.
والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حال تَزَوُّجهم أو تَسَرِّيهم، أو تعلق "على" بمحذوف يدل عليه { غير ملومين } ، كأنه قيل: يُلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم من الأزواج والإماء المملوكات، { فإنهم غير ملومين } . وهذا معنى قول الزجاج (4) .
فإن قلت: فهلا قيل: مَنْ ملكت؟
قلتُ: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
قوله تعالى: { فمن ابتغى وراء ذلك } أي: طلب سوى الأزواج والإماء المملوكات، { فأولئك هم العادون } في طلبهم وتجاوُزهم إلى ما لا يحلّ لهم.
قوله تعالى: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } قرأ ابن كثير: "لأمانتهم" على التوحيد، على أنه مصدر أو اسم جنس، وهي عامة في جميع
__________
(1) ... معاني الفراء (2/231).
(2) ... الكشاف (3/180).
(3) ... في الأصل: قومين. والتصويب من ب.
(4) ... معاني الزجاج (4/6).(1/130)
ما اؤتُمن عليه العبد فيما بينه وبين الله تعالى أو بين الناس، وكذلك العهد.
وقيل: سُمِّيَ الشيء المؤتمنُ عليه والعهد عليه: أمانةً وعهداً، ومنه قوله: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [النساء:58]، وإنما تؤدى العيون لا المعاني.
وأصل الرَّعْي: القيام بحفظ الشيء وإصلاحه، ومنه: الرَّاعي.
قوله تعالى: { والذين هم على صلواتهم } وقرأ حمزة والكسائي: "صلاتهم" على التوحيد (1) ، وهو اسم جنس. والمراد بالمحافظة عليها: أداؤُها في أوقاتها على الوجه المشروع.
قوله تعالى: { أولئك } يعني: الجامعين لهذه الأوصاف { هم الوارثون } .
ثم بيّن ما يرثونه فقال: { الذين يرثون الفردوس } وقد سبق معنى الإرث (2) ومعنى الفردوس (3) فيما مضى.
{ هم فيها خالدون } أنّث الفردوس على تأويل الجنة.
ô‰s)s9ur خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/177)، والحجة لابن زنجلة (ص:483)، والكشف (2/125)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:317)، والسبعة (ص:444).
(2) ... في سورة مريم، آية رقم: 6.
(3) ... في سورة الكهف، آية رقم: 107.(1/131)
قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ اتح ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ اتدب
قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة } قال سلمان الفارسي: المراد(1/132)
بالإنسان: آدم عليه السلام (1) .
وإنما قيل له سلالة؛ لأنه استُلَّ من جميع الأرض. وإلى هذا المعنى ذهب قتادة (2) .
وقيل: المراد بالإنسان: ولد آدم، وهو اسم جنس يقع على الجميع (3) .
فعلى هذا؛ "السلالة": النطفة، سُميّت بذلك؛ لأنها استُلَّتْ من الطين، وهو آدم عليه السلام (4) .
والقولان عن ابن عباس.
وقال عكرمة: "السلالة": الماء يُسَلُّ من الظهر سَلاًّ (5) .
{ ثم جعلناه نطفة } يعني: جعلنا جوهر الإنسان نطفة بعد أن كان طيناً، { في قرار مكين } وهو الرَّحم. والمَكِين: الحَرِيز.
وما بعده مُفسّر في الحج (6) إلى قوله: { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً } وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: "عظماً" (7) على التوحيد
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/462).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الطبري (18/7)، والواحدي في الوسيط (3/285).
(4) ... ذكره الطبري، والواحدي في الموضعين السابقين، وابن الجوزي في زاد المسير (5/462).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/285)، والسيوطي في الدر (6/90-91) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ... آية رقم: 5.
(7) ... الحجة للفارسي (3/177-178)، والحجة لابن زنجلة (ص:484)، والكشف (2/126)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:318)، والسبعة (ص:444).(1/133)
في الموضعين، على إرادة الجمع بلفظ الواحد لزوال اللبس، فإن الإنسان ذو عظام كثيرة، كما قال:
......................... ... ... في حلْقِكُم عظمٌ وقد شَجِينا (1)
يريد: في حُلُوقِكُم.
قوله تعالى: { ثم أنشأناه خلقاً آخر } هو استواء الشباب.
وقال الحسن: كونه ذكراً أو أنثى (2) .
وقيل: ما [أودع] (3) فيه من العقل والفهم (4) .
{ فتبارك الله أحسن الخالقين } أي: المقدِّرين والمصوِّرين.
وفي الحديث: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية وعنده عمر، فلما بلغ قوله تعالى: { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد ختمت بما تكلمت به يا ابن الخطاب )) (5) .
فإن قيل: هل من [خالق] (6) غير الله حتى [قال] (7) : { أحسن الخالقين } ؟
__________
(1) ... عجز بيت للمسيب بن زيد مناة، وصدره: (لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبِينا). انظر البيت في: اللسان، (مادة: شجا)، والدر المصون (5/177)، والقرطبي (1/190).
(2) ... ذكره الماوردي (4/48)، والواحدي في الوسيط (3/286)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/463).
(3) ... في الأصل: أدع. والتصويب من ب.
(4) ... ذكره الماوردي (4/48)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/463).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/463).
(6) ... زيادة من ب.
(7) ... زيادة من ب.(1/134)
قلتُ: قد سبق فيما مضى أن الخلق في اللغة: التقدير، ومنه:
ولأنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ القوم يخلُقُ ثم لا يَفْرِي (1)
فالمعنى: أحسن المقدرين والصانعين للأشياء.
قوله تعالى: { ثم إنكم بعد ذلك } أي: بعد تمام الخلق { لميتون } عند انقضاء آجالكم.
وقرأ أبو رزين العقيلي وعكرمة: "لمايتون" (2) .
قال الفراء (3) : العرب تقول لمن لم يمت: إنك مائتٌ عن قليل وميّتٌ، ولا يقولون للميت الذي قد مات: هذا مائت، إنما يقال في الاستقبال فقط.
ô‰s)s9ur خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ t,ح !#tچsغ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ اتذب
قوله تعالى: { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } يعني: السموات السبع.
__________
(1) ... البيت لزهير يمدح رجلاً، انظر: ديوانه (ص:94)، واللسان (مادة: خلق، فرا)، والبحر (6/369)، والدر المصون (1/146، 5/177)، والطبري (18/11)، والقرطبي (1/226، 12/110)، وزاد المسير (5/464، 8/228)، وروح المعاني (18/16، 234).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/464)، والدر المصون (5/178).
(3) ... معاني الفراء (2/232).(1/135)
قال ابن قتيبة (1) : سميت طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض. يقال: طارقت الشيء؛ إذا جعلت بعضه فوق بعض (2) .
وقيل: سُميت بذلك؛ لأنها طرق الملائكة.
{ وما كنا عن الخلق } أي: عن مصالح الخلق وما يحتاجون إليه من الأرزاق وغيرها { غافلين } .
$uZّ9t"Rr&ur مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:296).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: طرق).(1/136)
سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ اثثب
قوله تعالى: { وأنزلنا من السماء ماء بقدر } فسّرناه عند قوله في الحِجْر: { وما ننزله إلا بقدر معلوم } (1) .
وقوله: { فأسكناه في الأرض } مثل قوله: { فسلكه ينابيع في الأرض } [الزمر:21]، وقد جاء في حديث ليس إسناده بالقائم، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الله عز وجل أنزل من الجنة خمسة أنهار: سَيْحُون وهو نهر الهند، وجَيْحُون نهر بلخ، ودجلة والفُرات وهما نهرا العراق، والنِّيل وهو
__________
(1) ... الآية رقم: 21.(1/137)
نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة [من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل] (1) ، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع في أصناف معايشهم، فذلك قوله: { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم كله، والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى [بما فيه] (2) ، وهذه الأنهار الخمسة، يرفع ذلك كله إلى السماء، فذلك قوله: { وإنا على ذهاب به لقادرون } ، فإذا رُفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أهلها خير الدين والدنيا )) (3) .
قوله تعالى: { فأنشأنا لكم به } أي: بالماء { جنات } بساتين { من نخيل وأعناب } .
ثم بيَّنَ أن ثمرهما جامع بين أمرين:
أحدهما: أنه فاكهة يُتَفَكَّهُ بها.
والثاني: أنه طعام يؤكل، فذلك قوله تعالى: { لكم فيها فواكه كثيرة } ، يعني: تتفكَّهون بها رَطْبَة، { ومنها تأكلون } يعني: يابسة.
قوله تعالى: { وشجرة تخرج من طور سيناء } يريد: الزيتون.
__________
(1) ... زيادة من مصادر التخريج.
(2) ... مثل السابق.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/286-287)، والسيوطي في الدر (6/95) وعزاه لابن مردويه والخطيب بسند ضعيف.(1/138)
خَصَّ الله سبحانه وتعالى هذه الأنواع الثلاثة، وهي النخيل والأعناب والزيتون بالذِّكْر في معرض الامتنان على عباده وتذكيرهم بنعمه؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع.
واختلف القُرَّاء في "سيناء"؛ فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بفتح السين، والباقون بكسرها (1) .
وقرأ الأعمش: "سِيْنى" بالقصر (2) .
قال أبو علي (3) : لا تنصرف هذه الكلمة؛ لأنها جعلت اسماً لبقعة أو أرض، ولو كانت اسماً للمكان أو للمنزل أو نحو ذلك من الأسماء المذكّرة لصُرِفَت؛ لأنك كنت قد سمّيت مذكراً بمذكر.
قال الضحاك: "الطور": الجبل بالسريانية، و"سَيْنَاء": الحَسَن بالنبطية (4) .
وقال عطاء: يريد: الجبل الحَسَن (5) .
وقال ابن السائب: يريد: الجبل المُشْجِر (6) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/178)، والحجة لابن زنجلة (ص:484)، والكشف (2/126)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:318)، والسبعة (ص:444-445).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/178).
(3) ... الحجة (3/179).
(4) ... أخرج الطبري في تفسيره (18/13) عن عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: { من طور سيناء } "الطور": الجبل بالنبطية، و"سيناء": حسنة بالنبطية.
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/287)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/466).
(6) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/287)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/466)، والسيوطي في الدر (6/96) وعزاه لعبدالرزاق وابن المنذر، ولفظه: جبل ذو شجر.(1/139)
وقوله راجع إلى معنى الذي قبله؛ لأنه بالشجر صار حَسَناً.
قال ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى، وهو بين مصر وأيْلَة (1) .
قوله تعالى: { تُنبت بالدهن } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "تُنبِتُ" بضم التاء وكسر الباء، وقرأ الباقون بفتح التاء (2) .
قال الفراء (3) : هما لغتان، يقال: نبتت وأنبتت، وأنشد الزجاج (4) قول زهير:
رأيتُ ذوي الحاجاتِ حَوْلَ بُيوتهم ... ... قَطِيناً لهم حتى إذا أنبتَ البَقْل (5)
وقيل: المفعول على قراءة أبي عمرو وابن كثير محذوف، أي: تنبت الزيتون وفيه الدهن.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/14).
(2) ... الحجة للفارسي (3/180)، والحجة لابن زنجلة (ص:484-485)، والكشف (2/127)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:318)، والسبعة (ص:445).
(3) ... معاني الفراء (2/232-233).
(4) ... معاني الزجاج (4/10).
(5) ... البيت لزهير من قصيدة في مدح هرم بن سنان وقومه. وقبله:
... ... ... إذا السَّنَةُ الشَّهْباءُ بالناسِ أجْحَفَتْ ... ونَالَ كِرامُ المال في السنةِ الأكْل
... انظر: ديوانه (ص:111)، والمحتسب (2/89)، ومعاني الفراء (2/233)، والدر المصون (4/316، 5/180)، والبحر (6/371)، واللسان (مادة: نبت، قطن)، والطبري (18/14)، والقرطبي (10/83، 12/116)، وزاد المسير (5/467)، وروح المعاني (14/106، 18/22)، وجمهرة اللغة (ص:257، 262)، وخزانة الأدب (1/50).
... وقوله: قطيناً، القطين: الحَشَمُ وسُكّان الدار.(1/140)
وقال أبو عبيدة (1) : معنى الآية: تنبت الدهن، والباء زائدة؛ كقوله: { ومن يرد فيه بإلحاد } [الحج:25].
وقال الزجاج (2) : المعنى: تنبت وفيها الدهن، كما تقول: جاءني بالسيف، أي: جاءني ومعه السيف.
فعلى قوله؛ الباء في محل الحال (3) .
{ وصبغٍ } وقرأ ابن مسعود والأعمش: "وصِبْغاً" بالنصب (4) .
وقرأ ابن السميفع: "وصِبَاغٍ" بألف مع الجر (5) .
ووجه الجر والنصب ظاهر.
والمراد: الزيت؛ لأنه يُلوِّنُ الخبز إذا غُمِسَ فيه للإدام.
قوله تعالى: { ولكم فيها منافع كثيرة } يعني: من الحمل والركوب والأصواف والأشعار والجلود وغير ذلك.
{ ومنها تأكلون } أي: ومن لحومها وأولادها.
{ وعليها } يريد: الإبل خاصة، { وعلى الفلك تحملون } هذه في البر وهذه في البحر.
ô‰s)s9ur أَرْسَلْنَا نُوحًا
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/56).
(2) ... معاني الزجاج (4/10).
(3) ... انظر: التبيان (2/148)، والدر المصون (5/180).
(4) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:318).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/468)، والدر المصون (5/180).(1/141)
إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي $uZح !$t/#uن الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ اثخب
ثم إن الله تعالى عزى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أن تكذيب الأمم أنبياءهم ليس ببِدْع، فذلك قوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله(1/142)
ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم } وقد سبق تفسير ذلك كله (1) .
{ يريد أن يتفضل عليكم } أي: يطلب الفضل عليكم، ونظيره قولهم: { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } [يونس:78].
{ ولو شاء الله } أن لا يعبد سواه { لأنزل ملائكة } تبلغ عنه ولم يرسل بشراً آدمياً، { ما سمعنا بهذا } الذي تحضّنا عليه (2) وتدعونا إليه من التوحيد { في آبائنا الأولين } يريدون: الأمم السالفة.
{ إن هو إلا رجل به جِنَّة } أي: جنون. وقيل: جِنٌ يخبلونه.
{ فتربصوا به حتى حين } أي: انتظروا به الموت.
وقيل: المعنى: احتملوه واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.
tA$s% رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا
__________
(1) ... في سورة الأعراف، عند الآية رقم: 59.
(2) ... في الأصل زيادة: في. وهو وهم.(1/143)
وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ اجةب(1/144)
{ قال رب انصرني بما كذبون } أي: انصرني بسبب تكذيبهم إياي، أو انصرني بدل ما كذبونِ، كما تقول: هذا بذاك، أي: بدل ذلك (1) .
المعنى: أبْدِلْني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم.
وقيل: المعنى: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأعراف:59].
{ فأوحينا إليه } مفسرٌ في هود (2) إلى قوله: { فاسلك فيها } أي: أَدْخِلْ في سفينتك، يقال: سَلَكَ فيه؛ إذا دخله، وسلك غيره وأسْلَكَه (3) .
وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله: { وقل رب أنزلني مُنْزَلاً مباركاً } .
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "مَنزِلاً" بفتح الميم وكسر الزاي (4) . فالأول مصدر بمعنى الإنزال، تقول: أنزلته إنزالاً ومنزلاً. والثاني اسم لمكان النزول.
{ إن في ذلك } الذي جرى لنوح مع قومه وحديث السفينة { لآيات } لعِبَراً ودلالات على عظمة الله تعالى وقدرته وشدة انتقامه من أعدائه ومكذبي رسله، { وإن كنا لمبتلين } أي: وما كنا إلا مبتلين، أو هي المخففة من الثقيلة، على معنى: وإنَّ الشأن كنا مبتلين. أي: مصيبين قوم نوح ببلاء
__________
(1) ... في ب: ذاك.
(2) ... عند الآية رقم: 37.
(3) ... انظر: اللسان (مادة: سلك).
(4) ... الحجة للفارسي (3/181)، والحجة لابن زنجلة (ص:486)، والكشف (2/128)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:318)، والسبعة (ص:445).(1/145)
عظيم وعقاب شديد.
وقيل: المعنى: "وإن كنا لمبتلين" لمختبرين بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويذَّكَّر، كقوله تعالى: { ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [القمر:15].
¢OèO أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ(1/146)
مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(1/147)
(38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ احتب
قوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } قال أكثر المفسرين: هم قوم عاد (1) .
{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم } وهو هود عليه السلام.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود، والرسول: صالح (2) .
والأول أصح؛ لقوله تعالى في موضع آخر حكاية لقول هود: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [الأعراف:69]، وبدليل مجيء قصة هود عقيب قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء.
قوله تعالى: { أن اعبدوا الله } مفسرة لقوله: { فأرسلنا فيهم } ، أي: قلنا لهم
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/289)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/471).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/471). وهو اختيار الطبري (18/19).(1/148)
على لسان الرسول: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } سبق تفسيره.
{ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة } أي جحدوا البعث، { وأترفناهم في الحياة الدنيا } أي: نَعَّمْنَاهم ووسَّعْنا عليهم { ما هذا إلا بشر مثلكم } ، ثم حققوا معنى البشرية والمثلية بقولهم: { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } أي: مما تشربون منه، فحذف لدلالة ما قبله عليه.
{ ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } لمغبونون في عقولكم وآراكم.
{ أيعدكم } استفهام في معنى الإنكار والاستبعاد { أنكم إذا مِتُّم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } قال الزجاج (1) : موضع "أنكم" منصوب، على معنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متّم، فلما طال الكلام أُعيد ذكر "أنَّ"، كقوله: { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم } [التوبة:63] المعنى: فله نار جهنم.
وقال بعض المحققين: التقدير فيه: أيعدكم أن [إخراجكم] (2) إذا متم، محذوف (3) المضاف، ولا بد من تقديره؛ لأن "إذا" ظرف زمان، وظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، ألا ترى أنهم قالوا: لو قلت: زيد يوم
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/11).
(2) ... في الأصل: إخراكم. والتصويب من ب.
(3) ... في ب: فحذف.(1/149)
الجمعة، لم يصح، وباعتبار هذا قال سيبويه (1) أن قوله: "أنكم مخرجون" بدل من "أنّ" الأولى.
وقال الزمخشري (2) : ثنى "أنكم" [للتوكيد] (3) ، وحَسُنَ ذلك لفصل ما بين الأول والثاني بالظرف، و"مخرجون" خبر عن الأول، أو جعل "أنكم مخرجون" مبتدأ، و "إذا متم" خبراً، على معنى: إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن أنكم (4) .
وقرأتُ لعاصم من رواية الشموني عن الأعشى عن أبي بكر عنه: "إنكم مخرجون" بكسر الهمزة بتقدير القول، أو لتَضَمُّن "أيعدكم" معنى القول.
قوله تعالى: { هيهات هيهات } قُرئ بالحركات الثلاث مُنوناً وغير مُنون.
وقرأ معاذ القارئ: "هيهاتْ هيهاتْ" بإسكان التاء فيهما (5) .
فهذه سبع لغات قرئ بهن، وفيها ثلاث لغات لم يقرأ بهن [وهي] (6) : "أيْهَاتَ"، قال الشاعر:
__________
(1) ... انظر: الكتاب (4/133).
(2) ... الكشاف (3/188).
(3) ... في الأصل: للتوحيد. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: الدر المصون (5/182). قال أبو حيان في البحر بعد أن ذكر قول الزمخشري: وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه (انظر: البحر المحيط 6/374).
(5) ... انظر: زاد المسير (5/472)، والدر المصون (5/184).
(6) ... زيادة من ب.(1/150)
فأيْهَاتَ أيْهَاتَ العقيقُ وأهلُهُ ... وأيْهَاتَ خِلٌّ بالعَقيقِ نُوَاصِلُه (1)
و"أيْهَانَ" بالنون، و"أيهاً"، وقد جمع الأحوص بين لغتين في بيت فقال:
تَذَكَّرَ أياماً مَضَيْنَ من الصِّبَا ... وهيهاتَ هَيْهَاتاً إليكَ رُجُوعُهَا (2)
والقُرّاء السبعة مطبقون على "هيهاتَ هيهاتَ" بفتح التاء فيهما من غير تنوين، ووقف عليهما بالهاء ابن كثير والكسائي، والباقون بالتاء (3) .
