رموز الكنوز
في تفسير الكتاب العزيز
تأليف
الحافظ عز الدين عبد الرّازق بن رزق الله الرّسْعَني الحنبلي
(589-661هـ)
الجزء الأول
دراسة وتحقيق
أ. د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش(1/1)
جميع الحقوق محفوظة للمحقق
أ.د. عبدالملك بن دهيش
الطبعة الأولى 1429هـ، 2008م
يطلب من: مكتبة الأسدي
مكة المكرمة/هـ 5570506-5575241(1/2)
تقديم
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وردَّ أباطيل الملحدين بقوله: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله في الأميين رسولاً، ونزَّل القرآن عليه تنزيلاً، { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة . اللهم اجزه عنا أفضل ما جازيتَ نبيًّا عن أمته، وأحينا اللهم على سنته، وتوفنا على ملته، غير مبدلين ولا مفرطين ولا مفتونين، بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
وبالله تعالى نستعين على بلوغ الأمل، وإياه نسأل التوفيق للصواب في القول والعمل، وهو حسبنا وإليه ننيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد:(1/3)
فهذا كتاب "رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز" للإمام المحدث المفسر الحافظ عز الدين عبد الرّازق بن رزق الله الرّسْعَني الحنبلي، نضعه بين أيدي القراء.
وقد ظهرت عناية كبيرة للعلماء بكتاب الإمام الرسعني، وقد تجلى هذا من خلال الحلقات العلمية التي كان أهل العلم يعقدونها لإلقائه في مجالس، وبعضهم كان يلقيه من حفظه (1) .
وقد اعتمد الرسعني في بيان معاني الآيات أحسن طرق التفسير، فهو يفسر الآية بالقرآن وقراءاته، ثم بالأحاديث الواردة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإيراد أسباب النزول المروية عنهم، ثم باللغة العربية.
ثم يسوق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما ما يذكره عن الصحابة أو التابعين من الروايات فغالباً ما يذكرها دون إسناد.
وقد سقط من أول الكتاب المقدمة والفاتحة والبقرة وصدر آل عمران، وسقط منه أيضاً سورة المائدة كلها، ومائة وسبع وعشرين آية من الأنعام.
نسأل الله أن يوفقنا للعثور على القسم المفقود من الكتاب ليتم إضافته إلى الموجود منه، إنه على كل شيء قدير.
هذا وقد قدمنا بين يدي الكتاب دراسة وافية عنه، وقسمنا هذه الدراسة إلى مقدمة وستة مباحث:
__________
(1) للتوسع في ذلك ينظر ص:63 من هذه المقدمة.(1/4)
ففي المقدمة تكلمنا عن مقاصد البحث في كتاب "رموز الكنوز".
وفي المبحث الأول: ذكرنا ترجمة المؤلف، وقد تناولت حياة المؤلف الشخصية والعلمية.
المبحث الثاني: ذكرنا فيه التعريف بكتاب رموز الكنوز: (نسبة الكتاب للمؤلف - قيمة الكتاب العلمية - عناية العلماء بكتاب "رموز الكنوز" - منهج المؤلف في كتابه "رموز الكنوز").
المبحث الثالث: موارد الرسعني في كتابه: "رموز الكنوز".
المبحث الرابع: منهج العمل في التحقيق.
المبحث الخامس: منهج العمل في التعليق.
المبحث السادس: التعريف بالنسخ الخطية لكتاب "رموز الكنوز".
وأخيراً ذيلنا الكتاب بفهارس عامة تعين المراجع على الوصول إلى بغيته بسهولة وتتضمن:
فهرس الأحاديث والآثار.
فهرس الرواة.
فهرس الأعلام.
فهرس المسائل الفقهية.
فهرس المسائل اللغوية.
فهرس الكتب.
فهرس الأشعار.
فهرس المقطعات.
فهرس الأمثال.
فهرس المصادر والمراجع.(1/5)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتبه:
... ... ... ... أ. د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش
... ... ... ... ... 1/9/1429هـ(1/6)
المبحث الأول
ترجمة المؤلف
أ- مصادر ترجمة المؤلف
ب- حياة المؤلف الشخصية
1-اسمه ونسبه ... ... ... 2- كنيته ولقبه ونسبته
3- ولادته ... ... ... ... 4-أسرته
ج- حياته العلمية
1- نشأته وطلبه للعلم ... 2- رحلاته
3- شيوخه ... ... ... 4- تلامذته
5- مؤلفاته ... ... ... 6- ثناء العلماء على المؤلف
7- شعره ... ... ... 8-وفاته(1/7)
ترجمة المؤلف
مصادر ترجمته:
1.عقود الجمان في شعراء هذا الزمان لابن الشعار (ت654هـ) (4/31ب-38/أ).
2. ذيل تكملة الإكمال لابن العمادية (ت673هـ): (1/294)
3.تكملة إكمال الإكمال لابن الصابوني (ت680هـ): (ص153)
4.كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي (ت695هـ): (ص25)
5.معجم الدمياطي (ت705هـ) (ق13/أ-14/ب).
6.تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي (ت723هـ): (4/192)
7.ذيل مرآة الزمان لليونيني (ت726هـ): (1/545) و (2/219)
8.مختصر طبقات المحدثين لابن عبد الهادي (ت744هـ): (4/239)
9.تاريخ الإسلام للذهبي (ت748هـ): (5/143)
10.تذكرة الحفاظ له: (3/1452)
11.طبقات المحدثين له: (1/210)
12.العبر له: (3/302)
13.الوافي بالوفيات للصفدي (ت764هـ): (18/409)
14.البداية والنهاية لابن كثير (ت774هـ): (13/241)
15.الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية للقرشي (ت775هـ): (1/313)(1/8)
16.ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (ت795هـ): (2/274)
17.طبقات القراء لابن الجزري (833هـ): (1/384)
18.التبيان في بديعة البيان لابن ناصر الدين (ت842هـ) (ق148/أ).
19.السلوك للمقريزي (ت845هـ): (1/502)
20.تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني (852هـ): (2/614)
21.النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى (ت874هـ): (7/211)
22.المقصد الأرشد لابن مفلح (ت884هـ): (2/132)
23.طبقات المفسرين للسيوطي (ت 911هـ): (ص55)
24.طبقات الحفاظ له: (ص508)
25.المنهج الأحمد للعليمي (ت928هـ): (2/261)
26.طبقات المفسرين للداودي (ت945هـ): (1/300)
27.طبقات المفسرين للأدنروي (القرن الحادي عشر): (ص:243)
28.كشف الظنون لحاجي خليفة (ت1067هـ): (1/452، 1/743، 1/913، 2/163)
29.شذرات الذهب لابن العماد (ت1089هـ): (3/305)
30.هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي (ت1339هـ): (1/566)
31.الأعلام للزركلي: (3/292)
32.معجم المؤلفين لكحالة: (5/217)(1/9)
33.مستدرك معجم المؤلفين له: (ص:373)
34.الإمام الرسعني الحنبلي وتفسيره رموز الكنوز : لمحمد صفاء شيخ إبراهيم حقي (؟-؟).
35.معجم المفسرين لعادل نويهض (؟-؟) (1/281)
36.مقدمة كتاب رموز الكنوز للدكتور محمد بن صالح البراك.(1/10)
ب- حياته الشخصية
1. اسمه ونسبه:
هو : عبد الرَّازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف بن أبي الهيجاء.
هذا هو الصحيح في اسمه أنه عبد الرّازق، بتقديم الألف على الزاي، خلافاً لسائر المصادر المطبوعة التي ذكرته بعبد الرزاق، وهذا خطأ لعدة أمور:
1.جاء في السماع المثبت بآخر المجلد الثاني من النسخة أ، ما نصه:
"سمع جميع هذا المجلد، وهو الثاني من كتاب رموز الكنوز، تأليف الشيخ الإمام عبد الرّازق بن رزق الله" (1) .
2.جاء في غلاف مختصر الفرق بين الفرق له، بخط يده، ما نصه:
"مختصر "كتاب الفَرْق بين الفِرَق"، تأليف عبد القاهر البغدادي، اختصار: عبد الرّازق بن رزق الله". اهـ.
3.قال المؤلف في آخر كتاب "الحرز والمنعة في شأن أمر الهدي والمتعة" للحافظ أبي منصور البغدادي، ما نصه:
"نقله -يعني الجزء- والذي قبله في مجلسين، آخرهما يوم الجمعة ثامن جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وستمائة، عبد الرّازق بن رزق الله" (2) .
4.ذكر المؤلف في آخر كتاب "درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم"
__________
(1) رموز الكنوز: (2/200/أ).
(2) الحرز والمنعة (2/ق17/ب).(1/11)
لابن الجوزي -والذي نسخه بيده- ما نصه:
"وكتبه عبد الرَّازق بن رزق الله الرسعني" (1) .
5.ذكر ابن الفوطي في مخطوطة الجزء الرابع من تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب في باب عز الدين أن اسمه: عبد الرازق (2) .
6.ترجَمَه تلامذته ومعاصروه بهذا الاسم، فقد ترجمه ابن الشعار في عقود الجمان (3) ، والدمياطي في معجمه (4) ، بـ "عبد الرَّازق".
7. ذكر الذهبي في كتابه "العبر" في ترجمة ولد المؤلف أن اسمه: محمد بن عبد الرّازق (5) .
8. نقل الذهبي في كتابه "تذكرة الحفاظ" عن الحافظ أحمد بن المجد قوله في اسمه: عبد الرّازق الرسعني (6) .
9. ترجمه الأدنروي في كتابه "طبقات المفسرين" باسم عبد الرّازق الرسعني (7) .
10.قال الزركلي (8) : هو بتقديم الألف على الزاي، خلافاً لسائر
__________
(1) درء اللوم (2/ق12/ب).
(2) معجم المفسرين (1/281).
(3) عقود الجمان (4/ق131/ب)
(4) معجم الدمياطي (ق13/أ).
(5) ... العبر (5/364).
(6) ... تذكرة الحفاظ (4/1453).
(7) ... طبقات المفسرين (ص:243).
(8) ... الأعلام: (3/292).(1/12)
المصادر المطبوعة. والتصحيح من مخطوطة (التبيان) لابن ناصر الدين، وقد وضع فيها فوق (عبد الرازق) (لفظ) صح.
فصح أن اسمه: عبد الرَّازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف بن أبي الهيجاء.
كذا ذكرت عامة المصادر نسبه . إلا أن الذهبي (1) وابن الجزري (2) أسقط جده أبا بكر وما بعده، وأسقط ابن العماد (3) جده خلفاً وما بعده، وأسقط جده أبا الهيجاء كلٌّ من ابن اليونيني (4) ، وابن عبد الهادي (5) ، والذهبي (6) ، والصفدي (7) ، وابن كثير (8) ، والقرشي (9) ، وابن ناصر الدين (10) ، وابن تغرى بردى (11) ، والسيوطي (12) ، والأدنروي (13) ، ونويهض (14) .
__________
(1) ... طبقات المحدثين (ص:210).
(2) طبقات القراء (1/384).
(3) ... شذرات الذهب (5/305).
(4) ... ذيل مرآة الزمان (1/545).
(5) ... مختصر طبقات المحدِّثين (4/239).
(6) ... تاريخ الإسلام (5/143)، تذكرة الحفاظ (3/1452) العبر (3/302).
(7) الوافي بالوفيات (18/409).
(8) ... البداية والنهاية (13/241).
(9) الجواهر المضيئة (1/313).
(10) التبيان (ق148/أ).
(11) النجوم الزاهرة (7/211).
(12) طبقات المفسرين (ص:55).
(13) طبقات المفسرين (ص:243).
(14) معجم المفسرين (1/281).(1/13)
وشذ ابن كثير (1) فقال: عبد الرزاق بن عبد الله، والقرشي (2) ، فقال: عبد الرزاق بن أبي بكر بن رزق الله . وكلاهما وهم.
2. كنيته ولقبه ونسبته:
أجمعت المصادر على أنه يكنى أبا محمد، ولم يذكر هذه الكنية كل من: ابن العماد (3) ، والقرشي (4) .
كما اتفقوا على أنه يلقب: بعز الدين. وأغفل هذا اللقب كل من: ابن الشعار (5) ، وابن الصابوني (6) ، وابن ناصر الدين (7) ، وابن الجزري (8) .
وأما نسبته: فيقال له الرَّسعني، والجزري، والموصلي.
أما الرَّسعني: بفتح الراء والعين المهملة وسكون السين المهملة، نسبة إلى رأس عين، مدينة بالجزيرة الفراتية.
قال السمعاني (9) : هذه النسبة إلى بلدة من ديار بكر، يقال لها رأس
__________
(1) البداية والنهاية (13/241).
(2) الجواهر المضيئة (1/313).
(3) ... شذرات الذهب (5/305).
(4) الجواهر المضيئة (1/313).
(5) عقود الجمان (4/131/ب)
(6) تكملة إكمال الإكمال (ص:153).
(7) ... التبيان (ق148/أ).
(8) طبقات القراء (1/384).
(9) الأنساب: (6/122).(1/14)
عين، وماء دجلة يخرج منها، والنسبة إليها: رسعني.
وهذه النسبة أكثر شهرة بها من غيرها.
ورأس العين: مدينة بالجزيرة الفراتية على نهر الخابور ، كانت تُعرف قديماً باسم "رسين تيودوسيو بوليس"، وهي مدينة مشهورة تقع بين حران ونصيبين، سار الصحابي الجليل عياض بن غنم سنة 19هـ إلى إقليم العراق بعد أن أخضع الرها ، وصدع بأمر الخليفة عمر رضي الله عنه، فأنفذ عمير بن سعد إلى مدينة رأس عين ، فحاصرها وفتحها عنوة، ثم استولى الإفرنجة عليها ، غير أنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بها مدة طويلة بسبب جهاد أهلها.
وهي تقع حالياً في شمال شرقي سوريا قريباً من مدينة القامشلي، وهي مدينة جملية تشتهر بمياهها وينابيعها الكبريتية.
وقيل في النسبة إليها الراسي، وممن اشتهر بهذه النسبة أبو الفضل جعفر بن محمد بن الفضل الراسي (1) .
وأما الجزري: فنسبة إلى جزيرة الفرات التي تقع فيها رأس العين، وقد ترجمه بهذه النسبة ابن عبد الهادي (2) ، والذهبي (3) ، وابن ناصر الدين (4) ، والسيوطي (5) .
__________
(1) الإمام الرسعني الحنبلي (هامش ص: 15-16)
(2) مختصر طبقات المحدثين (4/239).
(3) تذكرة الحفاظ (4/1452).
(4) ... التبيان (ق148/أ).
(5) ... طبقات الحفاظ (ص 509).(1/15)
وأما الموصلي: فنسبة إلى الموصل، البلد المشهور في العراق، لأن المؤلف تولى التدريس بدار الحديث المهاجرية بها، كما سيأتي، وقد تفرد بهذه النسبة صديقه علي بن عيسى الإربلي، بهاء الدين، في كتابه "كشف الغمة"، فقال: ونقبت من أحاديث نقلها صديقنا عز الدين عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر، المحدث الحنبلي، الرسعني الأصل، الموصلي المنشأ. اهـ.
3.ولادته:
اتفقت المصادر على أن ولادة الإمام الرسعني -رحمه الله- كانت في رأس عين الخابور في سنة تسع وثمانين وخمسمائة من الهجرة النبوية.
وأغفل هذا الصفدي في الوافي بالوفيات، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن ناصر الدين في التبيان، وابن تغرى بردى في النجوم الزاهرة، وابن مفلح في المقصد الأرشد، وابن الجزري في طبقات القراء، والبغدادي في هدية العارفين.
وقد حدد ابن الشعار يوم ولادته، فقال: وكانت ولادته -فيما قرأتها بخط يده- يوم الأحد، بين الظهر والعصر، الثالث والعشرين من رجب، سنة تسع وثمانين وخمسمائة، برأس عين (1) . اهـ.
وكذا في ذيل مرآة الزمان لليونيني (2) .
__________
(1) عقود الجمان (4/131/ب),
(2) ذيل مرآة الزمان (2/219).(1/16)
إلا أن ابن الصابوني، قال: وسألته عن مولده، فقال: في يوم الأحد، لثمان بقين من رجب، سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين (1) . اهـ.
فعلى هذا يكون مولده في الثاني والعشرين من رجب، وتقدَّمَ النقل عن ابن الشعار أنه ولد في الثالث والعشرين، ومثلُ هذا لا يُعَدُّ خلافاً لاتفاقهم على أنه ولد يوم الأحد، وإنما اختلفوا فيما يوافقه من الشهر؛ فابن الشعار يقول: يوم الأحد يوافق الثالث والعشرين من رجب، وابن الصابوني يقول: يوافق الثاني والعشرين . فلعل هذا من أجل الخلاف في يوم دخول الشهر.
4.أسرته:
لم تسعفنا المصادر التي ترجمت للمؤلف بمعلومات مفصلة عن أسرة الرسعني، وهل كان ذلك بتقصير من الذين أوردوا أخباره فلم يعنوا بذكر سيرة أسرته، أم أن أسرته كانت عادية لم تعط حظّاً من الشهرة ، فلم يظهر فيها ما يجعل تاريخها وسيرتها معروفة عند أهل عصره؟ وهو الظاهر. إلا أننا سنحاول ومن خلال المعلومات القليلة التي ذكرتها المصادر؛ الحديثَ عن أسرة الرسعني.
فقد تزوج الرسعني امرأة من بيت علم ودين في بلده رأس عين، وهي ابنة الشيخ أبي الخطاب بن هلال الرسعني، كما صرّح بذلك في كتابه "التفسير"، حيث قال (2) : وسمعت الشيخ أبا الخطاب بن هلال الرسعني جد
__________
(1) تكملة إكمال الإكمال (ص:155).
(2) رموز الكنوز (5/341).(1/17)
أولادي لأمهم يقول... اهـ.
وقد ولد له أربعة أولاد؛ ثلاثة ذكور وأنثى، وفيما يلي نذكر ترجمة موجزة لمن وقفنا على ذكر له من أسرته:
1.ولده: محمد (بضع عشرة وستمائة-689هـ) (1) :
شمس الدين، محمد بن عبد الرازق، أبو عبد الله، وأبو الفضائل، الفقيه، الشاعر، الأديب، المعدل، المحدث الحنبلي، نزيل دمشق، كان شيخاً أبيض مليح الشكل.
وهو أكبر أولاده، وبه يكنى .
ذكره أبوه في تفسيره مراراً، وسأل عن غوامض في التفسير، وتكلم فيه بكلام جيد (2) .
وقد اعتنى به أبوه، واصطحبه معه في رحلته إلى بغداد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وأشركه معه في سماعه من الشيخ أبي طالب عبداللطيف بن محمد بن علي القبيطي. ذكر الرسعني ذلك في إسناد له عند تفسير قوله تعالى (3) : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
__________
(1) مصادر ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (2/324)، والمقصد الأرشد (2/456)، والعبر (5/364)، والوافي بالوفيات (3/251-253)، وفوات الوفيات (2/279)، وشذرات الذهب (3/410).
(2) المقصد الأرشد (2/456).
(3) رموز الكنوز (7/574).(1/18)
} [الرحمن:60].
سمع من ابن روزبه وابن بهروز وابن القبيطي وجماعة ببغداد، ومن كريمة وغيرها بدمشق، وأمَّ بالمسجد الكبير بالرماحين.
سافر إلى مصر في شهادة، ولما عاد دخل نهر الشريعة (1) ، من الغور، يسقي فرسه، فغرق ولم يظهر له خبر، وذلك في جمادى الآخرة، سنة تسع وثمانين وستمائة.
قال الصفدي (2) : كان يمدح الصاحب شمس الدين ابن السلعوس قبل وزارته، وكتب إليه بهاء الدين ابن الأرزني:
أحنُّ إلى تلك السجايا وإن نأتْ ... حنينَ أخي ذكرى حبيب ومنزل
وأُهدي إليها من سلامي مُشاكلاً ... نسيم الصبا جاءت برَيَّا القَرَنْفُل
فأجابه شمس الدين المذكور:
على فترة جاء الكتاب مُعطَّراً ... بمسك سحيق لا برَيَّا القَرَنْفُل
وأذكرني ليلاتِ وصل تصرمتْ ... بدار حبيب لا بدارة جُلْجُل
شكوتُ إلى صبري اشتياقاً، فقال لي: ... تَرَفَّقْ، ولا تهلك أسى وتَجَمَّل
فقلتُ له: إني عليك معولٌ ... وهل عند رسم دارس من معول
ومن شعره:
__________
(1) هو المعروف الآن بنهر الأردن (تقويم البلدان ص: 39).
(2) ... الوافي بالوفيات (3/251-253).(1/19)
ولو أن إنساناً يبلغ لوعتي ... ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا
لأسكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا
وقال الصفدي (1) : أنشدني من لفظه الشيخ أثير الدين قال: أنشدني المذكور لنفسه من أبيات:
أأحبابَنا إن جادت المزنُ أرضَكم ... فما هي إلا من دموعي تمطر
وإن لاح برقٌ فهو برقُ أضالعي ... وإن ناح وُرْقٌ عن أنيني يُخبر
وإن نسمتْ ريحُ الصبا وتأرجت ... فمن طيب أنفاسي بكم تَتَعطَّر
وإن رنَّحتْ أغصانُ دجلة فانثنت ... فعنِّي بإبلاغ النسيم تُخبر
ومن عَجَب أنّي أكتمُ لوعة ... وأودعها طَيَّ الصبا وهي تَنْشُرُ
ومنها في المديح:
على أدهم كالليل يسطو على العِدى ... بأبيضَ هندي به الموت أحمر
إذا ركعتْ أسيافه في عِداته ... تخر سجوداً والرماح تكبر
قال الصفدي (2) : هو نظم متوسط واستعارة التكبير للرماح استعارة فاسدة.
ومن شعره (3) :
__________
(1) ... الوافي بالوفيات (3/252).
(2) ... الوافي بالوفيات (3/253).
(3) ... شذرات الذهب (3/410).(1/20)
أآيسُ من برٍّ وجُودُك واصلٌ ... إلى كلِّ مخلوق، وأنتَ كريم
وأجزعُ من ذنب وعفوك شاملٍ ... لكل الورى طُرًّا وأنت رحيم
وأجهدُ في تدبير حالي جهالة ... وأنتَ بتدبير الأنام حكيم
وأشكو إلى نَعماك ذلِّي وحاجتي ... وأنت بحالي يا عزيز عليم
2.ولده: إبراهيم (642-695هـ) (1) :
إبراهيم بن عبد الرازق، أبو إسحاق، كان حنفي المذهب، ويُعرف بابن المحدث .
ولد في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة بالموصل.
سمع بالموصل من والده الإمام عز الدين، وتفقه عليه، وكان فقيهاً فاضلاً، عالماً.
ذكره البِرْزالي في معجم شيوخه، وقال: كتبتُ عنه، وفاق أبناء جنسه معرفة وذكاء.
وكان نبيهاً، نبيلاً، فاضلاً، عالماً، متنسكاً، ورعاً، حسنَ الأخلاق.
وله منظوم ومنثور.
وشَرَح القُدوري، وكتب الإنشاء بديوان الموصل.
أنشد من شعره كثيراً في كل فن.
__________
(1) ... الطبقات السنية في تراجم الحنفية (1/206)، والمقصد الأرشد (2/45)، والدليل الشافي على المنهل الصافي (1/20)، وتاج التراجم في طبقات الحنفية (ص:4)، والطبقات السنية للتميمي (1/237)، والجواهر المضية للقرشي (1/41).(1/21)
وتوفي في شهر رمضان، سنة خمس وتسعين وستمائة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون.
وقد ذكره والده الإمام الرسعني في بيت من شعره، فقال (1) :
تقول عرسي وبي أضعافُ ما وَجدت ... يوم الفراق ودمعُ العين منحدر
أتترك ابنك إبراهيم منفرداً ... طفلاً وتُؤْتِمُه حيًّا وتصطبر
3.ولده: أحمد أبو صالح(؟-؟) (2) :
ذكَرَه في تفسيره، فقال:
ومثله قولي في أبيات أرثي بها ولدي أبا صالح أحمد:
على زينة الدنيا ولذّة عيشها ... السلام فهذا منهما آخر العهد
4.ابنته: أمة الرحمن بنت عبد الرازق (؟-695هـ) (3) :
فاضلة عالمة، توفيت سنة خمس وتسعين وستمائة، ذكرها البرزالي في ذيل الروضتين، فقال: وفي بكرة الأربعاء عاشر شعبان توفيت الشيخة الصالحة، أمة الرحمن، ست الفقهاء، بنت الشيخ الإمام العلامة، عز الدين أبي محمد، عبد الرازق بن رزق الله.
__________
(1) ... معجم الدمياطي (ق13/ب).
(2) ... رموز الكنوز (5/553).
(3) ... تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 695، ص:254).(1/22)
5.سبط ابنه محمد (؟-754هـ) (1) :
عبد الرحمن بن رزق الله بن عبد الرحمن ابن رزق الله الرسعني الدمشقي.
سمع في الخامسة من ابن البخاري مشيخته، وسمع منه سنن أبي داود، وحدث، وكان رسولا بباب القضاة.
قال البرزالي: سبط شمس الدين محمد بن عبد الرزاق الرسعني، كان بدمشق رسولا بباب القاضي مدة ثم نزح عنها وتوجه إلى القاهرة وأقام هناك، ثم عاد إلى دمشق.
توفي ليلة الأربعاء ثالث جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وسبعمائة، ودفن بمقابر باب الصغير.
ب - حياته العلمية
5.نشأته وطلبه للعلم:
نشأ الرسعني في بلدته رأس عين، وتلقى علومه الأولى فيها، فقد حفظ القرآن على الشيخ مبارك بن إسماعيل الحراني (2) ، وسمع الحديث من أبي المجد القزويني (3) وغيره، ثم رحل إلى حواضر العالم الإسلامي لطلب العلم وسماع الحديث الشريف، وفيما يلي نعرض لرحلات المؤلف.
__________
(1) ... مصادر ترجمته: ذيل تذكرة الحفاظ (ص:131)، الوفيات للسلامي (2/239).
(2) ... ستأتي ترجمته في الكلام على شيوخه.
(3) ... ستأتي ترجمته في الكلام على شيوخه.(1/23)
6.رحلاته:
لما علم المؤلف أن العلم بحر لا شاطئ له، وأنه لا يؤتى إلا ببذل الجهد: شدّ الرحال وجال وطاف البلاد يرتوي من مناهل العلم، ويطلب الحديث ليعلي سنده. لقد أدرك أهمية الرحلة في طلب العلم، فلم يتهاون، بل انضم إلى حلقات العلم في البلاد التي طافها، ودرس وتلقى على أكابر علمائها، وأفاضل شيوخها.
وقد رحل المؤلف سبع رحلات، عامتها في طلب العلم وسماع الحديث من أفواه الشيوخ، وإليك تفصيلها:
الرحلة الأولى: إلى بغداد، وكانت سنة ست وستمائة، وكان عمره آنذاك سبع عشرة سنة، وسمع فيها من عبد العزيز بن مَنِينا، والداهري، وعمر بن كرم وغيرهم (1) .
وقرأ فيها القرآن بالروايات العشر، على أبي البقاء العكبري (2) .
كما أنه دخلها مرة أخرى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وفيها قرأ على الشيخ أبي طالب عبداللطيف بن محمد بن علي القبيطي. ذكر الرسعني ذلك في إسناد له عند تفسير قوله تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن:60].
الرحلة الثانية: إلى فلسطين، زار فيها بيت المقدس، سنة سبع وستمائة،
__________
(1) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/274)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/1452).
(2) ... عقود الجمان في شعراء الزمان (4/131/ب).(1/24)
وسمع فيها من الشيخ عبد الله بن محمد الدربندي، الصوفي بمسجد الخليل عليه السلام، ولم أجد أحداً ذكرها، لكن المؤلف صرح بأنه سمع من الشيخ عبد الله بن محمد الدربندي في مسجد الخليل في إسناد له عند تفسير قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [النساء:171].
الرحلة الثالثة: إلى دمشق، وقد زار دمشق مراراً، قال الذهبي (1) : قرأت بخط سيف الدين ابن المجد ذكر عبد الرّازق الرسعني، قال: حفظ المقنع، وسمع بدمشق سنة خمس، وسنة ست وسبع من الكندي. اهـ.
ففي سنة ست وستمائة، سمع من أبي العباس الخضر بن كامل بن سالم المعبر الخاتوني، كما ذكر ذلك في إسناده عند تفسير قوله تعالى: { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [المدثر:56].
وفي سنة سبع وستمائة، سمع من أبي العباس أحمد بن عبدالواحد بن أحمد المعروف بالبخاري الفقيه الحنبلي بجامع دمشق، كما صرح بذلك في أحد أسانيده في كتابه "رموز الكنوز" عند تفسير قوله تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
__________
(1) ... تاريخ الإسلام (5/143).(1/25)
الْإِحْسَانُ } [الرحمن:60].
وفي سنة تسع وستمائة، سمع من أبي القاسم السلمي، وابن الحرستاني (1) ، والخضر بن كامل، وأبي الفتوح بن الجلاجلي (2) ، والموفق ابن قدامة، وتفقه عليه، وحفظه كتابه المقنع، وقرأ عليه كثيرا من كتبه الفقهية (3) .
وسمع من أبي اليمن الكندي تاريخ بغداد كله، قاله الذهبي (4) ، وتعقبه الدمياطي، فقال: وسمع من الكندي تاريخ بغداد عن القزاز عن الخطيب خلا الجزء السادس والثلاثين ... وخلا قول أبي حنيفة في الإيمان، فإن الكندي أجاز له (5) .
وسيأتي ذكر رحلة أخرى للمؤلف إلى دمشق، وذلك بعدما اشتهر وذاع صيته.
الرحلة الرابعة: وكانت إلى حلب، والظاهر أنه مر على حلب بعد منصرفه من دمشق، إلا أن كلام ابن الصابوني يوحي بأنه زار حلب أوَّلاً، فقال (6) : دخل بغداد، وتفقه بها .. وسمع بحلب .. وبدمشق، ثم سافر عنها
__________
(1) ... ذكر ذلك في إسناده عند تفسير قوله تعالى: { أو مسكيناً ذا متربة } [البلد:16].
(2) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/274)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/1452).
(3) ... عقود الجمان في شعراء الزمان (4/132/أ).
(4) ... تاريخ الإسلام (5/143).
(5) ... معجم الدمياطي (ق14/أ).
(6) ... تكملة إكمال الإكمال (ص:155).(1/26)
وأقام بالموصل.
وفي هذه الرحلة سمع من الشريف أبي هاشم، عبد المطلب بن الفضل الهاشمي.
الرحلة الخامسة: إلى الموصل في شوال سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ونزل بدار الحديث المهاجرية، بباب سكة أبي نجيح، التي أنشأها أبو القاسم علي بن مهاجر بن علي الموصلي (1) ، وعيّن مدرساً بها، فصار يُسمع بها أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويفيد الناس (2) .
الرحلة السادسة: إلى تكريت، في سنة عشر وستمائة (3) .
وسمع فيها من القاضي أبي الفرج يحيى بن سعد الله بن أبي تمام التكريتي.
الرحلة السابعة: إلى حران.
سمع فيها من الحافظ عبدالقادر بن عبدالله الرهاوي، والإمام فخر الدين
__________
(1) ... معين الدين، التكريتي، ثم الموصلي، الوزير بسنجار، كان من أولاده الأكابر والوزراء، وبيتهم معروف بالفضل والحشمة، والنبل، وكان من أهل الخير والصلاح، والسماح، وبنى بالموصل، في سكة أبي نجيح دار الحديث، ووقف عليها الوقوف الحسنة، والكتب النفيسة. (تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي، رقم (1479) من الجزء الخامس).
(2) ... عقود الجمان (4/132/أ).
(3) ... وقد صرح بذلك في تفسيره، عند قوله تعالى: { ولنصبرن على ما آذيتمونا } [إبراهيم:12].(1/27)
أبي عبدالله محمد بن أبي القاسم بن تيمية الخطيب (1) .
الرحلة الثامنة: إلى دمشق، فقد قدم دمشق رسولاً، فقرأ عليه ابن الصابوني جزءاً.
قال ابن الصابوني (2) : ثم قدم دمشق رسولاً فاجتمعت به، وقرأت عليه جزءاً من حديثه، هو روايته عن ابن مَنِينا، وسمعت منه أناشيد من نظمه، وكان معي جماعة من طلبة الحديث.
وهذه الرحلة بعد ما ذاع صيته، واتسعت شهرته، ولهذا بُعث رسولاً على دمشق، ولم أجد أحداً ذكر مَن أرسله، والظاهر أنه بدر الدين لؤلؤ (3) ، صاحب الموصل، فقد كانت له حرمة وافرة عنده، وبينهما اتصال وثيق.
الرحلة التاسعة: وكانت إلى مصر، ولم يصرح أحد بهذه الرحلة، إلا أن ترجمة ابن تغرى بردى له في النجوم الزاهرة، تدل على أنه دخلها، لكن متى كان هذا؟ لم أجد مَن ذكره، إلا أن الذي يغلب على الظن أن هذا كان قبل أن يستقر بالموصل، ومما يدل على أنه دخل مصر ما حكاه الحافظ ابن
__________
(1) ... وقد صرح المؤلف بالأخذ عنهما في حران في تفسيره الأول: عند تفسير قوله تعالى: { والوزن يومئذ الحق } [الأعراف:8]، والثاني: عند تفسير قوله تعالى: { إن المسلمين والمسلمات } [الأحزاب:35].
(2) ... تكملة إكمال الإكمال (ص:155).
(3) ... السلطان بدر الدين أبو الفضائل، لؤلؤ بن عبد الله الأتابكي، الملقب بالملك الرحيم، كان بطلاً شجاعاً، حازماً، مدبراً، سائساً، ذا همة عالية، توفي سنة سبع وخمسين وستمائة (سير أعلام النبلاء 23/356).(1/28)
رجب، قال (1) : قال الحافظ أبو محمد عبد الكريم الحلبي في تاريخ مصر له: نقلت من خط الحافظ اليغموري -يعني يوسف بن أحمد بن محمود الدمشقي- أنشدنا شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي بكر الجزري، أنشدني ابن دقيق العيد بقوص، أنشدني عز الدين عبد الرازق الرسعني لنفسه:
وكنت أظن في مصر بحارا ... إذا أنا جئتها أجد الورودا
فما ألفيتها إلا سرابا ... فحينئذ تيممت الصعيدا
فتبين من هذه الأبيات أنه دخل مصر، وأيضا فإن ابن دقيق العيد رواها عنه، وهو في قوص من صعيد مصر، كما صرحت به القصة المتقدمة، ومع هذا فلم يترجمه الأُدفوي في الطالع السعيد.
هذه هي البلاد التي طاف فيها المؤلف مما وقفت عليه، وإلا فقد دخل بلداناً أخر، قال ابن رجب (2) : وسمع بحلب .. وببلدان أخر.
ويلاحظ من هذا أنه لم يدخل مكة ولا المدينة، ولم يذكر أحد أنه حج، إلا أن يكون في صغره قبل أن يشتهر.
وهذه الرحلات المتعددة تدل على كثرة سماعه، ووفرة علمه ومعرفته.
7.شيوخه:
تتلمذ الرسعني رحمه الله على طائفة من شيوخ وقته في علوم متنوعة،
__________
(1) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275-276). وانظر: طبقات المفسرين للداودي (1/301).
(2) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/274).(1/29)
وذلك في البصرة وبغداد ودمشق.
وفيما يلي نذكر أسماء الشيوخ الذين التقى بهم الرسعني (1) :
1.حنبل الواسطي (510-604هـ) (2) :
حنبل بن عبد الله بن فرج بن سعادة، بقية المسندين، أبو علي، وأبو عبد الله الواسطي، ثم البغدادي، الرصافي، المكبِّر بجامع المهدي، توفي سنة أربع وستمائة تقريباً.
أسمع المسند مرتين بدمشق، واجتمع له جماعة لم تجتمع في مجلس سماع قبله بدمشق، توفي في حديد سنة أربع وستمائة.
حدث المصنف عنه بالمسند في تفسيره.
2.الخضر الدلال (523-608هـ) (3) :
الخَضِر بن كامل بن سالم بن سبيع، الدمشقي، السروجي، الدَّلال المعبر، الشيخ العالم المسند، أبو العباس، مات في شوال سنة ثمان وست مئة وهو في عشر التسعين.
__________
(1) ... وسوف يأتي في آخر الكتاب -إن شاء الله- قائمة بأسماء الشيوخ الذي روى عنهم الرسعني في كتابه "رموز الكنوز".
(2) سير أعلام النبلاء (21/431).
(3) المرجع السابق (22/11).(1/30)
3.ابن منينا (525-612هـ) (1) :
عبد العزيز بن معالي بن غنيمة بن الحسن البغدادي، الأشناني، مسند العراق، أبو محمد، مات في الثامن والعشرين من ذي الحجة، سنة اثنتي عشرة وستمائة.
4.ابن الجلاجلي (541-612هـ) (2) :
محمد بن علي بن المبارك البغدادي، التاجر الرئيس المقرئ، كمال الدين، أبو الفتوح، توفي في بيت المقدس في رمضان سنة اثنتي عشرة وستمائة.
5.الكندي (520-613هـ) (3) :
زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير الكندي، البغدادي، الإمام العلامة، شيخ الحنفية، وشيخ العربية، وشيخ القراءات، ومسند الشام، تاج الدين، أبو اليمن، توفي سنة ثلاث عشرة وستمائة.
وقد أسند عنه المصنف في كتابه التفسير بعض الأحاديث.
__________
(1) المرجع السابق (22/33).
(2) سير أعلام النبلاء (22/52).
(3) المرجع السابق (22/34).(1/31)
6.ابن الحرستاني (520-614هـ) (1) :
عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، الدمشقي، الشافعي، الشيخ الإمام العالم، قاضي القضاة، جمال الدين، أبو القاسم، ابن الحرستاني، حدث بصحيح مسلم، ودلائل النبوة للبيهقي، وأشياء. توفي سنة أربع عشرة وستمائة.
سمع منه المؤلف صحيح مسلم، وأسند عنه في تفسيره.
7.السلمي (546-615هـ) (2) :
أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن عبد الرزاق، الشيخ الأمير المسند، أبو القاسم، شمس الدين، السلمي، البغدادي، الصيدلاني، العطار، توفي سنة خمس عشرة وستمائة.
حدث المؤلف عنه بصحيح البخاري.
8.جمال الدين الياسري (؟-616هـ) (3) :
عثمان بن مقبل بن قاسم الياسري، ثم البغدادي، الواعظ، الحنبلي، أبو عمرو، صنف كتاباً في طبقات الفقهاء. توفي سنة ست عشرة وستمائة.
أخذ المصنف عنه علم القراءات، وروى عنه مقروناً بأبي البقاء العكبري.
__________
(1) المرجع السابق (22/80).
(2) سير أعلام النبلاء (22/84).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (2/122)(1/32)
9.العكبري (538-616هـ) (1) :
عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري، ثم البغدادي، الأزَجي الضرير، النحوي، الحنبلي، الفرضي، الشيخ الإمام العلامة النحوي البارع، محب الدين، أبو البقاء، صاحب التصانيف، توفي سنة: ست عشرة وستمائة.
وقد أخذ المؤلف عنه القراءات، وتلا عليه بالعشر (2) ، وتعلم منه العربية، والأدب، وقد روى عنه كثيراً من القراءات في كتابه التفسير.
10.المؤيد الطوسي (524-617هـ) (3) :
المؤيد بن محمد الطوسي ثم النيسابوري، الشيخ المقرئ، مسند خراسان، رضي الدين، أبو الحسن. سمع صحيح البخاري ومسلم، وغيرها. توفي سنة سبع عشرة وستمائة.
روى المؤلف من صحيح مسلم عنه في تفسيره.
11.ابن قدامة (541-620هـ) (4) :
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجمَّاعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، الشيخ الإمام القدوة العلامة
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/91).
(2) ... عقود الجمان (4/ق131).
(3) سير أعلام النبلاء (22/104).
(4) سير أعلام النبلاء (22/165).(1/33)
المجتهد، موفق الدين، أبو محمد، صاحب المغني، مولده بجماعيل من عمل نابلس، وتوفي سنة عشرين وستمائة.
أخذ عنه الفقه، وقرأ عليه كثيراً من كتبه، وسمع منه مسند الشافعي وغيره، وتفقه به، وأثنى عليه في كتابه. ولما توفي رثاه بمرثية بلغت ثمان وعشرين بيتاً، ومطلعها (1) :
ألا ما لوجه المكرمات مُلَفّعُ ... وما لعيون الدين تدمى وتدمع
وما لمعاني الفقه أقوت فأصبحت ... معطلة أركانها تتضعضع
ومنها:
وما للورى سكرى ولم يشربوا طلا ... وما لغيوم الهم لا تتقشع
ويا قوم ما للشمس أظلم ضوؤها ... وما لجبين البدر أيضا مرقع
ومنها:
فلو طالت الأعمار بالفضل لم يكن ... لموت على مثل الموفق مَطْمَعُ
ولو أنه بالمشرفية يُتقى ... حمته سيوف دونه تتقعقع
وآخرها:
وبعد فلا زالت سحائب رحمة ... من الله في لحد الموفق تهمع
__________
(1) عقود الجمان (4/ق134-135/أ).(1/34)
12.القزويني (554-622هـ) (1) :
محمد بن الحسين بن أبي المكارم أحمد بن حسين بن بهرام، القزويني، القاضي الإمام الفاضل المحدث الجوال، مجد الدين، أبو المجد، توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
روى عنه المصنف في كتابه في مواضع منه.
13.البخاري (؟-623هـ) (2) :
أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي ثم الدمشقي المعروف بالبخاري، شمس الدين أبو العباس، أخو الحافظ ضياء الدين، والد الفخر علي، مسند وقته، سمع بدمشق من أبي المعالي ابن صابر، وببغداد من أبي الفتح ابن شاتيل وابن الجوزي، وبنيسابور من عبد المنعم الفراري، وتفقه وبرع، وأقام ببخارى يشتغل بالخلاف على الرَّضِي النيسابوري، ولهذا عرف بالبخاري، ثم رجع إلى الشام وأقام بحمص مدة، وقيل إنه ولي القضاء بها.
مات يوم الخميس خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وستمائة ودفن إلى جوار خاله الشيخ الموفق بالروضة.
قال ابن مفلح (3) : سمع منه جماعة منهم عبد الرّازق الرسعني.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/249).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/168-170)، والمقصد الأرشد (1/129-130).
(3) ... المقصد الأرشد (1/130).(1/35)
14.أبو هاشم البلخي (؟-626هـ) (1) :
عبد المطلب بن الفضل، الهاشمي، البلخي، ثم الحلبي، الحنفي، الشيخ الإمام العلامة، افتخار الدين، أبو هاشم، توفي سنة ست وعشرين وستمائة.
15.الداهري (546 تقريباً-628هـ) (2) :
عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران الداهري، البغدادي، الخفاف، الخراز، الشيخ المسند، الأمي، أبو الفضل، كان أميًّا لا يكتب، سمع صحيح البخاري، ومسند عبد بن حميد، والدارمي، وغيرها. مات سنة ثمان وعشرين وستمائة.
16.ابن أبي المجد الدينوري (539-629هـ) (3) :
عمر بن كرم بن علي بن عمر، الشيخ المسند الأمين، أبو حفص بن أبي المجد الدينوري، ثم البغدادي، الحمامي. روى الكثير وتفرد، وكان شيخاً مباركاً صحيح السماع والإجازة، تفرد بأجزاء عن أبي الوقت. توفي سنة تسع وعشرين وستمائة.
17.ابن الأثير (555-630هـ) (4) :
علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الجزري،
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/99).
(2) سير أعلام النبلاء (22/304).
(3) سير أعلام النبلاء (22/325).
(4) المرجع السابق (22/353).(1/36)
الشيباني، الشيخ الإمام العلامة المحدث الأديب النسابة، عز الدين، أبو الحسن، مصنف التاريخ الكبير الملقب بـ"الكامل" ومصنف كتاب "معرفة الصحابة" توفي سنة ثلاثين وستمائة.
أسند المصنف من طريقه في كتابه "رموز الكنوز".
18.ابن روزبة القلانسي (بعد 540-633هـ) (1) :
علي بن أبي بكر بن روزبة بن عبد الله البغدادي، القلانسي، العطار، الصوفي، الشيخ المسند المعمر، أبو الحسن، توفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
حدث المؤلف عنه بصحيح البخاري.
19.نصر الجيلي (564-633هـ) (2) :
نصر بن عبد الرزَّاق بن عبد القادر بن أبي صالح، الجيلي، ثم البغدادي، الأزَجي، الحنبلي، توفي سنة ثلاثين وثلاثين وستمائة.
روى عنه المؤلف، وأثنى عليه، ووصفه بأنه قاضي القضاة شرقا وغرباً.
هذا ما وقفت عليه من ذكر شيوخه، ولم أذكر إلا من نص أهل العلم على أنه سمع منه أو أخذ عنه، أو صرح بالرواية عنه في كتابه، فلم أذكر
__________
(1) المرجع السابق (22/387).
(2) سير أعلام النبلاء (22/396).(1/37)
من عاصره وخالطه؛ مثل ابن الشعار (1) ، والإربلي (2) ، أو من صحبه مثل العماد الحنبلي (3) .
20.القبيطي (554-641هـ) (4) :
الشيخ أبو طالب عبداللطيف بن محمد بن علي القبيطي.
أسند عنه المؤلف في تفسيره (5) .
21.الخازن النيسابوري (556-643هـ) (6) :
محمد بن سعيد بن أبي البقاء الموفق بن علي بن الخازن النيسابوري، ثم البغدادي، الصوفي، الشيخ الجليل الصالح المسند، أبو بكر، أحد رواة مسند الشافعي. توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
روى المؤلف عنه مسند الشافعي، وقرنه بالموفق ابن قدامة.
__________
(1) كمال الدين، أبو البركات، المبارك بن أبي بكر، بن حمدان، الموصلي، مؤلف عقود الجمان في شعراء الزمان، توفي سنة أربع وخمسين وستمائة (شذرات الذهب 5/266).
(2) علي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي، بهاء الدين الكردي، منشئ مترسل، من الشعراء، توفي سنة اثنتين وتسعين وستمائة (الأعلام 4/318).
(3) إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، ثم الدمشقي الفقيه الزاهد، العابد، الشيخ عماد الدين، أبو إسحاق، أخو الحافظ عبد الغني، توفي سنة أربع عشرة وستمائة (المقصد الأرشد 1/227).
(4) سير أعلام النبلاء (23/87).
(5) ... عند تفسير قوله تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن:60].
(6) سير أعلام النبلاء (23/124).(1/38)
22. الحراني (؟-؟):
مبارك بن إسماعيل الحراني، ذكره ابن الشعار في عقود الجمان (1) ، ولم أقف على ترجمة له.
قرأ عليه المؤلف القرآن في صباه.
23.الدربندي (؟-؟):
محمد بن داود بن عثمان الدربندي، أبو عبد الله الصوفي، الشيخ الزاهد. لم أعثر له على ترجمة.
روى المصنف عنه عن السِّلَفي بمسجد الخليل بفلسطين، كما سبق ذكر ذلك عند الحديث عن رحلات المؤلف (ص: 23).
8.تلامذته:
أخذ العلم عن المؤلف جماعة، منهم مَن سمعه وشافهه، ومنهم من روى عنه بالإجازة، وفيما يلي نذكر من وقفنا عليه من تلامذة المؤلف:
1. ابن الشعّار (593-654هـ) (2) :
المبارك بن أبي بكر بن حمدان الموصلي، كمال الدين، أبو البركات، المعروف بابن الشعار، مؤلف عقود الجمان في شعراء الزمان، توفي بحلب، سنة أربع وخمسين وستمائة.
__________
(1) عقود الجمان (4/131).
(2) ... شذرات الذهب (5/266).(1/39)
أجاز له المؤلف، كما نص عليه في عقود الجمان، قال: أجازني رواياته ومصنفاته ومقولاته (1) .
2. القشيري (؟-667هـ) (2) :
علي بن وهب بن مطيع، القشيري المالكي، مجد الدين، والد ابن دقيق العيد، توفي سنة سبع وستين وستمائة، وقد عده ابن رجب من تلاميذ المؤلف.
3. ابن الصابوني (604-680هـ) (3) :
محمد بن علي بن محمود المحمودي بن الصابوني، الحافظ المفيد، جمال الدين، أبو حامد، شيخ دار الحديث النورية، كتب العالي والنازل وبالغ وحصل الأصول، وجمع، وصنف، وتوفي في نصف ذي القعدة، توفي سنة ثمانين وستمائة.
4. ابن المؤلف محمد (؟-689هـ):
محمد بن عبد الرَّازق بن رزق الله الرسعني.
وقد سبق ذكره عند الكلام عن أسرة المؤلف (ص: 17).
__________
(1) ... عقود الجمان (4/ق132/أ).
(2) ... تذكرة الحفاظ (4/1476)، والطالع السعيد (ص424).
(3) طبقات المحدثين (1/21)، وشذرات الذهب (3/36).(1/40)
5. الشوشي (؟-694هـ) (1) :
أبو العلاء إدريس بن محمد بن عثمان بن محمد بن غريب عفيف الدين العامري الشوشي، عالم عامل يؤم بنظامية بغداد.
قال ابن حجر: سمع من الحافظ عبد الرزاق الرسعني.
6. الوادي آشي (؟-694هـ) (2) :
جابر بن محمد بن قاسم، القيسي، الوادي آشي، معين الدين، توفي سنة أربع وتسعين وستمائة. ترجمه ابنه في برنامجه، وعد المؤلف من شيوخه.
7.ابنه إبراهيم (642-695هـ):
إبراهيم بن عبد الرَّازق بن رزق الله الرسعني.
سبق ذكره عند الكلام عن أسرته (ص: 21).
8. الأَبَرْقُوهي (615-701هـ) (3) :
مسند الوقت، أبو المعالي، أحمد بن إسحق بن محمد بن الأبرقوهي، بفتح الهمزة والموحدة وسكون الراء وضم القاف، وبالهاء نسبة إلى "أَبَرْقُوه"، بلدة بأصبهان، كان محدثا، ومقرئا صالحاً، توفي سنة إحدى وسبعمائة.
حدث عن المصنف إجازة، وترجمه في معجمه، وقال: يغلب على الظن
__________
(1) تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (2/759).
(2) برنامج ابن جابر الوادي آشي (ص59).
(3) شذرات الذهب (3/4).(1/41)
أني سمعت من هذا الشيخ برأس عين، وقد أجازني جميع مروياته (1) .
9. ابن دقيق العيد (625-702هـ) (2) :
الإمام الفقيه الحافظ المحدث العلامة، تقي الدين، أبو الفتح، محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المنفلوطي، صاحب التصانيف، صنف "شرح العمدة"، و"الإلمام في أحاديث الأحكام"، و"الاقتراح في علوم الحديث"، مات في صفر، سنة اثنتين وسبعمائة.
10. الدمياطي (613-705هـ) (3) :
الإمام العلامة الحافظ، شرف الدين، أبو محمد، عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي، الشافعي، وتفقه وبرع، وطلب الحديث، فرحل وجمع فأوعى، وعمل معجم شيوخه فيه ألف وثلاثمائة شيخ، وكان إماماً حافظاً رأساً في النسب، مات فجأة في ذي القعدة، سنة خمس وسبعمائة.
روى عن المؤلف، وترجمه في معجمه (4) .
__________
(1) معجم الأبرقوهي، الجزء التاسع، غير مرقم الصفحات.
(2) طبقات الحفاظ (1/51)، وشذرات الذهب (3/5)، والديباج المذهب (1/32)، وطبقات المحدثين (1/22).
(3) طبقات الحفاظ (1/51)، وشذرات الذهب (3/1)، ومعرفة القراء الكبار (2/72).
(4) معجم الدمياطي (ق13/أ).(1/42)
11. الرسغي (بضع وثلاثين وستمائة-718هـ) (1) :
عبد الغني بن عروة بن عبد الصمد بن عثمان الرسغي. ولد سنة بضع وثلاثين وسمع من عبد الرزاق الرسعني وغيره، وكان لطيف المزاج كثير المزاح خفيف الروح، يتردد إلى أعيان دمشق من نائبها الأفرم إلى من دونه. ومات في جمادى الآخرة سنة 718.
12. البندنيجي (؟-736هـ) (2) :
علي بن محمد بن ممدود بن جامع بن عيسى البندنيجي الصوفي، أبو الحسن، الشيخ المسند الرحلة، سمع صحيح مسلم، وجامع الترمذي، وأجاز له جماعات، توفي سنة ست وثلاثين وسبعمائة. وقد أجاز له المؤلف، كما قال ابن رجب (3) .
13. بنت الكمال (؟-740هـ) (4) :
زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم المقدسية، المعروفة ببنت الكمال، المرأة الصالحة العذراء، أم عبد الله. تفردت بقدر وقر بعير من الإجزاء بالإجازة، وكانت دينة وخيِّرة، روت الكثير، وتزاحم عليها الطلبة، وقرؤوا عليها الكتب الكبار. توفيت في تاسع عشر جمادى الأولى عن أربع
__________
(1) الدرر الكامنة (1/129).
(2) الدرر الكامنة (4/14).
(3) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(4) ... شذرات الذهب (3/12)، والعبر (6/21).(1/43)
وتسعين سنة، سنة أربعين وسبعمائة. أجازها المصنف، قاله ابن رجب (1) .
14. أخو ابن دقيق العيد (؟-؟) (2) :
موسى بن علي بن وهب، سراج الدين، أخو ابن دقيق العيد. عده ابن رجب (3) ممن أخذ عن المصنف، هو وأبوه وأخوه.
هذا آخر ما وقفت عليه من تلامذة المؤلف، علماً أن المؤلف أجاز إجازة عامة، كما ذكر ذلك ابن الفوطي (4) .
9.مؤلفاته:
قال صفي الدين عبد المؤمن (5) : للمؤلف تصانيف غير تفسيره المشهور، في التفسير والفقه، والعروض. اهـ.
وفيما يلي معلومات مفصّلة عن كتب المؤلف، سواء أكان مطبوعاً أم مخطوطاً أم مفقوداً:
1.مختصر الفَرق بين الفِرق.
اختصر به كتاب "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي.
__________
(1) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(2) الطالع السعيد (ص 665).
(3) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(4) ... تلخيص مجمع الآداب (1/194).
(5) ... ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/275).(1/44)
ذكره الزركلي في الأعلام، وكحالة في معجم المؤلفين (1) .
قال في مقدمته: أما بعد حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله محمد وآله، فهذا مختصر من كتاب "الفَرْق بين الفِرَق"، تأليف أبي منصور، عبدالقاهر بن طاهر البغدادي -رحمه الله تعالى- نظمت فيه مضمونه، وجمعت فيه نكته وعيونه، وأتيت به على ترتيبه وتبويبه، وبالغت في اختصاره وتهذيبه، والله المسؤول أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا لما يرضيه في القول والعمل. اهـ.
ولم يتم المؤلف اختصاره، بل أغفل الباب الخامس، في أوصاف الفرقة الناجية.
وله نسخة مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق (الأسد الآن) ضمن مجموع رقم (20946) ويقع في (56) ورقة، ومسطرتها ستة عشر سطراً، بخط المؤلف.
وقد نشره فيليب حتّي، وطبعته مطبعة الهلال بالقاهرة، سنة: (1924م) الطبعة الأولى، ثم طبعته مطبعة التقوى بالقاهرة سنة (1940م) ويقع في إحدى ومائتي صفحة.
2.درّة القارئ، في الفرق بين الضاد والظاء.
ذكرها ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القراء (2) ، وسماها
__________
(1) ... الأعلام للزركلي (3/292)، ومعجم المؤلفين (5/218).
(2) طبقات القراء (1/384).(1/45)
"الظائية النونية" وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (1) ، والزركلي في الأعلام (2) ، ورضا كحالة في معجم المؤلفين (3) .
وقد أشار إليها المؤلف في كتابه "رموز الكنوز" في مواضع عديدة، ونقل أبياتاً عدة منها، مستشهداً بها على مواطن من كتابه.
ولها نسخ كثيرة منها:
* نسخة في الظاهرية ضمن مجموع رقم (3847).
* ولها نسخة أخرى في الظاهرية أيضاً برقم (6393) مجموع.
* ولها نسخة في دار الكتب المصرية ضمن مجموع.
* ولها نسخة في مكتبة الأوقاف بالموصل برقم (12).
* ولها نسخة في الخزانة الحسينية بالقصر الملكي بالرباط، برقم (7242/1) مجموع، وتقع في 26ق، 23 س.
* ولها نسخ في مكتبات الحرمين، ولا يخلو فهرس منها.
وهي قصيدة جيدة تقع في اثنين وثلاثين بيتاً، من البسيط.
قال في كشف الظنون (4) : وهي أنفع ما صنف في الفرق بين الضاد والظاء، وأولها:
حفظت لفظا عظيم الوعظ يوقظ من ... ظمأ لظى وشواظ الحظ والوسن
__________
(1) كشف الظنون (1/743).
(2) الأعلام (3/292).
(3) معجم المؤلفين (5/218).
(4) كشف الظنون (1/743).(1/46)
من يكظم الغيظ يظفر بالظلال ومن ... يظعن على الظلم يظلل راكد السفن
وآخرها:
سميتها درة القاري، ونِسْبتها ... بحر البسيط، فزنها واختبر تَبن
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ما غردت صادحات الطير في الغُصُن
قال حاجي خليفة (1) : وشرحها بعضهم، وسماه: "كاشف محاسن الغرة لطالب منافع الدرة".
أوله: الحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه .. الخ.
ولعل النسخة التي في الخزانة بالرباط نسخة الشرح، فإنها كبيرة تبلغ ستاً وعشرين ورقة، كما تقدم، ونسخ القصيدة لا تتجاوز ورقتين، والله أعلم.
3.مطالع أنوار التنزيل، ومفتاح أسرار التأويل.
ذكره حاجي خليفة (2) ، وقال عنه: تفسير كبير حسن انتقاه السيوطي (3) ، وكُتب في آخره إجازة سماع في مجالس آخرها ثاني القعدة سنة 659هـ بدار الحديث المهاجرية بالموصل. وذكره كحالة في معجم المؤلفين (4) .
قال ابن رجب (5) : وكان لما قدم بغداد أنعم عليه المستنصر، وصنف هذا
__________
(1) كشف الظنون (1/743).
(2) كشف الظنون (2/1715).
(3) انظر: دليل مخطوطات السيوطي (ص:43).
(4) معجم المؤلفين (5/218).
(5) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).(1/47)
التفسير ببلده، وأرسله إليه، وهو في ثمان مجلدات، وقف المدرسة البشيرية ببغداد.
والظاهر أن هذا الوصف لمطالع أنوار التنزيل، لا لرموز الكنوز، فإنه لا يبلغ هذا القدر.
وقد جاء ذكره في فهرس الدولة ببرلين (3/323).
4.القمر المنير في علم التفسير.
ذكره ابن الشعار في عقود الجمان (1) ، والدمياطي في معجمه (2) . ويظهر من عنوانه أنه في علوم القرآن.
5.المنْزع الصافي من المين في مصرع الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين.
ذكره ابن الشعار ذكره بهذا الاسم (3) ، وذكره الذهبي (4) ، وابن رجب (5) ، والداودي (6) ، وابن العماد (7) ، والزركلي (8) ، وعمر كحالة (9) . باسم "مصرع
__________
(1) عقود الجمان (4/ق 132/أ).
(2) تلخيص مجمع الآداب (1/193).
(3) عقود الجمان (4/ق 132/أ).
(4) تذكرة الحفاظ (4/1452).
(5) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(6) ... طبقات المفسرين (1/300).
(7) ... شذرات الذهب (5/305).
(8) ... الأعلام (3/292).
(9) ... معجم المؤلفين (5/218).(1/48)
الحسين".
وقد ألزمه بتصنيفه صاحب الموصل، فذكر فيه ما صح دون غيره.
6.المنتصر في شرح المختصر.
وهو كتاب في الفقه، شرح به مختصر الخرقي، انفرد بذكره ابن الشعار في العقود (1) .
7.أسنى المواهب في أحاديث المذاهب.
انفرد أيضاً بذكره ابن الشعار (2) .
8.عقود العروض.
انفرد بذكره ابن الشعار (3) .
وهذا الكتاب يحتمل أن يكون في العَروض، الذي هو موازين الشعر، ويحتمل أن يكون في الفقه، وأنه في الكلام على عقود عروض التجارة، ويشهد للأول ما ذكره صفي الدين عبد المؤمن.
وزعم محقق كتاب المقصد الأرشد أنه وقف على قصيدة في ذم الدنيا، ومدح السّنّة وأهلها، وذم البدعة وأربابها، مشروحة شرحا مفيداً، وأنها هي وشرحها للمؤلف، ولم يذكر ذلك غيره.
__________
(1) ... عقود الجمان (4/ق 132/أ).
(2) ... مثل السابق.
(3) ... مثل السابق.(1/49)
9.رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز.
وهو الكتاب الذي نحن بصدد التعريف به وتحقيقه. وسيأتي فصل خاص في الكلام عليه.
10.ثناء العلماء على المؤلف:
حظي المؤلف بثناء عاطر من معاصريه، ومن أتى بعدهم، ووصفوه بالحفظ والإمامة:
فقال عنه ابن الشعار (1) -وهو صديقه، وأقدم من ترجم له-: "فقيه، محدث، شاعر، فاضل، ذو قريحة في المنظوم والمأثور".
وقال اليونيني (2) : "كان فاضلاً عالماً أديباً شاعراً، جميل الأوصاف، رئيساً من صدور تلك البلاد، وأعيان أهلها".
وقال الذهبي (3) : "كان إماماً محدثاً فقهياً، أديباً شاعراً، ديِّناً صالحاً وافر الحرمة".
ومثله قال السيوطي (4) .
وترجمه الذهبي في تذكرة الحفاظ، فقال (5) : "الإمام المحدث الرحّال، الحافظ المفسر عالم الجزيرة، وكان إماماً متقناً ذا فنون وأدب".
__________
(1) ... عقود الجمان (4/ق 132/أ).
(2) ... ذيل مرآة الزمان (1/219).
(3) ... تاريخ الإسلام (5/ق143).
(4) طبقات المفسرين (ص56).
(5) تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1452).(1/50)
ونحوه قال السيوطي في الطبقات (1) .
وقال في العبر (2) : "وكان شيخ الجزيرة في زمانه، علماً وفضلاً وجلالة".
وقال ابن كثير (3) : "المحدث المفسر، سمع الكثير وحدث، وكان من الفضلاء والأدباء".
وقال ابن رجب (4) : "الفقيه المحدث المفسر .. وكان فاضلاً في فنون من العلم والأدب، ذا فصاحة وحُسن عبارة".
ونقل الداودي في طبقات المفسرين (5) نص الترجمة من ابن رجب.
وقال ابن الجزري (6) : "الإمام العلامة، المحدث المفسر، المقرئ، شيخ ديار بكر والجزيرة".
وقال ابن تغرى بردى (7) : "كان إماماً فاضلاً شاعراً محدثاً".
وقال ابن العماد بعد أن نقل كلام الذهبي في العبر (8) : "وتفنن في العلوم العقلية والنقلية".
__________
(1) ... طبقات الحفاظ للسيوطي (1/509).
(2) العبر (3/302).
(3) البداية والنهاية (13/241).
(4) ذيل طبقات الحنابلة (2/274، 275).
(5) طبقات المفسرين (1/300).
(6) طبقات القراء (1/384).
(7) النجوم الزاهرة (7/211).
(8) شذرات الذهب (5/305).(1/51)
وكما رأينا فقد اتفقت أقوال من ترجم للمؤلف على أنه: إمام فقيه مُحدث مفسر شاعر، وانفرد ابن الجزري في وصفه بأنه مقرئ:
أما كونه فقيهاً، فهذا لا مِرية فيه، فقد حاز فيه قصب السبق، ويشهد له ما جاء في هذا التفسير من المسائل الفقهية التي تكلم عليها عند آيات الأحكام.
كما أنه قد صنف شرحاً على مختصر الخرقي، وقد لزم الموفقَ ابن قدامة فقرأ عليه كتبه الفقهية، وحفظ كتابه المقنع كما تقدم.
وأما وصفه بالمُحدث، فهذا قد كان سمة له عند العام والخاص، حتى كان ابنه إبراهيم الحنفي يعرف بابن المحدث، كما تقدم.
وبرع في الحديث سماعاً وروايةً ، حتى أودع الكثير من مروياته بأسانيده في هذا التفسير، حيث بلغ عدد الأسانيد في كتابه "رموز الكنوز": 536 إسناداً، وهذا سوى ما هو موجود في الجزء المفقود من الكتاب.
ثم إنه قد صنف كتاباً في الحديث اسمه: أسنى المواهب في أحاديث المذاهب، كما تقدم، ويظهر أنه تتبع الأحاديث التي يُستدل بها في المسائل الفقهية وتكلم عليها، نظير التحقيق لابن الجوزي، والله أعلم.
وقد ترجمه الحافظ الذهبي في كتابه تذكرة الحفاظ ، كما لقبه الحافظ ابن حجر في كتابه تبصير المنتبه: بالحافظ (1) .
وأما ما ذكره ابن الجزري من أنه مقرئ، فهذا حق، وقد ذكر جملة كبيرة من القراءات المتواترة والشاذة، وصرّح بالأخذ عن بعض أئمة
__________
(1) ... تبصير المنتبه (2/759).(1/52)
القراءات كالعكبري، كما أنه قد نظم القصيدة النونية في الفرق بين الضاد والظاء، كما تقدم في ذكر مؤلفاته.
وأما كونه شاعراً، فقد ترجمه صديقه ابن الشعار في كتابه "عقود الجمان في شعراء الزمان"، وذكر أنه صنف كتاباً في العروض، الذي هو من موازين الشعر، كما ذكر هو وغيره جملة من أشعاره، وقد تقدم في ترجمة شيخه الموفق ابن قدامة نقل مقتطفات من مرثيته فيه.
فمن جملة هذه الأشعار عدة أبيات ، قالها عند فراقه ابنه محمداً وإخوانه ، قوله:
قف بالديار إذا مررتَ مسلِّما ... وابك الأحبة حسرة وتندما
واستخبر الأطلال أين تَرَحَّلوا ... فعسى تُخَبِّر عنهمُ ولعلما
إلى أن قال:
أمحمد لا حمد للدنيا متى لم ... ألتزمك مُقَبِّلاً منك الفما
وقال أيضاً:
وما الدهر إلا ما المماتُ ألذه ... وما خير هذا الدهر إلا عقاربه
وما هو إلا حيَّة لانَ مسها ... وسُمَّت بأنواع العذاب مضاربه (1)
ومن ذلك قوله:
يا من يرينا كل وقت وجهه ... بشْراً، ويبدي كفُّه معروفا
__________
(1) عقود الجمان (4/ق133/ب، ق135/ب).(1/53)
أصبحتَ في الدنيا سَريّا بعدما ... أمسيتَ فيها بالتقى معروفا (1)
ومن ذلك قوله:
إنما هذه الحياة متاع ... فليجزها بالزهد مَن فيه عقل
نظر العارف اللبيب ... من الفكر فيها فلم يزنه عقل (2)
وأخطأ اليونيني فنسب البيتين الآتيين له، وإنما هما لابنه شمس الدين محمد، كما سبق، وتبعه ابن تغرى بردى، وهما قوله:
ولو أن إنساناً يبلغ لوعتي ... ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا
لأسكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا
11. شعره:
سبق بيان شاعرية الرسعني في الفقرة السابقة، وفيما يلي نذكر بعض الأشعار التي نسبت له، فمنها ما نقله ابن العماد في الشذرات (3) :
وكنت أظن في مصر بحاراً ... إذا أنا جئتها أجد الورودا
فما ألفيتها إلا سراباً ... فحينئذ تيممت الصعيدا
وأورد له ابن كثير في البداية والنهاية هذين البيتين (4) :
__________
(1) معجم الدمياطي (ق13/ب)، وذيل مرآة الجنان (2/219).
(2) عقود الجمان (4/ق133/ب).
(3) شذرات الذهب (3/305).
(4) ... البداية والنهاية (13/241).(1/54)
نعب الغراب فدلنا بنعيبه ... أن الحبيب دنا أوان مغيبه
يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جُدْ لي بعيش ثم سل عن طيبه
ومن شعره ما نقله صاحب النجوم الزاهرة (1) :
ولو أن إنسانا يبلغ لوعتي ... وشوقي وأشجاني إلى ذلك الرشا
لأسكنته عيني ولم أرضها له ... فلولا لهيب القلب أسكنته الحشا
12.وفاته:
مات رحمه الله سنة إحدى وستين وستمائة (2) . وهذا قول عامة من ترجمه، لا سيما تلميذه الدمياطي، وكذلك الذهبي، وابن رجب واليونيني، وابن كثير، وابن مفلح، والسيوطي، وغيرهم.
وقال ابن الفوطي في معجمه: توفي سنة ستين وستمائة، وتبعه ابن مفلح في المقصد.
وقال الإربلي في كشف الغمة -وهو صديقه-: قتل سنة أخذ التتار الموصل، وهي سنة ستين وستمائة. وهذا قول غريب لم يتابعه عليه أحد.
ثم اختلفوا، في أي شهر توفي، فقال ابن الفوطي: في ذي الحجة، وتبعه
__________
(1) النجوم الزاهرة (7/21). وقد نسب البيتين الصفدي في الوافي بالوفيات إلى ابن المؤلف محمد بن عبد الرازق (الوافي بالوفيات 3/252).
(2) تذكرة الحفاظ (4/145)، والمقصد الأرشد (2/13)، والنجوم الزاهرة (7/21)، وطبقات الحفاظ للسيوطي (1/50)، وطبقات المفسرين (ص:6)، وكشف الظنون (1/91)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/30).(1/55)
كما قلت ابن مفلح في المقصد.
وقال اليونيني في ذيل المرآة، وابن كثير، والذهبي، وابن العماد: توفي ثاني عشر ربيع الآخر، ليلة الجمعة.
وقال الدمياطي: توفي في ثامن عشر ربيع الآخر ليلة الجمعة، عند العشاء الآخر.
وحكى ابن رجب الأقوال الثلاثة؛ أعني قول ابن الفوطي واليونيني والدمياطي.
ونقل الداودي عن الذهبي أنه توفي ثاني عشر ربيع الأول، وهو خلاف ما ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، فالظاهر أنه سهو، وأن الصواب ربيع الآخر.
مما سبق يتبين أنه توفي سنة إحدى وستين وستمائة في ثامن عشر ربيع الآخر، ليلة الجمعة بعد العشاء الآخر، كما ترجمه بهذا تلميذه الدمياطي، وإن كان أكثر المترجمين على أنه في ثاني عشر ربيع الآخر. والله أعلم.
وكانت وفاته بسنجار (1) ، ودفن في ظاهرها، شرقي البلد، في مقبرة المشايخ.
__________
(1) سنجار: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة بينها وبين الموصل ثلاثة أيام، وهي في لحف جبل عال، ويقولون: إن سفينة نوح عليه السلام لما مرت به نطحته فقال نوح: هذا سن جبل جار علينا فسميت سنجار (معجم البلدان 3/262).(1/56)
المبحث الثاني
التعريف بكتاب "رموز الكنوز"
وفيه:
1-اسم الكتاب ... ... ... ... ... 57
2-نسبة الكتاب للمؤلف ... ... ... ... 58
3- تاريخ تأليف الكتاب ... ... ... ... 59
4-قيمة الكتاب العلمية ... ... ... ... 59
5-عناية العلماء بكتاب "رموز الكنوز" ... ... 60
6-منهج المؤلف في كتابه "رموز الكنوز" ... ... 61(1/57)
المبحث الثاني: التعريف بكتاب رموز الكنوز
13.اسم الكتاب:
هو: "رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز".
هذا الاسم انفرد به صاحب كشف الظنون (1) ، وأما بقية من ترجم للمؤلف فقد ذكر الكتاب باسم: "رموز الكنوز"، وكذا جاء الاسم مكتوباً على طُرة بعض أجزاء الكتاب.
كما أنه جاء على غلاف بعض الأجزاء تسميته بتفسير القرآن العظيم.
وقد قال المؤلف في ثنايا الكتاب (2) : "لما انتهيت مرة في تدريس الكتاب العزيز إلى هذه الآية أورد عليّ رجل فاضل إشكالاً"، فدل ذلك على أن المؤلف ذكر الجزء الثاني من العنوان في طيات تفسيره، وهذا شاهد لما ذهب إليه صاحب كشف الظنون.
ولعل من ذكره باسم "رموز الكنوز" من غير إضافة هو من باب الاختصار في سرد الأسماء، وهذا ما نراه في المؤلفات التي تعرف بالأشخاص، والمؤلفات التي تعرف بالكتب. والله أعلم.
وقد اقتصر بعض مترجميه على قولهم: ألف كتاباً في التفسير، دون التعرض لاسمه.
ونقل الأدنروي في طبقات المفسرين عن كتاب "أسامي الكتب" أن اسم كتاب الرسعني "الرمز الكنيز في تفسير الكتاب العزيز" (3) . وهذا مما انفرد
__________
(1) كشف الظنون (1/914).
(2) ... (1/336).
(3) طبقات المفسرين (ص:243).(1/59)
به الأدنروي، ولعله وهِم في اسم الكتاب. والله أعلم.
وقد ضمّن المصنف اسم كتابه في ثنايا تفسيره، أثناء دعاءٍ دعاه، فقال (1) : فجاء الكلام على أبدع نظم وأحسن تقسيم وأصح معنى، اللهم! فلك الحمد على ما هديتنا إليه من إبراز رموز خطابك، ودللتنا عليه من إحراز كنوز كتابك.
14. نسبة الكتاب للمؤلف:
1.جاء اسم الكتاب مقروناً بنسبته إلى الإمام الرسعني -رحمه الله-على غلاف الكتاب.
2.جاء في السماع المثبت بآخر المجلد الثاني ما نصه: سمع جميع هذا المجلد وهو الثاني من كتاب "رموز الكنوز"، تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل الكامل عز الدين عبد الرازق الرسعني.
3.ذكر أكثر الذين ترجموا للمؤلف هذا الكتاب من جملة مصنفاته.
4.نقل عنه العلامة عبد الرحمن بن عمر الحنبلي، المتوفى سنة أربع وثمانين وستمائة، في موضعين من تفسيره "منتهى العلوم" (ق72/أ)، و (ق164/ب).
كل هذا يجعلك تتأكد بلا ريب من صحة نسبة كتاب "تفسير رموز الكنوز" للمؤلف.
__________
(1) (7/246).(1/60)
15. تاريخ تأليف الكتاب:
حدد المصنف رحمه الله تعالى تاريخ بداية تأليف الكتاب، فقال في مقدمة الكتاب: شرعتُ فيه مُظهراً نعم الله عليّ ومنحه في أول المحرم مفتتح سنة ثلاث عشر وثمانمائة، ولي من العمر أربعة وعشرون سنة، وهو أول تصانيفي.
16.قيمة الكتاب العلمية:
أثنى المصنف على كتابه "رموز الكنوز" في أثناء تفسيره ، وذكر بعض مزايا كتابه؛
فقال عند تفسير قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } [آل عمران: 144]، بعد أن ذكر اعتراضاً وجواباً عليه: وقلّ أن يُذكر مثل هذا التحرير في تفسير، ولكن هذا من السرِّ المكنون الذي لا يَظهر إلا بالبحث والتقرير.
وقال عند تفسير قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [محمد: 16]، بعد أن ذكر دخلان وجوابهما: وهذان الدخلان والجواب عنهما والتقرير التالي لهما ما علمتُ أن أحداً من المفسرين ذكره.
وقال عند تفسير قوله تعالى: { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا(1/61)
نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } [القمر:24]، بعد أن ذكر دخلاًَ وجوابه: وقلّ أن ترى مثل هذا التدقيق والتحقيق في تفسير، فإذا قرأته فادْعُ بالرحمة والمغفرة لمن أسهَر فيه ناظره، وأتعب في استثماره خاطره.
واعلم أنني بعد ذلك رأيت بعض نَحارِير العلماء قد ألمّ بهذا المعنى، فحمدت الله على مماثلته في التوفيق، لإصابة جهة التحقيق. انتهى.
وقد أثنى العلماء على كتاب "تفسير رموز الكنوز"، ووصفوه بأوصاف تدل على قيمة الكتاب العلمية:
فقد قال الذهبي في تاريخ الإسلام (1) : صنف تفسيراً حسناً، يروي فيه بإسناده.
وقال في العبر (2) : وصنف تفسيراً جيداً.
وقال ابن رجب (3) : وصنف تفسيراً حسناً في أربع مجلدات ضخمة، سماه: "رموز الكنوز"، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه الأحاديث بإسناده.
ونصه في طبقات المفسرين للداوودي (4) ، ونحوه في المقصد الأرشد (5) .
__________
(1) ... تاريخ الإسلام (5/ق143).
(2) ... العبر (3/302).
(3) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(4) ... طبقات المفسرين (1/300).
(5) ... المقصد الأرشد (2/135).(1/62)
وقال ابن بدران (1) : رموز الكنوز تفسير جليل، يذكر فيه المؤلف أحاديث يرويها بالسند، ويناقش الزمخشري في كشافه، ويذكر فروع الفقه على الخلاف بدون دليل.. وبالجملة هو تفسير مفيد جداًّ لمن طالعه.
وقال في موضع آخر عند حديثه عن تفاسير الحنابلة (2) : وأجلُّ هذه التفاسير كلها وأنفعها تفسير الإمام عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف بن أبي الهيجاء الرسعني، الفقيه المحدث الحنبلي.. إلى أن قال: وتفسيره "رموز الكنوز" وهو في أربع مجلدات، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه أحاديث بإسناده، ويذكر الفروع الفقهية، مبيناً خلاف الأئمة فيها، وله مناقشات مع الزمخشري، ولقد اطلعت عليه، وارتويت من مورده العذب الزلال، وشنفت مسامعي بتحقيقه، وارتويت من كوثر تدقيقه، فرحم الله مؤلفه.
17.عناية العلماء بكتاب "رموز الكنوز":
ظهرت عناية كبيرة للعلماء بكتاب الإمام الرسعني، وقد ظهر هذا جلياً من خلال الحلقات العلمية التي كان أهل العلم يعقدونها لإلقائه في مجالس، وبعضهم كان يلقيه من حفظه، وفيما يلي نذكر من كان يلقي كتاب "رموز الكنوز" على طلبة العلم:
1.فقد كان الإمام الرسعني نفسه يقوم بتدريس كتابه، وإملائه على طلبة
__________
(1) ... المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ص:415).
(2) ... المرجع السابق (ص:477).(1/63)
العلم.
2.الشيخ عبد الصمد بن إبراهيم بن خليل البغدادي المعروف بابن الحصري (؟-765هـ) (1) :
ألقى كتاب "رموز الكنوز" دروساً من لفظه بمسجد بالس ببغداد.
3.القاضي جمال الدين عبد الصمد بن خليل الخضري الحنبلي (؟-765هـ).
كان يحدث ويملي تفسير الرسعني من حفظه، ويحضره الخلق، منهم المدرسون والأكابر (2) .
4. أبو بكر بن محمد بن قاسم بن عبد الله السنجاري ثم البغدادي، شجاع الدين المقرئ المقانعي الحنبلي.
كان يحدث بتفسير الرسعني (3) .
18.منهج المؤلف في كتابه "رموز الكنوز":
لم نقف على مقدمة المؤلف رحمه الله لكتابه رموز الكنوز، حيث إن الجزء الأول من المخطوط لم نقف عليه، وإنما وقفنا على الجزء الثاني من
__________
(1) ... عبد الصمد بن إبراهيم بن خليل البغدادي، جمال الدين، أبو أحمد، المعروف بابن الحصري، الحنبلي، اختصر تفسير الرسعني، بعد أن ألقاه دروساً من لفظه، بمسجد بالس ببغداد، توفي سنة خمس وستين وسبعمائة . ذيل طبقات الحنابلة (2/413)، والدرر الكامنة (2/476)، وشذرات الذهب (6/204).
(2) ... شذرات الذهب (3/204).