وتأويل هيهات: البُعْد.
قال الزمخشري (4) : فإن قلت: "ما توعدون" هو المستبعد، ومن حقه أن يرتفع بـ"هيهات"، كما ارتفع في قوله:
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ ... ... ..........................
فما هذه اللام؟
قلت: قال الزجاج في تفسيره (5) : البعد لما توعدون، أو بعدٌ لما توعدون فيمن نوّن فنزَّلَه منزلة المصدر (6) .
__________
(1) ... البيت لجرير، انظر: ديوانه (ص:479)، والخصائص (3/42)، والدر المصون (5/183)، واللسان (مادة: هيه) وفيه: "نحاوله" بدل "نواصله"، والقرطبي (12/122)، والطبري (18/20)، وزاد المسير (5/472)، ومعاني الزجاج (4/13)، ومعاني الفراء (2/235).
(2) ... البيت للأحوص، وهو في: القرطبي (12/122)، وزاد المسير (5/472).
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:318-319)، والنشر (2/328).
(4) ... الكشاف (3/189).
(5) ... انظر: الإغفال (ص:1123).
(6) ... قال أبو حيان في البحر (6/374): وقول الزمخشري: فمن نوّنه نزّله منزلة المصدر ليس بواضح؛ لأنهم قد نوّنوا أسماء الأفعال، ولا نقول: إنها إذا نوّنت تنزلت منزلة المصدر. اهـ.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (5/183): قلت: الزمخشري لم يقل كذا، إنما قال: "فمن نوّنه نزّله منزلة المصدر" لأجل قوله: أو بُعْدٌ. فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزّلاً منزلة المصدر، فإن أسماء الأفعال ما نوّن منها نكرة، وما لم ينوّن معرفة، نحو: صَهْ وصَهٍ، فقدّر الأول بالسكون، والثاني بسكوت ما. اهـ.(1/151)
وفيه وجه آخر: وهو أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللام في { هيت لك } [يوسف:23] لبيان المُهيَّتِ به.
وقال غير الزجاج والزمخشري: هيهات اسم لبَعُدَ، وبَعُدَ فعل ماض يحتاج إلى الفاعل، وفاعله مضمر تقديره: هيهات إخراجكم لوعدكم. وأنكر قول الزجاج فقال: لو كان هيهات في معنى البُعْد لم يجب بناؤه؛ لأن البعد معْرَب، وإنما بُنِي هيهات؛ لأنه [بمعنى] (1) بعد، مثل: شتان ووشكان وسرعان.
قوله تعالى: { إن هي } ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة { إلا حياتنا الدنيا } والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة، { نموت ونحيا } أي: يموت بعض ويولد بعض، وينقرض قرن ويأتي قرن آخر.
وقيل: المعنى: نحيا ونموت؛ لأن الواو للجمع. ذكرهما الزجاج (2) .
والأول وجه الكلام.
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... معاني الزجاج (4/434).(1/152)
{ إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً } أي: ما هو إلا رجلٌ مفترٍ كاذبٌ على الله فيما يدّعيه من استنبائه له وفي دعوى البعث، { وما نحن له بمؤمنين } بمصدّقين فيما يقول.
{ قال رب انصرني بما كذبون } سبق تفسيره (1) .
{ قال عما قليل } قال الزجاج (2) : معناه: عن قليل، و"ما" زائدة بمعنى التوكيد.
قال الزمخشري (3) : "قليل" صفة للزمان، كقديم وحديث، في قولك: ما رأيته قديماً ولا حديثاً. وفي معناه: عن قريب، و"ما" توكيد لمعنى قلة المدة وقِصَرِها.
{ ليصبحن نادمين } على الكفر والتكذيب.
{ فأخذتهم الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام، صاح عليهم صيحة فتصدعت قلوبهم ورجفت بهم الأرض فماتوا.
ومعنى قوله: { بالحق } بالاستحقاق أو بالعدل من الله، من قولك: فلان يقضي بالحق.
{ فجعلناهم غثاء } وهو ما يحمله السيل من الورق والعيدان. شبههم سبحانه وتعالى في دمارهم وتمزقهم وتفرق أوصالهم بالغُثَاء.
{ فبعداً } أي: بَعُدوا بُعْداً.
__________
(1) ... في الآية رقم 26 من هذه السورة.
(2) ... معاني الزجاج (4/13).
(3) ... الكشاف (3/189).(1/153)
وقوله: { للقوم الظالمين } بيان لمن دُعِيَ عليه بالبُعْد.
¢OèO أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ اححب
قوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين } يريد: قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغيرهم.
قوله تعالى: { ثم أرسلنا رسلنا تَتَرْى } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "تترىً"(1/154)
بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين (1) .
قال ابن قتيبة (2) : المعنى: تُتَابع بفتْرَةٍ بين كل رسولين، وهو من التواتر. والأصل: وَتْرَى، فقبلت الواو تاء.
قال الأصمعي: وَاتَرْتُ الخبر: أتْبَعْتُ بعضَه بعضاً، وبين الخبرين هُنَيَّة (3) .
قال اللغويون: [ومما] (4) يضعه العامة غير موضعه قولهم: تَواتَرَتْ كُتبي إليك، يعنون: اتصلتْ من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط، إنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه. ومنه قول أبي هريرة: "لا بأس بقضاء رمضان تَتْرَى"، أي: مُتقطّعاً (5) .
وحجّة من لم يصرف أنه جعل ألفها للتأنيث، كالعَدْوى والدَّعْوى والذِّكْرى، ومن صَرَفَ قال (6) الزجاج (7) : معناه: وَتْراً، فأبدل التاء من الواو.
وقال أبو علي (8) : جعله فَعْلَى من المواترة.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/182)، والحجة لابن زنجلة (ص:487-488)، والكشف (2/128)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:319)، والسبعة (ص:446).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:297).
(3) ... انظر: تهذيب اللغة للأزهري (14/311).
(4) ... في الأصل: ومن. والتصويب من ب.
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/474).
(6) ... في ب: فقال.
(7) ... معاني الزجاج (4/14).
(8) ... الحجة (3/182).(1/155)
وقال المبرد: من قرأ "تترى" فهو مثل سَكْرى، ومن قرأ تتراً فهو مثل: شكوت شكواً (1) .
قوله تعالى: { كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً } قال مقاتل (2) : يعني في العقوبة والإهلاك.
{ وجعلناهم أحاديث } قال أبو عبيدة (3) : يُتَمثّل بهم في الشر، ولا يقال في الخير: جعلته حديثاً.
NèO أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا
__________
(1) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (3/290).
(2) ... تفسير مقاتل (2/397).
(3) ... مجاز القرآن (2/59).(1/156)
وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ احزب
قوله تعالى: { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } وهي الدلائل الواضحة، { وسلطان مبين } .
قال صاحب الكشاف (1) : يجوز أن يراد بقوله: "وسلطان مبين" العصا؛ لأنها أم آيات موسى، وقد تعلقت بها معجزات شتى: من انقلابها حية، وتلقُّفِها ما أفكته السَّحَرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحَجَر بضربهما بها، وكونها حارساً، وشمعة، وشجرة خضراء مُثمرة، ودَلْواً ورشاء، جُعلت كأنها ليست بعضها -يعني: بعض الآيات- لما استبدلت (2) به من الفضل، فلذلك عُطفت عليها؛ كقوله: { وجبريل وميكال } [البقرة:98].
ويجوز أن تراد الآيات أنفسها، أي: هي آيات وحُجَّةٌ بينة.
{ إلى فرعون وملإه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين } متطاولين على
__________
(1) ... الكشاف (3/191).
(2) ... في ب: استبدّت.(1/157)
الناس، قاهرين لهم بالبغي والظلم.
{ فقالوا } تعظيماً وتكبراً عليهما { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } خاضعون مطيعون.
{ فكذبوهما فكانوا من المهلكين } بالغرق. وقد سبق ذكره في البقرة.
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني: التوراة، أعطيها دفعة واحدة بعد غرق فرعون.
قال الزمخشري (1) : المعنى: ولقد آتينا قوم موسى الكتاب، كما قال: { على خوف من فرعون وملإهم } [يونس:83] يريد: آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم.
ولا يجوز أن يرجع الضمير في { لعلهم يهتدون } إلى فرعون وملإه؛ لأن التوراة إنما أوتيها بنوا إسرائيل بعد إغراق فرعون وملإه.
قلتُ: ولا حاجة به إلى هذا التعسف؛ لأن الضمير في: "لعلهم يهتدون" يرجع إلى قوله: "وقومهما"، على أنه غير مُنْكَر في القرآن والكلام الفصيح الكناية عن غير مذكور؛ كقوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر:1]، و { حتى توارت بالحجاب } [ص:32]، وقوله تعالى: { إذا بلغت التراقي } [القيامة:26].
وقد سبق الكلام على قوله تعالى: { على خوف من فرعون وملإهم } [في] (2) يونس (3) .
__________
(1) ... الكشاف (3/191).
(2) ... في الأصل: وفي. والتصويب من ب.
(3) ... عند الآية رقم: 83.(1/158)
وهاشم وثقيف وتميم أسماء للقبائل؛ كعاد وثمود، ولذلك امتنعت من الصَّرْف.
$uZù=yèy_ur ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ اخةب
قوله تعالى: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وقرأ ابن مسعود: "آيتين" (1) . وقد سبق القول عليه في آخر الأنبياء (2) .
{ وآويناهما إلى ربوة } قرأ ابن عامر وعاصم: "رَبْوَةٍ" بفتح الراء، وضمَّها الباقون (3) . وهكذا اختلافهم في قوله: { كمثل جنة بربوة } في البقرة [265]، وقد ذكرنا اشتقاقها وما فيها من اللغات ثمَّة.
{ ذات قرار ومعين } أي: ذات موضع قرار.
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (5/475).
(2) ... آية رقم: 91.
(3) ... الحجة للفارسي (3/183)، والحجة لابن زنجلة (ص:488)، والنشر (2/232)، والإتحاف (ص:319)، والسبعة (ص:446).(1/159)
قال قتادة: ذات ثمار وماء (1) .
والمعنى: أنها مستوية منبسطة يستقر عليها ساكنوها، "ومعين": وهو الماء الجاري على وجه الأرض الظاهر لعين الناظر، ومنه قول جرير:
إن الذين غَدَوْا بليل غَادَرُوا ... وَشَلاً بعينِكَ ما يَزالُ مَعينا (2)
قال ابن قتيبة (3) : سُمي معيناً؛ لأنه جارٍ من العين.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون فعيلاً من [المَعْن] (4) ، مشتقاً من الماعون. قال الزجاج (5) : وهذا بعيد؛ لأن المَعْن في اللغة: الشيء القليل (6) ، والماعون هو الزكاة، وهو فاعول من المعْن. وإنما سميت الزكاة بالشيء القليل؛ لأنه يؤخذ من المال رُبْعَ عُشْرِه، فهو قليل من كثير. قال الراعي:
قوم على الإسلام لمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهم ويُبَدِلُّوا التنزيلا (7)
واختلفوا في موضع هذه الربوة؛ فقال عبد الله بن سلام وسعيد بن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/28). وذكره السيوطي في الدر (6/100) وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن جرير وابن عساكر.
(2) ... البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل. انظر: ديوانه (ص:476)، واللسان (مادة: وشل)، والبحر المحيط (6/364)، والدر المصون (5/190)، والماوردي (4/56). وفيهم: غدوا بلُبِّكَ.
(3) ... انظر: تفسير غريب القرآن (ص:297).
(4) ... في الأصل: المعين. والتصويب من ب.
(5) ... معاني الزجاج (4/15).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: معن).
(7) ... البيت للراعي النميري من لاميته المطولة التي قدمها لعبدالملك، انظر البيت في: اللسان (مادة: هلل) وفيه: "ويضيعوا التهليلا" بدل: "ويبدلوا التنزيلا"، ومادة: (معن).(1/160)
المسيب ومقاتل (1) : دمشق (2) .
وقال قتادة وكعب: بيت المقدس (3) .
وعن ابن عباس والحسن كالقولين (4) .
وقال أبو هريرة والسدي: أرض فلسطين (5) .
وقال وهب بن منبه وابن السائب: مصر (6) . والله تعالى أعلم.
قال ابن عباس ووهب: كان الملك أراد قتل عيسى عليه السلام ففرّت به أمه (7) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/398).
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (6/409)، والطبري (18/26) كلاهما عن سعيد بن المسيب. وذكره الواحدي في الوسيط (3/291)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/476)، والسيوطي في الدر (6/101) وعزاه لابن عساكر عن عبدالله بن سلام. ومن طريق آخر عن سعيد بن المسيب، وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
(3) ... أخرجه الطبري (18/27). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/100) وعزاه لعبد بن حميد وعبدالرزاق وابن جرير وابن عساكر عن قتادة.
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/291)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/476).
(5) ... أخرجه الطبري (18/26) عن أبي هريرة. وذكره الواحدي في الوسيط (3/291)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/476)، والسيوطي في الدر (6/101) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة.
(6) ... أخرجه الطبري (18/26) عن سعيد بن المسيب. وذكره السيوطي في الدر (6/100) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن وهب بن منبه.
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/476).(1/161)
قال ابن عباس: ثم رجعت به إلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة (1) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ اخجب
قوله تعالى: { يا أيها الرسل } قال ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين: المراد بالرسل هاهنا: محمد - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وهو على مذهب العرب في مخاطبة الجميع.
__________
(1) ... مثل السابق.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/291)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/477).(1/162)
قال صاحب الكشاف (1) : هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي لذلك ووصي به؛ ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووُصُّوا به، حقيق أن يؤخذ به.
والمراد بالطيبات: ما حلَّ وطاب (2) .
وقيل: المراد بها: ما يُستطابُ ويُستلذُّ من المآكل. ويؤيد هذا القول مناسبته لقوله: { إلى ربوة ذات قرار ومعين } .
قوله تعالى: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } قرأ أهل الكوفة: "وإن" بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتحها الباقون، غير أن ابن عامر خفَّف النون على إرادة التشديد (3) ، كقوله: { وآخر دعواهم أن الحمد لله } [يونس:10].
قال أبو علي (4) : هو في قول الخليل وسيبويه (5) محمول على الجار، والتقدير: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة، { وأنا ربكم فاتقون } أي: اتّقون لهذا، ومثل ذلك عندهم قوله: { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } [الجن:18] المعنى: ولأن المساجد لله.
__________
(1) ... الكشاف (3/192).
(2) ... في هامش ب: في مسند الإمام أحمد في حديث لأبي هريرة ذكر فيه الاحتطاب، وقال في آخره: ((ولأن يأخذ تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه حراماً)).
(3) ... الحجة للفارسي (3/183)، والحجة لابن زنجلة (ص:488)، والكشف (2/129)، والنشر (2/328)، والإتحاف (ص:319)، والسبعة (ص:446).
(4) ... الحجة (3/183).
(5) ... انظر: الكتاب (3/126-127).(1/163)
وعلى هذا التقدير تحمل قراءة ابن عامر، ألا ترى أن "أن" إذا خففت اقتضت ما يتعلّق به اقتضاؤها، وهي غير مخفّفة (1) ، والتخفيف حسن في هذا؛ لأنه لا فعل بعدها ولا شيء مما يلي "أن"، فإذا كان كذلك كان تخفيفها حسناً، ولو كان بعدها فعلٌ لم يحسُن حتى تُعوَّض السين أو "سوف" أو "قد" أو "لا" إذا كان في نفي.
والآية مفسرة في سورة الأنبياء (2) .
قوله تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً } وقرأ ابن عباس: "زُبَراً" بفتح الباء (3) .
وقرأ ابن السميفع بإسكان الباء (4) .
قال الزجاج (5) : من ضَمَّ الباء فتأويله: جعلوا دينهم كُتُباً مختلفة، وهذا جمع زَبُور [وزُبُر] (6) . ومن فتح الباء أراد: قِطَعاً.
قال الزمخشري (7) : و"زُبْراً" مخففة الباء، كَرُسْل في رسول (8) .
قال الكلبي: يعني: مشركي العرب واليهود والنصارى تفرقوا أحزاباً (9) .
__________
(1) ... في ب: محققة.
(2) ... آية رقم: 92.
(3) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/478).
(4) ... انظر: المصدر السابق.
(5) ... معاني الزجاج (4/16).
(6) ... في الأصل: وزبرة. والتصويب من ب، ومن معاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) ... الكشاف (3/193).
(8) ... في ب: رسل.
(9) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/292)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/478).(1/164)
{ كل حزب بما لديهم } أي: بما عندهم من الدين { فرحون } راضون، ظناً منهم أنه الحق.
اخجب فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ اخدب
قوله تعالى: { فذرهم في غمرتهم } قال قتادة: في ضلالتهم (1) .
قال الكلبي: في جهلهم (2) .
وقال ابن شجرة: في حيرتهم (3) .
وكل ذلك في معنى واحد.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/31) عن مجاهد. وذكره الماوردي (4/57)، والواحدي في الوسيط (3/292) بلا نسبة، والسيوطي في الدر (6/103) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(2) ... ذكره الماوردي (4/58)، والواحدي في الوسيط (3/292) بلا نسبة.
(3) ... مثل السابق.(1/165)
وأصله: الماء الذي يَغْمُرُ القامة، فضُربت مثلاً لما هم مغمُورون فيه من الضلالة والجهالة والحيرة.
{ حتى حين } قال ابن عباس: يريد: نزول العدل بالسيف أو بالموت (1) .
قال الكلبي: هو خارج مخرج الوعيد، كما يقول المتوعّد: لك يوم.
وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: { أيحسبون أنما نمدهم به من مال } وقرأ عكرمة: "يُمِدُّهُم" بالياء (2) ، أي: ما نعطيهم من مال { وبنين } .
{ نسارع لهم في الخيرات } بذلك الإمداد ونجعله مجازاة لهم وثواباً، لا { بل } هو استدراج لهم أو { لا يشعرون } أنه شر لهم أو اختبار لهم.
وقرأ عبدالرحمن بن أبي بكرة: "يُسَارعُ لهم" (3) إمدادنا في الخيرات، أو يسارع الله لهم في الخيرات.
وروي عنه: "يُسارَع" بالياء أيضاً وفتح الراء، على ما لم يُسَمَّ فاعله (4) . والأولى قراءة ابن عباس وعكرمة، والرواية الثانية قراءة معاذ القارئ وأبي المتوكل.
¨bخ) الَّذِينَ هُمْ مِنْ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/292).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/479).
(3) ... انظر هذه القراءة في: الدر المصون (5/192)، والبحر (6/378)، وزاد المسير (5/479).
(4) ... انظر: المصادر السابقة.(1/166)
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ادتب
قوله تعالى: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } خائفون وَجِلُون من عذابه.
{ والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } قال ابن عباس: يُصَدِّقُون بالقرآن أنه من عند الله (1) .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/292-293).(1/167)
{ والذين هم بربهم لا يشركون } أي: لا يعبدون معه غيره، ولا يجعلون معه شريكاً.
{ والذين يؤتون ما آتوا } أي: يعطون ما أعطوا من نفقة أو صدقة، { وقلوبهم وَجِلَة } خائفة أن لا يُتقبل منهم.
قال مجاهد: المؤمن ينفق ماله وقلبه وَجِل (1) .
وقال الحسن: المؤمن جَمَعَ إحساناً وشفقة، والمنافق جمع إساءة وأَمْناً (2) .
وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: "يَأتُونَ ما أَتَوْا" بالقصر، من المجيء، وهي قراءة عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش (3) .
قال الزجاج (4) : كلاهما جيد بالغ. فمن قرأ: "ما آتَوْا" فمعناه: يُعْطُون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبل منهم وقلوبهم خائفة؛ لأنهم { إلى ربهم راجعون } أي: إنهم يوقنون بالرجوع إلى الله تعالى.
ومن قرأ: "ما أتَوْا" بالقَصْر، أي: يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة يخافون أن يكونوا مع اجتهادهم مُقصِّرين.
وقد أخرج الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (( يا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/32). وذكره السيوطي في الدر (6/106) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) ... أخرجه الطبري (18/32). وذكره السيوطي في الدر (6/105) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره السيوطي في الدر (6/106) وعزاه لسعيد بن منصور وابن مردويه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وانظر: الدر المصون (5/192).