(3) ... الدرر الكامنة (1/551)، والمقصد الأرشد (3/154).(1/64)
المخطوط والذي يبتدئ بسورة آل عمران، ولعل المؤلف رحمه الله قد ذكر في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه في كتابه "رموز الكنوز"، وعليه فإننا سوف نحاول ومن خلال دراسة كتابه "رموز الكنوز" تلمس المنهج الذي سلكه الرسعني في كتابه هذا ، فنقول:
1.يبدأ المؤلف -رحمه الله- بذكر طرف الآية ثم يذكر القراءات الواردة فيها، وينسبها إلى من قرأ بها من القراء، ثمَّ يقوم بتوجيه القراءات لغوياً، ومن ثم يعرض للمعاني المختلفة المأخوذة من القراءات المختلفة.
كما أنه يُثبت القراءات التي قرأها على شيوخ عصره من القراء، سواء كانت توافق القراءات العشر أو لا، وبهذا يعتبر كتاب "رموز الكنوز" مرجعاً مهماً لدارسي علوم القراءات.
2.يذكر المعاني اللغوية ومباحث الإعراب ونكت البلاغة المتعلقة باللفظ القرآني.
3.امتاز لفظ المؤلف بالإيجاز وكان سهل العبارة، مما جعل تفسيره قريب المنال، سهل المأخذ.
4.اعتمد في بيان معاني الآيات أحسن طرق التفسير، فهو يفسر الآية بالقرآن وقراءاته ثم بالأحاديث الواردة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإيراد أسباب النزول المروية عنهم، ثم باللغة العربية.
5.ساق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما ما يذكره عن الصحابة أو التابعين من الروايات فغالباً ما يذكرها دون إسناد.
6.ذكَرَ الحكم على بعض الأحاديث التي يسوقها ، فمن ذلك:(1/65)
- قال عند قوله تعالى: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً } [النمل: 82]: وروي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: " هي دابة ذات زَغَبٍ وريش، لها أربع قوائم ".
- وقال عند قوله تعالى: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف: 35]: روى الثعلبي بإسناد لا بأس به أن ابن عباس... الحديث.
7.يذكر الخلافات الواردة عن السلف في التفسير، ويعدد عنهم الروايات في ذلك.
8.يورد إشكالات على ظاهر النظم ثم يجيب عليها، انظر مثلاً ما ذكره عند الآية رقم (4) من سورة الأعراف.
9.يعقب بعض الآيات بذكر فصول مهمة، تتضمن أحكاماً فقهية، أو مسائل من أصول الدين، أو فوائد تتعلق بالآية؛ يُطنب القول فيها، ويذكر الآراء المختلفة حولها، مع سرد الأدلة لكل رأي.
10.موقفه من آيات الصفات:
ذكر الرسعني رحمه الله تعالى في كتابه "رموز الكنوز" رأيه في آيات(1/66)
الصفات بوضوح، فقال (1) :
قاعدة مذهب إمامنا في هذا الباب-أي آيات الصفات-: اتباع السلف الصالح؛ فما تأولوه تأولناه، وما سكتوا عنه سكتنا عنه، مفوّضين علمه إلى قائله، منزهين الله عما لا يليق بجلاله. اهـ.
قلت: وقد التزم المؤلف بهذه القاعدة، فقد رجّح تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم:42]، وأوله بالأمر الشديد، ونسب هذا التفسير إلى كثير من علماء السنة، ثم ذكر الرأي الآخر، وهو إلحاق هذا بنظائره من آيات الصفات (2) .
11.ذكر فوائد وطرائف رآها أو سمعها، ومنها:
- قال عند قوله تعالى: { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } [الأعراف:69]: والبَسْطة: الفضيلة في الجسم وامتداد القامة. قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستون ذراعاً. قال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة.
قال: ولقد رأيتُ -أي المؤلف الرسعني- مصداق ذلك وشاهدت صحته حين أرسل الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين رئيس الأصحاب محيي الدين أبا محمد يوسف بن أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي إلى صاحب مصر، فرجع في بعض سفراته ومعه ضرس جبار من الجبارة الأول، قد استُخْرج من بعض مدافنهم، وزنه أربعة عشر رطلاً، وقد انكسرت منه
__________
(1) ... رموز الكنوز (8/241).
(2) ... انظر تفسير هذه الآية في سورة القيامة، آية: 29.(1/67)
فلقة، هذا مع ما نقصه تطاول الأزمان ومرّ السنين والأحقاب عليه.
- وقال عند قوله تعالى: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف:199]: ومن جملة أدوية الغضب: ما أخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غضب أحدكم فليسكت" (1) .
وروى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" (2) .
وأنزل الله في بعض كتبه: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت، فلا أمحقك مع من أمحق، وإذا ظلمت فارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك.
- وقال عند قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان:58]: صحبتُ شيخاً من العاملين لله والمتنسّكين بالعلم والمتمسكين بالورع في سفر بطريق الشام فنزلنا قريةً فعرفه بها رجل من ذوي اليسار، فقال: أنتم الليلة أضيافي، فقال له الشيخ: وليلة غدٍ أضياف من نكون؟ يشير بذلك إلى نفي الاعتماد على من هو بعرضية الفناء والنفاد، ووجوب الاستناد في طلب القوت إلى الحي الذي لا يموت.
__________
(1) ... أخرجه أحمد (1/239 ح2136).
(2) ... أخرجه أبو داود (4/249 ح4782).(1/68)
- وقال عند قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف:13-14]: قيل لبعضهم بعد خروجه من البحر: ما أعجب ما رأيت فيه؟ قال: سلامتي. فينبغي للمتلبس بهذه الحالة استذكار الآخرة والاستعداد لها، فليجتلب ما ينجبه من طاعة الله ويجتنب ما يرديه من معصيته ...
- وقال عند قوله تعالى: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6]: كنا يوماً نتدارس القرآن في بيت من بيوت الله برأس عين، سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان عام قحط وغلاء وموت ذريع بسبب الجوع، فأتينا على هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا(1/69)
يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وعندنا رجل من ذوي اليسار يستمع القرآن سماع تفكر واعتبار، فصاح صيحة شديدة، وألقى نفسه في وسط الحلقة كهيئة الولهان، ثم تراجعت إليه نفسه فقال لنا: أشهدكم أن لله في مالي مائة مكوك من الحنطة، وستمائة درهم أصلحها بها وأطعمها لفقراء المسلمين، أقي بها نفسي وأهلي من نار جهنم، ثم نهض وأمضى ذلك باطلاع منا في أيام، فكان مجموع ما أنفق نحواً من مائتين وخمسين ديناراً تقريباً.
12.جمع بين الروايات المتعارضة الواردة في الموضوع:
- فقد قال عند قوله تعالى: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [آل عمران:143]، والمعنى: فقد رأيتم أسبابه { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } توكيد، على معنى: وأنتم بصراء.
وقيل: وأنتم تنظرون ما تمنيتم.
وقال ابن عباس: وأنتم تنظرون إلى السيوف (1) .
__________
(1) زاد المسير (1/468).(1/70)
والذي يظهر لي، ويشهد بصحته سبب النزول، والله أعلم أن المعنى: ولقد كنتم تمنون الموت رغبة في الشهادة فقد رأيتموه، وبلغتم ما كنتم تحبون وتتمنون، وحالكم أنكم قوم تنتظرون الموت، وترتقبونه رغبة في كرامة الله وما أعده للشهداء، فلم انهزمتم، وأسلمتم نبيكم، وخذلتم دينكم.
- وقال عند قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } [آل عمران:14]: وقد روي عن أُبَيِّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ألفٌ ومائتا أوقية (1) .
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه اثنا عشر ألف أوقية (2) .
وروى الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ألفٌ ومائتا دينار.
وفيه أقاويل متعددة عن الصحابة والتابعين.
__________
(1) أخرجه الطبري (3/199)، وابن أبي حاتم (2/608) عن معاذ. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/161) وعزاه لابن جرير.
... قال ابن كثير في تفسيره (1/352): وهذا حديث منكر أيضاً.
(2) أخرجه أحمد (2/363)، وابن ماجه (2/1207). وانظر: زاد المسير (1/359). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/161) وعزاه لأحمد وابن ماجه.(1/71)
والذي يظهر -في نظري- أن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنهم في ذلك: ليس على سبيل التحديد لزنة القنطار، وإنما هو على سبيل التنظير للمال الكثير، صيانة لروايات الثقات، ولأقوال العلماء الأثبات عن التناقض والتهافت.
- وقال عند قوله تعالى: { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ } [آل عمران:167]: المعنى: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم، وإنما أنتم على شفا من استئصال شأفتكم، فعلام نجعل أنفسنا فرائس الفوارس، وأغراض الحتوف، وجزر السيوف، وهذا هو التأويل الذي يشهد العلم بصحته، لا ما ذكره الماوردي (1) من أن المعنى: لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم (2) ، ولا ما ذكره ابن إسحاق أن المعنى: لو نعلم قتالاً يجرى اليوم لقاتلنا معكم (3) ، وهذا (4) الذي ذكره الواحدي،
__________
(1) علي بن محمد بن حبيب، الماوردي، أبو الحسن البصري، كان من وجوه فقهاء الشافعية، وله تصانيف كثيرة، في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة خمسين وأربعمائة. (تاريخ بغداد (12/102)، والمنتظم (8/199)، وطبقات الشافعية للأسنوي (2/387).
(2) لم أجد ما ذكره المؤلف عن الماوردي في تفسيره المطبوع، وقد ذكر محقق تفسير الماوردي: أن العبارة عند هذه الآية مضطربة، فصوّبها من السيرة، فلعله أسقط تفسير الآية، وقد نسب هذا القول أيضاً للماوردي ابن الجوزي في زاد المسير (1/498).
(3) زاد المسير (1/498).
(4) يعني ما ذهب إليه، من القول الأول.(1/72)
وجمهور المفسِّرين. والقول الذي ذكره الماوردي رديء جداً.
والذي قاله ابن إسحاق قول تشهد العقول الرصينة بتفاهته، لأن أهل النفاق رجعوا حين تراءت الفئتان، وقامت الحرب على ساق، فكيف يقولون ذلك بهذا الاعتبار في معرض الاعتذار، والكفار قد أقبلوا بقضهم وقضيضهم يطلبون الأخذ بالثأر، من المهاجرين والأنصار.
- وقال عند قوله تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } [آل عمران:167]: قال ابن مسعود، وابن عباس، والأكثرون: نزلت في مانعي الزكاة.
وروي عن ابن عباس، ومجاهد أنها نزلت في الأحبار الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، اختاره الزجّاج.
والذي آتاهم الله -على القول الأول-: المال، وعلى القول الثاني: العلم.
والصحيح هو القول الأول؛ لما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن آتاه مالاً فلم يؤد زكاته ماله مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- يقول: أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ، ثم تلا هذه الآية : { وَلَا(1/73)
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " (1) .
13.ذكر أسانيده:
ذكر المصنف أسانيد بعض الكتب إلى أصحابها أثناء تفسيره:
فقد ذكر إسناده لكتاب ابن سوار في القراءات، فقال: قرأت بجميع ما فيه على شيخنا العلامة أبي البقاء عبدالله بن الحسين اللغوي تلاوة، وأخبرني أنه قرأ بجميع ذلك وهو ما فيه على الشيخ أبي الحسن علي بن المرحب البطائحي تلاوة، وأخبره أنه قرأ بجميع ما فيه على ابن سوار المصنف تلاوة.
14.التفسير الإشاري (2) :
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1663 ح4289).
(2) ... هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضاً.
... قال الإمام ابن الصلاح: يا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والالتباس.
... وقال الزركشي: قيل إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة (البرهان 2/170، ومناهل العرفان 2/56).(1/74)
اعتنى الرسعني في تفسيره بذكر تفسير أرباب الإشارات والمعاني لبعض الآيات القرآنية:
- فقد قال عند قوله تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } [آل عمران:55]: قال بعض أهل المعاني: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك.
- وقال عند قوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [النساء:29]: قال بعض أهل المعاني: "ولا تقتلوا أنفسكم" بارتكاب المعاصي.
- وقال عند قوله تعالى: { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء:43]: قال بعض أرباب الإشارات: { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } من حب الدنيا.
- وقال عند قوله تعالى: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [يوسف:20]: قال بعض أرباب الإشارات: والله ما يوسف وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوة ساعة من معاصيك.(1/75)
- وقال عند قوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون:2]: قال بعض أرباب الإشارات: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعاً: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التام، وجمع الهمّ.
- وقال عند قوله تعالى: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا } [الرعد:15]: قال أهل المعاني: سجودها: تمايلها من جانب إلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطُّول والقِصَر.
- وقال عند قوله تعالى: { فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم:15]: سئل يحيى بن معاذ الرازي: أي الأصوات أحسن؟ فقال: مزامير أنس في مقاصير قدس، بألحان تحميد في رياض تمجيد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
- وقال عند قوله تعالى: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان:20]: قال الحارث المحاسبي: الظاهرة نعيم الدنيا، والباطن نعيم العقبى.(1/76)
15.الرد على القدرية (1) :
كما اعتنى الرسعني في كتابه بالرد على القدرية:
- فقد قال عند قوله تعالى: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [آل عمران: 152]: وفي قوله: "صرفكم"، إبطال لمذهب القدرية حيث أضاف الصرف إلى نفسه وجعله من فعله.
- وقال عند قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48]: وفي هذه الآية دليل على أن مَن مات على الإيمان من أهل الكبائر لا يخلد في النار، وبرهان قاطع على بطلان ما انتحله القدرية من قولهم: لا يجوز أن يغفر الله الكبيرة، ولا أن يعفو عن المعاصي.
- وقال عند قوله تعالى: { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنعام:149]: قالت جويرية بن أسماء: سمعت علي بن زيد تلا هذه الآية: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
__________
(1) القدرية: هم الذين يقولون لا قَدَر، وأن الأمر أُنُف، وهم قدرية في الأفعال، معتزلية في الصفات، وعيدية في الإيمان.(1/77)
أَجْمَعِينَ } فنادى بأعلى صوته: انقطع والله هاهنا كلام القدرية.
- وقال عند قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } [النحل:93]: قال الواحدي (1) : هذا صريح في تكذيب القَدَرية ، حيث أضاف الضلالة والهداية وجعلهما إلى نفسه لمن يشاء من خلقه بالمشيئة الأزلية.
- وقال عند قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات:163]: قال عمر بن عبد العزيز: فصلت هذه الآية بين الناس (2) ، يشير إلى إبطال ما انتحلته القدرية.
- وقال عند قوله تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } [القمر:47]: أخرج مسلم في صحيحه والترمذي من حديث أبي هريرة قال: جاء مشركوا قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاصمون في القدر ، فأنزل الله : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ
__________
(1) ... الوسيط (3/80).
(2) ... ذكره القرطبي في تفسيره (15/136).(1/78)
وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (1) . قال: وهذه الآية المعتضدة بالأحاديث الصحيحة المبين لسبب النزول الدافع لكل تأويل يعتصم به الخصم من جملة الدلائل الدامغة للقدرية، والبراهين المبطلة لمذهبهم الخبيث...
16.الرد على الزمخشري:
أثارت آراء الزمخشري في الكشاف مناقشات وحواراً بين العلماء، وذلك لأن الزمخشري كان معتزلي العقيدة من ناحية، وكان ينهج منهج الرأي والتأويل ولو كان على حساب الصناعة النحوية من ناحية ثانية.
وقد اعتنى المؤلف عناية كبيرة في الرد على مواطن الاعتزال التي كان الزمخشري يحاول أن يبثّها في ثنايا تفسيره، ورد التجاوز الصريح على الصناعة النحوية ومتعلقاتها.
ولو أردنا حصر مناقشات الرسعني مع الزمخشري لطال الأمر بنا، لذا فإننا نحيل القارئ إلى التفسير، ففيه الشيء الكثير.
وقد جاءت آفة الزمخشري من أمور، تتبعتها في كتب السير والتراجم
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/2046 ح2656)، والترمذي (4/459 ح2157).(1/79)
والطبقات، وهي كما يلي:
- لم يكن له لقاء ولا رواية، بل كان يأخذ علمه من الكتب.
قال الشيخ تاج الدين الكندي: رأيت الزمخشري عند شيخنا أبي منصور الجواليقي رحمه الله تعالى مرتين قارئاً عليه بعض كتب اللغة من فواتحها ومستجيزاً لها؛ لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولا رواية (1) .
- غلوه في الاعتزال:
قال الشيخ تاج الدين الكندي: كان متحققاً بالاعتزال (2) .
وقال ابن خلكان: كان الزمخشري معتزلي الاعتقاد متظاهراً به، حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحباً له واستأذن عليه في الدخول، يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب (3) .
- دعاء والدته عليه:
قال في إنباه الرواة (4) : لما دخل الزمخشري بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن سبب قطع رجله، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله وأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، فلما وصلت إلى سن الطلب
__________
(1) وفيات الأعيان (2/340).
(2) مثل السابق.
(3) وفيات الأعيان (5/170).
(4) ... إنباه الرواة (3/268).(1/80)
رحلتُ إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت الرجل، وعملت عليَّ عملاً أوجب قطعها.
17.إثارة الاعتراضات والجواب عنها:
أكثر المصنف رحمه الله تعالى في أثناء كتابه من إيراد الاعتراضات والإجابة عليها، وأحياناً يورد الإجابة على الاعتراض من وجوه متعددة، وأحياناً ينوه المصنف بذكره أجوبة لم يسبق إليها:
- فقد قال عند قوله تعالى: { وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق:29]، بعد ذكره دخلين وإجابته عنهما: وهذان الدخلان والجواب عنهما لم أُسْبَق إليهما، فإن يكن ذلك صواباً فمن فضل الله تعالى، وإن لم يكن ذلك فالله المسؤول التجاوز عني برحمته وكرمه.
- وقال بعد تفسير قوله تعالى: { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ } [القمر:24]: وقلّ أن ترى مثل هذا التدقيق والتحقيق في تفسيرٍ، فإذا قرأته فادع بالرحمة والمغفرة لمن أسهَر فيه ناظره، وأتعب في استثماره خاطره.
- وقال بعد تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } [الممتحنة:12]: وما أعلم أحداً من(1/81)
المفسرين لَحَظَ هذا الذي ذكرته، مع حكايتهم القولين المتنافيين.
18.تعليقه على الأقوال والنقول:
لم يكن الرسعني مجرد ناقل أو راو يسرد الروايات دون دراسة وتمحيص، بل إنه كان يعلق أحياناً، ويبدي رأيه حولها، ويرجح بينها، مورداً أحياناً الأدلة على الرأي الذي اختاره، وفيما يلي نسوق بعض الأمثلة على ذلك:
- قال عند قوله تعالى: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } [آل عمران: 52]: تقول: أَحْسَسْتُ بالشَّيْءِ وحَسَسْتُ به، فهو مُحَسٌّ، وقول الناس محسوس خطأ.
- وقال عند قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف:29]: قال مجاهد والسدي وابن زيد: وجهوا وجوهكم حيث كنتم إلى الكعبة (1) .
قال: وفي هذا القول نظر؛ لأن الآية مكية، والأمر بالتوجه إلى الكعبة كان على رأس ستة عشر شهراً في المدينة.
- وقال عند قوله تعالى: { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/155)، وابن أبي حاتم (5/1462)، ومجاهد (ص:234).(1/82)
ڑcqè=ح !$s% } [الأعراف:4]:
فإن قيل: نظمُ الآية يدل على تقدم الهلاك على البأس، وهو العكس؟
قلت: المراد أردنا إهلاكها كقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } [المائدة:6]، وقوله: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ } [النحل:98].
وقال الفراء (1) : وقع الإهلاك والبأس معاً، كما تقول: أعطيتني فأحسنت إليّ.
وذكر ابن الأنباري عن ذلك جوابين:
أحدهما: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، كما أضمر في قوله: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } [البقرة:102] أي: ما كانت تتلوه.
الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون فأهلكناها، كقوله: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
__________
(1) ... معاني الفراء (1/371).(1/83)
إِلَيَّ } [آل عمران:55].
والأول هو الجواب الذي ينبغي أن يعتمد عليه.
- وقال عند قوله تعالى: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف:41]: وبعض العرب إذا وقف على "غواش" وقف بإثبات الياء، ولا أرى ذلك في القرآن، لأن الياء محذوفة في المصحف.
- وقال عند قوله تعالى: { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141]: ذهب أكثر متأخري العلماء إلى أن المراد بالحقِّ: الزكاة.
قال القاضي أبو يعلى ابن الفراء: فائدة ذكر الحصاد: أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، وإنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه، وقد كان يجوز أن يُتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد دون ما يتلف.
وقال أيضاً: "اليوم" ظرفٌ للحقّ لا للإيتاء، فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية.
وقال الواحدي (1) : هذا في النخيل؛ لأن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب فيها من الصدقة. والزرع محمول عليه في وجوب الإخراج، إلا أنه
__________
(1) الوسيط (2/330).(1/84)
لا يمكن ذلك عند الحصاد، فيؤخر إلى زمان التنقية.
وقال صاحب الكشاف (1) : معناه: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تأخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
وهذه الفوائد في نهاية ما يكون من الحسن.
ويجوز عندي -والله أعلم- أن يقال: العرب توقع اليوم على الزمان، فيقولون: كان ذلك يوم بُعاث، ويوم صفين (2) ، وقد قررنا ذلك فيما مضى.
- وقال عند قوله تعالى: { `yJ9 تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } [الأعراف:18]: جعله ابن الأنباري من باب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى منكم ومنهم، فغلّب ضمير المخاطب.
ويجوز عندي أن يقال: صاروا باتباع إبليس ومشايعته وتلبسهم بطاعته كالجزء منه ومن ذريته، ولذلك شملهم اسم الشيطنة، فيسلم الكلام بهذا التقرير من الإضمار والتقدير.
- وقال عند قوله تعالى: { وَتَصُدُّونَ عَنْ
__________
(1) الكشاف (2/69).
(2) ... يوم بُعاَث: كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وهو يوم من مشاهير أيام العرب (انظر: اللسان، مادة: بعث). وكان الظهور فيه للأوس.
... وصفين: موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما (معجم البلدان 3/414)
(3) ... الكشاف (2/90).(1/85)
سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ } [الأعراف:86]: قال صاحب الكشاف: الضمير في "آمن به" يعود إلى "كل صراط"، تقديره: توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير؛ زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.
ويجوز عندي -والله تعالى أعلم-: أن يعود الضمير إلى الله تعالى؛ لأنه أقرب المذكورين.
- وقال عند قوله تعالى: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ } [الأعراف:129]: قال ابن عباس: أرض مصر، وقيل: أرض الشام. ويجوز عندي: أن يريد جنس الأرض.
- وقال عند قوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } [الأعراف:157]: وهو القرآن الكريم، سمي نوراً؛ لأنه يُهتدى به ويُستضاء في طريق النجاة.
فإن قيل: القرآن نزل مع جبريل، فكيف قال "معه"؟
قلت: منهم من فسر المعيّة بالمقارنة في الزمان، أي: النور الذي أنزل في زمانه.(1/86)
وقال صاحب الكشاف (1) : المعنى أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يتعلق "باتبعوا" أي: اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، وبما أمر به ونهى عنه، أو يكون المعنى: واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه.
وهذه الأوجه حسنة شديدة، ويحتمل عندي إجراء اللفظ على ظاهره، وأن يكون المراد بالنور الذي أنزل معه؛ ما نزل به ليلة المعراج من القرآن، وهي خواتيم سورة البقرة -على ما ذكرناه في آخرها-، وما أوحاه الله إلى عبده في تلك الحضرة المقدسة، فإن بعض القرآن يسمى نوراً، قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [النساء:174]. ومعلوم أنه قد نزل بعد هذه الآية قرآن كثير.
إذا ثبت ذلك فنقول: إذا اتبع الإنسان خواتيم سورة البقرة واستضاء بنورها كان موافقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان بما أنزل إليه من ربه، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله، وقارنه الفلاح والفوز الأبدي.
ويؤيد هذا: أن خواتيم سورة البقرة سميت نوراً؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس، أن المَلَك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "أبشر بنورين أوتيتهما: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة" (2) .
- وقال عند قوله تعالى: { وَمَا يَكُونُ
__________
(1) الكشاف (2/157).
(2) ... أخرجه مسلم (1/554 ح806).(1/87)
لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } [الأعراف:89] وقال قوم: فالله لا يشاء الكفر، قالوا: وهذا مثل قولك: لا أكلِّمك حتى يَبْيضَّ القار، ويشيب الغراب، والقار لا يَبْيضّ، والغراب لا يشيب. قالوا: فكذلك تأويل الآية.
قال الزجاج (1) : وهذا خطأ؛ لمخالفته أكثر من ألف موضع في القرآن لا يحتمل تأويلين؛ أنه لا يكون شيء ولا يحدث شيء إلا بمشيئة الله تعالى وعن علمه، وسُنَّة الرسل تشهد بذلك، ولكن الله تعالى غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم، فأمرهم ونهاهم؛ لأن الحجة إنما ثبتت من جهة الأمر والنهي، وكل ذلك جار على ما سبق من العلم وجرت به المشيئة. هذا كله مختصر من كلام الزجاج، وهو اعتقادنا، وبه ندين الله تعالى.
- وقال عند قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الأعراف:117]: قال جماعة من المفسرين: كانوا جعلوا في حبالهم وعصيّهم الزئبق وصوروها على صور الحيات، فاضطرب الزئبق؛ لأنه لا يستقر. وفي هذا بُعد؛ لأن الله تعالى سماه سحراً، ووصفه بكونه عظيماً وكونه كيداً.
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/356).(1/88)
- وقال عند قوله تعالى: { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:132]: قال الواحدي: ومعنى الآية: أنهم قالوا لموسى: متى ما أتيتنا بآية مثل: اليد والعصا لتسحرنا بها فإنا لن نؤمن لك.
وهذا كلام مدخول فيه على الواحدي، فإن "مهما" ليست من أسماء الزمان.
- وقال عند قوله تعالى: { جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [الأعراف:148]: قال ابن الأنباري: ذكر الجسد دلالة على عدم الروح.
قال: وفي هذا بُعْد؛ لوجوه. ثم ذكر هذه الوجوه.
- وقال عند قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ;N؛tةf"ygمB فَامْتَحِنُوهُنَّ } [الممتحنة:10]: ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا(1/89)
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ناسخ لقوله: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهذا تخصيص لا نسخ. وغيره كثير.
19.الإحالات في كتاب "رموز الكنوز":
أكثر الرسعني في كتابه "رموز الكنوز" من الإحالات على مواضيع ضمن الكتاب، وذلك روماً للاختصار، ولربط الموضوع الواحد مع بعضه البعض أحياناً أخرى، وفيما يلي أمثلة لذلك:
- قال عند قوله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد:22]: وقد سبق في أثناء كتابنا جملة من الأحاديث والآثار الحاضة على صلة الأرحام في البقرة عند قوله: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى } ، وفي سورة الرعد وغيرهما من المواضع، فتطلبْ ذلك وأمثاله في مظانه.
- وقال عند قوله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }(1/90)
[القمر:49]: وقد ذكرتُ في أثناء كتابي هذا أنواعاً من الأدلة الدالة على بطلان مذهبهم، ولولا خشية الإطالة لذكرتُ في إقامة حُجج الله عليهم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يملأ أوراقاً كثيرة، لكن في هذا القدر كفاية لمن أراد الله هدايته.
- وقال عند قوله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11]: وهذه الآية من جملة دلائل فضل العلم وأهله، وفي ذلك من الآثار والأخبار والدلائل العقلية ما لو ذكرت شطره لطال الكتاب، فتطلّب ذلك في أماكنه ومظانّه تجده.
- وقال عند قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } [الحشر:10]: وقد ذكرت في أثناء كتابي هذا من فضائحهم-أي الرافضة-، وقبائحهم، ودلائل ضلالهم وكفرهم، ما أرجوا به القربى إلى الله، والزلفى لديه يوم ألقاه.(1/91)
وغيره كثير.(1/92)
المبحث الثالث
موارد الرسعني في كتابه: "رموز الكنوز"(1/93)
موارد الرسعني في كتابه: "رموز الكنوز"
تُمثّل النقول المختلفة المادة الرئيسية لهذا الكتاب، حيث إن المؤلف وجد تراثاً ضخماً من كتب التفسير التي ألفت قبله، لذا تبدو أهمية الكتاب في الجمع والتنسيق، ومناقشة بعض الآراء ومعاضدتها أو تفنيدها، عليه فإننا سنقسم موارد كتاب الرسعني إلى موارد رئيسية وموارد ثانوية.
الموارد الرئيسية:
يأتي كتاب "زاد المسير" لابن الجوزي (ت597هـ) في الدرجة الأولى من مصادر الكتاب، فقد اقتبس الرسعني من تفسير ابن الجوزي كثيراً من الشروح اللغوية للمفردات القرآنية، وكثيراً من آراء العلماء، وقد يرد الرسعني على رأي ضعيف بالرد الذي رآه ابن الجوزي، ولا يشير إلى ذلك إلا نادراً.
ويعد "الكشاف" من المصادر الرئيسية التي كان الرسعني يستقي منها، ويحاورها، وقد ورد اسم الزمخشري كثيراً في المناقشات التي خاض فيها الرسعني، ورد عليه آراءه الاعتزالية.
ويأتي كتاب العكبري "إعراب القرآن" في المرتبة التالية، والتي استفاد منها الرسعني.
الموارد الثانوية:
وسوف نحاول حصرها، والتعريف بها قدر المستطاع:
أولاً: المؤلفات:
1.الإبانة الكبرى لابن بطة، عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان(1/95)
العكبري، المعروف بابن بطة (؟-387هـ).
2.الاستيعاب لابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر أبو عمر (368-463هـ).
3.الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب لابن ماكولا، علي بن هبة الله بن علي بن جعفر ابن ماكولا الأمير (421-475هـ).
4.تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي (393-463هـ).
5.تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الكوفي (213-276هـ).
6.تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الكوفي (213-276).
تفسير الماوردي = النكت والعيون.
7.تفسير علي بن فضال بن علي المجاشعي القيرواني (؟-479).
8.تفسير غريب القرآن لابن قتيبة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الكوفي (213-276).
9.تفسير مقاتل بن حيان، أبو بسطام البلخي (؟-؟).
10.تفسير مقاتل بن سليمان، لمقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي البلخي (؟-150هـ).
11.تهذيب اللغة للأزهري، محمد بن أحمد بن طلحة الأزهري الهروي(1/96)
(؟-370هـ).
12.التوابين لابن قدامة، عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (541-620هـ).
13.جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري)، محمد بن جرير بن يزيد الطبري (224-310هـ).
14.الجامع للترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرَة (209-279هـ).
15.جمهرة اللغة لابن دريد، محمد بن حسين بن دريد الأزدي، (223-321هـ).
16.الحجة لابن البنا (؟-؟).
17.الحجة للقراء السبعة للفارسي، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار (؟-377هـ).
18.الزهد لابن المبارك، عبدالله بن المبارك بن واضح المرزوي (118-181هـ).
19.الزهد للإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني (164-241هـ).
20.سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمران الأزدي السجستاني (202-275هـ).
21.سنن النسائي، أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي (214 أو 215-303هـ).
22.شأن الدعاء للخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أبو(1/97)
سليمان البستي، الشافعي (؟-388هـ).
23.الصحاح للجوهري، إسماعيل بن حماد الجوهري (؟-393هـ).
24.صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري (194-256هـ).
25.صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسن القشيري النيسابوري (206-261هـ).
26.الفنون لابن عقيل، علي بن عقيل بن محمد البغدادي (431-513هـ).
27.الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، عبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمد الجرجاني (277-365هـ).
28.الكتاب لسيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، الملقب سيبويه (148-180هـ).
29.كشف المشكلات وإيضاح المعضلات للباقولي، نور الدين علي بن الحسين الباقولي (؟-543هـ).
30.الكشف عن وجوه القراءات وعللها لمكي بن أبي طالب حموش المقري القيرواني (؟-437هـ).
31.الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي (تفسير الثعلبي)، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري (؟-427هـ).
32.مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي، عبدالرحمن بن علي بن الجوزي البغدادي (؟-597).(1/98)
33.مجاز القرآن لأبي عبيدة، معمر بن المثنى التيمي (110-209هـ).
34.المجروحين لأبي حاتم، محمد بن حبان البستي (؟-354هـ).
35.المحتسب في إعراب الشواذ لابن جني، عثمان بن جني أبو الفتح (؟-392هـ).
36.المختصر للخرقي (؟-334هـ).
37.المستدرك على الصحيحين للحاكم، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (321-405هـ).
38.مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (164-241هـ).
39.مسند الشافعي، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ).
40.معاني القرآن للأخفش، سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري، المعروف بالأخفش الأوسط (؟-215هـ).
41.معاني القرآن للفراء، يحيى بن زياد بن عبدالله (144-207هـ).
42.معاني القرآن وإعرابه للزجاج، إبراهيم بن السري (؟-311هـ).
43.معجم مقاييس اللغة لابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا الرازي اللغوي (329-395هـ).
44.المقتضب للمبرد، محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المبرد (210-285).
45.الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي، أبو عبد الله (93-179هـ).
46.الناسخ والمنسوخ لابن سلامة، هبة الله بن سلامة بن نصر المقري (؟-410هـ).(1/99)
47.النكت والعيون للماوردي، علي بن محمد بن حبيب (364-450هـ).
48.الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي، علي بن أحمد النيسابوري (؟-468هـ).
ثانياً: الإسناد:
اعتنى المؤلف -رحمه الله- بسوق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث بلغ عدد الأسانيد في كتابه "رموز الكنوز": (536) إسناداً، وهذا سوى ما هو موجود في الجزء المفقود من الكتاب.
وقد نوّه أهل العلم بهذا الأمر، وعدّوه ضمن مزايا الكتاب، فقد قال الذهبي في تاريخ الإسلام (1) : صنف تفسيراً حسناً، يروي فيه بإسناده.
وقال ابن رجب (2) : وصنف تفسيراً حسناً في أربع مجلدات ضخمة، سماه: "رموز الكنوز"، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه الأحاديث بإسناده.
وقال ابن بدران (3) : وهو في أربع مجلدات، وفيه فوائد حسنة، ويروي فيه أحاديث بإسناده.
ثالثاً: الشواهد الشعرية:
ضَمَّنَ الرسعني كتابه كثيراً من الشواهد الشعرية، استقى بعضها من
__________
(1) ... تاريخ الإسلام (5/ق143).
(2) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(3) ... المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ص:477).(1/100)
دواوينهم، واقتبس بعضها من مؤلفات سابقيه ومعاصريه، من هؤلاء:
ابن أبي عروبة المدني (؟-156هـ).
ابن مقبل (؟-بعد 37هـ)
أبو الطيب المتنبي (303-354هـ).
أبو ذؤيب الهذلي (؟-نحو 27هـ).
أبو زبيد الطائي (؟-نحو 62هـ).
أبو كبير الهذلي، عامر بن الحليس (؟-؟).
الأعشى، ميمون بن قيس (؟-7هـ).
امرؤ القيس (؟-80 ق هـ).
أمية بن أبي الصلت (؟-5هـ).
أوس بن حجر (98-2 ق هـ).
البحتري، الوليد بن عبيد (206-284هـ).
جرير بن عبد المسيح المتلمس (؟- نحو 50 ق هـ).
حاتم الطائي (؟-46 ق هـ).
حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه (؟-54هـ).
حميد بن ثور الهلالي (؟- نحو 30هـ).
خفاف بن ندبة (؟-نحو 20هـ)
الخنساء تماضر بنت عمرو (؟-24هـ).
ذو الرمة غيلان بن عقبة (77-117هـ).
رؤبة بن العجاج (؟-145هـ).(1/101)
سحيم بن وثيل اليربوعي (؟-60هـ).
طرفة بن العبد (نحو 86-60 ق هـ).
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه (؟-8هـ).
عَدِيّ بن زيد (؟- نحو 35 ق هـ).
عمران بن حطان (؟-84هـ).
عنترة بن شداد العبسي (؟- نحو 22 ق هـ).
قردة بن نفاثة السلولي (؟-؟).
كثيّر بن عبد الرحمن (كثيّر عزة) (؟-105هـ)
لبيد بن ربيعة العامري (؟-41هـ).
محمد المعروف بالمقنع الكندي (؟- نحو 70هـ).
المنخل بن سبيع بن معاوية (؟-؟).
النابغة الذبياني (؟-نحو 18 ق هـ).
همام بن غالب الفرزدق (؟-110هـ).
رابعاً: معاصروه:
نقل المؤلف -رحمه الله- بعض مادته العلمية عن شيوخه، فمن ذلك:
- قال عند قوله تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً } [الأعراف:73]: قلت لشيخنا أبي البقاء إمام عصره في العلوم الشرعية والأدبية: قول الشاعر:(1/102)
أُؤمّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنّ يَوْمِي ... لأَوّلَ أَوْ لأَهْوَنَ أو جُبارِ
أو التالي دُبَار فَإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِس أو عَروبة أو شِيارِ
ولا يبقى على الحدثان شخص ... ستطوينا الليالي والنهار
هل هذه الأبيات من شعر العرب؟ وما معناها؟
فقال لي: قال ابن دريد ... الخ
- وقال عند قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف:13]: قال لي الشيخ أبو البقاء اللغوي، سمعت أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون... الخ.
- وقال عند قوله تعالى: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [الممتحنة:10]: قال شيخنا الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه فيما قرأته عليه: يجوز في الصلح ردّ من جاءه من أهل الحرب من الرجال...
- وقال عند قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } [الطلاق:2]: وحدثني جماعة من أشياخي عن الوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن(1/103)
هبيرة رحمه الله قال: أنشدني المستنجد بالله أمير المؤمنين رحمه الله:
بتقوى الإله نجا من نجا ... وفاز وأدرك ما قد رجا
ومن يتق الله يجعل له ... كما قال من أمره مخرجا
- وقال عند قوله تعالى: { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } [العلق:4]: ومن بديع ما سمعت فيه -أي القلم- ما أنشدنيه صاحبنا أبو نصر بن عثمان بن خليفة الموصلي الحنبلي لنفسه:
أيها الصاحب الكريم ومن ... أصبحَ زيْن الكُتّاب والأصحاب
بِيَرَاعٍ ريعت له نوب الدهر ... وهانت به جميع الصعاب
وإذا ما يشاء أمراً فلا يحفل ... يوماً بالصارم القرضاب
فهو يجزي للأولياء بأرى ... ولأعدائه بشري وصاب
أقْسَمَ الله باسمه (1) وكفاه ... مفخراً إذ أتى بنصّ الكتاب
خامساً: مصادر مجهولة:
نقل المؤلف أحيانا عن مصادر لم يحددها بالاسم، أو أنه غاب عن ذهنه المصدر الذي حفظ منه هذه المعلومة، مثاله:
- قال عند قوله تعالى : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
__________
(1) ... في قوله تعالى: { ن والقلم } [القلم:1].(1/104)
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [النساء:113]: ومن نتائج هذا: أن الواو في قوله: "وأنزل الله" واو الحال، على معنى: وما يضرونك من شيء وقد أنزل الله عليك الكتاب والحكمة.
وكنتُ أعجب كيف لم أتنبه لمثل هذا الموضع، حتى أخبرني بعض العلماء أن الواحدي ذكره في البسيط.
- وقال عند قوله تعالى: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح:26]: قال ابن عقيل في هذا الحرف كلاماً حسناً لا يحضرني الآن، حاصله راجع: إلى أن العرب لموضع أنفتهم وحميتهم وغيرة نفوسهم، حتى أنك ترى الواحد منهم يخاطب الأمير كما يخاطب الحقير أحق بتوحيد الله وتخصيصه بالخضوع والعبادة دون الأصنام من الأعاجم الذين لم يقاربوهم في العزة والأنفة.
- وقال عند قوله تعالى: { آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16]: قال سعيد بن جبير: آخذين بما أمرهم ربهم، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم. وروي نحوه عن ابن(1/105)
عباس.
قال المؤلف: وفي نظم الكلام على هذا اضطراب، ولقد راجعتُ فيه بعض العلماء فقال: هو على حذف المضاف، تقديره: ثواب عملهم بالفرائض.(1/106)
المبحث الرابع
منهج العمل في التحقيق
1- نظراً لأننا لم نقف على نسخة تامة من الكتاب فلذلك اضطررنا إلى التلفيق بين النسخ لاستخراج نسخة من الكتاب.
2- مقابلة النسخة الخطية التي اعتمدناها أصلاً مع الموجود من النسخة الأخرى إن وجد.
3- اعتمدنا الطريقة الإملائية الحديثة في الكتابة.
4- ضبطت ما وجدت ضرورة لضبطه.
5- إذا وقع سقط في الأصل ووجدت ضرورة لإقامته، وضعت الزيادة بين المعقوفتين [] مع الإشارة إلى أن ما بينها هو ما أثبتناه من النسخة الأخرى غير الأصل، أو من غيرها من المصادر والمراجع. وفي حالة الخطأ أو التحريف أو التصحيف، فقد صححنا الكلمة في الأصل مع الإشارة في الهامش مع وضع الكلمة على هيئتها من الخطأ أو التحريف أو التصحيف.
6- أثبتنا علامات الترقيم في مواضعها على ما هو معروف عند أهل هذا الفن.
7- ضبطنا الآيات القرآنية بالشكل على رواية حفص رحمه الله.
8- ضبطنا الأسماء والاصطلاحات التي تحتاج إلى ضبط، وذلك ليسهل النطق بها وفهمها.(1/107)
المبحث الخامس
منهج العمل في التعليق
ظهر في علم تحقيق المخطوطات العربية رأيان:
رأي يرى الاقتصار على إخراج النص مجرداً من كل تعليق.
والرأي الثاني: يرى أنه من الأفضل توضيح النص بوضع الهوامش والتعليقات، وإثبات الاختلافات بين النسخ، والتعريف بالأعلام والأماكن والمصطلحات، وشرح ما يحتاج إلى شرح أو توضيح.
وقد أخذنا بالرأي الثاني لأسباب عديدة منها:
ندرة النسخ الخطية الخالية من التصحيف والتحريف.
معظم المخطوطات العربية لم تصل إلينا بخط مؤلفيها، وإنما هي بخط النساخ المختلفين في مستوى الثقافة والمعرفة.
إن جمهرة المؤرخين والنساخ لم يعنوا بالإعجام ووضع الحركات الموضحة للنص.
افتقار المؤلفين والنساخ إلى وحدة كتابية واحدة مما يؤدي إلى التباين في رسم الكلمات (1) .
لذا كان لا بد من الهوامش والتعليق.
وقد سرنا في التهميش والتعليق على هذه النقاط:
1- عزوُ الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها في القران الكريم مع ملاحظة اسم السورة، ورقم الآية، وضبطها على رواية حفص عن عاصم.
__________
(1) ... انظر: ضبط النص والتعليق عليه لبشار عواد (ص:7).(1/109)
2- تخريجُ الأحاديث النبوية الشريفة من مظانها، والأقوال والأمثال الواردة في النص.
3 - ضبطتُ الشعر، وأكملته في التعليقات إن أورده ناقصاً، فإذا لم ينسبه إلى قائله اجتهدتُ في ذلك مستنداً إلى المظان المختلفة، وإن كان البيت لشاعر له ديوان مطبوع، ذكرت وروده فيه، وإلا خرجته من كتب النحو واللغة تخريجاً لا أستقصي فيه، وأذكر الروايات الأخرى للبيت إن كان مما يخدم الغرض، وشرحتُ الألفاظ الصعبة أو أوردت المعنى العام للبيت، وقد أذكر الشاهد في البيت إن كان ثَمَّ ضرورة، وقد أنبه على تعليق مهم حوله.
4- تفسير الغريب من الكلام، والذي يشكل على القارئ فهمه، وذلك بالرجوع إلى كتب غريب الحديث، وكتب المعاجم اللغوية المختصة بذلك.
5- تخريجُ النصوص المقتبسة من مصادرها ومراجعها، وذلك بالرجوع إلى الكتب التي أخذ عنها المؤلف، وعند وجود إشكال بين المنقول والمنقول عنه نثبت الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية.
6- التعريفُ بالأعلام والأماكن والبلدان، وذلك بالرجوع إلى كتب التراجم، والكتب الخاصة بالبلدان، وغير ذلك.
7- تفسيرُ بعض المصطلحات المختلفة الواردة بالنص.
8- تفقيرُ النص، وذلك بفصل الفقرات بعضها عن بعض، مع جعل بداية(1/110)
مميزة لكل فقرة، مما يعين على تنظيم النص.(1/111)
المبحث السادس
وصف مخطوطات كتاب "رموز الكنوز"(1/113)
وصف مخطوطات كتاب "رموز الكنوز"
نسخ الكتاب
ذكر أهل العلم أن كتاب "رموز الكنوز" يقع في أربع مجلدات، فقد قال ابن رجب (1) : وصنف تفسيراً حسناً في أربع مجلدات ضخمة.
وقال ابن بدران (2) : وهو في أربع مجلدات.
وقد وقفت على ثلاث نسخ خطية للكتاب، وفيما يلي وصف لها:
1-النسخة الأولى:
والموجود منها المجلد الثاني، وهي محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، تحت رقم (622)، وعدد أوراقها (119) ورقة، في كل ورقة (15) سطراً، وكلماتها تتراوح بين (10-12)، وقد سقط من أولها صفحة العنوان وثلاث عشرة آية من آل عمران.
ويبدأ هذا المجلد من أثناء الآية 13 من سورة آل عمران من قوله تعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
__________
(1) ... ذيل طبقات الحنابلة (2/275).
(2) ... المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ص:477).(1/115)
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِن فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } إلى نهاية سورة النساء.
وأولها قوله: ".. نظرنا إلى الكفار فرأيناهم يضعفون علينا".
وهي بخط نسخي جيد، ومشكول، وعليها تعليقات مأخوذة من الكشاف، وتفسير البغوي، وحواشي البيضاوي. ولم يقيد المعلق اسمه عليها.
وقد كتبت في زمن المؤلف، ونظر فيها وصححها، ثم قوبلت بأصله، وقد قرأها مرتين في مجالس محمد بن أحمد بن معمر المقرئ في مسجد الرقي، المرة الأولى في واحد وعشرين مجلساً، والمرة الثانية: في ثلاث وأربعين مجلساً، وبآخرها سماع لجماعة من العلماء.
وفي آخر هذا الجزء : أنهاه مصنفه نظراً وتصحيحاً ثم قوبل بالأصل.
وفي الصفحة الأخيرة بالحاشية ما نصه : نقله وما قبله محمد إسماعيل بن الدينوي حامداً لله، ومصلياً على نبيه.
وفيه أيضاً: آخر المجلد الثاني بخط الفقير إلى رحمة ربه أبي نصر بن عثمان الموصلي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين، وذلك في شهر ربيع الآخر، سنة أربع وثلاثين وستمائة، ويتلوه السفر الثالث سورة المائدة ، والحمد لله.
2-النسخة الثانية:
الموجود منها ثلاثة أجزاء، هي: الثاني، والثالث، والرابع.(1/116)
الجزء الثاني: محفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق (مكتبة الأسد اليوم) ويحمل رقم (528-تفسير133).
ويبدأ من قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } الآية (128) من سورة الأنعام، وينتهي بنهاية سورة الإسراء.
وعدد أوراقه (234)، في كل ورقة (27) سطراً.
في أوله: الثاني من تفسير الرسعني رحمه الله، الحمد لله رب العالمين.
وفيه: هذا الجزء الثاني ، وقبله جزء ، وبعده جزءان من تفسير القرآن العظيم للرسعني باسم حسن بن محمد بن داود الججيني الكناني الشافعي.
وأهمل اسم الناسخ في آخره، وقد سقط من (التوبة) خمس وثلاثون آية، وعليه أختام وتملكات لبعض العلماء.
الجزء الثالث: ويحمل رقم (636-تفسير-510)، وهو من مقتنيات المكتبة الظاهرية بدمشق.
ويبدأ من أول الكهف، وينتهي بسورة فاطر، وعدد أوراقه (207) في كل ورقة (27) سطراً.
وقد سقط من آخره سورة الكهف وأول مريم، وآخر طه، وأول الأنبياء.
في أوله : رموز الكنوز في التفسير ، حاشية على القرآن.. المشتغلين بمذهب الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية .. حسن بن محمد الججيني. وبقية هذا النص غير واضح ، والخط في غاية الرداءة ويصعب قراءته.
هذا وفي الصفحة الأولى منه ترجمة للمؤلف الرسعني ، وهي منقولة(1/117)
من ذيل ابن رجب كما أشار الكاتب في آخره ، حيث قال: ملخص من ذيل ابن رجب . وكل ما سبق كتب على هذه النسخة بخط مختلف عن خط ناسخ الكتاب.
وقد كتب في آخره: "آخر الجزء الثالث، ويتلوه إن شاء الله الجزء الرابع من أول سورة يس إلى آخر القرآن".
ولم يقيد الناسخ اسمه.
وعلى هذه النسخة تعليقات بخطين مختلفين.
الجزء الرابع: محفوظ أيضاً في المكتبة الظاهرية بدمشق، ويحمل رقم (5833)، وعدد أوراقه (266)، في كل صفحة (27) سطراً، ويبدأ من سورة يس، وينتهي بنهاية القرآن العظيم.
وهو من ممتلكات الشيخ ابن بدران، كما هو واضح من تصحيح اسم المؤلف في الغلاف. وكتب في آخره: "وافق الفراغ منه رابع عشر شعبان المكرم، سنة أربع وستين وسبعمائة..، وكتبه أفقر عباد الله إليه محمد بن يحيى المقدسي الحنبلي عفا الله عنه".
وقد رمزت لهذه النسخة بنسخة (الأصل).
3-النسخة الثالثة:
وتقع هذه النسخة في ست مجلدات؛ الموجود منها جزءان، وهما: الرابع، والسادس.
الجزء الرابع: محفوظ في مكتبة جامعة توبنجن بألمانيا الغربية برقم(1/118)
(1282).
ويبدأ من أول سورة الكهف، وينتهي بنهاية سورة العنكبوت.
وعدد أوراقه (258)، في كلِّ صفحة (21) سطراً، وكل سطر 10-12 كلمة.
وخطه جميل ومقروء ، والكلمات مضبوطة بالشكل، وعلى النسخة تصويبات.
وجاء في آخر هذا الجزء: آخر السفر الرابع من رموز الكنوز، وكان الفراغ منه في غرة جمادى الآخر من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، على يد العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن سلمان الشيرجي الحنبلي، تجاوز الله عن سيئاته وغفر له موبقات زلاته، ولجميع المسلمين آمين، ولله الحمد.
ويتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى سورة الروم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد وآله الطاهرين وسلّم.
وفي هامشها: بلغ معارضة بالأصل فصحّ بحسب الإمكان.
الجزء السادس: محفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق برقم (637-تفسير-511).
ويبدأ من أول سورة الحجرات إلى نهاية القرآن، وعدد أوراقه (271)، في كل ورقة (21) سطراً.
وقد سقط من أوله ورقة العنوان، والكلام على أول سورة الحجرات.
وجاء في آخر هذا الجزء: "نجز الكتاب والحمد لله رب العالمين ، حمداً(1/119)
كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وكان الفراغ منه على يد الفقير إلى الله تعالى: أحمد بن محمد بن سلمان الشيرجي الحنبلي البغدادي، تجاوز الله عن سيئاته، وغفر له موبقات زلاته، في ثاني عشرين رجب الحرام من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة الهلالية. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وما من كاتب إلا سيبلى ... ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتبْ بخطك غير شيء ... يسرُّك في القيامة أن تراه"
وفي الهامش: "بلغ مقابلة وتصحيحاً بأصله المنقول منه، وهي نسخة عليها خط المصنف، فصحّ بحسب الإمكان.
وعلى النسخة مكتوب: فرغ من تصنيفه في عشرين رمضان من سنة خمس وثلاثين وستمائة".
وهو مضبوط بالشكل، ويوجد على هامش هذا الجزء تعليقات تضمنت تخريج بعض الأحاديث، ومعاني كلمات غريبة.
وقد رمزت لهذه النسخة بنسخة (ب).
كما أنه توجد نسخة أخرى لم أقف عليها ، وفيما يلي وصفها:
الجزء الثاني تحت رقم 2777، بمكتبة الإمام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه العامة بالنجف ، وعدد أوراقه 230 ورقة، ولم أجد من أشار إلى هذه النسخة سوى مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد 20 الجزء الأول ص 38 عام 139هـ.
فمن هذا العرض لمخطوطات الكتاب يتبين لنا عدة أمور:(1/120)
1-سقط من أول الكتاب المقدمة والفاتحة والبقرة وصدر آل عمران.
2-سقط منه سورة المائدة كلها، ومائة وسبع وعشرين آية من الأنعام، وأوائل وأواخر بعض السور. كما تقدم بيانه في موضعه.
3- النصف الأخير من الكتاب له نسختان، أي من الكهف إلى الحجرات.(1/121)
نماذج من المخطوطات
النسخة الأولى نسخة باريس - الصفحة الأولى من المجلد الثاني(1/122)
النسخة الأولى نسخة باريس - الصفحة الأخيرة من المجلد الثاني(1/124)
النسخة الثانية - غلاف المجلد الرابع من الظاهرية(1/132)
النسخة الثانية - الورقة الأولى من المجلد الرابع من الظاهرية(1/133)
النسخة الثانية - الورقة الأخيرة من المجلد الرابع من الظاهرية(1/134)
النسخة الثالثة - غلاف المجلد الرابع من النسخة الألمانية(1/135)
النسخة الثالثة - الورقة الأولى من المجلد الرابع من النسخة الألمانية(1/136)
النسخة الثالثة - الورقة الأخيرة من المجلد الرابع من النسخة الألمانية(1/137)
النسخة الثالثة - الورقة الأولى من المجلد السادس من الظاهرية(1/138)
النسخة الثالثة - الورقة الأخيرة من المجلد السادس من الظاهرية(1/139)
سورة آل عمران
ijk
ô‰s% كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِن فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ اتجب
[قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً.
وقال في رواية أخرى: لقد قلّلوا في أعيننا، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين. قال: أراهم مائة] (1) : فأسرنا منهم رجلاً، فقلنا: كم كنتم؟ قال:
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من زاد المسير (1/358).(1/133)
ألفاً (1) .
قوله: { رأي العين } أي: في رأي العين.
وقال الواحدي (2) : يجوز أن يكون مصدراً (3) ، تقول: رأيته رَأْياً ورُؤْيَةً، ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم (4) .
{ والله يؤيد } أي: يقوّي.
{ بنصره من يشاء إن في ذلك } إشارة إلى النصر، أو إلى رؤيتهم مِثْلَيْهم.
{ لعبرةً } لدلالة موصلة إلى العلم، أو لآية يُعبَر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم.
{ لأولي الأبصار } أي: لأولي العقول. يقال: لفلان بَصَرٌ بهذا، أي: علم ومعرفة.
z`خiƒم- لِلنَّاسِ حُبُّ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/198)، وابن أبي شيبة (7/360). وذكره السيوطي في الدر المنثور (4/74) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه.
(2) علي بن أحمد بن محمد الواحدي، أبو الحسن النيسابوري، كان أوحد عصره في التفسير، لازم أبو إسحاق الثعلبي، صنف التفاسير الثلاثة: البسيط، والوسيط، والوجيز. توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة (طبقات المفسرين للداودي 1/394، وسير أعلام النبلاء 18/339).
(3) ... قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1/88): "رأي العين" مصدر، تقول: فعل فلان كذا رأي عيني وسمع أذني.
(4) ... الوسيط (1/417).(1/134)
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ اتحب
قوله تعالى: { زُيِّن للناس } سبق الكلام عليه في البقرة.
و { الشهوات } جمع شهوة، وهي: ميل الطبع وتوقان النفس، والمراد بها: المشتهيات.
{ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } والقناطير: جمع قنطار.(1/135)
قال ابن دريد (1) : أحسِبُ أنه فارسي معرَّب.
وقد روي عن أُبَيِّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ألفٌ ومائتا أوقية (2) .
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه اثنا عشر ألف أوقية (3) .
وروى الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ألفٌ ومائتا دينار (4) .
وفيه أقاويل متعددة عن الصحابة والتابعين (5) .
والذي يظهر في نظري: أن المنقولَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنهم في ذلك: ليس على سبيل التحديد لزنة القنطار، وإنما هو على سبيل التنظير للمال الكثير، صيانة لروايات الثقات ولأقوال العلماء الأثبات عن التناقض والتهافت.
__________
(1) في جمهرة اللغة (3/340).
... وابن دريد هو: محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، أبو بكر البصري، إمام عصره في اللغة والآداب والشعر، توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/96، ووفيات الأعيان 4/323).
(2) أخرجه الطبري (3/199)، وابن أبي حاتم (2/608) عن معاذ. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/161) وعزاه لابن جرير.
... قال ابن كثير في تفسيره (1/352): وهذا حديث منكر أيضاً.
(3) أخرجه أحمد (2/363)، وابن ماجه (2/1207). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/161) وعزاه لأحمد وابن ماجه.
(4) أخرجه الطبري (3/200)، وابن أبي حاتم (2/609). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/161) وعزاه لابن جرير.
(5) انظر: الطبري (3/199-201)، وابن أبي حاتم (2/607-609).
... وفي تفسير ابن عباس (ص:125): القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. وفي تفسير مجاهد (ص:123): القنطار: سبعون ألف دينار.(1/136)
والذي يؤيد ما ذكرته، ويوضح ما اخترته، قول أبي عبيدة (1) : هو مِلء مَسْك (2) ثورٍ ذهباً، ومعلوم أن هذا غير محدود.
وحكى أبو عبيدة (3) عن بعض العرب: أن القنطار وزن لا يُحدّ.
وقال الربيع بن أنس: هو المال الكثير بعضه على بعض (4) .
قال الفراء (5) : "والمقنطرة": المُضَعَّفَة، كأن القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة.
وقال ابن قتيبة (6) : "المقنطرة": المكمَّلة، كما تقول: بَدْرَةٌ مُبَدَّرة، وأَلْفٌ مُؤلَّفَة (7) .
وسُمِّيَ النقدان ذهباً وفضة؛ للذّهاب والانفضاض.
{ والخيل } : جمع، واحده: فرس، من غير لفظه؛ كالنساء؛ سمي به لاختياله.
__________
(1) مجاز القرآن (1/89).
(2) المَسْك -بالفتح-: الجلد (اللسان، مادة: مسك).
(3) مجاز القرآن (1/88).
(4) أخرجه الطبري (3/201). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/162) وعزاه لابن جرير.
(5) معاني الفراء (1/195).
(6) عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد الكاتب الدينوري النحوي اللُّغوي، صاحب التصانيف المشهورة، كان ثقة ديناً فاضلاً. توفي سنة ست وسبعين ومائتين (ميزان الاعتدال 4/198، وتاريخ بغداد 10/170).
(7) تفسير غريب القرآن (ص:102).(1/137)
و { المسومة } : الراعية.
قال ابن قتيبة (1) : يقال: سامت الخيل، فهي سائمة؛ إذا رعت (2) ، وأَسَمْتُها فهي مُسَامة، وسوّمتها فهي مسوّمة؛ إذا رعيتها.
وقيل: المسوّمة: المُعَلَّمة بالشِّيات (3) والألوان.
رُوِيَا عن ابن عباس (4) .
والثاني قول قتادة (5) واختيار الزجاج (6) .
وقال عكرمة ومجاهد: المسوَّمة: الحِسان (7) .
{ والأنعام } : الإبل والبقر والغنم، الواحد: نَعَمْ، والنَّعم جمع لا واحد له من لفظه.
{ والحرث } : الزَّرْع. و { المآب } : المرجع.
* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) انظر: اللسان (مادة: سوم).
(3) الشيات: جمع شية. والوَشْيُ: خلط لون بلون (اللسان، مادة: وشي).
(4) أخرج القولين الطبري (3/202-203)، وابن أبي حاتم (2/610)، وذكرهما السيوطي في الدر المنثور (2/162-163) وعزاهما لابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الطبري (3/203)، وابن أبي حاتم (2/611).
(6) معاني الزجاج (1/384)، وقد استحسن القول الأول.
(7) أخرجه الطبري (3/203)، وابن أبي حاتم (2/610). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/163) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
... وفي تفسير مجاهد (ص:123) قال: المسومة: المصورة حسناً.(1/138)
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ اتخب
قوله: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } يعني: بخير من الشهوات المذكورة في الآية، { للذين اتقوا عند ربهم جَنَّاتٌ } ، اللام في "للذين" يتعلق "بخير"، وارتفع "جناتٌ" على معنى: هو جنات، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً. وفيه دلالة على ما هو خير.
{ ورضوان من الله } قرأ جمهور القرَّاء بكسر الراء، وهي لغة قريش، وقرأ أبو بكر عن عاصم "ورُضوان" بضم الراء حيث جاء، وهي لغة تميم وقيس (1) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/10)، والحجة لابن زنجلة (ص:157)، والكشف لمكي (1/337)، والنشر لابن الجزري (2/238)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:172)، والسبعة في القراءات (ص:202).(1/139)
قال الزجاج (1) : تقول رضيت الشيء أرضاه، رضاً، ومرضاةً، ورِضواناً، ورُضواناً.
{ والله بصير بالعباد } فيعلم المتقين وغيرهم.
ڑْïد%©!$# يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ اتذب
{ الذين يقولون } في موضع نصب على المدح، أو في موضع جر بدل من "الذين"، أو في موضع رفع، على معنى "هم الذين يقولون" (2) .
__________
(1) معاني الزجاج (1/385).
(2) وفيه أيضاً وجه ضعيف، وهو أن يكون نعتاً لـ "العباد"؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم الله تعالى، وهو جائز على ضعفه (انظر: التبيان 1/128، والدر المصون 2/38).(1/140)
{ الصابرين } على الطاعة وعن المعصية، { والصادقين } في الأقوال والأفعال، { والقانتين } يعني: المطيعين، { والمنفقين } من الحلال في الطاعة، { والمستغفرين بالأسحار } جمع سَحَر، وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر.
قال الحسن: "مَدُّوا الصلاة إلى السَحَر ثم استغفروا" (1) .
وكان ابن عمر يُحيي الليل، فإذا جاء وقت السَحَر قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح (2) .
وذهب جماعة، منهم مجاهد وقتادة [والضحاك] (3) ، إلى أن المراد بالمستغفرين: المُصَلُّون (4) .
وقال ابن كيسان: يعني صلاة الصبح في جماعة (5) .
وتوسط الواو بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل صفة.
y‰خgx© اللَّهُ أَنَّهُ لَا
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/30).
(2) أخرجه الطبري (3/208)، وابن أبي حاتم (2/616)، وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/164) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وقد ذكره المؤلف بمعناه.
(3) زيادة من زاد المسير (1/361).
(4) أخرجه الطبري (3/208) عن قتادة.
(5) أخرجه الثعلبي (3/30) عن ابن كيسان، وابن أبي شيبة (7/186)، وابن أبي حاتم (2/616) كلاهما عن زيد بن أسلم. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/164) وعزاه لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.(1/141)
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ $JJح !$s% بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ(1/142)
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ اثةب
قوله: { شهد الله } نزلت في مخاصمة نصارى نجران.
وقال ابن السائب (1) : نزلت في حَبْرَيْن من أحبار الشام، قدما على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: "نعم"، قالا: وأحمد؟ قال: "نعم"، قالا: نسألك عن شهادة، فإن أخبرتنا بها آمنا بك؟ فقال: "سَلاَني"، فقالا: أخبرنا
__________
(1) هو: محمد بن السائب بن بشر الكلبي، صاحب التفسير، وكان رأساً في الأنساب إلا أنه شيعي متروك الحديث، توفي سنة ست وأربعين ومائة (سير أعلام النبلاء 6/248، ووفيات الأعيان 4/309).(1/143)
عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فنزلت هذه الآية، فأسلما (1) .
وقال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان لكل حيّ من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية خرَّت الأصنام سُجَّداً (2) .
قال الزجاج (3) ، وابن كيسان وغيرهما في قوله: { شهد الله } أي: بيَّن وأظهر بعجائب صنعته، وبدائع قدرته { أنه لا إله إلا هو } (4) ، { والملائكة } بالإقرار، { وأُولوا العلم } بما صح لهم من البراهين اللامعة، والدلائل القاطعة. { قائماً بالقسط } أي: بالعدل.
و"قائماً" حال مؤكدة إما من فاعل "شهد" أو من "هو" في { لا إله إلا هو } ، أو نصب على المدح (5) .
وقال الفرّاء (6) : هو نصب على القطع، كأن أصلَه: القائم، وكذلك في حرف عبد الله (7) ، فلما قطعت الألف واللام نصب، كقوله: { وَلَهُ الدِّينُ
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/32)، والواحدي في أسباب النزول (ص:101)، وهذا من مراسيل الكلبي.
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/167) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) ... معاني الزجاج (1/385).
(4) ... زاد المسير (1/362).
(5) انظر: التبيان (1/128)، والدر المصون (2/41-42).
(6) معاني الفراء (1/200).
(7) أي: في قراءة عبد الله بن مسعود. انظر: معاني الفرّاء (1/200)، والبحر المحيط (2/422).(1/144)
وَاصِباً } [النحل:52]، أو صفة للمنفي، تقديره: لا إله قائماً بالقسط إلا هو، فإنهم توسّعوا في الفصل بين الصفة والموصوف.
قال جعفر الصادق رحمه الله: إنما كرر { لا إله إلا هو } لأن الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أي: قولوا: لا إله إلا هو (1) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: "قال موسى - صلى الله عليه وسلم - : يا رب علِّمني شيئاً أذْكُرُكَ به، أو أدعوك به، فقال: يا موسى لا إله إلا الله، قال: يا رب، كلُّ عبادك يقولها، إنما أريد شيئاً تخصّنيه، قال: يا موسى؛ لو أنَّ السموات السبع وعامرهن، والأرضين السبع وعامرهن وُضعن في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة، لَمَالَتْ بهنَّ لا إله إلا الله" (2) .
ووجه قراءة ابن مسعود: "القائم بالقسط" أنه بدل من "هو"، أو خبر مبتدأ محذوف.
قوله: { إن الدين عند الله الإسلام } كلام مستأنف.
وقرأ الكسائي: "أن الدين" بفتح الهمزة (3) على البدل من "أنه"، التقدير: شهد الله أن الدين عنده الإسلام. والمعنى: أن الدين المرضي عند الله الإسلام لا اليهودية، ولا النصرانية.
__________
(1) زاد المسير (1/ 362).
(2) أخرجه النسائي (6/208)، وابن حبان (14/102)، والحاكم (1/710). ...
(3) الحجة للفارسي (2/10)، والحجة لابن زنجلة (157-158)، والكشف (1/338)، والنشر (2/238)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:172)، والسبعة في القراءات (ص:202).(1/145)
قوله عز وجل (1) : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود والنصارى، والذي اختلفوا فيه: دين الإسلام، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { إلا من بعد ما جاءهم العلم } وهو البيان الواضح على صحة نبوته بما عرفوه من صفته.
وقيل: الذي اختلف اليهود فيه: التوراة، والنصارى: عيسى. { من بعد ما جاءهم العلم } بما في التوراة من نعت عيسى بأنه عبد الله ورسوله.
{ بغياً } مفعول له، أي: اختلفوا لأجل البغي، لا لقصد الحق (2) . وقد فسَّرنا في البقرة (3) معنى: { سريع الحساب } .
قوله: { فإن حاجُّوك } أي: إن خاصمك اليهود والنصارى بعد ظهور معجزاتك، ووضوح بيِّناتك، فقد عاندوا، { فقل } معرضاً عن مخاصمتهم: { أسلمت وجهي } أي: نفسي وجملتي، أو أخلصت عملي { لله } ، أو قصدت بعبادتي إليه، { ومن اتبعني } عطف على الضمير في "أسلمت"، أو يكون التقدير: مع مَن اتبعني، فيكون مفعولاً معه (4) .
{ وقل للذين أوتوا الكتاب } : وهم اليهود، والنصارى. { والأُميِّين } : وهم مشركو العرب، { أأسلمتم } ؟ قال الزجاج (5) : استفهام بمعنى الأمر، تقديره: أسلموا، ومثله: { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [المائدة:91].
__________
(1) كتب مقابلها في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً ثانياً، مرة ثانية.
(2) انظر: التبيان (1/129)، والدر المصون (2/49).
(3) عند تفسير الآية: 202.
(4) انظر: التبيان (1/129)، والدر المصون (2/50).
(5) معاني الزجاج (1/390).(1/146)
أو يكون التقدير: أأسلمتم أم أنتم على كفركم.
{ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن توَّلوا فإنما عليك البلاغ } أي: ليس عليك إلا أن تُبَلِّغ الرسالة، فيكون منسوخاً بآية السيف (1) ، وهذا مذهب جمهور المفسِّرين (2) . وذهب بعضهم إلى أنه محكم (3) ، وأن المراد منه تسكين نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حين امتنعوا من الإسلام، وكان حريصاً على إيمانهم.
ويحتمل عندي أن يقال في تقرير إحكامها، وأنها غير منسوخة: ليس إليك يا محمد، ولا عليك إلا البلاغ، وأما الهداية، واستقرار الإيمان في القلوب، فهذا لا يدخل في وسعك.
¨bخ) الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
__________
(1) وهي قوله تعالى: { فإذا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة:5].
(2) ... الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:60)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:30)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:237).
(3) ... زاد المسير (1/ 365).(1/147)
النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ اثثب
قوله: { إن الذين يكفرون بآيات الله } روى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا مَن قتلوهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه، وأنزل الآية فيهم" (1) .
وإنما دخلت الفاء في خبر "إِنَّ" في قوله: { فبشرهم } لتضمن اسمها معنى الجزاء، لأن "إِنَّ" لا تغيِّر معنى الابتداء، كأن معنى "إِنَّ الذين يكفرون": مَن يكفر فبشرهم، ولو كان مكان "إِنَّ" ليت، ولعل، لم يجز دخول الفاء (2) .
وما بعده سبق تفسيره، إلى قوله: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/216)، وابن أبي حاتم (2/621)، والثعلبي (3/36). ...
(2) ... انظر: التبيان (1/ 129)، والدر المصون (2/51).(1/148)
الكتاب } .
َOs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اثخب(1/149)
السببُ في نزولها ما روى عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المِدْراس (1) في جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على مِلَّة إبراهيم، فقالا: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله هذه الآية" (2) .
وروي عن ابن عباس: أنها نزلت في قصة اليهوديين اللذين زنيا وحكم عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجم، فقالوا: جِرْت علينا يا محمد، ليس عليهما الرجم، فقال: "بيني وبينكم التوراة"، فجاء بها ابن صوريا، فقرأها: فلما بلغ آية الرجم وضع كفَّه عليها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام فرفع كفَّه عنها، فإذا هي تلوح، فأمر بهما رسول الله فرجما، فغضب اليهود، فأنزل الله هذه الآية (3) .
وبّخهم الله سبحانه وتعالى، وعجّب رسوله والمؤمنين من توليهم وإعراضهم مع كونهم أهل كتاب، وكان ينبغي لهم إذا دعوا إليه أن يبادروا.
__________
(1) بيت المدراس: هو بيت عبادة اليهود، سمي بذلك؛ لأنهم يتدارسون فيه كتبهم (اللسان، مادة: درس).
(2) أخرجه الطبري (3/217)، وابن أبي حاتم (2/622). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/170) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، والواحدي في أسباب النزول (ص:102).
(3) أخرجه الثعلبي (3/38).
... وقد أخرج البخاري (6/2510)، ومسلم (3/1326) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قصة رجم الزانيين.(1/150)
والنصيب: الحظ. والكتاب الذي دعوا إليه: التوراة؛ على قول الأكثرين، ومقتضى سبب النزول.
وقال الحسن وقتادة: هو القرآن (1) .
والمعنى: { ثم يتولى فريق منهم } وهم علماؤهم، { وهم معرضون } يريد: الأَتْبَاع.
وقيل: "ثم يتولى فريق منهم" بأبدانهم، "وهم معرضون" بقلوبهم، أو هو توكيد.
{ ذلك } إشارة إلى التولّي والإعراض، { بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً } وقد سبق تفسيرها في البقرة (2) ، { وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون } أي: يكذبون في قولهم: { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } ، وقولهم: { نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة:18].
{ فكيف إذا جمعناهم } أي: كيف يكون حالهم، أو كيف يصنعون إذا جمعناهم، وهو استفهام يتضمن الاستعظام لهول ما أُعِدَّ لهم من العذاب. { إذا جمعناهم ليوم } ، أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم.
وقيل: اللام بمعنى "في".
ب@è% اللَّهُمَّ مَالِكَ
__________
(1) أخرجه الطبري (3/218)، وابن أبي حاتم (2/622)، والثعلبي (3/37) كلهم من حديث قتادة. وذكره الماوردي (1/382)، والسيوطي في الدر المنثور (2/170) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) عند تفسير الآية: 80.(1/151)
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ اثذب
قوله تعالى: { قل اللَّهمَّ مالك الملك } السبب في نزولها: ما روي عن ابن عباس وأنس بن مالك، قالا: لما فتح رسول الله مكة وعد أمته فارس والروم،(1/152)
فقال اليهود والمنافقون: هيهات هيهات، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال السُّدِّي: قالت اليهود: لا نطيع رجلاً رَامَ نقل النبوة من بني إسرائيل، فنزلت (2) .
وكسرت اللام من "قُلِ" لالتقاء الساكنين. "اللَّهم" بمعنى: يا الله، والضمة التي في الهاء: ضمة المنادى المفرد، والميم المشددة عوض من "يا"، فلذلك لا يجتمعان. وقوله: "يا اللهم" شاذ، وهذا قول الخليل، وسيبويه (3) .
وقال الفرّاء (4) : المعنى: يا الله أُمَّ بخير، فألقيت الهمزة، وطرحت حركتها على ما قبلها.
ويلزم على قول الفرّاء جواز دخول "يا" عليها، وليس بمختار في الكلام.
{ مالك الملك } أي: بيده زمامه، { تؤتي الملك مَن تشاء } محمداً، وأمته، { وتنزع الملك ممن تشاء } فارس والروم، وكذلك { وتعز مَن تشاء وتذل من تشاء } .
__________
(1) أخرجه الطبري (3/222)، وابن أبي حاتم (2/624)، والثعلبي (3/40) كلهم عن قتادة. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:102)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/368)، والسيوطي في الدر المنثور (2/171) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/368) عن أبي سليمان الدمشقي.
(3) انظر: الكتاب لسيبويه (2/196).
(4) معاني الفراء (1/203).(1/153)
وقيل: تُعِزُّ مَن تشاء بالطاعة، وتُذِلُّ مَن تشاء بالمعصية.
وقيل: تُعِزُّ مَن تشاء بالقناعة، وتُذِلُّ من تشاء بالحرص.
{ بيدك الخير } قال ابن عباس: النصر والغنيمة (1) .
وقيل: المعنى: بيدك الخير والشر، فاكتفى بذكر المرغوب فيه.
{ إنك على كل شيء } من ذلك وغيره { قدير } .
{ تولج الليل في النهار } قال ابن عباس: ما ينقص من أحدهما يَزيد في الآخر (2) .
قال السدي: حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات (3) ، وكذلك النهار يزيد والليل ينقص.
{ وتخرج الحي من الميِّت } قرأ نافع وأهل الكوفة إلا أبا بكر: "الميت" بالتشديد وخففه الباقون (4) ، وتفرّد نافع بالتشديد في ثلاثة مواضع: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً } [الأنعام:122]، و { الأَرْضُ المَيْتَةُ } [يس:33]، و { لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [الحجرات:12]، وكلهم شدد ما لم يَمُتْ، نحو: { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [الزمر:30]،
__________
(1) زاد المسير (1/369).
(2) أخرجه الطبري (3/223)، وابن أبي حاتم (2/625)، ومجاهد (ص:124). وذكره السيوطي في الدر (2/173) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (3/223)، وابن أبي حاتم (2/625). وذكره السيوطي في الدر (2/173) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... الحجة للفارسي (2/11-12)، والحجة لابن زنجلة (ص:159)، والكشف (1/339)، والنشر (2/224-225)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:172)، والسبعة في القراءات (ص:203).(1/154)
وخفف ما هو [ميت] (1) لما فيه هاء التأنيث، نحو: { بَلْدَةً مَّيْتاً } [الزخرف:11]، والقراءتان (2) لغتان فاشيتان، قال الشاعر:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بمَيْتٍ ... إِنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ (3)
فجمع بين اللغتين، والأصل التشديد، والتخفيف فرع عليه، لثقل التشديد والكسر على الياء. وأصله عند البصريين "مَيْوِت" على فَيْعِل، ثم قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء التي قبلها، والمحذوف في قراءة من خفَّف هو الواو التي قلبت ياء، وهي عين الفعل، كما قالوا: هائر وهارٍ، وسائر وسارٍ، فغيّروا العين، وحذفوها بعد القلب (4) .
والمعنى: يُخرج الحيوانَ من النطفة، والنطفة من الحيوان، وكذلك يخرج الفرخ من البيضة، والبيضة من الطائر (5) .
وقيل: يخرج الحي، وهو المؤمن، من الميت وهو الكافر، ويخرج الميت
__________
(1) ... في الأصل: نعت. والصواب ما أثبتناه.
(2) ... الكشف (1/339).
(3) ... البيت لعدي بن الرعلاء الغساني. انظر: الحجة للفارسي (2/12)، واللسان، مادة: (موت)، والأصمعيات (ص:152)، وأمالي ابن الشجري (1/152)، وابن يعيش (10/69)، والأشموني (2/169)، والدر المصون (2/57)، وتهذيب اللغة (14/343).
(4) الحجة للفارسي (2/12)، والكشف (1/339).
(5) أخرجه الطبري (3/224)، وابن أبي حاتم (2/626) كلاهما من حديث ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/173) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن مسعود.(1/155)
من الحي، وهو الكافر من المؤمن (1) .
والقولان عن ابن عباس (2) . والأول قول الجمهور، والثاني قول الحسن.
وفي الحديث: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على بعض نسائه، فرأى عندها امرأة حسنة الهيئة، فقال: من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك. فقال: أي خالاتي؟ قالت: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. فقال رسول الله: سبحان الذي يُخْرِج الحي من الميت! وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها مات كافراً" (3) .
وقال الزجاج (4) : المعنى: يُخْرِجُ النبات الغضَّ من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النَّامِي.
وما بعده مفسّر في البقرة (5) .
w يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
__________
(1) أخرجه الطبري (3/225)، وابن أبي حاتم (2/627) كلاهما من حديث الحسن. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/174) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ عن الحسن.
(2) زاد المسير (1/370).
(3) أخرجه الطبري (3/226)، وابن أبي حاتم (2/626)، والثعلبي (3/46)، وابن سعد في الطبقات (8/248)، كلهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، مرسلاً.
(4) معاني الزجاج (2/273).
(5) عند الآية رقم: 212.(1/156)
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ(1/157)
اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) * إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ(1/158)
بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اجحب
قوله: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } نزلت في عبادة بن الصامت، وكان قال يوم الأحزاب: يا رسول الله؛ معي خمسمائة من اليهود من حلفائي أريد أن أستظهر بهم على العدو (1) .
وقيل: نزلت ناهية لجماعة من الأنصار على مباطنة اليهود وموالاتهم وملاطفتهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك لما كان بينهم من الحلف والرضاع (2) .
والقولان عن ابن عباس (3) .
وقال المقاتلان ابن سليمان (4) ، وابن حيّان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودّة لأهل مكة (5) .
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/47). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:105)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/371).
(2) أخرجه الطبري (3/228)، وابن أبي حاتم (2/628). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/176) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) قال ابن عباس في تفسيره (ص:126) عند ذكر هذه الآية: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف، ويخالفوهم في الدين، وذلك قوله: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } .
(4) مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني، أبو الحسن البلخي، نزيل مرو، قال البخاري: منكر الحديث. توفي سنة خمسين ومائة (الضعفاء والمتروكين 3/136، والتقريب ص:545).