(4) ... معاني الزجاج (4/16-17).(1/168)
رسول الله! الذين يؤتون ما أتوا هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكن هم الذين يصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات )) (1) .
وفي هذا الحديث ترجيح لقراءة عائشة رضي الله عنها.
ومعنى قوله: { أولئك يسارعون في الخيرات } يبادرون إلى الأعمال الصالحة رغبة فيها لخوفهم وصحة علمهم برجوعهم إلى من يجازيهم على أعمالهم.
ويجوز أن يراد بمسارعتهم في الخيرات: ما أنعم به عليهم في عاجل الدنيا من الإعزاز والإكرام وحسن الثناء بين الناس، كما قال تعالى: { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [العنكبوت:27]، وقال الله تعالى: { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [آل عمران:148].
قوله تعالى: { وهم لها سابقون } قال الفراء والزجاج (2) : المعنى: وهم إليها سابقون.
وقال الزمخشري (3) : المعنى: فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها، أو إياها سابقون، أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجّلت لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون "لها سابقون" خبراً بعد خبر.
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (5/327 ح3175).
(2) ... معاني الفراء (2/238)، ومعاني الزجاج (4/17).
(3) ... الكشاف (3/195).(1/169)
ومعنى: "وهم لها" كمعنى قوله: أنتَ لها أحمدُ من بين البَشَر (1) .
ںwur نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي
__________
(1) ... لم أقف على قائله، واستشهد به اتحاد المعنى بين قوله تعالى: { وهم لها } وبين هذا القول. انظر: الدر المصون (5/194).(1/170)
تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ادذب
قوله تعالى: { ولا نكلف نفساً إلا وسعها } الآية تتضمّن الإيذان بأن هذا الذي وصف به عباده المؤمنين غير خارج عن حدّ الوُسع والطاقة، وأن ما عملوه من الأعمال الصالحة [محفوظ] (1) عنده مُثبت في { كتاب ينطق بالحق } وهو اللوح المحفوظ.
وقيل: صحائف الأعمال.
{ وهم لا يظلمون } بالنقصان من حسناتهم ولا بالزيادة على سيئاتهم.
ثم عاد إلى الإخبار عن الكفار فقال: { بل قلوبهم في غمرة من هذا } أي: في غفلة غامرة لها من هذا الذي وُصِفَ به المؤمنون من أعمال البِرِّ.
وقيل: هذا إشارة إلى الكتاب.
وقيل: إلى القرآن.
{ ولهم أعمال من دون ذلك } قال ابن عباس: أعمال سيئة دون الشرك (2) .
__________
(1) ... في الأصل: يحفظ. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/481)، والسيوطي في الدر (6/107) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/171)
وقال مجاهد: خطايا دون الحق (1) .
قال ابن جرير (2) : من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية.
{ هم لها عاملون } وقال الزجاج (3) : أخبر الله تعالى عما سيكون منهم، فأعلم أنهم سيعملون أعمالاً تُباعِدُ من الله تعالى غير الأعمال التي ذكروا بها.
قال الواحدي (4) : وعلى هذا القول إجماع المفسرين وأصحاب المعاني.
قوله تعالى: { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } قال الزمخشري (5) : "حتى" هذه التي يبتدأ بها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( اللهم اشدد وطأتك على مُضَر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف )) (6) ، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيفَ والكلابَ والعظام المحترقة والقِدَّ (7) والأولاد.
{ إذا هم يجأرون } أي: يضجّون (8) مستغيثين بالله.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/36)، ومجاهد (ص:433). وذكره السيوطي في الدر (6/107) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ... تفسير الطبري (18/35).
(3) ... معاني الزجاج (4/18).
(4) ... الوسيط (3/294).
(5) ... الكشاف (3/195-196).
(6) ... أخرجه البخاري (1/277 ح771)، ومسلم (1/466 ح675).
(7) ... القِدّ: جلد السخلة الماعزة (الغريب للخطابي 1/686).
(8) ... في ب: يصيحون.(1/172)
{ لا تجأروا اليوم } على إضمار القول، أي: يقال لهم: لا تجأروا اليوم { إنكم منا لا تنصرون } أي: إنكم من عذابنا لا تُمنعون.
وقيل: المعنى: إنكم لا تُغاثون ولا تُنصرون من جهتنا.
ثم ذكر السبب المقتضي لذلك فقال: { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون } وهذا مَجازٌ عن تأخرهم عن الإيمان.
قوله تعالى: { مستكبرين به } نصب على الحال (1) ، والضمير في "به" كناية عن البيت الحرام شرفه الله تعالى في قول عامة المفسرين (2) ، وكانوا يفتخرون به ويقولون: نحن أهل الحرم وجوار الله تعالى وسَدَنَةٌ بيته، فلا يظهر علينا أحد، فيكون كناية عن غير مذكور.
قال صاحب الكشاف (3) : والذي سَوَّغَ هذا الإضمار: شهرتهم بالاستكبار بالبيت.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى "آياتي"، إلا أنه ذكّر لأنها في معنى: كتابي.
ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكباراً.
قوله تعالى: { سامراً } : نصب على الحال (4) .
قال ابن قتيبة (5) : أي: يتحدَّثُون ليلاً، والسَّمَرُ: حديث الليل (6) .
__________
(1) ... انظر: التبيان (2/151)، والدر المصون (5/195).
(2) ... انظر: الطبري (18/38-39)، والوسيط (3/294)، والدر المنثور (6/108).
(3) ... الكشاف (3/196).
(4) ... انظر: التبيان (2/151)، والدر المصون (5/195).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:298).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: سمر).(1/173)
قال أبو عبيدة (1) : معناه: تَهْجُرون سُمَّاراً، والسَّامِر بمعنى السُّمَّار، بمنزلة طفل في موضع أطفال.
وفي قراءة ابن مسعود: "سُمَّاراً تهجُرون" (2) .
وقرأ نافع: "تُهْجِرُون" بضم التاء وكسر الجيم (3) ، من أهْجَرَ يُهْجِرُ؛ إذا أفْحَشَ في منطقه وهَذَى (4) . وهي قراءة ابن عباس.
وقرأ جماعة، منهم أبو العالية وعكرمة وعاصم [الجحدري] (5) : "تُهجِّرون" بضم التاء أيضاً وكسر الجيم وتشديدها مع فتح الهاء (6) ، على المبالغة في معنى الإهْجَار، والقراءة المشهورة إما أن تكون من الهِجْران، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي (7) .
قال الحسن: تَهْجُرون كتاب الله ونبيه (8) .
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/60).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/483)، والدر المصون (5/195).
(3) ... الحجة للفارسي (3/184)، والحجة لابن زنجلة (ص:489)، والكشف (2/129)، والنشر (2/329)، والإتحاف (ص:319)، والسبعة (ص:446).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: هجر).
(5) ... في الأصل: والجحدري. والتصويب من ب.
(6) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/483)، والدر المصون (5/196).
(7) ... أخرجه الطبري (18/40). وذكره الواحدي في الوسيط (3/294)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/483).
(8) ... أخرجه الطبري (18/41). وذكره السيوطي في الدر (6/108) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/174)
وقال أبو صالح: تَهْجُرون البيت (1) .
وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تَسْمُرُ حول البيت وتفتخر به ولا تطوف به (2) .
وإما أن يكون من الهُجْر، وهو قول القبيح، يقال منه: هَجَرَ يَهْجُرُ هُجْراً وأهْجَرَ يُهْجِرُ إهْجَاراً، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والكلبي (3) ، وكان عامة سَمَرِهِم ذكر القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالطعن فيهما.
َOn=sùr& يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ
__________
(1) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/483).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/483)، والسيوطي في الدر (6/109) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (18/40-41). وذكره الواحدي في الوسيط (3/294)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/483)، والسيوطي في الدر (6/108) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد.(1/175)
بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ(1/176)
لَنَاكِبُونَ اذحب
قوله تعالى: { أفلم يدبروا القول } يعني: القرآن، فيعرفوا ما فيه من البيان الدال على صدقه في نفسه وصدق المرْسَل به.
[وفي] (1) قوله: { أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } وجهان:
أحدهما: أنه استفهام في معنى التوبيخ والتقرير.
قال ابن عباس: يريد: أليس قد أرسلنا نوحاً وإبراهيم والنبيين إلى قومهم، فكذلك بعثنا محمداً إلى قومه (2) .
فعلى هذا؛ المراد بآبائهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تسبُّوا مُضَرَ ولا ربيعة، فإنهما كانا مُسْلِمَين)) (3) ، و((لا تَسُبُّوا الحارث بن كعب، ولا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مرة، فإنهم كانوا على الإسلام [وما شككتم فيه من شيء فلا تَشُكُّوا في أن تُبَّعاً كان على الإسلام] (4) )) (5) .
الثاني: أن "أمْ" بمعنى: "بلْ"، تقديره: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فلذلك أنكروه وكذبوه، كقوله: { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } [يس:6].
__________
(1) ... في الأصل: في. والتصويب من ب.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/294).
(3) ... ذكره ابن حجر في فتح الباري (6/529).
(4) ... زيادة من ب، والكشاف (3/197).
(5) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (3/197).(1/177)
وقيل: معنى الآية: أفلم يدبروا القول فيخافوا عند تَدَبُّر أقاصيصه ومواعظه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم.
قوله تعالى: { أم لم يعرفوا رسولهم } معناه: أم لم يعرفوا رسولهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحة نسبه وكرم عنصره ورجاحة عقله وظهور صدقه وأمانته { فهم له منكرون } .
والمقصود من هذه الآية: تقريعهم وتوبيخهم بالإعراض عنه بعدما عرفوا ذلك منه.
{ أم يقولون به جِنّة } أي: جنون، وكانوا رموه بذلك بهتاناً وعناداً حين لم يجدوا للحق الذي جاءهم به مدفعاً، { بل جاءهم بالحق } الذي لا تخفى صحته، { وأكثرهم للحق كارهون } .
قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت قوله: "وأكثرهم" فيه أن أقلّهم كانوا لا يكرهون الحق؟
قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنَفَةً واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا: صَبَأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يُحكى عن أبي طالب.
فإن قلت: يزعم بعض الناس أن أبا طالب صَحَّ إسلامه؟
قلتُ: يا سبحان الله! كأن أبا طالب كان [أخمل] (2) أعمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس، ويخفى إسلام أبي طالب.
__________
(1) ... الكشاف (3/197-198).
(2) ... في الأصل: أجمل. والتصويب من ب، ومن الكشاف (3/198).(1/178)
قوله تعالى: { ولو اتبع الحق أهواءهم } قال مجاهد وأبو صالح وابن جريج: الحق: هو الله تعالى (1) .
والمعنى: لو جعل الله مع نفسه شريكاً كما يُحبّون ويهوون، { لفسدت السموات والأرض } ، وهذا المعنى ينظر إلى قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء:22].
وقال الفراء والزجاج (2) : يجوز أن يكون المراد بالحق: القرآن، على معنى: لو نزل ما يحبون لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
{ بل أتيناهم بذكرهم } أي: بالكتاب الذي هو ذكرهم وشرفهم.
وقيل: المعنى: أتيناهم بذكرهم الذي كانوا يتمنونه في قولهم: { لو أن عندنا ذكراً من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين } [الصافات:168-169].
{ فهم عن ذكرهم معرضون } قال ابن عباس: يريد: تولّوا عما جاء به من شرف الدنيا والآخرة (3) .
قوله تعالى: { أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير } قرأ حمزة والكسائي: "خراجاً فخراج ربك" بالألف فيهما. وقرأهما ابن عامر بغير ألف. وقرأ الباقون: "خَرْجاً" بغير ألف "فخراج" بالألف (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/42-43). وذكره السيوطي في الدر (6/110) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح.
(2) ... معاني الفراء (2/239)، ومعاني الزجاج (4/19).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/295)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/484) بلا نسبة.
(4) ... الحجة للفارسي (3/184)، والحجة لابن زنجلة (ص:489-490)، والكشف (2/130)، والنشر (2/315)، والإتحاف (ص:320)، والسبعة (ص:447).(1/179)
قال أبو عبيدة (1) : العبد يؤدي إليك خَرْجه، أي: غلّته، والرعية تؤدي إلى الأمير الخرج، [والخرج] (2) أيضاً من السحاب، ومنه [نُرَى] (3) اشتُقّ هذا أجمع، قال أبو ذؤيب:
إذا هَمَّ بالإقلاع هَبَّتْ له الصَّبا ... وأعقَبَ نُوءٌ بعدها وخُرُوج (4)
قال (5) : وزعم أبو عمرو الهذلي أنه سُمي خَرْجاً وخُروجاً؛ للماء الذي يخرج منه.
قال أبو علي الفارسي (6) : وفيما حكاه أبو عبيدة من قوله: الرعية تؤدي إلى الأمراء الخَرْج؛ دلالة على قراءة من قرأ: { خَرْجاً [فخرْجُ] (7) ربك } ، فكأن الخَرْج يقع على الضريبة التي على الأرضين وعلى الجزية.
وحكى غير أبي عبيدة: أدّ خَرْج رأسك، والخَرْج: ما يَخرُجُ إلى من يَخْرج ذلك إليه وإن لم يكن ضريبة. ويدل على ذلك قراءة: { فهل نجعل لك خرجاً } [الكهف:94].
__________
(1) ... مجاز القرآن (2/61).
(2) ... في الأصل: والخروج. والتصويب من ب، ومن مجاز القرآن، الموضع السابق.
(3) ... في الأصل: ترى. والمثبت من ب.
(4) ... البيت لأبي ذؤيب الهذلي، انظر: ديوانه (ص:52)، واللسان (مادة: خرج، نشأ)، وشرح أشعار الهذليين (ص:129)، وتهذيب اللغة (7/48، 11/419)، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (2/18)، وروايته فيه وفي اللسان: "فعاقب نشء" بدل: "وأعقب نوء".
(5) ... أي: أبي عبيدة في المجاز.
(6) ... الحجة (3/184-185).
(7) ... في الأصل و ب: فخراج. والمثبت من الحجة (3/185).(1/180)
وقد يقع على هذا [الخراج] (1) بدلالة قول العجاج (2) :
يومُ خَرَاجٍ يُخْرِجُ السَّمَرَّجَا (3)
فهذا ليس على الضريبة، والاسم الأخص بالضريبة المضروبة على الأرضين الخراج، قال:
طَرْمَحُوا الدُّورَ بالخَراجِ [فأضْحَتْ] (4) ... مثلَ ما امتدَّ من عَمَايَةَ نِيقُ (5)
فمعنى هذا: بأموال الخراج، وإذا كان كذلك فقول ابن كثير ومن تبعه: "خرجاً فخراج ربك" معناه: أنك لا تسألهم شيئاً يُخرجونه إليك، كما قال: { قل ما أسألكم عليه من أجر } [الفرقان:57]، { فخراج ربك } كأنه أضافه إلى الله تعالى؛ لأنه أوجبه وألزمه هذه الأشياء من الحقوق في الأرضين وجزى الرؤوس، فلهذا قال: { فخراج ربك } .
وقرأ حمزة والكسائي: "خراجاً فخراج ربك خير"، قولهما: "فخراج ربك" بيّن على ما قد تقدم، و"خراج" الذي قرأه غيرهما "خَرْجاً" قد جاء فيه الخراج أيضاً، بدلالة قول العجاج. هذا آخر كلام أبي علي.
قال الزمخشري (6) : الوجه: أن الخَرْج أخص من الخَراج، كقولك: خراج القرية، وخَرْج الكَرْدَة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى. ولذلك حسنت قراءة من قرأ: "خرجاً فخراج ربك" معنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير. قلت: والسَّمرّج: جباية الخراج (7) .
ومعنى قول الآخر: طَرْمَحُوا الدور: علّوا البناء وأطالوه (8) ، ومنه: الطرمّاح.
وعَمَايَة: جبل من جبال هذيل. والنِّيق: أرفع موضع في الجبل (9) .
ومعنى الآية: أم تسألهم على تبيلغ الرسالة والإنقاذ من الضلالة أجراً ومالاً. وقد سبق القول فيه في آخر الكهف (10) .
{ وهو خير الرازقين } أفضل من أعطى ورزق، لسلامة رزقه من الانقطاع والآفات المنغصة من المن والأذى، وكون التضرع إلى الله تعالى في طلب الرزق فضيلة، وإلى غيره رذيلة، ولقد أحسن أمية بن أبي الصلت في قوله:
__________
(1) ... زيادة من ب، والحجة (3/185).
(2) ... الرجز للعجَّاج، وبعده:
... ... ... في ليلة تغشي الصوار المحرجا ... ... سحّاً أهاضيب وبرقاً مُرعِجا
... انظر: ديوانه (2/25-26)، واللسان (مادة: شمرج)، وتهذيب اللغة (1/364)، وديوان الأدب (2/287)، والعين (1/224)، والحجة للفارسي (3/185).
(3) ... السّمرج: استخراج الخراج في ثلاث مرات، فارسي معرب. (انظر: اللسان، مادة: سمرج).
(4) ... في الأصل: فأصبحت. والتصويب من ب، والحجة (3/185). وانظر: مصادر البيت.
(5) ... سيأتي معنى البيت قريباً.
(6) ... الكشاف (3/199).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: سمرج).
(8) ... انظر: اللسان (مادة: طرح).
(9) ... انظر: اللسان (مادة: نيق).
(10) ... عند الآية رقم: 94.(1/181)
عطاؤكَ زينٌ لامرئ إن حَبَوْتَه ... بسيْبٍ وما كُلُّ العَطَاء يَزين
وليسَ بِشَيْنٍ لامرئ بذلُ وجهه ... إليكَ كما بعْضَ السؤال يَشين (1)
قوله تعالى: { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } وهو كتاب الله تعالى، ودين الإسلام.
{ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط } أي: عن هذا الصراط المستقيم { لناكبون } لعادلون عنه.
* وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ
__________
(1) ... البيتان لأمية بن أبي الصلت يمدح عبدالله بن جدعان، انظر: المثل السائر لابن الأثير (2/360)، وصبح الأعشى (2/205)، ومكارم الأخلاق للقرشي (1/141).(1/182)
شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ اذذب
قوله تعالى: { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } يريد: الجوع الذي أصاب أهل مكة سبع سنين بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء أبو سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه ذلك، فنزلت هذه الآية والتي بعدها (1) .
قوله تعالى: { لَلَجُّوا في طغيانهم يعمهون } أي: لتمادوا في تمردّهم في كفرهم يتحيرون، ولذهب عنهم ترقُّقُهُم بين يديك وتملُّقُهم إليك.
قال صاحب الكشاف (2) : ثم استشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسْرِهم، [فما] (3) وُجِدَتْ منهم بعد ذلك استكانة ولا تَضَرُّع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل وهو أَطَمُّ العذاب، فأُبلِسُوا وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد يستعطفك.
وقال غيره: { ولقد أخذناهم بالعذاب } هو الجوع والضر الذي أصابهم،
__________
(1) ... أخرجه النسائي في الكبرى (6/413)، والطبراني في الكبير (11/370)، والحاكم (2/428) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والطبري (18/45). وذكره السيوطي في الدر (6/111) وعزاه للنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(2) ... الكشاف (3/200).
(3) ... في الأصل: فلما. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.(1/183)
{ فما استكانوا لربهم } أي: ما تواضعوا لربهم وما انقادوا، { وما يتضرعون } يرغبون إليه في الدعاء.
واختلفوا في "استكانوا"؛ فقيل: هو استفعل من السُّكُون، والمعنى: ما طلبوا الكَوْن على صفة الخضوع.
وقيل: هو من السُّكُون، إلا أن الفتحة أُشْبِعَتْ، فنشأت منها ألف فصار: اسْتَكَانَ، وهو على هذا: افتعلوا. قال الشاعر في إشباع الفتحة:
فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى ... ومنْ كَرَم الرِّجال بمنْتَزاح (1)
أي: بمُنْتَزَح.
قوله تعالى: { حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد } متعلق بما قبله، على معنى: ولقد أخذناهم بكل عذاب ومحنّاهم بكل محنة، فما [وُجد] (2) منهم خضوع ولا رجوع، حتى إذا فتحنا عليه باباً ذا عذاب شديد، وهو عذاب جهنم، { إذا هم فيه مبلسون } آيِسُون من كل خير.