(5) تفسير مقاتل بن سليمان (1/164).(1/159)
قال الزجاج (1) : معنى قوله: { من دون المؤمنين } أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية مِن مكان دون مكان المؤمنين. وهذا كلام جرى على المثل في المكان. تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال.
ثم توعَّدهم، فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } ، أي [فالله بريء منه] (2) .
قوله: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } يقال: تَقَيْتُه تُقَاةً وتُقَىً وتَقِيَّةً، والمعنى: إلا أن تخشوا منهم أمراً، تحتاجون معه إلى التَّقِيَّة، فتصانعوهم بألسنتكم، وتُفارقوهم بقلوبكم وأعمالكم، والتَّقِيَّة رخصة لا عزيمة، نص عليه إمامنا رحمة الله عليه قولاً، ودان به فعلاً في فتنة الاعتزال (3) ، وذلك حين دُعِيَ إلى القول بخَلْقِ القرآن، وقيل له تلك الأيام: إن عُرِضتَ على السيف تجيب؟ قال: لا، إذا أجاب العالم تَقِيَّةً، والجاهل بجهله، فمتى يظهر الحق؟ (4) .
فللَّه درُّه ما كان أصبره على تلك الشدة، وأشبهه بأبي بكر الصدِّيق أيام الرِدَّة.
__________
(1) معاني الزجاج (1/396).
(2) في الأصل: هو بريء من الله، والتصويب من زاد المسير (1/371).
(3) انظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص:385).
(4) زاد المسير (1/372).(1/160)
وقال شيخ الإسلام الأنصاري (1) رحمة الله عليه: عُرِضتُ على السيف أربع مرات، وما قيل لي اُترك مذهبك، إنما قيل لي: اُسكت عن مخالفيك، فلم أفعل (2) .
ثم هدَّدَهم وتوعدهم بقوله: { ويحذركم الله نفسه } ، أي: عذاب نفسه، { وإلى الله المصير } .
قوله: { قل إن تخفوا ما في صدوركم } الصدر محل القلب، ويُعبَّر به عنه، والمعنى: إن تُخفوا ما في صدوركم، من موالاة الكفار، ومعاداتهم وغير ذلك، { يعلمه الله } المعنى: ويجازيكم عليه، ثم أكد ذلك بتمام الآية.
قوله: { يَوْمَ تَجِدُ } العامل في "يوم تجد": "يُحَذّركم"، أو فعل مضمر، أو "تَوَدُّ" (3) .
وقال ابن الأنباري (4) : يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: "وإلى الله المصير"
__________
(1) عبد الله بن محمد الأنصاري، أبو إسماعيل الهروي، الفقيه، المفسر الحافظ، الواعظ، إمام الحنابلة في عصره. كان شديداً على المبتدعة، متمسكاً بالسُّنَّة، توفي سنة إحدى وثمانين وأربعمائة بهراة (المنتظم 9/44-45، وسير أعلام النبلاء 18/503، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/50).
(2) سير أعلام النبلاء (18/509).
(3) انظر: الدر المصون (2/62-63).
(4) محمد بن القاسم بن محمد، أبو بكر بن الأنباري، النحوي، صاحب التصانيف الكثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل، وكان علامة وقته في الآداب وأكثرهم حفظاً لها، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (إنباه الرواة 3/201، ووفيات الأعيان 4/341).(1/161)
أي: وإلى الله المصير يوم تجد (1) .
والمعنى: تجد جزاء ما عملت، أو بيان ما عملت في صحائف الأعمال. والأمد: الغاية.
قال الطِّرِمَّاح (2) :
كلُّ حيّ مستكمل عدة العُمـ ... ـر ومُوْدٍ إذا انْقَضَى أَمَده (3)
أي: غاية أجله.
قوله عَزَّ وجَلَّ: { قل إن كنتم تحبون الله } قال ابن عباس: قال كفارُ قريش: إنما نعبد الأصنام حباً لله ليقرِّبونا إلى الله زلفى (4) .
وقال اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، فأنزل الله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (5) .
وقال الحسن: إن ناساً قالوا: إنَّا لنحب ربنا حباً شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبّه علماً، فأنزل هذه الآية (6) .
__________
(1) انظر: زاد المسير (1/372).
(2) الطِّرِمَّاح بن حكيم بن نفر الطائي، أبو نفر، كان شاعراً وخطيباً (الشعر والشعراء لابن قتيبة ص:388).
(3) البيت للطرماح. انظر: ديوانه (ص:112).
(4) أخرجه الثعلبي (3/50). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:105)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/373).
(5) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:106). وابن الجوزي في زاد المسير (1/373).
(6) أخرجه الطبري (3/232)، وابن أبي حاتم (2/633). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/178) وعزاه لابن جرير وابن المنذر. ...(1/162)
وكان ابن المبارك، رحمه الله، ينشد لنفسه:
تَعْصِي الإلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّه ... هذا مُحَالٌ في المقال بَديعُ
لو كانَ حُبُّكَ صَادقاً لأطَعْتَه ... إن المحبَّ لمن يُحب مُطيعُ (1)
قال ابن عباس: لما أنزلت هذه الآية قال عبد الله بن أُبَيّ: إنَّ محمداً يأمرنا أن نحبّه كما أحبت النصارى عيسى، وبجعل طاعته كطاعة الله، فأنزل الله: { قل أطيعوا الله والرسول... الآية } (2) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى الأمير فقد عصاني" (3) .
قوله (4) : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً } أي: اختارهم واجتباهم للنبوة. وقد سبق القول في آدم (5) . وأما نوح فاسمه "السكن"، وسمي نوحاً؛ لِنَوْحِه على نفسه.
__________
(1) انظر البيتان في: روح المعاني (3/129)، وشعب الإيمان (1/385-386)، ومختصر شعب الإيمان (1/30)، وكشف الخفاء (2/1281)، ومختصر تاريخ دمشق (1/1887).
(2) أخرجه الثعلبي (3/51). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 374).
(3) أخرجه البخاري (6/2611 ح6718)، ومسلم (3/1466-1467 ح1835) كلاهما من حديث أبي هريرة.
(4) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً أولاً. وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً ثالثاً، مرة ثانية.
(5) في سورة البقرة عند تفسير الآية: 31.(1/163)
قال الإمام أحمد في كتاب الزهد (1) : حدثنا عبد الرزاق، عن وهيب ابن الورد، قال: لما ع(1) الله نوحاً في ابنه فقال: { إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ } [هود:46]، بكى ثلاثمائة عام، حتى صار تحت عينيه أمثال الجداول.
وقيل: إنه كان ينوح لمعاصي أهله وقومه.
وقيل: إنه مرَّ بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أَعِبْتَنِي أم عبتَ الكلب؟
قوله: { وآل إبراهيم } قال ابن عباس والحسن: هم أهل دينه (2) .
وقال مقاتل (3) : "آلُه": إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط.
وقيل: أُقحمت "الآل" تفخيماً. والمراد: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم. وقد سبق مثله في سورة البقرة (4) .
{ وآل عمران } قال الحسن ووهب: هو عمران والد مريم (5) . فعلى هذا "آله": مريم، وعيسى.
وقال مقاتل (6) : هو عمران بن قاهث، فآله: موسى وهارون، وبين العمرانين ألف وثماني مائة سنة.
__________
(1) الزهد (ص:66).
(2) انظر زاد المسير (1/374).
(3) تفسير مقاتل (1/165).
(4) ... عند الآية رقم: 132.
(5) ... أخرجه الثعلبي (3/52). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/375).
(6) ... تفسير مقاتل (1/166).(1/164)
والأظهر: أنه عمران بن ماثان، لقوله عقيب ذلك: { إذ قالت امرأة عمران } .
قوله: { ذرية } بدل من "آل إبراهيم وآل عمران"، أو حال، أو نصب على القطع. { بعضها من بعض } يعني: الآليْن بعضها من بعض في التناسل. وقيل: في التناصر. { والله سميع عليم } بمن يصلح للاصطفاء، أو "سميع عليم" لقول امرأة عمران.
ّŒخ) قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ(1/165)
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ اجدب
فعلى هذا "إذ" في قوله: { إذ قالت امرأة عمران } منصوب به. وقيل: بإضمار اذكر (1) .
وقال الزجاج (2) : العامل في "إذ" معنى الاصطفاء، فيكون المعنى: "اصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران".
وقال أبو عبيدة وابن قتيبة (3) : "إذ" ملغاة.
وامرأةُ عمران اسمها: حنّة، وهي أم مريم بنت عمران بن ماثان، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم، وملوكَهم.
قال ابن إسحاق وغيره: كانت رأت طائراً يَزُقُّ فَرْخَهُ (4) بعد أن أَسَنَّت ويئست من الولد، فهيَّجها على التحنن على الولد، فَدَعَتْ ربها أن يهب لها ولداً، فأجيبت، فقالت شكراً لله: { رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً } (5)
__________
(1) ... انظر: التبيان (1/131)، والدر المصون (2/71).
(2) معاني القرآن (1/400).
(3) مجاز القرآن (1/90)، وتفسير غريب القرآن (ص:103)، وتأويل مشكل القرآن (ص:252).
(4) زَقَّ الطائر الفرخ يَزُقُّهُ زقاً: أي أطعمه بفِيه (اللسان، مادة: زقق).
(5) أخرجه الطبري (3/235). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/376).(1/166)
أي: خالصاً، عتيقاً من رق الدنيا، حبيساً على العبادة، وسدانة البيت المُقَدَّس.
قال القاضي أبو يعلى ابن الفرّاء رحمه الله: وهذا نذرٌ صحيح في شريعتنا أيضاً، فإنه إذا نذر الإنسانُ أن يُنَشِّئَ ولده الصغير على عبادة الله، وطاعته، وأن يعلِّمه القرآن والفقه وعلوم الدين؛ صح النذر (1) .
و"محرراً" حال من "ما" (2) . والتَّقبُّل: الأخذ بالرضى.
{ إنك أنت السميع } لدعائي { العليم } بنِيَّتي.
{ فلما وضعتها } الضمير يرجع إلى قوله: لـ { ما في بطني } ، وإنما أُنِّث حملاً على المعنى، لأن ما في بطنها كانت أنثى في علم الله، أو على تأويل الحَبْلَة، أو النفس، أو النَسَمة؛ { قالت رب إني وضعتها } أي وضعت النَسَمة { أنثى } ، وهو كلام يلوح منه أسفها على خيبة رجائها، فإنها رَجَتْهُ ذَكَراً، ولذلك حرَّرته للعبادة والسدانة.
وفي قوله: { والله أعلم بما وضعت } تعريضٌ بتعظيم مريم، وتجهيل لـ "حنّة" بما استودع في تلك الأنثى من السر الإلَهي، ونيط بها من الآية العظيمة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: "بما وضعْتُ" بسكون العين وضم التاء (3) ، فيكون من تمام كلامها.
__________
(1) زاد المسير (1/376).
(2) انظر: التبيان (1/131)، والدر المصون (2/71).
(3) الحجة للفارسي (2/15)، والحجة لابن زنجلة (ص:160)، والكشف (1/340)، والنشر (2/239)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:173)، والسبعة في القراءات (ص:204).(1/167)
وفي قراءة ابن عباس: "وضعْتِ" (1) بسكون العين وكسر التاء، فيكون من مخاطبة الله لها، على معنى: إنك لا تعلمين قدر هذا المولود.
{ وليس الذكر كالأنثى } جائزٌ أن يكون من تمام كلامها أيضاً، خارجاً مخرج الاعتذار من مصادفة تحريرها أنثى، والأنوثية مانعة من استقصاء الوفاء بما نَذَرَتْهُ، والقيام بما نَوَتْهُ.
وجائز أن يكون من تتمة التعريض بتعظيم مريم، فتكون اللام للعهد، التقدير: وليس الذكر الذي أردتِ كالانثى التي ولدتِ.
{ وإني سَمَّيْتُها } عطف على "وَضَعْتُها". و { مريم } بلغتهم: العابدة، فسمّتها بذلك تفاؤلاً بمطابقة الفعل للاسم، ألا تراها تقول: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } .
قال أبو هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان حين يولد فَيَسْتَهِلُّ (2) صارخاً من نَخْسَةِ الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: { وإني أُعيذها بك وذُرِّيتها من الشيطان الرجيم } " (3) .
ولقد عجبتُ من جُرْأة المعطلين على هذه الشريعة، وتسميتهم
__________
(1) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:20).
(2) الاستهلال: رفع الصوت. وقد استهلَّ الصبي: رفع صوته بالبكاء (القاموس المحيط ص:1385).
(3) أخرجه البخاري (4/1655 ح4274)، ومسلم (4/1838 ح2366)، وأحمد (2/233 ح7182، 2/274 ح7694).(1/168)
المتمسكين بها أهل حشو، فتراهم يبادرون إلى تكذيب الأخبار النبوية، المنقولة على ألسنة العلماء الثقات الأثبات، بناء على خيالات فاسدة، يتوهمونها، لكن شؤم البدعة سلبهم وصف التوفيق، فحال بينهم وبين التصديق والتحقيق، وعَمِيَتْ عليهم مسالك الهدى، فتورَّطوا في مهالك الردى. هذا صاحب الكشّاف الزّمخشري يقول في تفسيره (1) : وما روي من الحديث: "ما من مولود..."، ثم ساق الحديث إلى آخره، ثم قال: إن صَحَّ، فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه، إلا مريم وابنها، واستهلاله صارخاً [من مَسِّهِ] (2) تخييل [وتصوير] (3) لِطَمَعِهِ فيه. وأما حقيقة المس والنخس كما يَتَوَهَّمُ أهل الحشو فكلا، [ولو] (4) سُلِّط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً.
قلت: ولست أعجب من قوله عن حديث اتفق أئمة الإسلام على تصحيحه وتدوينه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحيهما: "إن صَحَّ"؛ لأن الرجل كان جاهلاً بهذا العلم الجليل، ولكن من صفاقة وجهه في رد الحديث على تقدير التصحيح، والتمحل لتعطيل اللفظ الصريح، مع أنه لا منافاة في ذلك بين النقل والعقل، لأن العقل لا يحيل ذلك لذاته، ولا يلزم منه محال على تقدير إثباته.
__________
(1) الكشاف (1/385-386).
(2) زيادة من الكشاف (1/186).
(3) زيادة من الكشاف (1/186).
(4) في الأصل: لو. والتصويب من الكشاف (1/186).(1/169)
وأما قوله: "لو سُلِّط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً"، فكلام يُشمِتُ به أعداءه، لا، بل يحزنهم عليه، فما أحقه بإنشاد قول الشاعر:
أغرى يديه بكشف عورته ... ... من أذن الله في فضيحته
لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بتسليط الشيطان على الإنسان بالنخس إلا حالة الولادة، فكيف يتوجه منه هذا الإلحاد؟ ومن أين يلزم أن تمتلئ الدنيا صراخاً وعياطاً؟ ولعله إذا استقرئ البلد العظيم، وتصفح مَن ولد فيه في يوم، لا يبلغ عدداً يوجب أضعاف أضعافه بعض ما توهمه، من امتلاء الدنيا صراخاً. فسبحان من حفظ هذا الدين بحملةٍ عدول، يَنْفُون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. اللَّهم فاحفظنا من ضلالات الأهواء، وعافنا من خيالات الآراء.
$ygn=6s)tFsù رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ(1/170)
يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ اجذب
قوله تعالى: { فتقبلها ربُّها بقبول حسن } القَبُول: مصدر، والقياس فيه: الضم؛ كالدُّخول والخروج.
قال سيبويه: خمس مصادر جاءت على فَعُول منها: قَبُول.
والمعنى: رضيها ربّها بدل الذي نذرته.
قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء (1) .
{ وأنبتها نباتاً حسناً } القَبول والنَّبَات مصدران يخالفان المصدر هاهنا.
قال الفرَّاء (2) : هو مثل قولك: تكلمت كلاماً.
قال القَطَامِي (3) :
وخيرُ الأمر ما استقبلتَ منه ... وليس بأن تَتَبَّعَهُ اتِّباعَا (4)
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/56).
(2) لم أقف عليه في معاني الفراء، ونقله عنه الثعلبي (3/56).
(3) عمير بن شييم بن عمرو التغلبي، الملقب بالقطامي، شاعر غزل فحل (طبقات الشعراء: ص:165، والشعر والشعراء لابن قتيبة: ص:483، والأعلام للزركلي 5/88).
(4) البيت للقطامي. انظر: ديوانه (ص:35)، والكتاب (4/82)، والدر المصون (2/76)، واللسان، مادة: (تبع)، والقرطبي (4/69)، وزاد المسير (8/372).(1/171)
وقال آخر:
........................... ... وإن شئتم تَعاودنا عوادا (1)
لم يقل: تتبعاً ولا تعاوداً.
وقال ابن الأنباري والمفضل (2) : التقدير: وأنبتها فنبتت نباتاً [حسناً] (3) .
قال ابن عباس: كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام (4) ، فيكون إشارة إلى كمال نشوئها.
وقال قتادة: حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب (5) ، فيكون استعارة عن طهارتها من دنس الآثام.
وقيل: هو استعارة عن حُسْن التربية.
قوله: { وكفَّلها زكريا } قرأ أهل الكوفة: "كفلها" بالتشديد، "زكريا" بالقصر، حيث جاء، إلا أبا بكر عن عاصم، فإنه يمد "زكريا" حيث جاء كالباقين (6) .
__________
(1) عجز بيت لم أعرف قائله. وهو في الخصائص لابن جني (2/309) وقال محققه: إنه لشقيق ابن جزء.
(2) المفضل بن سلمة بن عاصم، أبو طالب، لغوي عالم بالأدب، توفي سنة ثلاثمائة (إنباه الرواة 3/305، ومعجم الأدباء 19/163، والأعلام للزركلي 7/279).
(3) انظر: زاد المسير (1/377). وما بين المعكوفين زيادة منه.
(4) أخرجه الثعلبي (3/56).
(5) أخرجه الطبري (3/240).
(6) الحجة للفارسي (2/16)، والحجة لابن زنجلة (ص:161)، والكشف (1/341)، والنشر (2/239)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:173)، والسبعة في القراءات (ص:204-205).(1/172)
قال ابن دريد (1) : هو اسم أعجمي.
الإشارة إلى القصة
قال العلماء بالتفسير والسِّيَر: لما وضعت حنّة مريم لفّتها في خرقة وحملتها إلى البيت المُقَدَّس، وفاءً بنذرها، فوضعتها عند الأحبار، أبناء هارون، وهم يومئذ يلونه كما تلي الحَجَبة الكعبة، فقالت: دونكم بهذه النذيرة، فتنافسوا فيها، لأنها بنتُ إمامهم، وصاحب قربانهم، فقال زكريا: أنا أحق بها، وعندي خالتُها، فامتنعوا إلا أن يقترعوا، فساروا إلى نهر الأردن، وكانوا سبعة وعشرين رجلاً (2) .
قال ابن عباس: قالوا: نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالباً لجرية الماء فهو أحق بها (3) .
وقال السدي: ألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فَجَرَت الأقلام كلها، وثبت قلم زكريا (4) .
__________
(1) جمهرة اللغة (2/324).
(2) أخرجه الطبري (3/243)، وابن أبي حاتم (2/639)، والثعلبي (3/56)، والبيهقي (10/286). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/185) وعزاه للبيهقي في سننه عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة.
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/379).
(4) أخرجه الطبري (3/243)، والثعلبي (3/57)، ومجاهد (ص:125) ولفظه: ساهمهم بقلمه فسهمهم. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/181).(1/173)
قال الحسن: لم ترتضع ثدياً قط (1) .
وذكر مقاتل (2) : أنه استأجر لها ظِئْراً.
قوله: { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } "كلما" منصوب على الظرف (3) ، أي: وجد كلما دخل.
وقال الزجاج (4) : المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف.
قال الشاعر وضّاح اليمن (5) :
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذا جِئْتُهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّما (6)
وقال أبو [عبيدة] (7) : المحراب سيد المجالس، ومقدمها وأشرفها، وكذلك هو من المسجد.
وقال غيره: يقال للمسجد محراب، ومنه: { يعملون له ما يشاء من محاريب } [سبأ:13]، أي: مساجد.
__________
(1) ... ذكره الماوردي (1/388)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/380).
(2) تفسير مقاتل (1/167). والظئر -بالكسر-: المُرْضِعَة (القاموس المحيط ص:555).
(3) انظر: التبيان (1/23)، والدر المصون (2/78).
(4) معاني الزجاج (1/403).
(5) عبد الرحمن بن إسماعيل بن كلال. سمي الوضاح؛ لجماله. له قصص تروى مع أم العينين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك، فقتله.
(6) البيت لوضاح اليمن. انظر: اللسان، مادة: (حرب)، وجمهرة اللغة (1/219)، والأغاني (6/223)، ومجاز القرآن (2/144)، والدر المصون (2/78)، والقرطبي (4/71)، والوسيط (1/432).
(7) في الأصل: أبو عبيد، والصواب ما أثبتناه. انظر: مجاز القرآن (1/91).(1/174)
وأظنُّ الشاعرَ أراد ذلك في قوله:
جَمَعَ الشجاعةَ والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب (1)
قال ابن إسحاق: ضمّها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد، لا يصعد إليها غيره، فكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم (2) .
قال ابن عباس: كانت تصلي في غرفتها الليل والنهار.
وقال مقاتل (3) : كانت مريم إذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى (4) ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس.
ويروى عن ابن عباس: أنها لم تكن تحيض (5) .
قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، فإذا دخل وجد عندها رزقاً (6) .
قال ابن عباس: هو ثمار الجنة، كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء (7) .
__________
(1) انظر البيت في: وفيات الأعيان (1/409)، وروح المعاني (3/139، 22/118).
(2) أخرجه الثعلبي (3/57). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/181) عن ابن عباس.
(3) تفسير مقاتل (1/167).
(4) ... واسمها: أيليشفع بنت عمران، كما في تفسير مقاتل، الموضع السابق.
(5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/387) من قول السدي.
(6) أخرجه الطبري (3/245)، وابن أبي حاتم (2/640).
(7) أخرجه الطبري (3/244). وذكره الماوردي (1/388)، والسيوطي في الدر المنثور (2/186) وعزاه لابن جرير.(1/175)
فلما عاين زكريا هذه الآية: { قال يا مريم أنّى لكِ هذا } أي: من أين لكِ هذا الرزق الموجود في غير زمانه؟ الواصل إليكِ والأبواب مغلقة عليكِ؟ { قالت هو من عند الله } .
وقوله: { إن الله يرزق مَن يشاء بغير حساب } جائز أن يكون من تمام كلامها، وجائز أن يكون ابتداء كلام من الله. وقد سبق تفسيره.
ويروى: أنها تكلمت وهي صغيرة (1) كما تكلم عيسى في المهد. وفيه بُعْد لما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى (2) .
ڑپد9$uZèd دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ ضNح !$s% يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
__________
(1) ... انظر: زاد المسير (1/380).
(2) عند الآية رقم: 46 من هذه السورة.(1/176)
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ احتب
قال المفسِّرون: فلما عاين زكريا هذه الآية، ورأى خَرْقَ الله العادة(1/177)
بإيجاد الفاكهة في غير أوانها، طمع في الولد على الكبر، فذلك قوله: { هنالك دعا زكريا ربه } (1) .
قال المفضل: أكثر ما يقال "هنالك" في الزمان، و"هناك" في المكان، وقد يُجعل هذا مكان هذا (2) .
وقال غيره: يستعار: هنا، وثمَّ، وحيث، للزمان.
وجائز أن يكون معنى "هنالك": في ذلك المكان عند مريم في المحراب. وجائز أن يكون في ذلك الوقت.
والذُرِّية تقع على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، والمراد هنا واحد، بدليل قوله: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً } [مريم:4]، وأَنَّثَ "طَيِّبَةً" لتأنيث لفظ الذُرِّية. و"سميع" بمعنى: سامع أو مجيب.
قوله تعالى (3) : { فنادته الملائكة } قرأ حمزة والكسائي: "فناداه"، بألف ممالة. وقرأ الباقون: فنادته (4) .
قال أبو علي (5) : من قرأ "فناداه"، فهو كقوله: { وقال نسوة } (6)
__________
(1) أخرجه الطبري (3/247-248). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/187) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(2) القرطبي (4/72).
(3) كتب مقابلها في الهامش: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً رابعاً، مرة ثانية.
(4) الحجة للفارسي (2/18)، والحجة لابن زنجلة (ص:162)، والكشف (1/ 342)، والنشر (2/239)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:173)، والسبعة في القراءات (ص:205).
(5) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، كان من أكابر أئمة النحو، صنَّف كتباً عجيبة حسنة لم يُسبق إلى مثلها، توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة (تاريخ بغداد 7/275).
(6) الحجة للفارسي (2/18).(1/178)
[يوسف:30].
وقال غيره: الذي ناداه: جبريل، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: "فناداه جبريل" (1) ، فيكون الجمع على قراءتهما للتعظيم، أو لبيان أن النداء جاء من ذلك الجنس، كما تقول: ركبت السفن.
وسُمِّيَ المحراب محراباً؛ لشرفه، كما ذكرنا، أو لمحاربة الشيطان فيه.
{ أَنَّ الله } قرأ ابن عامر وحمزة: "إن الله" بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لأن النداء في معنى القول. وقرأ الباقون بالفتح (2) ، على معنى: نادته بأن الله. فلما حذف الحرف الجار وصل الفعل فنصب.
قرأ حمزة: "يَبْشُرُكَ" بالتخفيف في كل القرآن، إلا في قوله: { فَبمَ تُبَشِّرُونَ } [الحجر:54].
ووافقه الكسائي على التخفيف في خمسة مواضع: في آل عمران موضعان، وفي "سُبْحَانَ" موضع، وفي الكهف موضع، وفي الشورى موضع (3) ، وشدَّد ذلك الباقون، غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا التي في
__________
(1) انظر: الطبري (6/364).
(2) الحجة للفارسي (2/19)، والحجة لابن زنجلة (ص:162)، والكشف (1/343)، والنشر (2/239)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:174)، والسبعة في القراءات (ص:205).
(3) في آل عمران عند الآية: 39 و 45. وفي الإسراء عند الآية: 9. وفي الكهف عند الآية: 2. وفي الشورى عند الآية: 23.(1/179)
الشورى (1) ، وهما لغتان مشهورتان. يقال: بَشَّر يُبشِّرُ تَبشيراً، وبَشَر يَبْشُرُ بَشْراً وبُشُوراً (2) .
وأنشد الفرَّاء للأعشى (3) :
وَإِذا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إِلى النَّدَى ... غُبْراً أَكُفُّهُمُ بقَاعٍ مُمْحِلِ
فَأَعِنْهُمْ وابْشِرْ بما بَشِرُوا بهِ ... وَإِذا هُمُ نَزَلُوا بضَنْكٍ فَانْزِلِ (4)
وقد ذكرنا معنى البشارة في البقرة.
قال المفسرون: رأى زكريا جبريل في صورة شاب عليه ثياب بياض، فناداه: { أن الله يبشرك بيحيى } (5) .
وهو اسم أعجمي، وقيل: عربي، ومنعه الصرف: التعريف وصيغة الفعل.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/20)، والكشف (1/343-344)، والنشر (2/239-240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:174)، والسبعة في القراءات (ص:205-206).
(2) انظر: اللسان، مادة: (بشر).
(3) ميمون بن قيس بن جندل البكري، الأعشى، الشاعر المشهور المقدم، مات باليمامة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - (معجم الشعراء ص:401).
(4) معاني الفرّاء (1/212). والبيتان ليسا للأعشى كما قال المصنف، وإنما هما لعبد قيس بن خفاف البرجمي، كما في المفضليات (ص:385)، والحجة للفارسي (2/20)، واللسان، (مادة: كرب، بشر)، وتهذيب اللغة (11/359)، والطبري (3/251)، والقرطبي (4/75)، وزاد المسير (1/382).
(5) أخرجه الثعلبي (3/60).(1/180)
قال ابن عباس: أحيا الله قلبه بالإيمان (1) .
وقال في رواية: أحيا به عقر أمه (2) .
{ مصدِّقاً بكلمة من الله } أي: مؤمناً بعيسى، فإنه أوّل مَن آمن به (3) ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر.
وقيل: قبل رفع عيسى إلى السماء.
وسُمِّي عيسى "كلمة"؛ لتكوينه بها من غير أب.
وقال أبو عبيدة (4) : الكلمة: كتاب الله. تقول العرب: أنشدني كلمة فلان، يعنون: قصيدته. وقال زهير في كلمته كذا وكذا.
{ وسيداً وحصوراً } السيد: الذي يَسُود قومه، أي: يفوقهم في الشرف (5) . والذي سادهم به: كرامته على الله، وحلمه وتقواه.
والحَصُور: الذي لا يأتي النساء، من الحَصْر، وهو الحَبْس (6) .
والذي عليه جمهور العلماء: أنه لم يكن له آلة الوطء (7) .
وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة (8) .
__________
(1) ذكره الماوردي (2/390) بلا نسبة بنحوه، وابن الجوزي في زاد المسير (1/382).
(2) أخرجه الثعلبي (3/62). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/382).
(3) فرض على يحيى أن يصدق بعيسى وأن يبشر الناس برسالته، فهذا معنى التصديق. أما اتباعه فغير ممكن؛ لأن عيسى لم يبدأ رسالته إلا بعد قتل يحيى (هامش الوسيط 1/434).
(4) مجاز القرآن (1/91).
(5) انظر: اللسان، مادة: (سود).
(6) انظر: اللسان، مادة: (حصر).
(7) انظر: الطبري (3/255)، وزاد المسير (1/383)، والدر المنثور (2/190).
(8) أخرجه الطبري (3/256). وذكره السيوطي في الدر (2/191) وعزاه لابن جرير.(1/181)
وقال ابن عباس: كان لا ينزل الماء (1) .
وقيل: كان يمنع نفسه شهواتها.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كلُّ بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذَنْبٌ إلا ما كان من يحيى بن زكريا. ثم دلى رسول الله يده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود" (2) .
لذلك سماه الله: { سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين } ، أي: ونبياً كائناً من الصالحي الحال عند الله.
وقيل: المعنى: أنه من نسل الصالحين، وأولاد الأنبياء.
{ قال رب أنّى يكون لي غلام } ليس على وجه الشك في ما جاءه من عند الله؛ لأن الأنبياءَ معصومين من مثل هذه الحالة، ولا على وجه الاستبعاد، كما زعم جماعة من العلماء؛ لأن كمالَ معرفته بالله تنفي استبعاد ما ينفعل عن القدرة الإلَهية، ثم إن دلالة الحال، وإقدامه على السؤال تنفي استبعاده لذلك، وإنما هو استعلام عن الحالة التي يتكوّن الولد فيها. المعنى: أيأتينا الولد على الحالة التي أنا عليها من الكبر، وامرأتي من العقر؟ أم يأتينا
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/256)، وابن أبي حاتم (2/643). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/190) وعزاه لأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (3/255)، وابن أبي حاتم (2/643)، والحاكم في المستدرك (2/404، 4/273). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/190) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر.(1/182)
بعد رد شبابي؟ وإزالة العقر عن امرأتي؟ هذا قول جماعة منهم: الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان (1) .
قال بعض اللغويين: الغُلام فُعَال من الغُلْمة، وهي شدة شهوة النكاح، ويقال للكهل: غلام (2) . ومنه قول ليلى الأخيلية (3) في الحجّاج:
....................... ... ... غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ سقاها (4)
وقد سبق.
والمعنى: قد كان مرة غلاماً، وقولهم للطفل: غلام، على معنى التفاؤل، أي سيصير غلاماً.
{ وقد بلغني الكبر } قال الزجاج (5) : كل شيء بلغتَه فقد بلغك.
قال ابن عباس: كان يوم بُشِّرَ بالولد ابن مائة وعشرين سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين (6) .
والعاقر من الرجال والنساء: المنقطع، والأصل فيه للنساء، فأجري
__________
(1) ... ذكره الماوردي (1/391)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/384).
(2) ... زاد المسير (1/384).
(3) ... ليلى بنت الأخيل بن عقيل بن كعب، وهي من أشعر النساء، وقد هاجت النابغة الجعدي (الشعر والشعراء لابن قتيبة ص:291).
(4) عجز بيت لليلى الأخيلية، وصدره: (شفاها من الداء العضال الذي بها) انظر ديوانها (ص:118)، وفيه: "شفاها" بدل "سقاها". وانظر: اللسان، مادة: (عضل)، والدر المصون (1/567)، والقرطبي (11/21)، وزاد المسير (1/269)، وروح المعاني (15/338).
(5) معاني الزجاج (1/408).
(6) ذكره الواحدي في الوسيط (1/434)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/5).(1/183)
مُجْرى طالق وحائض.
{ قال كذلك } أي: مثل خلق الولد بين شيخ هرم وعجوز عاقر، يفعل ما يشاء من الآيات الخارقة للعادات.
{ قال رب اجعل لي آية } علامة، أعرف بها وجود الحمل. سأل العلامة على وجود ما أمّله ورامه، ليتلقى النعمة بالشكر، ويتعجل السرور، { قال آيتك ألاّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام } ، يريد: بلياليها، لقوله تعالى في موضع آخر: { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [مريم:11].
{ إلاّ رمزاً } استثناء منقطع أو متصل. حسن استثناؤه من الكلام لنيابته منابه في الإفهام. والرَّمْزُ: الإشارة، وأكثر ما يستعمل في الشفتين.
قال ابن عباس: جعل يكلّم الناس بيده (1) ، وإنما عُقِلَ لسانه عن مخاطبة الناس، ولم يُعقَل عن ذكر الله.
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزيّ، رضي الله عنه (2) : جمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل (3) .
وقال قتادة والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية والأمارة
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/261). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/192) وعزاه لابن جرير.
(2) ... زاد المسير (1/386).
(3) ... في تفسير مجاهد (ص:126-127) عن عطاء بن السائب قال: اعتقل لسانه من غير مرض.(1/184)
بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة (1) .
قال الثعلبي (2) : قول قتادة قول أكثر المفسِّرين.
قلت: وهو قولٌ يخالف ظاهر القرآن (3) .
فإن قيل: ما الحكمةُ في اختصاص الآية باعتقال لسانه عن مخاطبة الناس فقط؟
قلت: ليوفّر زمانه على شكر هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة.
{ واذكر ربك كثيراً } أي: ذكراً كثيراً. { وسبح } بمعنى: صَلِّ، في قول عامة المفسِّرين. وسميت الصلاة تسبيحاً؛ لاشتمالها على تنزيه الله تعالى وتسبيحه. والعشيّ: جمع عشيّة، وهي من وقت نزول (4) الشمس إلى أن تغيب (5) ، والإِبْكار مصدر: أَبْكَرَ يُبْكِرُ. ويقال: بَكَّرَ يُبَكِّرُ (6) ، والمراد: ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/260)، وابن أبي حاتم (2/645). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/192) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) تفسير الثعلبي (3/66). والثعلبي هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو إسحاق الثعلبي، صاحب التفسير، كان أوحد زمانه في علم القرآن. توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة (طبقات المفسِّرين للداوودي 1/66، وسير أعلام النبلاء 17/435).
(3) ... قال النحاس: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام، قول مرغوب عنه؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا أنه أذنب، ولا أنه نهاه عن هذا (إعراب القرآن للنحاس 1/375).
(4) ... أي: من الزوال، وانظر: الماوردي (1/391).
(5) انظر: تفسير مجاهد (ص:127).
(6) انظر: اللسان، مادة: (بكر).(1/185)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ اححب
قوله: { وإذ قالت الملائكة } وهو جبريل، { يا مريم إنّ الله اصطفاك }(1/186)
بالقبول والنَّبات الحسن، وتكليم جبريل، وولادة المسيح عيسى من غير أب، وغير ذلك، { وطهّرك } من دنس الآثام.
وقال ابن عباس: من الحيض (1) .
وقيل: طهّرك من مسّ الرجال (2) .
وقال مجاهد: من الكفر (3) .
وقال مقاتل (4) : من الفاحشة والإثم.
{ واصطفاك } ثانياً على نساء عالمي زمانك بالفضل، أو هو على عمومه. ويكون الاصطفاء الذي امتازت به على نساء العالمين: ولادتها عيسى من غير أب.
وفي الصحيحين من حديث علي، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" (5) .
وفي صحيح مسلم (6) : "فأشار وكيع إلى السماء والأرض".
وفيهما أيضاً من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كَمُلَ مِن
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (2/647) عن السدي. وذكره الواحدي في الوسيط (1/435) ، والسيوطي في الدر المنثور (2/195) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (1/435)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/387).
(3) ذكره الماوردي (1/392)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/387).
... وفي تفسير مجاهد (ص:127): جعلك طيبة إيماناً.
(4) ... تفسير مقاتل (1/170).
(5) ... أخرجه البخاري (3/1265 ح3249)، ومسلم (4/1886 ح2430).
(6) ... أخرجه مسلم (4/1886 ح2430).(1/187)
الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِن النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (1) .
قوله عز وجل: { يا مريم اقنتي لربك } قال ابن عباس: قومي في الصلاة بين يدي ربك (2) .
وقال مجاهد: أطيلي القيام في الصلاة (3) .
وقال قتادة: أطيعي ربك (4) .
فإن قيل: كيف قدّم السجود على الرّكوع؟
قلت: الواو للجمع، لا للترتيب لأنها نظير التثنية، على أنّه قد قيل: إن السجود في شريعتهم كان مقدَّماً على الركوع (5) .
وفي قوله: { واركعي مع الراكعين } أَمْرٌ لها بالجماعة، أو يكون المعنى: كوني في عِدادِ الراكعين، وانتظمي في سلكهم.
وأراد بالراكعين: الرجال والنساء، إذ لو كان المراد النساء فقط لقال: مع الراكعات.
قال مجاهد: سجدت حتى قرحت (6) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1252 ح3230)، ومسلم (4/1886 ح2431).
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (1/436).
(3) ... أخرجه الطبري (3/264). وذكره الواحدي في الوسيط (1/436)، والسيوطي في الدر (2/195) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (3/265). وذكره السيوطي في الدر (2/195) وعزاه لابن جرير.
(5) ... ذكره أبو سليمان الدمشقي. انظر: زاد المسير (1/388).
(6) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/388).(1/188)
وقال الأوزاعيّ: قامت في الصلاة حتى تورّمت قدماها وسالتا دماً وقيحاً (1) .
قوله: { ذلك } إشارة إلى ما اقتصه على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ، من أخبار زكريا، ويحيى، ومريم، وعيسى.
{ من أنباء الغيب } أي: مما غاب عنك يا محمّد علمه.
{ نوحيه إليك } أي: نلقيه عليك بإرسال جبريل إليك، { وما كنت لديهم } أي: ما كنت حاضراً عندهم، { إذ يلقون أقلامهم } وهي التي يكتبون بها. وقيل: عصيّهم، { وما كنت لديهم إذ يختصمون } أيهم يكفل مريم تنافساً فيها.
فإن قيل: معلومٌ قطعاً أنه لم يكن عندهم، فما الفائدة في الإخبار عن ذلك؟
قلت: إقامةُ الحُجَّة على الكفار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأنّ طريق العلم بالشيء، إما الرؤية أو السماع، وقد علموا قطعاً أن محمداً لم يكن من أهل الكتاب، ولا متشاغلاً بسماع العلم ولا دراسته، ولا كان حاضراً عند أسلافهم.
فإذا حدّثهم بما لا يعلمه إلاّ الراسخون في العلم منهم، من أنباء أنبيائهم وقصص أسلافهم، ظهرت الحُجَّة عليهم بأنه بطريق الوحي.
فإن قيل: لم سمّي عيسى المسيح؟
قلت: فيه أوجه:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/265) والثعلبي (3/67)،. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/195) وعزاه لابن جرير.(1/189)
أحدها: أنه لم يمسح ذا عاهة إلا برأ (1) . ففعيل هنا في تأويل فاعل.
الثاني: أنه كان مسيح القدمين، رواية عن ابن عباس (2) .
الثالث: أنه كان ممسوحاً بالبركة. قاله الحسن (3) .
الرابع: لكونه ولد ممسوحاً بالدّهن. حكاه أبو سليمان (4) الدمشقي (5) ، وفعيل في تأويل مفعول على هذه الأقوال.
الخامس: لكونه مسح الكفر.
السادس: أن المسيح: الصِّدِّيق. قاله مجاهد (6) ، وهو ينزع إلى قول الحسن، لأنه لما مُسح بالبركة، وطُهِّر من الذنوب صار صِدِّيقاً.
__________
(1) ... الوسيط (1/437-438)، وزاد المسير (1/389).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/389).
(3) ... أخرجه الطبري (3/270) عن سعيد. وذكره الماوردي (1/394)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/389)، والسيوطي في الدر المنثور (2/198) وعزاه لابن جرير عن سعيد.
(4) ... محمد بن عبد الله بن سليمان السعدي، أبو سليمان الدمشقي، كان شافعياً، أشعرياً، كثير الاتباع للسُنَّة، صنف كتباً في التفسير (طبقات المفسِّرين للسيوطي ص:103، وطبقات المفسِّرين للداودي (2/164).
(5) ... زاد المسير (1/389).
(6) ... أخرجه الطبري (3/270)، وابن أبي حاتم (2/651) كلاهما عن إبراهيم النخعي. وذكره الواحدي في الوسيط (1/438) من قول النخعي ، وابن الجوزي في زاد المسير (1/389) من قول مجاهد، والسيوطي في الدر المنثور (2/198) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي.(1/190)
السابع: أنه سمّي مسيحاً؛ لأنه مَسَحَ الأرض، وقطعها بالسّياحة (1) . فعلى هذا القول: الميم زائدة، وعلى الأقوال التي قبله: الميم أصلية.
وسمّي الدجّال مسيحاً؛ إما لكونه ممسوح إحدى العينين؛ أو لقطعه الأرض بالسياحة (2) . فالأول: فعيل في تأويل مفعول. والثاني: في تأويل فاعل. قال الشاعر:
........................... ... إِنَّ المَسِيحَ يَقْتُلُ المَسِيحَا (3)
ّŒخ) قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
__________
(1) ... زاد المسير (1/389).
(2) ... ذكره الثعلبي (3/68)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/389).
(3) ... انظر الرجز في: اللسان، مادة: (مسح)، ونهذيب اللغة، مادة: (مسح)، والقرطبي (4/89)، ودلائل النبوة للأصبهاني (1/69).(1/191)
الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ احذب
فإن قيل: ما الحكمة في نسبته إليها حين واجهها الملك بالبشارة، فقال: { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } .
قلت: تنبيهاً على أنه آيةٌ لله، مُصوَّرٌ بكلمته، وليس له أب يُنسب إليه، إنما ينسب إليها.
قوله: { وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال الزّجّاج (1) : الوجيه: ذو المنزلة الرفيعة عند ذي القدر والمعرفة.
والمعنى: وجيهاً في الدنيا بالنبوّة، والآيات التي خُصَّ بها، وفي الآخرة بالشفاعة، وارتفاع المنزلة عند الله.
__________
(1) معاني الزجاج (1/412).(1/192)
"وجيهاً" حال من "كلمة".
فإن قيل: "كلمة" نكرة، فكيف يصحّ الحال منها؟
قلت: تَخَصَّصَتْ بالوصف، فقربت من التعريف، ومثل ذلك: { ومن المقربين } (1) .
{ ويكلمُ الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين } أي: يبشركِ به موصوفاً بهذه الأوصاف.
قوله: { في المهد وكهلاً } حالان من الضمير في "يُكَلِّمُ" (2) .
قال ابن عباس: تَكَلَّمَ ساعة في مهده، ثم لم يتكلّم حتى بلغ مبلغ النطق (3) .
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ... ثم ساق الحديث إلى آخره" (4) .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لما كَانَتْ اللَّيْلَةُ التي أُسْرِيَ بي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَة؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَولادِها، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذاتَ يَوْمٍ إِذ سَقَطَ المُدَرِيُّ مِنْ يدها فَقَالَتْ: بسم الله، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْن: أَبي؟ قَالَت:
__________
(1) انظر: التبيان (1/134)، والدر المصون (2/95-96).
(2) ... انظر: التبيان (1/134)، والدر المصون (2/97).
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/390)، والسيوطي في الدر المنثور (5/510).
(4) ... أخرجه البخاري (3/1268 ح3253)، ومسلم (4/1976-1977 ح2550).(1/193)
لا، وَلَكِن رَبي وَرَبُّ أَبيكِ الله، قَالَت: أُخْبره بذا؟ فقَالَت: نَعَم، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانة، وَإِنَّ لَكِ رَبّاً غَيْرِي؟ قَالَت: نَعَم، رَبي وَرَبُّك الله، فَأَمَرَ ببَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادهَا فِيهَا، قَالَت: إِنَّ لي إِلَيْكَ حَاجَة، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَت: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي في ثوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذاك لَكِ عَلَيْنَا [من الحق] (1) ، قَالَ: فَأَمَرَ بأَوْلادِهَا، فَأُلقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِداً وَاحِداً، إِلى أَن انْتَهَى ذلِكَ إِلَى صَبيٍّ لَهَا يرْضع، فكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ (2) مِنْ أَجْلِهِ، قَال: يَا أُمَّاه، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَاب الآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ.
قال ابن عباس: تَكَلَّمَ أَرْبَعَة صغار: عِيسى ابن مَرْيَم، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُف، وَابْنُ مَاشِطَةِ [ابْنَةِ] (3) فِرْعَوْنَ" (4) .
فإن قيل (5) : ما الحكمة في تكليمه الناس في المهد؟
قلت: الحكمة في ذلك تنزيه أمه، وتحقيق معجزته.
قال ابن الأنباري (6) : من أربى على الثلاثين فقد دخل في الكهولة. سمّي
__________
(1) ... زيادة من مسند أحمد (1/309).
(2) ... قَعَسَ وتَقَاعَسَ: تأخر ورجع إلى خلف (اللسان، مادة: قعس).
(3) ... زيادة من مسند أحمد (1/309).
(4) ... أخرجه أحمد (1/309 ح2822). ... قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/480): ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيداً بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد.
(5) ... كتب مقابلها في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً خامساً ثانية.
(6) ... انظر: زاد المسير (1/390).(1/194)
بذلك؛ لاجتماع قوَّته، وكمال شبابه، من قولهم: اكْتَهَلَ النَّبات (1) .
وقال ابن فارس (2) : الكهل: الرجل حين وَخَطَهُ (3) الشّيب (4) .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله: "وَكَهْلاً" قال: ذلك بعد نزوله من السماء (5) .
وفي الإخبار لها بأنه يتكلم كهلاً بشارة عظيمة بحياته، وأنه يبلغ سن الكهولة.
{ قالت } على وجه التعجّب والاستعلام، مخاطبة لله عز وجل. وقيل: لجبريل، بمعنى: يا سيّدي، فإنّ الرب يطلق بمعنى: السيّد، { رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } أي: لم يجامعني رجل، { قال كذلكِ الله يخلق ما يشاء } بسبب، وغير سبب.
وما بعده إلى آخر الآية مفسّر في البقرة.
çmكJدk=yèمƒur الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
__________
(1) ... انظر: اللسان، مادة: (كهل).
(2) ... أحمد بن فارس بن زكريا، أبو الحسين، اللغوي، القزويني، كان نحوياً على طريقة الكوفيين، توفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة (إنباه الرواة 1/127، وبغية الوعاة 1/352).
(3) ... الوَخْطُ: فُشُوُّ الشَّيْب في الرأس (اللسان، مادة: وخط).
(4) معجم مقاييس اللغة (5/144).
(5) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/390).(1/195)
(48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ(1/196)
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ(1/197)
الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ اخحب
قوله: { ونعلّمه الكتاب } وقرأ نافع وعاصم: "ويُعلِّمه" بالياء (1) ، عطفاً على "يبشرك"، و"يكلّم".
قال ابن عباس: نعلمه كتب النبيين وعلمهم، [ { والحكمة } : الفقه] (2) وقضاء النبيين (3) .
وقيل: الكتاب: الكتابة.
{ ورسولاً } أي: ويكلِّم الناس رسولاً، أو: ونجعله رسولاً. أو هو معطوف على "وجيهاً" (4) .
{ أنّي أخلق لكم } موضعه خفض، بدل من "آية"، أو رفع على معنى: الآية: أنّي أخلق (5) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/21)، ولابن زنجلة (ص:163)، والكشف (1/344)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:174)، والسبعة في القراءات (ص:206).
(2) ... في الأصل: والفقه والحكمة. والتصويب من زاد المسير (1/391).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/391).
(4) ... انظر: التبيان (1/135)، والدر المصون (2/100) وما بعدها.
(5) ... انظر: التبيان (1/135)، والدر المصون (2/104).(1/198)
وقرأ نافع: "إنّي أخلق" بكسر الهمزة (1) على الاستئناف.
ومعنى "أخلق لكم": أقدّر لكم، { من الطين كهيئة الطير } وهو جمع طائر؛ كزائر وزَوْر، { فأنفخ فيه } أي: في الشيء المشابه لهيئة الطير، فيكون الضمير للكاف، وكذا الضمير للكاف في قوله في المائدة: { فَتَنفُخُ فِيهَا } [المائدة:110]، ولا يرجع إلى الهيئة، لأنها ليست من خلق عيسى.
وقال أبو عليّ الفارسي (2) : جائز أن يكون "فيه" للطير، و"فيها" للهيئة. وجائز أن يكون ذَكَّرَ الطير على [المعنى الجمع، وَأَنَّثَّ] (3) على معنى الجماعة.
وقال غيره: "فأنفخ فيه": أي: في الطين (4) .
قال ابن عباس: أخذ طيناً فصنع منه خُفَّاشاً (5) ، ونفخ فيه، فإذا هو يطير (6) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/21)، ولابن زنجلة (ص:164)، والكشف (1/344)، والنشر (2/240).
(2) ... الحجة للفارسي (2/22).
(3) ... في الأصل: معنى الجميع فأنث. والتصويب من الحجة (2/22).
(4) ... انظر: الزجاج في معاني القرآن (1/413).
(5) ... الخُفَّاش: طائر يطير بالليل؛ لأنه يَشُقُّ عليه ضوء النهار (اللسان، مادة: خفش).
(6) ... أخرجه الطبري (3/275) عن ابن إسحاق . وذكره الواحدي في الوسيط (1/439)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/392). وبنحوه السيوطي في الدر المنثور (2/214) وعزاه لابن جرير عن ابن إسحاق.(1/199)
ويقال: لم يخلق سوى الخُفَّاش (1) .
قال أبو سعيد الخدري: قال لهم عيسى: ماذا تريدون؟ قالوا: الخُفَّاش. فسألوه أشدّ الطير خلقاً، لأنه يطير بغير ريش (2) .
وقال وهب: كان الذي صنعه عيسى يطير ما دام الناس ينظرونه، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق (3) .
قرأ نافع هنا وفي المائدة: "فيكون طائراً" (4) على معنى: فيكون ما أخلق طائراً (5) .
قوله: { وأبرئ الأَكْمَهَ } وهو الذي يولد أعمى.
وقيل: هو الأعمى مطلقاً.
وقد قيل: لم يولد في هذه الأمّة أَكْمَه سوى قتادة بن دعامة السدوسي، صاحب التفسير.
{ والأَبْرَص } الذي به وَضَحٌ (6) ، وكان الغالب عليهم (7) طلب الطِّبّ، فأيَّد الله حُجّته، وشيد معجزته بأن أبرأ على يديه ما لا يقدر حُذَّاق الأطباء عليه.
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً، وإنما كان يداويهم بالدعاء (8) .
قوله: { وأحيي الموتى بإذن الله } قال المفسِّرون: أحيا أربعة أنفس: عازر (9) ، وكان صديقاً له، أحياه بعد ثلاثة أيام، وابن العجوز أحياه بعد أن حُمِل على نعشه، فرجع إلى بيته حاملاً نعشه، وابنة عشار، وسام بن نوح (10) .
قال ابن عباس: بقي الأربعة حتى وُلِد لهم إلا سام بن نوح (11) .
وروي أن عيسى دعاه باسم الله الأعظم، فخرج سام من قبره فقال: قد قامت القيامة؟ فقال عيسى: لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له:
__________
(1) زاد المسير (1/392).
(2) ذكره الطبري (3/275)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/392).
(3) ... أخرجه الثعلبي (3/71). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/392).
(4) الحجة للفارسي (2/21)، ولابن زنجلة (ص:164)، والكشف (1/345)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:174-175)، والسبعة في القراءات (ص:206).
(5) وقرأ بقية القرّاء: "فيكون طيراً". قال الطبري (3/275): وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ: { كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً } على الجماع فيهما جميعاً؛ لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخط المصحف، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به أعجب إليّ من خلاف المصحف.
(6) الوَضَحُ: بياض الصبح والقمر والبرص والغرة والتحجيل في القوائم وغير ذلك من الألوان (اللسان، مادة: وضح).
(7) أي: قوم عيسى عليه السلام.
(8) ... أخرجه الطبري (3/278)، والثعلبي (3/72). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/215) وعزاه لابن جرير.
(9) ... عازر كان صديقاً لعيسى عليه السلام، فأرسلت أخته إلى عيسى أن عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له، فعاش وبقي حتى ولد له (الكامل لابن الأثير 1/242).
(10) ذكره الواحدي في الوسيط (1/439)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/392).
(11) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/392).(1/200)
مُتْ، قال: سَلِ الله أن يعيذني من سكرات الموت، فدعا الله ففعل (1) .
قال ابن السائب: كان عيسى يحيي الأموات بـ "يا حيّ يا قيوم" (2) .
قوله: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } قال سعيد بن جبير: كان عيسى في المكتب يقول للغلام: إن أهلك قد هيئوا لك كذا وكذا (3) .
وقيل: ما تأكلون من المائدة، وما تدخرون منها (4) .
والأصل في "تَدَّخِرُون": تَذْتَخِرُونَ، تَفْتَعِلُونَ مِن الذُّخْر، ولكن الدال حرف مجهور، والتاء مهموسة، فأبدل من مخرج التاء حرف يشبه الذال في جهرها وهو الدال، فصارت: تذدخرون، ثم أدغمت الذال في الدال.
قوله: { ومصدِّقاً } أي: وجئتكم مصدِّقاً.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون عطفاً على "وجيهاً" و"رسولاً"؟
قلت: يمنعه من ذلك قوله: { لما بين يديَّ } ، ولم يقل: لما بين يديه (5) .
{ ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم } قال أبو عبيدة (6) : معناه: كل الذي حُرِّم عليكم.
__________
(1) ... ذكره البغوي في تفسيره (1/304).
(2) ... أخرجه الثعلبي (3/73). وذكره القرطبي (3/271).
(3) أخرجه سعيد بن منصور (3/1043)، والطبري (3/279)، وابن أبي حاتم (2/656). وذكره السيوطي في الدر (2/221) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الطبري (3/280)، وابن أبي حاتم (2/256). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/221) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر.
(5) انظر: التبيان (1/136)، والدر المصون (2/108-109).
(6) مجاز القرآن (1/94).(1/201)
وأنكر ذلك عليه أبو إسحاق (1) ، لأن "بعضاً" لا يكون بمعنى "كل"، ولا أَحَلَّ لهم كُلَّ الذي حُرِّم عليهم (2) .
قال قتادة: كان موسى حرَّم عليهم الإبل، والثُّرُوب (3) ، وأشياء من الطير، فأحلّها عيسى (4) .
ثم بَرْهَنَ على النبوة بقوله: { وجئتكم بآية من ربكم } .
ثم نفى البنوّة بقوله: { إن الله ربي وربكم } ، ثم أمرهم بالتوحيد بقوله: { فاعبدوه هذا } إشارة إلى ما قدم ذكره { صراط مستقيم } : طريق مستوٍ يفضي بكم إلى الجنة (5) .
قوله: { فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } أي: عَلِمَهُ منهم علماً لا لبس فيه (6) ، كعلم ما يُدرَك بالحواس، اللائي هي إحدى مدارك اليقين. تقول: أَحْسَسْتُ بالشَّيْءِ وحَسَسْتُ به، فهو مُحَسٌّ، وقول الناس: مَحْسُوس؛ خطأ.
__________
(1) هو الزجاج.
(2) انظر: معاني الزجاج (1/415). قال النحاس في معاني القرآن (1/403): وهذا القول -يعني قول أبي عبيدة- غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل.
(3) الثُّروب: جمع، واحده: ثَرْب، وهو شحم رقيق يغشى الكَرِش والأمعاء (اللسان، مادة: ثرب).
(4) أخرجه الطبري (3/282). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/222) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(5) كتب مقابلها: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً ثانياً.
(6) قاله الزجاج (1/416)، والفرّاء (1/216).(1/202)
{ قال مَن أنصاري إلى الله } قال الأكثرون: "إلى" بمعنى "مع"، كقوله: { إلى المرافق } [المائدة:6]. والعرب تقول: الذَّوْدُ إلى الذَّود إبل (1) .
وقيل: المعنى: مَن أنصاري إلى أن أبيّن أمر الله.
وقيل: "إلى" تتعلق بمحذوف، حالاً من الياء، أي مَن أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه (2) . قال ذلك حين كفروا به، وهمُّوا بقتله.
{ قال الحواريون } أصل التَّحْوير: التنظيف والإخلاص، ومنه: الدقيق الحُوَّاري (3) ؛ لنظافته وخلوصه، والحَوَارِيَّات: الحواضر من النساء؛ سُمِّين بذلك لنظافتهن عن قشف البوادي (4) .
قال الزّجّاج (5) : الحُذَّاق باللغة يقولون: الحواريون صفوة الأنبياء الذين أخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم.
ومنه قوله عليه الصلاة السلام: "الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوَارِيَّ مِنْ أُمَّتِي" (6) .
قال ابن عباس: الحواريون أصفياء عيسى عليه السلام، قال: وكانوا اثني عشر رجلاً، يصطادون السمك (7) .
__________
(1) انظر: الطبري (3/284).
(2) قاله الزمخشري في الكشاف (1/393).
(3) ... أي: الأبيض الخالص.
(4) ... انظر: اللسان، مادة: (حور).
(5) ... معاني الزجاج (1/417).
(6) ... أخرجه أحمد (3/314 ح14414).
(7) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/394، 395).(1/203)
وقال في رواية أخرى: كانوا قَصَّارين (1) ، يُحَوِّرُون الثياب (2) ، أي: يُبَيِّضُونَها.
وقال ابن المبارك: سمُّوا حواريين؛ لأنهم كانوا ربانيين (3) ، عليهم أثر العبادة ونورها، وحسنها، قال الله تعالى: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } (4) [الفتح:29].
وحكى ابن الأنباري: أنهم المجاهدون (5) ، وأنشدوا:
....................... ... ... وَنَحْنُ حَوَارِيُّونَ حِينَ نُزاحِفُ (6)
وقد سبق إنشاد البيتين عند قوله: { فمن خاف من موص جنفاً } [البقرة:182].
{ نحن أنصار الله } أي: أنصار دينه ورسوله، { آمنا بالله واشهد } يا عيسى أو يا ربنا { بأنّا مسلمون } .
__________
(1) ... القَصَّارون: جمع قَصَّار، وهو الذي يغسل الثياب.
(2) ... أخرجه الطبري (3/287) عن أبي أرطاة، وبنحوه في ابن أبي حاتم (2/659) عن الضحاك، ومجاهد (ص:128). وذكره الماوردي (1/395) من قول ابن أبي نجيح ، والواحدي في الوسيط (1/441) عن عطاء، والسيوطي في الدر المنثور (2/223) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن أبي أرطاة.
(3) ... في تفسير الثعلبي: نورانيين.
(4) ... انظر: تفسير الثعلبي (3/77)، والبغوي (1/306).
(5) ... زاد المسير (1/394).
(6) ... عجز بيت وصدره: (ونحنُ أناسٌ يملأُ البيضَ هَامُنا). انظر البيت في: زاد المسير (1/394)، والدر المصون (2/113).(1/205)
{ ربنا آمنّا بما أنزلت } يعنون: الإنجيل، { واتبعنا الرسول } عيسى، { فاكتبنا مع الشاهدين } أي: أثبت أسماءنا مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق.
قال ابن عباس: هم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته (1) .
قوله: { ومكروا ومكر الله } ، المكْر: الاحتيال، والخديعة.
قال ابن عباس: عامة بني إسرائيل كفروا بعيسى، وهمُّوا بقتله اغتيالاً، فجازاهم الله على مكرهم، فرفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من دَلَّهم عليه، فَصُلِب (2) .
قال رجل للجنيد (3) : كيف رضي المكرَ لنفسه، وقد عاب به غيره؟ فقال: ما أدري ما تقول، ولكن أنشدتني فلانة [الطبرانية] (4) :
فَدَيْتُكَ قَدْ جُبلْتُ عَلَى هَوَاكَا ... فَنَفْسِي لا تُنَازِعُنِي سِواكَا
أُحِبُّكَ لا ببَعْضِي بَلْ بكُلِّي ... وَإِنْ لَمْ يُبْقِ حُبُّكَ بي حِراكَا
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (2/660)، والطبراني في الكبير (11/279). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/223) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.
(2) ... ذكره الطبري (6/454)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/395)،
(3) ... الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز، أبو القاسم القواريري، الزاهد المشهور، شيخ الصوفية، وأحد العارفين، شيخ وقته وفريد عصره في علم الأحوال والكلام، وله أخبار مشهورة وكرامات مأثورة. توفي ببغداد سنة ثمان وتسعين ومائتين (حلية الأولياء 10/255، وتاريخ بغداد 7/241، ووفيات الأعيان 1/373).
(4) ... في الأصل: الطنبرانية. والمثبت من تفسير الثعلبي. وكذا وردت في الموضع التالي.(1/206)
وَيَقْبحُ مِنْ سِواكَ الفِعْلُ عِنْدِي ... وَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذاكَا (1)
فقال الرجل: أسألك عن آية من كتاب الله، وتجيبني عن شعر فلانة الطبرانية، فقال: ويحك! قد أجبتك إن كنتَ تعقل، إن تخليته إياهم مع المكر به، مكر منه بهم (2) .
{ والله خير الماكرين } أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً.
ّŒخ) قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
__________
(1) الأبيات لأبي نُواس، انظر ديوانه: (ص:473).
(2) ذكره الثعلبي (3/79).(1/207)
(55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ اخرب
قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } "إذ" ظرف لـ "خير الماكرين"، أو لـ "مكر الله" (1) .
__________
(1) قاله الزمخشري في الكشاف (1/394).(1/208)
قال ابن قتيبة (1) : التوفّي من استيفاء العدد. يقال: تَوَفَّيْتُ واسْتَوْفَيْتُ (2) .
قال الحسن وابن جريج وابن قتيبة (3) والفرّاء (4) في آخرين: المعنى: إني قابضك [من الأرض] (5) وافياً تاماً، من غير أن تنالَ اليهود منك شيئاً (6) .
{ ورافعك } من الدنيا، { إليّ } من غير موت.
وقال الربيع بن أنس: المعنى: إني مُنيمك، ورافعك إليّ في نومك (7) ، من قوله: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم باللَّيْلِ } [الأنعام:60].
وقال بعض أهل المعاني: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك (8) .
قال وهب بن منبه: كساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فصار ملكياً إنسياً، سمائياً أرضياً (9) .
فعلى هذه الأقوال الكلام على نظمه.
__________
(1) انظر: زاد المسير (1/396).
(2) انظر: اللسان، مادة: (وفى).
(3) تفسير غريب القرآن (ص:106).
(4) ... معاني الفرّاء (1/219).
(5) زيادة من الوسيط (1/441)، وزاد المسير (1/396).
(6) أخرجه الطبري (3/290)، وابن أبي حاتم (2/661-662) عن الحسن. وذكره الماوردي (1/397)، والواحدي في الوسيط (1/441)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/396)، والسيوطي في الدر المنثور (2/225) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن.
(7) أخرجه الطبري (3/289)، وابن أبي حاتم (2/661). وذكره الماوردي (1/397).
(8) نسبه الثعلبي في تفسيره (3/82) إلى أبي بكر الواسطي.
(9) أخرجه الطبري (23/94) من حديث ابن إسحاق. وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/118) وعزاه لابن عساكر عن وهب.(1/209)
وروي عن ابن عباس أنه قال: "إني متوفيك" أي: مميتك (1) .
ثم اختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه على نظمه أيضاً.
قال وهب: توفاه الله ثلاث ساعات من النهار، ثم رفعه إليه (2) .
الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، معناه: إني رافعك إليّ ومطهرك ومتوفيك بعد إنزالك من السماء (3) .
وتكون الحكمة في إعلامه بوفاته بعد إنزاله من السماء تعريفه أن رفعَه إلى السماء غيرُ عاصم له من الموت المحتوم على أولاد آدم.
قوله: { ورافعك إليّ } قال سعيد بن المسيب: رُفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة (4) .
وقال غيره: حملت به مريم وهي ابنة ثلاث عشرة سنة، وولدته ببيت لحم من أرض أُوْرِي شَلَّمْ (5) لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر
__________
(1) أخرجه الطبري (3/290)، وابن أبي حاتم (2/661). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/224) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (3/291)، وابن أبي حاتم (2/661). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/224) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ذكره الطبري (3/291). ورواه ابن أبي حاتم (2/661) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/225) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/590، 7/388)، والحاكم (3/302). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/226) وعزاه لابن سعد وأحمد في الزهد والحاكم.
(5) هو اسم بيت المقدس، ومعناه بالعبرانية: بيت السلام (اللسان، مادة: أور).(1/210)
على أرض بابل، وأوحي إليه على رأس ثلاثين سنة، ورُفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، فكانت نبوته ثلاث سنين (1) .
قال مقاتل (2) : رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان.
وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين (3) ، ولما صُلِب شَبَهُهُ جاءت مريم تبكي عنده، فجاءها عيسى فقال: عَلامَ تبكين؟ قالت: عليك، فقال: إن الله رفعني، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شُبِّهَ لهم (4) .
قال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل ليصلبوه، فلما أرادوا صلبه أظلمت الأرض، فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم، وصلبوا مكانه رجلاً يقال له: يهوذا، وهو الذي دَلَّهُم عليه، وذلك أن عيسى عليه السلام جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال: لَيكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرَّقوا، وكانت اليهود
__________
(1) ... أخرج الحاكم نحوه (2/651) عن وهب. وذكره الثعلبي في تفسيره (3/80)، وذكره أيضاً في عرائس المجالس (ص402-403)، ونسبه إلى التوراة. وذكر نحوه السيوطي في الدر المنثور (2/225) وعزاه للحاكم عن وهب.
... وفي هامش الأصل: عن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته بَزَرَتْهُ. وقيل: ستة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، وقيل: ثمانية. ولم يعش مولود وُضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: حملته في ساعة، وصُوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة. هذا ذكر في سورة مريم [انظر: الآية رقم: 22].
(2) ... تفسير مقاتل (1/173).
(3) ... تفسير الثعلبي (3/80)، وزاد المسير (1/397).
(4) ... أخرجه الطبري (6/13) عن وهب، والثعلبي (3/80). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/730) وعزاه لابن جرير عن وهب.(1/211)
[تطلبه] (1) ، فأتى الحواري إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إنْ دَلَلْتُكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين (2) درهماً، فأخذها ودلَّهم عليه، فألقى الله عليه شَبَهَ عيسى لما دخل البيت، ورُفع عيسى، فأُخِذَ الذي دلّهم عليه، فقال: أنا الذي دَلَلْتُكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنون أنه عيسى (3) .
قوله: { ومطهرُك من الذين كفروا } أي: مُخْرِجك من بين أظهرهم، فإنهم أرجاس.
{ وجاعل الذين اتبعوك } قال ابن زيد: هم النصارى، { فوق الذين كفروا } وهم اليهود، فاليهود مقهورون مستذلون (4) .
وأنكر هذا القول حُذَّاق العلماء، وقالوا: والله ما اتبعه مَن ادعاه رباً (5) .
قال قتادة والربيع والشعبي في آخرين: "وجاعل الذين اتبعوك": هم أمة محمد، لأنهم صدَّقوا بنبوته، وأنه روح الله وكلمته (6) .
وعلى قول ابن زيد: معنى المتابعة لعيسى: محبته والميل إليه.
__________
(1) ... في الأصل: تطلبهم. والتصويب من مصادر التخريج.
(2) ... في تفسير الثعلبي (3/80): مائتي درهم.
(3) ... أخرجه الطبري (6/13)، والثعلبي في تفسيره (3/79-80)، وفي عرائس المجالس (ص:400). وذكره السيوطي في الدر (2/729) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (3/293). وذكره السيوطي في الدر (2/227) وعزاه لابن جرير.
(5) الوسيط (1/442).
(6) أخرجه الطبري (3/292)، وابن أبي حاتم (2/662)، والثعلبي (3/83). وذكره الواحدي في الوسيط (1/442)، والسيوطي في الدر (2/226) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.(1/212)
{ فوق الذين كفروا } بالبراهين والحجج، أو بالعزّ والغلبة، { ثم إليّ مرجعكم } هذا رجوع من المغايبة إلى المخاطبة، { فأحكم بينكم } حكم مجازاة، وإلا فقد حكم بينهم بالحجج والبراهين وبيان الحق من الباطل.
ألا تراه يقول: { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا } بالقتل والسبي والنفي والجزية والعار، { والآخرة } بالنار.
{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم } قرأ حفص "فيوفيهم" بالياء، وهي قراءة الحسن، حملاً على ما قبله من لفظ الغيبة في قول الله: { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } . وقرأ الباقون: "فنوفيهم" بالنون، على الإخبار عن الله تعالى (1) .
{ ذلك } (2) إشارة إلى ما سبق من خبر عيسى وغيره، وهو مبتدأ، خبره { نتلوه عليك من الآيات } خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون "ذلك" منصوباً بمضمر (3) يفسره "نتلوه".
{ من الآيات } وهي الدلالات على صدقك، وصحة نبوتك، { والذكر الحكيم } هو القرآن المحكم في نظمه، ومعانيه.
وقيل: الذكر الحكيم: اللوح المحفوظ، وهو دُرَّة بيضاء معلَّقة بالعرش.
cخ) مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
__________
(1) الحجة للفارسي (2/22)، والحجة لابن زنجلة (ص:164)، والكشف (5/345)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:175)، والسبعة في القراءات (ص:206).
(2) كتب مقابلها: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً سادساً مرة ثانية.
(3) ... انظر: التبيان (1/137)، والدر المصون (2/117).(1/213)
كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ(1/214)
إِلَّا اللَّهُ وَإِن اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ادجب
وقد روي عن الحسن البصري قال: جاء راهبا نجران (1) إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليهما الإسلام، فقالا: إنا قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من ذلك ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما: لله ولد. قالا: فمن أبو عيسى؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: { إن مثل عيسى عند الله ... -إلى قوله:- فلا تكن من الممترين } (2) .
والمعنى: إن مَثَلَ عيسى عند الله في الخلق والإنشاء من غير أب وإيجاده إيجاداً خارقاً للعادة، كمَثَلِ آدم، وكون آدم خُلِق من غير أبوين لا يمنع من تشبيه عيسى به في أحد الطرفين، إذ المماثلة لا تقتضي المشاركة من كل وجه، وفي ضمن تمثيل عيسى بآدم قطعٌ لحُجَّة الخصم بأبلغ الطرق، حيث اعتقد استحقاق عيسى للإلهية بإيجاده من غير أب، فأورد عليه ما هو
__________
(1) ... وهما السيد والعاقب؛ كما في الدر المنثور (2/228) عن ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.
(2) ... أخرجه ابن أبي حاتم (2/664)، والواحدي في أسباب النزول (ص:106-107). وذكره السيوطي في لباب النقول (ص:52) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/215)
أعجب من عيسى، وهو آدم.
وبلغنا أن بعضَ العلماء أسرته الروم، ففاوضوه يوماً في ذكر عيسى، فقال: لِمَ تعبدونه؟ فقالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: كان يُحْيي الموتى، قال: فحزقيل (1) أولى، لأن عيسى أحيا أربعة أنفس وحزقيل أحيا ثمانية آلاف، قالوا: فكان يبرئ الأكمه والأبرص، قال: فجرجيس (2) أولى لأنه طُبخ وأُحْرِق، ثم قام سالماً (3) .
قوله: { خلقه من تراب } يعني: صوَّره وقدَّره جسداً من طين، لا روح فيه. { ثم قال له } أي لآدم، وقيل: لعيسى، { كن فيكون } أي: فكان، وقد قررنا مثل ذلك في قوله: { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } [البقرة:102].
{ الحق من ربك } ، أي: هذا الحق من ربك، أو أتاك الحق، أو هو مبتدأ وخبر.
ثم خاطب المؤيّد بالعصمة بالنهي عن الامتراء، وهو: الشك فيما جاءه من الأنباء، لينبه الغافل، ويثبت العاقل، فقال: { فلا تكن من الممترين } .
قوله: { فمن حاجّك فيه } أي: في عيسى، وقيل: في الحق.
{ فقل تَعَالَوْا } قال الفرَّاء: أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة
__________
(1) ... حزقيل وهو الذي يقال له: ابن العجوز؛ لأن أمه سألت الله الولد وقد كبرت فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله (الكامل 1/160). والله أعلم بصحة هذه الرواية.
(2) ... جرجيس: رجل صالح من أهل فلسطين، أدرك بقايا من حواريي عيسى عليه السلام (الكامل 1/285، والمنتظم 2/148).
(3) ... ذكره النسفي في تفسيره (1/157).(1/216)
استعمالهم إياها صارت عندهم بمنزلة "هلم" حتى استجازوا أن يقولوا للرجل وهو فوق شرف: تعال، أي: اهبط (1) .
وقرأ الحسن: تعالُوا -بضم اللام- (2) ، والأصل فيه: تعالَيُوا، تفاعَلُوا من العلو، فاستثقلوا الضمة على الياء فأسكنوها ثم حذفوها وبقيت اللام على فتحها (3) . ومَن ضمّ نقل حركة الياء المحذوفة إلى اللام.
{ نَدْعُ أبناءنا } أي: يَدْعُ كل مني ومنكم. وأبناؤه - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وابناها (4) ، { وأنفسنا وأنفسكم } يعني: نفسه الكريمة.
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمة الله عليه (5) : في قوله: "وأنفسنا"، خمسة أقوال:
أحدها: أنه أراد عليّ بن أبي طالب. قاله الشعبي، والعرب تُخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه.
والثاني: أنه أراد الإخوان. قاله ابن قتيبة (6) .
والثالث: أراد أهل دينه. قاله أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: أراد الأزواج.
والخامس: القرابة القريبة.
__________
(1) لم أقف عليه في معاني الفراء. وعزاه ابن الجوزي له في زاد المسير (1/399).
(2) إعراب القراءات الشواذ (ق/ 43/أ)، وهي قراءة شاذة.
(3) انظر: التبيان (1/138)، والدر المصون (2/121).
(4) أي: أبناء فاطمة؛ الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.
(5) زاد المسير (1/399).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:106).(1/217)
وفي صحيح مسلم من حديث سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ، قال: "لما نزلت هذه الآية: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيّاً وَفَاطِمَة وَحَسَناً وَحُسَيْناً، فقال: اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلِي" (1) .
قال العلماء بالتفسير: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران إلى المباهلة (2) ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوتُ فأمّنوا. فقال أَسْقُفّ (3) نجران: يامعشر النصارى! إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً عن مكانه لأزاله، فلا تُباهِلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قبلوا الجزية، وصالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدوا إليه في كل سنة ألفي حُلَّة وثلاثين درعاً من حديد، عارية مضمونة، وانصرفوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمُسِخوا قردة وخنازير، ولاضْطَّرم الوادي عليهم ناراً، ولاسْتَأْصَلَ الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولَمَا حال الحَوْل
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/1871 ح2404).
(2) ... المباهلة: الملاعنة، وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا (اللسان، مادة: بهل).
(3) ... الأسقف: رئيس من رؤساء النصارى فوق القسيس ودون المطران (المعجم الوسيط 1/436).(1/218)
على النصارى حتى هلكوا" (1) .
{ ثم نَبْتَهِل } نَفْتَعِل، من البُهْلَة -بضم الباء وفتحها- وهي اللَّعْنَة، ويكون الابتهال بمعنى: الدعاء والتضرع، فالمعنى: نجتهد في الدعاء على الكاذب. والمعنيان مرويان عن ابن عباس (2) .
قوله: { إن هذا } يعني: الذي أوحاه إليه، { لهو القصص الحق } "هو" فصل، وجاز دخول اللام عليها -وهي فصل- لأنها أقرب إلى المبتدأ من الخبر.
والخبر تدخل عليه اللام التي أصلها للمبتدأ، فدخولها على ما هو أقرب أولى، أو يقال: "لهو" مبتدأ، "القصص" خبره، والجملة خبر "إنّ" (3) .
{ وما من إله إلا الله } ردٌّ على النصارى، وتكذيبٌ لهم في اعتقادهم التثليث. ودخلت "مِنْ" هاهنا توكيداً للنفي (4) .
و"إله" في موضع رفع بالابتداء، والخبر "إلا الله" (5) .
{ فإن تولَّوا } أعرضوا عن المباهلة، أو عن هذا البيان الواضح، { فإن
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/299-301)، والحاكم (2/649). وذكره الثعلبي (3/85)، والواحدي في الوسيط (1/444)، وأسباب النزول (ص:107)، والسيوطي في الدر المنثور (2/230-231) وعزاه للحاكم وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/668)، وذكره الواحدي في الوسيط (1/445)، والسيوطي في الدر المنثور (2/233) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) انظر: التبيان (1/138)، والدر المصون (2/123).
(4) ذكر هذا الزجّاج في معانيه (1/424).
(5) انظر: التبيان (1/138)، والدر المصون (2/123).(1/219)
الله عليم بالمفسدين } فيستحقون مضاعفة العذاب، مضافاً إلى العذاب المستحق بسبب الكفر، ويشهد لذلك قوله: { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَاب بمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [النحل:88].
ِ@è% يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ادحب
قوله: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } وهي: "لا إله إلا الله"، ولعمري إنها كلمات، ولكن العرب تسمى الكلام المشتمل على شرح قصة: "كلمة"، وقد سبق ذكره.
{ سواء بيننا وبينكم } أي: عدل بيننا وبينكم، وكذلك هي في قراءة ابن(1/220)
مسعود (1) .
قال الزجاج (2) : يقال للعدل: سَواء وسَوىً وسُوىً. قال زهير بن أبي سلمى:
أَرُونِي خُطَّةً لاَ ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
فَإِنْ نَزَلَ السَّوَاءُ فَلَيْسَ بَيْنِي ... وَبَيْنكُم بَنِي حصن بَقَاءُ (3)
فالمعنى: هلموا إلى كلمة عادلة، مستوية بيننا وبينكم، لا تختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن.
وقرأ الحسن البصري: "سواءً"، بالنصب، على معنى: استوت سواء (4) .
"ألا نعبد" بدل من "كلمة"، أو في موضع رفع، على معنى: هي (5) .
{ ألا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } كما اتخذتم عيسى وعُزيراً، وهم بشر مثلنا، أو لا نطيع الأحبار في ما حرَّموا وحلَّلوا من غير شريعة، كما قال: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً من دُونِ الله }
__________
(1) انظر: مختصر الشواذ لابن خالويه (ص:23)، والطبري (3/303).
(2) معاني الزجاج (1/425).
(3) البيتان لزهير بن ربيعة المزني، شاعر جاهلي، أحد أصحاب المعلقات. انظر: ديوانه (ص: 21)، وفيه: "أرونا سنة" بدل "أروني خطة". ... وانظر البيت الأول في: اللسان، مادة: (سوا)، والبحر المحيط (2/507)، والدر المصون (1/104، 125)، والقرطبي (4/106، 11/212)، وزاد المسير (1/402)، والحجة للفارسي (1/162)، وتهذيب اللغة (13/126).
(4) انظر: البحر المحيط (2/506).
(5) انظر: التبيان (1/138)، والدر المصون (2/125).(1/221)
[التوبة:31].