وقد سبق ذكره في الأنعام (3) .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: "مُبْلَسُون" بفتح اللام (4) .
وقال ابن عباس: العذاب الشديد: ما أصابهم من القتل والأسر يوم
__________
(1) ... البيت لابن هرمة يرثي ابنه، وهو في: اللسان (مادة: نزح، نجد)، وفيه: "ذم" بدل "كرم"، وروح المعاني (9/194، 12/228، 18/56)، وفيه مثل اللسان "ذم" بدل "كرم".
(2) ... في الأصل: وجدنا. والمثبت من ب.
(3) ... عند الآية رقم: 45.
(4) ... انظر: زاد المسير (5/486)، والدر المصون (5/198).(1/184)
بدر (1) .
وقال مقاتل (2) : هو الجوع الذي أصابهم.
uqèdur الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/354)، والطبري (18/45). وذكره السيوطي في الدر (6/112) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه.
(2) ... تفسير مقاتل (2/401). وهذا القول هو اختيار الطبري.(1/185)
الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ارجب
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي: خلق لكم هذه الآلات لتُعْمِلُوها في آياته وعجائب مخلوقاته، { قليلاً ما تشكرون } أي: تشكرون شكراً قليلاً، و"ما" مزيدة للتوكيد.
وقيل: غير ذلك، وقد أشرنا إليه فيما مضى.
قوله تعالى: { وهو الذي ذرأكم في الأرض } أي: خلقكم وبثَّكُم فيها للتناسل، { وإليه تحشرون } يوم القيامة فيجمعكم بعد فُرْقَتِكُم لفصل القضاء، ويرجعكم بعد تمزقكم لأجل الجزاء.
قوله تعالى: { وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار } أي: هو المختص به خلْقاً وتَصَرُّفاً على مقتضى الحكمة والصواب ومصلحة العباد، { أفلا تعقلون } هذه الآيات الباهرة والعجائب الظاهرة لا تنفعل إلا(1/186)
عن قدرة قادر وحكمة حكيم.
{ بل قالوا } يعني: مشركي قريش { مثل ما قال الأولون } ، ثم بين ذلك فقال: { قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون } وقد ذكرنا في سورة الرعد (1) اختلاف القرّاء في لفظ الاستفهامين، وأشرنا إلى علل القراءات، فاطلبه ثمّة.
قوله تعالى: { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا } يعنون: البعث { من قبل } أي: من قبل محمد، { إن هذا إلا أساطير الأولين } مفسر في الأنعام (2) .
ومقصودهم: أن ما وُعدوا به من البعث أمرٌ لا حقيقة له.
@è% لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
__________
(1) ... عند الآية رقم: 5.
(2) ... عند الآية رقم: 25.(1/187)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ارزب
قوله تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها } أي: قل يا محمد للمكذبين بالوحدانية والبعث: لمن الأرض ومن فيها من الخلق على تصاريف أجناسهم وأنواعهم خلقاً ومُلْكاً { إن كنتم تعلمون } أن لها خالقاً ومالكاً { سيقولون لله } لا يجدون بُداً من الإقرار بذلك. { قل أفلا تذكرون } فتعلمون أن من فَطَرَ الأرض ومن فيها من الخلق قادر على إعادته، وحقيق أن لا يُشرك به.
{ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } أي: الكريم على الله، أو العظيم في الخلق، فإن السموات والأرض بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، { سيقولون الله } .
قرأ أبو عمرو: "اللهَ" بألف في هذه والتي بعدها على ما يقتضيه اللفظ من جواب السؤال، وكذلك هو في مصحف أهل البصرة، وقرأهما الباقون:(1/188)
"سيقولون لله" (1) .
وكذلك هو في سائر المصاحف نظراً إلى المعنى؛ لأن معنى من رب السموات: لمن السموات، فقال: لله، كما يقال: من مالك هذه الدار؟ فيقال: لزيد؛ لأن معناه: لمن هذه الدار، وكذلك: { من بيده ملكوت } معناه: لمن الأشياء كلها؟ فقيل: لله، وأنشدوا:
إذا قيلَ من رَبُّ المزالِفِ والقُرَى ... ... وربُّ الجياد الجرْد قيل لخالد (2)
ولا خلاف بين القراء السبعة في الموضع الأول أنه بغير ألف لاتفاق المصاحف على ذلك ومطابقة اللفظ له.
وقد قرأ (3) جماعة منهم سعيد بن جبير: "سيقولون الله" بألف أيضاً (4) ، وكذلك في الموضعين الآخرين نظراً إلى المعنى في الموضع الأول، وإلى اللفظ في [الآخرين] (5) .
قال أبو علي الأهوازي: وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن، وأنشدوا في هذا المعنى قول الشاعر:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/185)، والحجة لابن زنجلة (ص:490)، والكشف (2/130)، والنشر (2/329)، والإتحاف (ص:320)، والسبعة (ص:447).
(2) ... انظر البيت في: القرطبي (12/146)، والنسفي (3/129)، وروح المعاني (18/58).
... والمزالف: هي البلاد التي بين الريف والبرّ (اللسان، مادة: زلف).
(3) ... في ب: قرأه.
(4) ... انظر: زاد المسير (5/487).
(5) ... في الأصل: الأخيرين. والمثبت من ب.(1/190)
فقال السائلونَ لمنْ حَفَرْتُم ... ... فقالَ المُخْبِرُون لهمْ وزير (1)
فنظروا في الجواب إلى المعنى؛ لأن المعنى: من الميت؟ فقالوا: وزير، أي: هو وزير.
{ قل أفلا تتقون } أي: قل لهم يا محمد إذا اعترفوا: أفلا تخشون الله وتخافون وتحذرون عقوبته.
{ قل من بيده ملكوت كل شيء } ملكه وخزائنه، والتاء مزيدة للمبالغة؛ كالجَبَرُوت والرَّهَبُوت. وقد سبق ذلك.
{ وهو يجير } أي: يمنع ويغيث من يشاء ممن يشاء، { ولا يجار عليه } أي: لا يمنع منه أحد، تقول: أجرتُ فلاناً؛ إذا حميتَه، وأجرتُ على فلان؛ إذا حميتَ عنه (2) .
قوله: { قل فأنى تسحرون } قال ابن قتيبة (3) : تُخْدَعون وتُصْرَفون عن هذا.
ِ@t/ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا
__________
(1) ... انظر البيت في: الطبري (1/61، 18، 48)، والقرطبي (8/136)، وروح المعاني (18/58).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: جور).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:299).(1/191)
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ازثب
قوله: { بل أتيناهم بالحق } وهو التوحيد، { وإنهم لكاذبون } في دعواهم لله ولداً ومعه شريكاً، ثم نفاهما عنه فقال: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } . ثم أقام على ذلك برهاناً قاطعاً وقال: { إذاً لذهب كل إله بما خلق } أي: لاستبدَّ وانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه.
{ ولَعَلا بعضهم على بعض } بالقهر والغلبة والاستيلاء، كما تشاهدون حال ملوك الدنيا.
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: "إذاً" لا تدخل إلا على كلام هو جزاء
__________
(1) ... الكشاف (3/203).(1/192)
وجواب، فكيف وقع قوله: "لذهب" جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا [سؤال] (1) سائل؟
قلت: الشرط محذوف، تقديره: ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله: "وما كان معه من إله" عليه.
ثم نزّه نفسه عما وصفوه به من الأنداد والأولاد فقال: { سبحان الله عما يصفون } .
قوله تعالى: { عَالِمِ الغيب والشهادة } قرأ نافع وأهل الكوفة إلا حفصاً: "عَالِمُ" بالرفع، أي: هو عالم. وقرأ الباقون بالجر (2) ، جعلوه صفة لله في قوله: { سبحان الله عما يصفون } .
@è% رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
__________
(1) ... في الأصل: سؤا. والتصويب من ب، والكشاف، الموضع السابق.
(2) ... الحجة للفارسي (3/186)، والحجة لابن زنجلة (ص:491)، والكشف (2/131)، والنشر (2/329)، والإتحاف (ص:320)، والسبعة (ص:447).(1/193)
أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ازرب
قوله تعالى: { قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } الفاء في قوله: "فلا تجعلني" جواب الشرط. وقوله: "رب" اعتراض بين الشرط [والجزاء] (1) بالنداء (2) .
قال صاحب الكشاف (3) : "ما" والنون مؤكدتان، أي: إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة "فلا تجعلني" قريناً لهم ولا تعذبني (4) بعذابهم.
قال الحسن: أخبره الله تعالى أن له في أمته [نقمة] (5) ولم يخبره أفي
__________
(1) ... في الأصل: وجزاء. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: التبيان (2/152)، والدر المصون (5/199-200).
(3) ... الكشاف (3/203).
(4) ... في ب: تعدني.
(5) ... في الأصل: نعمة. والتصويب من ب، ومن الكشاف (3/203).(1/194)
حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء (1) .
فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
قلتُ: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله؛ إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وإخباتاً له, واستغفاره - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلسه سبعين أو مائة مرة لذلك (2) . وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر رضي الله عنه: (( وُلّيتكم ولست بخيركم )) (3) : كان يعلم أنه خيرهم، ولكن (4) المؤمن يهضم نفسه (5) .
ثم أخبر أنه قادر على ذلك بقوله: { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } .
ثم أمره بالصبر إلى انقضاء الأجل المضروب لعذابهم فقال: { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } قال ابن عباس: ادفع بلا إله إلا الله الشرك (6) .
__________
(1) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/130) بلا نسبة، والآلوسي في روح المعاني (18/61).
(2) ... أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) (5/2324 ح5948).
... وأخرج مسلم في صحيحه عن الأغر المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((... وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) (4/2075 ح2702).
(3) ... أخرجه معمر في جامعه (11/336).
(4) ... في ب: لكن.
(5) ... أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/353)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (30/304).
(6) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/130)، وأبو حيان في البحر المحيط (6/387) بلا نسبة.(1/195)
وقال الحسن: ادفع إساءة المسيء بالصفح (1) .
وبعض المفسرين يقول: هذه منسوخة بآية السيف (2) ، كأنه أمره بالإعراض عن المشركين والصفح والتجاوز عن أذاهم حتى ينقضي الأجل المضروب لهم.
والصحيح: أنها محكمة؛ لأنها حضت على المداراة، والمداراة مشروعة ما لم تُفْضِ إلى ارتكاب محظور في الدين، أو إزراء بمروءة.
{ نحن أعلم بما يصفون } من الكفر والتكذيب، وأقدر على مجازاتهم، ومع ذلك لم يعاجلهم بالعقوبة. فجدير بك سلوك سبيل المحاسنة.
قوله تعالى: { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } الهمز في اللغة: الدفع (3) . وهمزات الشياطين: دفعهم المكلفين بالإغواء إلى المعاصي وإغراؤهم بها بالتحسين والتزيين.
قال الزجاج (4) : واحد الهمزات: هَمْزَة، وهو مسُّ الشيطان، ويجوز أن تكون نَزَغَات الشيطان.
ونَزْغُ الشيطان: وسوسته حتى يشتغل عن أمر الله.
{ وأعوذ بك رب أن يحضرون } أي: يشهدون في شيء من أموري.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (4/66)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/489).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/489). وانظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:129)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:46)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:403).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: همز).
(4) ... معاني الزجاج (4/21).(1/196)
كأنه أمر أن يسأل ربه العصمة من الشيطان أن يناله بسوء.
وقال ابن عباس: أن يحضرون عند تلاوة القرآن (1) .
وقال عكرمة: عند النزع (2) . كأنه أمر بالاستعاذة منهم خوفاً من النزغ عند النزع.
#س¨Lym إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ $ygè=ح !$s% وَمِنْ Nخgح !#u'ur بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ اتةةب
قوله تعالى: { حتى إذا جاء أحدهم الموت } قال الزمخشري (3) : "حتى"
__________
(1) ... ذكره الماوردي في تفسيره (4/66) من قول الكلبي، وأبو حيان في البحر المحيط (6/387) من قول ابن عباس.
(2) ... ذكره الآلوسي في روح المعاني (18/62)، والزمخشري في الكشاف (3/204).
(3) ... الكشاف (3/205).(1/197)
تتعلق بـ:"يصفون"، أي: لا يزالون على سوء الذِّكر إلى هذا الوقت.
والآية فاصلة بينهما على وجه الإعراض (1) والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعيناً بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم، أو على قوله: { وإنهم لكاذبون } [الأنعام:28].
{ قال رب ارجعون } أي: رُدُّوني إلى الدنيا. والخطاب لله بلفظ الجمع للتعظيم، كما قال:
فإنْ شِئْتُ حرَّمتُ النساءَ سِواكُم ... ... ..................... (2)
وقيل: استغاث أولاً بالله، ثم رجع إلى مسألة الملائكة، وهذا مروي عن [ابن] (3) جريج (4) .
وقال المازني: جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: رب ارجعن رب ارجعن رب ارجعن.
والمعنى: أن الكافر إذا أيقن بالموت واطَّلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة والندامة على ما فرّط في جنب الله، وسأل ربه أن يرجعه ليستدرك ما فاته من الإيمان والأعمال الصالحة، فذلك قوله: { لعلي أعمل صالحاً } .
__________
(1) ... في الكشاف: الاعتراض.
(2) ... صدر بيت للعرجي، وعجزه: (وإن شئت لم أطْعَم نُقاخاً ولا بَرْداً). انظر: ديوانه (ص:109)، واللسان (مادة: نقخ، برد)، وزاد المسير (2/420، 9/8)، وروح المعاني (2/170، 18/63، 30/16)، والدر المصون (1/604، 5/200)، والبحر المحيط (2/273، 6/388)، وتهذيب اللغة (14/105).
(3) ... زيادة من ب.
(4) ... ذكره القرطبي في تفسيره (12/149)، وأبو حيان في البحر (6/388).(1/198)
قال ابن عباس: لعلي أشهد أن لا إله إلا الله (1) .
قال قتادة: أما والله ما تمنى أن يُرْجَعَ إلى أهل ولا عشيرة، ولكنه تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمْنِيَةَ الكافر فاعملوا فيها (2) .
وقوله: { فيما تركت } قال ابن عباس: فيما مضى من عمري (3) .
وقال مقاتل (4) : فيما تركت من العمل الصالح.
وقيل: فيما تركت من المال (5) .
{ كلا } أي: لا يرجع إلى الدنيا.
وقيل: هو رَدْعٌ عن طلب الرجعة.
{ إنها } يعني: مسألته الرجعة { كلمة هو قائلها } أي: كلمة هو يقولها ولا فائدة له فيها.
وقيل: المراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضه مع بعض، وهي قوله: { لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت } ، هو قائلها لا محالة لا يسكت عنها؛ لاستيلاء الحسرة عليه، وتسليط الندم.
{ ومن ورائهم برزخ } أي: ومن أمامهم وبين أيديهم برزخ.
قال الزجاج (6) : البرزخ في اللغة: الحاجز، وهو هاهنا ما بين موت
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، باب ما جاء في فضل الكلمة الباقية (ح 204). وذكره السيوطي في الدر (6/115) وعزاه للبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/298).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/298)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/490).
(4) ... تفسير مقاتل (2/404).
(5) ... ذكره القرطبي في تفسيره (12/150).
(6) ... معاني الزجاج (4/22).(1/199)
الميت وبعثه.
قال الزمخشري (1) : أي: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة { إلى يوم يبعثون } ، وليس المعنى: أنهم يُرجعون يوم البعث، إنما هو إقناط كُلِّي لما عُلم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
#sŒخ*sù نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
__________
(1) ... الكشاف (3/205).(1/200)
النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ اتةحب
قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور } سبق ذكر الصُّور في الأنعام (1) .
واختلفت الرواية عن ابن عباس في هذه النفخة، هل هي الأولى التي هي نفخة الموت (2) ، أو نفخة البعث (3) .
فإن قلنا: هي النفخة الأولى؛ فلا إشكال حينئذ في قوله: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ؛ لأن الموت حال بينهم وبين التساؤل.
وإن قلنا: هي النفخة الثانية؛ كان المعنى: فلا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها، على ما عليه عادة العرب، لا يتساءلون كما يتساءل العرب في الدنيا: من أي قبيل أنت، وابنُ من أنت، وولوعهم بذلك أظهر من أن يُشْهر.
ومن أعجب ما طرق سمعي لهم في ذلك، ما روي: أن رجلاً من بني سعد دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ممن الرجل؟ فقال من الذين يقول لهم الشاعر:
إذا غَضِبَتْ عليكَ بنو تميم ... ... حسبتَ الناسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا
__________
(1) ... عند الآية رقم: 73.
(2) ... أخرجه الطبري (18/54). وذكره السيوطي في الدر (6/116-117) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وفيه من وجوه فانظره.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/298)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/490).(1/201)
فقال (1) : من أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم القائل:
يزيدُ بنو سعدٍ على عَدَدِ الحَصَا ... وأثقَلُ من وزْنِ الجبالِ حُلُومُها
فقال (2) : فمن أيّها أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر:
ثيابُ بني عوفٍ طَهَارَى نقيّة ... وأوجُهُهُم عند المَشَاهِدِ غُرَّان
قال: من (3) أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول فيهم الشاعر:
فلا وأبيكَ ما ظَلمتْ قُريعٌ ... ... بأنْ يَبْنُوا المكارمَ حيثُ شَاؤُوا
قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر:
قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم ... ... ومن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذَّنَبَا
فقال له عبد الملك: اجلس لا جلستَ، فوالله لقد خِفْتُ أن تفخر عَلَيَّ.
فعلى هذا المعنى: لا يتساءلون يوم القيامة؛ لأنهم في شغل عن ذلك. قال الله تعالى: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس:37].
وقيل: المعنى: فلا أنساب بينهم يومئذ يتعاطفون بها لتفرقهم في المثوبة والعقوبة، فإنه لا اعتداد في ذلك اليوم إلا بالأعمال الصالحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (( كل سبب ونسب يوم القيامة منقطع إلا سببي ونسبي )) (4) .
__________
(1) ... في ب: قال.
(2) ... مثل السابق.
(3) ... في ب: فمن.
(4) ... أخرجه الطبراني في الكبير (3/45 ح2634) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/173): رجاله ثقات، والحاكم (3/153 ح4684) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والمقدسي في الأحاديث المختارة (1/197 ح101) وقال: إسناده حسن، والبيهقي في الكبرى (7/64 ح13172).(1/202)
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [الصافات:27]؟
قلتُ: يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة مختلفة وأوقات متغايرة يتساءلون في وقت، ويشغلهم ما خامرهم من الأهوال والشدائد عن السؤال في وقت.
قرأت على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبدالقادر الجيلي الحنبلي، أخبرتكم شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبَري فأقرّ به قالت: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد السلام الأنصاري، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني قال: قرأتُ على أبي العباس بن حمدان، حدَّثَكم محمد بن إبراهيم بن [سعيد] (1) البوشنجي (2) ، حدثنا أبو يعقوب يوسف بن عدي (3) ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي (4) ، عن زيد بن
__________
(1) ... في الأصل: سعد. والصواب ما أثبتناه، انظر ترجمته في التعليق التالي.
(2) ... محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن بن موسى العبدي، أبو عبد الله البوشنجي الفقيه المالكي، ولد سنة أربع ومائتين، ارتحل شرقاً وغرباً ولقي الكبار، وجمع وصنّف وسار ذكره وبَعُد صيته، مات في آخر يوم من سنة تسعين ومائتين بنيسابور (سير أعلام النبلاء 13/581-589، وتذكرة الحفاظ 2/657-659).
(3) ... يوسف بن عدي بن زريق بن إسماعيل، ويقال: بن الصلت بن بسطام التيمي مولاهم، أبو يعقوب الكوفي، ثقة، سكن مصر، وذهب إليها في التجارة ومات بها في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب 11/367، والتقريب ص:611).
(4) ... عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي مولاهم، أبو وهب الجزري الرقي، ثقة صدوق، مات سنة ثمانين، وهو ابن ست وسبعين سنة (تهذيب التهذيب 7/38، والتقريب ص:373).(1/203)
أبي أنيسَة (1) ، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (( جاء رجل فقال: يابا عباس، إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، وقد وقع ذلك في صدري، فقال ابن عباس: أتكذيب؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب ولكن اختلاف. قال: فهَلُمَّ ما وقع في نفسك؟ فقال له الرجل: أسْمَعُ الله يقول: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وفي آية أخرى: { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } ، وقال في آية أخرى: { ولا يكتمون الله حديثاً } [النساء:42]، وقال في آية أخرى: { والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام:23]، فقد كتموه في هذه الآية. وفي قوله: { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } [النازعات:27-30]، فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل الأرض، وقال في الآية الأخرى: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت:9-11]، فذكر في هذه الآية (2) خلق الأرض قبل السماء، وقوله: { كان الله غفوراً رحيماً } [النساء:96]، { وكان الله عزيزاً حكيماً }
__________
(1) ... زيد بن أبي أنيسة واسمه زيد الجزري، أبو أسامة الرهاوي، كان يسكن الرها ومات بها، وكان ثقةً كثير الحديث، فقيهاً راويةً للعلم، مات سنة تسع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب 3/343، والتقريب ص:222).
(2) ... ساقط من ب.(1/204)
[النساء:158]، { وكان الله سميعاً بصيراً } [النساء:134]، كأنه كان ثم تقَضَّى؟ فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا؟ فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي. قال ابن عباس: قوله: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور، فصَعِقَ من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فإذا كانت النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأما قول الله تعالى: { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله: { ولا يكتمون الله حديثاً } فإن الله تبارك وتعالى يغفر يوم القيامة لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شِرْكاً، فلما رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر شِرْكاً، تعالَوْا نقول: إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله: أما إذا كتموا الشرك فاخْتموا على أفواههم، فيُخْتَمُ على أفواههم فتنطِقُ أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثاً (1) ، فذلك قوله: { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً } .
وأما قوله تعالى: { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم نزل إلى الأرض فدحاها، ودحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقّ فيها
__________
(1) ... في ب: ذنباً.(1/205)
الأنهار، وجعل فيها السبل، وخلق الجبال والرمال والأكوام وما فيها في يومين آخرين، فذلك قوله: { والأرض بعد ذلك دحاها } ، وقوله: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وجعلت السماوات في يومين.
وأما قوله: { كان الله غفوراً رحيماً } ، { وكان الله عزيزاً حكيماً } ، { وكان الله سميعاً بصيراً } فإن الله جعل نفسه ذلك وسمَّى نفسه ذلك، ولم ينحله أحداً غيره، "وكان الله" أي: لم يزل كذلك.
ثم قال ابن عباس: احفظ عني ما حدّثتك، واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدّثتك به، فإن الله تعالى لم ينزل شيئاً إلا قد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون، فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلاً من عند الله )) (1) . هذا حديث ذكره البخاري في كتابه بأن قال: وقال المنهال بن عمرو فذكره.
وقد سبق ذكر الميزان في أول الأعراف (2) .
قوله تعالى: { في جهنم خالدون } بدل من قوله: { خسروا أنفسهم } ، أو
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1815-1816 ح4537)، والطبراني في الكبير (10/245-246 ح10594).
(2) ... آية رقم: 8.(1/206)
خبر بعد خبر لـ"أولئك"، أو خبر مبتدأ محذوف (1) .
قوله تعالى: { تلفح وجوههم النار } أي: تَسْفَعُ وتُحْرِقُ، يقال: لَفَحَتْهُ النار؛ إذا أحرقتْه (2) .
قال الزجاج (3) : اللَّفْحُ والنَّفْحُ واحد، إلا أن اللَّفْحُ أعظم تأثيراً.
{ وهم فيها كالحون } قال الزجاج (4) : الكالِحُ: الذي قد تَشَمَّرَتْ شفتاه عن أسنانه، نحو ما يُرى برُؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمَّرَت الشِّفَاه.
قال مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مَرَّ في السوق برأس أُخرج من التنور، فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن.
قرأتُ على أبي المجد محمد بن الحسين القزويني، أخبركم محمد بن أسعد العطاري فأقرّ به، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا ابن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي، أخبرنا محمد بن يعقوب،
__________
(1) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/206). وانظر: الدر المصون (5/202).
... وقال أبو حيان في البحر (6/388): جعل "في جَهَنَّمَ" بدلاً مِنْ "خَسِرُواْ" وهذا بدل غريب، وحقيقته: أن يكون البدل الفعل الذي يتعلّق به "في جَهَنَّمَ"، أي: استقروا في جهنم، وهو بدل شيء من شيء؛ لأن من خسر نفسه استقر في جهنم. اهـ.
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (5/202): جعل الشيخ -يعني أبو حيان- الجار والمجرور، البدل دون "خالدون"، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك: "أو خبراً بعد خبر لأولئك، أو خبر مبتدأ محذوف". وهذان إنما يلتقيان بـ "خالدون" وأما "في جهنم" فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير "خالدون" مفلتاً. اهـ.
(2) ... انظر: اللسان (مادة: لفح).
(3) ... معاني الزجاج (4/23).
(4) ... معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/207)
أخبرنا عبدالله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبدالله الخلال، حدثنا عبدالله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( { وهم فيها كالحون } قال: تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سُرَّتَه )) (1) .
قال [الترمذي] (2) : هذا حديث حسن غريب.
قلتُ: وقد أخرجه الحاكم في صحيحه (3) .
وبهذا الإسناد قال: حدثنا ابن المبارك، عن حاجب بن [عمر] (4) ، عن الحكم بن الأعرج قال: قال أبو هريرة: (( يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال، [فيصير] (5) ضرسه مثل أُحُد، وشفاههم عند [سُرَرِهم] (6) ، سُودٌ زُرقٌ حُبْن مقبوحون )) (7) .
قال البغوي: الحبن جمع الأحبن، وهو العظيم البطن، ويقال للذي به
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (4/708 ح2587)، وأحمد (3/88 ح11854)، والبغوي في تفسيره (3/318).
(2) ... في الأصل و ب: البغوي. وهو خطأ. وانظر الترمذي، الموضع السابق.
(3) ... أخرجه الحاكم (2/428 ح3490).
(4) ... في الأصل و ب: عمرو. والتصويب من مصادر التخريج. وانظر ترجمته في: التقريب (ص:144)، وتهذيب الكمال (5/202).
(5) ... زيادة من البغوي (3/318).
(6) ... في الأصل: رؤوسهم. والتصويب من ب، ومن البغوي، الموضع السابق.
(7) ... أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:84 ح293)، والبغوي في تفسيره (3/318).(1/208)
السقي: أحبن، وأم حبين: دويبة على خلقة الحرباء عريضة البطن (1) .
ِNs9r& تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ اتةذب
قوله تعالى: { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } قرأ حمزة: "شَقَاوتُنا" بألف مع فتح الشين، وكذلك قرأ الحسن وقتادة إلا أنهما كسرا الشين (2) . وقرأ الباقون: "شِقْوَتُنا" بكسر الشين من غير ألف (3) . وكذلك قرأ عمرو بن العاص
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: حبن).
(2) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/492)، والدر المصون (5/203).
(3) ... الحجة للفارسي (3/186)، والحجة لابن زنجلة (ص:491)، والكشف (2/131)، والنشر (2/329)، والإتحاف (ص:320)، والسبعة (ص:448).(1/209)
وأبو رزين وأبو رجاء إلا أنهم فتحوا الشين (1) .
والمعنى في الجميع واحد، وهو سوء العاقبة.
ومعنى: "غلبت علينا": مَلَكَتْنا "شقوتنا" التي كتبت علينا في الدنيا.
{ وكنا قوماً ضالين } عن طريق الهدى.
{ ربنا أخرجنا منها } أي: من النار.
قال ابن عباس: طلبوا الرجوع إلى الدنيا (2) .
{ فإن عدنا } إلى الكفر والمعاصي { فإنا ظالمون } .
tA$s% اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/492).
(2) ... ذكره القرطبي (12/153)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/492).(1/210)
أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# اتتتب
{ قال اخسأوا فيها } قال الزجاج (1) : "اخسأوا" تباعَدُوا تَبَاعُدَ سَخَط، يقال: خَسَأْتُ الكلب أخْسَؤُهُ؛ إذا زجرْته ليتباعد (2) .
[وبالإسناد] (3) السابق آنفاً قال: حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة يذكره، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (( إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يَرُدُّ عليهم: إنكم ماكثون، قال: هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير، أولها
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/24).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: خسأ).
(3) ... في الأصل: بالإسناد. والتصويب من ب.(1/211)
زفير وآخرها شهيق )) (1) .
قوله: "ما نبس القوم بعدها"، أي: ما تكلموا بكلمة. ويجوز: نَبَّسَ بالتشديد.
قال الحسن البصري رحمه الله: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير، ويصير لهم عواء كعواء الكلب، لا يَفْهَمُون ولا يُفْهِمُون (2) .
وقال القرظي: إذا قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، انقطع رجاؤهم ودعاؤهم، وأقبل بعضهم يصيح في وجه بعض، وأُطبقت عليهم (3) .
ثم بيّن السبب الموجب لذلك فقال: { إنه كان فريق من عبادي } وفي حرف ابن مسعود وأبيّ: "أنه" بفتح الهمزة (4) ، على معنى: لأنه كان فريق من عبادي.
قال ابن عباس: يريد: المهاجرين (5) .
{ يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخرياً } قرأ نافع وحمزة والكسائي: "سُخرياً" بضم السين هنا
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/48 ح34122)، وهناد في الزهد (1/158 ح214)، والطبري (25/99)، والحاكم (2/429 ح3492) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) ... ذكره البغوي في تفسيره (3/318) عن الحسن، وأبو حيان في البحر (6/389) بلا نسبة.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/299).
(4) ... انظر قراءة ابن مسعود وأبيّ في: زاد المسير (5/493)، والدر المصون (5/203).
(5) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/299)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/493).(1/212)
وفي صاد (1) . وكسرها الباقون في الموضعين (2) ، وهو اختيار الفراء والزجاج (3) .
واتفقوا على ضم السين في الزخرف (4) ، يقال منه: سَخِرَ به وسَخِرَ منه يَسْخَرُ سُخْريةً وسُخْرياً وسِخْرياً؛ إذا هَزِئَ به، ومن السُّخْرَة التي هي بمعنى العبودية: سُخرْياً، بالضم لا غير، [ولذلك] (5) اتفقوا على ضم السين في الزخرف؛ لأنه من السُّخْرَة (6) .
قال الخليل وسيبويه في هذا الموضع وفي صاد: هما لغتان بمعنى واحد، ومثله: بحرٌ لِجّي ولُجي، وكوكب دِري ودُري (7) .
وقال أبو عبيدة (8) : الكسرة بمعنى: الهزء، والضم بمعنى: السُّخرة والاستعباد. وهذا المعنى مروي عن الحسن وقتادة (9) .
وقال أبو علي (10) : قراءة من كَسَرَ أرجح؛ لأنه من الهزء، والأكثر في
__________
(1) ... عند الآية رقم: 63.
(2) ... الحجة للفارسي (3/187)، والحجة لابن زنجلة (ص:491-492)، والكشف (2/131)، والنشر (2/329)، والإتحاف (ص:321)، والسبعة (ص:448).
(3) ... انظر: معاني الفراء (2/243)، ومعاني الزجاج (4/24).
(4) ... آية رقم: 32.
(5) ... في الأصل: وكذلك. والتصويب من ب.
(6) ... انظر: اللسان (مادة: سخر).
(7) ... انظر قول الخليل وسيبويه في: زاد المسير (5/493).
(8) ... مجاز القرآن (2/62).
(9) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (5/493).
(10) ... الحجة (3/187).(1/213)
الهزء؛ كسر السين.
قال مقاتل (1) : كان رؤوس الكفار من قريش؛ كأبي جهل، وعتبة، والوليد، قد اتخذوا فُقراء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ كعمار، وبلال، وخبّاب، وصهيب، سخرياً يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
{ حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون } أي: حتى نسيتم ذكري؛ لاشتغالكم [بالسخرية] (2) منهم وبالضحك.
ونسب الإنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه؛ لكنهم السبب في ذلك، كقوله تعالى: { إنهن أضللن كثيراً من الناس } [إبراهيم:36].
{ إني جزيتهم اليوم بما صبروا } على أذاكم واستهزائكم { أنهم هم الفائزون } .
وقرأ حمزة والكسائي: "إنهم" بكسر الهمزة على الاستئناف (3) . ومن فَتَحَ الهمزة جعله المفعول الثاني لـ"جزيتهم"، أو هو على تقدير حذف اللام، أي: لأنهم هم الفائزون.
ں@"s% كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
__________
(1) ... تفسير مقاتل (2/405).
(2) ... في الأصل: بالسخرة. والتصويب من ب.
(3) ... الحجة للفارسي (3/189)، والحجة لابن زنجلة (ص:492)، والكشف (2/131-132)، والنشر (2/329-330)، والإتحاف (ص:321)، والسبعة (ص:448-449).(1/214)
(112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ اتتدب
{ قال كم لبثتم } أي: قال الله تعالى، أو قال من أمره الله بسؤال الكافرين يوم البعث، وقيل: بعد حصولهم في النار.(1/215)
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "قل" على الأمر (1) ، على معنى: قل أيها الكافر المسؤول عن قدر لبثه، أو قل أيها المَلَكُ للكفار: كم لبثتم.
{ في الأرض } يعني: في الدنيا، وقيل: في القبور، { عدد سنين } .
قال الزجاج (2) : "كم" في موضع نصب بقوله: "كم لبثتم"، و"عدد سنين" منصوب بـ"كَمْ".
{ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } استقصروا مدة لبثهم في القبور، وإن كانوا معذَّبين؛ لأن عذابهم فيها بالنسبة إلى عذاب الآخرة كلا عذاب.
أو نقول على القول الأول: استقصروا مدة الحياة؛ لأنها أيام راحتهم، وأيام السرور قِصَار. أو لأن ما تقضّى من الزمان كأن لم يكن.
{ فاسأل العادّين } قال مجاهد: هم الملائكة الذي يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُونها عليهم (3) .
وقال قتادة: هم الحُسَّاب (4) .
وقرأ الحسن البصري والزهري: "العَادِين" بالتخفيف (5) ، على معنى:
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/189)، والحجة لابن زنجلة (ص:493)، والكشف (2/132)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:321)، والسبعة (ص:449).
(2) ... معاني الزجاج (4/25).
(3) ... أخرجه الطبري (18/63)، ومجاهد (ص:435) مختصراً، وابن أبي حاتم (8/2512). وذكره السيوطي في الدر (6/122) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (18/63)، وابن أبي حاتم (8/2511). وذكره السيوطي في الدر (6/121) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (5/495)، والدر المصون (5/205).(1/216)
سَلِ الظَّلَمَة الفَجَرَة فإنهم يقولون كما نقول.
وقُرئ: "العاديِّين" (1) القدماء المعمِّرين، فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟.
{ قال إن لبثتم } أي: قال الله.
وقرأ حمزة: "قل" على الأمر (2) ، أي: قل أيها المَلَكُ السائل، أو الكافر المسؤول إن لبثتم في الدنيا أو في القبور { إلا قليلاً } زمناً قليلاً، وسُمِّي قليلاً؛ لتناهيه، فإن كل متناه قليل وإن طال.
{ لو أنكم كنتم تعلمون } أي: لو علمتم مقدار لبثكم. وفي هذا دليل على جهلهم مقدار لبثهم.
قال ابن عباس: أنساهم الله تعالى قدر لبثهم، فَيُرَوْنَ أنهم لم يلبثوا إلا يوماً أو بعض يوم؛ لعظيم ما هم بصدده من العذاب نسوا ذلك (3) .
قوله تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } العَبَثُ: اللِعبُ وفعل الشيء لا لغرض صحيح. ونصبه على الحال، على معنى: عابثين، وهو اختيار سيبويه، أو هو مفعول لأجله، أي: للعبث (4) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: الكشاف (3/208)، والبحر المحيط (6/391) نقلاً عن الزمخشري.
(2) ... الحجة للفارسي (3/189)، والحجة لابن زنجلة (ص:493)، والكشف (2/132)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:321)، والسبعة (ص:449).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/300).
(4) ... انظر: التبيان (2/152)، والدر المصون (5/205).(1/217)
قال ابن [عباس] (1) : كما خُلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب [عليها] (2) . (3) .
{ وأنكم إلينا لا ترجعون } الأظهر أنه معطوف على "أنما خلقناكم"، ويجوز أن يكون معطوفاً على "عبثاً"، على معنى: [للعبث] (4) ولترككم غير مرجوعين (5) .
قوله تعالى: { فتعالى الله الملك الحق } أي: تعظّم وارتفع عما يصفه الجاهلون عن الشريك والولد. "الملك الحق" أي: الملك الثابت الذي لا يزول مُلْكُه، أو الحق الذي يحق له الملك.
{ لا إله إلا هو رب العرش الكريم } أي: السرير الحسن، والكريم في صفة الجماد بمعنى: الحسن.
وقيل: وصَفَ العرش بالكرم؛ لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة.
وقيل: لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم؛ إذا كان ساكنوه كراماً.
وقرأ ابن محيصن: "الكريمُ" بالرفع (6) ، صفة للرب عز وجل، ونحوه: { ذو العرش المجيد } [البروج:15].
__________
(1) ... زيادة من ب.
(2) ... في الأصل: علينا. والتصويب من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/300).
(4) ... في الأصل: اللعب. والتصويب من ب، والكشاف (3/208).
(5) ... هو قول الزمخشري في الكشاف (3/208).
(6) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:320).(1/218)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ اتترب
ثم توعد المشركين وهددهم فقال: { ومن يدع مع الله إلها آخر ... الآية } .
وقوله: { لا برهان له به } صفة لازمة، إذ ليس في الآلهة ما يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء (1) .
{ فإنما حسابه عند ربه } المعنى: هو الذي يتولى حسابه وجزاؤه. ويا له من تهديد ما أعظمه، وتخويف ما أفخمه.
{ إنه لا يفلح الكافرون } افتتح سبحانه السورة ببشارة المؤمنين بالفلاح وختمها ببشارة الكافرين بعدم الفلاح، فشتّان ما بين البشارتين.
__________
(1) ... ذكر هذين الوجهين الزمخشري في الكشاف (3/209). قال أبو حيان في البحر (6/391): وكلاهما تخريج صحيح.(1/219)
ثم إن الله تعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب منه المغفرة والرحمة لنفسه وللمؤمنين فقال: { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } .(1/220)
سورة النور
ijk
وهي أربع وستون آية، وهي مدنية بإجماعهم.
أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري، أخبرنا علي بن أحمد [النيسابوري] (1) ، أخبرنا الأستاذ أبو [منصور] (2) البغدادي، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد السراج، حدثنا محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي، حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي، حدثنا شعيب [بن] (3) إسحاق الدمشقي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تُنزلوهن الغُرَفَ، ولا تُعلمونهن الكتابة، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور -يعني: النساء-)) (4) . هذا حديث صحيح (5) ، أخرجه الحاكم في صحيحه، عن أبي علي الحافظ، عن
__________
(1) ... في الأصل: النيسابري. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: منصر. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل: عن. والتصويب من ب. وكذا وردت في الموضع التالي. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (4/304)، والتقريب (ص:266).
(4) ... أخرجه الحاكم (2/430 ح3494).
(5) ... في هامش مصورة ب: قوله: "صحيح"؛ ليس بصحيح. فإن الحاكم خرجه من حديث عبدالوهاب بن الضحاك، وهو كذاب، كما قال أبو حاتم وغيره ونُسب إلى الوضع، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الدمشقي السائح، وهو أيضاً مثله كذاب، منسوب إلى الوضع. وإنما حمل المصنف على تصحيحه قول الحاكم: صحيح الإسناد، والأمر ليس كما قال كما قد عرفت.
... قال الذهبي في مختصره للمستدرك: هو موضوع، والله أعلم.(1/221)
الباغندي، عن عبدالوهاب بن الضحاك (1) ، عن شعيب بن إسحاق.
وأخرجه الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره (2) ، عن ابن فنجويه الدينوري (3) ، عن ابن شَنَبة (4) ، عن محمد بن أحمد الكرابيسي، عن سلمان (5) بن توبة، عن محمد بن إبراهيم الشامي (6) . وكأنني رويته عن رجل عن الثعلبي.