{ فإن تولَّوا } أعرضوا عن التوحيد، وعن ما أتيتم به من الهدى والبيان { فقولوا } على وجه التضليل لآرائهم، والتقريع لهم: { اشهدوا } اعْلَموا، وأَعْلموا مَن وراءكم، { بأنّا مسلمون } مستسلمون منقادون للحق، إذ تعاصيتم عليه، ونكصتم عنه. وبهذه الآية العظيمة دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيصرَ ملكَ الروم إلى الإسلام حين كتب إليه يقول: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى قيصر عَظِيمِ الرُّومِ: سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْد: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلام أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ (1) ، و { يَا أَهْلَ الكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُون } " (2) .
ں@÷dr'¯"tƒ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا
__________
(1) المراد بهم: الخَدَمُ والخَوَلُ، يعني: بصده لهم عن الدين (تاج العروس، مادة: أرس).
(2) أخرجه البخاري (1/9 ح7)، ومسلم (3/1396 ح1773).(1/222)
تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِن أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ادرب
قوله عز وجل: { يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم } قال ابن عباس:(1/223)
اجتمع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أحبار اليهود، ونصارى نجران، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانياً، فنزلت هذه الآية (1) .
{ وما أنزلت التوراة } التي حدثت اليهودية بعد نزولها، { والإنجيل } الذي نزلت النصرانية بعد نزوله، { إلا من بعده } أي: من بعد موت إبراهيم بدهر طويل، فبين إبراهيم وموسى نحو من ستمائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف وثمانمائة سنة.
{ أفلا تعقلون } استحالة ما ادعيتم، وقبح ما أتيتم، فتُحجمون عن الجدال بالمحال.
قوله: { ها أنتم } قرأ نافع وأبو عمرو بتليين الهمز مع المد، وقرأ ابن كثير بالقصر والهمز، على وزن: هَعَنْتُمْ، وقرأ الباقون بالمد والهمز (2) ، وأصله: "ءأنتم" فقلبت الهمزة هاء، فعلى هذا هو استفهام في معنى التعجب من جهلهم.
و قيل: "ها" للتنبيه، "أنتم" مبتدأ، { هؤلاء } خبره (3) .
{ حاججتم } جملة مستأنفة مبيِّنة للجملة الأولى، على معنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيان حماقتكم وجهلكم أنكم { حاججتم فيما لكم به علم
__________
(1) أخرجه الطبري (3/305). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/235) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل. وذكره في لباب النقول (ص:53).
(2) ... الحجة للفارسي (2/22-23)، والحجة لابن زنجلة (ص:165)، والكشف (1/346)، والنشر (1/401-402)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:175-176)، والسبعة في القراءات (ص:207).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/139)، والدر المصون (2/129).(1/224)
فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم } ، وقيل: "هؤلاء" [بمعنى: الذين، و"حاججتم"] (1) صلته، { والله يعلم } دين إبراهيم، { وأنتم لا تعلمون } ذلك.
ثم [وصفه بالحنيفية] (2) ونزَّهه عمَّا نسبوه إليه من اليهودية والنصرانية فقال: { ما كان إبراهيم ... الآية } .
قوله عز وجل: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك، إنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد (3) .
وقيل: إنها نزلت في مخاصمة جعفر بن أبي طالب، وعمرو بن العاص عند النجاشي، وكان من حديثهم ما رواه أبو صالح (4) عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن غنم (5) عن أصحاب رسول الله، ويونس بن بكير (6) عن محمد بن إسحاق رفعه، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، واستقرت بهم الدار، وهاجر رسول الله إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا:
__________
(1) ... ما بين المعكوفين غير ظاهر في الأصل، والمثبت من الكشاف (1/398).
(2) ... ما بين المعكوفين بياض في الأصل، ولعله كما أثبتناه.
(3) ... ذكره الواحدي أسباب النزول (ص:108)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/403).
(4) ... أبو صالح هو مولى أم هانئ (التقريب ص:120).
(5) عبد الرحمن بن غنم -بفتح المعجمة وسكون النون- الأشعري، شيخ أهل فلسطين وفقيه الشام. وكان مولده في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . توفي سنة ثمان وسبعين (تذكرة الحفاظ 1/51).
(6) يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر الجمّال، الكوفي، المحدِّث، صاحب المغازي. توفي سنة تسع وتسعين ومائة (تهذيب الكمال 32/497).(1/225)
إنّ لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً ممن قُتل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً وأهدوه للنجاشي لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قومكم، ولينتدب (1) لذلك رجلان من ذوي آرائكم، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا والأدم (2) وغيره، فركبا البحر وأتيا النجاشي، فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلَّما عليه، وقالا له: إنّ قومنا لك ناصحون وشاكرون، ولصلاحك محبّون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك من هؤلاء القوم الذين قدموا عليك؛ لأنهم قوم رجل كذَّاب، خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء، وإنّا كنا قد ضيَّقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شِعْب بأرضنا، لا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد، فلمّا اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه (3) ليفسد عليك دينك ومُلكك ورعيتك، فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم.
قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس، رغبةً عن دينك وسُنَّتك.
قال: فدعاهم النجاشي، فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزبُ الله، فقال لهم النجاشي: مروا هذا الصائح فليُعِدْ كلامه، ففعل جعفر، فقال النجاشي: نعم، فليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى
__________
(1) ندب القوم إلى الأمر يندبهم ندباً: دعاهم وحثَّهم (اللسان، مادة: ندب).
(2) الإدم بالكسر والأدم بالضم: ما يؤكل مع الخبز أيّ شيء كان (النهاية في غريب الحديث، مادة: أدم).
(3) يعني: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.(1/226)
صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يَرْطُنُون (1) بحزب الله، وما أجابهم به النجاشي، فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي، وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك ومَلَّكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله منّا نبياً صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنّه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال: يتكلم، قال: إنك ملك من ملوك الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندك كثرة الكلام، ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر، فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلم، فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين: أَعَبيدٌ نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أَبَقْنَا من أربابنا، رُدَّنا إليهم، فقال النجاشي: أَعَبيدٌ هم يا عمرو أم أحرار؟ قال: بل أحراراً كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية. قال جعفر: فسلهما: هل أهرقنا دماً بغير حق فيُقتص منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة. قال جعفر: سلهما: هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: يا عمرو؛ إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه. قال عمرو: [لا] (2) ولا قيراط، قال
__________
(1) قال في النهاية: يرطنون بحزب الله، أي: يكنون ولم يصرِّحوا بأسمائهم (النهاية في غريب الحديث، مادة: رطن).
(2) زيادة من تفسير الثعلبي (3/89)، وأسباب النزول (ص:110).(1/227)
النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد، على دين آبائنا، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره، ولزمناه نحن، فبعثنا إليك قومنا وقومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه، والدين الذي اتبعتموه؟ اُصْدُقني، قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه وتركناه، فهو دين الشيطان وأمره، كنا نكفر بالله تعالى، ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه: فدين الإسلام، جاءنا به من الله رسول كريم، وكتاب مثلُ كتاب ابن مريم موافقاً له، فقال النجاشي: يا جعفر؛ تكلمتَ بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك.
ثم أمر النجاشي فضُرِب النَّاقُوس (1) ، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا قال: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ابن مريم صلى الله عليه، هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبياً [مرسلاً] (2) ؟ قالوا: اللَّهم نعم، قد بشَّرنا به عيسى ابن مريم (3) ، وقال: مَن آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي: يا جعفر، هي! بمَ يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قالوا: يقرأ علينا كتاب الله، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصِلَة الرَّحِم، وبرّ
__________
(1) الناقوس: مِضْراب النصارى الذي يضربونه لأوقات الصلاة (اللسان، مادة: نقس).
(2) ... زيادة من تفسير الثعلبي (3/89)، وأسباب النزول (ص:110).
(3) ... ومصداق ذلك من القرآن، قوله تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعد اسمه أحمد ... الآية } [الصف:6].(1/228)
اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال له: اقرأ عليّ شيئاً مما يقرأ عليكم، فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم، ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدمع، وقالوا: يا جعفر؛ زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يُغْضِب النجاشي، فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة (1) من سواكه قدر ما تقذي العين، فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.
ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سُيُومٌ (2) بأرضي، يقول: آمنون، مَن سبَّكم أو آذاكم غَرِم، ثم قال: أبشروا ولا تخافوا، فلا دهورة (3) اليوم على حزب إبراهيم، فقال عمرو للنجاشي: ومَن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون وادّعوا في دين إبراهيم، ثم ردّ النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه، وقال: إنما هديتكم إليّ رشوة، فاقبضوها، فإن الله ملَّكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير دار، وأكرم جوار، فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } على مِلَّته وسُنَّته
__________
(1) ... النفثة والنفاثة: الشظية من السواك تبقى في فم الرجل فينفثها (اللسان، مادة: نفث).
(2) ... سيوم: أي: آمنون (النهاية في غريب الحديث، مادة: سيم).
(3) ... الدهورة: جمعك الشيء وقذفك به في مهواة. كأنه أراد لا ضيعة عليهم، ولا يترك الله حفظهم وتعهدهم (النهاية في غريب الحديث، مادة: دهر).(1/229)
{ وهذا النبي } يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - { والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } (1) .
أنبأنا حنبل بن عبد الله بن الفرج بن شعبان أبو علي (2) ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين (3) ، أخبرنا أبو علي بن المذهب (4) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي (5) ، أخبرنا عبد الله -يعني: ابن الإمام أحمد- قال: حدَّثني أبي، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبدالله (6) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لِكُلِّ نَبيٍّ وُلاةٌ مِن النَّبيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنهُمْ أَبي وَخَلِيلُ رَبي، ثُمَّ قَرَأَ: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:108-111)، والثعلبي في تفسيره (3/88-90) مرسلاً، والسيوطي في الدر (2/237) وعزاه لعبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم.
(2) كان يكبر بجامع المهدي وينادي في الأملاك، سمع مسند الإمام أحمد جميعه من أبي القاسم ابن الحصين. توفي سنة أربع وستمائة (سير أعلام النبلاء 21/431، وتكملة الإكمال 2/315).
(3) ... هبة الله بن محمد بن الحصين الشيباني، أبو القاسم البغدادي، الكاتب، مسند العراق. توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 19/536).
(4) ... الحسن بن علي التميمي، أبو علي الواعظ، سمع المسند والزهد للإمام أحمد. توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة (التقييد لابن نقطة 1/279، والعبر 2/285، وشذرات الذهب 3/271).
(5) ... أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي، أبو بكر القطيعي الحنبلي، الشيخ العالم المحدِّث، مسند العراق، راوي مسند الإمام أحمد وغيره. توفي في ذي الحجّة سنة ثمان وستين وثلاثمائة (لسان الميزان (1/145، وسير أعلام النبلاء 16/210).
(6) ... عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(1/230)
بإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والله ولي المؤمنين } " (1) .
N¨ٹur ×pxےح !$©غ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ ×pxےح !$©غ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
__________
(1) ... أخرجه أحمد (1/400 ح3800).(1/231)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اذحب(1/232)
قوله: { ودّت طائفة من أهل الكتاب } (1) قال ابن عباس: نزلت في قول اليهود لمعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمد (2) .
قوله تعالى: { لِمَ تكفرون بآيات الله } يعني: القرآن، والآيات المشتملة على نعته، والشهادة برسالته في التوراة والإنجيل { وأنتم تشهدون } أنها حق.
قوله: { لِمَ تَلْبسون الحق بالباطل } وهو إيمانهم بالنبي أول النهار، وكُفْرهم به آخره.
يقصدون بذلك إدخال الشبهة، وإيقاع الريبة في قلوب المسلمين، وقد سبق تفسير الآية في البقرة (3) .
قوله: { وقالت طائفة من أهل الكتاب } قال الحسن: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: بأنَّا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك المنعوت، المبعوث آخر الزمان، فيشك أصحابه في دينهم. ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون إلى دينهم (4) ،
__________
(1) كتب مقابلها في الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً سابعاً، مرة ثانية.
(2) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:111)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/404).
(3) الآية رقم (42).
(4) في أسباب النزول: فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.(1/233)
فنزلت هذه الآية (1) .
ووجه النهار: أوله (2) .
وأنشدوا:
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأَسْحَارِ (3)
قوله: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } هذا من تمام كلام اليهود، يقول علماؤهم لقلّتهم: لا تُصَدِّقوا إلا مَن تبع دينكم، وجاء باليهودية.
__________
(1) أخرجه الطبري (3/311-312) عن السدي بمعناه، وابن أبي حاتم (2/679). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:112)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/405) كلاهما عن الحسن والسدي. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/241) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن (1/96)، والزجاج في معاني القرآن (1/429)، والنحاس في معاني القرآن (1/420)، وابن قتيبة في غريب القرآن (ص:106).
(3) ... البيتان للربيع بن زياد العبسي يبكي مالك بن زهير بن خزيمة العبسي الذي قتل في عوف ابن بدر. وانظرهما في: معاني الزجاج (1/429)، وزاد المسير (1/405-406)، والخزانة (3/583). والمعنى: من كان مسروراً بمقتله فخليق به أن يُسرّ؛ لأن حزننا عليه أصابنا بكل هذا.
... ومعنى "حواسراً يندبنه": أي يكشفن عن وجوههن، وأصبحن لا يبالين أن يراهن الأجانب لما حلَّ بهنّ من المهانة.(1/234)
واللام في قوله "لِمَنْ" صلة (1) .
ولا تصدقوا أن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم من العلم، وفَلْقِ البحر، والمن والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم، لأنكم أقومُ منهم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ويكون قوله على هذا: { قل إن الهدى هدى الله } كلاماً معترضاً من الله تعالى، وهذا معنى قول مجاهد والأخفش (2) .
وقيل: إن قوله: "ولا تؤمنوا" متعلقٌ بقوله: "أن يؤتى" على معنى: لا تُظهروا إيمانكم أن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب، إلا لمن تبع دينكم من الأحبار والأشياخ الذين يُؤمَن تزلزلهم ورجوعهم عن دينهم فقط، ولا تفشوا ذلك إلى المسلمين، فيزدادوا ثباتاً على دينهم، وجرأة علينا، ولا تُظهروه للمشركين فيرغبوا في الإسلام.
{ أو يحاجوكم } عطف على "أن يوتى"، على معنى: لا تُظهروا إيمانكم أن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم، أو أنهم يحاجوكم عند ربكم، ويكون لهم الغلبة، إلا لأهل دينكم، وعلى هذا يكون "قل إن الهدى هدى الله" كلاماً معترضاً.
وقيل: تم كلام اليهود عند قوله: "لمن تبع دينكم"، فقال الله لنبيه: "قل إن الهدى"، "إن" واسمها "هدى الله" بدل من "الهدى"، "أن يؤتى" خبر "إنَّ"، والمعنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحق
__________
(1) ... قال النحاس في إعراب القرآن (1/386): هذه الآية من أشكل ما في السورة، والإعراب بَيَّنها.
(2) ... انظر: الطبري (3/314)، وزاد المسير (1/406).(1/235)
الذي جاءكم به موسى فغيَّرتموه وبدَّلتموه حتى "يحاجوكم عند ربكم"، أي: في حكم ربكم، كما تقول: هذه المسألة عند أحمد كذا، وعند الشافعي كذا، أي: في حكمه، أو يكون المعنى: حتى يحاجوكم عند الله يوم القيامة، فيقرعوا باطلكم بحقهم.
وقيل أيضاً: تم كلام اليهود عند قوله: "تبع دينكم"، "قل" لهم يا محمد: "إن الهدى" الذي ينبغي أن يُهتدى ويُقتدى به "هدى الله". وقل لهم موبخاً لهم: "أن يؤتى": لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم، دعاكم إلى قول ما قلتم (1) .
ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن كثير: "أان يؤتى أحد" (2) بتحقيق الهمزة الأولى، وتليين الثانية، والفصل بألف على الاستفهام للتوبيخ، بمعنى "أَلأَن يؤتى أحد" (3) .
فإن قيل: كيف يرتبط "أو يحاجوكم" بما قبله على هذا المعنى؟
قلت: التقدير: فعلتم ما فعلتم، وقلتم ما قلتم، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به [عند كفركم به] (4) من محاجتهم لكم عند ربكم، فحملكم على
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/136) وما بعدها.
(2) الحجة للفارسي (2/26)، ولابن زنجلة (ص:165)، والكشف (7/347)، والنشر (1/365-366)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:176)، والسبعة في القراءات (ص:207).
(3) وقد ضَعَّف أبو علي الفارسي قراءة ابن كثير فقال: وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ له قراءةُ غير ابن كثير على قراءته؛ لأن الأسماء المفردة ليس بمستمر فيها أن تدل على الكثرة (انظر: الحجة 2/28).
(4) زيادة من الكشاف (1/401).(1/236)
ذلك الحسد، ألا تراه يقول: "إن الفضل بيد الله".
ولقراءة ابن كثير وجوه من المعاني والإعراب، فإن قلنا: هو من تمام كلام اليهود، فيكون في موضع رفع بالابتداء، خبره محذوف، تقديره: تعترفون وتظهرون. أو في موضع نصب بتقدير: تشيعون وتظهرون ذلك الذي أوتوه.
وإن قلنا: هو من كلام الله، فجائز أن يكون توبيخاً لليهود كما سبق. وجائز أن يكون خطاباً للمؤمنين، على معنى: لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون يحسدونكم، ويفعلون ما يفعلون.
وقرأ الحسن البصري والأعمش: " إن يؤتى" بكسر الهمزة (1) ، على معنى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني: ما تؤتون مثله، فلا يحاجوكم، فيكون من كلام اليهود بعضهم لبعض.
وقيل على هذه القراءة: هو من كلام الله بلا اعتراض، ويكون كلام اليهود تاماً عند قوله: "تبع دينكم"، فالمعنى: قل يا محمد؛ إن الهدى هدى الله ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد "أو يحاجوكم" بمعنى: إلا أن يحاجوكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم.
وقوله: "عند ربكم" أي: عند فعل ربكم بكم ذلك. وتكون "أو" على هذا
__________
(1) مختصر ابن خالويه (ص:21)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:176)، والقراءات الشاذة للقاضي (ص:35).(1/237)
القول بمعنى الجحد والنفي. وهذا معنى قول سعيد بن جبير، والحسن (1) ، ومقاتل (2) .
قال الفرّاء (3) : ويجوز أن تكون "أو" بمعنى حتى. كما يقال: تَعَلَّقْ به أو يعطيك حقك، أي: حتى يعطيك حقك.
وقال امرؤ القيس (4) :
فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّما ... ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
أي: حتى نموت.
{ قل إن الفضل بيد الله } النبوة والكتاب، { يؤتيه مَن يشاء } لا من تشاءون أنتم أيها اليهود، { والله واسع عليم } بمن يصلح للاصطفاء والاجتباء.
{ يختص برحمته } وهي النبوة، في قول مجاهد (5) ، والقرآن والإسلام،
__________
(1) ... الماوردي (1/402)، وزاد المسير (1/406).
(2) ... تفسير مقاتل (1/178).
(3) ... معاني الفراء (1/223).
(4) ... هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، جاهلي، من الطبقة الأولى من الشعراء (طبقات الشعراء ص:49، ومعجم الشعراء ص:9). انظر البيت في: ديوانه (ص:66)، والدر المصون (2/139)، والخصائص (1/63)، وابن يعيش (7/22)، والقرطبي (7/218، 10/391، 16/273)، والطبري (13/192).
(5) ... أخرجه الطبري (3/316)، وابن أبي حاتم (2/682)، ومجاهد (ص:129). وذكره السيوطي في الدر (2/242) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/238)
في قول ابن جريج (1) .
{ والله ذو الفضل العظيم } على أوليائه وأهل طاعته.
* وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ $VJح !$s% ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/316). وذكره الماوردي (1/402)، والواحدي في الوسيط (1/450)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/408)، والسيوطي في الدر المنثور (2/242) وعزاه لابن جرير.(1/239)
وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ اذدب
قوله تعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } (1) قال ابن عباس: أَوْدَعَ رجلٌ عبد الله بن سلام ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدَّاها إليه، فمدحه الله بهذه الآية، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء (2) ديناراً، فخانه، فذمَّه الله بهذه الآية (3) .
وقال مقاتل (4) : الأمانة ترجع إلى من أسلم من أهل الكتاب، والخيانة إلى مَن لم يسلم.
وقيل: أن الذين يؤدون الأمانة: النصارى؛ لغلبة الأمان عليهم، والذين لا يؤدونها: اليهود؛ لغلبة الخيانة عليهم (5) .
والباء بمعنى: على، وقد سبق ذكر القنطار (6) .
__________
(1) ... كتب مقابلها في الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً ثالثاً.
(2) ... فنحاص بن عازوراء: من أحبار اليهود الذين كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتعنتونه ويأتونه اللبس ليلبسوا الحق بالباطل، من بني قينقاع، وكان من علمائهم وصاحب بيت مدراسهم، وهو الذي نسب الفقر إلى الله والغنى لليهود (السيرة لابن هشام 3/96-97).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (1/451)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/408).
(4) ... تفسير مقاتل (1/177) بمعناه. وانظر: زاد المسير (1/409).
(5) ... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (1/409): فإن قيل: لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً، والخلق على ذلك؟
... فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالاً لذلك.
(6) عند الآية (14) من هذه السورة.(1/240)
والدينار (1) : فارسي معرب، وأصله دِنَّارٌ، كما قدَّمنا ذكره، وهو وإن كان معرَّباً، فليس تَعْرفُ له العرب اسماً غير الدينار، فقد صار كالعربي، ولذلك اشتقوا منه [فعلاً] (2) ، فقالوا: رجل مُدَنَّرٌ: كثير الدنانير، وبرْذَوْنٌ مُدَنَّرٌ: [أشهب] (3) مستدير النقش ببياض وسواد (4) .
والمراد بقوله: { إلا ما دمت عليه قائماً } لزوم التقاضي.
فصل
اختلف القراء في الهاء المتصلة بالفعل المجزوم، فقرأ أبو بكر (5) وأبو عمرو وحمزة (6) : "يُؤَدِّهِ"، و"لاَ يُؤَدِّهِ"، و"نُؤْتِهِ مِنْها" (7) في موضعين في هذه السورة. وفي النساء: "نُوَلِّهِ"، "ونُصْلِهِ" (8) ، وفي الشورى: "نُؤْتِهِ
__________
(1) الدينار: (24) قيراطاً، والقيراط (3) حبات من وسط الشعير، فوزنه (72) حبة. والدينار: هو المثقال، والقنطار 4 أرباع، والربع (30) رطلاً، والرطل (12) أوقية، والأوقية (16) درهماً، والدرهم (36) حبة شعير (انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/275، ومعجم ألفاظ القرآن، مادة: دنر).
(2) زيادة من زاد المسير (1/409).
(3) مثل السابق.
(4) زاد المسير (1/409).
(5) شعبة بن عياش الكوفي، أبو بكر، الإمام، أحد رواة الإمام عاصم. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري 1/325، وميزان الاعتدال 7/337-340).
(6) حمزة بن حبيب الزيات، أبو عمارة الكوفي، أحد القراء السبعة، توفى سنة ست وخمسين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري 1/261، والجرح والتعديل 3/209).
(7) الآية: 145.
(8) الآية: 115.(1/241)
مِنْها" (1) بإسكان الهاء في السبعة (2) ، وقرأ ذلك قالون بكسر الهاء من غير ياء. وقرأ الباقون بصلة الهاء بياء في الوصل.
وحُجَّة من قرأ بالإسكان: أن هذه الأفعال قد حُذفت الياء التي قبل الهاء فيها للجزم، وصارت الهاء في موضع لام الفعل، وحلّت محلها، فأسكنت كما تسكن لام الفعل.
ألا ترى أنهم قد قالوا: لم يَقْرْ فلان القرآن، فحذفوا حركة الهمزة للجزم وأبدلوا من الهمزة الساكنة ألفاً لانفتاح ما قبلها، ثم حذفوا أيضاً الألف للجزم، كذلك حذفوا الباء قبل الهاء للجزم، وأسكنوا الهاء للجزم، إذ حلت محل لام الفعل.
وليست هذه العِلَّة بالقوية.
وفيه عِلَّة أخرى: وذلك أن مِنَ العرب مَنْ يُسكِّن هاء الكناية إذا تحرك
__________
(1) الآية: 20.
(2) وقد طعن الزجاج في هذه القراءة فقال: هاء الإسكان الذي رُوي عن هؤلاء غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ولا تسكَّن في الوصل، إنما تسكَّن في الوقف. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فَغُلِطَ عليه كما غُلِطَ عليه في { بارئكم } [البقرة:54] (انظر: معاني الزجاج 1/432).
... وقال السمين الحلبي في الدر المصون (2/141): وهذا الردّ من الزجاج ليس بشيء؛ لوجوه، منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نصَّ على أن الاختلاس أيضاً لا يجوز، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس.
... ومنها:أن هذه لغة ثابتة عند العرب حَفِظَها الأئمة الأعلام؛ كالكسائي والفراء، فيسكّنون الهاء كما يسكّنون ميم (أنتم) و(فمنهم) وأصلها الرفع.(1/242)
ما قبلها، فيقولون: ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً. يحذفون صلتها، ويُسكِّنونها كما يفعلون بميم الجمع، فالهاء إضمار والميم إضمار، فجريا مجرىً واحداً في جواز الإسكان. وقد كان يجب أن يكون الحذف مع الهاء أقوى منه مع الميم، لأن صلة الميم أصل من الاسم المضمر، وصلة الهاء إنما هي تقوية، فإذا حسن حذف ما هو أصل، فحذف ما هو غير أصل أقوى. وهذا الوجه أقوى من الأول على ضعفه أيضاً.
وحُجَّة مَن قرأ بالكسر من غير ياء: أنه أجرى على أصله، قبل الجزم.
وحُجَّة من وصل بياء: أن الهاء حرف ضعيف خفي، فقوي بالياء في الكسر، وبالواو في الضم (1) .
والسبعة وجمهور القرّاء على ضم الدال من "دُمْتَ"، وهي لغة أهل الحجاز (2) ، لأنها من دَامَ يَدُومُ.
وقرأ يحيى بن وثَّاب (3) : "دِمْت" -بكسر الدال- من دَامَ يَدَامُ، مثل: خَافَ يَخَافُ، وهَابَ يَهَابُ (4) .
{ ذلك } إشارة إلى ترك الأداء بسبب قولهم: { ليس علينا في الأميين } ،
__________
(1) ... انظر: الحجة لابن زنجلة (ص:166)، والسبعة في القراءات (ص:207-212)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:176).
(2) ... انظر: الدر المصون (2/143).
(3) ... يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم، كوفي تابعي ثقة، كان يقرئ أهل الكوفة في زمانه. توفي سنة ثلاث ومائة (طبقات القراء لابن الجزري 2/380، ومعرفة الثقات 2/358).
(4) ... مختصر ابن خالويه من شواذ القرآن (ص:21)، وإعراب القرآن للنحاس (1/345)، وهي قراءة شاذة.(1/243)
أي لا يتطرق علينا إثم، ولا ذم بما نختان من أموال العرب، يشيرون بذلك إلى استحلالهم أموال المسلمين، ومَن خالفهم من العرب.
{ ويقولون على الله الكذب } وهو قولهم: "ليس علينا في الأميين سبيل"، { وهم يعلمون } أنهم كاذبون، لأنهم قرؤوا في التوراة لزوم الوفاء، وأداء الأمانة.
قوله: { بلى } رَدٌ عليهم، وإثبات من الله لما نفوه من السبيل، وهو وقف تام، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: { بلى من أوفى بعهده } أي بعهد الله.
وقيل: بعهد الموفي.
{ واتقى } فأدى الأمانة، واجتنب الخيانة، { فإن الله يحب المتقين } .
¨bخ) الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ(1/244)
عَذَابٌ أَلِيمٌ اذذب
قوله: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } .
أخرجا في الصحيحين: أن الأشعث بن قيس قال: "كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِن اليَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لا, فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِذاً يَحْلِفُ فَيَذهَبُ بمَالي، فَأَنْزَلَ الله: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ... الآيَةِ } " (1) .
وفي صحيح مسلم من حديث أَبي أُمَامَة قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: "مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يا رسول الله؛ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً. قَال: وَإِنْ كان قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ" (2) .
هذا هو المشهور في التفسير.
وقال عكرمة ومقاتل (3) : نزلت في الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود، لِمَا كانوا يأخذونه من سفلتهم من الدنيا (4) .
فالعهد -على القول الأول-: ما أخذه عليهم من لزوم الطاعة.
وعلى القول الثاني: ما أخذه عليهم من بيان صفة النبي محمد عليه السلام.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (2/948 ح2523)، ومسلم (1/122-123 ح138).
(2) أخرجه مسلم (1/122 ح137).
(3) تفسير مقاتل (1/79).
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/411).(1/245)
{ أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا نصيب لهم في الجنة ونعيمها، { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } لهوانهم عليه، أو هو كناية عن غضب الله عليهم، وإعراضه عنهم.
قال الزجاج (1) : تقول: فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه، معناه: أنه غضبان عليه.
{ ولا يزكيهم } أي: لا يُطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، أو لا يثني عليهم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُم الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلا يُزَكِّيهِم، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. فقَالَ أَبُو ذرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا يَا رَسُولَ الله، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: المُسْبلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِب" (3) .
فإن قيل: إن حملت الآية على اليهود فلا إشكال فيها، وإن كانت في حق الذين يفعلون ذلك من المسلمين فما وجهها؟ وقد علمنا بالدليل القطعي أن
__________
(1) معاني القرآن (1/434).
(2) أبو ذر: هو جُندب بن جُنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، أبو ذر الغفاري (الإصابة 7/125).
(3) أخرجه مسلم (1/102 ح106).
... والمُنَفِّق -بالتشديد-: من النَّفَاق، وهو ضد الكساد (اللسان، مادة: نفق).
... والمُسْبل: الذي يُطًوِّل ثوبه ويُرْسِله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كِبْراً واختيالاً (اللسان، مادة: سبل).
... والمنَّان: هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منَّه واعتدَّ به على من أعطاه (اللسان، مادة: منن).(1/246)
فسقهم لا يوجب انتفاء نصيبهم من الجنة، ولا لزوم ما ذكر؟.
قلت: إما أن يُحمل على التغليظ، وإما أن يُراد به: لا خلاق لهم بأول وهلة، بل لا بد من عذابهم، وإيقاع ما يستحقونه بهم، ولا يكلمهم الله كلاماً ينفعهم، ولا يثني عليهم.
وإما أن يكون من الوعيد لمن فعل ذلك مستحلاً فإنه يكفر، ويستحق جميع ما تُوعّد به.
¨bخ)ur مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ(1/247)
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ارةب
قوله عز وجل: { وإن منهم } (1) يعني: أهل الكتاب، { لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب } أي: يقلبونها بالتحريف والزيادة.
والأَلْسِنَة: جمع لِسَان، كَحِمَار وأَحْمِرَة.
__________
(1) ... جاء في هامش المخطوط ما نصه: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً ثامناً، مرة ثانية.(1/248)
قال أبو عمرو: واللسان يُذكَّر ويُؤنَّث، فمن ذَكَّره جمعه: أَلْسِنَة، ومَن أنَّثه جمعه: أَلْسُناً (1) .
وقال الفرّاء (2) : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مُذكَّراً، تقول العرب: سبق من فلان لسان؛ يعنون به الكلام، فيُذكِّرونه.
أنشد ابن الأعرابي (3) :
[لِسَانُكَ] (4) مَعْسُولٌ وَنَفْسُكَ شَحَّةٌ ... ... وَعِنْدَ الثُّرَيَّا من صَدِيقِكَ مَالِكا (5)
وأنشد ثعلب (6) :
نَدِمْتُ عَلى لِسَانٍ كَانَ مِنِّي ... ... فَلَيْتَ بأَنَّهُ في جَوْفِ عِكْمِ (7)
فذَكَّر اللسان لإرادته الكلام.
وأنشد ثعلب:
أَتَتْنِي لِسَانُ بَنِي عَامِرٍ ... أَحَادِيثُها بَعْدَ قَوْلٍ نُكْرِ (8)
__________
(1) لسان العرب، مادة: (لسن).
(2) لم أقف عليه في معاني الفراء، وهو في زاد المسير (1/412).
(3) محمد بن زياد أبو عبد الله، ابن الأعرابي، كان نحوياً عالماً باللغة والشعر. توفي سنة ثلاثين -وقيل: سنة إحدى وثلاثين- ومائتين (إنباه الرواة 3/128، والأعلام للزركلي 6/131).
(4) في الأصل: لسانه. والتصويب من زاد المسير (1/412).
(5) البيت لم أعرف قائله. وهو في زاد المسير (1/412)، واللسان مادة: (شحح).
(6) أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني، أبو العباس النحوي، المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين (الأعلام للزركلي 1/267).
(7) البيت للحطيئة. انظر: ديوانه (ص:347)، واللسان، مادة: (عكم، لسن)، وزاد المسير (1/412). والعِكْم: العِدْل، داخل الجنب، في الثوب.
(8) البيت لم أعرف قائله. وهو في زاد المسير (1/412)، واللسان، مادة: (لسن).(1/249)
فأَنَّث اللسان؛ لأنه عنى الكلمة والرسالة.
قوله عز وجل: { ما كان لبشر... الآية } قال ابن عباس: سبب نزولها أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى قالوا: يا محمد؛ أتريد أن نتخذك رباً، فقال: "معاذ الله، ما بذلك بعثني ربي" (1) .
وقال الضحَّاك: نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى (2) .
فعلى القول الأول: المراد بالكتاب: القرآن.
وعلى القول الثاني: الإنجيل.
والمعنى: ما ينبغي ولا يصلح لبشر خصّه الله بإنزال الكتاب عليه، وأنعم عليه بالحكمة والنبوة أن يدعوَ الخلق إلى غير الحق.
{ ولكن كونوا ربانيين } أي: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين.
قال المبرد (3) : الرَّبَّاني الذي يَرُبُّ العلم، ويَرُبُّ الناس، أي: يعلمهم ويصلحهم (4) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (3/325)، وابن أبي حاتم (2/693)، والثعلبي (3/101). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/250) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:115-116) من طريق الكلبي وعطاء، والسيوطي في لباب النقول (ص:54).
(2) ... ذكره الثعلبي (3/101)، والواحدي في أسباب النزول (ص:115)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/413).
(3) ... محمد بن يزيد الأزدي، أبو العباس المبرد، إمام العربية ببغداد في زمنه، وأحد أئمة الأدب والأخبار. توفي سنة ست وثمانين ومائتين (الأعلام للزركلي 7/144).
(4) ... انظر قول المبرد في: الوسيط (1/456).(1/250)
وحكى ابن الأنباري (1) عن بعض اللغويين (2) : الرَّبَّاني منسوب إلى الرَّبّ، لأن العلم مما يُطاع الله به، فدخلت الألف والنون (3) في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لِحْياني، إذا بالغوا في وصفه بكبر اللِّحْيَة.
قال عليّ رضي الله عنه: الربانيون: الذين يغذون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها (4) .
وقال ابن عباس: هم الفقهاء العلماء الحكماء (5) .
وقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه قال يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة (6) .
{ بما كنتم تُعلّمون الكتاب } قرأ ابن عامر (7) وأهل الكوفة: "تُعلّمون" بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف (8) . فمَن شدَّد فلما فيه من المبالغة في
__________
(1) محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر بن الأنباري النحوي، من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، وأكثرهم حفظاً للشعر والأخبار، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (الأعلام للزركلي 6/334).
(2) انظر: زاد المسير (1/413).
(3) في الأصل: واللام. والتصويب من زاد المسير، الموضع السابق.
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/413).
(5) ... أخرجه الطبري (3/326)، وابن أبي حاتم (2/691)، ومجاهد (ص:130). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/250-251) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ذكره الثعلبي (3/102).
(7) عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم اليَحْصَبيّ الدمشقي، أبو عمران المقرئ، توفي سنة ثمان عشرة ومائة (التقريب ص:309).
(8) وفتح التاء واللام.
... انظر: الحجة للفارسي (2/29)، والحجة لابن زنجلة (ص:167)، والكشف (1/351)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:176-177)، والسبعة في القراءات (ص:213).(1/251)
الوصف بالعلم والتعليم، ومَن خفَّفه حمله على قوله: { تَدْرُسون } ، فطابق بين الفعلين وجانس بين اللفظين.
وفي حرف ابن مسعود: "تُدَرِّسُون" بالتشديد (1) .
قوله: { ولا يَأمُرَكم } قرأ الأكثرون بالرفع، ونصبه ابن عامر وعاصم (2) وحمزة عطفاً على "يقول" (3) . وفيه وجهان:
أحدهما: أن تجعل "لا" مزيدة لتأكيد النفي في قوله: "ما كان لبشر". والمعنى: ما كان لبشر أن يختصه الله للنبوة والحكمة وينصبه لدعاء الخلق إلى الله، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمَه ثم يُهينني.
والثاني: أن تجعل "لا" غير مزيدة، على معنى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقول: ولا أن يأمركم (4) .
__________
(1) انظر قراءة ابن مسعود في: زاد المسير (1/414). وقد نسبت هذه القراءة إلى غيره (انظر: مختصر ابن خالويه ص:21، والمحتسب 1/163).
(2) عاصم بن بَهْدَلة، وهو ابن أبي النَّجُود الأسدي، مولاهم الكوفي، أبو بكر، أحد القراء السبعة، تابعي كان ثقة في القراءات، توفي سنة سبع وعشرين ومائة (الأعلام للزركلي 3/248).
(3) الحجة للفارسي (2/28)، ولابن زنجلة (ص:168)، والكشف (1/350)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:177)، والسبعة في القراءات (ص:213).
(4) وهو اختيار الطبري (3/329).(1/252)
ومن رفع قطعه مما قبله (1) .
والضمير في "ولا يأمركم"، وفي "أيأمركم" للبشر (2) .
وقيل: لله.
{ أيأمركم بالكفر } استفهام بمعنى الإنكار. وفي قوله: { بعد إذ أنتم مسلمون } دليل على أن الخطاب للمسلمين.
ّŒخ)ur أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ
__________
(1) ... قال السمين الحلبي في الدر المصون (1/150): قال الواحدي: ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله: "ولَنْ يأمركم".
... قال الفراء (1/224-225): فهذا دليل على انقطاعها من النَّسَق وأنها مستأنفة، فلما وقعت (لا) موقع (لن) رُفعت، كما قال تعالى: { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } [البقرة:119]، وهي في قراءة عبد الله: "ولن تسأل".
(2) ... وهو اختيار الطبري (3/329).(1/253)
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ارثب
قوله: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } قال الزجاج (1) : موضع "إذ" نصب، المعنى: اذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله.
قال ابن عباس: والميثاق: العهد، وهو العهد الذي أخذه الله على الأنبياء بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - (2) .
أو بتصديق بعضهم بعضاً، أو بتبليغ ما أرسلوا به، أو هو الميثاق الذي أخذه الأنبياء على أممهم، أو هو على حذف المضاف، أي: ميثاق أولاد النبيين، وهم بنو إسرائيل. ويدل عليه قراءة ابن مسعود: "ميثاق الذين أوتوا الكتاب".
__________
(1) ... معاني الزجاج (1/436).
(2) ... أخرجه الطبري (3/332)، وابن أبي حاتم (2/693).(1/254)
وكان مجاهد والربيع بن أنس يقرآنها كابن مسعود ويحكمان بغلط الكاتب (1) ، واحتج الربيع بقوله: { ثم جاءكم رسول } (2) .
ولا حُجَّة فيه؛ لما ذكرناه من حذف المضاف.
أو يكون التقدير: ثم جاءكم يا أمم النبيين الذين أخذ عليهم الميثاق، فلزمهم ما لزم أنبياءهم.
أو يكون التقدير: ميثاق النبيين وأممهم، فاكتفى بذكر المتبوع عن التابع.
قوله: { لَمَا آتيتكم } وقرأ حمزة "لِما" بكسر اللام.
وقرأ نافع: "آتيناكم" (3) . فمَن فتح اللام -قال الزجاج (4) -: هي لام التحقيق دخلت على "ما" الجزاء كما تدخل على "إنْ".
ومعناه: لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمنن به. وتكون "اللام" في { لتؤمنن به } جواب الجزاء.
ومن كسر اللام جعلها متعلقة بـ "أخذ"، أي: أخذ ميثاقهم للذي آتاهم.
وجائز أن تكون "ما" على القراءتين موصولة، أي للذي آتيتكموه لتؤمنن به.
__________
(1) ... تفسير مجاهد (ص:130).
(2) ... أخرجه الطبري (3/321) عن مجاهد والربيع بن أنس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/252) وعزاه لعبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد. ...
(3) الحجة للفارسي (2/30-34)، والحجة لابن زنجلة (ص:168-169)، والكشف (1/350)، والنشر (2/240)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:177)، والسبعة في القراءات (ص:213-214).
(4) معاني الزجاج (1/437).(1/255)
{ ثم جاءكم رسول } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { قال ءأقررتم } أي: قال الله للنبيين: { ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي: عهدي.
وقرأت لعاصم من رواية أبي بكر: "أُصْري"، بضم الهمزة (1) .
قال أبو علي (2) : يشبه أن يكون الضم لغة.
{ قال فاشهدوا } ، أي قال الله للنبيين: "فاشهدوا" على أممكم، وقيل: اشهدوا على أنفسكم وعلى أتباعكم. { وأنا معكم } ، عليكم وعليهم { من الشاهدين } وقيل: قال للملائكة: اشهدوا عليهم وأنا معكم من الشاهدين.
{ فمن تولى بعد ذلك } قال ابن عباس: أي من أعرض عما جئتَ به، وأنكر ما عاهد الله عليه، { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن العهد والإيمان.
uژِچtَsùr& دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
__________
(1) الحجة للفارسي (2/34-35)، والسبعة في القراءات (ص:214).
(2) الحُجّة للفارسي (2/35).(1/256)
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ(1/257)
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ(1/258)
وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ازتب
قوله: { أفغير دين الله يبغون } قرأ أبو عمرو بالياء، و"ترجعون" بالتاء المعجمة من فوق، وقرأهما الباقون بالتاء فيهما، إلا حفصاً فإنه قرأهما بالياء المعجمة من تحت بنقطتين (1) .
قال ابن عباس: اختصم أهل الكتاب، فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كلا الفريقين بريءٌ من دين إبراهيم"، فغضبوا، وقالوا: والله ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت: { أفغير دين الله
__________
(1) الحجة للفارسي (2/34)، والحجة لابن زنجلة (ص:170)، والكشف (1/353)، والنشر (2/241)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:177)، والسبعة في القراءات (ص:214).(1/259)
يبغون } (1) ، وهو دين محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ وله أسلم } أي: انقاد وخضع { من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } يوم (2) { أَلَسْتُ برَبّكُمْ } [الأعراف:172] أو هو إقرارهم أن الله خالقُهم ورازقُهم وإن أشرك بعضهم، أو هو استسلامهم لنفاذ أمر الله فيهم، أو يكون إسلام الكافر إذا رأى بأس الله، { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ } [غافر:84] أو سجود ظله، أو هو من العام الذي أريد به الخاص، تقديره: مَن في السموات والأرض من المسلمين.
قوله: { قل آمنا بالله ... الآية } سبق تفسيرها في سورة البقرة (3) . وإنما أتى هاهنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لصحة المعنيين؛ لأن الوحي ينزل من السماء وينتهي إلى المؤمنين والأنبياء.
وقيل: إنما قال هاهنا: { وما أنزل علينا } لأن الأمر بالقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي البقرة: الأمر للمؤمنين، والوحي ينتهي إليهم، والرسل يأتيهم الوحي بطريق الاستعلاء (4) ، وأَوْرَدُوا على هذا القول: { إِنَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ }
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (3/ 105)، والواحدي في أسباب النزول (ص:116).
... قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (ص:27): لم أجد له إسناداً.
(2) أي: يوم قال لهم: { أَلَسْتُ برَبّكُمْ } .
(3) عند الآية: 136.
(4) قاله الراغب الأصفهاني. وحكاه السمين في الدر المصون (2/159).
... وقد ردّ هذا القول الزمخشري في الكشاف (1/408) فقال: ومن قال إنما قيل "علينا" لقوله: "قل"، و"إلينا" لقوله: "قولوا" تفرقةً بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسَّف. ألا ترى إلى قوله: { بما أنزل إليك } [البقرة:4]، { وأنزلنا إليك الكتاب } [المائدة:48]، وإلى قوله: { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } [آل عمران:72].(1/260)
[النساء:105]، { وأنْزَلْنَا إلَيْكَ } [النحل:44]، { آمِنُوا بالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } [آل عمران:72]، فلم يُرَاعَ هذا المعنى.
ويمكن أن يقال في الجواب عن هذا: الفرق المذكور صالح للتعليل به، وتجويز غيره لا يمنع من صلاحية التعليل به.
وما بعده مفسرٌ أو ظاهرٌ إلى قوله: { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا } هم طائفة ارتدوا عن الإسلام، منهم الحارث بن سويد، فندم وعاد إلى الإسلام، فاستثناه الله بقوله: { إلا الذين تابوا } (1) .
وقيل: نزلت في اليهود، كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حسداً بعد إيمانهم به قبل مبعثه (2) . والقولان عن ابن عباس.
والاستفهام هاهنا بمعنى الجحد، أي: لا يهدي الله قوماً هذا شأنهم. ومثله:
__________
(1) أخرجه النسائي في الصغرى (7/107)، وأحمد (1/247)، والحاكم (2/154)، والبيهقي في سننه (8/197)، وابن حبان (10/329)، وابن أبي حاتم (2/699)، والواحدي في أسباب النزول (ص:116-117) كلهم عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس.
... وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/257) وعزاه للنسائي وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس.
... وانظر: لباب النقول (ص:55).
(2) ... أخرجه الطبري (3/341)، وابن أبي حاتم (2/699). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/258) وعزاه للطبري وابن أبي حاتم.
... والقول الأول أصح، والثاني اختيار الطبري.(1/261)
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } [التوبة:7].
ومثله قول ابن الرقيات (1) :
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الفِرَاشِ وَلمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ المَلِيحَةُ الحَسْنَاءُ (2)
{ وشهدوا } عطف الفعل على ما اشتمل عليه الاسم من معنى الفعل، تقديره: بعد أن آمنوا وشهدوا، أو تكون الواو للحال، أي: وقد شهدوا (3) .
قوله: { خالدين فيها } أي: في عذاب اللعنة.
ثم استثنى من تاب وأناب فقال: { إلا الذين تابوا ... } الآية.
قوله: { إن الذين كفروا بعد إيمانهم } وهم الذين ارتدوا مع الحارث ولم
__________
(1) عبيد الله بن قيس بن شريح القرشي ابن الرقيات، شاعر قريش، كان أكثر شعره الغزل، وله مدح وفخر، لقب بابن قيس الرقيات، لأنه كان يتغزل بثلاث نسوة اسم كل واحدة: رقية. توفي سنة 85هـ (الأعلام للزركلي 4/196).
(2) البيتان لابن قيس الرقيات. انظر: ديوانه (ص:96)، وشرح المفصل لابن يعيش (9/36)، وأمالي ابن الشجري (1/383)، والدر المصون (2/160)، واللسان، مادة: (خدم، شعا) وفيه: "العقيلة العذراء" بدل "المليحة الحسناء"، والقرطبي (4/129)، والطبري (30/344)، والوسيط (1/460)، ومعاني الفراء (1/432).
... والخِدام: الخَلْخال (اللسان، مادة: خدم).
(3) انظر: التبيان (1/143)، والدر المصون (2/161).(1/262)
يرجعوا عن كفرهم، قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد رَيْبَ المنون (1) .
وقيل: هم اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، { ثم ازدادوا كفراً } بإقامتهم على كفرهم، لأنه كلما تجدد إنزال الوحي تجدد كفرهم به.
أو هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن.
{ لن تقبل توبتهم } قال ابن عباس: عزموا على أن يظهروا التوبة ويضمروا الكفر (2) .
وقيل: هذا إيذانٌ بموتهم على كفرهم، لأن الذي لا تُقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر. وهذا معنى قول الحسن ومجاهد (3) .
قوله: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } قال الزمخشري (4) : إن قلتَ: لِم قيل في إحدى الآيتين "لن تقبل" بغير فاء، وفي الأخرى "فلن يقبل"؟
قلت: قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ
__________
(1) المنون: الموت (اللسان، مادة: منن).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/419).
(3) أخرجه الطبري (3/344)، وابن أبي حاتم (2/701) كلاهما عن السدي. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/259) وعزاه لابن جرير عن السدي.
(4) الكشاف (1/409).(1/263)
[وخبر] (1) ، ولا دليل فيه على التسبيب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء له سبباً في استحقاق الدرهم بخلاف قولك: فله درهم.
قال الزجاج (2) : ملء الشيء: مقدار ما يملؤُه.
قال سيبويه (3) والخليل: المَلْءُ -بفتح الميم- الفعل، تقول: مَلأْتُ الشيء أَمْلؤُهُ مَلأً، المصدر بالفتح لا غير.
و"ذهباً" منصوب على التمييز (4) .
وقرأ الأعمش "ذهَبٌ" (5) بالرفع، ردّه إلى "مِلْءُ"، كما تقول: عندي عشرون نفساً رجالٌ.
قال ابن فارس (6) : ربما أُنِّث الذهب، فقيل: ذهَبة، وتُجمع على الأَذهاب.
قال الفرّاء (7) : الواو في قوله: { ولو افتدى به } قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صواباً، كقوله: { وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ } [الأنعام:75].
قال الزجاج (8) : هذا غلط، لأن فائدة الواو بَيِّنَة، فليست مما تلغى، قال:
__________
(1) في الأصل: أو خبر. والتصويب من الكشاف (1/409).
(2) معاني الزجاج (1/442).
(3) الكتاب (2/42).
(4) انظر: التبيان (1/143)، والدر المصون (2/164).
(5) ذكر هذه القراءة في: البحر المحيط (2/543).
(6) معجم مقاييس اللغة (2/362).
(7) معاني الفراء (1/226).
(8) معاني الزجاج (1/441).(1/264)
والمعنى: لو قَدَّمَ ملء الأرض ذهباً يتقرب به إلى الله لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يتقبل منه.
وقال غيره (1) : "ولو افتدى به": كلامٌ محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يُقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً.
ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله؛ كقوله: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [الزمر:47].
والمِثْل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد: مِثْل ضربه، كما أنه يراد في نحو قولهم: مِثْلك لا يفعل كذا، يريد: أنت.
والسرُّ فيه أن المثلين يسد أحدهما مَسَدّ الآخر، فكانا في حكم شيء واحد.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَباً، أَكُنْتَ مفتدياً بهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ ما هو أَيْسَرَ مِنْ ذلِكَ" (2) .
`s9 تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ازثب
__________
(1) قاله الزمخشري في الكشاف (1/410-411).
(2) أخرجه مسلم (4/2161 ح2805).(1/265)
قوله تعالى: { لن تنالوا البر } (1) قال ابن عباس: هو الجنة (2) .
وقال الحسن: المعنى: لن تكونوا أبراراً (3) .
قال القاضي أبو يعلى (4) : لم يُرِد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال (5) .
{ حتى تنفقوا مما تحبون } أي: حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها.
والمراد بذلك: النفقة في وجوه الطاعات والقربات إلى الله، سواء أكانت فرضاً كالزكاة، أو نفلاً.
ولما نزلت هذه الآية بادر ذوو النيات إلى العمل بها.
ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً رابعاً. وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً تاسعاً، مرة ثانية.
(2) أخرجه الطبري (3/347) عن عمرو بن ميمون والسدي. وابن أبي حاتم (2/703) عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/262) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود. ومن طريق آخر عن عمرو بن ميمون والسدي ومسروق.
... وذكره الماوردي (1/409) من قول السدي، والواحدي في الوسيط (1/463) من قول مسروق وعمرو بن ميمون.
(3) ذكره البغوي في تفسيره (1/325).
(4) ... محمد بن الحسين بن محمد البغدادي، ابن الفرّاء، أبو يعلى الحنبلي، عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، صاحب التعليقة الكبرى، والتصانيف المفيدة في المذهب. توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/89، والأعلام للزركلي 6/99).
(5) ... انظر: زاد المسير (1/420).(1/266)
أَنْصَارِيٍّ بالمَدِينَةِ مَالاً من نخل، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَا (1) ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا فَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَس: فَلَمَّا نَزَلَتْ: { لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يا رسول الله، إِنَّ الله يَقُولُ: { لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَا، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لله أَرْجُو برَّهَا وَذخْرَهَا عِنْدَ الله، فَضَعْهَا حيثُ أراكَ الله، فقَالَ: بَخْ، ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، أو رايح -شك الراوي-، وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أَقَارِبهِ وَبَني عَمِّهِ" (2) .
وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد، فكأنَّ زيداً وجد في نفسه، وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما إن الله قد قبلها منك" (3) .
وأعتقت امرأة جارية لا تملك غيرها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "حَجَبَتْكِ من النار" (4) .
ويروى أن ابن عمر رضي الله عنهما قرأ هذه الآية يوماً، فقال: لا أجد
__________
(1) قال ابن الأثير في النهاية (1/114): هذه اللفظة كثيراً ما تختلف ألفاظ المحدثين فيها، فيقولون: بيرحا، بفتح الباء وكسرها، وبفتح الراء وضمها والمد فيهما، وبفتحهما والقصر. وهي اسم مال وموضع بالمدينة.
(2) أخرجه البخاري (2/530 ح1392)، ومسلم (2/693 ح998).
(3) أخرجه الطبري (3/348)، وابن أبي حاتم (3/704)، والثعلبي (3/110).
... قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (ص:27): وهو معضل.
(4) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/110) بغير إسناد، عن حوشب.(1/267)
شيئاً أحب إليّ من جاريتي رُمَيْثَة، هي حُرَّة لوجه الله تعالى. ثم قال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً مولاه، فهي أم ولده (1) .
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (2) بإسناده: أن الربيع بن خُثَيم (3) جاءه سائل في ليلة باردة، فخرج إليه فرآه كأنه مَقْرُور (4) ، فقال: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فنزع برنساً له، فأعطاه إياه.
ووقف سائل على بابه مرة أخرى، فقال: أطعموه سُكَّراً، فقالوا: الخبز أنفع له، فقال: ويحكم، أطعموه سُكَّراً فإن الربيع يحب السُّكَّر (5) .
* كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
__________
(1) أخرجه الحاكم (3/647)، والثعلبي (3/111). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/260) وعزاه لعبد بن حميد والبزار.
(2) الزهد (ص:399).
(3) الربيع بن خثيم -بضم المعجمة وفتح المثلثة- بن عائذ بن عبد الله الثوري، أبو يزيد الكوفي، من عباد أهل الكوفة وزهادهم والمواظبين منهم على الورع الخفي والعبادة الدائمة. توفي سنة إحدى أو ثلاث وستين (التقريب ص:206، ومشاهير علماء الأمصار ص:99).
(4) أي: بارد.
(5) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:397)، وابن أبي شيبة (7/148)، وأبو نعيم في الحلية (2/115)، وهناد في الزهد (1/344)، والثعلبي في تفسيره (3/111).(1/268)
تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ازخب
قوله: { كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل } السبب في نزولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا على مِلَّة إبراهيم. فقالت اليهود: وكيف وأنت تأكل لحوم الإبل، وتشرب ألبانها؟ فقال: "كان ذلك حلالاً لإبراهيم، فقالوا: كل شيء نُحرِّمه [نحن] (1) فإنه كان مُحرَّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأكذبهم الله
__________
(1) ... زيادة من زاد المسير (1/422).(1/269)
بهذه الآية" (1) .
والحِلّ والحَلال كالحُرُم والحَرَام، واللُّبس واللِّبَاس. وجائز أن يكون الحل مصدراً، ولذلك استوى في الوصف المذكَّر والمؤنث، والواحد والجمع، نحو قوله: { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } [الممتحنة:10].
{ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لحوم الإبل وألبانها. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وهو قول ابن عباس في رواية أبي صالح، والحسن، وعطاء.
والثاني: زائدتا الكَبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر. قاله عكرمة.
والثالث: العروق. قاله مجاهد وقتادة (3) ، وروي عن ابن عباس (4) .
وكان السبب في تحريمه له ما روى شهر بن حوشب عن ابن عباسٍ: "أنّ عِصَابَةً مِنَ اليَهُودِ حَضَرَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: أخبرنا يا أحمدُ أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة؟ فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : أَنْشُدُكُمْ بالله الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً، فَطَالَ سَقَمُهُ منه، فَنَذَرَ لله لَئِنْ عافاه الله مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطعام والشَّرَاب إِلَيْهِ، وكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الإِبلِ، وَأَحَبَّ
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (3/112)، والواحدي في أسباب النزول (ص:118)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/422).
(2) من حديث شهر بن حوشب عن ابن عباس الآتي.
(3) أخرجه مجاهد (ص:132).
(4) ذكره الثعلبي (3/112-113)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/422-423).(1/270)
الشَّرَاب إِلَيْهِ أَلبَانُهَا، فَقَالُوا: اللهمَ نَعَمْ" (1) .
وروي عن ابن عباس: أن الأطباء وصفوا له اجتناب ما حرَّمه، فحرَّمه (2) .
وروي عن ابن عباس: أنه شكى عرق النَّسَا، فحرَّم العروق (3) .
واختلفوا هل حرَّم ذلك بإذن الله أم باجتهاده؟ على قولين (4) .
واختلفوا لماذا ثبت تحريمه على اليهود؟ فقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد (5) .
وقال الضحاك: وافقوا أباهم في التحريم (6) .
وقال ابن السائب: حرّمه الله بعد التوراة، لا فيها، وكانوا إذا أصابوا ذنباً
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/294 ح3117)، والنسائي في الكبرى (5/336 ح9072)، وأحمد (1/273 ح2471).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/423).
(3) أخرجه الطبري (4/2)، وابن أبي حاتم (3/705) ، والحاكم (2/320)، والبيهقي في الكبرى (10/8). وذكره السيوطي في الدر (2/263) وعزاه لعبد بن حميد والفريابي والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(4) ... انظر: القرطبي (4/135).
(5) ... أخرجه الطبري (4/2). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/263) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(6) ... أخرجه الطبري (4/2). وذكره الماوردي (1/410) بلا نسبة.
... وهذا القول أصح الأقوال.(1/271)
عظيماً حُرِّم عليهم طعام طيب، أو صُبَّ عليهم العذاب (1) .
{ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها } لتعرفوا أن هذا التحريم كان من جهة يعقوب، ولم يكن من زمن إبراهيم ولا نوح، { إن كنتم صادقين } فيما تدَّعون من التحريم.
ومعنى الآية: أن المطاعمَ كلَّها كانت حلالاً لبني إسرائيل من قبل نزول التوراة، وتحريم ما حُرِّم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرّم منها شيء قبل ذلك سوى المطعوم الذي حرَّمه يعقوب على نفسه، فتبعه أولاده على تحريمه.
وتتضمن الآية أيضاً تكذيبهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما عيَّرهم الله به في قوله: { فَبظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } ... إلى قوله: { عَذاباً أَلِيماً } [النساء:160-161]، وفي قوله: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } ... إلى قوله: { ذلِكَ جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ } [الأنعام:146]، فقالوا: لسنا بأول من حُرِّم عليه هذا، وإنما هو محرَّم على نوح وإبراهيم، حتى انتهى التحريم إلينا فحرِّم علينا، فكذبهم الله بهذه الآية.
فصل
وقد تضمنتْ هذه الآية فوائد؛ منها:
__________
(1) ... أخرجه الثعلبي (3/113). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/423).(1/272)
1- التنبيهُ على جواز النسخ الذي يُنكرونه، وأن الأطعمةَ كانت محلَّلة لهم قبل نزول التوراة، إلا ما استثناه الله، ثم حُرِّمت عليهم طيبات كانت حلالاً لهم، بسبب ظلمهم.
2- ومنها تأكيدُ صدقه - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قاضاهم إلى كتابهم وأخبرهم بحقيقة ما فيه.
3- ومنها إيضاحُ الحُجَّة على رسالته، لكونه أخبرهم بما يعلمون صحته، ولم يكن من أهل العلم بذلك، لولا الوحي.
وقد روي أنهم لم يجسروا على محاققته بالمرافعة إلى التوراة، خوف الفضيحة من ظهور باطلهم.
قوله تعالى: { فمن افترى } أي: اختلق { على الله الكذب من بعد ذلك } ونسب ما لم يكن محرماً على نوح وإبراهيم إليهما، معرضاً عن هذا البيان، { فأولئك هم الظالمون } الذين شأنهم الظلم، وعدم الاتصاف بالإنصاف.
قوله تعالى: { قل } لهم يا محمد: { صدق الله } فيما أخبر به من دين إبراهيم وشريعته. المعنى: وكذبتم أنتم، { فاتبعوا مِلَّة إبراهيم حنيفاً } وهي مِلَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتخلَّصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف، والتبديل، والاجتراء على تكذيب الرسل والكذب عليهم.
وفي قوله: { وما كان من المشركين } تعريض بشرك أهل الكتاب، لأنهم إنما نسبوه إلى اليهودية أو النصرانية.
¨bخ) أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ(1/273)
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ازذب
قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } قال مجاهد: فَخَرَ المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة، وقال المسلمون: الكعبة أفضل؛ فنزلت هذه الآية (1) .
قال أبو هريرة: كانت الكعبة حشفة (2) على الماء، عليها ملكان يسبحان
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/114)، والواحدي في أسباب النزول (ص:118-119)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/424).
(2) الحشفة: صخرة رخوة حولها سهل من الأرض، أو صخرة تنبت في البحر (القاموس المحيط ص:1034).(1/274)
الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة (1) .
وقال ابن عباس: وُضِع البيت على الماء على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دحيت (2) الأرض من تحت البيت (3) .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أَوَّلاً؟ قَالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الأقْصَى، قال: قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً" (4) .
وفي آخر حديث البخاري: "ثم الأرض لك مسجد، فحيث ما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإن الفضل فيه" (5) .
وقد أوردنا عند قوله: { وَإِذ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ } [البقرة:127] ما يدل على أوّليته أيضاً.
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/265) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... الدَّحْوُ: البَسْط، دحا الأرض يدحوها دحواً: بسطها (اللسان، مادة: دحا).
(3) ... أخرجه أبو الشيخ في العظمة (4/1381). وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/310) وعزاه لعبد بن حميد.
... وفي هامش الأصل: قيل: إن الله تعالى بنى في السماء بيتاً، وهو البيت المعمور، ويسمى ضراح، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله. وقيل: أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان، ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه. معالم تنزيل [تفسير البغوي 1/115].
(4) ... أخرجه البخاري (3/1231 ح3186)، ومسلم (1/370 ح520).
(5) ... أخرجه البخاري (3/1260 ح3243).(1/275)
واختلفوا في بكة ومكة؛ فقال الضحاك: هما واحد (1) ، واحتجوا بأن الباء تبدل من الميم؛ كلازم ولازب، وسَبَّدَ رأسه وسَمَّدَه؛ إذا استأصله (2) .
وذهب الأكثرون إلى أن بينهما فرقاً، فقالوا: مكة -بالميم-: اسم لجميع البلد، وبكة: اسم للبقعة المبنى فيها البيت. قاله ابن عباس ومجاهد وإبراهيم في آخرين (3) .
وقال الزهري: بكة -بالباء-: اسم للمسجد والبيت، ومكة: اسم للحرم كله (4) .
والبَكُّ في اللغة: الازدحام والدَّقّ (5) ، فسُمِّيَ البيت بذلك؛ لأنه مزدحم الطائفين وقاصم أعناق الجبارين الباغين له السوء.
وقال قطرب (6) : هو من بَكَكْتُ الرَّجُل؛ إذا وضعتُ منه ورددت نَخْوَته (7) ، فهو يضع من نخوة المتجبرين (8) .
__________
(1) أخرجه الطبري (4/138). وذكره الواحدي في الوسيط (1/466) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (1/425)، والسيوطي في الدر المنثور (2/267) وعزاه لابن جرير.
(2) انظر: اللسان، مادة: (سبد، سمد).
(3) انظر: الطبري (4/9)، وابن أبي حاتم (3/709)، والثعلبي (3/115).
(4) أخرجه الطبري (4/10)، وابن أبي حاتم (3/709)، والثعلبي (3/115). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/267) وعزاه لابن جرير.
(5) انظر: اللسان، مادة: (بكك).
(6) محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي، الشهير بقطرب، عالم بالأدب واللغة، أخذ عن سيبويه، وقطرب لقب دعاه به أستاذه سيبويه فلزمه. توفي سنة ست ومائتين (الأعلام للزركلي 7/95).
(7) انظر: اللسان، مادة: (بكك).
(8) انظر: زاد المسير (1/425).(1/276)
وقوله: { مباركاً } حال من المستكنّ في الظرف (1) ، أي: استقر ببكة في حال بركته، { وهدى للعالمين } لأنه مطافُهم ومزارُهم، وقِبْلتُهم.
وروى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة" (2) .
قوله: { فيه آيات بيِّنات } وقرأ ابن عباس ومجاهد: "آية بيِّنة" (3) .
{ مقام إبراهيم } عطف بيان (4) ، وصح بيان الجماعة بالواحد على قراءة الأكثرين؛ لاشتمال مقام إبراهيم على آيات متعددة؛ منها:
- تأثير قدميه في صخرةٍ صَمَّاء، آيةً لله، ومعجزة لإبراهيم.
- وإلانة بعضها دون بعض.
- وحفظها مع كثرة أعداء الحق وأهله.
قال ابن جرير (5) : فيه إضمار تقديره: منها مقام إبراهيم.
قال المفسِّرون: والآيات فيه كثيرة؛ منها:
- مقام إبراهيم.
- وامتناع الطير من العلوّ عليه، واستشفاء المريض منها به.
__________
(1) انظر: التبيان (1/144)، والدر المصون (2/169).
(2) أخرجه الترمذي (3/292 ح959)، وأحمد (2/3 ح4462)، والحاكم (1/664).
(3) أخرجه مجاهد (ص:132). وانظر: مختصر ابن خالويه (ص:23)، والطبري (4/10).
(4) قاله الزمخشري في الكشاف (1/415).
(5) تفسير الطبري (4/11).(1/277)
- وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته (1) .
وقال علي رضي الله عنه: الآيات البينات: مقامُ إبراهيم، وأمنُ مَن دخله (2) .
وقال القاضي أبو يعلى (3) : يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه.
فإن قيل: تأويل عليّ رضي الله عنه يستلزم إطلاق الجمع على التثنية.
قلت: هي آيات باعتبار تعدد الذوات الآمنة فيه.
قوله: { ومن دخله كان آمناً } قال القاضي أبو يعلى (4) : لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، تقديره: من دخله فأمنوه.
وقال الضحاك: المعنى: مَنْ حَجَّه كان آمناً من ذنوبه التي اكتسبها قبل ذلك (5) .
قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مَن دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذاب الله (6) .
وقال أبو النجم القرشي الصوفي: كنتُ أطوف بالبيت، فقلت: يا سيدي!
__________
(1) ذكره الماوردي (1/411)، والواحدي في الوسيط (1/467)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/427).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/426).
(3) انظر: زاد المسير (1/426).
(4) انظر: زاد المسير (1/427).
(5) أخرجه الثعلبي (3/150).
(6) ذكره الثعلبي (3/151)، والقرطبي (4/141-142).(1/278)
قلتَ: { ومن دخله كان آمناً } ، من أي شيء؟ فسمعتُ قائلاً من ورائي: آمناً من النار، فالتفتُّ فلم أَرَ شيئاً (1) .
قوله: { ولله على الناس حج البيت } قرأ حمزة والكسائي وحفص "حِجُّ" -بكسر الحاء-، وفتحها الباقون (2) .
وقوله: { من استطاع إليه سبيلاً } بدل من "الناس".
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاستطاعة فقال: "الزاد والراحلة" (3) .
وهذا مذهب أكثر العلماء (4) .
وقال مالك: إن وثق من نفسه بالقوة على المشي لزمه الحج (5) .
وقال الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع (6) .
ثم هدَّد الله اليهود حيث قابلوا وجوب الحج بالجحود، فقال: { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } أي: من كفر بوجوب الحج، وهذا قول ابن
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/151).
(2) الحجة للفارسي (2/35)، والحجة لابن زنجلة (ص:170)، والكشف (1/353)، والنشر (2/241)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:178)، والسبعة في القراءات (ص:214).
(3) أخرجه الترمذي (3/177، 5/225)، وابن ماجه (2/967).
(4) انظر: المغني (3/98).
(5) انظر: بداية المجتهد (1/372).
(6) أخرج نحوه ابن أبي حاتم (3/714). وانظر: المغني (3/86).(1/279)
عباس والحسن ومجاهد والأكثرين (1) .
وقال السدي: مَن وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به (2) .
وقال عمر رضي الله عنه: لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليهم الجزية (3) .
وقال ابن عمر: مَن أمكنه الحج فلم يحج حتى مات، وُسِمَ بين عينيه: كافر (4) .
وروي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة قال: "من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، ولا مرض حابس، ولا سلطان جائر، فمات ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً" (5) .
ِ@è% يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى
__________
(1) أخرجه الطبري (4/19)، وابن أبي حاتم (3/715). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/276) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (4/21).
(3) ... أخرج نحوه البيهقي في سننه الكبرى (4/334)، والثعلبي (3/157). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/275) وعزاه لسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (3/305)، وابن أبي حاتم (3/715). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/275) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الدارمي في السنن (2/45 ح1785)، والبيهقي في الكبرى (4/334 ح8443)، وشعب الإيمان (3/430 ح3979)، وأبو يعلى (1/196 ح231).(1/280)
مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اززب
قوله: { قل يا أهل الكتاب } (1) هم اليهود والنصارى، { لم تكفرون } توبيخ وتقريع لهم { بآيات الله } وهي الآيات والمعجزات التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ والله شهيد } أي: شاهد لا يغيب عنه شيء من عملكم، والواو في "والله" للحال.
{ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدون } وقرأ الحسن: "تُصِدُّونَ"، بضم التاء وكسر الصاد (2) .
{ عن سبيل الله مَن آمن } وكانوا يحتالون لإفتان المؤمنين تارة بكتمان
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً عاشراً، مرة ثانية.
(2) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:22).(1/281)
صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة بالدخول في الإسلام والخروج منه في اليوم الواحد؛ لإيقاع الريبة في قلوب المسلمين، وتارة بالتحريش بين الأوس والخزرج، وبذكرهم الأحقاد والحروب التي كانت بينهم ليعودوا لمثلها.
{ تبغونها عوجاً } في محل الحال (1) ، والكناية للسبيل، وهي تُذكَّر وتُؤنَّث. والمراد: تبغون أهل السبيل الضلال، والميل عن الهدى.
قال أبو [عبيدة] (2) : العِوَج -بكسر العين-: في الدين والكلام والعمل، والعَوَج -بفتحها-: في الحائط والجذع.
وقال الزجاج (3) : العِوَج -بكسر العين-: فيما لا ترى له شخصاً، وما كان له شخص قلت: عَوَج -بفتحها-.
وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال (4) : العِوَج عند العرب -بكسر العين-: في كل ما لا يحاط به. وبفتحها: في كل ما يتحصل، فيقال: في الأرض عِوَج، وفي الدين عِوَج، لأن هذين يتسعان، ولا يُدركان. وفي العصا عَوَج، وفي السن عَوَج، لأنهما يُحاط بهما ويُبلغ كُنْهَهُما (5) .
وقال ابن فارس (6) : العَوَج -بفتح العين- في كل منتصب؛ كالحائط.
__________
(1) ... انظر: التبيان (1/144)، والدر المصون (2/173).
(2) ... في الأصل: عبيد. والتصويب من زاد المسير (1/430)، وهو في مجاز القرآن (1/98).
(3) ... معاني الزجاج (3/267).
(4) ... انظر: زاد المسير (1/430).
(5) كُنْه الشيء: نهايته (مختار الصحاح، مادة: كنه).
(6) معجم مقاييس اللغة (4/180).(1/282)
والعِوَج: ما كان في بساط، أو أرض (1) ، أو دين، أو معاش.
{ وأنتم شهداء } هذه واو الحال (2) ، والمعنى: وأنتم شهداء بصحة ما صَددتم عنه، وبطلان ما أنتم عليه. وهذا قول ابن عباس وقتادة والأكثرين (3) .
وقيل: "وأنتم شهداء" ثقات عدول عند أهل دينكم، فيكون خارجاً مخرج التذكير لهم بنِعَمِ الله عليهم وإحسانه إليهم.
وقال القاضي أبو يعلى (4) : "وأنتم شهداء" أي: عُقلاء.
ثم هدَّدهم فقال: { وما الله بغافل عما تعملون } .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ
__________
(1) في معجم مقاييس اللغة: أمر.
(2) انظر: الدر المصون (2/175).
(3) الطبري (4/22)، وزاد المسير (1/340).
(4) انظر: زاد المسير (1/430).(1/283)
آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ اتةتب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب... الآية } سبب نزولها: أن رجلاً من اليهود يقال له: شاس بن قيس -وكان شيخاً يهودياً عاسياً (1) عاتياً شديد الشكيمة في كفره-، مرّ بمجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فغاظه اتفاقهم على الإيمان، بعد افتراقهم زمن عبادة الأوثان، فحمله البغي والعناد على إيقاد نار الفساد، فأنشدهم أشعارَ بُعَاث (2) ؛ ليبعثهم على الشر، وهو يومٌ عظيم من أيام حروبهم، وكان الظفر فيه للأوس، فتنازع الحَيَّان عند ذلك، وتفاخروا، وأخذتهم الأنفة، والحمية، حتى دعوا بدعوى الجاهلية، وأخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فأنزل الله هذه الآية وما في حيزها؛ فأقبل بها نبي الرحمة حتى وقف بين الصَّفَّيْن، فقرأها، ورفع بها صوته، فأنصتوا، وعلموا أنها نزغة الشيطان، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً، وجَثُوا (3) يبكون (4) .
__________
(1) عَسَا الشيخُ يَعْسُو عَسْواً وعُسُوّاً وعُسِيّاً: كَبرَ (اللسان، مادة: عسا).
(2) ... يوم بُعاث: كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وهو يوم من مشاهير أيام العرب (انظر: اللسان، مادة: بعث). وكان الظهور فيه للأوس.
(3) ... جَثَا يَجْثُو جُثُوّاً وجثياً: جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها (انظر: اللسان، مادة: جثا).
(4) ... أخرجه الطبري (4/23) عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، به. وأخرجه ابن أبي حاتم (3/718). وذكره الثعلبي (3/158-159)، والواحدي في أسباب النزول (ص:119-120)، كلهم عن زيد بن أسلم، والسيوطي في الدر المنثور (2/278-279) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن زيد بن أسلم، والسيوطي أيضاً في لباب النقول (ص:55-56) وعزاه لابن إسحاق وأبي الشيخ عن زيد بن أسلم. وانظر: سيرة ابن هشام (3/93-94).(1/284)
{ وكيف تكفرون } استفهام في معنى التعجب والإنكار، المعنى: من أين يتطرق الكفر إليكم؟ { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } يعنى: القرآن، { وفيكم رسوله } محمدٌ تشرق أنوار رسالته، وهدايته في أبصاركم وبصائركم:
كَأنَّهُ الشَّمْسُ في البُرْجِ المُنِيفِ بهِ ... ... عَلَى البَرِيَّةِ لاَ نَارٌ عَلَى عَلَم (1)
{ ومن يعتصم بالله } فَيَلُوذُ ببَابهِ، وَيَعُوذُ بجَنَابهِ، { فقد هُدي إلى صراط مستقيم } . أخبر عنه بصيغة الماضي لتحقق حصوله.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
__________
(1) ... البيت لابن الرومي، انظر: حياة الحيوان الكبرى (2/508).(1/285)
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اتةجب
قوله: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } قال ابن مسعود: هو أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُذكر فلا يُنسَى، وأن يُشكر فلا يُكفر (1) .
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة (7/106)، والحاكم في المستدرك (2/323)، والطبري (4/27-28)، وابن أبي حاتم (3/722)، وابن المبارك في الزهد (ص:8)، والطبراني في الكبير (9/92)، والنحاس في ناسخه (ص:281)، كلهم من طريق زبيد اليامي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفاً. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/282-283) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه.
... ... وأخرجه الثعلبي (3/161) عن أبي النضر، عن محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبدالله، رفعه.(1/286)
ورواه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن عباس: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده، وأن لا تأخذكم في الله لومة لائم، وأن تقوموا لله بالقسط، ولو على أنفسكم، وآبائكم وأبنائكم (1) .
فصل
ذهب ابن عباس -في رواية- وسعيد بن جبير وقتادة وأكثر المفسِّرين إلى أن هذا منسوخ بقوله: { فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) [التغابن:16]، والذاهبون إلى إحكامه جعلوا قوله: "مَا اسْتَطَعْتُمْ" مفسراً لقوله: { حَقَّ تُقَاتِهِ } (3) .
قوله: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } قال صاحب الكشاف (4) : معناه: لا تموتن على حال سوى حال الإسلام، إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن
__________
(1) أخرجه الطبري (4/28-29)، وابن أبي حاتم (3/722)، والنحاس في ناسخه (ص:283). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/283) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه.
(2) الطبري (4/29)، وابن أبي حاتم (3/722)، والناسخ والمنسوخ لابن الجوزي (ص:242).
(3) قال النحاس في ناسخه (ص:283): كل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ، وهذا هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً".
... وانظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:62)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:241) وما بعدها، وزاد المسير (1/432).
(4) الكشاف (1/423).(1/287)
تستعين به على لقاء العدو: لا تأتني إلا وأنت على حصان، لا تنهاه عن الإتيان، [ولكنك] (1) تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان.
قوله: { واعتصموا بحبل الله جميعاً } قال الزجاج (2) : "اعتصموا": استمسكوا.
قال ابن مسعود: "حبل الله": كتابه (3) .
وقال في رواية أخرى: الجماعة (4) .
وقال مجاهد: عهد الله (5) .
و"جميعاً" نصب على الحال (6) .
{ ولا تفرَّقوا } أصلها: تتفرقوا، فحذفت التاء الثانية الأصلية؛ لاتفاقهما في الجنسية.
__________
(1) في الأصل: ولكنه. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(2) معاني الزجاج (1/450).
(3) أخرجه الطبري (4/31)، والطبراني في الكبير (9/212)، وسعيد بن منصور (3/1083). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/284) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني بسند صحيح.
(4) أخرجه الطبري (4/30)، وابن أبي حاتم (3/723)، والطبراني في الكبير وسعيد بن منصور، الموضعان السابقان. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/285) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني.
(5) أخرجه الثعلبي (3/162)، والطبري (4/31)، وابن أبي حاتم (3/723) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/723) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.
(6) انظر: الدر المصون (2/177).(1/288)
فإن قيل: هلاَّ حُذفت التاء الأولى -لمكان زيادتها- وأقرّتِ الأصلية؟
قلتُ: لأن الأُولى دخلت لمعنى الاستقبال، فكان حذف ما لا معنى فيه أولى.
وابن كثير في رواية البزي (1) يشدِّد التاء على الإدغام، وهذا مذهبه في كل ما أصله تاءان، مثل: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخَبيثَ } [البقرة:267]، { وَلاَ تَجَسَّسُوا } [الحجرات:12]، وذلك في إحدى وثلاثين موضعاً في القرآن (2) .
والمعنى: لا تختلفوا وتتفرقوا، كما تفرقت اليهود والنصارى.
{ واذكروا } أيها الأوس والخزرج { إذ كنتم أعداء } تتناحرون، ورحى الحرب تدور بينكم مائة وعشرين سنة { فألَّف بين قلوبكم } بالإسلام، وبمحمد عليه الصلاة والسلام، { فأصبحتم } أي: فَصِرْتُم { بنعمته إخواناً } يعني: إخوة في الدين { وكنتم على شفا حفرة } أي: على حرف هوة { من النار } وهو تمثيل لقربهم من الهلاك، على معنى: ليس بينكم وبين الخلود في النار سوى مفارقة هذه الدار، { فأنقذكم منها } بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثاً، وَرَضِيَ لَكُمْ ثَلاثاً. رَضِيَ لَكُمْ أنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَأنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ الله جَمِيعاً، وَأنْ تَنْصَحُوا لِوُلاةِ الأمْرِ. وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ
__________
(1) أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، أبو الحسن المكي، من كبار القراء، قال ابن الجزري: أستاذ محقق ضابط متقن، توفي سنة خمسين ومائتين (طبقات القراء لابن الجزري 1/120، والأعلام للزركلي 1/204).