îou'qك™ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
__________
(1) ... كُتب فوق هذا الاسم بخط مغاير في مصورة ب: البلاء منه أو من الشامي.
(2) ... أخرجه الثعلبي (7/62).
(3) ... الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله بن فنجويه الدينوري، كان ثقةً صدوقاً، كثير الرواية للمناكير، حسن الخط، كثير التصانيف، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، ومات بنيسابور في ربيع الآخر سنة أربع عشرة وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 17/384، وتكملة الإكمال 4/497).
(4) ... هو عبيد الله بن محمد بن شنبة.
(5) ... ويقال: سليمان. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (4/155)، والتقريب (ص:250).
(6) ... كُتب فوق هذا الاسم بخط مغاير في مصورة ب: المصيبة منه أو من عبدالوهاب.(1/222)
مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ×pxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اثب
قال الله تعالى: { سورةٌ أنزلناها وفرضناها } وقرأ جماعة، منهم: أبو رزين، ومحبوب، عن أبي عمرو: "سورةً" بالنصب (1) .
فمن رَفَعَ فعلى معنى: هذه سورة. و"أنزلناها" صفة لـ"سورة" (2) .
وقال الأخفش: "سورة" ابتداء وخبره في "أنزلناها" (3) .
وردَّ هذا القول الزجاج (4) وغيره؛ لأن النكرة لا يُبتدأ بها إلا إذا وُصفت، وإن جعل "أنزلناها وفرَّضْنَاها" بقي المبتدأ بلا خبر. وجوّز بعضهم أن تكون "سورة" مبتدأ، والخبر مُضْمَر، تقديره: فيما يتلى عليكم سورة أنزلناها، ولا
__________
(1) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:322).
(2) ... انظر: الدر المصون (5/207).
(3) ... انظر قول الأخفش في: القرطبي (12/158).
(4) ... انظر: معاني الزجاج (4/27).(1/223)
يجوز أن يُقدّر هذا الخبر متأخراً؛ لأن خبر النكرة يتقدم عليها، نحو قولك: في الدار رجلٌ وله مالٌ، ولا يَحْسُن: رجلٌ في الدار ومالٌ له؛ لقلة الفائدة فيه.
ومن نصبَ فعلى معنى: أنزلنا سورة، أو: اقرأ سورة أنزلناها (1) .
{ وفَرَّضْنَاها } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "وفَرَّضناها" بالتشديد، على معنى: كثَّرنا فرائضها، أو فصَّلنا وبيَّنا ما فيها من الفرائض (2) . وقرأ الباقون بالتخفيف، على معنى: فَرَضْنَا ما فيها وألزَمْنا العمل بها.
قال أبو علي (3) : التخفيف يصلح للقليل والكثير. ومن حجَّة التخفيف قوله تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن } [القصص:85]، والمعنى: أحكام القرآن وفرائض القرآن، كما أن التي في سورة النور كذلك.
وأصل الفَرْض في اللغة: التأثير والحَزّ، ومنه: فُرْضَةُ النَّهر والقَوْس، ثم اتُسع فيه حتى استعمل في معنى الواجب المقطوع به (4) .
{ وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون } سبق تفسيره.
قوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } قرأ الأكثرون: "الزانيةُ" بالرفع على الابتداء. وقرأ جماعة منهم أبو رزين وعيسى بن عمر: "الزانيةَ" بالنصب (5) ، واختاره الخليل وسيبويه (6) ، على معنى:
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (5/207).
(2) ... الحجة للفارسي (3/191)، والحجة لابن زنجلة (ص:494)، والكشف (2/133)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:322)، والسبعة (ص:452).
(3) ... الحجة (3/191).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: فرض).
(5) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/5)، والدر المصون (5/208).
(6) ... انظر: الكتاب (1/144).(1/224)
"اجلدوا الزانية".
وقال الزجاج (1) : الرفع أقوى في العربية؛ لأن المعنى: من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء.
فإن قيل: لم قَدَّم الزانية على الزاني، والمُذَكَّر أبداً يُقَدَّم، وباعتبار ذلك قُدِّمَ السارق على السارقة (2) ؟
قلتُ: العرب أبداً تُراعي الأهم فتبدأ به، وذكْرُ الزانية أهم من الزاني؛ لأن عارها بالزنا أكثر، وحرصها عليه أشد، وقبحه في حقها أغلظ، [وقدرتها] (3) عليه أتم، وباعتبار ذلك قُدِّمَ السارق؛ لأن العار والقبح في حقه أشد، وحرصه على السرقة أكثر، وقدرته عليها أتم.
قوله تعالى: { فاجلدوا } معنى الجَلْد: ضرب الجِلْد، يقال: جَلَدَهُ؛ إذا ضَرَبَ جِلْدَهُ، مثل: رأسه، إذا ضرب رأسه وبطنه (4) .
فصل
قال بعض [علمائنا] (5) : هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْد (6) على البِكْر والثَّيِّب، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق البكر زيادةً على الجلد بتغريب عام،
__________
(1) ... معاني الزجاج (4/27-28).
(2) ... في سورة المائدة عند قوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [38].
(3) ... في الأصل: قدرتها. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: جلد).
(5) ... في الأصل: العلمائنا. والتصويب من ب.
(6) ... في ب: الحد.(1/225)
وفي حق الثيب زيادة على الجلد [بالرجم] (1) بالحجارة (2) ؛ فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم [بالحجارة] (3) )) (4) .
قلتُ: وهذا الحديث صحيح، وقد ذكرته مُعَنْعَناً وتكلمت عليه في سورة النساء (5) .
وممن قال بوجوب النفي في حق البكر: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعطاء، وطاووس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (6) .
[وممن] (7) قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب: علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، والحسن بن صالح، وإمامنا أحمد -في إحدى الروايتين عنه-، وإسحاق (8) .
وذهب قوم إلى أن الجلد المذكور في هذه الآية للبكر إذا زنا، فأما الثيب فلا يجب عليه إلا الرجم، وهو قول النخعي، والزهري، والأوزاعي،
__________
(1) ... في الأصل: الرجم. والتصويب من ب.
(2) ... انظر: المغني (9/45).
(3) ... في الأصل: الحجارة. والتصويب من ب.
(4) ... أخرجه مسلم (3/1316 ح1690)، والنسائي (6/320 ح11093).
(5) ... عند الآية رقم: 16.
(6) ... زاد المسير (6/6).
(7) ... في الأصل: ومن. والتصويب من ب.
(8) ... زاد المسير (6/6).(1/226)
والثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وإحدى الروايتين عن إمامنا أحمد (1) .
وقال أبو حنيفة: لا يُشرع النفي في حق البكر إذا زنا (2) .
والصحيح: الأول؛ لما أُخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني: (( أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل، قال: إن ابني كان عسيفاً (3) على هذا، فزنى بامرأته، وإني أُخبرتُ أن على ابني الرّجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألتُ رجالاً من أهل العلم فأخبروني [أن على ابني] (4) مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت )) (5) .
__________
(1) ... زاد المسير (6/6-7).
(2) ... انظر: حاشية ابن عابدين (1/259).
(3) ... في هامش ب: أي: أجيراً.
(4) ... زيادة من ب.
(5) ... أخرجه البخاري (2/971 ح2575)، ومسلم (3/1324 ح1697).
... وأنيس المذكور في الحديث هو: ابن الضحاك الأسلمي (انظر ترجمته في: الاستيعاب 1/114، والإصابة 1/136).(1/227)
قوله تعالى: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قرأ الأكثرون: "رأْفَةٌ" بإسكان الهمزة. وقرأ جماعة؛ منهم سعيد بن جبير: "رآفة" بفتح الهمزة ومدّها (1) ، مثل النَّشْأَة والنَّشَاءَة.
وقرأ ابن كثير: "رَأَفَة" بفتح الهمزة وقَصْرها (2) ، مثل: رَعَفَة.
قال أبو علي (3) : يقال: رأفْتُ بالرجل أرْؤُفُ به، وأرْأَفُ رَأْفَةً، قال (4) : ولعل "رأفة" التي قرأها ابن كثير لغة.
والمعنى: لا يأخذكم بهما رحمة وتحنُّن، فتُعطِّلوا الحدود، أو تُخَفِّفُوها.
فصل
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: يجرّد الزاني ويعطى كل عضو منه حقه من الضرب، ويُتَّقى الوجه والرأس والمذاكير، وهذا مذهب أبي حنيفة أيضاً (5) .
وقال مالك: لا يضرب إلا على الظَّهْر (6) .
وقال الشافعي: يُتَّقَى الوجه والفرج (7) .
__________
(1) ... انظر هذه القراءة في: زاد المسير (6/7)، والدر المصون (5/208).
(2) ... الحجة للفارسي (3/191)، والحجة لابن زنجلة (ص:495)، والكشف (2/133)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:322)، والسبعة (ص:452).
(3) ... الحجة (3/191).
(4) ... أي: أبو علي الفارسي.
(5) ... انظر: المغني لابن قدامة (9/141)، والمبسوط للسرخسي (9/72).
(6) ... انظر: المدونة الكبرى (16/236).
(7) ... انظر: روضة الطالبين (10/172).(1/228)
فصل
قال علماؤنا: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، وضرب الشارب أشد من التعزير. وهذا قول الحسن البصري (1) .
وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف (2) .
وقال مالك: الضرب في الحدود كلها على السواء غير مبرِّح بين الضربين (3) .
قوله تعالى: { في دين الله } قال ابن عباس: في حُكْم الله (4) .
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه.
{ وليشهد عذابهما طائفة } أي: جماعة { من المؤمنين } .
قال ابن عباس: أربعة إلى أربعين رجلاً من [المصَدِّقين] (5) بالله (6) .
وقال الحسن: عشرة (7) .
__________
(1) ... انظر: التمهيد لابن عبدالبر (5/328).
(2) ... انظر: المبسوط للسرخسي (9/71).
(3) ... انظر: المدونة الكبرى (16/248)، والتمهيد (5/327-328).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/303)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/8).
(5) ... في الأصل: الصدقين. والتصويب من ب.
(6) ... ذكره النسفي في تفسيره (3/134)، وأبو حيان في البحر (6/395).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/8)، والسيوطي في الدر (6/126) وعزاه لعبد بن حميد.(1/229)
وقال سعيد بن جبير: اثنان فصاعداً (1) .
وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعداً (2) .
قال الحسن: أُمِرَ أن يُعْلِنَ بذلك (3) .
وفي الحديث: عن أبي هريرة ويروى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد حصل لي من أربعين طريقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( حَدٌّ يقام في الأرض خير من أن تُمطروا أربعين صباحاً أو أربعين ليلة )) (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/69) عن عكرمة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/8) عن سعيد بن جبير، والسيوطي في الدر (6/126) وعزاه لابن جرير عن عكرمة.
(2) ... أخرجه الطبري (18/70). وذكره السيوطي في الدر (6/126) وعزاه لابن جرير عن الزهري.
... والذي اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره (18/70): أنه ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين الواحد فصاعداً، قال: وذلك أن الله عمّ بقوله: { وليشهد عذابهما طائفة } ، والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعداً.
... فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاص من العدد، كان معلوماً أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما أمره الله به بقوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت، أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا; لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك، وهم فيما دون ذلك مختلفون.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/303).
(4) ... أخرجه أحمد (2/362 ح8723).(1/230)
فصل يتضمن نبذة زاجرة عن الزنا
روي عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( يا معشر الناس! اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال؛ ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في الدنيا: فيُذْهِبُ البهاء، [ويورث] (1) الفقر، وينقص العُمُر. وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار )) (2) .
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب [الله] (3) على الزناة )) (4) .
وقال وهب: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقَوَّاد لا يموت حتى يعمى.
'خT#¨"9$# لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ اجب
__________
(1) ... في الأصل: ويوثر. والتصويب من ب.
(2) ... أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء (4/111). وذكره القرطبي في تفسيره (12/167).
(3) ... لفظ الجلالة زيادة من ب، ومصادر التخريج.
(4) ... أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء (6/179). وذكره القرطبي في تفسيره (12/167).(1/231)
قوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } أخرج أبو داود في سننه بإسناده: (( أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بَغِيٌ يقال لها: عَنَاق، وكانت صديقته، قال: فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ فنزلت: { الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } فدعاني فقرأها وقال لي: لا تنكحها )) (1) .
وقال أكثر المفسرين: كان بالمدينة نساء بغايا، وكنّ يَكْرِين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فلما قدم المهاجرون المدينة رغب في كسبهن ناس من فقرائهم، وقالوا: لو أنا تزوجناهن لَعِشْنا معهن إلى أن يغنينا الله من فضله، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2) .
وحرّم فيها نكاح الزانية؛ صيانة للمؤمنين من هذه الرذيلة، وحفظاً لأنسابهم، ومحاماة على أحسابهم، وأخبر أن من فعل ذلك وتزوج بواحدة منهن فهو زانٍ، وهذا الخبر في معنى النهي.
ومذهب إمامنا أحمد: أنه إذا زنا بامرأة لم يجز له أن يتزوجها حتى يتوبا (3) .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في (2/220 ح2051).
(2) ... أخرج نحوه الطبري (18/70). وذكره الواحدي في الوسيط (3/304)، والسيوطي في الدر المنثور (6/127-129).
(3) ... انظر: زاد المسير (6/9).(1/232)
وذهب سعيد بن المسيب في آخرين: إلى أن هذه الآية منسوخة بعموم قوله تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم } (1) [النور:32].
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ليس هذا النكاح ولكن الجماع، ولا يزني بها إلا زان أو مشرك (2) .
يريد: أن هذه الآية حَكَتِ الحال، فإن الزاني لا يزني إلا بزانية من أهل القبلة أو مشرك.
قال عكرمة: كانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، ولا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان (3) .
{ وحُرِّمَ ذلك } قال مقاتل (4) : نكاح الزواني.
وقال الفراء (5) : يعني: الزنا { على المؤمنين } .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/540 ح16922)، والبيهقي في سننه (3/154 ح13646)، والطبري (18/74-75). وذكره الواحدي في الوسيط (3/304)، والسيوطي في الدر (6/130) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي داود وأبي عبيد معاً في التاريخ وابن جريج وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
(2) ... أخرجه الحاكم (2/211 ح2786) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في سننه (7/154 ح13645). وذكره السيوطي في الدر (6/126-127) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي داود في ناسخه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة.
(3) ... أخرجه الطبري (18/72) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/9).
(4) ... تفسير مقاتل (2/408).
(5) ... معاني الفراء (2/245).(1/233)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اخب
قوله تعالى: { والذين يرمون المحصنات } الرَّمي: القَذْف بالزنا، والإحصان المشترط في المقذوفة والمقذوف الذي يتوقف [وجوب] (1) الحدّ به على القاذف ما جمع خمسة أوصاف: الحرية، والإسلام، والعقل، والعفّة عن الزنا، وأن يكون المقذوف ممن يُجَامِعُ أو يَجَامَعُ مثله.
وقال مالك في الصَّبِيَّة؛ كقولنا.
__________
(1) ... في الأصل: ووجوب. والتصويب من ب.(1/234)
واشترط أبو حنيفة والشافعي: البلوغ، وهو رواية عن إمامنا (1) .
وقد ذكر الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه في زاد المسير في تفسير هذه الآية (2) : أن شرائط الإحصان عندنا أربعة: البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح.
فأما الإسلام فليس بشرط في الإحصان. وهذا [سهوٌ] (3) بلا شك، فإن هذه الأوصاف شرائط الإحصان الذي يتوقف وجوب الرجم على الزاني [أو الزانية] (4) عليه.
قوله تعالى: { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } أي: بأربعة رجال عُدُول أحرار يشهدون بالزنا، { فاجلدوهم ثمانين جلدة } أي: اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة عقوبة له على جنايته، وزجراً له عن ارتكاب مثلها، وإظهاراً لبراءة المقذوف مما رماه به.
ثم نهى الله عز وجل عن قبول شهادتهم، مُعَلِّلاً ذلك بما أكَّده من عظيم فِسْقِهِم فقال: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون } .
فصل
هذه الآية دالة على أن القاذف إذا لم تقم البينة بما قال؛ يجب عليه الجلد، وتُرَدُّ شهادته على الأبد، ويثبُتُ فِسْقُه.
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (10/205).
(2) ... زاد المسير (6/10).
(3) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب.
(4) ... في الأصل: والزانية. والتصويب من ب.(1/235)
واختلفوا: هل يثبت فسقه بمجرد القذف، أم يتوقف على وجود الحد؟
فذهب علماؤنا والشافعي إلى ثبوته إذا لم تَقُم (1) البينة وإن لم يُحَدّ (2) .
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يثبت فسْقُه ولا تُرَدُّ شهادته حتى يقام عليه الحد (3) .
فصل
ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية؛ فالصريح قوله: يا زاني، يا عاهر، ونحو ذلك مما لا يحتمل غير القذف. فمتى وجد ذلك فهو قاذف. ولا يقبل قوله بما يحيله، [وإن قال] (4) : يا لوطي، أو يا مَعْفُوج (5) ، فهو صريح (6) .
وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط فلا حَدَّ عليه (7) .
قال شيخنا أبو محمد ابن قدامة رضي الله عنه (8) : وهذا بعيد.
وإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الرجال، احتمل وجهين (9) .
__________
(1) ... في ب: يُقِم.
(2) ... انظر: زاد المسير (6/10).
(3) ... انظر: زاد المسير (6/11).
(4) ... في الأصل: وقال. والتصويب من ب.
(5) ... العَفْجُ: أن يفعل الرّجُلُ بالغلام فعل قوم لوط (اللسان، مادة: عفج).
(6) ... انظر: الإنصاف (10/210).
(7) ... انظر: المصدر السابق.
(8) ... المغني (9/68).
(9) ... انظر: الإنصاف (10/210).(1/236)
وإن قال: لست بولد فلان، فقد قذف أمه، وله المطالبة إن كانت أمه ميتة، حُرَّةً كانت أو أمَة، مسلمة أو كافرة إذا كان هو حُرّاً مسلماً (1) .
وقال أبو بكر عبد العزيز: لا يحدّ بقذف ميتة (2) .
وإن قال: زَنَتْ يداك أو رجلاك، فهو صريح عند أبي بكر (3) .
وقال ابن حامد: ليس بصريح (4) . وهو الصحيح.
وأما الكناية قوله للمرأة: قد فَضَحْتِ زوجَكِ ونَكَّسْتِ رأسه، وجَعَلْتِ له قُرُوناً، وأَفْسَدْتِ فِرَاشَهُ، أو يا قَحْبَة، أو قوله لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال، ما يعرفك الناس بالزنا. فهذا جميعه إن فسره بما يحتمله غير القذف قُبل قوله في أحد الوجهين، وفي الآخر صريح (5) .
فصل
والقذف حق [للآدمي] (6) ، فيصح إبراؤُه منه، ويسقط بعفوه، ويتوقف على مطالبته.
فإن قذف جماعة بكلمة واحدة فَحَدٌّ واحد إذا طالبوا، [أو طالب] (7) واحد
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (10/212، 219).
(2) ... انظر: الإنصاف (10/219).
(3) ... انظر: الإنصاف (10/213).
(4) ... انظر: المصدر السابق.
(5) ... انظر: الإنصاف (10/215).
(6) ... في الأصل: الآدمي. والمثبت من ب.
(7) ... في الأصل: وطالب. والتصويب من ب.(1/237)
منهم (1) .
وقيل: إن طالبوا متفرقين حُدَّ لكل واحد (2) .
وإن أفرد كل واحد بكلمة حُدَّ لكل واحد منهم.
وقال أبو حنيفة: عليه حدٌّ واحد للجميع (3) .
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } قال ابن عباس: أظهروا التوبة (4) .
وقال غيره: لم يعودوا إلى قذف المحصنات (5) .
واختلف العلماء في هذا الاستثناء؛ فذهب بعضهم إلى أنه يعود إلى الفسق فقط، وأما الشهادة فلا تقبل أبداً، وهو قول الحسن وشريح والنخعي وقتادة وأبي حنيفة وأصحابه.
قال شريح: كل صاحب حدٍّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح، فشهادته جائزة إلا القاذف فإنه قضاءٌ من الله أن لا تقبل شهادته أبداً، وإنما توبته فيما بينه وبين ربه (6) .
وذهب بعضهم إلى أن الاستثناء يعود إلى مجموع الأمرين، فيرفَعُ الفسقُ وإسقاط الشهادة، وهو قول عكرمة والزهري والشعبي وطاووس
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (10/223).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... انظر: حاشية ابن عابدين (4/51)، والمبسوط للسرخسي (9/71).
(4) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/305)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/12).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/12).
(6) ... أخرجه الطبري (18/78-79).(1/238)
ومجاهد والقاسم بن محمد والشافعي والإمام أحمد، وحملوا الأبد (1) المذكور في الآية على مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة (2) .
وعن ابن عباس كالقولين.
قال أبو عبيد: الذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع عند قوله: "أبداً"، ثم استأنف فقال: "أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا"، فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة.
وأما الآخرون فذهبوا إلى أن الكلام معطوف بعضه على بعض، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل الكلام.
قال (3) : والذي نختار: هذا القول؛ لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرماً من راكبها، ولا خلاف في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب، فالرامي بها أيسر جُرْماً إذا نزع، وليس القاذف بأشد جُرْماً من الكافر، والكافر إذا أسلم وأصلح قُبلت شهادته (4) .
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: على.
(2) ... قال الواحدي في الوسيط (3/305): فإن قيل: فما الفائدة في قوله: { أبداً } ؟
... قيل: أبد كل إنسان مقدار مدته فيما يتصل بقضيته. تقول: الكافر لا تقبل منه شيئاً أبداً، معناه: ما دام كافراً، كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبداً ما دام قاذفاً، فإذا زال عنه الكفر زال أبداً، وإذا زال عنه الفسق زال أبداً، لا فرق بينهما في ذلك.
(3) ... أي: أبو عبيد.
(4) ... انظر قول أبي عبيد في: الوسيط (3/305) ونسبه لأبي عبيدة، وزاد المسير (6/12) بلا نسبة.(1/239)
[قلتُ] (1) : ومما يؤيد ذلك: ما أخبرنا به شيخنا الإمام أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدَّسَ الله روحه قراءة عليه بدمشق، والشيخ أبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن، شيخ رباط الصوفية بدار الذهب ببغداد بقراءتي عليه، قالا: أخبرنا أبو زرعة [طاهر بن] (2) محمد بن طاهر المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان الكرجي، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، قال: سمعت الزهري قال: (( زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز، فأشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة: تُب تُقبل شهادتك، أو إن تُبْتَ قُبلت شهادتك )) (3) .
فإن قيل: ما محل قوله: "إلا الذين تابوا" من الإعراب؟
قلتُ: إن كان الاستثناء من الفسق فقط فهو منصوب؛ لأنه استثناء عن موجب، وإن كان من مجموع الأمرين فهو مجرور على البدل من "هم" في قوله: { ولا تقبلوا لهم } (4) .
فإن قيل: ما الفرق بين المسلم إذا قَذَفَ ثم تاب وأناب لا تقبل شهادته عند
__________
(1) ... في الأصل: وقلت. والمثبت من ب.
(2) ... زيادة على الأصل. وقد تقدم.
(3) ... أخرجه الشافعي في مسنده (1/151).
(4) ... هذا قول الزمخشري في الكشاف (3/218). وانظر: التبيان (2/153-154)، والدر المصون (5/209).(1/240)
كثير من العلماء، وبين الكافر إذا أسلم وقد قَذَفَ تقبل شهادته إجماعاً؟
قلتُ: الحدّ في القذف وعدم قبول الشهادة إنما كان دفعاً للعار عن المقذوف بهذه الفاحشة العظيمة، وسعياً في إعدامها بهذين الزاجرين، ولذلك لم يجب الحدّ على من قذف جماعة أو أهل بلد (1) يَتَصَوَّرُ الزنا من جميعهم.
فإذا ثبت ذلك قلنا: المسلمون لا يلحقهم العار بقذف الكافر؛ لأنهم شُهروا بعداوتهم والطعن عليهم بالباطل بخلاف المسلم إذا [قذف] (2) مسلماً [مثله] (3) .
tûïد%©!$#ur يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ
__________
(1) ... في الأصل زيادة: لا. وهو خطأ. وانظر: ب.
(2) ... في الأصل: قذ. والتصويب من ب.
(3) ... في الأصل و ب: قبله. والتصويب من الكشاف (3/218).(1/241)
كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ اتةب
قوله تعالى: { والذين يرمون أزواجهم } السبب في [نزولها] (1) : ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبدالله بن عبد الصمد السلمي بدمشق، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة البغدادي برأس عين قالا: أخبرنا أبو الوقت، [أخبرنا الداودي] (2) ، أخبرنا السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف
__________
(1) ... في الأصل: نزلولها. والتصويب من ب.
(2) ... زيادة على الأصل. وقد سبق هذا السند كثيراً بهذه الزيادة.(1/242)
الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن حسان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: (( أن هلال بن أمية قذف [امرأته] (1) عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البينة أو [حدٌ] (2) في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً [ينطلق] (3) يلتمس البينة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: البينة وإلا حدٌ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، والله إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل وأنزل عليه: { والذين يرمون أزواجهم } -فقرأ حتى بلغ: { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يعلم أن أحدكما [كاذب] (4) فهل منكما تائب، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلَكَّأَتْ ونَكَصَتْ حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليَتَين، خَدَلَّجَ الساقين، فهو لشَريك بن سحماء، فجاءت به كذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [لولا] (5) ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن )) (6) . [هذا] (7) حديث صحيح.
__________
(1) ... في الأصل: امرأة. والتصويب من ب، والصحيح (4/1772).
(2) ... في الأصل و ب: حداً. والمثبت من الصحيح، الموضع السابق.
(3) ... زيادة من الصحيح، الموضع السابق.
(4) ... في الأصل: لكاذب. والتصويب من ب، ومن الصحيح، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: لو. والتصويب من ب، ومن الصحيح، الموضع السابق.
(6) ... أخرجه البخاري في (4/1772 ح4470).
(7) ... في الأصل: وهذا. والمثبت من ب.(1/243)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "خدلَّج الساقين" أي: عظيمهما.
فصل يتضمن بيان حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحد، وله التخلص منه بإقامة البينة أو باللعان. فإن أقام البينة لزمها الحد، وإن لاَعَنَها فقد حقق عليها الزنا، ولها التخلص منه باللعان. فإن نَكَلَ عن اللعان فعليه حد القذف، وإن نَكَلَتْ لم تُحَدّ، وحُبست حتى تُلاعِنَ أو تُقِرَّ بالزنا، في إحدى الروايتين. وفي الأخرى: يخلى سبيلها.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يُحدُّ واحد منهما ويُحبس حتى يُلاعن (1) .
وقال الشافعي ومالك: يجب الحد على النَّاكل منهما (2) .
فصل
واختلف العلماء في الزوجين [اللذَيْن] (3) يجري بينهما اللعان. والمشهور عن إمامنا رضي الله عنه: أن كل زوج صَحَّ قذفُه صَحَّ لعانُه، فيشمل الكافر والمسلم (4) ، والحر والعبد، وهذا مذهب مالك والشافعي أيضاً (5) .
وذهب الزهري والأوزاعي وحماد بن سلمة وأبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه لا يصح اللعان إلا ممن هو من أهل الشهادة.
__________
(1) ... انظر: حاشية ابن عابدين (3/485)، والمبسوط للسرخسي (7/39).
(2) ... انظر: الأم (5/295)، ومواهب الجليل (4/132).
(3) ... في الأصل: الذي. والتصويب من ب.
(4) ... في ب: المسلم والكافر.
(5) ... انظر: زاد المسير (6/15).(1/244)
فعلى هذا لو كان أحد الزوجين ذمياً أو رقيقاً أو محدوداً في قذف فلا لعان.
واتفقوا على جواز لعان الفاسق والأعمى.
فصل
وصفة اللعان: أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتُها به من الزنا. ثم تقول هي: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا (1) .
فإن نقص أحدهما من الألفاظ الخمسة شيئاً، أو بدأت باللعان قبله، أو تلاعنا بغير حضرة الحاكم أو نائبه؛ لم يعتد به، وإن أبدل لفظة "أشْهَدُ" [بأقسم] (2) أو أحلف، أو لفظة اللعنة بالإبعاد أو الغضب بالسخط فعلى وجهين (3) .
فصل
والسُّنَّةُ أن يتلاعنا قياماً بمحضر جماعة في الأماكن المعظّمة (4) ، فإذا بلغ كل واحد منهما إلى الخامسة وَعَظَهُ الحاكم، وقال له: اتق الله فإنها
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (9/2235-236).
(2) ... في الأصل: أشهد بالله أو أحلف. والمثبت من ب.
(3) ... انظر: الإنصاف (9/237).
(4) ... انظر: الإنصاف (9/239-240).(1/245)
الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
فصل
فإذا تَمَّ اللعان بينهما ثبت (1) أربعة أحكام:
أحدها: سقوط الحدّ عنه -كما ذكرناه-، ولو قذفها برجل بعينه: سقط الحدّ عنه لهما (2) ؛ لحديث هلال بن أمية.
الثاني: وقوع الفُرْقة بينهما عندنا وعند مالك وزفر (3) .
وقال الشافعي: تقع الفُرْقة بينهما بمجرد لعان الزوج (4) .
وقال أبو حنيفة: لا تقع الفُرْقة إلا بتفريق القاضي بينهما، وهي رواية عن إمامنا أيضاً (5) .
الثالث: التحريم المؤبَّد، عند إمامنا وأكثر العلماء (6) .
وروي عنه رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه فتحلُّ على الرواية المذكورة، وإذا قلنا: تحل له الزوجة بإكذاب نفسه، فإن لم يكن وُجِدَ منه طلاق فهي باقية على نكاحه (7) .
__________
(1) ... في ب: ثبتت.
(2) ... انظر: الإنصاف (9/251).
(3) ... انظر: الإنصاف (9/251)، والمبسوط للسرخسي (7/43)، والتمهيد لابن عبد البر (15/29).
(4) ... انظر: الأم (5/21).
(5) ... انظر: المبسوط للسرخسي (7/43)، والإنصاف (9/251).
(6) ... انظر: الإنصاف (9/252).
(7) ... مثل السابق.(1/246)
الرابع: انتفاء الولد عنه بمجرد اللعان (1) .
وقال الخرقي: لا ينتفي حتى يذكره في اللعان، فإذا قال: أشهد بالله لقد زنت، يقول: وما هذا الولد ولدي، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده (2) .
قوله تعالى: { ولم يكن لهم شهداء } أي: شهداء يشهدون بصحة ما رَمُوهُنَّ به، { إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } .
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "أربعُ" برفع العين، ونصبها الباقون (3) .
قال الزجاج (4) : من قرأ بالرفع فعلى خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدَّ القذف أربع، ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات.
وقال الزمخشري (5) : انتصب؛ لأنه في حكم المصدر، والعامل فيه المصدر الذي هو "فشهادة أحدهم"، وهو مبتدأ محذوف، تقديره: فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات.
__________
(1) ... انظر: الإنصاف (9/253).
(2) ... انظر: الإنصاف (9/254).
(3) ... الحجة للفارسي (3/192)، والحجة لابن زنجلة (ص:495)، والكشف (2/134)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:322)، والسبعة (ص:452-453).
(4) ... معاني الزجاج (4/32).
(5) ... الكشاف (3/221).(1/247)
وقال مكي (1) : يجوز أن ينتصب على المصدر، كما تقول: شهدت مائة شهادة، وضربته مائة سوط.
{ والخامسة أن لعنة الله عليه } وقرأ نافع ويعقوب: "أنْ" بالتخفيف وسكونها، "لَعْنَةُ" بالرفع (2) .
قال سيبويه (3) : لا تخفَّف "أَنَّ" في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة.
قوله تعالى: { ويدرأ عنها العذاب } أي: يدفع عنها الحدّ.
قوله: { والخامسةُ } وقرأ حفص: "والخامسةَ" بالنصب (4) ، فمن رَفَعَ فعلى معنى: والشهادةُ الخامسة، فحذف الموصوف. ومن نَصَبَ حمله على المعنى، تقديره: وتشهدُ الخامسة.
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله: "أن تشهد أربع شهادات بالله" (5) .
{ والخامسةَ أنَّ غضب الله عليها } وقرأ نافع "أَنْ" بالتخفيف والسكون، "غَضِبَ" بكسر الضاد وفتح الباء، على أنه فعل ماض، "اللهُ" بالرفع بإسناد
__________
(1) ... الكشف (2/134).
(2) ... الحجة للفارسي (3/194)، والحجة لابن زنجلة (ص:495)، والكشف (2/134)، والنشر (2/330)، والإتحاف (ص:322)، والسبعة (ص:453).
(3) ... انظر: الكتاب (3/163-164).
(4) ... الحجة للفارسي (3/192)، والحجة لابن زنجلة (ص:495)، والكشف (2/135)، والنشر (2/331)، والإتحاف (ص:323)، والسبعة (ص:453).
(5) ... انظر: الدر المصون (5/211).(1/248)
الفعل إليه (1) .
وقرأ يعقوب: "أنْ" بالتخفيف، "غَضَبُ" بالرفع، وعلته ما ذكرناه في التي قبلها من قول سيبويه.
فإن قيل: لم خُصَّت الملاعِنة بالغضب؟
قلتُ: لتفاقم جريمة الزنا بالنسبة إلى جريمة القذف، ولذلك كان عذابها أشدّ.
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } جوابه محذوف، تقديره: لَبَيَّن الكاذب منكما وفضَحَه، أو لعذَّبَه.
وفي قوله: { وأن الله تواب } تعريض بتوبة الكاذب منهما، [وإخبار] (2) أنه لا يتعاظمه غفران ما جَنَاهُ الجاني منهما، { حكيم } فيما فرض من الأحكام والحدود.
¨bخ) الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
__________
(1) ... الحجة للفارسي (3/194)، والحجة لابن زنجلة (ص:496)، والكشف (2/134)، والنشر (2/330-331)، والإتحاف (ص:322)، والسبعة (ص:453).
(2) ... في الأصل: وإخباراً. والتصويب من ب.(1/249)
مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ اتتب
قوله تعالى: { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } أجمع علماء الإسلام على أن هذه الآية وما في حَيِّزها نزلت في قصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن الصوفي قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب الزهري.
[وأخبرنا] (1) حنبل بن عبدالله إذناً واللفظ له قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود من حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرَّأها الله عز وجل، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصاً،
__________
(1) ... في الأصل: أخبرنا. والتصويب من ب.(1/250)
وقد وعيتُ عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يُصَدِّقُ بعضاً، ذكروا: (( أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعدما أُنزل الحجاب وأنا أُحْمَلُ في هوْدَجي وأُنْزَلُ فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه وقفل ودنونا من المدينة أَذِنَ ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنونا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرَّحْل، فلمست صدري فإذا عقد من جَزْع أظْفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هَوْدَجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خِفافاً لم يَهْبَلْنَ ولم يَغْشَهُنَّ اللحم، إنما يأكلن العُلْقَةَ من الطعام، فلم يستنكر القوم ثِقَلَ الهودَج حين رحلوه ورفعوه، وكنتُ جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيمَّمتُ منزلي الذي كنت فيه وظننتُ أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمتُ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (1) قد عَرَّسَ من وراء الجيش فادَّلَجَ، وأصبح
__________
(1) ... صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاعي بن محارب بن مرة بن فالج ابن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم السلمي، أبو عمرو الذكواني، يقال: إنه أسلم قبل المريسيع، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق والمشاهد كلها بعدها، قيل: إنه مات بالجزيرة في ناحية شمشاط ودفن هناك، ويقال: إنه غزا الروم في خلافة معاوية فاندقت ساقه، ولم يزل يطاعن حتى مات، وذلك سنة ثمان وخمسين، وكان خيرا ًفاضلاً شجاعاً بطلاً (الاستيعاب 2/725).(1/251)
عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضربَ عليَّ الحجاب، فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطِئَ على يدها فركبتُها، فانطلق يقودُ بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في [نَحْرِ] (1) الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يَريبني (2) في وجعي أني لا أعرفُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلّم ثم يقول: كيف تيكُم؟ فذاك يَريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجتُ بعدما نَقَهْتُ وخرجتْ معي أم مسطَح قِبَل المناصِعِ وهو مُتبرَّزُنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريباً من بيوتنا، وأمْرُنا أمْرُ العرب الأول في التنزُّه، وكنا نتأذَّى بالكُنُف أن نتّخذها عند بيوتنا، فانطلقنا أنا وأم مِسْطَح وهي بنت أبي رُهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أُثاثة بن عبّاد بن
__________
(1) ... في الأصل: حر. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(2) ... في هامش ب: يريبني: بفتح الياء وضمها، لغتان، وهي بمعنى: يشككني.(1/252)
المطلب، فأقبلت أنا وبنت (1) أبي رُهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها فقالت: تَعِسَ مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، تسُبين رجلاً قد شهد بدراً؟ فقالت: أي هَنَتَاهُ أوَ لَمْ تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، [فازددتُ] (2) مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي فدخل عَليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: كيف تيكُم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقَّنَ الخبر من قِبَلهما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتُ أبويّ فقلت لأمي: يا أمَّتاه، ما يتحدّث الناس؟ فقالت: أي بُنية هوِّني عليك، فوالله لَقَلَّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبُّها ولها ضرائر إلا أكثرنَ عليها، قالت: قلت: سبحان الله أوَ قد تحدَّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ولا [أكتحلُ] (3) بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استَلْبَثَ (4) الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يَعْلَمُ من براءة أهله (5) ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود [فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً] (6) . وأما علي
__________
(1) ... في الأصل زيادة قوله: ابن. وانظر ب ومصادر التخريج.
(2) ... في الأصل: فازدت. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(3) ... في الأصل: اكتحلت. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(4) ... استلبث: استفعل من اللبث، وهو الإبطاء والتأخير (النهاية 4/224).
(5) ... في الأصل و ب: زيادة قوله: وبالذي يعلم من براءة أهله. وهو تكرار. وانظر: مصادر التخريج.
(6) ... زيادة من مصادر التخريج.(1/253)
بن أبي طالب فقال: لم يُضيِّقِ الله تعالى عليكَ والنساءُ سواها كثير، [وإن] (1) تسأل الجارية [تَصْدُقك] (2) . قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة (3) فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبُكِ من عائشة؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمصُهُ عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجنُ فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال [وهو] (4) على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاهُ في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: لعمرك لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك مُنافق تُجادل عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس والخزرج، حتى هَمُّوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُم حتى سكتوا وسكتَ. قالت: وبكيتُ
__________
(1) ... في الأصل: ولأن. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(2) ... في الأصل: لتصدقنك. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(3) ... بريرة، مولاة السيدة عائشة رضي الله عنها.
(4) ... في الأصل: هو. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.(1/254)
يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنَتْ عليّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهَّدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئُك الله عز وجل، وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [مقالتَه] (1) قلصَ دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، قالت: فقلتُ وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله قد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم وصدَّقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة -والله عز وجل يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقُوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكم بأمر -والله عز وجل يعلم أني بريئة- تُصدقوني، وإني والله لا أجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ، [قالت] (2) : ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مُبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن
__________
(1) ... زيادة من ب، ومصادر التخريج.
(2) ... في الأصل: فقالت. والمثبت من ب.(1/255)
ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في أمري، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يُبرئني الله عز وجل بها، قالت: والله ما رامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من البيت أحدٌ حتى أنزل الله عز وجل على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمَان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فلما سُرِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برَّأك، فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذي أنزل براءتي، قالت: فأنزل الله عز وجل: { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم... عشر آيات } فأنزل الله عز وجل هذه الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } إلى قوله: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله عز وجل لي، فَرَجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان يُنفق عليه وقال: لا أنْزِعُها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري وما علمت [أو ما] (1) رأيتِ أو ما بلغكِ؟ قالت: يا رسول الله أُحْمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيراً.
__________
(1) ... في الأصل: وما. والتصويب من، ومصادر التخريج.(1/256)
قالت عائشة: وهي التي كانت تُساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعصمها الله تعالى [بالوَرَع] (1) ، وطفقت حمنة بنت جحش تُحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط )) (2) . هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق.