(2) النشر (2/232).(1/289)
وَقَالَ، وَإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" (1) .
{ كذلك } أي: مثلُ ذلك البيان الواضح { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } إرادة أن تزدادوا هدى.
ويروى: أن أعرابياً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية فقال: والله ما أنقذهم منها، وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس: خذوه من غير فقيه (2) .
`ن3tFّ9ur مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
__________
(1) أخرجه أحمد (2/327 ح8316).
(2) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/121-122).(1/290)
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا(1/291)
فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ اتةزب
قوله: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } "مِنْ" للتبعيض، لأنه لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العالِم بما يجوز في ذلك وما لا يجوز: و"الخير": الإسلام، و"المعروف": طاعة الله وطاعة رسوله، و"المنكر": معصية الله ومعصية رسوله.
{ وأولئك } يعني: الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون وينهون، { هم المفلحون } .
قال علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (1) .
وأخرج الإمام في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْر الله عَلَيْهِ فِيهِ مَقَال أن يقول، فَيَقُولُ الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: رَب، خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى" (2) .
قرأت على أبي المجد محمد بن الحسين القزويني (3) ، أخبركم أبو
__________
(1) ... أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/74). وانظر: تفسير أبي السعود (2/68).
(2) ... أخرجه أحمد (3/47 ح11458).
(3) ... محمد بن الحسين القزويني، أبو المجد الصوفي. المحدّث. توفي بالموصل سنة اثنتين وعشرين وستمائة (سير أعلام النبلاء 22/249، وشذرات الذهب 5/101).(1/292)
منصور محمد بن أسعد الطوسي (1) ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري (2) ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي (3) ، حدثنا عبد الرحيم بن منيب (4) ، حدثنا يعلى (5) ، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَثَلُ الواقع في حدود الله والمداهن (6) فيها، كمثل قوم ركبوا في السفينة، فاستهموا عليها، فركب قوم علوها، وركب قوم سفلها، وكانوا إذا استقوا آذوهم، وأصابوهم بالماء، فقالوا: إنكم قد آذيتمونا،
__________
(1) ... محمد بن أسعد الطوسي، أبو منصور العطاري، المعروف بحفدة، واعظ من فقهاء الشافعية. توفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/539، والأعلام للزركلي 6/31).
(2) ... أحمد بن الحسن النيسابوري، أبو بكر الحيري، الشافعي، المحدث الفقيه. توفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 17/356).
(3) ... حاجب بن أحمد النيسابوري، أبو محمد الطوسي، مسند نيسابور، روى عن محمد بن رافع وجماعة. توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/336، وميزان الاعتدال 2/164).
(4) لم أجد له ترجمة، وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/336) عرضاً في سياق ترجمة حاجب النيسابوري، إذ قال: "روى عن عبد الرحمن بن منيب" يقصد حاجب النيسابوري.
(5) يعلى بن عبيد بن أبي أمية، الكوفي، أبو يوسف الطَّنَافِسي، ثقة إلا في حديثه عن الثوري ففيه لين، وقال أبو حاتم: صدوق. توفي سنة بضع ومائتين (لسان الميزان 7/446، وتهذيب الكمال 32/389، والتقريب ص:609).
(6) ... قال في اللسان (مادة: دهن): والمداهنة والإدهان: المصانعة واللين، وقيل: المداهنة إظهار خلاف ما يُضمر، والإدهان: الغش.(1/293)
مما تمرون علينا، فأعطوا رجلاً فأساً فنقب عندهم نقباً، قالوا: ما هذا الذي تصنعون؟ قالوا: تأذيتم بنا فننقب عندنا نقباً نستقي منه، فإن تركوهم هلكوا، وأهلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا" (1) . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري، عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش.
قوله: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } ، وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى. قاله ابن عباس والحسن (2) .
والثاني: أنهم الحرورية. قاله أبو أمامة (3) .
قوله: { يوم تَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوه } "يوم" نصب على الظرف، وهو "لهم"، أو بإضمار "اذكروا" (4) .
قال ابن عباس -في رواية عطاء-: يوم تَبْيَضُّ وجوه المهاجرين والأنصار، وتَسْوَدُّ وجوه قريظة والنضير (5) .
وقال -في رواية سعيد بن جبير-: يوم تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة، وتَسْوَدُّ
__________
(1) أخرجه البخاري (2/954 ح2540).
(2) ... أخرجه الطبري (4/39)، وابن أبي حاتم (3/728) كلاهما عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/289) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الطبري (4/40). وذكره الثعلبي (3/124)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/435).
(4) التبيان (1/145)، والدر المصون (2/181).
(5) ذكره الثعلبي (3/124) عن عطاء، والواحدي في الوسيط (1/475) كرواية المصنف.(1/294)
وجوه أهل البدعة (1) .
وقيل: يوم تَبْيَضُّ وجوه المؤمنين، وتَسْوَدُّ وجوه الكافرين، وقيل: المنافقين.
{ فأما الذين اسْوَدّت وجوههم } وهم أهل البدعة، أو اليهود والنصارى، على اختلاف القولين، أو جميع الكفار أو المنافقين، على القولين الآخرين، { أكفرتم } على إضمار القول، أي فيقال لهم: أكفرتم { بعد إيمانكم } بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه.
وإن أريد به الحرورية، فالمعنى: "أكفرتم" غطيتم الحق، وفارقتم الجماعة، وسللتم سيف البغي على المؤمنين { بعد إيمانكم } .
وإن أريد به جميع الكفار، فالمعنى: أكفرتم بعد إيمانكم يوم { ألست بربكم } [الأعراف:172].
وإن أريد به المنافقون، فالمعنى: بعد إيمانكم بألسنتكم.
{ فذوقوا العذاب } أصل الذَّوْق بالفم، ثم استعير لما يُتعرَّف. تقول العرب: ذق الفرس فاعرف ما عنده. وأنشدوا:
فَإِنَّ الله ذاقَ حُلُوم قَيْسٍ ... ... فَلمَّا رَأَى خِفَّتها قَلاَهَا (2)
وفي كتاب الخليل: كُلُّ ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/465)، والخطيب في تاريخه (7/379). وذكره الواحدي في الوسيط (1/475-476)، والسيوطي في الدر المنثور (2/291) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي نصر في الإبانة والخطيب في تاريخه واللالكائي في السُنَّة.
(2) البيت ليزيد بن الصعق، كما في الحيوان للجاحظ (5/30).(1/295)
أخبرنا الإمام أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي (1) ، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز (2) ، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن مهدي الخطيب، أخبرنا أبو نصر محمد بن عبيد الله بن الحسن، حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن علي الزيات (3) ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أيوب، سمعت الحسن بن [حماد] (4) سَجّادة يقول: بلغني أن أم إسحاق الأزرق قالت له: يا بني؛ إن بالكوفة رجلاً يستخف بأصحاب الحديث، وأنت على الحج، فأسالك بحقي عليك أن لا تسمع منه شيئاً. قال إسحاق: فدخلت الكوفة، فإذا الأعمش قاعد وحده، فوقفت على باب المسجد، فقلت: أمي والأعمش، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (5) ، فدخلت المسجد فسلّمت، فقلت: يا أبا محمد؛
__________
(1) زيد بن الحسن بن زيد ، أبو اليمن الكندي البغدادي، المقرئ والنحوي واللغوي، مسند الشام، ولد سنة عشرين وخمسمائة، وقد حفظ القرآن الكريم وقرأه بالروايات العشر وهو صغير، وهو شيخ الحنفية (سير أعلام النبلاء 22/34).
(2) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد، أبو منصور الشيباني، القزاز، كان صحيح السماع. توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة (المنتظم 10/90، وسير أعلام النبلاء 20/69).
(3) عمر بن محمد بن علي البغدادي، أبو حفص، المشهور بابن الزيات، كان ثقة أميناً. توفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/323).
(4) في الأصل: الحسن بن محمد، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. وهو: ابن كُسَيب، الحضرمي، أبو علي البغدادي. توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين (التقريب ص:160).
(5) أخرجه ابن ماجه (1/81 ح224)، وابن حبان في المجروحين (1/141).
... قال السيوطي في شرحه على ابن ماجه (1/20): سئل الشيخ محيي الدين النووي عن هذا الحديث فقال: إنه ضعيف، وإن كان صحيحاً.
... وقال تلميذه الحافظ جمال الدين المزي: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن، وهو كما قال، فإني رأيت له خمسين طريقاً، وقد جمعتها في جزء.(1/296)
حدِّثني فإني رجل غريب، فقال: من أين أنت؟ قلت: من واسط (1) ، قال: فما اسمك؟ قلت: إسحاق بن يوسف الأزرق (2) ، قال: فلا حييت ولا حييت أمك، أليس حرجت عليك أن لاتسمع مني شيئاً؟ قلت: يا أبا محمد؛ ليس كل ما بلغك يكون حقاً، قال: لأحدثنك بحديث ما حدَّثتُ أحداً قبلك، فحدَّثني عن ابن أبي أوفى، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخَوَارِجُ هُمْ كِلابُ النَّارِ" (3) .
وفي مسند الإمام من حديث سَيَّار (4) قَالَ: "جِيءَ برُؤُوسٍ مِنْ قِبَلِ العِرَاقِ، فَنُصِبَتْ عِنْدَ بَاب المَسْجِدِ، وَجَاءَ أَبُو أُمَامَةَ (5) فَدَخَلَ المَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ -ثَلاثاً- وَخَيْرُ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مَنْ قَتَلُوهُ، وَقَالَ: كِلابُ النَّارِ -ثَلاثاً- ثُمَّ إِنَّهُ بَكَى، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا أَبَا أُمَامَةَ؛ أَرَأَيْتَ هَذَا الحَدِيثَ حَيْثُ قُلْتَ:
__________
(1) واسط: بلدة مشهورة في العراق، وسميت بذلك؛ لأنها متوسطة بين البصرة والكوفة (معجم البلدان 5/347).
(2) إسحاق بن يوسف بن مِرْداس المخزومي، الواسطي، المشهور بالأزرق، الحافظ الثقة، كان من أعلم الناس بالحديث. توفي سنة خمس وتسعين ومائة (تذكرة الحفاظ 1/320، وطبقات الحفاظ ص:138-139).
(3) أخرجه ابن ماجه (1/61 ح173)، وأحمد (4/355). ...
(4) سيار بن عبد الله الأموي الدمشقي، مولى لآل معاوية، قدم البصرة، روى عن أبي الدرداء وابن عباس وأبي أمامة والخولاني، أخرج له الترمذي (تهذيب التهذيب 4/257).
(5) صدى بن عجلان بن وهب، أبو أمامة الباهلي، صحابي جليل، سكن الشام وبها توفي سنة إحدى وثمانين (تهذيب التهذيب 4/368).(1/297)
"كِلابُ أَهْلِ النَّارِ" شَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْ شَيْءٌ تَقُولُهُ برَأْيِكَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ الله، إِنِّي إِذاً لَجَرِيءٌ، لَقد سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ، حَتَّى ذكَرَ سَبْعاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: لأَيِّ شَيْءٍ بَكَيْتَ؟ قَالَ رَحْمَةً لَهُمْ" (1) .
وفي رواية أخرى عنه: "ثم قرأ: { يوم تَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوه... إلى آخر الآية } " (2) .
قوله: { ففي رحمة الله } يعني: الجنة.
قال ابن قتيبة (3) : وسمى الجنة رحمة؛ لأن دخولهم إياها كان برحمته.
وقوله: { هم فيها خالدون } موقعه موقع الاستئناف. وكأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون ولا يموتون.
ِNçGZن. خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/226 ح3000) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (1/62 ح176)، وأحمد (5/250 ح22205).
(2) أخرجه أحمد (5/256 ح22262).
(3) تأويل مشكل القرآن (ص:145).(1/298)
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ(1/299)
وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ اتتثب
قوله: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } (1) نزلت حين قالت طائفة من اليهود للمسلمين: ديننا خير، ونحن أفضل (2) .
قال الزجاج (3) : الخطاب لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعمُّ سائر أمته. وفي الحديث: "إنَّكُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أنتمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا على الله عَزَّ وجل" (4) .
والمعنى: كنتم في اللوح المحفوظ، أو في علم الله، أو كنتم مذ كنتم، أو
__________
(1) ... كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الحادي عشر، مرة ثانية.
(2) ... أخرجه الطبري (4/43) عن عكرمة بسند صحيح. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:121)، والثعلبي في تفسيره (3/126) عن عكرمة ومقاتل، ومقاتل في تفسيره (1/186)، والسيوطي في الدر المنثور (2/293) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن عكرمة.
(3) معاني الزجاج (1/456).
(4) أخرجه أحمد (5/3)، والترمذي (5/226 ح3001)، وابن ماجه (2/1433 ح4288)، والحاكم في المستدرك (4/94 ح6987) كلهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.(1/300)
كنتم بمعنى: خلقتم، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به.
وذكر الفراء (1) والزجاج (2) : أن معنى "كنتم": أنتم، كقوله: { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء:96].
ومعنى الكلام: كنتم خير الناس للناس، وأنفع لهم.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي (3) ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر الصوفي (4) ، قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى (5) ، قال: أخبرنا أبو الحسن، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود (6) قراءة عليه
__________
(1) معاني الفراء (1/229).
(2) لم أقف عليه في معاني الزجاج. ونقله عن الزجاج ابن الجوزي في زاد المسير (1/439). وقد أخرجه مجاهد في تفسيره (ص:133).
(3) أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السلمي، البغدادي، المحدث، صالح ثقة صدوق، انتقل إلى دمشق فسكنها إلى توفي سنة خمس عشرة وستمائة (التقييد 1/146).
(4) علي بن أبي بكر بن رُوْزَبة البغدادي، أبو الحسن القلانسي، العطار الصوفي، سمع من أبي الوقت صحيح البخاري، وحدَّث به في حلب وبغداد ورأس عين، حدَّث عنه عز الدين الرسعني، توفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (سير أعلام النبلاء 22/388، وذيل التقييد 2/230).
(5) عبد الأول بن عيسى السجزي، أبو الوقت الهروي، مسند الدنيا، شيخ الإسلام، سمع صحيح البخاري من الداوودي، وتوفي ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/303، والشذرات 4/166).
(6) الداوودي، مسند الوقت، سمع من السرخسي وغيره، توفي سنة سبع وستين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/222).(1/301)
في سنة خمس وستين وأربعمائة، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه بن أحمد بن يوسف بن أعين السرخسي (1) ، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري (2) ، سنة ست عشرة وثلاثمائة، حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم (3) ، عن أبي هريرة: " { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام". هذا حديث صحيح (4) .
وقيل: المعنى: كنتم خير الأمم التي أخرجت للناس.
{ تأمرون بالمعروف } كلام مستأنف، مبين لكونهم خير أمة.
و"المعروف": التوحيد، و"المنكر": الشرك (5) .
__________
(1) راوي صحيح البخاري، سمعه من الفربري، توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/492، وشذرات الذهب 3/100).
(2) حدّث عن البخاري، وسمعه منه مرتين، توفي سنة عشرين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/10، والتقييد ص:125).
... والفِرَبْري نسبة إلى فِرَبْر، بكسر أوله وقد فتحه بعضهم وثانيه مفتوح ثم باء موحدة ساكنة وراء: بليدة بين جيحون وبخارى، وقد خرج منها جماعة من العلماء والرواة (معجم البلدان 4/279).
(3) ... سلمان الأشجعي، أبو حازم الأعرج، الكوفي، ثقة، مولى عزة الأشجعية. توفي على رأس المائة (سير أعلام النبلاء 5/7).
(4) ... أخرجه البخاري (4/1660 ح4281).
(5) ... أخرجه مجاهد (ص:133).(1/302)
قوله: { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام، وأصحابه، { وأكثرهم الفاسقون } وهم الذين أصرُّوا على الكفر، وخرجوا عن الطاعة.
ومما يدل على قِلَّة مَن آمن منهم؛ ما أخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لَوْ آمَنَ بي عَشَرَةٌ من اليَهُودِ، لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلاَّ أَسْلَم" (1) .
قوله: { لن يضروكم } يعني: اليهود، { إلا أذى } أي: ضرراً مقتصراً على أذى، من بُهْتٍ (2) يختلقونه، وباطل يلقونه.
ثم ضمن الله النصر للمسلمين، فقال: { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } . وقوله: { ثم لا ينصرون } جملة معطوفة على الشرط والجزاء. والتقدير: ثم أخبركم وأبشركم أنهم لا ينصرون، ولذلك لم يجزم.
قوله (3) : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا } أي: أينما وجدوا، وقد سبق تفسيره في البقرة (4) ، { إلا بحبل من الله } في موضع الحال (5) ، على معنى: إلا معتصمين، أو متمسكين بحبل من الله، أي عهد منه، وعهد من الناس (6) ، الذين هم ناس على الحقيقة، وهم المسلمون، وعهدهم عقد الذمة لأهل الكتاب، ونسبته إلى الله لصدور الإذن فيه من جهته.
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1434 ح3725)، ومسلم (4/2151 ح2793).
(2) بَهَتَ فلانٌ فلاناً: إذا كذب عليه (اللسان، مادة: بهت).
(3) كتب بالهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً خامساً.
(4) عند الآية: 61.
(5) انظر: التبيان (1/146)، والدر المصون (2/188).
(6) تفسير مجاهد (ص:133).(1/303)
قال الزجاج (1) : وما بعد الاستثناء في قوله: { إلا بحبل من الله } ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه.
وباقي الآية مُفسَّر في البقرة (2) .
* لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ×pyJح !$s% يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
__________
(1) معاني الزجاج (1/457).
(2) عند قوله: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة... الآية } [البقرة:61].(1/304)
الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ(1/305)
وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اتتذب
قوله: { ليسوا سواء } يعني: اليهود، ثم بيَّن ما به وقع انتفاء المساواة، فقال: { من أهل الكتاب أمة قائمة } (1) مستقيمة عادلة.
قال ابن عباس: قائمة على الحق، وعلى أمر الله، لم يتركوه، كما تركه الآخرون (2) .
وقال السدي: قائمة بطاعة الله (3) .
{ يتلون } في موضع رفع صفة لـ"أمة" (4) ، ومثله: { يؤمنون } . والمعنى: يقرؤون كتاب الله، { آناء الليل } ساعاته، واحدها: إِنْي، مثل: نِحْي (5) ، أو: إِنَى، مثل: مِعَى.
قال السدي: "آناء الليل": جوف الليل (6) .
وروى سفيان عن منصور: أنها ما بين المغرب والعشاء (7) .
__________
(1) في الأصل: "منهم أمة قائمة" وهو خطأ.
(2) أخرجه الطبري (4/53-54)، وابن أبي حاتم (3/738). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/297) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) ... أخرجه الثعلبي (3/130). وذكره الطبري (4/53)، والواحدي في الوسيط (1/481).
(4) ويجوز أن يكون حالاً من "أمة"، أو حالاً من الضمير في "قائمة". (انظر: التبيان 1/146، والدر المصون 2/190).
(5) النِّحْيُ: زقّ السَّمن (اللسان، مادة: نحا).
(6) أخرجه الطبري (4/55)، وابن أبي حاتم (3/738)، والثعلبي (3/131). وذكره الماوردي (1/417).
(7) أخرجه الطبري (4/55-56)، وابن أبي حاتم (3/739)، والثعلبي (3/132). وذكره السيوطي في الدر (2/298) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/306)
وقال قتادة: هي ساعات غير معينة (1) .
{ وهم يسجدون } أي: يصلون النوافل، وقيل: هو السجود المعروف.
فعلى القول الأول: تكون الواو للحال (2) .
{ ويأمرون بالمعروف } وهو اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، { وينهون عن المنكر } وهو مخالفته - صلى الله عليه وسلم - ، { ويسارعون في الخيرات } يبادرونها خوف الفوت بحلول الموت.
ومعنى الآية: من أهل الكتاب أمّة موصوفون بهذه الصفات، وهم الذين أسلموا من اليهود؛ كعبد الله بن سلام، ومنهم من أَصَرَّ على يهوديته وكفره، وهم الأكثرون، وإنما اقتصر على الإخبار عن أمة واحدة؛ لوضوح المعنى وظهوره؛ كقوله: { أَمَّن هو قانت } [الزمر:9]، ولم يذكر ضده، ومثل ذلك قول الشاعر:
وَمَا أَدْرِي إِذا يَمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
أَأَلخَيْر الذي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّر الذي هُوَ يَبْتَغِينِي (3)
__________
(1) أخرجه الطبري (4/54-55)، وابن أبي حاتم (3/739) كلاهما عن قتادة والربيع بن أنس. وذكره السيوطي في الدر (2/297) وعزاه لابن جرير عن الربيع.
(2) انظر: التبيان (1/146)، والدر المصون (2/190).
(3) ... البيتان للمثقب العبدي من قصيدة طويلة. انظر: ديوانه (ص:212)، والقرطبي (10/160)، والطبري (22/151)، وزاد المسير (1/183، 443)، وروح المعاني (22/215).(1/307)
أراد: أريد الخير، وأتقي الشر، ولذلك قال: "أيهما يليني"، وقال: "أم الشر".
قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فلن تكفروه } خطابٌ لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ حمزة والكسائي "وما يفعلوا" بالياء، "فلن يكفروه" بالياء أيضاً (1) ، رداً إلى "الأمة القائمة"، وإخباراً عنهم.
والمعنى: لن يضل عنكم ثوابه، { والله عليم بالمتقين } أي: بالمحتجزين بالإيمان عن الشرك، والإيقان عن الشكّ.
قوله: { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } قال مجاهد: نزلت في نفقات الكفار يوم بدر (2) .
وقال مقاتل (3) : في نفقة [سفلة] (4) اليهود على علمائهم.
{ كمثل ريح فيها صِرّ } وهو البرد الشديد، وقيل: النار، سميت بذلك؛ لتصويتها عند التهابها، فأعلمهم الله عز وجل أن ضرر نفقتهم في طاعة الشيطان ومعصية الله على أنفسهم؛ كضرر هذه الريح على هذا الزرع.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/36)، ولابن زنجلة (ص:170-171)، والكشف (1/354)، والنشر (2/241)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:178)، والسبعة في القراءات (ص:215).
(2) أخرجه الطبري (4/59)، وابن أبي حاتم (3/741). وذكره الواحدي في الوسيط (1/482)، والسيوطي في الدر (2/299) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) تفسير مقاتل (1/188). وذكره الواحدي في الوسيط (1/482)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/445).
(4) زيادة من المصادر السابقة.(1/308)
وقوله: { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } ، بالكفر والمعاصي، ومنع حق الله منه، فإنهم إذا كانوا بهذه المثابة، كان سخط الله عليهم أشد، وكانت العقوبة في حقهم أعظم.
وقيل: ظلموا أنفسهم بالزرع في غير أوانه.
فإن قيل: الغرضُ تمثيلُ نفقتهم في ضياعها وذهاب نفعها بما أهلكته الريح، فكيف قال: "كمثل ريح"، والمثل ليس للريح، وإنما هو لما أهلكته؟
قلت: قد سبق الكلام على نظائره.
ويجوزُ أن يكونَ المعنى: مَثَلُ إهلاك نفقتهم كمثل إهلاك الريح، أو مثلها كمثل مهلك الريح، وهو الحرث.
قوله: { وما ظلمهم الله } يعني: المُنْفِقِين، ما ظلمهم إذ لم يتقبل نفقتهم، { ولكن أنفسهم يظلمون } حيث لم يسلكوا بها مسلك ما يُتقبل من النفقات التي يُتقرب بها إلى الله، وتجدي على أصحابها نفع الدنيا والآخرة.
ويجوز أن يكون المعنى: وما ظلم الله أصحاب الحرث الذين اجتاحت الريح زرعهم بالعقوبة، ولكن أنفسهم يظلمون حيث ارتكبوا ما أوجبوا ذلك من الكفر والمعاصي.
ويجوز أن يعود الضمير في: "وما ظلمهم الله" للمنافقين الذين ضُرِب المثل لهم وبهم.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا(1/309)
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ(1/310)
الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ اتثةب
قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } نزلت ناهية لطائفة من المؤمنين، كانوا يواصلون رجالاً من اليهود والمنافقين لما بينهم من الحِلْف، والرَّضاع، والقرابة، والجِوار، والصداقة (1) .
وبطانة الرَّجُل: خَاصَّتُه الذين يَسْتَبْطِنُونَ أمره، ويَظْهَرُون على سره، مأخوذ من بطَانة الثوب (2) .
__________
(1) أخرجه الطبري (4/61) عن ابن عباس، وابن أبي حاتم (3/743) عن محمد بن أبي محمد. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:123-124)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/446) كلاهما من قول ابن عباس ومجاهد، والسيوطي في الدر المنثور (2/299) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) انظر: اللسان، مادة: (بطن).(1/311)
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "الأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي" (1) . أي: جماعتي، وموضع سري، وقوله: "الأنصار شعار، والناس دِثار" (2) .
وقوله: "من دونكم" أي: من دون أبناء جنسكم (3) ، وهم المسلمون. ويجوز أن يكون متعلقاً بـ "لا تتخذوا بطانة" على معنى: بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم.
ثم علَّل ذلك فقال: { لا يألونكم خبالاً } أي: فساداً، أو شراً. والمعنى: لا يدعون من جهدهم شيئاً في إدخال الفساد عليكم. يقال: ألاَ في الأمر يَألُو أَلْواً؛ إذا قَصَّر فيه (4) .
ومنه قول ابن مسعود حين بايعوا عثمان رضي الله عنهما: "ولم نَأْلُ عن خَيْرنا ذي فُوق" (5) .
و"خبالاً" تمييز، أو مصدر، أو مفعول ثان (6) ، على معنى: لا يمنعونكم، ولا ينقصونكم خبالاً.
{ ودوا ما عَنِتُّم } "ما" مصدرية، والمعنى: أحبوا عنتكم وإدخال المشقة
__________
(1) ... أخرجه البخاري (3/1383 ح3588)، ومسلم (4/1949 ح3510).
... والعَيْبَة من الرَّجُل: موضِعُ سِرّه (اللسان، مادة: عيب).
(2) أخرجه البخاري (4/1574 ح4075)، ومسلم (2/739 ح1061).
(3) قال الطبري في تفسيره (4/60): { من دونكم } من دون أهل دينكم وملتكم، يعني: من غير المؤمنين.
(4) انظر: اللسان (مادة: ألا).
(5) ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/63)، والثعلبي في التفسير (3/134).
(6) انظر: التبيان (1/147)، والدر المصون (2/193-194).(1/312)
عليكم، والإضرار لكم في دينكم ودنياكم.
والعَنَتُ: شِدَّةُ الضَّرَر، والمَشَقَّة (1) .
{ قد بَدَتِ البغضاء من أفواههم } بما تسمعون منهم، من شتمكم، والكذب عليكم، { وما تُخْفِي صدورهم } من الغِلّ والحِقْد والحَسَد { أكبر } مما يبدون من أفواههم.
قال القاضي أبو يعلى: في هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات، والكتابة، ولهذا قال الإمام أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب (2) .
وقد روي أن عمر رضي الله عنه، كتب إلى أبي موسى -وقد بلغه أنه استكتب ذمياً-: لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم الله (3) .
قوله: { ها أنتم } قال صاحب الكشاف (4) : "ها" للتنبيه، "أنتم" مبتدأ، "أولاء" خبره، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب.
قوله: { تحبونهم ولا يحبونكم } بيان لخطئهم في موالاتهم، حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء. وقيل: ["أولاء"] (5) موصول، "تحبونهم" صلته، والواو في "وتؤمنون" للحال، وانتصابها من "لا يحبونكم"، أي: [لا] (6)
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (عنت).
(2) انظر: زاد المسير (1/447).
(3) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/127)، وشعب الإيمان (7/43).
(4) الكشاف (1/435).
(5) في الأصل: هؤلاء. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) زيادة من الكشاف (1/435).(1/313)
يحبونكم، والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد، بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونحوه: { فَإِنَّهُمْ يَأْلمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجونَ } [النساء:104]. وبها تمام كلامه (1) .
وقيل: معنى الآية: أنتم تحبونهم؛ لأنكم تريدون لهم الإسلام، ولا يحبونكم؛ لأنهم يريدون لكم الضلال.
{ وتؤمنون بالكتاب كله } هو اسم جنس، يريد: الكتب كلها.
{ وإذا لقوكم } يعني: المنافقين، وقيل: يعني: اليهود، { قالوا آمنا واذا خلوا عَضُّوا } أي: كَدَمُوا (2) { عليكم الأنامل } أي: أطراف الأصابع { من الغيظ } .
وقيل: إن عضّ الأنامل هاهنا استعارة لشدة الحنق والحقد، وإن لم يكن ثَمَّ عض على الحقيقة، كقول الشاعر:
إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ الله غَيْظَهُمْ ... ... عَضُّوا مِنَ الغَيْظِ أَطْرَافَ الأَبَاهِيمِ (3)
ومثله قول أبي طالب:
وَقَدْ صَالَحُوا قَوْماً عَلَيْنَا أَشِحَّةً ... يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بالأَنَامِلِ (4)
__________
(1) أي: الزمخشري في الكشاف.
(2) كَدَمَهُ يَكْدِمُهُ وَيَكْدُمُهُ: عَضَّهُ بأدنى فمه (اللسان، مادة: كدم).
(3) البيت للفرزدق، انظر البيت في: البحر المحيط (3/44)، والدر المصون (2/197)، والقرطبي (4/182).
(4) البيت لأبي طالب. انظر: ديوانه (ص:70، 190)، ورواية الديوان: (وقد حالفوا قوماً علينا أظنَّةً). وهو في ديوان الفرزدق (ص:855)، والبحر (3/44)، والدر المصون (2/197)، والمقتضب (4/90).(1/314)
وسببُ غيظهم: ما كانوا يرونه من انتظام المسلمين، وائتلاف قلوبهم، واستفحال أمرهم، { قل } لهم يا محمد على وجه الدعاء عليهم بأن يدوموا على حنقهم إلى الموت: { موتوا بغيظكم } أي: اهلكوا كَمَداً بحنقكم.
{ إن الله عليم بذات الصدور } أي: بحقيقة ما في القلوب، من خير وشر، فهو يعلم ما في قلوب اليهود والمنافقين من الغيظ والبغضاء، وما يقولون ويتناجون به في الخلاء.
قال ابن الأنباري: تأنيث "ذات" لمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم، فيؤنِّثون، لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم.
قوله عز وجل: { إن تمسسكم حسنة } (1) أي: نصر وغنيمة، وحال مستقيمة، { تسؤهم وإن تصبكم سيئة } قتل وهزيمة { يفرحوا بها } ، { وإن تصبروا } على أذاهم، { وتتقوا } الشرك والمعاصي { لا يضرّكم } جواب الشرط، وهو من ضَارَ يَضِيرُ، ومنه: "لا ضَيْر".
وقرأ الضحاك (2) كذلك، إلا أنه ضم الضاد، من ضَارَ يَضُورُ، وهي لغة قليلة (3) .
__________
(1) ... كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثاني عشر، مرة ثانية.
(2) ... لم أقف على قراءة الضحاك هذه.
(3) ... انظر: الصحاح (2/723)، ولم يشر إلى أنها لغة قليلة.(1/315)
وقرأ أهل الكوفة وابن عامر: "يضُرُّكم" (1) بضم الضاد، وتشديد الراء وضمّها (2) ، أصله: يضرركم، فاجتمعت راءان، والأولى ساكنة، فأدغمت في الثانية، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد، وضمت الراء الأخيرة، إتْباعاً لأقرب الحركات إليها وهي الضاد، طلباً للمشاكلة؛ كقولهم: مُدّ يا هذا، أو تكون "لا" بمعنى: ليس.
وفي هذه الآية دلالة على أن سهام الكيد لا تنفذ في دروع الصبر والتقوى، وإرشاد للعباد أن يستعينوا بهما في غمرات المهالك، ومخاوف المسالك.
وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "احْفَظ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ" (3) . ومنه قوله تعالى: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ المُسَبحِينَ * لَلَبثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات:143-144].
وقد قال الحكماء: إذا أردتَ أن تكبتَ من يحسُدك، فازدد فضلاً في نفسك (4) .
{ إن الله بما يعملون } من الصبر والتقوى، { محيط } أي: عالِم، فهو يفعل بكم ما أنتم أهله.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/36)، والحجة لابن زنجلة (ص:171)، والكشف (51/355)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:178)، والسبعة في القراءات (ص:215).
(2) ... وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: "يَضِرْكُم" (انظر: المصادر السابقة).
(3) ... أخرجه الترمذي (4/667 ح2516)، وأحمد (1/307 ح2804) من حديث ابن عباس.
(4) ... ذكره النسفي في تفسيره (1/175).(1/316)
وقرأ الحسن والأعمش ["تعملون" بالتاء] (1) على معنى: بما يعملون في عداوتكم، محيط فهو يجازيهم ويعاقبهم.
ّŒخ)ur غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ بb$tGxےح !$©غ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اتثجب
قوله تعالى: { وإذ غدوت من أهلك } أي: واذكر إذ أصبحت ذاهباً من
__________
(1) ... في الأصل: "يعملون" بالياء. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه. انظر: الحجة للفارسي (2/36)، والحجة لابن زنجلة (ص:171)، والكشف (51/355)، والنشر (2/242).
... وقراءة الحسن ذكرها ابن خالويه في مختصر شواذ القرآن (ص:22)، وهي قراءة شاذة.(1/317)
بيت عائشة، وذلك يوم أحد.
وقال مجاهد ومقاتل (1) : يوم الأحزاب (2) .
وروي عن الحسن: أنه يوم بدر (3) .
والأول أصح (4) ، لقوله: { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } وكان ذلك يوم أُحُد.
{ تبوئ المؤمنين } أي: تنزلهم، والمباءة: المنزل (5) ، { مقاعد } أي: مراكز ومواطن { للقتال } قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منزل عائشة رضي الله عنها يمشي على رجليه إلى أُحُد، فجعل يصفُّ أصحابه للقتال (6) ، كأنما يُقَوِّم بهم القداح، إن رأى صدراً خارجاً قال: "تأخَّر".
وذلك أن المشركين نزلوا بأُحُد -على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق- يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنزولهم استشار أصحابه،
__________
(1) تفسير مقاتل (1/189).
(2) أخرجه الطبري (4/70)، وابن أبي حاتم (3/748) كلاهما عن الحسن. وذكره الماوردي (1/420) من قول الحسن ومجاهد.
(3) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/137)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/449). وقد أخرج الطبري (4/70) وابن أبي حاتم (3/748) عن الحسن: أنه يوم الأحزاب.
(4) وهو اختيار الطبري.
(5) انظر: اللسان، مادة: (بوأ).
(6) أخرجه الطبري (4/69). وذكره الواحدي في الوسيط (1/485)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/449).(1/318)
ودعا عبد الله بن أُبَيّ بن سلول -ولم يدعه قط-، فاستشاره، فقال عبد الله بن أُبَيّ وأكثر الأنصار: أقم يا رسول الله بالمدينة، لا تخرج إليهم، فواللهِ ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟! فَدَعْهُمْ يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشَرِّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا، فَأَعْجَبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الرأي.
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله؛ اُخرج بنا إلى هذه الأكلب (1) ، لا يرون أنّا جَبُنَّا عنهم، وضعفنا. وأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله؛ لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة، فقال له: "بمَ"؟ قال: بأني أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأني لا أفرّ من الزحف، قال: "صدقتَ"، فقُتِل يومئذ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني رأيت في منامي بقراً، فأوَّلتُها خيراً، ورأيت في ذُبَابَ سيفي ثَلْماً (2) ، فأوَّلتها هزيمة، ورأيتُ أني أدخلتُ يدي في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتَدَعوهم، فإن أقاموا أقاموا بشَرّ، وإن هم دخلوا المدينة قاتلناهم فيها"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيُقَاتَلوا في الأزقة.
فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم
__________
(1) الأكلب: على مثال أفعل، جمع كلب (معجم ما استعجم 1/183).
(2) ثَلَمَ الإناءَ والسيفَ يَثْلِمُهُ ثَلْماً: كَسَر حَرْفَه (اللسان، مادة: ثلم).
... وذُبابُ السيف: طَرَفَهُ المُتَطَرِّفُ الذي يُضْرَبُ به. وقيل: حَدُّه (اللسان، مادة: ذبب).(1/319)
أُحُد: اخرج بنا إلى أعدائنا.
فلم يزالوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من حبهم للقاء العدو، حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبس لأْمَتَهُ (1) ، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا، وقالوا: نُشير على رسول الله والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما شئت، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا ينبغي لنبي أن يلبس لأْمَتَهُ فيضعها حتى يقاتل". وكان قد أقام المشركون بأُحُد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة بعد ما صَلَّى بأصحابة الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلَّى عليه، ثم خرج إليهم، فأصبح بالشِّعْب من أُحُد يوم السبت للنصف من شوَّال، سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أُحُد ما كان، فذلك قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } (2) .
والمعنى: سميعٌ لما تُظهرون، عليم بما تُضمرون.
قوله: { إذ هَمَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا } : "إذ همَّت" بدل من "وإذ غدوت"، أو عمل فيه "سميع عليم" (3) .
والطائفتان: حيَّان من الأنصار؛ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من
__________
(1) ... اللأْمَةُ: الدّرع (اللسان، مادة: لأم).
(2) ... أخرجه الطبري (4/70-71). وذكره الثعلبي في تفسيره بطوله (3/137-138)، والسيوطي في الدر المنثور (2/303-305) وعزاه لابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم، كل حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وانظر: سيرة ابن هشام (3/840).
(3) انظر: الدر المصون (2/203).(1/320)
الأوس (1) . وكانا جناحي العسكر، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في ألف، وقيل: في ألف إلا خمسين.
وذكر الزجاج (2) : أنهم كانوا ثلاثة آلاف، وكان المشركون في ثلاثة آلاف.
ووعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الفتح إن صبروا، فَانْخَزَلَ (3) عبد الله بن أُبَيّ الخزرجي في ثلاثمائة رجل، فقال: عَلامَ نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عبد الله بن حرام، أبو جابر السلمي، فقال: أنشدكم الله في نبيكم، وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أُبَيّ: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ } [آل عمران:167]، فهمَّت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف، فعصمهم الله تعالى، فثبتوا، فذكَّرهم الله نعمته بعصمته إياهم (4) .
ومعنى "تَفْشَلا": تَجْبُنا وتَخُورا.
{ والله وليُّهما } : ناصرهما.
قال جابر بن عبد الله لفرط استبشاره بإنزال الله آية ناطقة بثنائه عليهم، وولايته لهم: والله ما يسرنا أنّا لم نَهُمَّ بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه
__________
(1) تفسير مجاهد (ص:134).
(2) قال في معاني الزجاج (1/466): وكانوا في يوم أحد سبعمائة، والكفار في يوم أحد ثلاثة آلاف. وهو الصحيح.
(3) انْخَزَلَ: أي: انْفَرَدَ (اللسان، مادة: خزل).
(4) ... أخرجه الطبري (4/73) عن السدي. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/305) وعزاه لابن جرير عن السدي.(1/321)
وليّنا (1) .
وفي الصحيحين من حديث جابر: نحن الطائفتان؛ بنو حارثة، وبنو سلمة، وما يسرني أنها لم تنزل، لقول الله تعالى: { والله وليُّهما } (2) .
وقرأ ابن مسعود: "والله وليُّهم" (3) ، مثل قوله: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [الحجرات:9].
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } التوكل: الاعتماد على الغير، وإظهار العجز (4) . يقال: فلان وُكْلَةٌ تُكَلَةٌ، أي: عاجِزٌ، يَكِلُ أمره إلى غيره (5) .
فالتوكلُ على الله: تفويضُ الأمر إليه، والاعتماد عليه ثقة بحسن تدبيره، وتفويضاً إلى قضائه وتقديره.
قوله: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } : بدر (6) : اسم لماء بين مكة
__________
(1) أخرجه الطبري (4/72) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/306) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
(2) أخرجه البخاري (4/1488 ح3825، 4/1660 ح4282)، ومسلم (4/1948 ح2505).
(3) انظر: الطبري (4/74)، والبحر المحيط (3/51).
(4) انظر: اللسان، مادة: (وكل). وهذا حد التوكل في اللغة.
(5) انظر: اللسان، مادة: (وكل). يقال: رجل وُكَلة تُكَلَة؛ إِذا كان عاجزاً، يَكلُ أَمْرَه إِلى غيره، ويَتَّكِلُ عليه؛ والتاء في تُكَلَةٍ أَصلها الواو، قلبت تاء؛ وكذلك التُّكْلانُ، أَصله وُكْلان.
(6) بدر: ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، بينه وبين الجار، ينسب إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، أو بدر بن قريش، وبه سميت الوقعة المباركة؛ لأنه كان احتفرها. وبهذا الماء كانت الواقعة المشهورة التي أظهر الله بها الإسلام وفرّق بين الحق والباطل في شهر رمضان سنة اثنتين للهجرة (معجم البلدان 1/357-358).(1/322)
والمدينة، كان لرجل يسمى بدراً، فَسُمِّيَ به، { وأنتم أذلَّة } لقِلَّة العَدد والعُدد، وذلك أنهم خرجوا من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر، سبعة وسبعون من المهاجرين، والباقون من الأنصار.
وكان صاحبَ راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين: عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار: سعد بن عبادة، فانطلقوا على النواضح (1) ، يعتقبُ النفرُ على البعير الواحد، وكان معهم سبعون بعيراً، وفرسان، أحدهما للمقداد، والآخر لمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم ستة أدرع، ونصرهم الله عز وجل مع قِلَّتهم وقِلَّة عُدَدهم على المشركين، وكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً، وكان معهم مائة فرس، فقتلوا منهم سبعين من صناديدهم، وأسروا سبعين، ولم يُقتل من المسلمين في ذلك اليوم سوى ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. وهذه أول غزوة قاتل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
الإشارة إلى مغازيه - صلى الله عليه وسلم -
جميع ما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ست وعشرون غزوة، قاتل منها في تسع، أولها:
__________
(1) ... النواضح: مفردها: ناضح، وهي الإبل التي يُستَقى عليها (اللسان، مادة: نضح).
(2) ... انظر: سيرة ابن هشام (3/159)، والبداية والنهاية لابن كثير (3/247).(1/323)
1- بدر، وكانت يوم الجمعة، السابع والعشرين (1) من شهر رمضان، سنة اثنين من الهجرة. وفيها حُوِّلت القِبْلة، وماتت رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبنى بعائشة، وتزوج علي فاطمة، وفُرِض صوم رمضان، وفُرِضت زكاة الفطر.
2- ثم أُحُد، وكانت في شوال، سنة ثلاث من الهجرة. وفيها تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة، وزينب (2) ، وتزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيها وُلِد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وفيها عَلِقَت فاطمة بالحسين، وبين ولادتها للحسن وعلوقها بالحسين خمسون ليلة.
3- وفيها غزوة بني النضير. وفيها حُرِّمت الخمر.
4 وَ 5- ثم غزاة الخندق، وبني قريظة، وذلك في شوال سنة أربع وفيها قصرت الصلاة، ووُلِد الحسين، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة، وفيها سقط عقد عائشة، فنزلت آية التيمم، وقيل: كانت غزوة الخندق وبني قريظة سنة خمس.
6 وَ 7- ثم غزا بني المصطلق، وبني لِحْيان، وذلك في شعبان سنة خمس، وفيها تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش، وفيها نزل الحجاب. وقيل: كانت غزوة المصطلق سنة ست. وفيها قال أهل الإفك ما قالوا. وفيها قال ابن أُبَيّ: "لئن رجعنا إلى المدينة".
__________
(1) ... والصحيح: أنها في السابع عشر من رمضان (انظر: السيرة لابن هشام 3/173، والبداية والنهاية لابن كثير 3/269).
(2) ... حفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة القيسية، من بني هلال ابن عامر.(1/324)
8- ثم غزاة خيبر، وكانت سنة ست. وفيها كانت:
9- غزوة الحديبية، وفيها استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، ومطر الناس. وقيل: كانت خيبر سنة سبع.
10- ثم غزاة الفتح، وكانت في رمضان سنة ثمان. وفيها كانت:
11- مؤتة، فأصيب بها زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة. وفيها أسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي طلحة. وفيها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل. وفيها وُلِد إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفيها توفيت زينب بنت رسول الله. وفيها طلَّق رسول الله سودة بنت زمعة (1) ، فجعلت يومها لعائشة فراجعها. وفيها قالوا: يا رسول الله؛ سعِّر لنا، وكان قد غلا السعر (2) .
12 وَ 13- ثم غزاة حنين، ثم الطائف، وكانتا في شوال أيضاً سنة ثمان.
قوله: { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } نعمته عليكم، إذ نصركم مع ضعفكم على أضعافكم.
__________
(1) ... أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/63) عن عائشة مرسلاً. وأخرج الترمذي (5/249 ح3040)، والطيالسي في مسنده (ص:349)، والطبراني في الكبير (11/284 ح11746)، والبيهقي في الكبرى (7/297 ح14512) كلهم عن سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خشيت سودة أن يطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت: لا تطلقني وأمسكني وأجعل يومي لعائشة".
(2) ... أخرجه أبو داود (3/272 ح3451)، والترمذي (3/605 ح1314)، وابن ماجه (2/471 ح2200) كلهم عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: يا رسول الله؛ سَعِّر لنا ، فقال: "إن الله هو المُسَعِّر... الحديث".(1/325)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)(1/326)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا tûüخ6ح !%s{ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اتثزب
قوله: { إذ تقول للمؤمنين } وذلك يوم بدر، على الصحيح.
وقال الضحاك ومقاتل (1) : يوم أُحُد (2) .
فعلى الأول: "إذ" ظرف لـ"نَصَرَكُم"، وعلى الثاني: هو بدل ثاني من
__________
(1) تفسير مقاتل (1/190).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/451).(1/327)
"إِذْ غَدَوْتَ".
فإن قيل: القصة -على هذا القول الصحيح- واحدة، فكيف قال هاهنا: { بثلاثة آلاف } ، { بخمسة آلاف } ؟ وقال في الأنفال في قصة بدر أيضاً: { إِذ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بأَلْفٍ } [الأنفال:9]؟.
قلت: قال قتادة: أمدّهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف.
فإن قيل: كيف ساغ لهذين العالمين أن يقولا: كان ذلك يوم أُحُد، والآية قد صرحت بإمداد الملائكة، وكان ذلك يوم بدر، بغير خلاف (1) ، ثم إنهم يوم أُحُد قد كُسِروا وانهزموا، فكيف يكون ذلك مع وجود الملائكة ونزولهم لنصرتهم؟
قلت: نزول الملائكة -على هذا القول- كان مشروطاً بالصبر والتقوى، قال الله تعالى: { إن تصبروا وتتقوا } ... { يمددكم ربكم } فانتفى لانتفائهما.
قوله: { ألن يكفيكم } (2) إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء (3) .
فإن قيل: هل تضمَّن قوله: { منزَلين } معنى مطلوباً للمبشَّرين بذلك؟
قلت: نعم، فإن المقصود من بشارتهم بإمدادهم بالملائكة إظهارُ شرفهم
__________
(1) يعني قوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بأَلفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [الأنفال:9]، ولا خلاف أن هذا كان يوم بدر.
(2) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثالث عشر، مرة ثانية.
(3) انظر: اللسان، مادة: (مدد).(1/328)
وتطييبُ قلوبهم، ليثقوا بنصر الله لهم، وليزدادوا جرأة على أعدائهم، فإذا علموا أنهم ليسوا من ملائكة الأرض، وأنهم من ملائكة السماء المكرمين، المخصوصين بزيادة القُرب من الله، ازدادوا شرفاً، وطمأنينة في أنفسهم، وإقداماً على المشركين.
فإن قيل: فما وجه قراءة ابن عامر "مُنَزَّلين" (1) بالتشديد؟
قلت: لأنهم نزلوا من مقام إلى مقام، حتى انتهوا إلى الأرض.
فإن قيل: فما وجه قراءة من قرأ "مُنْزِلِين" بكسر الزاي؟ (2) .
قلت: وجهه أنهم أَنْزَلُوا النصر، وجاؤوا به.
قوله: { بلى } إيجاب لما بعد "لن". المعنى: بل يكفيكم الإمداد، فأوجب الكفاية بهم، ثم قال: { إن تصبروا } يعني عند لقاء الأعداء، وتتقوا مخالفة الرسول، { ويأتوكم من فورهم هذا } يعني المشركين. والفور: مصدر فار يفور فوراً، وأصله غليان القِدْر، ويقال للغضبان: فَارَ فَائرُهُ؛ إذا اشتدّ (3) .
ثم استعير للسرعة، وعدم التعريج على شيء، ويقال: قَفَلَ فلان من فَوْره؛ إذا رجع من سفره لا يلوي على شيء يصدُّه عن الرجوع (4) .
قال ابن عباس: "ويأتوكم من فورهم": من وجههم هذا، أي: يأتوكم
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/37)، والحجة لابن زنجلة (ص:172)، والكشف (1/355)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179)، والسبعة في القراءات (ص:215).
(2) ... ذكرها الثعلبي في تفسيره (3/143)، وهي قراءة شاذة.
(3) ... انظر: اللسان، مادة: (فور).
(4) ... مثل السابق.(1/329)
مسرعين من وجههم وسفرهم.
وقال مجاهد: "من فورهم": أي: من غضبهم (1) .
وكانوا غضبوا لِمَا أصابهم يوم بدر.
وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو: "مُسَوِّمِين" بكسر الواو، وفتحها الباقون (2) .
فمن كَسَرَ فعلى معنى: أنهم قد سوَّموا أنفسهم، أو خيلهم، ويؤيده الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "سَوِّموا فإن الملائكة قد سَوَّمت" (3) ، فنسب الفعل إليها.
ومَن فَتَحَ فعلى معنى: أنهم فد سُوِّموا وعُلِّموا، من السِّيما، وهي العلامة.
الإشارة إلى نبذة من خبر الملائكة يوم بدر
قال علي وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم يوم بدر عمائم
__________
(1) ... أخرجه الطبري (4/80-81)، وابن أبي حاتم (3/753)، ومجاهد (ص:135). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/309) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) الحجة للفارسي (2/37-38)، والحجة لابن زنجلة (ص:173)، والكشف (1/355)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179)، والسبعة في القراءات (ص:216).
(3) أخرجه سعيد بن منصور (2/336)، وابن أبي شيبة (6/437 ح32722)، والطبري (4/82) كلهم عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، به. وعمير بن إسحاق تابعي فهو مرسل.(1/330)
بيض، قد أرسلوها بين أكتافهم (1) .
وقال علي: كان سِيما خيل الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في آذانها ونواصيها (2) .
وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بُلْق، وعليهم عمائم صُفْر (3) .
وقال عبد الله بن الزبير: كانت على الزبير مُلاءَة (4) صفراء، أو عمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوَّمين بعمائم صُفْر (5) .
وروى الزبير بن المنذر عن جده أبي أُسيد (6) -وكان بدرياً-، قال: لو أن بصري فرج منه ثم ذهبتم معي إلى بدر، لأريتكم الشِّعْب الذي خرجت منه
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/389) عن ابن عباس. وذكره الثعلبي (3/144)، وابن هشام في السيرة (3/182)، والواحدي في الوسيط (1/389) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر المنثور (2/309) وعزاه لابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (6/437، 7/354)، وابن أبي حاتم (3/754). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/310) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (4/83). وذكره الماوردي (1/422)، والسيوطي في الدر (2/310) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن عروة.
... والبَلَقُ: سواد وبياض، يقال: فرس أبلق، وفرس بَلْقاء (اللسان، مادة: بلق).
(4) الملاءة: الإزار والريطة (النهاية في غريب الحديث 4/352).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (6/437)، والطبري (4/83)، وابن أبي حاتم (3/755). وذكره السيوطي في الدر (2/309) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.
(6) مالك بن ربيعة بن البَدَن، أبو أُسَيد الساعدي، مشهور بكنيته، شهد بدراً وغيرها، توفي سنة ثلاثين، وقيل بعد ذلك (التقريب ص:517).(1/331)
الملائكة في عمائم صُفْر، قد طرحوها بين أكتافهم (1) .
قال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة (2) ، وفيها العِهْن (3) .
وروى ابن عباس عن رجل من غفار قال: حضرتُ أنا وابن عم لي بدراً ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارساً يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت (4) .
وروى جبير بن مُطْعِم عن علي رضي الله عنه، قال: بينا أنا أَمْتَحُ (5) من قليب بدر جاءت ريح شديدة، فلم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل، نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت الريح الثانية ميكائيل، نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله،
__________
(1) أخرجه الطبري (4/82). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/310) وعزاه لابن جرير.
(2) الجز: قص الشعر والصوف (النهاية في غريب الحديث 1/268).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (6/436)، والطبري (4/82)، وابن أبي حاتم (3/754)، ومجاهد (ص:135). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/310) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. والعهن: الصوف (مختار الصحاح، مادة: عهن).
(4) أخرجه الطبري (4/77). وذكره ابن هشام في السيرة (3/181).
... ويشهد له ما أخرجه مسلم في صحيحه (3/1384) عن ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم... الحديث".
(5) مَتَحَ الماء يَمْتَحُه مَتْحاً: إذا نزعه (اللسان، مادة: متح).(1/332)
وكانت الريح الثالثة إسرافيل، نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكنت أنا [عن] (1) يساره، وهزم الله أعداءه (2) .
وقال أبو واقد الليثي: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفتُ أن غيري قد قتله (3) .
فصل
واختلفوا في عدد الملائكة يوم بدر:
فقال علي رضي الله تعالى عنه وأكثر المفسٍّرين: كانوا خمسة آلاف (4) .
وقال الشعبي: أربعة آلاف (5) .
وقال مجاهد: ألفاً (6) .
وذكر الزجاج (7) : تسعة آلاف.
ونقل بعضُ المفسِّرين: ثمانية آلاف (8) .
__________
(1) في الأصل: من. والتصويب من زاد المسير (1/453).
(2) زاد المسير (1/453).
(3) أخرجه أحمد (5/450)، والطبري (4/77) عن أبي داود المازني. وانظر: سيرة ابن هشام (3/181).
(4) ذكره الماوردي (1/422)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/453).
(5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/453).
(6) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/453).
(7) معاني الزجاج (2/404).
(8) ذكره الماوردي (1/422)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/454).(1/333)
والأول أشهر وأكثر، ولعل مجاهداً أخذ بقوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ... الآية } [الأنفال:9]، ولعل الشعبي احتج بها، وبقوله: { يمدكم ربكم بثلاثة آلاف } . وما حكاه الزجاج مستفاد من مجموع الأعداد في الآيات، الألف، والثلاثة الآلاف، والخمسة الآلاف.
ولعل صاحب القول الأخير نظر إلى العدد المذكور في الآيتين هاهنا، والله أعلم (1) .
قوله: { وما جعله الله } يعني: الإمداد بالملائكة { إلا بشرى لكم } بشارة لكم بالنصر { ولتطمئن } أي: تسكن { قلوبكم به } في الحرب، { وما النصر إلا من عند الله } لا بالعُدد ولا بالعَدد، { العزيز } الذي لا يُغلب من نصره، { الحكيم } فيما قضاه وقدره.
قوله: { ليقطع } متعلق بـ"نَصَرَكُم"، أو "يُمْدِدْكُم". و"الطَّرَف": حِرْف الشيء (2) ، والمعنى: ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر.
{ أو يكبتهم } ، قال الخليل بن أحمد: الكَبْتُ في اللغة: الصَّرْعُ في الوَجْه (3) .
والمراد به: الهزيمة؛ في قول ابن عباس (4) .
__________
(1) انظر: الجمع بين الآيات في الصفحة السابقة.
(2) قال الطبري (4/85): الطرف: الطائفة والنفر. وانظر: اللسان، مادة: (طرف).
(3) انظر: زاد المسير (1/454).
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/454). وهو قول الزجاج أيضاً في معانيه (1/467).(1/334)
والخِزْي؛ في قول قتادة ومقاتل (1) .
والهلاك؛ في قول أبي عبيدة (2) .
واللَّعْن؛ في قول السدي (3) .
وغيظهم؛ في قول النضر بن شميل وابن قتيبة (4) .
والظفر؛ في قول المبرد (5) ، وكل ذلك يرجع إلى أصل الكلمة بطريق المجاز.
قال ابن قتيبة (6) : أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن الدال، وكان الأصل فيه: "يَكْبدُهُم"، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة. والدال والتاء متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هَرَتَ الثوب، وهَرَدَهُ؛ إذا خَرَّقه (7) ، وكَبَتَ العدوّ وكَبَدَهُ.
{ فينقلبوا خائبين } لم يدركوا ما أمّلوا.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/86)، وابن أبي حاتم (3/756) كلاهما عن قتادة. وانظر: تفسير مقاتل (1/190). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/311) وعزاه لابن جرير عن قتادة.
(2) انظر: مجاز القرآن (1/102). -والمشهور عن أبي عبيدة كقول الخليل. ونقل ما ذكر المصنف عن أبي عبيدة-، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن (ص:110).
(3) ... زاد المسير (1/454).
(4) ... زاد المسير (1/455)، وتفسير غريب القرآن (ص:110).
(5) ... زاد المسير (1/455).
(6) ... تفسير غريب القرآن (ص:110-111).
(7) ... انظر: اللسان، مادة: (هرت).(1/335)
قوله: { ليس لك من الأمر شيء } ؛ أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الحَرَسْتاني بدمشق سنة تسع وستمائة، أخبرنا عبد الكريم بن حمزة السُلمي (1) ، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الكناني (2) الحافظ، حدثنا الحافظ أبو القاسم تَمَّام بن محمد بن عبد الله الرازي (3) ، حدثنا أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة الليثي (4) ، حدثنا علي بن أحمد بن مروان بواسط، حدثنا حميد بن الربيع الخزاز (5) ، حدثنا هشيم، عن حميد الطويل، وداود بن أبي هند، عن أنس بن مالك، قال: "لما كان يوم أُحُد كُسِرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشُجَّ في وجهه، فجعل يمسحه بيده ويقول: كيف
__________
(1) ... عبد الكريم بن حمزة السلمي، أبو محمد الدمشقي الحداد، وكيل المقرئين، الثقة المسند، محدِّث عصره، توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 19/600، وشذرات الذهب 4/78).
(2) عبد العزيز بن أحمد التميمي، أبو محمد الدمشقي، الكناني الحافظ محدِّث دمشق، توفي سنة ست وستين وأربعمائة (الأنساب 10/353، والسير 18/248).
(3) تمام بن محمد بن عبد الله البجلي، أبو القاسم الرازي، ثم الدمشقي، الحافظ، محدِّث الشام، توفي سنة أربع عشرة وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 17/289، والوافي بالوفيات 10/397).
(4) أحمد بن محمد بن عمارة الليثي الكناني مولاهم، أبو الحارث الدمشقي، الشيخ المسند المحدِّث، توفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/70، وشذرات الذهب 3/40).
(5) حميد بن الربيع بن حميد بن مالك بن سحيم الخزاز اللخمي، أبو الحسن، الكوفي. روى عن هشيم وابن عيينة. وروى عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة وغيره (ميزان الاعتدال 1/610).(1/336)
يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، فنزلت: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } " (1) . هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن علي بن رُوزبة البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال -إذا قال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد"-: اللَّهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللَّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته، في صلاة الفجر: اللَّهم العن فلاناً وفلاناً، لأحياء من العرب، حتى أنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء } " (2) .
ورواه أيضاً البخاري من حديث الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، "أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: "اللَّهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً". بعدما
__________
(1) أخرجه مسلم (3/1417 ح1791) بغير السند الذي ساقه المؤلف. وأما سند المؤلف فهو عند الترمذي (5/227 ح3003) عن حميد، عن أنس.
(2) ... أخرجه البخاري (4/1661 ح4284).(1/337)
يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء -إلى قوله:- فإنهم ظالمون } " (1) . وهذا حديث صحيح.
والمعنى: إنما أنت عبدٌ من عبادي، خصصتك برسالتي، وبعثتك منذراً لهم ليس لك من عذابهم أو استصلاحهم، أو ليس لك من النصر والهزيمة شيء.
و"لك" بمعنى: إليك (2) . "أو يتوب عليهم" عطف على "أو يكبتهم"، و"ليس لك من الأمر شيء" اعتراض (3) . وقيل: "أو يتوب" منصوب بإضمار "أَنْ"، فيكون في حكم اسم معطوف على "الأَمْر"، أو على "شَيْء" أي: ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم (4) .
وقيل: "أو" بمعنى: "إلاّ أنْ" (5) ؛ كقولك: لأَلْزَمَنَّكَ أو تعطيَني حقي، على معنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتشتفي منهم.
ثم أثبت الأمر كله لنفسه، فقال عز وجل: { ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وعبيداً، { يغفر لمن يشاء } -من الموحِّدين- الكبائر،
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1661 ح4283).
(2) انظر: الطبري (4/86).
(3) انظر: الدر المصون (2/209).
(4) انظر: المرجع السابق.
(5) انظر: التبيان (1/149)، والدر المصون (2/209)، والطبري (4/86).(1/338)
{ ويعذب من يشاء } من المشركين على الصغائر. هذا مروي عن ابن عباس (1) .
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (1/491).(1/339)
السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ(1/340)
رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ اتجدب
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } نزلت في ربا الجاهلية (1) ، وكان الرجل يقول لصاحبه: أخِّر عني دَيْنك وأزيدك في المال، فيستوعب بالشيء الطفيف المال الكثير (2) .
{ أضعافاً } حال، { مضاعفة } نعت لـ"أضعافاً" (3) .
وفي قوله: { واتقوا النار } تهديد شديد للمؤمنين الذين يأكلون الربا، حيث خوَّفهم بالنار، التي أعدَّها لمن كفر به.
قال أبو حنيفة: هذه أخوفُ آية في القرآن (4) .
وفي الآية رَدٌّ على الجهمية في قولهم: إن النار لم تُخْلق بعد.
{ وأطيعوا الله والرسول } في ترك ما نهيتم عنه من أكل الربا وغيره،
__________
(1) أخرجه مجاهد (ص:134). وذكره الطبري (4/90). ...
(2) أخرج الطبري (4/90) عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون، فنزلت: { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } .
(3) انظر: التبيان (1/149)، والدر المصون (2/210).
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف (1/442).(1/341)
وامتثال ما أمرتم به من التقوى { لعلكم ترحمون } ، فتفوزوا بدخول الجنة والنجاة من النار المُعَدَّة للكفار.
قوله (1) : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } قرأ نافع وابن عامر: "سارعوا" بغير واو، وكذا هي في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون بالواو (2) .
قال أبو علي (3) : من قرأ بالواو عَطَفَ "وسارعوا" على "وأطيعوا"، ومن حذفها فلأنَّ الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف.
ومعنى الآية: بادروا إلى موجبات المغفرة وهي طاعة الله تعالى.
وقال ابن عباس: لا تصروا على الذنب، إذا أذنب أحد فليسرع الرجوع (4) .
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: سارعوا إلى الإخلاص (5) .
وقال علي رضي الله عنه: إلى أداء الفرائض (6) .
__________
(1) ... كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً سادساً، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الرابع عشر، مرة ثانية.
(2) الحجة للفارسي (2/38)، والحجة لابن زنجلة (ص:174)، والكشف (1/356)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179)، والسبعة في القراءات (ص:216).
(3) الحجة للفارسي (2/38).
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (1/492).
(5) ذكره الثعلبي (3/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/459).
(6) مثل السابق.(1/342)
وقال أنس بن مالك: التكبيرة الأولى من العبادة (1) .
وقال الضحاك: إلى الجهاد (2) .
{ وجنة عرضها السموات والأرض } قال سعيد بن جبير: لو أُلصِق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن (3) .
قال ابن عباس: يريد: لرجل واحد من أوليائه (4) .
قال الزهري: فأما الطول فلا يعلمه إلا الله (5) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح: الجنان أربعة: جنة عدن -وهي الدرجة العليا-، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، وجنة المأوى، كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وُصِلَ بعضها إلى بعض (6) .
__________
(1) ... ذكره الثعلبي (3/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/460)، والسيوطي في الدر المنثور (2/314) وعزاه لابن المنذر.
(2) ... ذكره الثعلبي (3/148)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/459).
(3) ... أخرجه ابن أبي حاتم (3/762) بسند حسن. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/314-315) وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (1/492).
(5) ذكره القرطبي في تفسيره (4/205). وقد نبه تعالى بالعرض عن الطول؛ لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض.
(6) ذكره الواحدي في الوسيط (1/492). وقد أخرج البخاري في صحيحه (6/2700 ح6987) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "... فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفجَّر أنهار الجنة".(1/343)
وقال ابن قتيبة (1) : أراد بالعرض: السَّعَة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمنهزمين يوم أُحُد: "لقد ذَهَبْتُمْ فيها عَرِيضة" (2) .
قال الشاعر:
كَأَنَّ بلاَدَ اللهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... ... عَلَى الخَائِفِ المَطْلُوب كِفَّةُ حَابلِ (3)
وروى وكيع في تفسيره بإسناده عن طارق بن شهاب، قال: قالت اليهود لعمر: تقولون: جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال عمر: أرأيت إذا جاء النهار فأين يذهب الليل، وإذا جاء الليل فأين يذهب النهار؟ قالوا: نزعتَ بما في التوراة (4) .
وقال أنس بن مالك: الجنة فوق السموات السبع، تحت العرش (5) .
قال قتادة: وإن جهنم تحت الأرضين السبع (6) .
__________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:111-112).
(2) أخرجه الطبري (4/145) بسند عن ابن إسحاق، مقطوعاً.
(3) البيت للبيد بن ربيعة. وهو في: اللسان، مادة: (كفف) وفيه: "كأن فجاج الأرض"، والقرطبي (4/205، 8/100، 17/256)، وزاد المسير (1/460)، والبحر المحيط (3/62)، وروح المعاني (11/41). والحابل: الصائد. وكِفّته: حبالته التي يصيد بها.
(4) أخرجه الطبري (4/92). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/315) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.
... وقد أخرج أحمد في مسنده (3/441) مرفوعاً: "أن هرقل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟!".
(5) ذكره الثعلبي (3/149).
(6) المرجع السابق.(1/344)
ثم وصف المتقين فقال: { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي: في الشدة والرخاء، كما فعلت الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المبرأة بنص الكتاب المطهَّرة من كل [عيب] (1) ، أم المؤمنين، وحبيبة رسول رب العالمين، عائشة رضي الله عنها، فإنها تصدَّقت في يوم بحبّة عنب، فتعجّبن النسوة منها، فقالت: إن فيها ذرّاً كثيراً (2) ، تشير إلى قوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [الزلزلة:7]، وتصدقت في يوم آخر بمائة وسبعين ألف درهم فضة (3) .
......................... ... ... شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُها مِنْ أَخْزَمِ (4)
فللّه درّها ما أكرم طبعها، وأعظم نفعها، وأكبر قدرها، وأعطر نشرها، وأجمل فضائلها، وأجزل فواضلها:
فَلَوْ أَنَّ النِّسَاءَ كَمَنْ ذكِرْنَا ... ... لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ على الرِّجَالِ (5)
__________
(1) في الأصل: عاب. والصواب ما أثبتناه.
(2) ذكره ابن كثير (4/541).
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص:260). وأخرج ابن سعد في الطبقات (8/490) الشطر الأول منه.
(4) قال في اللسان: أبو أخزم جد أبي حاتم طيء، أو جد جدّه، وكان له ابن يقال له: أخزم، فمات أخزم وترك بنين، فوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم فَأَدْمَوْهُ، فقال:
... ... ... ... إِنَّ بَنِيَّ رَمَّلُونِي بالدَّمِ ... ... شِنْشِنَةٌ أَعْرِفها مِنْ أَخْزَمِ
... ... ... ... ... مَنْ يَلْقَ آسادَ الرِّجالِ يُكْلَمِ
... والشِّنْشِنَة: الطبيعةُ والسجية، أي: أنهم أشبهوا أباهم في طبيعته وخُلُقه (انظر: اللسان، مادة: خزم، شنن).
(5) البيت للمتنبي، كما في شرح ديوانه للعكبري (3/18)، ولفظه: "ولو كان النساء كمن فقدنا" ... البيت.(1/345)
قال ابن عباس: ينفقون في اليُسر والعُسر (1) .
وأنشدني بعض أهل العلم:
عَلَى كُلِّ حَالٍ كُنْ مُنْفِقاً ... أَخَا عُسْرَةٍ كُنْتَ أَوْ مُوسِرَا
فَلاَ المال تَمْلِكُهُ مُقْبلاً ... وَلاَ المال تَمْلِكُهُ مُدْبرَا
قوله: { والكاظمين الغيظ } من قولهم: كَظَمَ القِرْبَةَ؛ إذا مَلأَهَا وَشَدَّ فَاها، وكظم البعيرُ على جِرَّته؛ إذا رَدَّدَها في حلقه (2) .
فكاظمُ الغيظ: هو المُمْسِكُ على ما في نفسه منه.
وفي مسند الإمام من حديث سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ حَتَّى يزوّجه ويخيّره مِنْ أَيِّ الحُورِ العين شَاءَ" (3) . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وأخرج أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ الله مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
__________
(1) أخرجه الطبري (4/93)، وابن أبي حاتم (3/762). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/316) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) انظر: اللسان، مادة: (كظم).
(3) أخرجه أحمد (3/440)، والترمذي (4/372 ح2021، 4/656 ح2493).(1/346)
الله تَباركَ وتَعَالَى" (1) .
وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت: لله در التقوى، ما ترك لذي غيظ شفاء (2) .
قوله: { والعافين عن الناس } قال زيد بن أسلم ومقاتل: يعفون عمن ظلمهم (3) .
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وَمَا زَادَ الله عَبْداً بعَفْوٍ إِلاَّ عِزّاً" (4) .
وقال علي رضي الله عنه: إذا قدرتَ على عدوك فاجعل العفوَ عنه شُكراً للقدرة عليه.
ورأى معاويةُ ابنه يزيد يضربُ غلاماً له، فقال: سوأة لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من ذوي الإِحَن (5) ، وإن أحق مَن عفا لمن قدر.
وفي قوله: { والله يحب المحسنين } إشارةٌ إلى أنَّ الاتصاف بهذه الأوصاف من سمات المحسنين.
ويروى في الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُ قصوراً مشرفة على
__________
(1) أخرجه أحمد (2/128 ح6114).
(2) ... ذكره الزمخشري في الكشاف (1/443).
(3) ذكره الثعلبي (3/167)، والواحدي في الوسيط (1/493)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/461).
(4) أخرجه مسلم (4/2001 ح2588).
(5) الإحَن: جمع، واحدها: إحنة. وهو الحقد في الصدر (اللسان، مادة: أحن).(1/347)
الجنة، فقلت: يا جبريل؛ لمن هذه؟ فقال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين" (1) .
قال الحسن: الإحسان: أن يعم ولا يخص، كالريح والمطر.
وقال سفيان الثوري: أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة (2) .
وكان للمأمون خادم هو صاحب وَضوئه، فبينا هو يصب الماء على يده سقط الإناء، فاغتاظ المأمون عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الله يقول: { والكاظمين الغيظ } قال: قد كظمتُ غيظي عليك، قال: { والعافين عن الناس } قال: قد عفوت عنك، قال: { والله يحب المحسنين } قال: أنت حر (3) .
قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة } قال عطاء، عن ابن عباس: نزلت في نبهان التَّمَّار، أتته امرأة تشتري منه تمراً، فقال: إن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجودُ منه، فهل لك فيه؟ قالت: نعم، فذهب بها إلى بيته، فضمّها وقبّلها، فقالت: اتق الله، فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية (4) .
__________
(1) ذكره الديلمي في الفردوس (2/255).
(2) ذكره النسفي في تفسيره (1/179).
(3) أخرجه البيهقي في الشعب (2/317) عن علي بن الحسين. وذكره السيوطي في الدر (2/317) وعزاه للبيهقي عن علي بن الحسين. ولم أجده عن المأمون.
(4) ذكره الثعلبي (3/168)، والواحدي في أسباب النزول (ص:127) بغير إسناد، والوسيط (1/493-494)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/461).
... وأصل هذه القصة ثابتة في صحيح مسلم (4/2116 ح2763)، وجامع الترمذي (5/292 ح3115) ونزل بسببها: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْل } [هود:114].(1/348)
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فخرج الثقفي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعاهد أهلَ الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت، وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن، فأخذ يَلْثِمُها (1) ، فوضعت كفها على وجهها، فقبَّله، ثم ندم، فأدبر راجعاً، فقالت: سبحان الله! خُنْتَ أمانتك [وعصيتَ ربك، ولم تصبْ حاجتك. قال] (2) : فخرج يسيح في الجبال، تائباً من ذنبه، هائماً على وجهه، يحثو التراب على رأسه. فلما رجع الثقفي لم يستقبله أخوه الأنصاري، فسأل زوجته عنه، فقالت: لا كثَّر الله في الإخوان مثله، وأخبرته خبره، فخرج في طلبه، فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، فقال: يا فلان! انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسله عن ذنبك لعل الله يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فأتيا أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً، فقال الأنصاري: قد هلكتُ، قال: وما أهلكك؟ فذكر له القصة، فقال: أما علمتَ أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم لقيا عمر، فقال مثل ذلك، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله عز وجل: { والذين إذا فعلوا فاحشة ... الآية } (3) .
ويروى عن ابن مسعود قال: قال المؤمنون: يا رسول الله؛ كانت بنو
__________
(1) يلثمها: يقبّلها (اللسان، مادة: لثم).
(2) ... زيادة من أسباب النزول (ص:127)، وزاد المسير (1/462).
(3) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:127)، والثعلبي (3/168)، ونسبه لمقاتل والكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (1/462).(1/349)
إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبح كفَّارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه، اجدع أنفك، أو أذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أخبركم بخير من ذلكم" وقرأ عليهم هذه الآيات (1) .
قوله: "الذين" مبتدأ، خبره "أولئك"، أو عطف على "المتقين" (2) ، أي: أعدت للمتقين، والتائبين، ويكون "أولئك" إشارة إليهما.
والفاحشة: القبيحة الشنعاء، وكل شيء جاوز حدّه فهو فاحش. والمراد بها هنا: الزنا، في قول جابر بن زيد (3) .
وقيل: كل كبيرة (4) .
{ أو ظلموا أنفسهم } قال مقاتل (5) وابن السائب: هو ما دون الزنا من قُبْلة أو لمسة أو نظرة.
وقيل: جميع الصغائر.
{ ذكروا الله } جائز أن يكون باللسان، فهو الاستغفار، وهو قول ابن
__________
(1) أخرجه الطبري (4/95-96) عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وذكره السيوطي في الدر
... المنثور (2/326) وعزاه لابن المنذر عن ابن مسعود كلفظ المصنف.
(2) انظر: التبيان (1/149)، والدر المصون (2/211).
(3) أخرجه الطبري (4/95)، وابن أبي حاتم (3/764). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/326) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.
(4) زاد المسير (1/462).
(5) تفسير مقاتل (1/192). وذكره الواحدي في الوسيط (1/494).(1/350)
مسعود (1) .
وجائز أن يكون بالجَنان (2) ، على معنى: ذكروا عظمته وجلاله وعرضهم عليه، ووقوفهم للسؤال بين يديه.
قوله: { ولم يصرّوا على ما فعلوا } قال السدي: الإِصْرار: السّكوت وترك الاستغفار (3) .
قال أكثر المفسِّرين: لم يُقيموا ولم يَدوموا (4) .
قال ابن فارس (5) : الإِصْرار: العزم على الشيء والثبات عليه.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ في اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّة" (6) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/463).
(2) الجَنان: القلب. قال ابن الجوزي في زاد المسير (1/463): وذكر الله بالقلب فيه خمسة أقوال:
... أحدها: أنه ذكر العرض على الله. قاله الضحاك.
... والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة. قاله الواقدي.
... والثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا. قاله ابن جرير.
... والرابع: ذكر نهي الله لهم.
... والخامس: ذكر غفران الله. ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي.
(3) أخرجه الطبري (4/97-98)، وابن أبي حاتم (3/766). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/329) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) انظر: الطبري (4/95)، والوسيط (1/494)، والدر المنثور (2/328).
(5) معجم مقاييس اللغة (3/282-283).
(6) أخرجه أبو داود (2/84 ح1514)، والترمذي (5/558 ح3559). ...(1/351)
قوله: { وهم يعلمون } حال من [فاعل] (1) الإصرار (2) ، والمعنى: وهم يعلمون ضرر الإصرار، ونفع الاستغفار، هذا معنى قول ابن عباس (3) .
وقال مجاهد: وهم يعلمون أن الله يتوب على مَن تاب (4) .
وقال السدي ومقاتل (5) : يعلمون أنهم قد أذنبوا (6) .
وما زال يخطر لي أن المعنى: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، لحديث أبي هريرة، حتى رأيت الثعلبي (7) قد نسبه إلى الحسين بن الفضل (8) . والحديث هو ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ رجلاً أَذْنَبَ ذَنْباً، فقال: رب إني عملتُ ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرتُ لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر،
__________
(1) في الأصل: "فعل" وهو خطأ، فهي حال من الواو في "ولم يصروا"، أو من الواو في "استغفروا" (انظر: المصادر التالية).
(2) انظر: التبيان (1/150)، والدر المصون (2/212).
(3) ذكره الثعلبي (3/170)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/464).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (3/767)، ومجاهد (ص:136). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/328) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5) ذكره مقاتل (1/192) بمعناه.
(6) أخرجه الطبري (4/98)، وابن أبي حاتم (3/767). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/329) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(7) تفسير الثعلبي (3/170).
(8) الحسين بن الفضل البجلي، أبو علي الكوفي النيسابوري، العلامة المفسر. توفي سنة اثتين وثمانين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/414).(1/352)
فقال: رب إني عملتُ ذنباً فاغفره، فقال عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به [قد غفرت لعبدي] (1) ، ثم عمل ذنباً آخر، فقال: رب إني عملتُ ذنباً فاغفره، فقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء" (2) .
وفي ما يحكيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل أنه قال: "يا ابن آدم إنك ما دعوتَني ورجوتَني، غفرت لك على ما كان منك، يا ابن ادم إنك إن تلقني بقُراب الأرض خطايا بعد أن لا تشرك بي شيئاً، ألقاك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم إنك إن تذنب حتى تبلغ ذنوبك عنان السماء ثم تستغفرني غفرتُ لك ولا أبالي (3) .
وقال ثابت البُناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية (4) .
ثم ذكر جزاءهم فقال: { أولئك جزاؤهم ... الآية } .
ô‰s% خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
__________
(1) زيادة من مسند أحمد (2/296).
(2) أخرجه البخاري (6/2725 ح7068)، ومسلم (4/2112 ح2758)، وأحمد (2/296 ح7935).
(3) أخرجه الترمذي (5/548 ح3540) عن أنس، وأحمد (5/154 ح21406)، والحاكم (4/241). ...
(4) أخرجه الطبري (4/96). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/326) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.(1/353)
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)(1/354)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ(1/355)
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ(1/356)
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ اتحرب
قوله: { قد خلت من قبلكم سُنَن } (1) السُّنَن: جمع سُنَّة، وهي الطريقة (2) . والمعنى: مضى قبلكم أهل سنن وشرائع.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الخامس عشر، مرة ثانية.
(2) انظر: اللسان، مادة: (سنن).(1/357)
{ فسيروا في الأرض } بأجسادكم. وقال الزجّاج (1) : إذا سرتم في أسفاركم عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم.