تفسير ما اشتمل عليه هذا الحديث من الغريب:
قولها: "من جَزْع أظْفَار" هكذا وقع في الرواية والصواب: ظَفَار. قال ابن قتيبة: هي مدينة باليمن يكون فيها هذا الجَزْع (3) .
قولها: "يَهْبَلْنَ" بفتح الياء والباء، أي: لم يكثر لحمهن، والمهبل: الكثير اللحم الثقيل الحركة من السِّمَن (4) .
و"العُلْقَة" البُلْغَة، وأصل ذلك شجر يبقى في الشتاء فتعْلِقُها الإبل وتجتزئ بها حتى تدرك الربيع (5) .
"فتيمَّمْتُ" قَصَدْتُ.
__________
(1) ... في الأصل: باورع. والتصويب من ب، ومصادر التخريج.
(2) ... أخرجه البخاري (2/942-945 ح2518)، ومسلم (4/2129-2136 ح2770)، وأحمد (6/194-196).
(3) ... انظر: معجم البلدان (4/60).
(4) ... انظر: اللسان (مادة: هبل).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: علق).(1/257)
ومعنى قولها: "عرَّسَ": نزل وحطَّ رحْلَه من آخر الليل للراحة (1) .
وقولها: "فادّلَجَ" مشدد الدال: هو سيرُ آخر الليل، وأدْلَجَ -بالتخفيف-: سير الليل كله (2) .
وقولها: "خَمَّرتُ وجهي": غطَّيْتُه. والجلباب: ما [تَسْتَتِرُ] (3) به المرأة كالإزار ونحوه (4) .
قولها: "مُوغِرين": الوَغرَة: شدّة الحر، ويقال: وَغَرَت الهاجرة وغراً، وأوْغَرَ الرَّجُلُ: إذا صار في ذلك الوقت (5) ، كما يقال: أظهر وأصبح وأمسى.
و"المِرْط": كساء من صوف أو خزّ يُؤتزر به (6) .
"لا يَرْقَأُ لي دمع": أي: لا ينقطع.
"أغْمِصُهُ": أعيبُه.
و"الدَّاجِنُ": الشاة التي تحبس في البيت لدَرِّها، يقال: دَجَنَ بالمكان؛ إذا أقام به (7) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "من يعذرُني" أي: من يقيمُ عذري إن عاقبته أو عاتبته، أو شكوتُ منه.
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: عرس).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: دلج).
(3) ... في الأصل: تستر. والمثبت من ب.
(4) ... انظر: اللسان (مادة: جلب).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: وغر).
(6) ... انظر: اللسان (مادة: مرط).
(7) ... انظر: اللسان (مادة: دجن).(1/258)
وقولها: "قَلَصَ دمعي" أي: انقطع، يقال: قَلَصَ الشيء وتقلّص؛ إذا تَضَامَّ ونَقَص (1) .
وقولها: "ما رَامَ مجلسه": أي: ما برح مكانه.
و"البُرَحَاء": أشد الكرب.
و"الجُمَان": جمع جُمَانة، وهي اللؤلؤة المتَّخَذَة من الفضة (2) .
و"ثِقَلُ القول": هيبتُه.
قوله تعالى: { إن الذين جاءوا بالإفك } أي: بأقبح الكذب وأسوأه، واشتقاقه من أَفَكَ الشيء؛ إذا قُلِبَ عن وجهه (3) ، والإفك: هو الحديث المقلوب عن وجهه.
ومعنى القَلْب في هذا الحديث (4) : أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق المدح والثناء بما كانت عليه من الحصانة والدين والمكانة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكونها أمّاً للمؤمنين، فلما رَمَوْها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه.
والعُصْبة: الجماعة.
قالت عائشة: هم أربعة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبيّ، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش (5) .
__________
(1) ... انظر: اللسان (مادة: قلص).
(2) ... انظر: اللسان (مادة: جمن).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: أفك).
(4) ... في ب زيادة: هو.
(5) ... أخرجه مسلم (4/2138 ح2770).(1/259)
قال صاحب الكشاف (1) : العُصْبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وهم: عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان، ومسطح، وحمنة، ومن ساعدهم.
قوله تعالى: { منكم } أي: من المؤمنين، { لا تحسبوه } خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعائشة وأمها وأختها، وسائر من تأذى بسبب قذفها.
والمعنى: لا تحسبوا الإفك { شراً لكم } نظراً إلى ما لحقكم من الأذى في هذه الدار الفانية، { بل هو خير لكم } لإفضائه بكم إلى النعيم الأبدي في الآخرة وشرف المنزلة في الدنيا؛ بإظهار براءة الحَصَان الرَّزَان (2) ، الكريمة الأخلاق، الطاهرة الأعراق، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وثناء الله تعالى عليها بوحْي يُتلى إلى يوم القيامة في مجامع العباد وجوامع العباد.
وفي هذه الآية مُستدلٌ لمن يعتقد أن المناسب ينخرم بالمعارض، وهي قضية مختلف فيها بين أرباب الجدل.
{ لكل امرئ منهم } أي: من العصبة الكاذبة { ما اكتسب من الإثم } أي: جزاء ما اجترح من الإثم على قدر خوضه فيه.
{ والذي تولى كبره منهم } (3) وقرأتُ ليعقوب: "كُبْرَهُ" بضم الكاف (4) .
__________
(1) ... الكشاف (3/221).
(2) ... الحصان: العفيفة (اللسان، مادة: حصن).
... والرَّزَان: يقال: امرأة رزان: إذا كانت ذات ثبات ووقار وعفاف (اللسان، مادة: رزن).
(3) ... في الأصل زيادة: له عذاب أليم. وهو خطأ.
(4) ... النشر (2/331)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:323).(1/260)
قال الكسائي (1) : وهما لغتان.
قال ابن قتيبة (2) : كُبْرُ الشيء: مُعْظَمُه، وأنشدوا:
تنامُ عن كُبْرِ شأنِها فإذا ... ... قامتْ رُويداً تكادُ تَنْغَرف (3)
والمعنى: والذي استبدّ بمعظم الإفك وقام بإشاعة الحديث وبثّه، وهو رأس المنافقين والنفاق (4) : عبدالله بن أبيّ بن سلول، في قول ابن عباس وعائشة وجمهور المفسرين (5) .
قال الضحاك: هو الذي بدأ بذلك (6) .
ويروى: أن صفوان بن المعطل مَرَّ بعائشة [عليه] (7) وهو في ملأ من قومه فقال: من [هذه] (8) ؟ فقالوا: عائشة، فقال: والله ما نجت منه ولا نجا
__________
(1) ... انظر قول الكسائي في: زاد المسير (6/19).
(2) ... تفسير غريب القرآن (ص:301).
(3) ... البيت لقيس بن الخطيم، انظر: ديوانه (ص:17)، واللسان، (مادة: كبر)، والقرطبي (12/236)، والتمهيد لابن عبد البر (22/276) وفيهما: "تنقصف" بدل "تنغرف"، وزاد المسير (6/19)، وروح المعاني (23/180).
(4) ... في ب: رأس النفاق.
(5) ... أخرجه الطبري (18/79). وذكره السيوطي في الدر (6/159) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد.
(6) ... أخرجه الطبري (18/87)، وابن أبي حاتم (8/2545). وذكره السيوطي في الدر (6/159) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(7) ... زيادة من ب.
(8) ... في الأصل: هذا. والتصويب من ب.(1/261)
منها (1) .
وقال: امرأة نبيكم باتتْ مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها (2) .
{ له عذاب عظيم } قال ابن عباس: يريد: الجلد في الدنيا، جَلَدَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانين جلدة، والصيرورة في الآخرة إلى النار (3) .
وروت عَمْرَة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما نزل عُذْري، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فجُلدوا الحَدَّ)) (4) . أخرجه الترمذي.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَلَدَ عبدالله بن أبيّ، ومِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، فأما الثلاثة فتابوا، وأما عبدالله بن أبيّ فمات منافقاً )) (5) .
وبعض العلماء يُنْكِرُ ذلك ويقول: لم يُجْلَد (6) أحدٌ من أهل الإفك.
وقيل: الذي تولى كِبْره: حسان بن ثابت.
ويروى عن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما تمثَّلْتُ به إلا رجوتُ له الجنة، فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله تعالى يقول: { والذي
__________
(1) ... ذكره القرطبي في تفسيره (12/199).
(2) ... أخرجه الطبري (18/89)
(3) ... أخرجه الطبراني في الكبير (23/137 ح181). وذكره السيوطي في الدر (6/150) وعزاه للطبراني.
(4) ... أخرجه الترمذي (5/336 ح3181).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/22).
(6) ... في ب: يحد.(1/262)
تولى كبره منهم له عذاب عظيم } ؟ فقالت: أليس قد ذهب بصره (1) ؟.
وروى عنها مسروق أنها قالت: [وأي] (2) عذاب أشد من العمى (3) ؟.
ويروى عن عائشة: أن الذي تولى كِبْره: عبدالله بن أبيّ، وحَمْنة بنت جحش (4) .
وأنكر قومٌ أن يكون حسّان ممن خاض في الإفك أو جُلد فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: لم يقل شيئاً ولكنه الذي يقول:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بريبة ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُوم الغَوافل
فإن كانَ ما قد قيل عني قلتُه ... فلا رفعتْ سَوْطِي إليَّ أنَامِلِي
مُهَذَّبَةٌ قد طيَّبَ اللهُ خِيمَها ... وطَهَّرَها من كل بغيٍ وباطل
وإنّ الذي قد قيلَ ليسَ بلائِطٍ ... بها الدّهر بلْ قولُ امرئ بي مَاحِل (5)
والصحيح: أنه من جملة من خاض في الإفك، لكنه حسنت توبته بعد.
Iwِq©9 إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/88). وذكره السيوطي في الدر (6/158) وعزاه لابن جرير.
(2) ... في الأصل: أي. والمثبت من ب.
(3) ... أخرجه البخاري (4/1523 ح3915، 4/1779 ح4478)، ومسلم (4/1934 ح2488).
(4) ... أخرجه مسلم (4/2138 ح2770).
(5) ... انظر الأبيات في: ديوان حسان (190-191)، والمعجم الكبير للطبراني (23/116)، وسير أعلام النبلاء (2/163)، والاستيعاب (4/1883-1884)، وسيرة ابن هشام (4/272-274)، والقرطبي (12/200)، والبحر (6/401).(1/263)
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ اتجب
قوله تعالى: { لولا إذ سمعتموه } أي: هلا إذ سمعتموه (1) أيتها العصبة الكاذبة قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } (2) .
قال الحسن: بأهل دينهم (3) ؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة.
قال المبرد (4) : ومثله قوله تعالى: { فاقتلوا أنفسكم } [البقرة:54]، وكذلك
__________
(1) ... في ب: سمعتم.
(2) ... في الأصل جاء قوله: "خيراً" بعد قول الحسن. والمثبت من ب.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (3/311).
(4) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (3/311).(1/264)
قوله تعالى: { ولا تلمزوا أنفسكم } [الحجرات:11].
{ وقالوا هذا إفك مبين } كَذِبٌ ظاهر.
وروي: أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قالت له أمه: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال: هذا إفك مبين، أكنتِ يا أماه فاعلته؟ قالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك، فنزلت هذه الآية (1) .
قال صاحب الكشاف (2) : فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم؟ ولم [عَدَلَ] (3) عن الخطاب إلى الغيبة [وعن الضمير إلى الظاهر] (4) ؟
قلتُ: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليُصرّح بلفظ الإيمان، دلالةً على أن الاشتراك فيه مُقتَضٍ أن لا يُصدِّقَ مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قَالَةً على أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن [من الخير] (5) : "هذا إفك مبين". وهذا من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له، وليْتَكَ تجد من يسمع فيسكت ولا يُشيع
__________
(1) ... أخرجه الطبري (18/96)، وابن راهويه في مسنده (3/978). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/20)، والسيوطي في الدر (6/160) وعزاه للواحدي وابن عساكر والحاكم، والرواية فيهم عن امرأة أبي أيوب، عدا زاد المسير.
(2) ... الكشاف (3/222-223).
(3) ... في الأصل: يعدل. والتصويب من ب، والكشاف (3/222).
(4) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(5) ... في الأصل: بالخير. والتصويب من ب، ومن الكشاف، الموضع السابق.(1/265)
ما سمعه بأخواتٍ.
قوله تعالى: { لولا جاؤوا عليه } أي: هلاَّ جاؤوا على قذفهم عائشة { بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله } أي: في حكمه { هم الكاذبون } .
قلتُ: وما أوضح الدليل في هذه الآية وأبينه على وجوب تكذيب القاذف إذا لم يُقِم البيّنة ولو كان صادقاً في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى قد جعل الفصل بين الرمي الصادق والكاذب إقامة البينة وعدم إقامتها.
ںwِqs9ur فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(1/266)
(15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اترب
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أي: لولا أن الله تفضَّل عليكم ورحمكم { في الدنيا } بالإمهال للتوبة، { و } في { الآخرة } بالعفو والمغفرة، { لمسكم } أيتها العُصْبَة { فيما أفضتم فيه } أي: بسبب ما خضتم فيه من قذف الصدّيقة { عذاب عظيم } .
ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله ورحمته لأصابهم فيه العذاب العظيم فقال: { إذ تلقونه } .
ويحتمل عندي: أن يكون الظرف للإفاضة، على معنى: لمسّكم عذاب(1/267)
عظيم في العاجل والآجل فيما أفضتم فيه وقت تلقيكم الإفك [بالقبول] (1) غير منكريه ولا مكذبيه.
قال الزجاج (2) : المعنى: يُلقيه بعضكم إلى بعض.
وقرأ ابن مسعود: "تَتَلقونه" بزيادة تاء على الأصل.
وقرأ عمر بن الخطاب: "تُلْقُونَه" بضم التاء وإسكان اللام وضم القاف وتخفيفها، من الإلقاء.
وقرأ معاوية: "تَلْقَوْنَه" بفتح التاء والقاف، من اللِّقاء.
وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة ومجاهد: "تَلِقُونَه" بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف مع التخفيف أيضاً، من الوَلَق، وهو الإسراع في الكذب (3) .
قال الزجاج (4) : يقال: وَلَق يلِقُ؛ إذا أسرع في الكذب وغيره (5) . وقال الشاعر:
....................... ... ... جَاءَتْ به عَنْسٌ من الشام تَلِقْ (6)
أي: تُسرع. والعَنْسُ: الناقة.
__________
(1) ... في الأصل: بالقول. والتصويب من ب.
(2) ... معاني الزجاج (4/38).
(3) ... انظر هذه القراءات جميعاً في: زاد المسير (6/21)، والدر المصون (5/213).
(4) ... معاني الزجاج (4/38).
(5) ... انظر: اللسان (مادة: ولق).
(6) ... الشطر من رجز قاله الشماخ يهجو به جُليداً الكلابي، وقبله: (إن الجُلَيد زَلِقٌ وَزُمَّلِقْ). انظر: اللسان (مادة: ولق)، والطبري (18/98)، والماوردي (4/82)، وزاد المسير (6/21).(1/268)
{ وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } قال الزمخشري (1) : إن قلت: ما معنى قوله: ["بأفواهكم"] (2) والقول لا يكون إلا بالفم؟
قلتُ: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيُتَرجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم [من غير ترجمة عن علم به في القلب] (3) .
{ وتحسبونه هيناً } سهلاً وصغيرة من الصغائر، { وهو عند الله عظيم } في الإثم وكبيرة من الكبائر.
جزع بعضهم عند الموت، فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.
من تلمَّحَ هذه القصة: علم أن الله تعالى وصف أهل الإفك وذمهم بارتكاب ثلاثة آثام:
أحدها: تلقِّي الإفك وإشاعته.
والثاني: القول بغير علم.
والثالث: استصغارهم لعظيم ما جاؤوا به من البَهْتِ والقذف لأم المؤمنين، وما في ضمن ذلك من أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذى صِدِّيقه أبي بكر رضي الله عنه.
قوله تعالى: { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا } أي: ما ينبغي لنا { أن
__________
(1) ... الكشاف (3/223-224).
(2) ... في الأصل: بأفوهكم.
(3) ... زيادة من الكشاف (3/224).(1/269)
نتكلم بهذا سبحانك } تعجب من عظيم هذا الأمر.
قال صاحب الكشاف (1) : الأصل في ذلك: أن يُسَبِّحَ الله تعالى عند رؤية العَجَبِ من صنائعه، ثم كَثُرَ حتى استُعمل في كل مُتعجَّبٍ منه، أو لتنزيه الله من أن تكون حُرْمَةُ (2) نبيّه فاجرة.
ويروى أيضاً: أن امرأة أبي أيوب قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟ فقال: ما يكون لنا أن نتكلم [بهذا] (3) ، سبحانك هذا بهتان عظيم، [فنزلت هذه الآية (4) .
وقال سعيد بن جبير: لما سمع سعد بن معاذ ذلك قال: سبحانك هذا بهتان عظيم] (5) ، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد بن معاذ (6) .
قوله تعالى: { يعظكم الله } قال مجاهد: نهاكم الله (7) . { أن تعودوا لمثله } أي: لمثل هذا القذف { أبداً } .
__________
(1) ... الكشاف (3/224-225).
(2) ... حُرْمَةُ الرَّجُل: أهله (مختار الصحاح، مادة: حرم).
(3) ... في الأصل: بها. والتصويب من ب.
(4) ... انظر: أسباب النزول للواحدي (ص:333)، وزاد المسير (6/22). وذكره السيوطي في الدر (6/160) وعزاه لابن مردويه.
(5) ... زيادة من ب.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (6/22)، والسيوطي في الدر (6/160) وعزاه لسنيد في تفسيره.
(7) ... أخرجه الطبراني في الكبير (23/145 ح207). وذكره الواحدي في الوسيط (3/312)، والسيوطي في الدر (6/161) وعزاه للفريابي والطبراني.(1/270)
وقوله: { إن كنتم مؤمنين } تهييج لهم وتنبيه على أن من شأن المتَّصِفِ بالإيمان أن يهجر المعصية ويفعل الطاعة.
{ ويبين الله لكم الآيات } وهي الدلالات على علمه [وحُكْمه] (1) وحلمه بما نزّل من الشرائع والآداب الجميلة، { والله عليم } بالأشياء { حكيم } في تصاريف القضاء.
cخ) الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ اتزب
ثم هدّد القاذفين فقال: { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } أي: [يَفْشُوا] (2) القذف بالزنا { في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } يريد: الحدّ وعذاب النار، { والله يعلم } شرّ ما خُضتم فيه وما تضمن من استحقاق العذاب، { وأنتم لا تعلمون } ذلك.
__________
(1) ... في الأصل: وحكمته. والتصويب من ب.
(2) ... في الأصل: يفشون. والتصويب من ب.(1/271)
وقيل: يعلم الضمائر، فقد عَلِمَ من أحبَّ منكم إشاعة الفاحشة ومن لم يُحبَّها.
ںwِqs9ur فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اثتب(1/272)
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم } عَطْفٌ على الذي قبله، وجواب "لولا" محذوف، تقديره: لعاجلكم بالعقوبة.
قوله تعالى: { لا تتبعوا خطوات الشيطان } مُفسرٌ في البقرة (1) .
والمعنى هاهنا: لا تتبعوه فيما زَيّنَ لكم من قذف عائشة.
{ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } مُفسّر في النحل (2) .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أيها القذفة { ما زكى منكم من أحد } أي: ما تطهّر.
وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة: "ما زَكَّى" بتشديد الكاف (3) ، على معنى: ما طَهَّرَ منكم من إثم الإفك.
"مِنْ أحدٍ" في موضع الرفع بإسناد الفعل إليه على القراءة الأولى، وفي موضع نصب على القراءة الثانية.
قال ابن عباس: ما قَبِلَ توبة أحد منكم (4) { أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع } لأقوالكم { عليم } بضمائركم وأفعالكم.
ںwur يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
__________
(1) ... عند الآية رقم: 168.
(2) ... عند الآية رقم: 90.
(3) ... إتحاف فضلاء البشر (ص:323).
(4) ... أخرجه الطبراني في الكبير (23/132 ح168). وذكره الواحدي في الوسيط (3/313).(1/273)