وقيل: المعنى: فسيروا في الأرض ببصائركم، { فانظروا } بعين التفكر والاعتبار { كيف كان عاقبة المكذبين } .
قوله تعالى: { هذا بيان للناس } : "هذا" إشارة إلى القرآن. وقيل: إلى أخبار الأمم السالفة (2) .
قال ابن عبد ربه: كُلُّ شيء كَشَف لك قناعَ المعنى الخفي، حتى ينادي إلى الفهم، ويتقبله العقل، ذلك البيان الذي ذكره الله في كتابه ومَنَّ به على عباده.
وقال سهل بن هارون (3) : البيان ترجمان العلم.
وقال بعضهم: ليس لمنقوص اللسان بهاء ولو حَكَّ بيافوخه (4) عَنَانَ السماء.
{ وهدى } يعني: من الضلالة، { وموعظة } من الجهالة.
قوله: { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نزلت تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بما
__________
(1) معاني الزجاج (1/470).
(2) انظر: الطبري (4/100)، وابن كثير (1/409).
(3) أبو محمد، الفارسي الأصل، الأديب الكاتب، يتعصب للعجم على العرب، وكان مشهوراً بالبخل. توفي سنة خمس عشرة ومائتين (معجم الأدباء 11/266).
(4) اليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس ومؤخره، وهو الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل (اللسان، مادة: يفخ).(1/358)
أصابهم يوم أُحُد، وتقوية لقلوبهم (1) .
والمعنى: لا تضعفوا عن قتال الأعداء، ولا تحزنوا على من أصيب من الشهداء، وكان قد قُتِل يومئذ حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومصعب بن عمير في خمسة من المهاجرين، وسبعين من الأنصار رضي الله عنهم، وجُرِح سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال أنس: وأُتي رسول الله بعليّ وبه نيف وستون جراحة، من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحها، وهي تلتئم بإذن الله، كأن لم تكن (2) .
قال ابن عباس: لما انهزموا يوم أُحُد أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اللَّهم لا يَعْلُنّ علينا، اللَّهم لا قوة لنا إلا بك"، فنزلت هذه الآية (3) .
{ وأنتم الأعلون } أي: وحالكم أنكم أعلا منهم، وآخر الأمر لكم.
وقيل: وأنتم الأعلون في الآخرة؛ لأن قتالكم في الرحمن، وقتالهم في الشيطان.
{ إن كنتم مؤمنين } متعلق بالنهي، المعنى: إن كنتم مصدِّقين بما وعدكم الله من الاستعلاء على الأعداء فلا تهنوا ولا تحزنوا.
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (1/496).
(2) ذكره القرطبي في تفسيره (4/219).
(3) أخرجه الطبري (4/103). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:128)، والسيوطي في الدر المنثور (2/330) وعزاه لابن جرير.(1/359)
قوله: { إن يمسسكم قرح } وقرأ أهل الكوفة -إلا حفصاً- بضم القاف (1) ، لغتان بمعنى واحد.
وقال أبو عبيد (2) : القَرْح: بالفتح: الجراح، وبالضم: ألم الجراح، والمعنى: إن يصبكم يوم أُحُد قرح، { فقد مسَّ القوم } يعني: المشركين { قرح مثله } يوم بدر، وقيل: "قد مس القوم قرح مثله" يوم أُحُد، فإنه قتل منهم خلق كثير.
قال ابن عباس: ما نُصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نُصِر يوم أُحُد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذ تَحُسُّونَهُم بإِذنِهِ } (3) .
قوله: { وتلك الأيام } مبتدأ وخبره، أو "تلك" مبتدأ، و"الأيام" صفة، "نداولها" خبره (4) .
والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة.
{ نداولها بين الناس } فنجعل الدولة للمسلمين تارة، وللمشركين أخرى { وليعلم الله الذين آمنوا } أي: وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، وهو معطوف
__________
(1) الحجة للفارسي (2/39)، والحجة لابن زنجلة (ص:174)، والكشف (6/356)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179), والسبعة في القراءات (ص:216).
(2) انظر: زاد المسير (1/466).
(3) أخرجه أحمد (1/287 ح2609)، والحاكم في المستدرك (2/324 ح3163)، والطبراني في الكبير (10/301 ح10731)، وابن أبي حاتم (3/786-787). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/344) وعزاه لأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم.
(4) انظر: التبيان (1/150)، والدر المصون (2/215-216).(1/360)
على محذوف، تقديره: ليتميز الثابتون على الإيمان من غيرهم (1) { ويتخذ منكم شهداء } قوماً يكرمهم بالشهادة.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن الصوفي، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، قال: أخبرنا ابن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله يقول: "قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد: أرأيتَ إن قُتِلتُ فأين أنا؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قُتِل" (2) . هذا حديث متفق على صحته.
وأخرجه مسلم عن سعيد بن عمرو الأشعثي عن سفيان.
{ والله لا يحب الظالمين } كعبد الله بن أُبَيّ وأصحابه المنافقين الذين انخزلوا معه يوم أُحُد.
قوله: { وليمحص الله الذين آمنوا } قال الزجّاج (3) والمبرد وغيرهما: يُمَحِّصهم: يُنَقِّيهم ويُخَلِّصهم. يقال: مَحَصَ الحبل مَحْصاً؛ إذا أذهب منه الوَبَرُ، ومحصت الذهب بالنار: خلصته مما يشوبه (4) ، ومنه: "اللَّهم مَحِّصْ عَنَّا ذنُوبَنَا" (5) .
__________
(1) انظر: التبيان (1/150)، والدر المصون (2/216).
(2) أخرجه البخاري (4/1487 ح3820)، ومسلم (3/1509 ح1899).
(3) معاني الزجاج (1/471).
(4) انظر: اللسان، مادة: (محص).
(5) ذكره القرطبي في تفسيره (4/220)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/467).(1/361)
وقال الزجّاج (1) : معنى الآية: جعل الله الأيام مداولة بين الناس ليمحِّص المؤمنين إذا أَدَالَ (2) عليهم، ويمحق الكافرين ويستأصلهم إذا أدال عليهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق الكافرين بإهلاك أنفسهم.
وقال الحسن ومجاهد: يمحِّصهم: يبتليهم ويختبرهم (3) ، ومنه قول الشاعر:
رَأَيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً ... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدا لِيَا (4)
{ ويمحق الكافرين } قال ابن عباس: يهلكهم (5) .
وقال الزجّاج (6) : يحبط أعمالهم.
قوله: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } "أم" منقطعة، والاستفهام في معنى الإنكار (7) ، { ولما يعلم الله } بمعنى: ولما يجاهدوا فيعلمه الله واقعاً، لأن العلم
__________
(1) معاني الزجاج (1/472).
(2) الإدالة: الغَلَبة (اللسان، مادة: دول).
(3) أخرجه الطبري (4/107)، وابن أبي حاتم (3/774-775)، ومجاهد (ص:137).
(4) البيت لعبد الله بن معاوية. انظر: الكامل (1/183)، وزاد المسير (1/467)، والدر المصون (2/217)، واللسان، مادة: (محص)، وتفسير غريب القرآن (ص:113).
(5) أخرجه الطبري (4/108)، وابن أبي حاتم (3/775) كلاهما بلفظ: ينقصهم. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/333) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) معاني الزجاج (1/471).
(7) وهو الأظهر. وقيل: "أم" بمعنى الهمزة وحدها. وقيل: هذا استفهام معناه النهي -وهو قول أبي مسلم الأصفهاني-. وقيل: هي متصلة (انظر: الدر المصون 2/218).(1/362)
متعلق بالمعلوم، قال الله: { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [الأنفال:23]، أي: ليس فيهم خير فيعلمه الله.
{ ويعلم الصابرين } قرأ جمهور القراء: "ويعلَمَ" بالنصب. وقرأت لأبي عمرو من رواية عبد الوارث (1) عنه: "وَيَعْلَمُ" بالرفع (2) .
وقرأ الحسن: "ويعلمْ الصابرين" بالجزم على العطف، والكسر في الوصل لالتقاء الساكنين، وقرأت بهذه القراءة أيضاً (3) من بعض طرق عبد الوارث. فمَن نصب فعلى الصرف عن العطف.
قال ابن الأنباري: هذه الواو يسميها النحويون: واو الصرف، فالذي بعدها ينصب على خلاف ما قبلها، كما تقول العرب: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي: لا تجمع بينهما، ولا تأكل السمك في حال شربك اللبن، وقيل: انتصب بإضمار "أنْ". ومن رفع فعلى أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
قوله: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } قال ابن عباس وغيره: لما أخبرهم عز وجل على لسان نبيه ما لقي به شهداء بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنّوا قتالاً يستشهدون فيه، فلما كان يوم أُحُد ألَحّوا
__________
(1) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان، أبو عبيدة البصري، مولاهم، المقرئ الثقة، عرض على أبي عمرو وغيره. توفي سنة ثمانين ومائة بالبصرة (طبقات القراء لابن الجزري 1/478).
(2) انظر: البحر المحيط (3/72).
(3) انظر: مختصر ابن خالويه (ص:22)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179).(1/363)
على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج حرصاً على الشهادة، ورغبة فيها، فلم يلبثوا أن انهزموا، إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله فيهم هذه الآية (1) .
والمعنى: فقد رأيتم أسبابه.
{ وأنتم تنظرون } توكيد، على معنى: وأنتم بصراء.
وقيل: وأنتم تنظرون ما تمنيتم.
وقال ابن عباس: وأنتم تنظرون إلى السيوف (2) .
والذي يظهر لي، ويشهد بصحته سبب النزول -والله أعلم- أن المعنى: ولقد كنتم تمنون الموت رغبة في الشهادة فقد رأيتموه، وبلغتم ما كنتم تحبون وتتمنون، وحالكم أنكم قوم تنتظرون الموت، وترتقبونه رغبة في كرامة الله وما أعده للشهداء، فلم انهزمتم، وأسلمتم نبيكم، وخذلتم دينكم؟.
الإشارة إلى غزاة أُحُد
أخبرنا أبو علي بن فرج بن سعادة في كتابه، أخبرنا أبو القاسم بن محمد بن عبد الواحد، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك،
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/776) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/333-334) وعزاه لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. ومن طريق آخر عن الربيع وقتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن الحسن، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن السدي، وعزاه لابن جرير. وانظر: لباب النقول (ص:58-59).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/468).(1/364)
أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، أن البراء بن عازب قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أُحُد -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جبير، قال: ووضعهم موضعاً، وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء [يشتددن] (1) على الجبل، وقد بدت [سوقهنّ] (2) وخلاخيلهنّ، رافعات ثيابهنّ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم! الغنيمة، ظهر أصحابُكم فما تنتظرون؟، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا: والله إنَّا لنأتين الناس، فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، وذلك قوله: { والرسول يدعوكم في أخراكم } [آل عمران:153]، فلم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منا سبعين رجلاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ -ثلاثاً- قال: فنهاهم رسول الله أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، وقد كُفِيتموهم، فما مَلَكَ عمر نفسه أن قال: كذبتَ -والله- يا عدو الله،
__________
(1) في الأصل: يشددن. والتصويب من مصادر تخريج الحديث. والمعنى: يسعين سعياً شديداً.
(2) في الأصل: أسواقهن. والتصويب من مصادر التخريج.(1/365)
إن الذين عددتَ لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال (1) ، إنكم ستجدون في القوم مُثْلة (2) لم آمر بها، ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اعل هُبَل، اعل هُبَل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تجيبوه؟ قالوا: يا رسول الله؛ وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ، قال: إن لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تجيبوه؟ قالوا: يا رسول الله؛ ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" (3) . انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في ثلاثة مواضع من كتابه عن عمرو بن خالد، عن زهير.
وبهذا الإسناد قال (4) : حدثنا أبي، قال: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن [عبيد الله، عن] (5) ابن عباس أنه قال: "ما نصر الله تعالى نبيه في مواطن ما نصره يوم أُحُد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذ تَحُسُّونَهُم بإِذنِهِ } ، ثم ذكر حديث الرماة، إلى أن قال: وصاح الشيطان: قُتِل محمد، فلم يُشَكَّ فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قد قُتِل، حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين السَّعْدَين، نعرفه بتَكَفُّئه (6) إذا مشى، قال: ففرحنا حتى كأنَّا لم يصبنا ما أصابنا، قال: فَرَقَى نحونا، وهو يقول: اشتد
__________
(1) الحرب سِجال: معناه: نُدالُ (نُغْلب) عليه مرة، ويُدالُ علينا أخرى (اللسان، مادة: سجل).
(2) المُثْلة: التنكيل (اللسان، مادة: مثل).
(3) أخرجه البخاري (3/1105 ح2874، 4/1486 ح3817)، وأحمد (4/293).
(4) أي: عبد الله بن الإمام أحمد.
(5) في الأصل: عن عبد الله بن عباس. والمثبت من المسند (1/287).
(6) التكفّي: التَّمايُلُ إلى قُدَّام، كما تتكفَّأ السفينة في جَرْيها (اللسان، مادة: كفأ).(1/366)
غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله. قال: ويقول مرة أخرى: اللَّهم إنه ليس لهم أن يعلونا، حتى انتهى إلينا، فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هُبَل!! ثم قال: وأجيب نحو ما تقدَّم، فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب، إنه قد أنعمت [عينها] (1) فَعالِ عنها" (2) .
قوله: "طلع بين السَّعْدَين"، يعني: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وكانا نقيبين، وقوله: "قد أنعمت" يعني: الآلهة، "فَعالِ عنها"، أي: لا تَذكُرْها بسوء.
قال أهل العلم بالتفسير والسير: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزل بالشِّعْب من أُحُد قال للرماة: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقْتَل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، فإنَّا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم"، فلما استباح المسلمون عسكر المشركين انكبَّ الرماة، فدخلوا العسكر ينهبون، وثبت عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة، وكان على ميمنة قريش خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عِكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف، ويقلن الشعر، وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تُقْبلوا نُعانِق ... أو تُدْبروا نُفارِق
فراق غير وامق
__________
(1) زيادة من المسند (1/287).
... ومعنى قوله: "أنعمت عينها"، أي: قرّت، من الإنعام، يعني: آلهته.
(2) أخرجه أحمد (1/287 ح2609).(1/367)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: "من يأخذ هذا السيف بحقه"؟، فقال من رضي الله عنه -أبو دجانة سِماك بن خرشة-: أنا يا رسول الله، وكان رجلاً شجاعاً، يختال في الحرب سجية، ما يستطيع غير ذلك، فتعمّم بعمامة حمراء، وبرز يتبختر، ويقول:
أَنَا الذي عَاهَدَنِي خَلِيلي ... وَنَحْنُ بالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَنْ لاَ أَقُومَ الدَّهْرَ في الكَيُّولِ (1) ... أَضْرِبْ بسَيْفِ الله والرَّسُولِ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنها لمِشْيَةٌ يُبغضها الله إلا في هذا الموضع" (2) ، ثم حمل رسول الله على المشركين فاستباحهم، وقَتَلَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه طلحةَ بن أبي طلحة حامل لواء قريش، وأنزل الله نصره، فلما رأت الرماة المشركين قد انهزموا، والرسول والمسلمون يغنمونهم، مالوا إلى الدنيا وطلبوا الغنيمة، فقال أميرهم عبد الله بن جبير: أمّا أنا فلا أفارق مكاناً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، فثبت في نفر دون العشرة، وانكبَّ أكثرهم، فدخلوا العسكر، فلما رأى خالد قِلَّة الرماة وانشغال المسلمين بالغنيمة صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على المسلمين من خلفهم فهزموهم، وقتلوهم، وشُجَّ رسول الله في وجهه وكُسِرت رباعيته، وتفرّق عنه أصحابه، وأقبل عبد الله بن قَمِئَة يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذبَّ عنه مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُتِل دونه، فظن الخبيث أنه قد قتل
__________
(1) الكيُّول: آخر الصفوف في الحرب (اللسان، مادة: كيل).
(2) انظر: سيرة ابن هشام (4/13-16).(1/368)
رسول الله، فقال: قتلت محمداً، وصرخ الشيطان: ألا إن محمداً قد قُتِل! ألا إن محمداً قد قُتِل! فقال أنس بن النضر، عم أنس بن مالك: يا قوم! إن كان محمد قد قُتِل فإن ربّ محمد لم يقتل، ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه، ثم حمل على المشركين، فقاتل حتى قُتِل، وانكفأ الناس، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إليّ عباد الله، إليّ عباد الله"، فاجتمع إليه ثلاثون من أصحابه، فذبُّوا عنه، فأُصيبت يد طلحة بن عبيد الله، وسالت عين قتادة بن النعمان، فردَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في مكانها، فعادت أحسن ما كانت، وفي ذلك يقول ابنه يفتخر:
أَنَا ابنُ الذي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عَيْنُهُ ... فَرُدَّتْ بكَفِّ المُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ
فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لأَحْسَنِ حَالِها ... فَيَا حُسْنَ ما عَيْن ويَا حُسْنَ مَا يَدِ (1)
وقال سعد بن الربيع وهو في آخر رمق: يا قوم! لا عذر لكم عند الله إن وُصِل إلى رسول الله وفيكم عينٌ تطرف.
ولما انهزم المسلمون، وصرخ الشيطان: قُتِل محمد. قال قوم من المنافقين: الحقوا بدينكم الأول.
وقال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أُبَيّ أخذ لنا أماناً من أبي سفيان، ثم انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصخرة، فكان أولَ مَن عرفه كعبُ بن مالك، فقال: عرفت عينيه تُزهران تحت المِغْفَر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين؛ أبشروا هذا رسول الله، فتراجع المسلمون إليه، فلامهم على
__________
(1) البيتان في: صفة الصفوة (1/464)، والاستيعاب (3/1275).(1/369)
الفرار، فقالوا: يا نبي الله؛ فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا الخبر بأنك قد قتلت، فرعبت قلوبنا فوليْنا مدبرين" (1) ، فأنزل الله: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } (2) .
هذا اسمٌ أكرم الله به رسوله، واشتقاقُه من الحمد، سمي بذلك لأنه محمود عند الله، وعند الملائكة، وعند الناس، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وَشَقَّ لَهُ مِن اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... ... فَذو العَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ (3)
وقوله: { قد خلت من قبله الرسل } إشارة إلى أنه يتطرق إليه ما يتطرق إليهم من القتل والموت.
فصل
لما انتهيتُ مرة في تدريس تفسير الكتاب العزيز إلى هذه الآية أورد عليّ رجلٌ فاضل إشكالاً، فقال: لا شبهة أنَّ "قد" في أصل الوضع لتقريب الماضي من الحال (4) ، ومعلوم أن بين انقراض الرُّسُل وبين زمن نزول هذه الآية أمداً بعيداً ودهراً طويلاً، فكيف ساغ دخول "قد" ها هنا؟
__________
(1) ذكره ابن هشام في السيرة (4/13-16)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/15-16)، والثعلبي (3/176-177).
(2) أسباب النزول للواحدي (ص:129) عن عطية العوفي.
(3) البيت لحسان بن ثابت. انظر: ديوانه (ص:54)، والقرطبي (1/133)، والاستيعاب (9/154) ونسبه لعبد المطلب أو أبي طالب، والإصابة (7/235) ونسبه لأبي طالب. وهو في ديوان أبي طالب (ص:332).
(4) انظر: اللباب لأبي البقاء (1/49)، والمغني لابن هشام (1/148).(1/370)
فقلت: المقصودُ من سياق هذه الآية تقريع المنهزمين يوم أُحُد، وإبطالُ ما اعتصموا به من جهة الاعتذار للفرار من قولهم للرسول: أتانا الخبر بأنك قد قُتِلت، فقال سبحانه: { وما محمد إلا رسول } فحكمُه حكمهم، يجوز عليه ما يجوز عليهم، ويتطرق إليه ما تطرق إليهم. ثم قرّب سبحانه زمان هؤلاء الرسل إلى المنهزمين المُواجَهين بالتوبيخ والتقريع بصيغة تُقرِّب الماضي من الحال فقال: { قد خلت من قبله الرسل } ؛ ليكون ذلك في قربه منهم كالمشاهَد لهم لترسخ في أذهانهم، وليستحضروا في قلوبهم ما سيجري على رسولهم مماثلاً لما جرى على من قبله من الرسل، كأنه قال: { قد خلت من قبله الرسل } بالأمس { أفإن مات } محمد { أو قُتِل } اليوم، كما مات من قبله من الرسل وقُتِلوا { انقلبتم على أعقابكم } ، فيكون ذلك توبيخاً على توبيخ، وبَّخهم أولاً لفرارهم، وثانياً لاعتذارهم؛ ليزدادوا بصيرة وإيماناً وثباتاً على دينهم، كيف تصرَّفتْ بهم الحال، كما كان أنس بن النضر حين قيل: قُتِل محمد، وكما كان الصِّدِّيق حين قال: مَن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومَن كان يعبد رب محمد فإن رب محمد حي لا يموت.
وقلّ أن يُذكر مثل هذا التحرير في تفسير، ولكن هذا من السرِّ المكنون الذي لا يَظهر إلا بالبحث والتقرير.
قوله (1) عز وجل: { أفإن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم } ، أي: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قُتِل؟
__________
(1) ... كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً سابعاً، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس السادس عشر، مرة ثانية.(1/371)
ويقال لكل مَن عاد إلى ما كان عليه، ورجع وراءه: انقلب على عقبيه. يُعَرِّضُ بهذا بالقائلين حين صرخ الشيطان: قُتِل محمد، ارجعوا إلى دينكم الأول.
{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } إنما يضر نفسه، { وسيجزي الله الشاكرين } .
قال علي رضي الله عنه: يعني الثابتين على دينهم، وكان أبو بكر أمير الشاكرين (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم العطار وأبو الحسن الصوفي، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا ابن حمويه، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة، أن عائشة أخبرته، "أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنُح (2) ، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتَيمم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مغشى بثوب حِبَرَة (3) ، فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه وقبَّله، وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتِبَت عليك فقد مِتَّها".
__________
(1) ... أخرجه الطبري (4/110-111) وفيه: "أمين الشاكرين". وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/338) وعزاه لابن جرير.
(2) السُّنُح: إحدى محال المدينة، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، فيها منزل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه (معجم ما استعجم 3/760، ومعجم البلدان 3/265).
(3) الحِبَرَة -كعِنَبة-: ضربٌ من برود اليمن مُنَمَّر (اللسان، مادة: حبر).(1/372)
وحدثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّاب يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّداً فَإِنَّ مُحَمَّداً قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله فَإِنَّ الله حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، قَالَ الله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ -إِلَى قَوْلِهِ:- الشَّاكِرِينَ } .
قَالَ: وَالله لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا أَسْمَعُ بَشَراً مِن النَّاسِ إِلا يَتْلُوهَا، فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَالله مَا هُوَ إِلاّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاهَا [عَلِمْتُ] (1) أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ". انفرد بإخراجه البخاري (2) .
قوله: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } قال الزجّاج (3) : اللام في "النفس" معناها النقل، بتقدير: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
قال ابن عباس: يريد: بقضائه وقدره (4) .
{ كتاباً مؤجلاً } أي: كتب الله ذلك كتاباً إلى أجله في اللوح المحفوظ، لا يُقَدِّمُهُ اقتحام المهالك، ولا يُؤَخِّرُهُ الفرار من المعارك.
والمقصودُ من هذا حَضُّ المسلمين على الصبر عند لقاء العدو، والعتب
__________
(1) زيادة من البخاري (4/1618).
(2) أخرجه البخاري (4/1618 ح4187).
(3) معاني الزجاج (1/474).
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (1/500).(1/373)
على المنهزمين يوم أُحُد.
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } أي: مَن قصد بعمله الدنيا نعطه منها ما قدَّرنا له، ثم ينقطع، وفيه تعريض بالرماة الذين تركوا المركز، طلباً للغنيمة، وباقي الآية تعريض بالذين بقوا مع أميرهم عبد الله بن جبير لحفظ المركز.
قوله عز وجل: { وكأين } وقرأ ابن كثير: "وكَائِن" (1) ، مثل: وكَاعِن، والأول لغة أهل الحجاز، والثاني لغة بني تميم.
قال المَعْلُوط القُرَيْعِي:
وَكَائِنٍ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ مُذَمّم ... ... وَصُعْلُوك قَوْمٍ مَاتَ وَهوَ حَمِيدُ (2)
قال ابن قتيبة (3) : وهذه اللغة أفصح، وأكثر، قال الشاعر:
وَكَائِنٍ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ ... ... زِيادَتهُ أو نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ (4)
قال الفرّاء: وأنشدني الكسائي:
وَكَائِنٍ تَرَى يَسْعَى مِنَ النَّاسِ جَاهِداً ... ... عَلَى ابنٍ غَدَا مِنْهُ شُجَاع وَعَقْرَبُ (5)
__________
(1) الحجة للفارسي (2/39)، والحجة لابن زنجلة (174-175)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:179-180)، والسبعة في القراءات (ص:216).
(2) انظر: ديوان الحماسة (2/19).
(3) تأويل مشكل القرآن (ص:519).
(4) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني في معلقته إحدى المعلقات السبع. انظر: ديوانه (ص:88)، وزاد المسير (1/471)، وشعب الإيمان (4/273).
(5) لم أعرف قائله، وهو في زاد المسير (1/471).(1/374)
وقال آخر:
وَكَائِنٍ أَصَابَتْ مُؤْمِناً مِنْ مُصيبَةٍ ... ... عَلَى اللهِ عُقْبَاهَا وَمِنْهُ ثوابُها (1)
قال بعضُهم: أصلها "أي" دخلت عليها كاف التشبيه، فمن ثقَّل فعلى الأصل، ومَن خفَّف فلكراهة التضعيف، وكان أبو عمرو يقف على الياء نظراً إلى الأصل، والباقون على النون اتّباعاً للإمام.
ومعناها: وكم من نبي قُتِل.
وقرئ شاذاً: "قُتِّل" بالتشديد (2) .
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة: "قاتلَ" (3) ، والفاعل "ربيون"، والمعنى: كم من نبي قُتِل الرِّبيون معه، فما وهن مَن بقى منهم، ويؤيد هذا المعنى قراءة مَن شدَّد.
وقيل: القتل مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعلى هذا: "معه" في محل الحال (4) ، المعنى: وكم من نبي قُتِل كائناً معه ربيون، فما وهنوا بعد قتل نبيهم. والقولان جاريان في قراءة أهل الكوفة أيضاً.
والرِّبيون -بالحركات الثلاثة على الراء-: الجماعات الكثيرة، وهذا قول
__________
(1) البيت للفرزدق، وهو في زاد المسير، الموضع السابق.
(2) انظر: المحتسب (1/173).
(3) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: "قُتِلَ". انظر: الحجة للفارسي (2/41)، والحجة لابن زنجلة (ص:175)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:180)، والسبعة في القراءات (ص:217).
(4) انظر: التبيان (1/152)، والدر المصون (2/227).(1/375)
الأكثرين من أهل التفسير واللغة (1) .
قال ابن مسعود: هم الألوف (2) . اختاره الفرَّاء (3) .
وقال قتادة وعكرمة ومجاهد: الجماعات الكثيرة (4) . واختاره ابن قتيبة (5) .
وقال الحسن: العلماء والفقهاء (6) . اختاره الزجَّاج (7) .
وقال ابن فارس (8) : هم العارفون المتألِّهون.
{ فما وهنوا } أي: ما ضعفوا عند قَتْل نبيهم، أو قَتْل مَن قُتِل منهم، { وما ضعفوا } عن جهاد الأعداء بعد ما أصابهم في سبيل الله، { وما استكانوا } ، أي ما ذلُّوا للعدو، وفي هذا تعريضٌ بالمنهزمين الذين أظهروا الوهن والضعف والذل حين صرخ الشيطان: قُتِل محمد.
__________
(1) قال ابن عباس في تفسيره (ص:131) عند تفسير هذه الآية: ربيون: جموع.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (9/225)، والطبري (4/117)، وابن أبي حاتم (3/780). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/340) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.
(3) معاني الفراء (1/237).
(4) أخرجه الطبري (4/117)، وابن أبي حاتم (3/780). وذكره الماوردي (1/428). وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) تفسير غريب القرآن (ص:113).
(6) ... أخرجه سعيد بن منصور (3/1094)، والطبري (4/118)، وابن أبي حاتم (3/781). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/340) وعزاه لسعيد بن منصور.
(7) معاني الزجاج (1/476).
(8) انظر: مجمل اللغة (2/366).(1/376)
قوله: { وما كان قولهم } يعني: قول الرِّبيين إلا هذا القول، وهو الاعتراف بالذنوب. { وإسرافنا في أمرنا } وهو مجاوزة الحد في المعاصي.
فالمعنى: اغفر لنا الصغائر والكبائر.
{ وثبّت أقدامنا } كي لا نزول عن دينك، وحرب أعدائك.
المعنى: فهلاَّ كنتم أنتم يا أصحاب محمد كذلك.
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا } وهو النصر والغنيمة، { وحسن ثواب الآخرة } وهو الجنة.
وخصَّه بإضافة الحُسن إليه تمييزاً له عن ثواب الدنيا، وتفضيلاً له عليه.
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا(1/377)
الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو(1/378)
فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ اتخجب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } قال علي رضي الله عنه: هم المنافقون الذين قالوا - حين صرخ الشيطان قُتِل محمد-: ارجعوا إلى دينكم الأول (1) .
وقال ابن عباس: هم اليهود (2) .
وذاك أنهم كانوا يرومون إدخال الشبهة على المؤمنين ليفتنوهم، فلما
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/183)، والواحدي في الوسيط (1/502).
(2) أخرجه الطبري (4/122)، وابن أبي حاتم (3/785) كلاهما عن ابن جريج. وذكره الواحدي في الوسيط (1/502) من قول ابن عباس، وابن الجوزي في زاد المسير (1/474) من قول ابن جريج، والسيوطي في الدر المنثور (2/341-342) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج.(1/379)
كان يوم أُحُد قالوا: لو كان نبياً ما غلب.
وقيل: هو عامّ في جميع الكفار.
{ بل الله مولاكم } : وليكم وناصركم.
وقرئ: "بل اللهَ" بالنصب (1) ، على معنى: بل أطيعوا الله مولاكم.
قوله: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قال السدي: لما ارتحل المشركون نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا: قتلنا أصحاب محمد حتى إذا لم يبق منهم إلا شرذمة تركناهم، فهمُّوا بالرجوع ليستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية (2) .
وقيل: كان ذلك يوم أُحُد، فإنهم انهزموا راجعين إلى مكة، ولهم القوة والغلبة.
والرعب -بإسكان العين وبضمها- لغتان.
وبضمها قرأ ابن عامر والكسائي (3) حيث جاء، وهو الخوف الذي يملأ القلب، من قولهم: رَعَبْتُ القربة، أي: ملأتها (4) .
و "ما" في قوله: { بما أشركوا } مصدرية، المعنى: بإشراكهم { بالله ما لم ينزل به سلطاناً } حُجَّة ظاهرة.
__________
(1) مختصر شواذ القرآن (ص:22).
(2) أخرجه الطبري (4/124). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:129)، والوسيط (1/503)، والسيوطي في الدر المنثور (2/342) وعزاه لابن جرير.
(3) الحجة للفارسي (2/42)، والحجة لابن زنجلة (ص:176)، والكشف (1/360)، والنشر (2/215-216)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:180)، والسبعة في القراءات (ص:217).
(4) انظر: اللسان، مادة: (رعب).(1/380)
لأن النِّد والشَّريك لا حُجَّة على صحته فتنزل.
{ ومأواهم النار } مكانهم الذي يأوون إليه النار.
ثم ذمَّه فقال: { وبئس مثوى الظالمين } .
قوله: { ولقد صدقكم الله وعده } قال قوم من المسلمين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، فنزلت هذه الآية (1) .
والوعد بالنصر في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم" (2) ، أو في قوله: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ، أو في قوله: { بلى إن تصبروا وتتقوا ... الآية } ، إن قلنا هو يوم أُحُد.
{ إذ تحسونهم بإذنه } أي: تقتلونهم قتلاً ذريعاً. يقال: سَنَةٌ حَسُوسٌ؛ إذا أَتَتْ على كل شيء، وجَرَادٌ مَحْسُوسٌ؛ إذا قَتَلَهُ البَرْد (3) .
وكان ذلك حين كان الرماة يرشقونهم بالنبل، وباقي المسلمين يضربونهم بالسيوف.
{ حتى إذا فشلتم } أي: جبنتم (4) وضعف رأيكم، { وتنازعتم في الأمر } وهو تجاذب الرماة فيما بينهم، بين قائل: لا نفارق المركز، وقائل: ما يمنعنا من الغنيمة، { وعصيتم } خالفتم الرسول في قوله: "لو رأيتم الطير تخطفنا
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:129)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/475).
(2) تقدم (ص:320).
(3) انظر: اللسان (مادة: حسس).
(4) انظر: الطبري (4/128).(1/381)
لا تُفارقوا مكانكم" (1) .
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم.
{ من بعد ما أراكم ما تحبون } وهو النصر والغنيمة.
وجواب "حتى إذا" محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم منعتكم ما تحبون. ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، التقدير: ولقد صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم.
{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين فارقوا المركز، { ومنكم من يريد الآخرة } كعبد الله بن جبير وأصحابه الذين ثبتوا معه.
قال ابن مسعود: ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية (2) .
{ ثم صرفكم عنهم } ردَّ وجوهكم عن المشركين بالهزيمة.
وفي قوله: "صرفكم"، إبطال لمذهب القَدَرية، حيث أضاف الصرف إلى نفسه، وجعله من فعله.
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله، غضابٌ لله، يُقاتلون أعداء الله، نُهوا عن شيء فصنعوه، فما تُرِكوا حتى
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1105 ح2874).
(2) أخرجه أحمد (1/463) بسند حسن، وابن أبي شيبة (7/371)، والطبراني في الأوسط (2/106)، والطبري (4/130)، وابن أبي حاتم (3/788). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/349) وعزاه لأحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند صحيح.(1/382)
غُمُّوا بهذا الغم. والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة، ويركبُ كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسيعلم (1) .
قوله: { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } (2) قوله: "إذ" نصب بـ"صَرَفَكُمْ"، أو بقوله: "لِيَبْتَلِيَكُمْ"، أو بـ"عَفَا"، أو بإضمار "اذكر" (3) ، و"تُصْعِدُونَ" من الإِصْعَاد، وهو: الذهاب في الأرض، والإبعاد فيها، يقال: أَصْعَدَ في الأرض؛ إذا أَمْعَنَ في الذهاب فيها (4) .
وقرأ الحسن البصري: "تَصْعَدُونَ" (5) -بفتح التاء والعين- من الصُّعُود، يريد: ارتفاعهم في الجبل، ويؤيده قراءة عائشة وأبي الجوزاء (6) في آخرين، "ولا تَلْوونَ على أُحُد" (7) -بضم الهمزة والحاء- أي: الجبل المعروف، وقيل: صَعِدَ وَأَصْعَدَ بمعنى واحد.
"ولا تلوون" أصله من لَيِّ العنق في الالتفات، ثم استعير في ترك
__________
(1) أخرجه الطبري (4/131). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/349) وعزاه لابن جرير.
(2) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس السادس عشر، مرة ثانية.
(3) انظر: التبيان (1/154)، والدر المصون (2/233).
(4) انظر: اللسان، مادة: (صعد).
(5) إتحاف فضلاء البشر (ص:180).
(6) أوس بن عبد الله الربعي، أبو الجوزاء -بالجيم والزاي- بصري، تابعي، ثقة جليل، يرسل كثيراً، توفي سنة ثلاث وثمانين (التقربب ص:116).
(7) إعراب القراءات الشواذ (ق 48/ب).(1/383)
التعريج.
{ والرسول يدعوكم في أخراكم } يقال: جاء فلان في آخر الناس وأُخْرَاهم؛ إذا جاء من خلفهم (1) ، كما يقال: جاء في أوَّلِهم وأُولاهم.
و"الأخرى" تأنيث الآخر، وهو في تأويل: يدعوكم في سَاقَتَكم، أو في جماعتكم المتأخرة، يقول: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، أنا رسول الله.
"فَأَثَابَكُمْ" عطف على "ثُمَّ صَرَفَكُمْ" (2) ، والمعنى: فجازاكم غمّاً حين صرفكم عنهم، "لِيَبْتَلِيَكُمْ" بسبب غم أدخلتموه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بمخالفتكم له. وهذا اختيار الزجَّاج (3) .
وقال الحسن: بغَمٍّ أدخلتموه على الكفار يوم بدر.
وقيل: "غمّاً بغَمّ" أي: غمّاً على غَمّ. تقول: نزلت به؛ أي: عليه.
أو غمّاً مع غم، كما تقول: جاء زيد بعمرو، أي: معه، وهو ما أصابهم من القتل والهزيمة وما فاتهم من النصر والغنيمة، أو مع ما نالهم حين سمعوا قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - .
{ لكي لا تحزنوا } قيل: إن "لا" زائدة، كقوله: { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَاب } [الحديد:29].
فالمعنى: فأثابكم غمّاً، عقوبة لكم، لكي تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، وما نالكم من القتل والهزيمة.
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (أخر).
(2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/454). وانظر: الدر المصون (2/234).
(3) معاني الزجاج (1/479).(1/384)
فعلى هذا اللام في "لِكَيْ" متعلقة بقوله: "فَأَثَابَكُمْ".
والأظهر: أن "لا" على أصلها، ومعناها النفي.
ثم في توجيه الآية طرق:
أحدها: فأثابكم غمّاً عظيماً تضاءل عندَه الغَمُّ الأول، وهو: ما فاتكم وأصابكم عند سماع صوت الشيطان: قُتِل محمد، فبقي الغم الأول مغموراً كأن لم يكن له وجود، ومن هذا قول الشاعر:
....................... ... ... إِذا تَجَدَّدَ حُزْنٌ هَوَّنَ المَاضِي (1)
الطريق الثاني: أن المعنى: فأثابكم غمّاً بغَمٍّ لتتمرَّنوا وتتعوّدوا، فلا تحزنوا على ما فاتكم من المسارّ، ولا على ما أصابكم من المضارّ (2) ، كما قيل:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتّى أَلِفْتُهُ ... فَأَسْلَمَنِي حُسْنُ العَزَاءِ إِلى الصَّبْرِ
وَوَسَّعَ صَدْرِي بالأَذى كَثْرَةُ الأَذى ... وَقَدْ كُنْتُ أَحْيَاناً يَضِيقُ بهِ صَدْرِي (3)
ومنه البيت السائر:
أَنْكَرَتُ طَارِقَةَ الحَوادِثَ مَرَّةً ... ثُمَّ اعْتَرَفَتُ بهَا فَصَارَتْ دَيْدَنَا (4)
الطريق الثالث: أن تكون لام "كي" متعلقة بقوله { ولقد عفا عنكم } أي:
__________
(1) ... عجز بيت لإبراهيم بن العباس الصولي، وصدره: (كم قد تجرعت من غيظ ومن حزن). وهو في: تاريخ بغداد (6/117).
(2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/454).
(3) البيتان لأبي الأسود الدؤلي. انظر: جمهرة الأمثال (1/185).
(4) البيت للمتنبي. انظر: شرح ديوان المتنبي (1/252).(1/)
عفا عنكم لكي لا تحزنوا، فإن عفو الله يَذْهب بالحزن (1) .
NèO أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى Zpxےح !$sغ مِنْكُمْ ×pxےح !$sغur قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ
__________
(1) وفيه بُعد من جهة طول الفصل. انظر: الدر المصون (2/235-236).(1/386)
الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ اتخخب(1/387)
قوله: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } قال ابن قتيبة (1) : "الأمنة": الأمن.
و"نعاساً" بدل من "أمنة" (2) .
وجائز أن يكون هو المفعول، و"أمنة" حالاً متقدمة عليه، نحو رأيت راكباً رجلاً. وجائز أن يكون مفعولاً له، أي: نعستم للأمنة (3) .
والنُّعَاس: الوَسَن، يقال: نَعَسَ يَنْعُسُ نُعَاساً فهو نَاعِس، وبعضهم يقول: نَعْسَان (4) .
قال الفرّاء (5) : قد سمعتها، ولكن لا أشتهيها.
قال الزجّاج (6) : معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب بأن أمَّنكم أمناً تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام.
{ يغشى } يعني: النعاس.
وقرأ حمزة والكسائي: "تغشى" (7) بالتاء والإمالة، يعني: الأمنة، { طائفة منكم } ، وهم المؤمنون، { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } وهم المنافقون،
__________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:114).
(2) انظر: التبيان (1/154)، والدر المصون (2/236).
(3) مثل السابق.
(4) انظر: اللسان، مادة: (نعس).
(5) لم أقف عليه في معاني الفراء، وهو في زاد المسير (1/480).
(6) معاني الزجاج (1/479).
(7) الحجة للفارسي (2/44)، والحجة لابن زنجلة (ص:176)، والكشف (1/360)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:180)، والسبعة في القراءات (ص:217).(1/388)
أهمّهم خلاص أنفسهم لا خلاص الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا الخلاص في الإسلام.
قال الزبير رضي الله عنه: أرسل الله تعالى علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا"، فحفظتها منه (1) .
وأخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي، وابن رُوْزَبَة البغداديان، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا عبد الله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، قال: حدثنا أنس، أن أبا طلحة قال: "غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ في مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ وَمَا مِنْهُم أَحَد يَوْمئذ إِلاَّ يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ (2) مِنَ النُّعَاس" (3) .
قوله: { يظنون بالله غير الحق } ظنوا أن عِقْد الإسلام قد انْحَلّ، وأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اضْمَحَلّ.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/143)، وابن أبي حاتم (3/795). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/353) وعزاه لابن إسحاق وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
(2) ... الحَجَفة: التِّرْس (اللسان، مادة: حجف).
(3) ... أخرجه البخاري (4/1662 ح4286).(1/389)
قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه (1) .
{ ظن الجاهلية } بدل من "غير الحق" (2) .
والمعنى: ظن المختص بالملة الجاهلية، أو كظن أهل الجاهلية، فشبه ظن أهل الشك بظن أهل الشرك.
وقوله: { يقولون } بدل من "يظنون"، والاستفهام بمعنى الجحد -كما سبق-، وتقديره: ما لنا من النصر والظفر شيء، كما وعدنا.
قال أبو سليمان الدمشقي: القائل: { هل لنا من الأمر من شيء } : عبد الله بن أُبَيّ بن سلول (3) .
قل لهم يا محمد: { إن الأمر كله لله } قرأ الكل: "كُلَّهُ" بالنصب على توكيد الأمر، إلا أبا عمرو فإنه رفع على الابتداء (4) . و"لله" الخبر، والجملة خبر "إنَّ" (5) .
وقوله: { يخفون } حال من "يقولون" (6) .
والذي أخفوه: الشك والنفاق، أو قولهم: { هل لنا من الأمر من شيء } ، وقولهم: { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (1/507) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (1/481).
(2) ... انظر: الدر المصون (1/238).
(3) انظر: زاد المسير (1/482).
(4) الحجة للفارسي (2/44)، ولابن زنجلة (ص:177)، والكشف (1/361)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:180)، والسبعة في القراءات (ص:217).
(5) انظر: التبيان (1/155)، والدر المصون (2/239).
(6) انظر: الدر المصون (2/239).(1/390)
{ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي: لصاروا إلى بَرَازٍ من الأرض، وهو المكان المنكشف. والمضاجع: المصارع.
وهذا إعلامٌ من الله للبشر أنه لا وزر من القدر.
قوله: { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي: ما فيها من الإخلاص.
{ وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان.
قال قتادة: ليطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه، من الأمنة وإظهار سرائر المنافقين (1) .
وقال غيره: أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب، فيكون الخطاب بذلك للمنافقين (2) .
قوله عز وجل: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } يريد: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُد، والخطاب للمسلمين، { إنما استزلهم الشيطان } أي: طلب منهم الزلل، { ببعض ما كسبوا } من الذنوب، وهو معصية الرسول بمفارقة المركز.
وذكر البعض مُشْعِرٌ بأن المعفو عنه من الذنوب أكثر.
{ ولقد عفا الله عنهم } تولّيهم يومَ أُحُد.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (509)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/482).
(2) انظر: زاد المسير (1/482).(1/391)
آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)(1/392)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا(1/393)
غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ّŒخ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ(1/394)
كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اتدحب
ثم نهى الله المؤمنين عن أن يكونوا كالمنافقين فقال: { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } أي: لأجل إخوانهم، كقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [الأحقاف:11]، والمعنى: لإخوانهم في السبب، وهو النفاق.
وقيل: في النسب.
{ إذا ضربوا } أي: سافروا، وساروا فيها.
قال الزجّاج (1) : إنما قال: { إذا ضربوا } ، ولم يقل: "إذ" لأنه هذا شأنهم أبداً، يقولون: فلان إذا حدَّث صدق، وإذا ضُرِب صبر، و"إذا" لما يُستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خُبر منه فيما مضى.
وقال غيره: هو على حكاية الحال الماضية.
{ أو كانوا غُزّى } جمع غاز، مثل: صائم وصُوَّم، ونائم ونُوَّم، وفيه إضمار تقديره: قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو غزوا فماتوا أو قُتِلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا.
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم سلموا، "حسرة" أي: حزناً وأسفاً في قلوبهم (2) .
__________
(1) لم أقف عليه في معاني الزجاج، وهو في زاد المسير منسوب إليه (1/484).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/484).(1/395)
واللام في "ليجعل"، متعلقة بـ"قالوا" على معنى: قالوا ذلك، واعتقدوه ليجعله الله حسرة في قلوبهم.
ويجوز أن تكون متعلقة بالنهي، أي لا تكونوا كالذين كفروا في هذا القول والاعتقاد ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة.
{ والله يحيي ويميت } فهو الفاعل للإحياء والإماتة في الحضر والسفر، وكلاهما سببان بالنسبة إلى القدر.
{ والله بما تعملون بصير } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "يعملون" بالياء، حملاً على لفظ الغيبة في الآية. وقرأ الباقون بالتاء (1) ، رداً على قوله: { لا تكونوا } .
فالخطاب على هذا للمؤمنين، وعلى تلك للكافرين.
قوله تعالى: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } قرأ نافع وأهل الكوفة إلا أبا بكر: "مِتُّم" "ومِتْنا" بكسر الميم حيث وقع، وقرأ الباقون بضم الميم (2) ، غير أن حفصاً ضم الميم في هذه السورة خاصة.
فمَن ضَمَّ فلأنه من مَاتَ يَمُوتُ؛ كَقَالَ يَقُولُ. ومَن كَسَرَ فعلى لغة مَن قال: مَاتَ يَمَاتُ، مثل: دَامَ يَدَامُ. والقراءة الأولى أوجه.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/45)، ولابن زنجلة (ص:177)، والكشف (1/361)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:181)، والسبعة في القراءات (ص:217).
(2) الحجة للفارسي (2/45-46)، والحجة لابن زنجلة (ص: 178)، والكشف (1/361)، والنشر (2/242)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:181)، والسبعة في القراءات (ص:218).(1/396)
واللام في "ولئن"، لام القسم، تقديره: والله لئن قُتلتم أيها المؤمنون في سبيل الله أو مُتُّم، "لمغفرة من الله" جواب القسم، وهذا الجواب سدّ مسد جواب الشرط، ومثله: { لإلى الله تحشرون } .
والمعنى: لمغفرة من الله لذنوبكم بسبب الجهاد، ورحمة منه لكم، { خير مما يجمعون } من عرض الدنيا.
وقرأ حفص: "يجمعون" بالياء (1) ، على معنى: خير مما يجمع غيركم من الدنيا.
{ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله } الموصوف بالمغفرة والرحمة، { تحشرون } .
قوله: { فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم } "ما" صلة؛ كقوله: { فَبمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [النساء:155]، والتقدير: فبرحمة من الله أنعم بها عليك وعليهم، لِنْتَ لهم فشملتهم لطفاً، ووسعتهم عطفاً، { ولو كنت فَظّاً } يعني: جافياً غليظاً سيء الخُلُق (2) ، { لانفضوا من حولك } أي: لتفرَّقوا عنك، ونفروا منك { فاعْفُ عنهم } ما يخصك، { واستغفر لهم } تفريطهم في حقي عليهم، { وشاورهم في الأمر } استخرج ما عندهم فيما لم يأتك فيه وحي.
وفي قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر" (3) ، واشتقاقه من
__________
(1) الحجة للفارسي (2/47)، والكشف (1/362)، والنشر (2/243)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:181)، والسبعة في القراءات (ص:218).
(2) انظر: الطبري (4/151)، وزاد المسير (1/486).
(3) انظر: المحتسب (1/175)، والمصاحف (ص:85)، وهي قراءة شاذة.(1/397)
شُرْتُ العسل، وأنشدوا:
....................... ... ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوى إِذا مَا نَشُورُها (1)
وقال الزجّاج (2) : يقال: شَاوَرْتُ الرَّجُلَ مُشَاوَرَةً وشِوَاراً، وما يكون من ذلك اسمه: المَشُورَة، وبعضهم يقول: المَشْوَرة على وزن قَسْوَرة، ومعنى قولهم: شَاوَرْتُ فلاناً: أظهرت ما عندي وما عنده، وشُرْتُ الدابة؛ إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها، وشُرْتُ العسل؛ إذا أخذته من مواضع النحل، وعسل مُشَار (3) .
قال الأعشى:
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبيلَ ... ... بَاتَا بفِيها وأَرْياً مُشَارَا (4)
والأَرْيُ: العسل.
فإن قيل: ما الحكمة في كون مَن لم يخلق الله في بني آدم أكمل منه،
__________
(1) عجز بيت لخالد بن زهير، وصدره: (وَقَاسَمَها باللهِ حَقاً لأَنْتُمُ). انظر: ديوان الهذليين (1/158)، وشرح أشعار الهذليين (1/215)، واللسان، مادة: (سلا)، والقرطبي (1/407، 7/179)، والطبري (8/141)، وزاد المسير (1/84، 487)، والدر المصون (1/230)، وروح المعاني (1/264).
(2) معاني الزجاج (1/485).
(3) انظر: اللسان، مادة: (شور).
(4) البيت للأعشى، انظر: ديوانه (ص:85) واللسان، مادة: (زنجبيل، شور)، وزاد المسير (1/487، 8/438)، والدر المصون (6/446)، وروح المعاني (29/160).
... ولفظ الديوان:
كأنه جَنِيّاً من الزنجبيـ ... ـل ... خالط فاها وأرياً مشورا(1/398)
وأكثر علماً، وأصوب رأياً، وأثقب فهماً، يؤمر بمشاورة مَن هو دونه؟
قلت: فيه حكم؛ منها: تطييب قلوب أصحابه، وتشريفهم بذلك، وإرشادهم إلى الاستنان به.
قال علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر مَن استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم (1) .
وقال بعض الحكماء: ما استُنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنَتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتُسِبَت البغضاء بمثل الكبر (2) .
قرأت على أبي المجد القزويني، أخبركم أبو منصور الطوسي، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود (3) ، حدثنا المطهر بن علي، أخبرنا أبو ذر الصالحاني (4) ، حدثنا أبو الشيخ بن حيان الحافظ (5) ، حدثنا علي بن العباس المقانعي، حدثنا أحمد بن محمد بن ماهان، أخبرني أبي، حدثنا طلحة بن
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/488).
(2) مثل السابق.
(3) الحسين بن مسعود، أبو محمد، البغوي الفراء، الملقب بمحيي السنة، صاحب كتاب "شرح السنة"، و"التفسير"، وكتاب "المصابيح". توفي سنة ست عشرة وخمسمائة (التقييد 1/251، وسير أعلام النبلاء 19/439).
(4) محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني، أبو ذر الأصبهاني الواعظ. توفي سنة أربعين وأربعمائة (العبر 2/277، وشذرات الذهب 3/264).
(5) عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، أبو محمد الأصبهاني، المعروف بأبي الشيخ، محدِّث أصبهان. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/276، وشذرات الذهب 3/69).(1/399)
زيد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
وقرأت على أبي القاسم، علي بن أبي منصور الموصلي، أخبركم أبو زكريا، يحيى بن أسعد بن بَوْش (2) ، فأقرّ به، أخبرنا أبو العز بن كَادِش (3) ، أخبرنا أبو علي الجازري (4) ، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري (5) ، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري (6) ، حدثنا أبي (7) ، عن أبي جعفر محمد بن عمران، قال: يُقال: توأمُ الرأي خير من الفَذّ، ورأيُ الثلاثة لا يُنْقَض.
قال محمد: ويقال: نصفُ عقلك مع أخيك. يعني: في المشاورة.
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/216)، وأحمد (4/328) كلاهما من رواية أبي هريرة، وعبد الرزاق (5/331)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/801). ...
(2) يحيى بن أسعد بن بَوْش البغدادي الأزجي، حدَّث بالسند، وكان عامياً. توفي سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة (التقييد لابن نقطة 2/305، وسير أعلام النبلاء 21/243).
(3) أحمد بن عبيد الله بن محمد السلمي، أبو العز العكبري، المعروف بابن كادش. توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 19/558، والشذرات 4/78).
(4) محمد بن الحسين الجازري، لم أجد ترجمته، ولكنه ورد في سياق ترجمة ابن كادش (ت526هـ) على أنه من مشايخ ابن كادش المذكور (انظر: سير أعلام النبلاء 19/558).
(5) المعافى بن زكريا بن يحيى، أبو الفرج النهراوني الجريري. توفي سنة تسعين وثلاثمائة. (تاريخ بغداد 13/230، وسير أعلام النبلاء 16/544).
(6) تقدمت ترجمته.
(7) القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، أبو محمد، علاَّمة بالأدب والأخبار. توفي سنة أربع وثلاثمائة (الأعلام للزركلي 5/181).(1/400)
قال محمد: ويقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد امرؤ استغنى برأيه (1) .
وقال الشاعر:
خليلَيَّ ليس الرأيُ في صَدر واحدٍ ... ... أشيرا عليَّ اليوم ما تَرَيان (2)
واعلم أن المراد من الآية: وشاور ذوي الرأي، والعقولِ من أصحابك.
وقد روى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: { وشاورهم في الأمر } قال: يريد: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما (3) .
{ فإذا عزمتَ } وقرئ شاذاً: "عزمتُ" بضم التاء (4) ، على معنى: عزمتُ لك على أمر، وقضيته وأمضيته، { فتوكل على الله } لا على المشورة.
قوله: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } (5) قال ابن السائب: إن ينصركم الله كما فعل يوم بدر، فلا غالب لكم، { وإن يخذلكم } كما فعل يوم أُحُد (6) .
{ فمن ذا الذي ينصركم من بعده } أي: من بعد الله.
__________
(1) أخرجه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح والأنيس الناصح (ص: 379).
(2) البيت لعطارد بن قران، انظر: جمهرة الأمثال (1/126)، والمستطرف (1/168).
(3) أخرجه الحاكم (3/74)، والبيهقي في الكبرى (10/108). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/359) وعزاه للحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.
(4) انظر: المحتسب (1/176)، والبحر المحيط (3/105) وهي قراءة شاذة.
(5) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثامن عشر، مرة ثانية.
(6) انظر: تفسير أبي السعود (2/105-106) بلا نسبة.(1/401)
وقيل: من بعد خذلانه.
والأظهر: الأول، بتقدير حذف المضاف، أي: من بعد خذلان الله.
قوله: { وما كان لنبي أن يغل } أخرج أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: { وما كان لنبي أن يغل } في قطيفة حمراء فُقِدت يوم بدر، فقال بعض القوم: لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها، فأنزل الله هذه الآية إلى آخرها (1) .
وروى الضحاك عن ابن عباس: أن رجلاً غَلَّ من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية (2) .
ونقل عنه أيضاً: أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخصهم بشيء من المغانم، فنزلت (3) .
وقال قتادة: غلَّ قوم يوم بدر، فنزلت (4) .
وقال ابن السائب ومقاتل (5) : نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أخذ شيئاً فهو له،
__________
(1) أخرجه أبو داود (4/31)، والترمذي (5/230).
(2) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/195)، والواحدي في أسباب النزول (ص:131)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/490).
(3) أخرجه الطبري (4/155-156). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:131)، والسيوطي في الدر المنثور (2/362) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.
(4) أخرجه الطبري (4/157). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:131)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/490)، والسيوطي في الدر (2/363) وعزاه لعبد بن حميد.
(5) تفسير مقاتل (1/200).(1/402)
فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ألم أعهد إليكم أن لا تبرحوا، أظننتم أنَّا نغل" (1) .
وقال ابن إسحاق: نزلت في غلول الوحي (2) .
وقد اختلف القراء في هذا الحرف، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: "يَغُلَ" بفتح الياء وضم الغين. وقرأ الباقون بالعكس من ذلك (3) .
وأصلُ الباب: الاختفاء، يقال: غَلَّ من المغنم غُلُولاً، وأَغَلَّ إِغْلالاً؛ إذا أخذه في خفية، وأَغَلَّ الجازر؛ إذا سَرَقَ من اللحم شيئاً مع الجلد. والغِلّ: الحقد الكامن في الصدر. والغِلالة: ثوب يُلبس تحت الثياب، والغَلَل: الماء الذي يجري تحت الشجر (4) .
والمعنى: ما ينبغي لنبي ولا يصح له أن يَغُلّ؛ لأن النبوة تنافي الغُلول.
ومن قرأ: "يُغَلَّ" -بضم الياء وفتح الغين-، فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، أي: ما كان لنبي أن يوجد غالاً، ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً.
وقال الحسن -في معنى هذه القراءة-: "أن يُغَلَّ" أي: يُخَانَ (5) . وهو
__________
(1) ... ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:131)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/490).
(2) أخرجه الطبري (4/156). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/490).
(3) انظر: الحجة للفارسي (2/47)، والحجة لابن زنجلة (ص:179)، والكشف (1/363)، والنشر (2/243)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:181)، والسبعة في القراءات (ص:218).
(4) ... انظر: معجم مقاييس اللغة (4/375- 377)، وتهذيب اللغة للأزهري (16/94)، واللسان، مادة: (غلل).
(5) ... أخرجه الطبري (4/157)، وابن أبي حاتم (3/803). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/362) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.(1/403)
الذي يقتضيه سبب نزول الآية على ما رواه الضحاك، وقاله قتادة، وهو اختيار ابن قتيبة (1) .
وقال الفرَّاء: يُخَوَّن، واختاره الزجّاج (2) .
وردَّه ابن قتيبة، فقال (3) : لو أراد "يُخَوَّن" لقال: يُغَلَّل، كما [يقال] (4) : يُفَسَّق.
{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } صرفه قوم عن ظاهره، وقالوا: يأتي يوم القيامة بإثم ما غلّ.
والصحيح: أنه يأتي به يوم القيامة يحمله على عنقه، لما أخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فذكر الغلول فعظَّمه، وعظَّم أمره، ثم قال: لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغَاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغَاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حَمْحَمَة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
__________
(1) ... تفسير غريب القرآن (ص:114).
(2) ... معاني الفراء (1/246)، ومعاني الزجاج (1/484).
(3) ... تفسير غريب القرآن (ص:115).
(4) ... في الأصل: قال. والتصويب من تفسير غريب القرآن، الموضع السابق.(1/404)
لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك" (1) .
الرُّغاء: صوت البعير، والثُّغاء: صوت الشاة.
والنفس: ما يغلّه من السبي. والرِّقاع: الثياب.
والصَّامت: الذهب والفضة.
ومعنى: "لا ألفينّ": لا أجدنّ، ومنه قوله تعالى: { مَا أَلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } [البقرة:170]، أي: وجدنا.
أخبرنا أبو علي بن سعادة في كتابه، أخبرنا أبو القاسم بن محمد بن عبد الواحد، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا أبو بكر بن مالك، أخبرنا عبد الله بن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا عفان، حدثنا همام، وأبان، قالا: حدثنا قتادة، عن سالم، عن معدان، عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ الجَسَدَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلاثٍ دَخَلَ الجَنَّةَ: الكِبْرُ، وَالدَّيْنِ، وَالغُلُولِ" (2) . هكذا رواه الأكثرون، وجوَّده الدارقطني، فقال: إنما هو الكنز، بالنون والزاي.
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1118 ح2908)، ومسلم (3/1461 ح1831).
(2) أخرجه الترمذي (4/138 ح1572)، وأحمد (5/276 ح22423).(1/405)
فصل
ذهب جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم؛ إلى أن الغَالّ من الغنيمة يُحَرَّق متاعه كله، إلا الحيوان، والمصحف، والسلاح.
وبه قال الإمام أحمد (1) ، لما روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، "أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، حَرَّقُوا مَتَاعَ الغَالِّ وَضَرَبُوهُ" (2) .
وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ، وَاضْرِبُوهُ" (3) .
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ولا يصلي الإمام على الغالّ من الغنيمة، لأن رجلاً من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم حنين، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزاً مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ" (4) .
قوله: { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } تعالى الله أن يُنْسب الظلم إليه، لاستحالته عليه، فعقابه عدل، وثوابه فضل.
قوله: { أفمن اتبع رضوان الله } فعمل بطاعة الله وطاعة الرسول، { كَمَنْ بَاءَ } أي: رجع { بسخط من الله } .
__________
(1) انظر: المغني (9/245).
(2) أخرجه أبو داود (3/69 ح2715).
(3) أخرجه أبو داود (3/69 ح2713).
(4) أخرجه أبو داود (3/68 ح2710).(1/406)
قوله: { هم درجات عند الله } أي: ذوو درجات، أو أهل درجات، على حذف المضاف.
يعني: أن مَن اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله تتفاوت منازلهم عنده، فأهل الجنة يتفاوتون في الدرجات النفيسة الرفيعة، وأهل النار يتفاوتون في المنازل الخسيسة الوضيعة. هذا معنى قول ابن عباس، والأكثرين (1) .
وقال سعيد بن جبير: "هم درجات" أي: أهل الجنة الذين اتبعوا رضوان الله (2) .
{ والله بصير بما يعملون } ، فيجازي كلاًّ بعمله.
قوله: { لقد مَنَّ الله على المؤمنين } أي: أنعم عليهم { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي: من نسبهم، فحازوا به فخراً مؤبداً، وذخراً مخلداً، ومنه قوله: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف:44].
قالت عائشة: هذه الآية للعرب خاصة (3) .
وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ: "مِنْ أَنْفَسِهِمْ" بفتح الفاء، وهي قراءة فاطمة رضي الله عنها، والضحّاك، وأبي الجوزاء (4) ، على معنى: بعث فيهم
__________
(1) الوسيط (1/516)، وزاد المسير (1/493). وانظر: الطبري (4/162).
(2) أخرجه الطبري (4/162)، وابن أبي حاتم (3/808).
(3) أخرجه البيهقي في الشعب (2/232)، وابن أبي حاتم (3/808). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/367) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) مختصر ابن خالويه في الشواذ (ص:23).(1/407)
رسولاً من أشرفهم نسباً وأكرمهم محتداً، لأنه صفوةُ بني هاشم، وبنو هاشم صفوةُ قريش، وقريش صفوةُ كنانة، وكنانة صفوةُ ولد إسماعيل.
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... ... نُوراً وَمِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ عَمُودَا
وهذا معنى قول ابن عباس، والأكثرين (1) .
واختار الزجّاج (2) القول بعمومها في جميع المؤمنين، على معنى: بعث في المؤمنين رسولاً من أنفسهم: من نسل آدم، ليس بملك من الملائكة، ولا خلق لا يعرفونه.
ووجهُ الامتنان عليهم بكونه من العرب -على القول الأول-: أنهم يألفونه، ويعرفونه، ويفهمون عنه ما يصدر منه، ويَعلمون صدقه وأمانته، ويَدأبون في نصره، ويَرغبون في إظهار أمره، مراعاة لأحسابهم، وحفظاً لأنسابهم.
وعلى القول الثاني -الذي اختاره الزجّاج- يتوجه الامتنان عليهم حيث جعل الرسول منهم آدمياً يلابسهم، ويخالطهم، فإن الشكل يميل إلى شكله، والجنس يميل إلى جنسه؛ لأنسه به.
وباقي الآية مفسَّر في البقرة إلى قوله: { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } هذه "إِنْ" هي الخفيفة من الثقيلة، واللام: هي الفارقة بينها وبين النافية، والتقدير: وإن الشأن والحديث، { كانوا من قبل } بعثة محمد إليهم، { لفي ضلال } عن الحق { مبين } ظاهر لمن له أدنى مسكة من دراية
__________
(1) زاد المسير (1/494).
(2) معاني الزجاج (1/487).(1/408)
وهداية، يأكلون الخبائث والحرام، ويعبدون الطواغيت والأصنام، فَمَنَّ عليهم بإنزال الكتاب وإرسالِ محمد إليهم، وتزكيتهم بالعلم والحكمة، بعد أن كانوا أجهل شيء وأضلَّه.
!$£Js9urr& أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ(1/409)
نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ اتدرب
قوله: { أو لما أصابتكم مصيبة } هذه واو العطف إما على قصة أُحُد، وإما على محذوف، تقديره: أفعلتم كذا؟ وقلتم حينئذ كذا؟ دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو بمعنى التوبيخ والتقريع، و"لَمَّا" في موضع نصب(1/410)
بـ"قُلْتُمْ"، "أَصَابَتْكُمْ" في موضع جر، على معنى: قلتم وقت إصابتكم (1) ، والمصيبة: قتلُهم يوم أُحُد، { قد أصبتم مثليها } يوم بدرٍ قتلاً وأسراً.
{ قلتم أنّى هذا } أي: كيف أصابنا هذا، ونحن مسلمون موعودون بالنصر والغلبة؟
{ قل هو من عند أنفسكم } لأنكم خالفتم أمر رسولي، وفارقتكم المركز ميلاً إلى الغنيمة، وذهاباً مع الطمع. هذا معنى قول ابن عباس (2) ومقاتل (3) .
وقيل: "هو من عند أنفسكم" حيث أكثرتم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشرتم عليه بالخروج من المدينة، وعكستم رأيه وخالفتم أغراضه التي يُجريها على وفق الحكمة والمصلحة. وهذا معنى قول قتادة (4) .
وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، فقال: إن الله تعالى قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقتل منهم عِدَّتَهُم. فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، نأخذ منهم الفداء ويُستشهد منا عدتهم. فقُتِل منهم يوم أُحُد سبعون، عدد أسارى بدر" (5) .
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/251).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (1/517) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (1/496). وذكره السيوطي بمعناه في الدر المنثور (2/368) وعزاه لابن المنذر.
(3) تفسير مقاتل (1/201).
(4) أخرجه الطبري (4/164). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/368) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(5) أخرجه الترمذي (4/135 ح1567)، وابن حبان (11/118 ح4795).(1/411)
فعلى هذا يكون المعنى: "قل هو من عند أنفسكم" بأخذكم الفداء، واختياركم حين خُيِّرتم يوم بدر القتل.
{ إن الله على كل شيء قدير } فهو يقدر على نصركم، وإدالتكم من عدوكم.
قوله: { وما أصابكم يوم التقى الجمعان } النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه.
{ فبإذن الله } بقضائه وقدره، { وليعلم المؤمنين } .
{ وليعلم الذين نافقوا } معناه: ليميز بينهم، فيُظهر إيمان المؤمنين، وحُسن نِيَّاتهم، بصبرهم وثباتهم، ويظهر نفاق المنافقين، بفشلهم وقلة صبرهم.
قال ابن عباس: يُريد بالذين نافقوا: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه الذين انصرفوا عن رسول الله يوم أُحُد، فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال لهم: أُذكِّركمُ الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم، ودعاهم إلى القتال في سبيل الله، فذلك قوله: { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } (1) ، أي: ذُبُّوا عن حُرَمِكُم، وحسبكم، ونسبكم، أو كَثِّروا السواد إن لم يكن لكم نية في الجهاد { قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } كلامٌ يلوح منه اللوم على ترك القوم ما اقتضاه رأي عبد الله بن أُبَيّ من الاعتصام بحدود المدينة.
المعنى: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم، وإنما أنتم على شفا
__________
(1) ذكره الطبري (4/168)، والماوردي (1/435) بلا نسبة، والواحدي في الوسيط (1/518)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/497).(1/412)
من استئصال شأفتكم، فعلام نجعل أنفسنا فرائس الفوارس، وأغراض الحُتُوف (1) ، وجزر السيوف.
وهذا هو التأويل الذي يشهد العلم بصحته، لا ما ذكره الماوردي (2) من أن المعنى: لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم (3) ، ولا ما ذكره ابن إسحاق أن المعنى: لو نعلم قتالاً يجري اليوم لقاتلنا معكم (4) ، وهذا الذي ذكره الواحدي (5) ، وجمهور المفسِّرين. والقول الذي ذكره الماوردي رديء جداً.
والذي قاله ابن إسحاق قولٌ تشهد العقول الرصينة بتفاهته، لأن أهل النفاق رجعوا حين تراءت الفئتان، وقامت الحرب على ساق، فكيف يقولون ذلك بهذا الاعتبار في معرض الاعتذار، والكفار قد أقبلوا بقَضِّهم وقَضِيضِهم (6) ، يطلبون الأخذ بالثأر، من المهاجرين والأنصار.
{ هم } يعني: المنافقين { للكفر } الذي كانوا يتباعدون عنه بألسنهم { يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } ، لأنهم
__________
(1) الحَتْف: الموت، وجمعه: حُتُوف (اللسان، مادة: حتف).
(2) علي بن محمد بن حبيب، الماوردي، أبو الحسن البصري، نسبته إلى بيع ماء الورد، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، ولقب بقاضي القضاة في سنة 429هـ. توفي سنة خمسين وأربعمائة (تاريخ بغداد 12/102، والأعلام للزركلي 4/327).
(3) لم أقف عليه. وقد نسب هذا القول للماوردي ابن الجوزي في زاد المسير (1/498).
(4) زاد المسير (1/498).
(5) الوسيط (1/518).
(6) ... القَضُّ: الحصى، والقَضِيضُ: ما تكسرّ منه ودَقّ. والمراد: بأجمعهم (اللسان، مادة: قضض).(1/413)
كانوا ينطقون بالإيمان، ويقولون: نحن أنصار الله، وأنصار رسوله، { والله أعلم بما يكتمون } من الشقاق والنفاق.
قوله: { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا } : "الذين" إما أن يكون نصباً على الذم، أو على البدل من "الذين نافقوا"، أو رفعاً، على معنى: هم الذين، أو على الإبدال من واو "يكتمون"، أو جراً على البدل من الضمير في "أفواههم"، أو من الضمير في "قلوبهم" (1) ، كما في قوله:
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في القَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتمِ (2)
والمعنى: قالوا لإخوانهم في النفاق، أو في النسب، على معنى: قال بعضهم لبعض { لو أطاعونا } ، فيما أشرنا به عليهم، يعنون: الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استشهدوا { ما قتلوا } . وقيل: المعنى: قالوا لأجل إخوانهم المقتولين: "لو أطاعونا ما قتلوا".
"وقعدوا" يعني: ابن أُبَيّ وأصحابه قعدوا عن الجهاد، وعن نصر الرسول والمؤمنين.
{ قل } لهم -يا محمد مظهراً فساد هذا الاعتقاد-: { فادرءوا عن أنفسكم الموت } أي: ادفعوه، { إن كنتم صادقين } أن الحذر يدفع القدر.
ںwur تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
__________
(1) ... انظر: التبيان (1/157)، والدر المصون (2/255).
(2) ... البيت للفرزدق، انظر: ديوانه (2/297)، وابن يعيش (3/69)، وشرح الشذور (ص:245)، ومشاهد الإنصاف (1/337)، والبحر (6/206)، والدر المصون (4/529).(1/414)
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا(1/415)
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اتذخب(1/416)
قوله تعالى (1) : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وقرأ ابن عامر: "قُتِّلوا" بالتشديد (2) .
أخرج مسلم في صحيحه من حديث مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } . قال: أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحُهم في جوف طير خُضر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع عليهم ربُّهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتْركوا من أن يَسْألوا، قالوا: يا رب! نريد أن تَرُدّ أرواحنا في أجسادنا، حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا" (3) .
وأخرج الترمذي من حديث جابر بن عبد الله، قال: "لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: يَا جَابرُ؛ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِراً؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، اسْتُشْهِدَ أَبي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْناً. قَالَ: أَفَلا أُبَشِّرُكَ بمَا لَقِيَ الله بهِ أَبَاكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: مَا كَلَّمَ الله أَحَداً قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحاً (4)
__________
(1) ... كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس التاسع عشر، مرة ثانية.
(2) ... الحجة للفارسي (2/49)، والكشف (1/364)، والنشر (2/243)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:182)، والسبعة في القراءات (ص:219).
(3) ... أخرجه مسلم (3/1502 ح1887).
(4) كفاحاً: أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول (اللسان، مادة: كفح).(1/417)
وَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ، أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَب تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ [إِلَيْهَا] (1) لا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أُنزِلَتْ فيه هَذِهِ الآيَة: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ الله أَمْوَاتاً ... الآيَةَ } " (2) . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: "لمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بأُحُدٍ جَعَلَ الله أَرْوَاحَهُمْ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذهَبٍ مُعَلَّقَةٍ في ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّنا في الجَنَّةِ نُرْزَقُ؛ لِئَلا يَزْهَدُوا في الجِهَادِ، فَقَالَ الله عَزَّ وجل: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ الله هذه الآية" (3) .
وقال جابر بن عبد الله: كَتَبَ معاوية إلى عامله بالمدينة أن يُجْرِيَ عَيْناً إلى أُحُد، فكتب عامله: إنها لا تجري إلا على قبور الشهداء، فكتب إليه: أن أنفذها. قال جابر: فرأيتُهم يُخرجون على رقاب الرجال، كأنهم رجالٌ نُوَّم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دماً (4) .
وفي حديث عائشة بنت طلحة: أنها رأت أباها في المنام، فقال لها: يا
__________
(1) زيادة من الترمذي (5/230).
(2) أخرجه الترمذي (5/230 ح3010).
(3) أخرجه أبو داود (3/15 ح2520)، وأحمد (1/265 ح2388).
(4) أخرج عبد الرزاق في مصنفه نحوه (5/277)، وابن سعد في الطبقات (3/11). وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/307)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (1/377).(1/418)
بُنَيَّة! حوِّليني من هذا المكان فقد أضرّ بي الندا، فأخرجته بعد ثلاثين سنة أو نحوها، وهو طري لم يتغير منه شيء (1) .
ومما خُصَّ به الشهداء: ما رواه المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للشهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه" (2) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
قُرئ على العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وأنا أسمع، أخبركم أبو القاسم إسماعيل بن أبي بكر بن أحمد السمرقندي (3) ، حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزَّاز (4) ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين الدقاق ابن أخي ميمي (5) ، حدثنا عبد الله بن محمد (6) ، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (1/151).
(2) أخرجه الترمذي (4/187 ح1663)، وابن ماجه (2/935 ح2799).
(3) إسماعيل بن أحمد السمرقندي، أبو القاسم الدمشقي البغدادي، صاحب المجالس الكثيرة، مسند خراسان والعراق. كان ثقة مكثراً صاحب أصول، دلالاً في الكتب. توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/28، وشذرات الذهب 4/112).
(4) أحمد بن محمد بن عبد الله بن النقور البزّاز، أبو الحسين البغدادي، مسند العراق. توفي سنة سبعين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/372، وشذرات الذهب 3/325).
(5) له أجزاء مشهورة، توفي سنة تسعين وثلاثمائة (العبر 2/179، وشذرات الذهب 3/134).
(6) عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي مولاهم، أبو بكر البغدادي، المشهور بابن أبي الدنيا، حافظ للحديث، مكثر من التصنيف. توفي سنة إحدى وثمانين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/397، والأعلام 4/118).(1/419)
عون (1) ، حدثنا يوسف بن عطية (2) ، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف أصبحتَ يا حارث؟ قال: أصبحتُ مؤمناً بالله عز وجل، قال: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله؛ عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأني بعرش ربي عز وجل بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرتَ فالزم، عبدٌ نَوَّرَ الله الإيمان في قلبه، فقال: يا رسول الله؛ ادع الله لي بالشهادة، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنودي يوماً في الخيل، فكان أولَ فارس ركب، وأولَ فارس استشهد، فبلغ ذلك أمه، فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله؛ إن يكن في الجنة لم أبكه، ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيتُ ما عشتُ في دار الدنيا، فقال: يا أم حارث -أو يا أم حارثة- إنها ليست بجنة ولكنها جنة في جنان، والحارث في الفردوس الأعلى، قال:
__________
(1) عبد الله بن عون الهلالي، الخرّاز، أبو محمد البغدادي، ثقة عابد، حدث عنه مسلم في الصحيح. توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 6/375، والتقريب ص:317).
(2) يوسف بن عطية بن ثابت الصفار، أبو سهل البصري، مولاهم، ضعيف الحديث (معرفة الثقات 2/375، ولسان الميزان 7/447).(1/420)
فرجعتْ وهي تضحك وتقول: بَخٍ بَخٍ لك يا حارثة!!" (1) .
والخِطابُ بقوله: "ولا تحسبن" للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز أن يكون لكل أحد.
وقرئ "أحياءً" بالنصب (2) ، على معنى: أحسبهم أحياء.
{ عند ربهم } في دار كرامته مقرّبون عنده { يرزقون } من ثمار الجنة، على ما ذكرناه في الحديث (3) .
{ فرحين } حال من الضمير في "يُرزقون" (4) ، يريد: مسرورين بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا تُكَيِّفُهُ العقول فتصفه، { ويستبشرون } يعني: الشهداء { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } يعني: المسلمين الذين تخلَّفوا في الدنيا.
وقيل: "لم يلحقوا بهم": لم يدركوهم في الفضل، رجوا حرصهم على الشهادة حين أبلغهم الله ما أفضوا إليه من الكرامة والسعادة.
وقال السدي: يُؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر مَن تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به (5) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعبه (7/362 ح10590)، والطبراني في الكبير (3/266 ح3367).
(2) وهي قراءة ابن أبي عبلة. انظر: البحر المحيط (3/118).
(3) تقدم (ص:360).
(4) انظر: التبيان (1/157)، والدر المصون (2/257).
(5) أخرجه الطبري (4/175)، وابن أبي حاتم (3/814). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/375-276) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/421)
{ ألاَّ خوف عليهم } في محل الجر بدل من "الذين" (1) ، والضمير في "عليهم" للذين لم يلحقوا.
قال الفراء (2) : معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم { ولا هم يحزنون } .
قوله: { وأن الله } قرأ جمهور القراء: "وَأَنَّ" بفتح الهمزة، وقرأ الكسائي بكسرها (3) .
فمن فَتَحَ: عطف على النعمة والفضل. ومَن كَسَرَ: فعلى الاستئناف.
قوله: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } سبب نزول هذه الآية: أنه لما انصرف المشركون يوم أُحُد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لاتباعهم، خوفاً من رجوعهم، وقصداً لإرهابهم وإظهاراً للجلد، وقال: لا يخرج معنا إلا مَن كان حضر يومنا بالأمس، فخرج - صلى الله عليه وسلم - في سبعين من أصحابه منهم الخلفاء الأربعة من بعده، حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال (4) ، وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم رغبة في ثواب الله، وتصديقاً بموعوده، وكان أخوان من بني عبد الأشهل أصابتهما جراحات أثخنتهما، فلما أذّن مؤذّنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/259).
(2) معاني الفراء (1/247).
(3) الحُجّة للفارسي (2/49)، ولابن زنجلة (ص:181)، والكشف (1/364)، والنشر (2/244)، وإتحاف فضلاء البشر (182)، والسبعة في القراءات (ص:219).
(4) ... حمراء الأسد: تأنيث أحمر مضافة إلى الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة (معجم ما استعجم 1/468).(1/422)
طلب العدو قالا: لا يفوتنا غزاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرجا وليست لهما دابة، فكان أحدهما أيسر جرحاً من أخيه، قال: فكنتُ إذا غُلب حملته، فوافى رسولَ الله معبدُ الخزاعي -وكان كافراً- فقال: يا محمد؛ والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك.
ثم خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى أبا سفيان وهو بالروحاء (1) ، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا: قتلنا أشراف أصحاب محمد وقادتهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لَنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغنّ منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبداً، قال: ما وراك يا معبد؟ قال: إن محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقاً، وقد اجتمع معه مَن كان تخلَّف عنه، وبهم من الحَنَق (2) عليكم ما لم أر مثله قط. قال: ويلك! ما تقول؟ فقال: والله ما أراك ترتحل من هاهنا حتى ترى نواصي الخيل، فألقى الله في قلبه وقلوب أصحابه الرعب، وطلبوا مكة خائفين، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثرهم، فمرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس فقال لهم: أين تريدون؟ قالوا: المدينة، نريد الميرة (3) ، قال: فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالة أرسلكم بها، وأُحمِّل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم. قال: إذا لقيتموه فأخبروه أني في جمع كثير، وخوّفوه.
__________
(1) ... الروحاء: بفتح أوله وبالحاء المهملة ممدود، قرية جامعة لمزينة على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون مثلا (معجم ما استعجم 2/355).
(2) الحنق: شدّة الاغتياظ (اللسان، مادة: حنق).
(3) الميرة: جلب الطعام (اللسان، مادة: مير).(1/423)
فمرُّوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه الخبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أظهر الجلد، وجدَّ في الطلب، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد ظفر في وجهه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص، وأبي عزة الجمحي، وأنزل الله هذه الآية (1) . هذا قول ابن عباس وأكثر المفسِّرين.
أخبرنا الشيخان أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن عبد الرزاق العطار قراءةً عليه وأنا أسمع، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن رُوْزَبة البغداديان بقراءتي عليه، قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } . قالت لعروة: "يا ابن أختي! كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أُحُد، فانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال: مَن يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً كان فيهم أبو بكر والزبير". هذا حديث صحيح (2) .
__________
(1) ... انظر: الاكتفاء للكلاعي (2/85-87)، وسيرة ابن هشام (4/52-55)، وطبقات ابن سعد (2/49)، والطبري (4/176)، والدر المنثور (2/385).
(2) أخرجه البخاري (4/1497 ح3849).(1/424)
وقال مجاهد وعكرمة: نزلت في غزوة بدر الصغرى، وكان من حديثها: "أن أبا سفيان حين أراد الانصراف من أُحُد، قال: يا محمد؛ موعد بيننا وبينك بدر الصغرى نتقابل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن شاء الله، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان بأهل مكة، حتى نزل مرّ الظهران، فقذف الله في قلبه الرعب، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد قدم معتمراً، فقال له أبو سفيان: يا نعيم؛ إني وعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وإن هذا عام جدب، فالحقهم وثبطهم عنا، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل، أضعها على يدي سهيل بن عمرو، ويضمنها، فجاء سهيل فضمنها له، فقدم المدينة، فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: بئس الرأي رأيتم، وخوَّفهم، وقال: إنهم قد جمعوا لكم، فكرهوا الخروج، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لأخرجنَّ ولو وحدي، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذوي البصائر والثبات من أصحابه، حتى وافى بدراً الصغرى، فجعلوا يَلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يقصدون بذلك إرهاب المسلمين، فيقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى بلغوا بدراً -وهو ماء لبني كنانة، موضع سوق لهم في الجاهلية، يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام-، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ينتظرون أبا سفيان، فرجع أبو سفيان إلى مكة، فسماهم أهل مكة: جيش السويق: أي أنهم خرجوا فشربوا السويق ثم رجعوا، وكان مع(1/425)
المسلمين تجارات، فباعوا فربحوا، وانصرفوا إلى المدينة سالمين. فذلك قوله: { الذين استجابوا لله والرسول } " (1) .
"الذين" صفة للمؤمنين، أو مبتدأ، خبره "للذين أحسنوا" (2) ، أو هو منصوب على المدح، "استجابوا" بمعنى: أجابوا -كما سبق-، { للذين أحسنوا منهم } بطاعة الرسول، { واتقوا } مخالفته، { أجر عظيم } ثواب جزيل لا يعلم كنهه إلا الله.
قوله: { الذين قال لهم الناس } وهم الركب العبقسيون (3) على قول الأكثرين، أو نعيم (4) على القول الآخر، وعبر عنه بصيغة الجمع لأنه من الجنس، كما تقول: فلان يركب الخيل، وإن لم يكن له إلا فرس واحد، ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس يضامونه في هذا القول.
{ فزادهم إيماناً } أي: زادهم قول الناس إيماناً وتصديقاً، وثباتاً على دينهم وطاعة نبيهم.
وهذه الآية من جملة الهوادم لمذهب المانعين من القول بزيادة الإيمان ونقصانه، ولأنه لا يخلو إما أن يكون الإيمان يزيد عن التصديق فقط، أو عن التصديق مع انضمام الطاعة إليه، وأيّاً ما كان فهو يقبل الزيادة والنقصان،
__________
(1) ذكره الطبري (4/181)، والثعلبي (3/209-210)، والواحدي في الوسيط (1/522)، والسيوطي في الدر المنثور (2/289).
(2) ... انظر: التبيان (1/158)، والدر المصون (2/260).
(3) يعني: الركب الذين من عبد قيس، الماضية قصتهم.
(4) يعني: نعيم بن مسعود.(1/426)
ولا إشكال في الثاني، أما الأول، فكل عاقل يجد في نفسه زيادة التصديق بتناصر الحُجَج، وتعاضد البراهين، لا سيما القلوب الصافية من الكدر، إذا تُليَت عليها آيات الكتاب العزيز، فإنه يتجدد لها إيمان وإيقان، لو وُزِنَ بالجبال الشوامخ لَرَبَا عليها، وإلى هذا القسم أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث الشفاعة، قال: "فيقال: انطلق فأخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان... -إلى أن قال:- مثقال ذرة أو خردلة من إيمان... -إلى أن قال:- أدنى أدنى أدنى مثقال [حبة] (1) خردلة من إيمان" (2) .
وإليه أشار عمر بن الخطاب في قوله: "لو وُزِنَ إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح به" (3) .
لم يُرِدِ الأعمال، لأن العقل يقطع باستحالته، وإنما أراد المعنى القائم بقلبه، من قوة إيمانه وصفاء بصيرته، وتحقيقه في تصديقه، وكان عمر رضي الله عنه يأخذ بيد الرجل، فيقول: قم بنا نزداد إيماناً (4) .
{ وقالوا حسبنا الله } أي: كافينا الله، { ونعم الوكيل } .
__________
(1) زيادة من صحيح البخاري (6/2727).
(2) أخرجه البخاري (6/2727 ح7072).
(3) أخرجه البيهقي في الشعب (1/69)، وابن راهويه في مسنده (3/671-672). ...
(4) لم أقف عليه عن عمر رضي الله عنه، ولكن أخرج ابن أبي شيبة (6/164 ح30363) في مصنفه عن معاذ رضي الله عنه أنه قال لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني: نذكر الله.(1/427)
قال الخطابي (1) : الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: الذي يستقل بالأمر الموكول إليه (2) .
وفي الحديث: "إذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" (3) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبد الله، وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا ابن أعين، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل" (4) .
قوله: { فانقلبوا } أي: رجعوا، { بنعمة من الله وفضل } سالمين مأجورين قد بلغوا سؤلهم، وأطاعوا رسولهم.
وقال مقاتل (5) : أصابوا سريةً بالصفراء (6) فرزقوا منها.
__________
(1) حمد بن محمد بن إبراهيم، الخطابي أبو سليمان البستي، فقيه محدث، من نسل زيد بن الخطاب رضي الله عنه أخي عمر بن الخطاب رضي الله عنه. توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة (الأعلام 2/273).
(2) شأن الدعاء للخطابي (ص:77).
(3) أخرجه أبو داود (3/313 ح3627)، والنسائي في الكبرى (6/160 ح10462)، وأحمد (6/24 ح24029).
(4) أخرجه البخاري (4/1662 ح4288).
(5) تفسير مقاتل (1/205).
(6) الصفراء: واد كثير النخل والزرع، بينه وبين بدر مرحلة، ورضوى منها من ناحية المغرب على يوم، ويسكن الصفراء جهينة والأنصار (معجم ما استعجم 3/836، ومعجم البلدان 3/412).(1/428)
وقال مجاهد: "الفضل" هاهنا هو الربح في التجارة (1) .
وقوله: { لم يمسسهم سوء } في محل الحال، { واتبعوا رضوان الله } في طلب القوم، { والله ذو فضل عظيم } .
قوله (2) : { إنما ذلكم الشيطان يُخوِّف أولياءه } : "ذلك" مبتدأ، "الشيطان" خبره، المعنى: ذلك المثبط، المخوِّف هو الشيطان، أو يقال: "الشيطان" صفة لاسم الإشارة، و"يُخوِّف" الخبر (3) ، والشيطان: الركب، أو نعيم على القول الآخر، أو هو على حذف المضاف، تقديره: إنما ذلكم فعل الشيطان، أو تخويف الشيطان، أو قول الشيطان، { يُخوِّف أولياءه } أي: يخوِّفكم أولياءه، وهكذا قرأها ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء (4) ، فاقتصر على ذكر المفعول الثاني، كما تقول: أعطيتُ الأموال، وكسوتُ الثياب.
وقال الحسن: المعنى: يخوِّف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين (5) .
{ فلا تخافوهم } أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، أبا سفيان وأصحابه، { وخَافُون } في ترك أمري.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/182-183)، وابن أبي حاتم (3/819). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/391) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً تاسعاً، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس العشرين، مرة ثانية.
(3) انظر: التبيان (1/311)، والدر المصون (2/262).
(4) انظر: المحتسب لابن جني (1/177)، والبحر المحيط (3/125).
(5) ذكره الماوردي (1/438)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/507).(1/429)
{ إن كنتم مؤمنين } أي: مصدِّقين بما جاءكم به رسولي، وقد سبق القول في نظائر هذا الشرط.
ںwur يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا(1/430)
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ(1/431)
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اترةب
قوله عز وجل: { ولا يحزنك } وقرأ نافع "يُحْزِنك"، بضم الياء، وكسر الزاي، حيث جاء إلا قوله في الأنبياء: { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ } [الأنبياء:103]، فإنه قرأها كالباقين (1) ، إما اتباعاً لأثر، أو إيثاراً للجمع بين اللغتين (2) .
{ الذين يسارعون في الكفر } أي: يقعون فيه سريعاً، رغبة فيه، وميلاً إليه.
قال ابن عباس: هم المنافقون، ورؤساء اليهود (3) .
وقال الضحّاك: كفار قريش (4) .
وقيل: قوم ارتدُّوا عن الإسلام (5) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/50)، والحجة لابن زنجلة (ص:181)، والكشف (1/365)، والنشر (2/244)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:182)، والسبعة في القراءات (ص:219).
(2) ذكره الفارسي في الحجة (2/50).
(3) أخرج مجاهد في تفسيره (ص:139) قال: هم المنافقون. وذكره الواحدي في الوسيط (1/524) بلا نسبة.
(4) ذكره الثعلبي (3/215)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/508).
(5) ذكره الماوردي (1/439)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/508).(1/432)
والمعنى: لا يحزنك تعاضدهم وتناصرهم، { إنهم لن يضروا الله شيئاً } بمسارعتهم في الكفر.
المعنى: بل يضرون أنفسهم، ألا تراه يقول: { ولهم عذاب عظيم } .
وقال عطاء: لن يضروا أولياء الله شيئاً (1) ، فهو على حذف المضاف.
{ يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } أي: نصيباً في الآخرة.
قوله: { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } قال مجاهد: هم المنافقون (2) ، آمنوا، ثم كفروا.
قوله: { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } قرأ الجمهور: "يَحْسَبَنَّ" بالياء وكذا التي بعدها: { ولا يحسبن الذين يبخلون } . وقرأهما حمزة بالتاء (3) .
فمَن قرأهما بالياء؛ أسند الفعل إلى "الذين كفروا"، أو إلى "الذين يبخلون" فهم الفاعلون. ومَن قرأهما بالتاء؛ فعلى الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الفاعل.
"الذين كفروا" منصوب، و"أنما نملي لهم خير لأنفسهم" بدل منه، أي:
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/508).
(2) أخرجه الطبري (4/185)، وابن أبي حاتم (3/823). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/392) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) الحجة للفارسي (2/50-51)، والحجة لابن زنجلة (ص:182)، والكشف (1/365)، والنشر (2/244)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:182)، والسبعة في القراءات (ص:219).(1/433)
لا تحسبنَّ أنما نملي للكفار خير لهم، وقوله: "أَنَّ" مع "ما" في حيزه يسد مسد المفعولين، كقوله: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ } [الفرقان:44]، و"ما" مصدرية بمعنى: ولا تحسبن أن إملاءَنا خير لهم (1) .
قال ابن عباس: "الذين كفروا" هم اليهود، والنصارى، والمنافقون (2) .
وقال غيره بعمومه في جميع الكفار (3) .
ومعنى "نملي لهم": نُطيل لهم في العمر، ومثله: { وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } [مريم:46].
قال ابن الأنباري (4) : واشتقاقه من المَلْوَة، وهي المدة من الزمان، يقال: مِلْوة من الدهر، ومَلْوة، ومُلْوة، ومِلاَوة، ومَلاَوة، ومُلاَوة، ومنه قولهم: تَمَلَّ حبيباً، أي: لِتَطُلْ أيامك معه.
قال متمم بن نويرة:
بودِّي لَوْ أَنِّي تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ ... ... بمَا لِيَ مِنْ مَالٍ طَريفٍ وَتَالِدِ (5)
وقال غيره: الإملاء لهم تخليتهم وشأنهم، مستعار من أَمْلَى لِفَرَسِهِ؛ إذا
__________
(1) انظر: التبيان (1/158-159)، والدر المصون (2/264-265).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (1/524) وفيه: يعني: المنافقين وقريظة والنضير، وابن الجوزي في زاد المسير (1/508).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/509) عن أبي سليمان الدمشقي.
(4) انظر: زاد المسير (1/509).
(5) البيت لمتمم بن نويرة اليربوعي. انظر البيت في: زاد المسير (1/509)، ولسان العرب، مادة: (ملا).(1/434)
أرخى له الطّول؛ ليرعى كيف شاء (1) .
والمعنى: لا تحسبنَّ الذين كفروا أن الإملاء لهم خير لهم من منعهم، وقطع آجالهم، { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } لأنهم كلما طالت أعمارهم كثرت معاصيهم، فازدادوا إثماً.
وقد روى أبو بكرة -واسمه نفيع (2) - رضي الله عنه: "أن رجلاً قال لرسول الله: أي الناس خير؟ قال: مَن طال عمره وحَسُن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: مَن طال عمره وساء عمله". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (3) .
قوله: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } قال ابن عباس: الخطاب للكفار والمنافقين (4) .
وقال أكثر المفسِّرين وأهل المعاني: الخطاب للمؤمنين، على معنى: ما كان الله ليَذَر المخلصين على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من التباس المنافق بالمخلص، { حتى يميز الخبيث من الطيب } أي: حتى يتبين الكافر والمنافق من المؤمن.
وقرأ حمزة والكسائي: "يُميِّز" بضم الياء وفتح الميم، وتشديد الياء،
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (ملا).
(2) هو نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، صحابي جليل، من أهل الطائف، توفي سنة اثنان وخمسون من الهجرة (التقريب ص:565، والأعلام 8/44).
(3) أخرجه الترمذي (4/566 ح2330).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (3/824). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/510)، والسيوطي في الدر المنثور (2/393) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/435)
وكسرها (1) . فميَّز الله بينهم بالهجرة، والجهاد، والإعلام بجهة الوحي.
{ وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فلا تتوهموا عند إخبار الرسول إياكم بإيمان هذا، ونفاق هذا؛ أنه يَطَّلِعُ على ما في القلوب، ويعلم الغيوب، كما يعلمه الله تعالى، بل علم الرسول ذلك بجهة الوحي، وإخبار الله له، { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } أي: يَصْطَفِي مَن يشاء من رسله، فيطلعه على ما يشاء من الغيب، كما قال -في موضع آخر-: { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن:26-27].
وعلى قول ابن عباس يكون المعنى: وما كان الله ليطلعكم أيها الكفار على الغيب، لأنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أخبرنا من يؤمن بك، ومن لا يؤمن؟
قوله عز وجل: { ولا يحسبن الذين يبخلون } قال ابن مسعود وابن عباس والأكثرون: نزلت في مانعي الزكاة (2) .
وروي عن ابن عباس ومجاهد: أنها نزلت في الأحبار الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) . اختاره الزجّاج (4) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/55)، والحجة لابن زنجلة (ص:182)، والكشف (1/369)، والنشر (2/244).
(2) أخرجه الطبري (4/190)، وابن أبي حاتم (3/826) كلاهما عن السدي. وذكره الواحدي في الوسيط (1/526)، والسيوطي في الدر المنثور (2/394) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (4/190)، وابن أبي حاتم (3/826). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/394) وعزاه لابن جرير وابن ابي حاتم.
(4) معاني الزجاج (1/492).(1/436)
والذي آتاهم الله -على القول الأول-: المال، وعلى القول الثاني: العلم.
والصحيح هو القول الأول؛ لما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن آتاه مالاً فلم يُؤَدِّ زكاته مُثِّلَ له مالُه شُجاعاً أَقْرَعَ له زَبيبَتَانِ (1) ، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلَهْزِمَتَيْهِ -يعني: شِدْقَيْهِ- يقول: أنا مَالَك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } " (2) .
وفي حديث: أنه يستعيذ منه فيقول له مالُه: لِمَ تستعذ مني؟ أنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا، فيطوقه في عنقه، فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنم (3) .
قوله: { هو خيراً لهم } يعني: البخل المدلول عليه بقوله: "يبخلون"، ومثله قول العرب: مَن كذب كان شراً له. أي: كان الكذب شراً له، فدلَّ قولهم: كذب، على الكذب. ومثله قول الشاعر:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... ... وَخَالَفَ، والسَّفِيهُ إِلى خِلاَفِ (4)
__________
(1) الشجاع: الحية، والأقرع: الذي تمرّط جلد رأسه، والزبيبتان: النُّكْتَتانِ السَّوْداوان فوق عينيه (اللسان، مادة: زبب).
(2) أخرجه البخاري (4/1663 ح4289).
(3) أخرجه الثعلبي (3/220)، بسنده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4) البيت لم أعرف قائله. انظر: المحتسب (1/170)، والبحر المحيط (3/133)، والدر المصون (2/272، 4/148)، والطبري (4/189)، والقرطبي (4/290)، وزاد المسير (1/512)، وروح المعاني (12/164).(1/437)
أراد: جرى إلى السفه، ودلّ قوله: السفيه، على السفه، وهذا باب واسع.
قوله: { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } تفسيره ما جاء في الحديث، وهو قول ابن مسعود ومقاتل (1) .
وقال إبراهيم النخعي: يصير في عنقه يوم القيامة طوقاً من نار (2) .
قوله: { ولله ميراث السموات والأرض } قال ابن عباس: يموت أهل السموات والأرض، ويبقى ربُّ العالَمين (3) .
وقال ابن الأنباري (4) : معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق وانفرد عز وجل صار ذلك وراثة.
وقال غيره: المعنى: له ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلها من مال وغيره، فمالَهُمْ يبخلون عليه بملكه (5) .
{ والله بما تعملون خبير } قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء، رداً على قوله: { سيطوقون } ، { ولا يحسبن الذين يبخلون } ، { ولا يحسبن الذين
__________
(1) تفسير مقاتل (1/206).
(2) أخرجه سعيد بن منصور (3/1134)، والطبري (4/192)، وابن أبي حاتم (3/828). وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/395) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/513).
(4) ... انظر: زاد المسير (1/513-514).
(5) ... انظر: الطبري (4/193).(1/438)
كفروا } . وقرأ الباقون "تعملون" بالتاء (1) ، رداً على قوله: { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } .
ô‰s)9 سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/57)، والحجة لابن زنجلة (ص:184)، والكشف (1/369)، والنشر (2/245)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183)، والسبعة في القراءات (ص:220).(1/439)
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ èps)ح !#sŒ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ(1/440)
فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) * لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اتردب
قوله عز وجل: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسِّرين: السبب في نزول هذه الآية: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له: "فنحاص"، فقال له أبو بكر: اتق الله،(1/441)
وأسلم، فواللهِ إنك لتعلم أن محمداً رسول الله، فقال: يا أبا بكر؛ والله ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنياً عنا ما استقرضنا، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربتُ عنقك، فذهب فنحاص يشكو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية.
ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب: { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ... الآية } (1) .
ومقصودُ الخبيث في هذا الكلام: الاستهزاء والتهكم، حيث سمع قول الله: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً } [البقرة:245].
{ سنكتب ما قالوا } أي: سنأمر الحفظة بكتابته في صحائف أعمالهم وأقوالهم، { وقتلَهم } أي: نكتب قتلهم { الأنبياء } .
وفي قوله: { سنكتب } وعيد شديد، وتهديد عظيم، ولا سيما وقد قرنه بقتلهم الأنبياء تنبيهاً على عظيم افترائهم، وشدة اجترائهم { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } يعني ذوقوا عذاب النار، كما أذقتم أنبيائي وأوليائي الغصص.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/194)، وابن أبي حاتم (3/829) كلاهما عن ابن عباس، ومجاهد (ص:140) مختصراً. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:137)، والسيوطي في الدر المنثور (2/396) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.(1/442)
تقول العرب لمن انتقم منه: ذق أخس (1) ، ومنه قول أبي سفيان لحمزة رضي الله عنه -وقد وقف عليه صريعاً-: ذق عُقَقْ (2) .
وقرأ حمزة: "سَيُكْتَبُ"، على ما لم يُسَمَّ فاعله، "وقتلُهم" بالرفع، "ويقول" بالياء (3) .
قوله: { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من ذكر عقابهم، { بما قدَّمت أيديكم } من الكفر، والعناد، والاجتراء على قتل الأنبياء والأولياء، { وأن الله } أي: وبأن الله { ليس بظلام للعبيد } .
فإن قيل: ما وجه ارتباط هذا المعطوف، وهو قوله: { وأن الله ليس بظلام للعبيد } بالمعطوف عليه، وهو ما قدَّمت أيديهم من المعاصي، ووجه التشريك بينهما في استحقاق العذاب؟
قلت: نفي الظلم عن الله إثبات لوصفه بالعدل.
فالمعنى: ذلك العذاب سببه أمران:
أحدهما: ما قدمت أيديكم من المعاصي التي بعضها قتل الأنبياء.
والثاني: عدل الله في خلقه، والعادل لا بد وأن يأخذ للمظلوم من الظالم، فصار معنى الكلام: ذلك العذاب بما قدمت أيديكم من قتل الأنبياء وغيره وبأن الله عادل يقتصّ منكم.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) انظر: السيرة لابن هشام (4/42).
(3) الحجة للفارسي (2/58)، ولابن زنجلة (ص:184)، والكشف (1/369)، والنشر (2/245)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183)، والسبعة في القراءات (ص:220-221).(1/443)
قوله تعالى: { إن الله عهد إلينا ... الآية } نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحُيي بن أخطب، في جماعة من اليهود، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: إن الله عهد إلينا، يعنون في التوراة: { ألا نؤمن لرسول } أي: لا نصدقه، { حتى يأتينا بقربان } يتقرب به إلى الله، من ذبح أو غيره، { تأكله النار } ، وكان هذا من سنن المرسلين خلا عيسى بن مريم عليه السلام (1) .
قال السدي: أمرهم الله في التوراة أن لا يصدِّقوا أحداً يزعم أنه رسول الله حتى يأتي بقربان تأكله النار، إلا المسيح، ومحمداً، وكان نزول النار لأكل القربان علامة لقبوله (2) .
{ قل } لهم يا محمد على وجه التبكيت لهم: { قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم } من القربان التي تنزل النار لأكله { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } .
قوله: { فإن كذبوك فقد كُذِّبَ رسل من قبلك } هذه تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإعلام له أن ما قوبل به من التكذيب ليس ببدع، بل هي سُنَّةُ المردة الكفرة مع رسل الله إليهم، فسبيله أن يسلك مسلكهم في الصبر على الأذى والتكذيب، حتى يحكم الله فيه وفيهم، كما صبر أولوا العزم من قبله { جاءوا
__________
(1) أخرج نحوه الطبري (4/197)، وابن أبي حاتم (3/831) كلاهما عن ابن عباس. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:138) عن الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (1/516) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذكر نحوه السيوطي في الدر المنثور (2/398) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (1/528-529).(1/444)
بالبينات والزبر والكتاب المنير } الزُّبُر: جمع زَبُور، وهي الصُّحُف المَزْبُورة، أي: المكتوبة (1) .
قال امرؤ القيس:
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِي (2)
وقيل: هو من زَبَرَهُ؛ إذا زَجَرَهُ (3) ، وسمي الزَّبُور؛ لكثرة زواجره.
وقرأ ابن عامر "وبالزُّبُرِ" (4) بزيادة باء، وقرأ هشام (5) "وبالكتاب" (6) بزيادة باء، نظراً إلى الأصل، وللتأكيد، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام.
وقراءة الأكثرين أكثر استعمالاً في كلام العرب؛ طلباً للخفة، لأن حرف العطف أغنى عن إعادة حرف الجر، كما تقول: مررتُ بزيد وعمرو، ولو لزم تكرير العامل لوجب أن تقول: جاءني زيد وجاءني عمرو.
والكتاب المنير: المضيء بحُجَجه وبراهينه. وهو اسم جنس هاهنا.
قوله: { كل نفس ذائقة الموت } قال ابن عباس: لما نزل قوله: { قُلْ
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (زبر).
(2) البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:85)، واللسان، مادة: (صرع)، والبحر المحيط (3/135)، والدر المصون (2/276)، والطبري (4/198)، والقرطبي (4/296).
(3) انظر: اللسان، مادة: (زبر).
(4) الحجة للفارسي (2/57)، والحجة لابن زنجلة (ص:185)، والكشف (1/370)، والنشر (2/245)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183)، والسبعة في القراءات (ص:221).
(5) هشام بن عمار بن نصير السلمي، أبو الوليد الدمشقي، قاض من القراء المشهورين. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين (طبقات القراء لابن الجزري 2/354، والأعلام 8/87).
(6) النشر (2/245)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183).(1/445)
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بكُمْ } [السجدة:11]، قالوا: يا رسول الله؛ إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن والطير والأنعام، فأنزل: { كل نفس ذائقة الموت ... الآية } (1) ، أي: كل نفس حية ذائقة الموت.
{ وإنما توفون أجوركم } أي: جزاء أعمالكم { يوم القيامة } .
فإن قيل: هذا يدل على أن الجزاء بالثواب والعقاب لا يكون إلا يوم القيامة، فكيف نصنع بالأحاديث المروية الصحيحة الصريحة في عذاب القبر ونعيمه؟
قلتُ: المراد بالآية أن تكميل الجزاء يكون يوم القيامة، ألا تراه يقول: { توفون أجوركم } ، وما يكون في القبر من خير وشر فبعض الجزاء، لا كله.
{ فمن زُحْزِحَ } أي: نُجِّيَ وأُبْعِدَ { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } يقال لكل مَن نجا من هلكة وظفر بما يغتبط به: فاز، أي: تباعد من المكروه (2) .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة أنه قال: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، اقرأوا إن شئتم: { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } " (3) .
والمعنى: وما الحياة الدنيا لمن لهى عن طلب الآخرة إلا متاع يغتر به، ثم ينقطع، وأما من طلب الآخرة فحياة الدنيا له بلاغ يتوصل به إلى الآخرة.
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/517).
(2) قاله الزجاج في معانيه (1/495).
(3) أخرجه الترمذي (5/232 ح3013)، وأحمد (2/438 ح9649).(1/446)
قال قتادة: يوشك أن تضمحل بأهلها، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم (1) .
وقال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له (2) .
قوله: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ... الآية } (3) نزلت في الذي جرى بين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وبين فنحاص (4) .
وقال كعب بن مالك: نزلت حين استبَّ المسلمون، والمشركون واليهود، بسبب المنافق عبد الله بن أُبَيّ، وكان من قصته؛ ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم العطار السلمي، وأبو الحسن بن روزبة، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا محمد بن يوسف بن مطر، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن أسامة بن زيد أخبره، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار على قطيفة فَدَكية (5) ، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة، في بني
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/833). وذكره الثعلبي في تفسيره (3/225)، والسيوطي في الدر المنثور (2/400) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/225).
(3) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الحادي والعشرين، مرة ثانية.
(4) تقدم (ص:379).
(5) منسوبة إلى فَدَك، وهي بلد مشهور على مرحلتين من المدينة (انظر: معجم البلدان 4/238).(1/447)
الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مَرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أُبَيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عَجَاجَةُ الدابة (1) خَمَّرَ عبد الله بن أُبَيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تُغبروا علينا، فسلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ثم وقف، فنزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألم تسمع ما قال أبو حباب -يريد: عبد الله بن أُبَيّ-؟ قال: كذا وكذا، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله؛ اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرة (2) على أن يتوِّجوه فيُعصِّبُونه بالعِصابَة (3) ، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شَرِقَ بذلك (4) ، فذلك فَعَلَ
__________
(1) عَجاجة الدابة: الغبار التي تَوَّرَتْهُ الريح (اللسان، مادة: عجج).
(2) البحيرة: مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهو تصغير البحرة، والعرب تسمي المدن والقرى البحار. (النهاية في غريب الحديث 1/100).
(3) أي: يُسوّدوه ويُملّكوه، وكانوا يُسمون بالسيد المطاع مُعَصَّباً لأنه يُعَصَّب بالتاج (النهاية في غريب الحديث 3/244).
(4) شرق بذلك: أي: لم يقدر على إساغته والصبر عليه لتعاظمه إياه (الفائق في غريب الحديث 1/81).(1/448)
به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى. قال الله: { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ... الآية } . وقال الله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ... إلى آخر الآية } [البقرة:109]. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأوَّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله بدراً، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أُبَيّ بن سلول، ومن معه من المشركين، وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجَّه، فبايعوا رسول الله على الإسلام، فأسلموا" (1) .
وقال الزهري: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكان يُحرِّض المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في شعره (2) .
قال الزجّاج (3) : ومعنى "لَتُبْلَوُنَّ": لَتُخْتَبَرُنَّ، أي: توقع عليكم المِحَن فيعلم المؤمن حقاً من غيره، والنون دخلت مؤكدة مع لام القسم.
{ في أموا لكم } بالخسران والنقصان، { وأنفسكم } بالأمراض، وموت الأولاد، والأقارب، ليتبين المخلص في إيمانه من المنافق.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1663 ح4290).
(2) أخرجه الطبري (4/201)، وابن أبي حاتم (3/834). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/401) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) معاني الزجاج (1/496).(1/449)
قال عطاء: هم المهاجرون، أخذ المشركون أموالهم وباعوا رِبَاعهم (1) .
{ ولتسمعن من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم } وهم اليهود، { ومن الذين أشركوا } عبدة الأصنام { أذى كثيراً وإن تصبروا } على أذاهم { وتتقوا } الشرك والمعاصي { فإن ذلك } يعني: الصبر والتقوى، { من عزم الأُمور } أي: مما يعزم عليه لظهور رشده. أو يكون المعنى: فإن ذلك مما عزم الله أن يكون، بمعنى: أن ذلك عزمة من عزمات الله، لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا (2) .
فصل
اختلف العلماء في الأمر بالصبر؛ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم، وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ بآية السيف (3) .
ّŒخ)ur xs{r& ھ!$# t,"sVٹدB tûïد%©!$# (#qè?ré& |="tGإ3ّ9$#
__________
(1) ذكره الثعلبي في تفسيره (3/227)، والواحدي في الوسيط (1/530) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (1/520).
... والرَّبْع: المنزل والدار بعينها، والوطن متى كان وبأي مكان كان، وجمعه: أربُع ورِباع ورُبوع وأَرْباع (اللسان، مادة: ربع).
(2) انظر: الطبري (4/201).
(3) انظر: الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة (ص:63-64)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:246). ...(1/450)
¼çm¨Zن^حhٹu;çFs9 ؤ¨$¨Z=د9 ںwur ¼çmtRqكJçGُ3s? çnrنt7uZsù uن!#u'ur ِNدdح'qكgàك (#÷ruژtIô©$#ur ¾دmخ/ $YYoےsS Wxٹخ=s% }ّ©خ7sù $tB ڑcrçژtIô±o" اترذب ںw ¨ûtù|،ّtrB tûïد%©!$# tbqمmtچّےtƒ !$yJخ/ (#qs?r& tbq™6دtن†¨r br& (#rك‰yJّtن† $oےد3 ِNs9 (#qè=yèّےtƒ ںxsù Nهk¨]u;|،ّtrB ;oy-$xےyJخ/ z`دiB ة>#xyèّ9$# ِNكgs9ur ë>#xtم زOٹد9r& اتررب
قوله عز وجل: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } قال الحسن: هذا ميثاق الله على علماء أهل الكتاب أن يبينوا للناس ما في كتابهم، وفيه(1/451)
ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
{ لتبيننه للناس ولا تكتمونه } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما (2) ، فمَن قرأ بالياء حمله على لفظ الغيبة في أول الآية وآخرها، ومَن قرأها بالتاء فعلى الرجوع من المغايبة إلى المخاطبة؛ كما في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم } [آل عمران:81] أو على الحكاية، والضمير فيها يعود إلى الكتاب، وقيل: إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والأول أظهر، وأصح.
وباقي الآية سبق تفسيره في البقرة.
والضمير في "فَنَبَذُوهُ" يعود إلى "الميثاق"، أو "الكتاب"، وفي هذه الآية دليل ظاهر على وجوب تبليغ العلم.
قال علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا (3) .
قوله عز وجل: { لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا } وقرأ أهل الكوفة "لا تحسبن" بالتاء (4) ، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإعرابه على نحو ما تقدَّم في
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (1/531).
(2) الحجة للفارسي (2/58)، والحجة لابن زنجلة (ص:185)، والكشف (1/371)، والنشر (2/246)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183)، والسبعة في القراءات (ص:221).
(3) أخرجه الثعلبي (3/228). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/521). ...
(4) الحجة للفارسي (2/54)، ولابن زنجلة (ص:186)، والكشف (1/367)، والنشر (2/246).(1/452)
نظائره (1) .
وقد اختلف العلماء في سبب نزولها على أقوال:
أحدها: ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم، وأبو الحسن البغداديان، قالا: أخبرنا عبد الأول، أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: "أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - [كَانُوا] (2) إِذا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ الله، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بمَا أَتَوْا... الآية } " (3) .
القول الثاني: وبالإسناد قال محمد بن إسماعيل البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن علقمة بن وقاص أخبره، "أن مروان (4) قال لبوابه: اذهب يا رافع (5) إلى ابن عباس فقل: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بمَا [أُوتي] (6) وَأَحَبَّ
__________
(1) تقدم (ص:373).
(2) في الأصل: كان. والتصويب من البخاري (4/1664).
(3) أخرجه البخاري (4/1664 ح4291).
(4) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي، المدني، خليفة أموي. توفي سنة خمس وستين (الأعلام 7/207).
(5) رافع، مولى مروان بن الحكم (التقريب ص:205).
(6) في الأصل: أتى. والتصويب من البخاري (4/1665).(1/453)
أَنْ يُحْمَدَ بمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّباً، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ومَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ، إِنَّمَا دَعَا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَحْمِدُوا إِلَيْهِ بمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بمَا أتوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ، ثمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاس: { وَإِذ أَخَذ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } كَذلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: { يَفْرَحُونَ بمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا } " (1) . تابعه عبد الرزاق عن ابن جريج. وهذان الحديثان في الصحيحين.
القول الثالث: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومَن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها: أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر، ففرحوا بذلك، وقالوا. نحن أهل الصوم والصلاة، وأولياء الله، فنزلت هذه الآية. قاله الضحاك والسدي (2) .
الرابع: أن يهود خيبر أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم نبي الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية. قاله قتادة (3) .
الخامس: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خرجوا من عنده، فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها فحمدوهم، وأبطنوا
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1665 ح4292).
(2) ... أخرجه الطبري (4/206) عن الضحاك. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:142) عن الضحاك، والسيوطي في الدر المنثور (2/405) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك.
(3) ... أخرجه الطبري (4/208). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/405) وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق.(1/454)
خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية (1) . ذكره الزجاج (2) .
والذي أتوا -على القول الأول-: تخلفهم عن الغزاة.
وعلى القول الثاني: كتمانهم الحق الذي سُئلوا عنه.
وعلى القول الثالث: اجتماعهم على تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعلى الرابع والخامس: نفاقهم بإظهار ما ليس في قلوبهم.
وهي -على القول الأول- في المنافقين، وعلى سائر الأقوال: في اليهود (3) .
قوله: { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } قال أبو سعيد الخدري: كانوا يحلفون للمسلمين إذا نُصِروا أنّا قد سررنا بنصركم، وليس كذلك (4) ، وهذا على قوله: إنها نزلَت في المنافقين، وتنزيل المعنى على سائر الأقوال بحسبها، وهو ظاهر، فلا حاجة إلى تبيينه.
قوله: { فلا تَحْسَبَنَّهُمْ بمفازة من العذاب } قرأ ابن كثير وأبو عمرو "يَحْسَبُنَّهُمْ" بالياء وضم الباء. وقرأ الباقون بالتاء المعجمة من فوق بنقطتين، وفتح الباء (5) ، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما ابن كثير وأبو عمرو فانهما أضافا الفعل إلى "الذين يفرحون"
__________
(1) ... ذكره مقاتل في تفسيره (1/208)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/523).
(2) ... معاني الزجاج (1/497).
(3) انظر: الطبري (4/208).
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/525).
(5) الحجة للفارسي (2/51)، والحجة لابن زنجلة (ص:187)، والكشف (1/371)، والنشر (2/246)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:183)، والسبعة في القراءات (ص:220).(1/455)
لتقدم ذكرهم.
وقوله "بمفازة" هو المفعول الثاني على القراءتين، و"تحسبنهم" بدل من "لا تحسبن" إذا قرئ بالتاء على المخاطبة، و"يحسبنهم" -على قراءة أبي عمرو- بدل من "لا يحسبن" إذا قرئ بالياء، على المغايبة (1) .
والمعنى: لا تحسبنهم بمفازة، أي: بمنجاة من العذاب، وسميت البيداء مفازة، على مذهب التفاؤل.
!ur غپù=مB دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur ھ!$#ur 4'n?tم بe@ن. &نَسx" يچƒد‰s% اترزب cخ) 'خû ب,ù=yz دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur ة#"n=دF÷z$#ur ب@ّٹ©9$# ح'$pk¨]9$#ur ;M"tƒUy 'ح<'rT[{ ة="t6ّ9F{$# اتزةب tûïد%©!$# tbrمچن.ُtƒ ©!$# $VJ"uٹد% #Yٹqمèè%ur 4'n?tمur ِNخgخ/qمZم_ tbrمچO6xےtGtƒur 'خû ب,ù=yz
__________
(1) انظر: التبيان (1/161-162)، والدر المصون (2/279) وما بعدها.(1/456)
دN؛uq"uK،،9$# اعِ'F{$#ur $uZ/u' $tB |Mّ)n=yz #x"yd Wxدـ"t/ y7oY"ysِ6ك™ $oYة)sù z>#xtم ح'$¨Z9$# اتزتب !$oY/u' y7¨Rخ) `tB ب@إzô‰è? u'$¨Z9$# ô‰s)sù ¼çmtF÷ƒt"÷zr& $tBur tûüدJخ="©à=د9 ô`دB 9'$|ءRr& اتزثب !$oY/' $oY¯Rخ) $oY÷èدJy™ $Zƒدٹ$oYمB "دٹ$oYمƒ ا`"yJƒM~د9 ÷br& (#qمYدB#uن ِNن3خn/tچخ/ $¨YtB$t"sù $oY/u' ِچدےّî$$sù $uZs9 $oYt/qçRèŒ ِچدeےں2ur $¨Ytم $oYد?$t"حhy™ $oY©ùuqs?ur yىtB ح'#tچِ/F{$# اتزجب $oY/u' $oYد?#uنur $tB $oY¨?‰tمur 4'n?tم y7خ=ك™â'(1/457)
ںwur $tRج"ّƒéB tPِqtƒ دpyJ"uٹة)ّ9$# y7¨Rخ) ںw ك#خ=ّƒéB yٹ$yèٹخRùQ$# اتزحب
قوله: { ولله ملك السموات والأرض } قال ابن عباس وغيره: كانوا يقترحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآيات، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، فأنزل الله هذه الآية (1) ، يرشدهم إلى ما هو أعجب مما سألوا.
وفي الحديث: "أن ابن عمر قال لعائشة رضي الله عنهم أجمعين: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله، فبكت، فأطالت، ثم قالت: كلُّ أمر رسول الله عجب؛ أتاني في ليلتي، فدخل معي في لحافي، حتى لصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة؛ هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت. يا رسول الله؛ والله إني لأحب قربك، وأهوى هواك، قد أذنتُ لك، فقام إلى قِرْبة من ماء في البيت فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام فصلَّى، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، حتى بلغ الدموع حِقْوَيْه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، وجعل يبكي حتى بلغ الدموع نحره، ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي حاتم (3/841)، والطبراني في الكبير (12/12). وذكره السيوطي في الدر المنثور
... (2/407) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه. ... وفي كل المصادر: فنزلت: { إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... الآية } . ...(1/458)
دموعه قد بلَّت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله؛ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر !! قال: يا بلال؛ أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ثم قال: وما لي لا أبكي وقد أنزلت عَلَيَّ هذه الليلة: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ... إلى آخرها } ، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" (1) .
قوله: { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } ذهب قوم إلى عمومه في الصلاة وغيرها.
وقال عليّ وابن مسعود وابن عباس وقتادة: المراد بالذكر هاهنا: الذكر في الصلاة (2) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: "صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" (3) . أخرجه البخاري.
وفي هذه الآية مستدل للإمامين أحمد والشافعي بأن المريض يُصلّي على حسب حاله (4) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين.
وقال أبو حنيفة: يُصلِّي مستلقياً على ظهره إذا لم يستطع القعود.
ومحل قوله: "وعلى جنوبهم" من الإعراب: النصب على الحال، عطفاً
__________
(1) أخرجه ابن حبان (2/386 ح620)، والأصبهاني في الترغيب (2/243)، والثعلبي في تفسيره (3/230) عن عطاء. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/409) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في التفكر وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والأصبهاني في الترغيب وابن عساكر عن عطاء. ...
(2) ذكره الثعلبي (3/231)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/527).
(3) أخرجه البخاري (1/376 ح1066).
(4) المغني (1/445).(1/459)
على ما قبله (1) .
قوله: { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } فيستدلون ببدائع صنعة الله، وعجائب قدرته على عظمة شأنه، وجلال سلطانه، فيستثمرون من ذلك علماً بالله، وخوفاً يبعثهم على مراقبة أمره ونهيه.
قال أبو الدرداء: تفكر ساعة خير من قيام ليلة (2) .
ونظر سفيان الثوري إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه (3) .
وقال بعض الحكماء: بترداد الفكر يَنْجاب العمى، وما اسْتَنَارَت القلوب بمثل الفكر.
وقال أبو الأحوص (4) : بلغني أن عابداً تعبَّد في بني إسرائيل ثلاثين سنة، وكان الرجل إذا تعبَّد ثلاثين سنة أظلَّته غمامة، فلم ير شيئاً، فشكى ذلك إلى والدته. فقالت: يا بني؛ فَكِّر هل أذنبتَ ذنباً منذُ أخذتَ في العبادة؟ قال: لا، ولا أعلم أني هممت به منذ ثلاثين سنة، فقالت: يا بني؛ بقيت واحدة، فإن نجوتَ منها رجوتُ لك أن تظلك الغمامة، قال: وما بقي هناك؟ قالت: هل رفعتَ طرفك إلى السماء، ثم رددته بغير فكر؟ قال: كثير. قالت: فمن هاهنا أُتيتَ (5) .
__________
(1) انظر: التبيان (1/162)، والدر المصون (2/282).
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (1/136)، وابن سعد في الطبقات (7/392). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/409) وعزاه لابن سعد.
(3) ذكره الثعلبي (3/231)، والقرطبي (4/314).
(4) سلاّم بن سُليم الحنفي، مولاهم، أبو الأحوص الكوفي، الحافظ الثقة، كان كثير الحديث صالحاً. توفي سنة تسع وسبعين ومائة (التقريب ص:261، والطبقات الكبرى 6/379).
(5) ذكره الثعلبي (3/232).(1/460)
وقال ابن عون: الفكرةُ تُذهبُ الغفلة، وتُحدثُ للقلب الخشية (1) .
قوله: { ربنا } أي: قائلين ربنا.
{ ما خلقت هذا } الخلق { باطلاً } أي: عبثاً خالياً عن الفائدة والحكمة.
و"باطلاً" نصب على الحال من "هذا"، أو صفة مصدر محذوف، أي: خلقاً باطلاً، أو بنزع الحرف الخافض (2) .
{ سبحانك } تنزَّهتَ عن العبث { فَقِنا عذاب النار } .
{ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي مَن تدخله دخول تخليد، فقد أَهَنْتَهُ وحَقَّرْتَهُ. وهذا قول أنس بن مالك، والسعيدين -المسيب وابن جبير- وقتادة ومقاتل (3) .
وقال جابر بن عبد الله: المعنى: "إنك مَن تدخل النار": على أي حال دخل من أحوال التعذيب (4) . وبه قال محمد بن جرير الطبري (5) .
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/231).
(2) وهو الباء، المعنى: ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحق وقُدرة (انظر: التبيان 1/162، والدر المصون 2/283).
(3) أخرجه الطبري (4/211). وذكره مقاتل (2/209)، والثعلبي (3/232)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/528).
(4) أخرجه الطبري (4/211)، والحاكم في المستدرك (2/328). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/410) وعزاه لابن جرير والحاكم.
(5) الطبري (4/211).(1/461)
قوله: { ربنا إننا سمعنا منادياً } قال ابن عباس: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقال محمد بن كعب القرظي: هو القرآن (2) . واختاره ابن جرير الطبري (3) .
{ ينادي للإيمان } قال الفرّاء (4) : المعنى: ينادي إلى الإيمان، ومثله قوله تعالى: { هَدَانَا لِهَذَا } [الأعراف:43]، { بأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [الزلزلة:5].
وقال أبو عبيدة (5) : فيه تقديم وتأخير، تقديره: سمعنا منادياً للإيمان ينادي.
{ أن آمنوا } أي: بأن آمنوا بربكم { فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } يعنون: الكبائر { وكفِّر عنا سيئاتنا } يعنون: الصغائر.
وقيل: إنما جمعوا بين طلب المغفرة وتكفير السيئات؛ لأن المغفرة لمجرد الفضل، والتكفير: بالطاعة (6) .
{ وتوفنا مع الأبرار } قال ابن عباس: هم الأنبياء والصالحون (7) .
والمعنى: توفنا في جملتهم، واحشرنا في زمرتهم.
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/233)، والواحدي في الوسيط (1/534)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/528).
(2) أخرجه الطبري (4/212)، وابن أبي حاتم (3/842). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/411) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والخطيب في المتفق والمفترق.
(3) الطبري (4/212).
(4) معاني الفراء (1/250).
(5) مجاز القرآن (1/111).
(6) زاد المسير (1/528).
(7) ذكره الواحدي في الوسيط (1/534)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/529).(1/462)
والأبرار: جمع برّ، أو بَارّ، كَرَبّ، وأرباب، وصاحب، وأصحاب.
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي: على أَلْسِنَةِ رسلك، والذي وعدهم الجنة، فكأنهم سألوا الله تعالى الثبات على الحالة المفضية بهم إليها.
وقيل: ما وعدتنا على رسلك من النصر والاستعلاء، والظفر بالأعداء.
قال ابن جرير (1) : هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم، فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك على الأعداء، فَعَجِّلَ خزيهم، وظفرنا بهم.
{ ولا تُخْزِنا } أي: لا تُهِنَّا، وقيل: لا تَفْضَحْنا، ومنه: { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [هود:78].
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: مَن قرأ في ليلة: { إن في خلق السموات والأرض ... إلى آخرها } كُتِبَتْ له قيام ليلة (2) .
z>$yftFَ™$$sù ِNكgs9 ِNكgڑ/u' 'خoTr& Iw كىإتé& ں@uHxه 9@دJ"tم Nن3YدiB `دiB @چx.sŒ ÷rr& 4سs\Ré& Nن3àز÷èt/ .`دiB <ظ÷èt/ tûïد%©!$$sù (#rمچy_$yd
__________
(1) الطبري (4/213).
(2) أخرجه الثعلبي (3/234). وذكره السيوطي في الدر (2/421) وعزاه للدارمي.(1/463)
(#qم_جچ÷zé&ur `دB ِNدdجچ"tƒدٹ (#rèŒré&ur 'خû 'ح?خ6y™ (#qè=tG"s%ur (#qè=دFè%ur ¨btچدeےx._{ ِNهk÷]tم ِNحkجE$t"حhy™ ِNكg¨Yn=د{÷ٹ_{ur ;M"¨Zy_ "جچّgrB `دB $pkةJّtrB مچ"yg÷RF{$# $\/#uqrO ô`دiB د‰Yدم "!$# ھ!$#ur ¼çny‰Yدم ك`َ،مm ة>#uq¨W9$# اتزخب
قوله: { فاستجاب لهم ربهم } قال الحسن: ما زالوا يقولون: ربنا، ربنا، حتى استجاب لهم ربهم (1) .
قال جعفر الصادق رحمه الله: مَن حَزَبه أمر فقال -خمس مرات-: ربنا، نجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل له: كيف؟ فقرأ: { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً -إلى قوله:- إنك لا تخلف الميعاد * فاستجاب لهم ربهم } (2) .
وفي الحديث: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله؛ إني
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/234).
(2) مثل السابق.(1/464)
أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة، ولا يذكر النساء بشيء، فنزلت هذه الآية (1) .
يقال: استجابه، واستجاب له، بمعنى: أجابه. ومنه:
....................... ... ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ (2)
{ أني لا أضيع } أي: بأني، أو لأني لا أضيع { عمل عامل منكم } .
{ بعضكم من بعض } في الدين والإسلام. وقيل: { بعضكم من بعض } أي: يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، وهو آدم، فحكمكم حكم واحد، في الثواب والعقاب، { فالذين هاجروا } هجروا أوطانهم، وعشائرهم، { وأخرجوا من ديارهم } اضطروا إلى الخروج بالأذى، { وأوذوا في سبيلي } وهو دين الإسلام.
{ وقاتلوا وقُتِلوا } وقرأ حمزة والكسائي: "وقُتِلُوا وقَاتَلُوا"، بتقديم
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/237)، والطبراني في الكبير (23/294)، وسعيد بن منصور (3/1136)، والطبري (4/215)، وابن أبي حاتم (3/844)، والحاكم في المستدرك (2/451). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:143)، والسيوطي في الدر المنثور (2/412) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه. وذكره أيضاً في لباب النقول (ص:63) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم.
(2) عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار، وصدره: (وداع دعا يا من يجيب إلى الندى). انظر البيت في: اللسان، مادة: (جوب)، والأصمعيات (ص:96)، ومعاني الأخفش (ص:46)، والتنبيه والإيضاح (1/55)، وجمهرة أشعار العرب (ص:697)، وتهذيب اللغة (11/219)، والدر المصون (1/130).(1/465)
المفعول على الفاعل هنا (1) ، وفي براءة (2) ، وكلهم خَفَّفَ إلا ابن كثير وابن عامر فإنهما شدّدا "وقتِّلوا" (3) ، والواو لا تفيد ترتيباً، فسواء التقديم والتأخير.
قوله: { ثواباً من عند الله } أي: ثواباً مختصاً بكونه من عند الله، لا يقدر أحد على وصفه، ولا على قطعه ومنعه. كما يقول الرجل العظيم المليء لما يراد منه لمن دونه إذا أراد تحقيق ما يؤمله منه وتطييب قلبه وطمأنينته: عندي ما تريد.
وهو مصدر مؤكد؛ لأن معنى "لأُكَفِّرن" و"لأُدْخِلنَّهم": لأُثيبنَّهم.
وقيل: هو منصوب على القطع (4) .
ںw y7¯Rچنَtƒ ـ==s)s? tûïد%©!$# (#rمچxےx. 'خû د‰"n=خ6ّ9$# اتزدب سى"tFtB ×@ٹخ=s% ¢OèO ِNكg1urù'tB مM¨Zygy_ }ّ©خ/ur كٹ$ygخRùQ$# اتزذب ا`إ3"s9
__________
(1) الحجة للفارسي (2/59)، والحجة لابن زنجلة (ص:187)، والكشف (1/373)، والنشر (2/246)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:184)، والسبعة في القراءات (ص:222).
(2) سورة التوبة، آية رقم: 111.
(3) الحجة للفارسي (2/59)، ولابن زنجلة (ص:188)، والكشف (1/373)، والنشر (2/246)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:184)، والسبعة في القراءات (ص:222).
(4) انظر: الدر المصون (2/289-290).(1/466)
tûïد%©!$# (#ِqs)¨?$# ِNكg/u' ِNçlm; ×M"¨Yy_ "جچّgrB `دB $uhدFّtrB مچ"yg÷RF{$# ڑْïد$خ#"yz $pkژدù Zwâ"çR ô`دiB د‰Yدم "!$# $tBur y‰Yدم "!$# ×ژِچyz ح'#tچِ/F|دj9 اتزرب
قوله: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } كان اليهود يضربون في الأرض، ويكتسبون الأموال، والمشركون في خَفْضٍ وَدَعَة (1) ، والمسلمون في جهد شديد، فقال قائل من المؤمنين: أعداء الله فيما نرى من الخير، ونحن في الجهد، فأنزل الله هذه الآية (2) .
والمعنى: لا يَغُرَّنك أيها القائل، أو السامع. أو هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد: أتباعه؛ لأن خطاب مقدم القوم، ولسانهم بشيء يقوم مقام خطابهم جميعاً.
فكأنه قيل: لا يَغُرَّنكم، وهو بمعنى التثبيت له، والتأديب لغيره.
__________
(1) الخَفْضُ: الدَّعَة ولين العيش وسعته. يقال: عيشٌ خافِضٌ وخَفْضٌ ومخفوض وخفيض: أي خصيب (اللسان، مادة: خفض).
(2) ذكره الثعلبي (3/236)، والواحدي في أسباب النزول (ص:143)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/531).(1/467)
وهذا في النهي نظير قوله في الأمر: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } [الفاتحة:6].
{ تقلب الذين كفروا في البلاد } أي: ضربهم فيها، وتقلبهم في نعم الله.
{ متاع قليل } أي: تقلبهم متاع قليل، ثم ينقطع، { ثم } من بعد ذلك، { مأواهم جهنم وبئس المهاد } .
قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم } وقرأت على شيخنا أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري (1) لأبي جعفر يزيد بن القعقاع: "لكنَّ" (2) ، بالتشديد هنا، وفي الزمر (3) .
قال مقاتل (4) : "اتقوا" بمعنى: وحَّدُوا ربهم.
{ نُزُلاً من عند الله } وهو ما يُهَيَّأ للنَّزيل، وهو الضَّيْف. وانتصابه على المصدر، تقديره: أنزلوها نزلاً، أو على الحال من "جنات" لتخصيصها بالوصف (5) ، والعامل اللام.
وقال الفراء (6) : على التفسير (7) ؛ كما تقول: هو لك صدقة، هو لك هَديَّة.
__________
(1) عثمان بن مقبل بن قاسم الياسري البغدادي، الفقيه الواعظ، صنّف كتاباً في طبقات الفقهاء. توفي سنة ست عشرة وستمائة (المقصد الأرشد 2/202، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/122، وشذرات الذهب 5/96).
(2) النشر (2/247).
(3) عند الآية رقم: 20.
(4) تفسير مقاتل (1/211).
(5) انظر: التبيان (1/164)، والدر المصون (2/292).
(6) ... معاني الفراء (1/251).
(7) أي نصبه على التفسير، وهو التمييز.(1/468)
{ وما عند الله خير للأبرار } قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من بَرٍّ ولا فاجرٍ إلا والموت خير له، ثم تلا: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [آل عمران:178]، وتلا: { وما عند الله خير للأبرار } (1) .
ومعنى الآية: وما عند الله من ثواب المتقين الأبرار خير لهم من متاع الكفار في هذه الدار.
¨bخ)ur ô`دB ب@÷dr& ة="tGإ6ّ9$# `yJs9 ك`دB÷sمƒ "!$$خ/ !$tBur tAج"Ré& ِNن3ِs9خ) !$tBur tAج"Ré& ِNحkِژs9خ) tûüدèد±"yz ! ںw tbrçژtIô±o" دM"tƒ$t"خ/ "!$# $YYyJrO ¸xٹخ=s% ڑپح´¯"s9'ré& ِNكgs9 ِNèdمچô_r& y‰Yدم
__________
(1) أخرجه الطبري (4/218)، وابن أبي حاتم (3/846)، وابن ابي شيبة (7/109)، والطبراني في الكبير (9/151)، والحاكم (2/326)، كلهم عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/392) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي بكر المروزي في الجنائز والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن ابن مسعود.(1/469)
َOخgخn/u' cخ) ©!$# كىƒخژ| ة>$|،إsّ9$# اتززب $ygoƒr'¯"tƒ ڑْïد%©!$# (#qمYtB#uن (#rçژة9ô¹$# (#rمچخ/$|¹ur (#qنخ/#u'ur (#qà)¨?$#ur ©!$# ِNن3ھ=yès9 ڑcqكsخ=ّےè? اثةةب
قوله: { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم } يعني: القرآن { وما أنزل إليهم } يعني: كتابهم، يعني بهم الذين آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كعبد الله بن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى.
قال جابر بن عبد الله: لما مات النجاشي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه، فنزلت هذه الآية (1) .
قوله: { خاشعين لله } حال من فاعل "يؤمن" (2) .
{ لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } كما فعل مَن لم يؤمن منهم من الأحبار والكبراء.
__________
(1) ... أخرجه الطبري (4/218-219)، وابن أبي حاتم (3/846) عن أنس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/415) وعزاه لابن جرير.
(2) انظر: التبيان (1/164)، والدر المصون (2/293).(1/470)
قوله: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } (1) قال ابن عباس: اصبروا على البلاء والجهاد (2) .
وقيل: اصبروا على دينكم وطاعة ربكم (3) .
{ وصابروا } عدوكم، { ورابطوا } في سبيل الله (4) ، وهو لزوم الثغر للجهاد، وأصله من ارتباط الخيل.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم، وأبو الحسن البغداديان، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيها، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبيلِ اللهِ أَوْ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيها" (5) .
__________
(1) كتب في هامش الأصل: قوله: { اصبروا } على الدين وتكاليفه، { وصابروا } أعداء الله في الجهاد وغالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم { ورابطوا } أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو، { واتقوا الله لعلكم تفلحون } (كشاف 1/488-489).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1/533).
(3) أخرجه مجاهد (ص:141).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/418) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.
(5) أخرجه البخاري (3/1059 ح2735).(1/471)
وأخرج مسلم منه ذكر الغدوة والروحة فقط (1) .
وفي أفراد مسلم من حديث سلمان، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفَتَّان" (2) .
وهذا الذي أشرتُ إليه ودللتُ عليه، قول ابن عباس، والحسن، وجمهور العلماء، وهو المتبادر إلى الأفهام.
وقد أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أنه قال -في هذه الآية-: "لم يكن في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يُرابَط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة" (3) .
ويوضح هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو الله بهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ" (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم (3/1500 ح1881).
(2) أخرجه مسلم (3/1520 ح1913).
... والفَتَّان: الشيطان (اللسان، مادة: فتن).
(3) أخرجه الطبري (4/221-222)، والحاكم (2/329 ح3177)، والقائل هو أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم (1/219 ح251).(1/472)
آخرها، والحمد لله (1) .
__________
(1) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلساً عاشراً، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثاني والعشرين، مرة ثانية.(1/473)
سورة النساء
وهي مائة وخمس وسبعون آية في المدني، وست في الكوفي (1) .
فصل
اختلفت الرواية عن ابن عباس هل هي مكية أو مدنية. والصحيح: أنها مدنية، إلا قوله تعالى: { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء:58]، فإنها نزلت بمكة، حين أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزع مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة الحجبي (2) فيسلمها إلى العباس (3) .
وغيرُ بعيد أن تكون مشتملةً على آيات نزلت بمكة، لكن معظمها نزل على أسباب دل النقل والعقل على أن ذلك كان بالمدينة.
فما أدري ما وجه قول الحسن ومجاهد، وإحدى الروايتين عن ابن عباس: أنها مكية.
أتراه يشك أحد أن تحريم الخمر كان بالمدينة، وأن قصة طعمة بن أبيرق (4) سارق الدرع، وقد نزلت فيه آيات كثيرة في هذه السورة كانت
__________
(1) انظر: البيان في عد آي القرآن (ص:146).
(2) عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عثمان بن عبد الدار الحجبي، الصحابي المعروف. أسلم في هدنة الحديبية، توفي سنة اثنتين وأربعين (الإصابة 4/450، والتقريب ص:384).
(3) انظر تفصيل هذه القصة في ص: 554 من هذا الجزء.
(4) طعمة بن أبيرق بن عمير الأنصاري. انظر قصة الدرع في: المستدرك (4/426-427 ح8164). وقال ابن حجر في الإصابة (3/518): شهد المشاهد كلها إلا بدراً، وقد تُكلّم في إيمان طعمة.(1/405)
بالمدينة (1) .
وأن قصة الزبير مع الأنصاري، حين ترافعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال للزبير: "اسق ثم أرسل إلى جارك، فقال: إن كان ابن عمتك؟ ... الحديث، ونزل فيه: { فَلاَ وَرَبكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ } كانت بالمدينة" (2) .
وأن قصة المنافق الذي أراد أن يحاكم اليهودي إلى الطاغوت، واليهودي يريد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بالمدينة (3) .
وقوله: { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [النساء:94]، وأن الآيات التي نزلت في الجهاد، والهجرة، وصلاة الخوف، كان ذلك كله بالمدينة.
وفي أفراد البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "مَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - " (4) ، وكان دخولُه بها في المدينة.
ijk
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
__________
(1) ... انظر قصته في ص: 613.
(2) ... انظر هذه القصة في ص: 551.
(3) ... انظر تفصيل ذلك في ص: 546.
(4) ... أخرجه البخاري (4/1910 ح4707).(1/406)
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا اتب
قوله عز وجل: { الذي خلقكم من نفس واحدة } أي: فرعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم عليه السلام.
{ وخلق منها زوجها } يعني: حواء عليها السلام.
و"مِنْ" للتبعيض، إن أريد بالنفس جملة آدم، وإلا فهي لبيان الجنس، أو لابتداء الغاية.
قال ابن عباس وابن مسعود: خلقت بعد دخوله الجنة (1) .
وقال كعب (2) ووهب (3) وابن إسحاق (4) : قبل دخوله الجنة (5) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/2).
(2) كعب بن ماتع الحميري، المشهور بكعب الأحبار، من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب. أسلم في زمن أبي بكر، وكان من أهل اليمن، فسكن الشام، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين (تذكرة الحفاظ 1/52، والتقريب ص:461).
(3) وهب بن منبه بن كامل اليماني، أبو عبد الله الأبناوي، تابعي ثقة، كان عابداً فاضلاً. توفي سنة بضع عشرة ومائة (تهذيب الكمال 31/140، والثقات 5/487).
(4) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي المدني، مولى قيس بن مخرمة، صاحب المغازي، توفي سنة خمسين ومائة (الجرح والتعديل 7/191، وتذكرة الحفاظ 1/172).
(5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/2).(1/407)
قال ابن عباس: خلقت من ضلع من أضلاعه اليسرى (1) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ خَيْراً، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ مِنَ الضِّلَعِ أَعْلاهُ، [فَإِنْ] (2) ذهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَج" (3) .
{ وبثّ منهما } أي: فرَّق ونشر في الأرض، من آدم وحواء { رجالاً كثيراً ونساء } .
ولما ذكَّرهم سبحانه وتعالى ما دلهم على عظيم قدرته وحكمته، أمرهم بالتقوى رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه، فقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } .
قرأ أهل الكوفة: "تَسَاءَلُونَ" بالتخفيف، وشدَّده الباقون (4) .
فمن شدَّد: فلأن أصلها تتساءلون - بتائين-، فأدغم التاء في السين؛ لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
ومَن خفَّف: حذف التاء الثانية.
__________
(1) ذكره الماوردي (1/446)، والواحدي في الوسيط (2/4) بلا نسبة.
(2) في الأصل: وإن. والتصويب من البخاري (3/1212).
(3) أخرجه البخاري (3/1212 ح3153)، ومسلم (2/1091 ح1468).
(4) الحجة للفارسي (2/60)، والحجة لابن زنجلة (ص:88)، والكشف (1/375)، والنشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:185)، والسبعة في القراءات (ص:226).(1/408)
والمعنى: تسألون به حوائجكم وحقوقكم، كقول الرجل لأخيه: سألتك بالله، ونشدتك بالله.
"والأرحام" أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو يكون عطفاً على محل الجار والمجرور، نحو: مررت بزيد وعَمْراً.
ويؤيده قراءة ابن مسعود: "وبالأرحامِ" (1) .
وقرأ حمزة: "والأرحامِ" بالجرّ (2) ، فعطف المظهر على المضمر.
قال سيبويه (3) : لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض، إلا في ضرورة الشعر، وأنشد:
فَاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا ... فَاذهَبْ فَمَا بكَ وَالأَيَّامُ مِنْ عَجَب (4)
وقال الزجاج (5) : إجماع النحويين أنه يَقْبحُ أن يُنْسَق باسْمٍ مُظهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض؛ كقوله تعالى: { فَخَسَفْنَا بهِ
__________
(1) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:24). وانظر: البحر المحيط (3/165).
(2) الحجة للفارسي (2/61)، والحجة لابن زنجلة (ص:188)، والكشف (1/375)، والنشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:185)، والسبعة في القراءات (ص:226).
(3) انظر: الكتاب (2/382).
(4) البيت للأعشى، وينسب لعمرو بن معد يكرب، ولخفاف بن ندبة، ولغيرهم. والشاهد في البيت:
... عطف "الأيام" على الكاف. انظر البيت في: الكتاب لسيبويه (2/383)، وابن يعيش (3/79)، والخزانة (2/338)، والقرطبي (10/14)، ومعاني الزجاج (2/7)، والوسيط (2/6)، والبحر المحيط (3/166).
(5) معاني الزجاج (2/6).(1/409)
وَبدَارِهِ الأَرْضَ } [القصص:81].
وَيستقبحُ النحويون: مررت به وزيد، لأن المكني المخفوض حرف مُتَّصِلٌ غيرُ منفصل، فكأنه كالتنوين في الاسم، فَكُرِه أن يعطف اسم يَقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه.
وقال أيضاً (1) : الخفض في "الأرحام" خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ" (2) .
قال ابن الأنباري (3) : إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت به عادتهم. فالمعنى: الذي كنتم تسألون به وبالأرحام في الجاهلية.
وقال مكي (4) : هو قليل في الاستعمال، بعيد في القياس، لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، ويقبح في أحدهما ما يقبح في الآخر، فكما لا يجوز: واتقوا الله الذي تسألون بالأرحام، و "هـ"، فكذلك لا يحسن: تسألون به والأرحام.
قوله: { إن الله كان عليكم رقيباً } أي: حفيظاً يرقب عليكم أعمالكم.
(#qè?#uنur الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا
__________
(1) أي: الزجاج في معانيه، الموضع السابق.
(2) أخرجه البخاري (6/2450 ح6272)، ومسلم (3/1267 ح1646).
(3) انظر: زاد المسير (2/3).
(4) الكشف (1/375-376).(1/410)
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ(1/411)
نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا احب
قوله: { وآتوا اليتامى أموالهم } قال سعيد بن جبير: نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير، لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه، فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله هذه الآية، فلما سمعها العم قال: سمعنا وأطعنا، نعوذ بالله من الحُوب الكبير (1) .
والخطاب بقوله: "وآتوا" للأولياء والأوصياء.
وسَمَّاهم يتامى بطريق المجاز؛ لقرب عهدهم باليتم، ويجوز أن يكون المراد باليتامى: الصغار.
والمراد بإيتائهم أموالهم: حفظها وتنميتها، وكَفّ الأيدي الخاطفة من قضاة السوء وولاته عنها إلى أن يؤتوها سليمة.
{ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد [ويطرح] (2) مكانها الزيوف (3) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/854). وذكره الواحدي في أسباب النزول(ص:146) من قول مقاتل والكلبي، والثعلبي (3/242)، ومقاتل (1/213-214)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/4)، والسيوطي في الدر المنثور (2/425) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) زيادة من زاد المسير (2/5).
(3) أخرجه الطبري (4/229)، وابن أبي حاتم (3/856). وذكره الماوردي (1/447)، والواحدي في الوسيط (2/7)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/5)، والسيوطي في الدر المنثور (2/426) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/412)
وقال غيره: "ولا تتبدلوا الخبيث" وهو الحرام الذي يختزلونه من أموال الأيتام، "بالطيب" وهو الحلال من أموالكم (1) .
{ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي: ضامِّين لها إلى أموالكم.
قال السدي: لا تخلطوها بأموالكم، ثم تأكلوها جميعاً (2) .
{ إنه } يعني: أكل أموالهم، { كان حوباً كبيراً } أي: إثماً عظيماً.
وقرأ الحسن: "حَوباً" بفتح الحاء (3) .
قال ابن قتيبة (4) : فيه ثلاث لغات: حُوب، وحَوب، وحاب.
قال الفرّاء (5) : أهل الحجاز يقولون: حُوب -بالضم-، وتميم يقولونه بالفتح.
قوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } اختلفوا في تنزيلها وتأويلها، فقيل: لما نزلت هذه الآية في اليتامى، وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق
__________
(1) أخرجه مجاهد (ص:143).
(2) أخرجه الطبري (4/230) عن مجاهد، وابن أبي حاتم (3/856) عن السدي. وذكره الواحدي في الوسيط (2/7).
(3) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:24)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:186).
(4) تفسير غريب القرآن (ص:118).
(5) لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: زاد المسير (2/5).(1/413)
اليتامى، وأخذوا يتحرجون من ولايتهم.
وكان الرجل ربما كان تحته العشر من الأزواج أو أكثر، أو أقل، فلا يقوم بحقوقهن، ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في أموال اليتامى فتحرجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل في النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن مَن تحرّج من ذنب، أو تاب عنه وهو مرتكب مثله، فهو غير متحرّج ولا تارك لجنس ذلك الإثم.
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة (1) ، والسدي، ومقاتل، والأكثرين (2) .
وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا، وهم يتحرجون من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إن خفتم الجَوْر في أموال اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرَّمات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد (3) .
__________
(1) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، الحافظ العلامة الضرير المفسر. توفي بواسط في الطاعون سنة ثماني عشرة ومائة (تذكرة الحفاظ 1/123).
(2) أخرجه الطبري (4/233-234)، وابن أبي حاتم (3/857). وذكره مقاتل في تفسيره (1/214)، والماوردي (1/448)، والواحدي في أسباب النزول (ص:147)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/6)، والسيوطي في الدر المنثور (2/428) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (4/235)، وابن أبي حاتم (3/857)، ومجاهد (ص:144)، والثعلبي (3/245). وذكره الماوردي (1/448)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/7)، والسيوطي في الدر المنثور (2/428) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/414)
وقيل: إنهم تحرَّجوا من نكاح اليتامى، كما تحرَّجوا من أموالهم، فرَخَّص الله لهم في ذلك، فقيل لهم: وإن خفتم يا أولياء اليتامى، أن لا تَعدلوا فيهن إذا تزوجتموهن، فانكحوا عدداً يمكنكم العدل فيه. وهذا مروي عن الحسن البصري (1) .
وقيل: المعنى: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن تجوروا في صَدُقاتهنّ، أو تسيئوا صحبتهنَّ لعدم مَن يغضب لهنَّ، ويقوم بنصرهنَّ، فانكحوا سِواهنَّ من الغرائب اللواتي أحلّ الله لكم. وهذا المعنى مروي عن عائشة رضي الله عنها (2) .
أخبرني الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا ابن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، "أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ الله عز وجل: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } [فَقَالَتْ] (3) : يَا ابْنَ أُخْتِي؛ هذه اليَتِيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرِكُهُ في مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا،
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/7).
(2) أخرجه البخاري (5/1949، 1958، 1975)، ومسلم (4/2313-2314)، وأبو داود (2/224)، والنسائي (3/315، 6/319)، والبيهقي في سننه (7/141-142)، والطبري في تفسيره (4/231-232)، وابن أبي حاتم (3/857).
(3) زيادة من الصحيح (4/1668).(1/415)
فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ" (1) .
وقال ابن عباس -في رواية عنه-: قصر الرجال على أربع من النساء من أجل أموال اليتامى (2) ، لأن أولياء اليتامى مالوا على أموالهم بسبب كثرة النساء.
قوله: "وإن خفتم" أي: علمتم، "ألا تقسطوا" أي: لا تعدلوا. يقال: أَقْسَطَ يُقْسِطُ فهو مُقْسِطٌ؛ إذا عدل (3) ، قال الله: { إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } [الحجرات:9]، وقَسَطَ يَقْسُطُ فهو قاسِطٌ؛ إذا جَارَ (4) ، قال الله: { وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [الجن:15].
وقرأ إبراهيم النخعي (5) : "تَقسِطُوا" بفتح التاء (6) ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من العدل أيضاً.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1668 ح4298)، ومسلم (4/2313 ح3018).
(2) أخرجه الطبري (4/233)، وابن أبي حاتم (3/859). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/428) وعزاه للفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) انظر: اللسان، مادة: (قسط).
(4) مثل السابق.
(5) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، ثقة فقيه، كان مفتي أهل الكوفة. توفي سنة ست وتسعين ومائة وهو مختف من الحجاج (تهذيب الكمال 2/233-241، والتقريب ص:95).
(6) انظر: مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ص:24)، والمحتسب لابن جني (1/180)، والبحر المحيط (3/170).(1/416)
قال الزجاج (1) : قَسَطَ وأَقْسَطَ واحد، إلا أن الأفصح أَقْسَطَ؛ إذا عَدَلَ.
الوجه الثاني: أنه من الجَوْر، على أن "لا" مزيدة.
و"اليتامى": جمعٌ لذُكْران الأيتام وإناثهم، وهو جمع يتيمة على القَلْب، كما قيل: أَيَامَى، والأصل: أَيائِم ويَتَائِم.
{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي: ما حلَّ، لأن منهن ما هو حرام.
وقرأ ابن أبي عبلة (2) : "مَنْ طَابَ" (3) على الأصل، لأن "مَن" لمن يعقل، على أن العرب تضع "مَن" موضع "ما" و"ما" موضع "مَن". قال الله سبحانه: { وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا } [الشمس:5]، وقال: { فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } [النور:45].
وحكى أبو عمرو بن العلاء: أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما يُسبح له الرعد (4) .
وقال ابن جرير (5) : أراد الفعل ولم يرد أعيان النساء، فلذلك قال: "ما" ولم يقل: "مَن".
__________
(1) انظر: معاني الزجاج (5/235).
(2) شمر بن يقظان بن المرتحل العقيلي الشامي المقدسي، شيخ فلسطين. توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري 1/19، وسير أعلام النبلاء 6/323، والثقات 4/11).
(3) انظر: البحر المحيط (3/170).
(4) ذكره الثعلبي (3/246).
(5) ذكره الطبري (4/236-237).(1/417)
وقال مجاهد: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم (1) ، فـ "ما" على هذا عبارة عن النكاح.
وقيل: الإناث يجرين مجرى غير العقلاء، ومنه: { أو ما ملكت أيمانكم } [النساء:3].
وقيل: "ما" مصدرية، أي: نكاحاً طاب لكم.
{ مثنى وثلاث ورباع } حال من "طاب"، أو بدل من "طاب" (2) ، ومنعهنّ الصرف: العدل والوصف، أو العدل عن صيغها، والعدل عن تكريرها، التقدير: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، كما قال في وصف الملائكة: { أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [فاطر:1]، ولم يرد بشيء من ذاك العطف، إذ العدول إلى ذلك عن لفظ التسعة عِيٌّ تأباه فصاحة القرآن وبلاغته.
قال القاضي أبو يعلى (3) : الواو هاهنا لإباحة أي الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو للأحرار لا للعبيد، في قول الأئمة الثلاثة: أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي.
وقال مالك: هم كالأحرار (4) .
وسباق الآية وسياقها يوجبان التقيد بالأحرار دون العبيد، ألا تراه يقول:
__________
(1) أخرجه الطبري (4/236)، وابن أبي حاتم (3/858).
(2) انظر: التبيان (1/166)، والدر المصون (2/301).
(3) انظر: زاد المسير (2/8).
(4) المغني (7/65)، والهداية (1/194)، والروضة (7/163)، وبداية المجتهد (2/47).(1/418)
{ أو ما ملكت أيمانكم } ، والعبد لا يملك.
قوله: { فإن خفتم ألا تعدلوا } (1) يعني: بين الأربع، { فواحدة } أي: فانكحوا واحدة.
وقرأ الحسن البصري والأعمش: "فواحدةٌ" (2) بالرفع، على معنى: فواحدةٌ كافية، { أو ما ملكت أيمانكم } ، يعني: من السراري غير محصورات بعدد، إذ لا قَسْم لهنّ.
{ ذلك } إشارة إلى نكاح الأربع، أو الواحدة عند خوف الجور في الأربع { أدنى } أقرب، { ألا تعولوا } أي: تميلوا فَتَجُوروا، ومنه: عَالَ الميزان؛ إذا مَالَ (3) .
قال الفرّاء (4) : عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ عَوْلاً؛ إذا مَالَ وجَارَ.
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، والسدي، والزجّاج (5) ، وابن الأنباري، وجمهور العلماء (6) .
__________
(1) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثالث والعشرين، مرة ثانية.
(2) انظر: النشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:186).
(3) انظر: اللسان، مادة: (عول).
(4) انظر: معاني الفراء (1/255).
(5) معاني الزجاج (2/11).
(6) انظر: الطبري (4/239-240)، وابن أبي حاتم (3/860)، والوسيط (2/9)، وزاد المسير (2/9).(1/419)
وقال الشافعي رضي الله عنه: "تعولوا": تكثر عيالكم (1) .
وردَّه الزجاج فقال (2) : جميع أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ.
يريد الزجاج بذلك أنه إنما يقال: أَعَالَ الرَّجُلُ يُعيلُ؛ إذا كَثُرَ عِيالُه (3) . وأفسده أيضاً من حيث المعنى، فقال: إباحة ملك اليمين أَزْيَدُ في العيال من أربع.
وقد سلكوا في تصحيح قول الشافعي طُرقاً منها:
أنه لغة حمير، وأنشدوا:
وَإِنَّ المَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... ... بلا شَكٍّ وَإِنْ أَمْشَى وَعَالا (4)
أي: كثرت ماشيته وعياله.
ومنها: أنه من عَالَتِ الفَريضةُ؛ إذا كَثُرت سهامها (5) .
ومنها: ما ذكره الزمخشري (6) : أنه من عَالَ الرّجلُ عياله يعولهم، مثل: مَانَهُم يَمُونُهم، لأن مَن كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع، وكسب الحلال.
وكلام مثل الشافعي من أعلام العلم، ورؤوس المجتهدين، وأئمة الشرع،
__________
(1) ذكره الماوردي (1/450)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/10).
(2) معاني الزجاج (2/11).
(3) انظر: اللسان، مادة: (عول).
(4) البيت لم أعرف قائله. وهو في: البحر المحيط (3/173)، والدر المصون (2/304)، والقرطبي (5/22)، وروح المعاني (4/197).
(5) انظر: اللسان، مادة: (عول).
(6) الكشاف (1/499-500).(1/420)
حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يُظن به تحريف "تعيلوا" إلى "تعولوا"، -... إلى أن قال:- كان أعلى كعباً، وأطول باعاً في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه [مثل] (1) هذا.
قوله: { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، على وجه الزجر لهم عما ألفوه من حيازة صدقات النساء دونهن، رَدْعاً لهم عن نكاح الشِّغَار، وهو: جعل الأبضاع أعواضاً في النكاح. وواحد الصَّدُقات: صَدُقَة، وهي المُهُور.
"نِحْلَة" مصدر أو حال من المخاطبين، على معنى: آتوهن ناحلين (2) .
قال ابن عباس: "نِحْلَة": فريضة وموهبة من الله للنساء.
وقيل: مِلّة وديناً، يقال: فلان يَنْتَحِلُ كذا، أي: يَدِينُ بهِ (3) .
{ فإن طِبْنَ لكم } أيها الأزواج أو الأولياء، أو يكون الخطاب لجنس الرجال، { عن شيء منه } الضمير في "مِنْهُ" جار مجرى اسم الإشارة، كأنه قال: عن شيء من ذلك، كقوله: { قُلْ أَؤُنَبئُكُم بخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } [آل عمران:15] بعد ذكر الشهوات، أو يرجع إلى معنى الصَّدُقات، وهو الصَّدَاق.
وقوله: { نفساً } تمييز (4) ، وهو اسم جنس، { فَكُلُوهُ هنيئاً مريئاً } وصفا
__________
(1) زيادة من الكشاف (1/500).
(2) انظر: التبيان (1/166)، والدر المصون (2/305).
(3) انظر: اللسان، مادة: (نحل).
(4) انظر: التبيان (1/166)، والدر المصون (2/306).(1/421)
مصدر محذوف، أي: أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حال من الضمير في "كُلُوهُ" (1) .
والهنيء: اللذيذ السائغ، الخالص من شوائب التنغيص (2) ، والمريء: المحمود العاقبة التام الهَضْم (3) .
والمقصود: المبالغة في الحِلّ، ونفي التبعة.
ںwur تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
__________
(1) انظر: التبيان (1/167)، والدر المصون (2/307).
(2) انظر: اللسان، مادة: (هنأ).
(3) انظر: اللسان، مادة: (مرأ).(1/422)
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قوله: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } والسُّفَهَاء: الجَهَلَة، وهذا نهي للإنسان أن يدفع ماله الذي خوَّله الله إياه وجعله قِواماً لمعيشته، إلى من لا يقوم باستصلاحه من النساء والأطفال، والمُبَذِّرين من الأولاد.
وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن (1) .
وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم، كان
__________
(1) ذكره المناوي في فيض القدير (5/364).(1/423)
أول ما يأكل دينه (1) .
وكان سفيان الثوري يقلب بضاعته ويقول: لولاك لَتَمَنْدَلَ بي بنو العباس (2) .
وقيل: هو خطاب لأولياء الأيتام، والسفهاء المحجور عليهم، وأضاف الأموال إلى الأولياء لأنهم قُوَّامُها، أو لأنها الجنس الذي جعله الله أموالاً للناس؛ كقوله: { مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } [النساء:25].
{ التي جعل الله لكم قياماً } قرأ الحسن: "اللاتي" (3) ، وهي بمعنى "التي".
وقرأ نافع وابن عامر: "قِيَماً" بغير ألف. وقرأ الباقون: بألف (4) .
وقرئ شاذاً: "قواماً" (5) بفتح القاف وكسرها على الأصل، والأكثرون قلبوا الواو ياءاً لانكسار ما قبلها، مثل: صيام وقيام.
والمعنى في الجميع واحد، أي: تقوم بها أموركم ومعائشكم.
__________
(1) ذكره الكتاني في التراتيب الإدارية (2/73).
(2) انظر: الحلية (6/381)، وسير أعلام النبلاء (7/241)، وتفسير النسفي (1/204)، وفيض القدير (5/364)، والتراتيب الإدارية (2/73).
(3) إتحاف فضلاء البشر (ص:186).
(4) الحُجّة للفارسي (2/65)، والحجة لابن زنجلة (ص:190-191)، والكشف (1/376)، والنشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:186)، والسبعة في القراءات (ص:226).
(5) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:24)، والمحتسب (1/182)، وإعراب القرآن للنحاس (1/396).(1/424)
قال ابن قتيبة (1) : يقال: هذا قُوَام أمرك وقِيَام أمرك، أي: ما يقوم به.
وقال الأخفش (2) : قياماً وقُوَاماً وقِيَماً وقُوَماً: واحد، وجميعها مصادر (3) .
وقال قوم: القيم جمع قيمة كديمة وديم، فالدراهم والدنانير قيم الأشياء.
واختار الزجاج هذا القول فقال (4) : مَن قرأ: "قيما"، فالمعنى: أموالكم التي جعلها الله قيماً للأشياء، فبها تقوم أموركم.
قال أبو علي: وليس هذا بشيء (5) .
وقال الضحاك (6) في معنى الآية بها: الحج، والجهاد، وأعمال البر، وفك الرقاب من النار (7) .
وهذا يندرج تحت عموم ما قاله غيره.
{ وارزقوهم فيها } أي: منها، والرزق من العباد هو: الإجراء الموظف.
{ واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً } أي: ليّناً تطيب به قلوبهم من عِدَةٍ
__________
(1) تفسير غريب القرآن (ص:120).
(2) سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط، أبو الحسن البلخي المجاشعي مولاهم، إمام النحو، أخذ عن الخليل بن أحمد ولزم سيبويه. توفي سنة خمس عشرة ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/206).
(3) انظر: مشكل إعراب القرآن لمكي (1/179)، والوسيط (2/12).
(4) معاني الزجاج (2/14).
(5) الحجة للفارسي (2/66).
(6) الضحاك بن مزاحم الهلالي الخراساني، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم. توفي بعد المائة (سير أعلام النبلاء 4/598).
(7) ذكره الثعلبي (3/253).(1/425)
جميلة، أو رَدٍ حسن.
قوله: { وابتلوا اليتامى } (1) سبب نزولها: أن رفاعة قال: يا رسول الله؛ إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفعه إليه؟ فأنزل الله هذه الآية (2) .
والمعنى: اختبروا عقول اليتامى بالنظر في تصرفهم قبل البلوغ.
{ حتى إذا بلغوا النكاح } أي: وصلوا إلى حال النكاح من الاحتلام وإنزال الماء.
{ فإن آنستم منهم رشداً } أي: علمتم وأبصرتم، ومنه: { آنَسَ مِن جَانِب الطُّورِ نَاراً } [القصص:29] أي: أَبْصَرَ.
والرُّشْد: الصلاح في العقل، وحفظ المال، فمتى بلغ عاقلاً مصلحاً لماله، انْفَكَّ الحَجْر عنه، وهو مذهب إمامنا وأبي حنيفة وأصحابه.
وذهب قوم إلى أن الرشد: الصلاح في الدين والمال، منهم: الحسن، وربيعة، ومالك، والشافعي (3) .
وعن ابن عباس: كالمذهبين.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الحادي عشر.
(2) أخرجه الطبري (4/259) عن قتادة. وذكره الواحدي في أسباب النزول(ص:147)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/14)، والسيوطي في الدر المنثور (2/437) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
(3) ... انظر: حاشية الدسوقي (2/529)، والمهذب (1/331)، والمغني (4/296).(1/426)
فصل
قد دلت هذه الآية على أن لرفع الحَجْر عن اليتيم شرطين:
أحدهما: البُلُوغ.
الثاني: الرُّشْد.
فأما البلوغ فإنه يكون بواحد من خمسة أسباب: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء.
أحدها: إنزال المني بجِماع أو احتلام أو غيرهما، بدليل قول الله تعالى: { وَإِذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ } [النور:59]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا" (1) .
الثاني: بلوغ خمس عشرة سنة عندنا وعند الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة في تحديده سن البلوغ بسبع عشرة سنة في المشهور من الروايتين عنه.
والأخرى بثماني عشرة سنة. وخلافاً لمالك في قوله: لا بلوغ بالسن وإن طال (2) .
الثالث: نبات الشعر الخشن حول الفرج، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (3) .
وشَذَّ مالك فجعل غلظ الصوت وانشقاق الأَرْنَبَة بلوغاً في حق الغلام.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/101 ح1576)، والترمذي (3/20 ح623).
(2) انظر: الهداية (3/248)، وحاشية الدسوقي (3/293)، والمهذب (1/330)، والمغني (4/297).
(3) انظر: المصادر السابقة.(1/427)
وسببان يختصان بالنساء وهما: الحيض والحمل.
الشرط الثاني: الرُّشْد، وقد ذكرناه.
فإن اختلَّ أحد الشرطين لم يَنْفَكّ عنه الحَجْر أبداً.
وقال أبو حنيفة: ينفك عنه الحَجْر إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وإن كان مفسداً لماله، إني لأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جَدّاً (1) .
وقال مالك: إن كانت جارية، بقي الحَجْر عليها إلى أن تتزوج، فتكون تصرفاتها معلقة بإذن زوجها إلى أن تكبر وتجرب، فتصير مطلقة التصرف (2) .
فصل
واتفق جماهير الأمة، ومشاهير الأئمة على شرعية الحَجْر على السفيه المبذِّر منهم: عليّ، وعثمان، والزبير، وعائشة، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وفقهاء المدينة، وفقهاء الشام، والأئمة الثلاثة، وصاحبا أبي حنيفة (3) ، وإسحاق إمام خراسان (4) ، وأبو ثور (5) .
__________
(1) انظر: الهداية (3/248).
(2) انظر: بداية المجتهد (2/340).
(3) وهما محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي الأنصاري.
(4) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، المعروف بابن راهويه المروزي، وهو من سادات زمانه فقهاً وعلماً وحفظاً ونظراً، وممن صنف الكتب. توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين (التقييد ص:195، والثقات 8/115).
(5) إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، أبو ثور الفقيه، كان أحد الثقات المأمونين ومن الأئمة الأعلام في الدين. توفي سنة أربعين ومائتين (تاريخ بغداد 6/65).(1/428)
وادَّعى بعضُ العلماء الإجماعَ في هذه المسالة، نظراً إلى قصة جرت بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي: أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضاً سبخة بستين ألف درهم، فغُبن فيها، فأراد عَلِيّ أن يحجر عليه، فأتى ابن جعفر إلى الزبير، فقال: إني اشتريت كذا، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان، فيسأله أن يحجر عَلَيّ، فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فقال عليّ لعثمان: إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا فاحْجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير (1) ؟.
وشذَّ أبو حنيفة فقال: لا حجر عليه، وإن كان أفسق الناس، وأشدهم تبذيراً، وتابعه على ذلك زُفَرْ (2) ، ويقال: هو مذهب إبراهيم النخعي (3) .
قوله تبارك وتعالى: { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } هما مصدران في محل الحال، أي: مسرفين، مبادرين كِبَرهم. أو مفعولان، على معنى: لا تأكلوها لأجل إسرافكم ومبادرتكم كِبَرهم أكلاً ذريعاً (4) .
{ ومن كان غنيا فليستعفف } عن مال اليتيم، { ومن كان فقيراً فليأكل
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده (ص384)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/61). قال ابن الملقن في الخلاصة (2/84): رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن.
(2) زفر بن الهذيل بن قيس العنبري، الفقيه، كان ثقة مأموناً، وتفقه بأبي حنيفة. توفي سنة ثمان وخمسين ومائة (سير أعلام النبلاء 8/38، والثقات 6/339).
(3) انظر: الهداية (3/281)، والمغني (4/303).
(4) انظر: التبيان (1/168)، والدر المصون (2/312).(1/429)
بالمعروف } قال الحسن: أن يأكل بمقدار عمله وأجرته (1) .
وقالت عائشة: بمقدار حاجته (2) .
وعن ابن عباس: كالقولين (3) .
وقال الشعبي: لا يأكل إلا أن يُضْطَر إليه، كما يضطر إلى أكل الميتة (4) .
وحكم الكسوة حكم الأكل.
واختلفوا في القضاء عليه إذا أيسر: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت (5) .
وأظهر الروايتين عن الإمام أحمد: عدم وجوب القضاء؛ تنزيلاً لما أكله بالمعروف في مقابلة عمله.
أخبرنا أحمد بن عبد الله، وعلي بن أبى بكر البغداديان، قالا: أخبرنا عبد
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/869). وذكره الماوردي (1/454)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/16).
(2) أخرجه البخاري (3/1017)، والطبري (4/260)، وابن أبي حاتم (3/869)، والبيهقي في الكبرى (6/4). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/435) وعزاه للبخاري وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.
(3) أخرجه الطبري (4/257)، وابن أبي حاتم (3/869).
(4) أخرجه الطبري (4/256)، وابن أبي حاتم (3/870)، والثعلبي (3/259).
(5) أخرجه الطبري (4/255)، والبيهقي في الكبرى (6/354)، وابن أبي شيبة (6/460)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (ص:296)، والثعلبي (3/258). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/436) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والنحاس في ناسخه وابن المنذر والبيهقي في سننه.(1/430)
الأول بن عيسى، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا عبد الله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثني إسحاق، أخبرنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوف } : " أَنَّهَا نَزَلَتْ في وَالِي اليَتِيمِ إِذا كَانَ فَقِيراً، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بالمَعْرُوف" (1) . هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
قوله: { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } هذا أمر استحباب وإرشاد لأولياء الأيتام إلى الإشهاد عليهم عند تسليم أموالهم إليهم، إظهاراً للأمانة، ودفعاً للتهمة بالخيانة، وقطعاً لأسباب المخاصمة والتجاحد.
{ وكفى بالله حسيباً } قال ابن عباس: شهيداً (2) .
وقيل: كافياً، من قولك: أحسبني كذا، أي: كفاني.
ةA%y`جhچ=دj9 نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1669 ح4299)، ومسلم (4/2315 ح3019).
(2) أخرجه الطبري (4/262) عن السدي، وابن أبي حاتم (3/871) عن سعيد بن جبير. وذكره الماوردي (1/455) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/17)، والسيوطي في الدر المنثور (2/438) وعزاه لابن جرير عن السدي. ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير، وعزاه لابن أبي حاتم.(1/431)
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ(1/432)
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا اتةب
قوله تعالى: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } (1) قال ابن عباس وقتادة وجمهور المفسِّرين: كانوا لا يُورثون النساء في الجاهلية، ولا الصغار، وإنما يُورثون من حَاز الغنيمة، وحمى الذّمار (2) ، فلما توفي أوس بن ثابت الأنصاري أخذ ابنا عمه ماله دون زوجته وبناته، فجاءت زوجته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت إليه وذكرت له ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني العم : لا تُفرِّقا من مال أوس شيئاً، فإن الله جعل لبناته نصيباً -ولم يُبَيّن كم هو- حتى أنظر ما يُنْزِل الله فيهن، فأنزل الله: { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ -إلى قوله-: الفَوْزُ العَظِيم } [النساء:11-13]، فأرسلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني العم أن ادفعا إلى الزوجة الثمن، وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الرابع والعشرين، مرة ثانية.
(2) الذِّمَار: ذمار الرجل: هو كل ما يلزمك حفظه وحياطته وحمايته والدفع عنه (اللسان، مادة: ذمر).(1/433)
المال (1) .
قوله تعالى: { نصيباً مفروضاً } منصوب على الاختصاص بإضمار "أعني"، أو حال (2) .
وقال الأخفش (3) : هو نصب على [معنى] (4) : جعل لهم نصيباً، والآية تدل عليه، لأن قوله: { للرجال نصيب } ، { وللنساء نصيب } يدل على معنى: جعل لهم نصيباً.
والمفروض: الذي فرضه الله، وهو آكد من الواجب.
قوله: { وإذا حضر القسمة } يعني: قسمة المواريث، { أولوا القربى } يريد: أقرباء الميت الذين لا يرثون.
{ فارزقوهم منه } خطاب للورثة، حَضَّهم الله على الرَّضْخ (5) لأقاربهم تطييباً لقلوبهم، والضمير في "منه" لما يقسم، أو يعود إلى قوله: "مما ترك الوالدان"، وغير مستبعد أن يعود الضمير إلى "نصيباً"، ولم أر أحداً ذكره.
والأكثرون على أنه أمر استحباب، إذ لو كان فريضة لَحُدَّ وقُدِّرَ، كما في سائر الحقوق.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/262)، وابن أبي حاتم (3/872). وذكره الواحدي في أسباب النزول
... (ص:148)، والثعلبي في تفسيره (3/260-261)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/18).
(2) انظر: التبيان (1/168)، والدر المصون (2/315).
(3) انظر: معاني الأخفش (ص:153)، والوسيط (2/15).
(4) زيادة من الوسيط (2/15).
(5) رَضَخَ له من ماله: أعطاه. والرّضخ: العطاء القليل (اللسان، مادة: رضخ).(1/434)
وذهب قوم -منهم: مجاهد وابن سيرين-: إلى أنه أمر إيجاب (1) .
ثم اختلف القائلون بالوجوب في والي اليتيم هل يرضخ من ماله؟
فروي عن ابن سيرين عن عَبيدة السَّلْماني (2) : أنه فعله، وقال: لولا هذه الآية لفعلت ذلك من مالي، وفعل نحو ذلك ابن سيرين (3) .
وذهب قوم إلى أنها منسوخة بآية الميراث (4) .
والصحيح: أنها محكمة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس، أنه قال: هي محكمة وليست بمنسوخة (5) ، ولكنها مما تهاون الناس بها.
وقال سعيد بن جبير: والله ما نُسِخت، ولكنها مما تهاون به الناس (6) .
{ وقولوا لهم قولاً معروفاً } قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات، والمساكين، واليتامى من العين -يريدان: الذهب
__________
(1) أخرجه الطبري (4/264)، وابن أبي حاتم (3/874)، والثعلبي (3/261) كلهم عن مجاهد.
(2) عَبيدة بن عمرو السلماني المرادي أبو عمرو الكوفي، تابعي كبير، مخضرم، فقيه. توفي قبل سنة سبعين (الثقات 5/139، والتقريب ص:379).
(3) أخرجه الطبري (4/268)، وابن أبي حاتم (3/874)، والثعلبي (3/262)، وابن أبي شيبة (6/224).
(4) الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:302)، والإيضاح لمكي (ص:210)، والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة (ص:66)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:31)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:253).
(5) أخرجه البخاري (3/1014 ح2608). وهذا الحديث من أفراد البخاري، وليس في مسلم.
(6) أخرجه الطبري (4/263)، والثعلبي (3/262).(1/435)
والفضة- فإذا صارت القسمة إلى الأرض والرقيق، قالوا لهم قولاً معروفاً، كانوا يقولون لهم: بورك فيكم (1) .
وقال سعيد بن جبير: إن كان الورثة كباراً دعوا لهم، وان كانوا صغاراً قال وليهم: لستُ أملك هذا المال، إنما هو لهؤلاء الصغار، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم (2) .
قوله: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } قال ابن عباس: كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد عنده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: انظر لنفسك، فإن أولادك لا يغنون عنك من الله شيئاً، فيقدم جُلَّ ماله، وهذا قبل أن تكون الوصية بالثلث، فكره الله ذلك منهم، فأنزل هذه الآية (3) .
والمعنى: ولْيَخَفِ الذين لو تركوا من خلفهم أولاداً صغاراً خافوا عليهم الفقر والضياع، فليتقوا الله إذا حضروا عند الميت، في ذريته وورثته، { وليقولوا قولاً سديداً } عَدْلاً بين الغلو والتقصير.
والسَدَاد والسَدَد والسديد بمعنى.
فانظر إلى هذا اللطف كيف هيَّج سبحانه وتعالى دواعي شفقة الحاضرين عند المُوصِي على ذُرِّيته وورثته، بتذكرهم موتهم، وتخليفهم
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/20).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (6/225)، والطبري (4/267). وذكره الثعلبي في تفسيره (3/262) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر المنثور (2/441) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (4/269)، وابن أبي حاتم (3/876-877)، والثعلبي (3/263). وذكره الواحدي في الوسيط (1/15).(1/436)
ذُرِّية ضعافاً ليبعثهم على القول السديد بباعثَيْ الشرع والطبع.
وقيل: إن هذه الآية متعلقة بقوله: { ولا تأكلوها إسرافاً } ، فيكون الخطاب لأولياء الأيتام، ذكَّرهم الله سبحانه ما يحبون لذُرِّيتهم الضِّعاف بعد موتهم، وما يخافون عليهم، ليبعثهم على العدل في أموال الأيتام، الذين هم تحت ولايتهم، والنظر في مصالحهم، والقيام بواجب ما استرعاهم الله عليه.
فعلى هذا يكون المعنى: وليقولوا قولاً سديداً للأيتام، لا يزجروهم ولا ينهروهم ويخاطبونهم كما يخاطبون أولادهم بلطف وشفقة؛ جبراً لكسر يُتْمِهم وضعفهم.
قوله تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } قال مقاتل: نزلت في رجل من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، أكل مال ابن أخيه اليتيم (1) .
{ إنما يأكلون في بطونهم ناراً } أي: ما يُفضي بهم إلى النار. وخُصَّ الأكل بالذِّكْر، وإن كان غيره في معناه؛ لأنه معظم ما تذهب الأموال فيه. وذكر البطون للتوكيد؛ كقوله: { يطير بجناحيه } [الأنعام:38]، { فويل لهم مما كتبت أيديهم } [البقرة:79].
قال السدي: يُبعث يوم القيامة ولهبُ النار يخرج من فيهِ وأُذنيه وعينيه، يعرفه مَن رآه بأكل مال اليتيم (2) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "رأيتُ ليلة أُسْريَ بي قوماً لهم مَشَافر
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/263). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:148).
(2) أخرجه الطبري (4/273)، وابن أبي حاتم (3/879). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/443) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/437)
كمَشَافر الإبل (1) ، إحداهما قَالِصَة (2) على منخريه، والأخرى على بطنه، وخزنة النار يُلْقِمُونهم جَمْر جهنم وصخرها، ثم يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل؛ من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً" (3) .
وقوله: { وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } قرأ ابن عامر وأبو بكر: "وسَيُصْلَوْنَ"، بضم الياء (4) .
والسَّعير: النار المشتعلة، والمعنى: سَيُقَاسُونَ حَرَّ السَّعير.
قOن3ٹد¹qمƒ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
__________
(1) المشافر: جمع مِشْفَر، والمِشْفَر للبعير كالشَّفة للإنسان (اللسان، مادة: شفر).
(2) قَلَصَتْ شفته: شَمَّرت ونقصت (اللسان، مادة: قلص).
(3) أخرجه الطبري (4/273)، وابن أبي حاتم (3/879)، والثعلبي (3/264) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4) الحجة للفارسي (2/69)، والحجة لابن زنجلة (ص:191)، والكشف (1/378)، والنشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:186)، والسبعة في القراءات (ص:227).(1/438)
النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا اتتب
قوله: { يوصيكم الله في أولادكم } ؛ أخبرنا الشيخان أبو القاسم بن عبد(1/439)
الله العطار، وعلي بن رُوزبة الصوفي، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا أبو محمد بن حمويه، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم [قال] (1) : أخبرني ابن المنكدر، عن جابر: قال: "عَادَنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في بَني سَلِمَةَ مَاشِيَيْن، فَوَجَدَني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أَعْقِلُ، فَدَعَا بمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْه، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ في مَالِي يَا رَسُولَ الله؟ فَنَزَلَتْ: { يُوصِيكُمْ الله في أَوْلادِكُمْ } " (2) .
هذا حديث اتفق أئمة الإسلام على إخراجه في كتبهم، فأخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه.
وقد أخرج أبو داود أيضاً، والترمذي من حديث جابر: "أنَّ امْرَأَة سَعْدِ بْنِ الرَّبيعِ جَاءَتْ بابْنَتَيْهَا إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله؛ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً، ووالله لاَ يُنْكَحَانِ أبداً إِلا وَلَهُمَا مَالٌ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: يَقْضِي الله في ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ المِيرَاثِ، فقال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ادْعُوا لِي المَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا، فَقَالَ لِلعَمّ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْد الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ
__________
(1) زيادة من الصحيح (4/1669).
(2) أخرجه البخاري (4/1669 ح4301)، ومسلم (3/1235 ح1616)، وأبو داود (3/119 ح2886)، والترمذي (4/417 ح2097)، وأحمد (3/352).(1/440)
فَهُوَ لَكَ" (1) .
ومعنى "يوصيكم الله": يعهد إليكم ويأمركم، "في أولادكم" أي: في شأن ميراثهم.
ثم فَصَّلَ ما أَجْمَلَ فقال: { للذكر مثل حظ الأنثيين } .
{ فإن كُنَّ } يعني: المتروكات، أو الوارثات، { نساءً } خُلَّصاً، لا ذَكَر معهن، { فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } أجمعت الأُمَّة على أن لما فوق الثنتين الثلثين، وأما الثنتان فكذلك في قول عامة أهل العلم، إلا ابن عباس، فإنه اعتصم بظاهر الآية، ولم يعط الثُلُثين إلا لأكثر من ثنتين.
قال القاضي أبو يعلى (2) : إنما نص على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثُلُث كان لها مع الأنثى الثُلُث أولى.
وقال غيره: ذكر الفوق زائد ؛ كقوله : { فاضربوا فوق الأعناق } [الأنفال:12].
قوله: { وإن كانت واحدة } وقرأ نافع: "واحدةٌ" بالرفع (3) .
فمَن نَصَبَ فعلى معنى: فإن كانت الوارثة أو المتروكة واحدة.
ومَن رَفَعَ فعلى معنى: فإن وقعت وحدثت واحدة { فلها النصف } .
__________
(1) أخرجه أبو داود (3/121 ح2892)، والترمذي (4/414 ح2092). ...
(2) انظر: زاد المسير (2/26).
(3) الحجة للفارسي (2/69)، والحجة لابن زنجلة (ص:192)، والكشف (1/378)، والنشر (2/247)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:187)، والسبعة في القراءات (ص:227).(1/441)
قوله: { ولأبويه } يعني: لأبوي الميت، فيكون كناية عن غير مذكور، والمراد: الأب والأم فغُلِّب أحدهما، كالقَمَرَيْن والعُمَرَيْن.
وقيل: القياس أن يقال: أب وأبة؛ كابن وابنة، لكنهم اكتفوا بلفظ الأم، فلما ثُنِّي، رجع إلى القياس، وغُلِّب الأب للتذكير، أو للخِفَّة.
فصل
اعلم أن للأب ثلاثة أحوال:
1- حال: يرث فيها السُدُس بالفرض، وهي مع ذكور الولد (1) ، وولد الابن.
2- وحال: يرث فيها بالتعصيب، وهي مع عدم الولد.
3- وحال: يجتمعان له، وهي مع إناث الولد، يرث السُدُس بالفرض، والباقي بالتعصيب.
فصل
وللأم أربعة أحوال:
1- حال: ترث فيها السُدُس، وهي مع اثنين فصاعداً من الإخوة والأخوات، ومع الولد أو ولد الابن. وكان ابن عباس لا يحجبها من الثُلُث بأقل من ثلاثة من الإخوة والأخوات (2) ، وهو ظاهر القرآن.
2- وحال: ترث فيها الثُلُث، وهو مع عدم هؤلاء.
3- وحال: ترث فيها ثُلُث الباقي، وذلك في العمريتين، وهما: زوج
__________
(1) الولد المراد به: الابن والبنت.
(2) انظر: الطبري (4/278)، وسنن البيهقي (6/227).(1/442)
وأبوان، وامرأة (1) وأبوان، للأم ثُلُث الباقي بعد فرض الزوجين، وهو قول عامة أهل العلم، إلا ابن عباس، فإنه يجعل لها ثلث جميع المال (2) ، وتابعه
شريح (3) وداود (4) .
4- وحال رابعة؛ وهي: إذا نفي ولدها باللعان، فإنه ينقطع نسبه من جهة مَن نفاه، فلا يرثه هو، ولا أحد من عصباته، وترث هي وذوو الفروض منه فروضهم، فما أبقت الفروض ورثته الأم بالتعصيب في قول ابن مسعود، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهي اختيار (5) صاحبنا أبي بكر عبد العزيز (6) .
__________
(1) أي: زوجة.
(2) أخرجه البيهقي في الكبرى (6/228 ح12085). وذكره السيوطي في الدر (2/446) وعزاه للبيهقي وعبد الرزاق.
(3) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم سنان، قاضي الكوفة، ويقال: شريح بن شراحيل، أو ابن شرحبيل، أبو أمية، ممن أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وانتقل من اليمن زمن الصدّيق. توفي سنة ثمان وسبعين، وقيل: سنة ثمانين (سير أعلام النبلاء 4/100).
(4) داود بن علي بن خلف، أبو سليمان البغدادي، المعروف بالأصبهاني. رئيس أهل الظاهر.
... ولد سنة مائتين، كان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً، وكان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان. توفي سنة سبعين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/97، وطبقات الحفاظ 1/257).
(5) انظر: المغني (6/225)، والتمهيد (15/45)، والمهذب (2/30)، وكشاف القناع (4/418).
(6) عبد العزيز بن بن جعفر بن أحمد البغدادي، أبو بكر، المعروف بغلام الخلال، أحد مشاهير الحنابلة الأعيان، صنَّف وجمع وناظر. توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/143، وطبقات الحنابلة 2/119، وتاريخ بغداد 10/459).(1/443)
وقال علي رضي الله عنه: عصبته عصبة أمه، وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي اختيار (1) الخرقي (2) .
فإن قيل: أي فائدة في قوله: { وورثه أبواه فلأمه الثلث } وهَلاَّ قال: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثُلُث"؟
قلت: المعنى: وورثه أبواه فحسب، لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثُلُث الباقي، كما ذكرته آنفاً.
قوله: { فلأمه الثُلُث } قرأ حمزة والكسائي: "فَلإِمِّهِ" بكسر الهمزة، ومثله: { في أُمِّهَا } [القصص:59]، و { بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النحل:78]، حيث جاء، إذا كان قبل الهمزة كسرة، أو ياء، اتباعاً لما قبلها، وتفرد حمزة بكسر الميم أيضاً مع الهمزة في الجمع. وقرأ الباقون بضم الهمزة، واتفقوا على ضم الهمزة في الابتداء (3) .
ومعنى الكلام: فلأمه الثُلُث، والباقي للأب بالتعصيب.
قوله: { فإن كان له إخوة } يريد من أي جهة كانوا ذكوراً أو إناثاً، وقد ذكرنا اختلافهم في حجب الأم من الثُلُث إلى السُدُس بالأخوين آنفاً.
__________
(1) انظر: مختصر الخرقي (ص:77)، والتمهيد (15/45)، والمغني (6/225)، والإنصاف (7/308-309).
(2) عمر بن الحسين بن عبدالله الخرقي البغدادي، أبو القاسم، صاحب المصنفات الكثيرة، وصاحب المختصر المشهور في مذهب الإمام أحمد. توفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/363، وطبقات الحنابلة 2/75).
(3) الحُجّة للفارسي (2/69)، والحجة لابن زنجلة (ص:192)، والكشف (1/379)، والنشر (2/248)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:187)، والسبعة في القراءات (ص:227-228).(1/444)
قوله: { من بعد وصية } أي: قسم الميراث على الوجه المذكور إنما يكون بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء دَيْنه.
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: "يوصَى" بفتح الصاد في الموضعين، إلا حفصاً، فإنه قرأ "يوصِي" الأول بالكسر، وقرأ الباقون بالكسر فيهما (1) .
قوله: { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } المعنى: لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، فتقسموا أموالكم فيهم على حسب علمكم بمقادير نفعهم لكم، ففرض الله مقادير الأنصباء للأقرباء بحكمته وعلمه.
{ فريضةً من الله } نَصْبٌ على المصدر (2) .
{ إن الله كان عليماً حكيماً } فيما فرض لكم.
قال سيبويه: كأن القوم شاهدوا علماً وحكمة، فقيل لهم: إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث (3) .
حكى الزجاج (4) : أن لفظة "كان"، في الخبر عن الله يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياءَ عنده على حالة واحدة.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/71)، والحجة لابن زنجلة (ص:193)، والكشف (1/380)، والنشر وإتحاف فضلاء البشر، الموضعان السابقان، والسبعة في القراءات (ص:228).
(2) ... انظر: التبيان (1/169)، والدر المصون (2/323).
(3) انظر: معاني الزجاج (2/25)، وزاد المسير (2/29-30).
(4) معاني الزجاج (2/25).(1/445)
* وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ(1/446)
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ اتثب
قوله (1) : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } هذا فرض الزوج من تركة زوجته عند عدم ولدها، وولد ابنها منه، أو من غيره. وفرضه: الربع مع وجود ولدها، أو ولد ابنها منه أو من غيره، وفرض الزوجة من الزوج على النصف من ذلك في الحالين، وللزوجات من الزوج الواحد إذا اجتمعن ما للزوجة إذا انفردت من الربع أو الثُمُن.
قوله: { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } اعلم أن هذه الآية في شرح توريث الكلالة، وهم الذين يُنسبون إلى الميت بواسطة، وللعلماء في الكلالة اختلاف، ومقصود الكلام فيها يحصره فصول نظمها بعضهم فقال:
الفصل الأول:
كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة:
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الخامس والعشرين، مرة ثانية.(1/447)
فاختيار أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه: أنها عبارة عمَّن سوى الوالد والولد، وهو الصحيح. وبه قال عليّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وقتادة، والفرَّاء (1) .
وأما عمر رضي الله عنه فكان يقول: الكلالة: مَن سوى الولد. وهو قول طاوس.
وقال الحكم: الكلالة: ما عدا الولد، وقيل: بنو العم الأباعد.
وقال عطية: الإخوة من الأم.
وروي عن عمر: أنه قال -لما طُعِنَ-: كنت أرى أن الكلالة: مَن لا ولد له، وأنا أستحي أن أخالف أبا بكر، الكلالة: مَن عدا الوالد والولد.
وروي عن عمر أيضاً: التوقف، وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بيَّنهن رسول الله لنا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا (2) .
والدليل على صحة قول أبي بكر وجوه:
الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة، وفيه وجوه:
الأول: يقال: كَلَّت الرحم بين فلان وفلان؛ إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان عن فلان، ثم كَلَّ عنه؛ إذا تباعد، فسمِّيت القرابة البعيدة: كلالة من هذا الوجه.
__________
(1) معاني الفراء (1/257).
(2) انظر ما سبق في: تفسير الطبري (4/283) وما بعدها، وابن أبي حاتم (3/887)، وسنن البيهقي الكبرى (6/224) وما بعدها.(1/448)
الثاني: يقال: كَلَّ الرَّجُلُ كَلالَةً وكَلالاً؛ إذا أَعْيا وذهبت قوّته (1) ، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة، لا من جهة الولاد، وذلك لأنَّا بيّنا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير، فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد إدخال الوالد في الكلالة، لأن انتسابه إلى الميت بغير واسطة.
الثالث: الكلالة في أصل اللغة: عبارة عن الإحاطة، ومنه: الإكليل (2) لإحاطته بالرأس، ومنه: الكلّ، لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال: تَكَلَّلَ السحاب؛ إذا صار محيطاً بالجوانب (3) .
إذا عرفت هذا فنقول: مَن عدا الوالد والولد، إنما سمُّوا بالكلالة؛ لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان، وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولاد فليست كذلك، فإن فيها يتفرع البعض عن البعض، ويتولد البعض من البعض؛ كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
نسب تتابع كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب (4)
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولاد، وهي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمّات، فإنما يحصل لنسبهم اتّصال، وإحاطة بالمنسوب إليه. فثبت بهذه
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (كلل).
(2) الإكليل: شبه عصابة تزين بالجوهر، ويسمى التاج إكليلاً، وكلله تكليلاً: ألبسه الإكليل (مختار الصحاح، مادة: كلل).
(3) انظر: اللسان، مادة: (كلل).
(4) ... البيت للبحتري، وهو في: خزانة الأدب، الشاهد الثالث والعشرون، والمنتحل للثعالبي، باب التهاني والتهادي وما يجري مجراهما.(1/449)
الوجوه الاشتقاقية: أن الكلالة عبارة عمّن عدا الوالد والولد.
الحُجَّة الثانية: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا في هذه السورة في موضعين: أحدهما في هذه الآية، والثاني في آخر السورة، وهو قوله: { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } [النساء:176]، واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة: مَن لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور هنا في تفسير الكلالة هو: أنه ليس له ولد، إلا أنَّا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا والد له ولا ولد، وذلك لأن الله حكم بتوريث الإخوة والأخوات حال كون الميت كَلالة، ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالة، حال وجود الأبوين.
الحُجَّة الثالثة: أنه تعالى ذكر حكم الولد والوالد في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها بذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة: مَن عدا الوالد والولد.
الحُجّة الرابعة: قول الفرزدق (1) :
وَرِثتُم قَنَاةَ المَجدِ، لاَ عَنْ كَلالَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ (2)
__________
(1) همام بن غالب بن صعصعة التميمي، أبو فراس البصري، الشهير بالفرزدق، شاعر، من النبلاء، عظيم الأثر في اللغة، كان يقال: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب. توفي سنة عشر ومائة (سير أعلام النبلاء 4/590، والأعلام 8/93).
(2) البيت للفرزدق من قصيدته في قتل مسلم بن قتيبة. انظر: ديوانه (ص:62) وروايته: (ورثتم قناة المُلْك غير كلالة). وانظر البيت في: اللسان، مادة: (كلل)، والقرطبي (5/76)، والبحر المحيط (3/197)، والدر المصون (2/324).(1/450)
دَلَّ هذا البيت على أنهم ما ورثوا المُلك عن الكلالة، ودَلَّ على أنهم ورثوه عن آبائهم. وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلاً في الكلالة.
الفصل الثاني:
اعلم أن الكلالة قد تُجعل وصفاً للوارث، وللموروث، فإذا جعلناها وصفاً للوارث، فالمراد: مَن سوى الولد والوالد. وإذا جعلناها وصفاً للموروث، فالمراد: الذي يرثه مَن سوى الوالد والولد.
أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث. فالدليل عليه: ما روى جابر بن عبد الله قال: "مرضت مرضاً أشفيت (1) منه على الموت، فأتاني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله؛ إني رجل لا يرثني إلا كلالة" (2) ، وأراد به: أنه ليس له لا والد ولا ولد.
وقال بعض الأعراب: مالي كثير ويرثني كلالة متراخي نسبهم (3) .
وأما أنه مستعمل في الموروث، فالبيت الذي رُوِّينَاه عن الفرزدق، فإن معناه: إنكم ما ورثتم المُلك عن الأعمام، بل عن الآباء فسمِّي العمّ كلالة، وهو هاهنا موروث لا وارث.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد من الكلالة في هذه الآية: الميت الذي لا يخلِّف الوالد والولد، لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو الموروث، لا في الوارث الذي لا تختلف حاله بسبب أن له ولداً أو والداً أو
__________
(1) أشفيت: أي: أشرفت (اللسان، مادة: شفي).
(2) أخرجه البخاري (5/2148 ح5352)، ومسلم (3/1235 ح1616).
(3) انظر: الطبري (4/286)، وزاد المسير (2/32).(1/451)
لا (1) .
الفصل الثالث:
يقال: رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة، والوكالة.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا جعلناها صفة للوارث أو الموروث كان بمعنى ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوي قرابتي.
وقيل: يجوز أن يكون صفة؛ كالهَجاجة والفَقَاقَة للأحمق (2) .
الفصل الرابع:
قوله: "يُورَثُ" فيه احتمالان:
(الأول): أن يكون ذلك مأخوذاً من وَرِثَ الرَّجُل يُورَثُ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه.
وفي انتصاب "كلالةً" وجوه:
أحدها: النصب على الحال، والتقدير: يُورَثُ حال كونه كلالة، فالكلالة مصدر وقع موقع الحال، والتقدير: يورث متكلل النسب.
وثانيها: أن يكون قوله: "يُورَثُ" صفة لـ"رَجُل" و"كَلالةً" خبر كان، والتقدير: وإن كان رجل موروث منه كلالة.
والثالث: أن يكون مفعولاً له، أي: يورث لأجل كونه كلالة (3) .
__________
(1) أي: لا والد ولا ولد.
(2) ... الهَجاجةُ: الهَبْوَةُ التي تَدْفِنُ كلَّ شيءٍ بالتراب (اللسان، مادة: هجج).
... والفقاقة والفَقْفاق: الكثير الكلام الذي لا غَنَاء عنده (اللسان، مادة: فقق).
(3) انظر: التبيان (1/169-170)، والدر المصون (2/324-325).(1/452)
(والاحتمال الثاني): قوله: "يُورَثُ" يحتمل أن يكون مأخوذاً من وَرِثَ يَرِثُ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارث.
وانتصاب "كلالة" على هذا التقدير أيضاً يكون على الوجوه المذكورة.
الفصل الخامس:
قرأ الحسن البصري وأبو رجاء العطاردي (1) : "يورّث" بالتخفيف والتشديد، على البناء للفاعل (2) .
قوله تعالى: { وله أخ أو أخت } يعني: من الأم بالإجماع، وقد صرحت بذلك قراءة سعد بن أبي وقاص، وأُبَيّ بن كعب (3) .
{ فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } ذكَرهم وأنثاهم فيه سواء، ولا يسقط ولد الأم (4) أخاً كان أو أُختاً إلا بأربعة: الأب، والجد وإن علا، والولد، وولد الابن وإن نزل.
قوله: { غير مُضارٍّ } حال (5) ، والمعنى: غير مُدْخِل للضرر على ورثته
__________
(1) ... عمران بن مِلْحان البصري، أبو رجاء العطاردي، من كبار المخضرمين، أسلم بعد فتح مكة. توفي سنة خمس ومائة، وله مائة وعشرون سنة (سير أعلام النبلاء 4/253، والتقريب ص:430).
(2) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:25)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:187)، والقراءات الشواذ للقاضي (ص:38).
(3) أخرجه الطبري (4/287)، وابن أبي حاتم (3/888)، والبيهقي في سننه (6/223).
(4) المراد به: الأخ لأم.
(5) انظر: التبيان (1/170)، والدر المصون (2/326).(1/453)
بوصية لم يأذن الشرع فيها، أو إقرار بدَيْن لا يلزم، { والله عليم } بالعادل في وصيته، { حليم } عن الجائر، إذ لم يعاجله بالعقوبة.
ڑپù=د? حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ اتحب
قوله: { تلك } (1) إشارة إلى ما شرع من الأحكام في اليتامى، والميراث، والوصايا، { حدود الله } سبق تفسيرها.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثاني عشر.(1/454)
{ ومن يُطِعِ الله ورسوله } فيما أمر به ونهى عنه من هذه الأحكام وغيرها.
{ يدخله جنات } وقرأ نافع وابن عامر: "نُدْخِلْهُ" بالنون في الموضعين (1) .
وانتصب "خالدين"، و"خالداً" على الحال من الهاء في "يُدْخِلْهُ"، والتقدير: نُدْخِلْهُ مقدِّرين الخلود فيها، تقول: مررتُ برجل معه بازي (2) صائداً به غداً، أي: مقدِّراً للصيد غداً.
وإنما جمع "خالدين" حملاً على معنى "مَن"، ووحَّد "خالداً" حملاً على لفظها.
وإنما أوجب له الخلود لتعدِّيه الحدود بالجحود.
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِذا أَوْصَى حَافَ في وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بشَرِّ عَمَلِهِ، [فَيَدْخُلُ النَّارَ] (3) ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ في وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ. قال: ثم يقول أبو هريرة: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: { تِلْكَ حُدُودُ الله ... -إِلَى
__________
(1) الحجة للفارسي (2/71)، والحجة لابن زنجلة (ص:193)، والكشف (1/380)، والنشر (2/248)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:187)، والسبعة في القراءات (ص:228).
(2) البازي: طائر من فصيلة الصقر، وهو من أشد الحيوانات تكبراً وأضيقها خلقاً (حياة الحيوان للدميري 1/128).
(3) زيادة من المسند (2/278).(1/455)
قَوْلِهِ-: عَذَابٌ مُهِين } " (1) .
سةL"©9$#ur يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ ِNà6ح !$|،خpS فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِن $t/$s وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا
__________
(1) أخرجه أحمد (2/278 ح7728).(1/456)
رَحِيمًا اتدب
قوله تعالى: { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } قال الزجاج (1) : "التي" تُجْمَع اللاتي، واللواتي. قال الشاعر:
من اللَّواتي والتي واللاَّتي ... ... زَعَمْنَ أَنِّي كَبرْتْ لِدَاتِي (2)
ويجمع "اللاتي" بإثبات الياء وحذفها.
قال الشاعر:
من اللاتي لم يحججن يبغينَ حِسْبَةً ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا (3)
والفاحشة: الزنا، سُمِّيَ بذلك؛ لظهور قبحه.
{ فاستشهدوا عليهن } خطاب للحُكَّام { أربعة منكم } يعني: من المسلمين.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما جَعَلَ الله الشهود أربعة سِتراً ستركم به دون فواحشكم (4) .
{ فأمسكوهن في البيوت } أي: احبسوهن { حتى يتوفاهن الموت } .
فإن قيل: التوفي والموت واحد، فكيف نسب الفعل إليه؟
قلت: فيه إضمار، تقديره: حتى يتوفاهن مَلَك الموت، أو يكون المعنى:
__________
(1) معاني الزجاج (2/28).
(2) البيت لم أعرف قائله. وانظره في: اللسان (مادة: لتا)، ومجاز القرآن (1/119)، وخزانة الأدب (6/80)، والقرطبي (1/235)، وزاد المسير (2/34).
(3) البيت لعمر بن أبي ربيعة، ولم أجده في ديوانه. وانظره في: مجاز القرآن (1/120)، وزاد المسير (2/34)، والقرطبي (5/108).
(4) أخرجه عبد الرزاق (7/374)، والبيهقي في الكبرى (8/330).(1/457)
حتى يأخذهن الموت { أو يجعل الله لهن سبيلاً } .
قوله (1) : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } "اللذان" تثنية: الذي، ويريد: الزاني والزانية.
وابن كثير يُشَدِّد النون هنا، وفي "هذان" في طه (2) ، والحج (3) ، و"هاتين" في القصص (4) ، "فَذانِكَ" (5) في القصص أيضاً، و"اللَّذيْن" في السجدة (6) . وافقه أبو عمرو في "فَذانِكَ". وقرأ الباقي كالباقين بالتخفيف على الأصل (7) .
وحُجَّةُ مَن شدَّد النون في هذه المواضع: الفرق بالتشديد بين النون التي تُحذف للإضافة، وبين النون التي لا تُحذف للإضافة، لأن المبهم معرفة؛ فهو لا يُضاف ألبتة.
وقيل: التشديد لهذه النون؛ للفرق بين النون التي هي عوض من تنوين ملفوظ به في الواحد، نحو: زيد وعمرو، والتي لا تنوين في الواحد ملفوظ به
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس السادس والعشرين، مرة ثانية.
(2) طه: 63، في قوله تعالى: { إنْ هذان لساحران } .
(3) الحج: 19، في قوله تعالى: { هذان خصمان } .
(4) القصص: 27، في قوله تعالى: { إحدى ابنتيّ هاتين } .
(5) القصص: 32، في قوله تعالى: { فذانك برهانان من ربك } .
(6) يريد سورة فصلت الآية: 29، في قوله تعالى: { أرنا اللذين أضلانا } ، وتسمى سورة السجدة.
(7) الحجة للفارسي (2/71)، والحجة لابن زنجلة (ص:193-195)، والكشف (1/381-382)، والنشر (2/248)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:187)، والسبعة في القراءات (ص:229).(1/458)
تكون النون عوضاً منه.
وقيل: جعل التشديد عوضاً من الحذف الذي لحق الكلمة، ألا ترى أن قولهم: "ذا" قد حذف لامها، وقد حذفت الياء من "اللذان" و"هذان"، وكان حقهما في التثنية: "اللذيان" و"هاذيان"، فجعل التشديد فيه عوضاً من المحذوف عنه في التثنية.
"فآذوهما": قال ابن عباس: بالتوبيخ، والتعيير، والضرب بالنعال (1) .
{ فإن تابا } من الفاحشة { وأصلحا } العمل بعد ذلك { فأعرضوا عنهما } أي: عن أذاهما.
فصل
كان حكمُ الزانية في صدر الإسلام أن تُحْبَس في البيت حتى تموت، وحكم الزاني أن يُؤذى، كما قال ابن عباس، فنُسخ الحكمان في حقهما.
واختلفوا في الناسخ:
فذهب جماعة من المفسِّرين إلى أنه نسخ بحديث عبادة بن الصامت،
وهو ما أخبرنا به الشيخان، شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي بدمشق، وأبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق الخازن (2) ببغداد، قال كل واحد منهما: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن
__________
(1) أخرجه الطبري (4/296)، وابن أبي حاتم (3/895-896)، والثعلبي (3/272).
(2) محمد بن سعيد بن أبي البقاء الموفق الخازن النيسابوري البغدادي، من رواة مسند الشافعي، كان من جلة الصوفية. توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة (سير أعلام النبلاء 23/124، وشذرات الذهب 5/226).(1/459)
محمد
المقدسي (1) ، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان الكَرْجي (2) ، أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري (3) ، أخبرنا أبو العباس الأصم (4) ، أخبرنا الربيع (5) ، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب (6) ، عن يونس (7) ، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذوا عني، خذوا عني،
__________
(1) طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي الرازي، أبو زرعة الشيباني. المحدث، تفرد بالكتب والأجزاء. توفي سنة ست وستين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/503، والشذرات 4/217).
(2) مكي بن منصور بن محمد بن علان، أبو الحسن الكرجي، المعروف بالسلار، كان جليل القدر نافذ الأمر محبوباً. توفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 19/71، والتقييد ص:451).
(3) تقدمت ترجمته (ص:259).
(4) محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل النيسابوري، أبو العباس الورَّاق، المعروف بالأصم، الإمام المحدث مسند العصر رحلة الوقت. توفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/452، وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/860).
(5) الربيع بن سليمان بن عبد الجبار، أبو محمد المرادي، المؤذن بجامع الفسطاط، صاحب الإمام الشافعي وناقل علمه. توفي سنة سبعين ومائتين (طبقات الشافعية للأسنوي 1/39، وسير أعلام النبلاء 12/587).
(6) عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفى، أبو محمد البصري، يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد الطويل. توفي سنة أربع وتسعين ومائة (سير أعلام النبلاء 9/237، والثقات 7/132).
(7) يونس بن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبدالله البصري، مولاهم، من صغار التابعين وفضلائهم. توفي سنة تسع وثلاثين ومائة (سير أعلام النبلاء 6/288، والثقات 7/647).(1/460)
قد جعل الله لهنَّ سبيلاً، البكْر بالبكْر جلد مائة وتغريب عام، والثيِّبُ بالثيِّب جلد مائة والرَّجم" (1) .
قال الشافعي (2) : وقد حدثني الثقة (3) : أن الحسن كان يُدخل بينه وبين عبادة، حطان الرقاشي (4) ، ولا أدري أدخله عبد الوهاب فزلَّ كتابي أو لا.
قلت: الحديث صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه (5) ، عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة.
وهذا القول ليس بسديد؛ لأن أخبارَ الآحاد لا تنسخ القرآن الثابت بالتواتر (6) .
وقد اختلفوا في خبر التواتر هل ينسخ القرآن؟
فذهب أكثر الفقهاء من الشافعية والحنابلة وأهل الظاهر إلى امتناع ذلك (7) .
قال الإمام أحمد: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده (8) .
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده (ص:164).
(2) مسند الشافعي (ص:164).
(3) هو: يحيى بن حسان.
(4) حطان بن عبد الله الرقاشي، بصري تابعي ثقة (معرفة الثقات 1/308، والجرح والتعديل 3/303).
(5) أخرجه مسلم (3/1316 ح1690) .
(6) البرهان للجويني (2/843)، والتبصرة للشيرازي (ص:140).
(7) انظر: الرسالة للشافعي (ص:108)، والبرهان للجويني (2/851)، والأحكام للآمدي (3/168)، والتبصرة (ص:264).
(8) انظر: العدة لأبي يعلى (2/681)، والتمهيد لأبي الخطاب (2/369).(1/461)
وإلى هذا أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت"، وكانت روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً يخالف ظاهر القرآن (1) .
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى جواز ذلك (2) .
والصحيح: أن حديث عبادة مبيِّن للسبيل لا ناسخ.
وقال قوم: المراد بقوله: { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } : البكران، ثم نُسِخَ بقوله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (3) [النور:2].
والذي يقتضيه البحث الصحيح: ظهور العموم في الثيِّب والأبكار، فنُسِخ في حق البكر بقوله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } ، ونُسِخ في حق الثيِّب بوحي رفع رسمه، وبقي حكمه.
وإلى هذا أشار عمر بن الخطاب بقوله على المنبر يوم الجمعة مع توافر المهاجرين والأنصار: "إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان
__________
(1) وهو حديث فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها طلاقاً بائناً، فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطالب زوجها بالنفقة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليس لكِ عليه نفقة" (أخرجه مسلم 2/1114 ح1480).
(2) انظر: اللمع للشيرازي (1/59)، والفصول في الأصول (2/321)، والأحكام للآمدي (3/159)، وروضة الناظر (ص:84).
(3) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:306) وما بعدها، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:68-69)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:262-263).(1/462)
مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على مَن زنا، إذا أُحصن من الرجال والنساء" (1) .
والذي يدُلُّك على أن هذا هو الصحيح، وأن الحبس والأذى كان حكماً للبكْر والثيِّب، قوله عليه السلام: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلاً..." (2) ، فبيَّن السبيل في حق البكْر والثيِّب، فدلَّ على أن الحكم المنسوخ كان متناولاً لهما.
فصل
وقد دلَّ قوله: { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } أن التوبة تُسقط ما كان واجباً عليهما بسبب الفاحشة، وهذا كان مخصوصاً بذلك الحكم وفرعاً عليه، فزال بزوال أصله.
وأما الحكم اليوم: فإن الزاني لا يسقط عنه الحد إذا وجب عليه بالتوبة على الصحيح، من أقاويل العلماء.
فصل
قال صاحب الكشاف (3) : يجوز أن تكون الآية غير منسوخة، بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوماً بالكتاب والسُّنَّة، ويوصي بإمساكهنَّ في البيوت بعد
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2503 ح6442)، ومسلم (3/1317 ح1691).
(2) سبق تخريجه (ص:451).
(3) الكشاف (1/518).(1/463)
أن يحددن، صيانة لهنَّ عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت [والتعرض للرجال] (1) ، { أو يجعل الله لهن سبيلاً } هو النكاح الذي يستعففن به عن السفاح.
قلت: وهذا قول ظاهر البطلان لوجهين:
أحدهما: أنه على خلاف ما عليه علماء التفسير من الصحابة فمن بعدهم.
الثاني: أنه فسَّر السبيل بالنكاح، وهذا مصادم لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة، فيكون مُطَّرَحاً؛ لمناقضته تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - .
$yJ¯Rخ) التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
__________
(1) زيادة من الكشاف (1/518).(1/464)
السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا اترب
قوله تعالى: { إنما التوبة على الله } أي: إنما قبول التوبة على الله، أو يكون المعنى: إنما التوبة المقبولة عند الله.
{ للذين يعملون السوء بجهالة } ليس المراد بالجهالة هاهنا عدم العلم بكون ما أتى به من المعصية ذنباً، فإن مَن كان بهذه المثابة معذور بسبب جهله.
وإنما المعنى: يعملون السوء جاهلين سفهاء، فيكون موضع قول: "بجَهَالَةٍ" النصب على الحال (1) .
قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته (2) .
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/332).
(2) أخرجه الطبري (4/298)، وابن أبي حاتم (3/897)، ومجاهد (ص:149)، والبيهقي في الشعب (5/400). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/459) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.(1/465)
وقال الزجاج (1) : آثروا العاجل بالآجل فَسُمُّوا جُهَّالاً.
{ ثم يتوبون من قريب } قال ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت (2) ، وذلك بمعاينة المَلَك.
وقد أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده، بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تُقْبَلُ تَوْبَةُ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بنَفَسِه" (3) .
{ فأولئك يتوب الله عليهم } وعدٌ من الله الكريم بقبول التوبة.
قوله: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } قال ابن عباس: يريد: الشرك (4) .
وقال أبو العالية (5) وسعيد بن جبير: النفاق (6) .
والأظهر في نظري: أنها سيئات المسلمين، لأن الكلامَ في الزانيين والإعراض عنهما. وهو قول سفيان الثوري (7) ، واحتج بقوله: { ولا الذين يموتون وهم كفار } .
__________
(1) معاني الزجاج (2/28).
(2) أخرجه الطبري (4/300)، وابن أبي حاتم (3/898).
(3) أخرجه أحمد (2/153 ح6408).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (3/901). وذكره الواحدي في الوسيط (2/27)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/38)، والسيوطي في الدر المنثور (2/461) وعزاه لابن جرير.
(5) رُفَيع بن مهران، أبو العالية الرِّياحي البصري، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، من كبار التابعين. توفي سنة تسعين (سير أعلام النبلاء 4/207، والإصابة 2/514).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم (3/900). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/38).
(7) أخرجه الطبري (4/303-304). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/38).(1/466)
قوله: { حتى إذا حضر أحدهم الموت } أي: نزل به سلطانه، وعاين الملائكة، { قال إني تبت الآن } فحينئذ لا تُقبل توبته، لأنه يصير مضطراً. والقبول يتوقف على الإيمان الاختياري، والتوبة الاختيارية.
وقد روي أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة، فإن مَلَك الموت يأتي بغتة (1) .
{ أولئك أعتدنا } قال أبو عبيدة (2) : أَفْعَلْنَا، مِنَ العَتاد.
وقيل: إن التاء بدل من الدال. والمعنى: هَيَّأْنا لهم { عذاباً أليماً } .
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (5/439). وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/516) وعزاه لعبد الله في زوائده والبيهقي.
(2) مجاز القرآن (1/120).(1/467)
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ(1/468)
سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا اثثب
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } قرأ حمزة والكسائي: "كُرْهاً" بضم الكاف، هنا وفي التوبة (1) ، والأحقاف (2) ، وفتحه الباقون، غير أن ابن ذكوان وعاصماً وافقاهما على الضم في الأحقاف خاصة (3) ، وهما لغتان مشهورتان كالفَقْر والفُقْر، الضَّعْف والضُّعْف.
وقد أخرج البخاري في صحيحه بإسناده عن ابن عباس في قوله: " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذهَبُوا ببَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } قَالَ: كَانُوا إِذا مَاتَ الرَّجُلُ، كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة" (4) .
قال السدي: إنما كان ذلك للأولياء، ما لم تسبق المرأة فتذهب إلى أهلها،
__________
(1) التوبة: 53، في قوله تعالى: { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } .
(2) الأحقاف: 15، في قوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } .
(3) الحجة للفارسي (2/73-74)، والحجة لابن زنجلة (ص:195-196)، والكشف (1/382)، والنشر (2/248)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:188)، والسبعة في القراءات (ص:229).
(4) أخرجه البخاري (4/1670 ح4303).(1/469)
فإن ذهبت فهي أحق بنفسها (1) .
فعلى هذا القول، المعنى: لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء، وهو قول جمهور العلماء والمفسِّرين.
وقد روي عن ابن عباس أيضاً، قال: كان يُلْقِي حميمُ الميت على الجارية ثوباً، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، فأنزل الله هذه الآية (2) .
فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوا أموال النساء كرهاً.
{ ولا تعضلوهن } نهيٌ للأزواج عن إمساك النساء على وجه الإضرار بهن، ليفتدين أنفسهن.
وإعراب "ولا تعضلوهن" النصب، أي: ولا أن تعضلوهن، أو الجزم على النهي (3) .
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة } قرأ ابن كثير وأبو بكر: "مبيَّنة" بفتح الياء، وكَسَرها الباقون (4) .
والفاحشة هي: النشوز، وسوء الخُلُق.
__________
(1) أخرجه الطبري (4/306)، وابن أبي حاتم (3/902). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/39).
(2) أخرجه الطبري (5/303)، وابن أبي حاتم (3/902).
(3) انظر: التبيان (1/172)، والدر المصون (2/334).
(4) الحجة للفارسي (2/74)، والحجة لابن زنجلة (ص:119)، والكشف (1/383) والنشر (2/248-249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:188)، والسبعة في القراءات (ص:229-230).(1/470)
وقيل: الزنا. فأيها وُجِد، فللزوج عضلها، والتضييق عليها حتى تفتدي.
{ وعاشروهن بالمعروف } أي: صاحبوهن بالنصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في المقال، والفعال.
{ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } قال ابن عباس: هو الولد يرزقه الله منها، فيجعل الله فيه خيراً كثيراً (1) .
قال: الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (2) : فقد ندبت الآية إلى إمساك الزوجة مع الكراهة، ونبّهت على معنيين:
أحدهما: أن الإنسانَ لا يعلم وجوه الصلاح، فرُبَّ مكروه عاد محموداً، ومحمودٍ عاد مذموماً.
والثاني: أن الإنسانَ لا يكاد يجد محبوباً، ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يحب، وأنشدوا في هذا المعنى:
ومَنْ لَمْ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يتَّبعْ جَاهِداً كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْها وَلاَ يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ (3)
قوله تعالى: { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } أي: امرأة مكان امرأة، { وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا } : سبق بيانه في أوائل آل
__________
(1) أخرجه الطبري (4/313)، وابن أبي حاتم (3/905). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/465) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) زاد المسير (2/42).
(3) انظر البيتين في: البحر المحيط (3/214).(1/)
عمران (1) ، { فلا تأخذوا منه } أي: من القنطار { شيئاً } .
وإنما خص حال الاستبدال بالنهي، لئلا يُتوهم جواز الاسترجاع فيما بذل في مقابلة الأبضاع، عند انقطاع الانتفاع، وهذا في حق المدخول بها، والتي خلا بها تتنزل منزلة المدخول بها، في تكميل المهر وإيجاب العِدَّة، قضى به الخلفاء الراشدون الأربعة، وذهب إليه الأئمة الأربعة، خَلا الشافعي في قوله الجديد (2) .
وفي هذا دليلٌ على جواز استكثار الصَّداق.
وقد روي: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام خطيباً، فقال: أيها الناس! لا تغالوا بصُدُقِ النساء، فلو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين؛ لِمَ تمنعنا حقاً جعله الله لنا، والله يقول: { وآتيتم إحداهن قنطاراً } ، فقال عمر: كلُّ أحدٍ أعلم من عمر (3) .
قولُه تعالى: { أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً } "البُهتان": الباطل الذي يُبْهَت منه، وهو مصدر في موضع الحال (4) .
__________
(1) ... عند تفسير الآية رقم: 14.
(2) انظر: الهداية (1/206)، وبداية المجتهد (2/26)، والمغني (7/191).
(3) أخرجه أبو داود (2/235 ح2106)، والترمذي (3/422 ح1114)، والنسائي (6/117-119).
(4) انظر: التبيان (1/173)، والدر المصون (2/338).(1/472)
و"المُبين": الظاهر.
{ وكيف تأخذونه } استفهام في معنى التعجب والإنكار.
{ وقد أفضى } أي: وصل { بعضكم إلى بعض } ولابسه.
وقال الفرَّاء (1) : هو الخلوة.
{ وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } قال ابن عباس: هو الميثاق الذي أخذه الله للنساء على الرجال من الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان (2) .
وقال الربيع: هو أمانة الله (3) .
قال - صلى الله عليه وسلم - : "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (4) .
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، من حديث صهيب بن سنان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أَيُّمَا رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً صَدَاقاً، وَالله يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَدَاءَهُ إِلَيْهَا، فَغَرَّهَا بالله، وَاسْتَحَلَّ فَرْجَهَا بالبَاطِلِ، لَقِيَ الله يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ زَانٍ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ ادَّانَ مِنْ رَجُلٍ دَيْناً، وَالله يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُرِيدُ أَدَاءَهُ إِلَيْهِ، فَغَرَّهُ بالله، وَاسْتَحَلَّ مَالَهُ بالبَاطِلِ، لَقِيَ الله يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ سَارِق" (5) .
__________
(1) معاني الفراء (1/259).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/464). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/467) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر. وهو اختيار الطبري (4/316).
(3) أخرجه الطبري (4/316). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/44).
(4) أخرجه مسلم (2/889 ح1218).
(5) أخرجه أحمد (4/332).(1/473)
قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } (1) نزلت ناهيةً عما كانوا يفعلونه من نكاح الأبناء حلائل الآباء، وذهب به مذهب الجنس ثم فسره بـ"مِن".
وسواء في التحريم من دخل بها الأب أو لم يدخل بها إذا عقد عليها.
وقال القاضي أبو يعلى (2) : قد يُطلق النكاح على العقد، قال الله تعالى: { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلَّقتموهن من قبل أن تمسوهن } [الأحزاب:49]، وهو حقيقةٌ في الوطء مجاز في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحاً لأنه سبب إليه.
قوله تعالى: { إلا ما قد سلف } قال الأخفش (3) : المعنى: فإنكم تُعذَّبون به، إلا ما قد سَلَف فإن الله وضعه عنكم.
وقال قطرب (4) : لكن ما قد سَلَف فدعوه.
قال الزمخشري (5) : إن قلت: كيف استثنى: "ما قد سلف" من "ما نكح آباؤكم"؟
قلت: كما استثنى "غير أن سيوفهم" من قوله:
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثالث عشر، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس السابع والعشرين، مرة ثانية.
(2) انظر: زاد المسير (2/44).
(3) انظر: معاني الأخفش (ص:155).
(4) انظر: زاد المسير (2/45).
(5) الكشاف (1/525).(1/474)
ولا عيب فيهم ......... ... ... ..................... (1)
يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن.
والغرض: المبالغة في تحريمه، وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلَّق بالمحال في التأبيد في نحو قولهم: حتى يَبْيَضّ القار، وحتى يلج الجمل في سَمّ الخياط.
وقال بعض أهل المعاني: "إلا" بمعنى الواو، فالتقدير: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح حلائل الآباء ولا تبتدأوا نكاحهن. ومنه قول الشاعر:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... ... لَعَمْرُ أَبيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ (2)
أي: والفرقدان أيضاً.
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني. وتمامه:
... ... ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب
... انظر: ديوانه: (ص:11)، والخزانة (3/327)، والهمع (1/232)، ومعاهد التنصيص (3/107)، والبحر المحيط (6/191)، والدر المصون (2/339، 4/514)، وروح المعاني (16/112).
(2) البيت لعمرو بن معد يكرب، وقيل: لسوار بن المضرب، وقيل: لحضرمي بن عامر. انظر: ديوانه (ص:178)، والكتاب لسيبويه (2/334)، وخزانة الأدب (3/421)، والإنصاف (1/268)، وجمهرة أشعار العرب للقرشي (ص:5)، ومعاني الأخفش (ص:91)، والأشباه والنظائر (8/180)، وشرح الأشموني (1/234)، وشرح المفصل (2/89)، ومغني اللبيب (1/72)، والمقتضب (4/409).
... والشاهد في البيت: وصف "كل" بقوله: "إلا الفرقدان" أي: غير الفرقدين.(1/475)
وعدل ابن جرير الطبري بها عن ظاهرها، فقال (1) : المعنى: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } أي: مثل ما نكحوا في الجاهلية على الوجه الفاسد الذي لا يجوز مثله في الإسلام، إلا ما قد سلف في جاهليتكم من نكاح، لا يجوز ابتداؤه في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه. وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، يريد: مثل ما فعلت.
{ إنه كان فاحشةً ومقتاً } يعني: نكاح حلائل الآباء.
والمَقْت هو: أشد البُغْض، فالمعنى: إن هذا النكاح يوجب المقت لفاعله عند الله.
وقال الزجاج (2) : كانوا يُسَمُّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية مَقْتاً، ويُسَمُّون الولد منه: المَقْتِيُّ، فأُعلموا أن هذا الذي حُرِّم عليهم لم يزل منكراً عندهم ممقوتاً.
{ وساء سبيلاً } أي: قَبُحَ هذا الفعل طريقاً.
ôMtBجhچمm عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
__________
(1) تفسير الطبري (4/318-319).
(2) معاني الزجاج (2/32).(1/476)
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ ِNن3ح !$|،خS وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح !$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ مNà6ح !$oYِ/r& الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِن اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا اثجب(1/477)
قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم } قال الزجاج (1) : الأصل في أُمَّهَاتٍ: أُمَّاتٌ، ولكن الهاء زيدت مؤكدة، كما زادوا هاء في: أَهْرَقْتُ الماء، وإنما أصله: أَرَقْتُ.
وقيل: الأصل في أُمّ: أُمَّهَة. قال قصي بن كلاب:
........................ ... ... أُمَّهَتِي خِنْدِفُ وَإِليَاسُ أَبي (2)
والمراد: تحريم نكاحهن، لأنه المتبادر إلى الأفهام عند الإطلاق خصوصاً، وقد احتفت به قرائن في سباق الآية وسياقها، ومن له أنسٌ بعُرف اللغة يعلم أنهم يريدون بقوله: { حرمت عليكم الميتة } [المائدة:3]: أكلها، وحُرِّم الطعام، أي: أكله، دون لمسه [وتقليبه] (3) وحُرِّمت عليكم الجارية، أي: وطؤها، فيذهبون في تحريم كل عَيْن إلى ما هي مُعدَّة له.
وذهب جماعة من الأصوليين إلى أنها مجملة؛ لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم حقيقة، وإنما يحرم فعلٌ يتعلق بها، فلا يدرى ما ذلك الفعل في الأمهات مثلاً، أو في الميتة، هل هو نظر أو لمس أو وطئ؟ وقد أشرنا إلى إبطال هذا من الوجه الذي ذكرناه.
ولأن المجملَ: ما تَرَدَّدَ بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر،
__________
(1) معاني الزجاج (3/214).
(2) عجز بيت لقصي بن كلاب، وصدره: (عَبْدٌ يُنَادِيهِمْ بهَالٍ وَهَبي). انظر: اللسان، مادة: (أمم، أمه)، والمحتسب (2/234)، والهمع (1/23)، وشرح المفصل لابن يعيش (10/3)، والخزانة (3/306)، والقرطبي (5/107)، والدر المصون (2/341)، والأمالي لأبي علي القالي (2/301)، وروح المعاني (14/200).
(3) في الأصل: وتقبيله. وقد صححت في الهامش إلى: وتقليبه.(1/478)
كالألفاظ المشتركة، كالقُرء للحيض والطُهْر، والشفق للبياض والحُمرة، واعتقاد الإجمال في هذه الآية بالمعنى المذكور المحدود فرية بلا مرية.
وأمهاتُ الرجل: النساء اللاتي يُنسب إليهن بجهة الولاد، من الذكور والإناث؛ كأم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وأم أبي الأب.
وبناتُه: كل أنثى ترجع إليه بالولادة من جهة الذكور والإناث؛ كبنت البنت، وبنت الابن، وبنت ابن البنت، وأخواته من جميع الجهات محرَّمات عليه، والعمَّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت على نحو ما ذكرناه من الانتساب بجهة الذكور، والإناث، فهؤلاء المحرَّمات بالنسب.
ثم إن الله ذكر المحرَّمات بالسبب فقال: { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } .
اتفق العلماء على أن الرضاع ينعقد سبباً لتحريم النكاح لهذه الآية ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَب" (1) .
وهذا الضابط لا ينخرم إلا في مسألتين:
إحداهما: يحرم على الرجل أختُ ابنه من النسب؛ لأنها بنت حليلته التي دخل بها، ولا تحرم عليه من الرضاع.
المسألة الثانية: تحرم عليه أمُّ أخيه من النسب، لأنها موطوءة أبيه، ولا تحرم عليه من الرضاع.
__________
(1) أخرجه البخاري (2/935 ح2502)، ومسلم (2/1071 ح1447).(1/479)
فصل
اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رضي الله عنه في مقدار الرضاع المحرّم، فنقل عنه حنبل (1) : أنها رضعة واحدة، وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، والنخعي، والزهري، والثوري، وأبي حنيفة (2) ، ومالك (3) لعموم الأدلة.
ونقل عنه محمد بن العباس: أنه ثلاثُ رضعات، لما أخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرِّم المَصَّةُ ولا المَصَّتَانِ" (4) ، فمدلوله تحريم ما فوقهما.
ونقل عنه أبو الحارث (5) : أنه خمسُ رضعات متفرقات. وهو المنصور في المذهب (6) ، وبه قال الشافعي (7) رضي الله عنه؛ لما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عائشة، قالت: "أُنْزِلَ في القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ
__________
(1) حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه. من حفاظ الحديث. له عن أحمد سؤالات يأتي فيها بغرائب ويخالف رفاقه. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين (طبقات الحنابلة 1/143، وطبقات الحفاظ ص:272).
(2) انظر: الهداية (1/223).
(3) انظر: التمهيد (8/265).
(4) أخرجه مسلم (2/1073 ح1450).
(5) أحمد بن محمد، أبو الحارث الصائغ. كان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه، وكان عنده بموضع جليل (طبقات الحنابلة 1/74).
(6) المغني (8/137)، والإقناع (4/126)، والمنتهى (2/362).
(7) مغني المحتاج (3/425)، والمنهاج (ص:117).(1/480)
يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخَ مِنْ ذلِكَ خَمْس، وَصَارَ إلى خَمْس رَضَعَات يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفي رَسُولُ الله والأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ" (1) .
وهذا الحديث أدلُّ من الذي قبله، لأن هذا دَلَّ بمنطوقه، ودَلَّ ذاك بمفهومه.
قوله تعالى: { وأمهاتُ نسائكم } ذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء إلى تحريم أمهات النساء بمجرد العقد.
ونُقل عن علي رضي الله عنه، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير: أنه يتوقف تحريم نكاحهن على الدخول ببناتهن (2) .
وكان ابن عباس يقرأ: "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، ويقول: والله ما أُنزلت إلا هكذا (3) .
والذي يُثبت كونه قرآناً، ما نُقِل على لسان التواتر. وذلك مبهم في أُمهات النساء.
قال مسروق (4) : هي مرسلة، فأرسلوا ما أرسل الله (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم (2/1075 ح1452).
(2) المغني (7/85)، والطبري (4/321).
(3) أخرجه عبد الرزاق (6/274)، والطبري (4/322). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/473) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير.
(4) مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة الكوفي، فقيه، من كبار التابعين، توفي سنة اثنتين وستين (سير أعلام النبلاء 4/63، والتقريب ص:528).
(5) أخرجه عبد الرزاق (6/274)، وابن أبي شيبة (3/484)، والبيهقي في الكبرى (7/160). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/473) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي.(1/481)
وسواءٌ في التحريم أمهات النساء من النسب والرضاع.
قوله: { وربائبكم } وهنَّ بنات الزوجات، وذكرُ الحجور خارجٌ مخرج الغالب، لا مخرج الشرط في تحريمهن، حتى لو كانت ربيبته في بلدة أخرى لم يرها، ولم يحضنها في حجره، فإنها تحرم عليه، إلا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه شرط في تحريم الربائب كونهن في الحجور (1) ، وبه قال داود (2) .
قوله: { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } متعلق بـ"ربائبكم"، ومعناه: أن الربيبة من المرأة المدخول بها، مُحرَّمة على الرجل، حلال له إذا لم يدخل بها.
قال صاحب الكشاف (3) : فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله: "وأمهات نسائكم"؟
قلت: لا يخلو إما أن يتعلق بهن وبالربائب، فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مُبهمتين جميعاً. وإما أن يتعلق بهن دون الربائب، فتكون حرمتهن غير مبهمة، وحرمة الربائب مبهمة.
فلا يجوز الأول؛ لأن معنى "مِنْ"، مع أحد المتعلقين خلاف معناه مع
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (6/278-279)، وابن أبي حاتم (3/912).
(2) انظر: المحلى (9/531)، والمغني (7/85).
(3) الكشاف (1/526-528).(1/482)
الآخر. ألا تراك إذا قلت: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فقد جعلت "مِنْ" لبيان النساء، وتمييز المدخول بهن [من غير المدخول بهن] (1) ، وإذا قلت: وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإنك جاعل "مِنْ" لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة، وليس بصحيح أن يعني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان.
ولا يجوز الثاني؛ لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به.
فإن قلت: ما فائدة قوله: "في حجوركم"؟
قلتُ: فائدة التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج، وثبتت الخُلطة والألفة، وجعل الله بينكم المودّة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا أولادهن مجرى أولادكم.
فإن قلت: ما معنى: "دخلتم بهن"؟
قلت: هي كناية عن الجماع؛ كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب، يعني: أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية. واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول [عند أبي حنيفة] (2) .
وعن عمر رضي الله عنه: أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له، فقال: إنها لا تحل لك.
__________
(1) زيادة من الكشاف (1/526).
(2) زيادة من الكشاف (1/528).(1/483)
وعن مسروق: أنه أمر أن تباع جاريته [بعد موته] (1) ، وقال: أما إني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر.
وهذا مذهب الحسن البصري، وعطاء، وحماد، والأوزاعي، وأبي حنيفة (2) ، وأحمد.
وذهب ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار إلى أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده، وهو مذهب الشافعي.
قوله: { وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابكم } ، الحلائل: الزوجات، اشتقاقهن من الحل أو من الحلول، كأنها تحل مع الزوج أين حَلّ.
وفي قوله: "من أصلابكم" بيان لحل زوجات الأدعياء. وقد تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش امرأة دعيِّه زيد بن حارثة.
{ وأن تجمعوا } في موضع رفع (3) ، أي: وحرّم الجمع { بين الأختين } ، وحكم الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين كالنكاح، في مذهب الأئمة الأربعة، وأكثر العلماء.
وقد روي عن أمير المؤمنين عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرّمتهما آية (4) ، يشيران إلى هذه الآية، وإلى قوله: { أو ما
__________
(1) مثل السابق.
(2) انظر: مصنف عبد الرزاق (6/277)، والطبري (4/322-323).
(3) انظر: التبيان (1/174)، والدر المصون (2/343).
(4) أثر عثمان أخرجه مالك في الموطأ (2/538)، والبيهقي في الكبرى (7/163)، وابن أبي شيبة (3/483). وأما أثر علي فأخرجه ابن أبي شيبة (3/483)، والدارقطني في سننه (3/281). ...(1/484)
ملكت أيمانكم } [النساء:3] فرجَّح عثمان التحليل، وعَلِيّ التحريم (1) .
والقول على قوله: "إلا ما قد سلف" كما قد سلف، إلا أن قول ابن جرير ثَمَّ لا يصلح هاهنا.
{ إن الله كان غفوراً رحيماً } رحمكم وغفر لكم ما كان منكم قبل التحريم.
* وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (ص:41): أما عثمان فلم أجد عنه التصريح بالتحليل، وإنما توقف، وأما علي ففي رواية الموطأ (2/538): " فخرج من عنده -يعني عثمان- فلقي رجلاً من الصحابة -قال الزهري: أُرَاه علياً- فسأله، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً".(1/485)
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا اثحب
قوله تعالى: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } (1) سبب نزولها: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبى أهل أوطاس (2) ، قيل له: يا رسول الله؛ كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن؟ فنزلت هذه الآية، ونادى منادي رسول الله: ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تُسْتبرأ بحيضة" (3) .
واتفق القرّاءُ السبعة على فتح الصاد من "المحصَنات" هنا، وكسرها الكسائي فيما عدا هذا الموضع من "المحصنات" و"مُحصِنَات"، من أَحْصَنَّ أنفسهن بالعفاف، فهن مُحْصِنات.
ومَنْ فتح الصاد، أجرى الفعل على ما لم يُسمَّ فاعله، أي: أحصنهن
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثامن والعشرين، مرة ثانية.
(2) أوطاس: وادٍ في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين بين مكة والطائف (معجم البلدان 1/281).
(3) أخرجه مسلم (2/1080 ح1456).(1/486)
غيرهن من زوج أو ولي. ولذلك فتح الكسائي الصاد هاهنا، لأن الآية نزلت في تحريم ذوات الأزواج (1) .
وأصلُ الإِحْصَان: المَنْع، ومنه: الحِصْن، والحِصان، ويُطلق على ذوات الأزواج، والعَفَائِف، والحرائر، وكل ذلك مذكور في تفسير "المحصَنات" هاهنا.
فإن كان المراد: ذوات الأزواج -وهو الأظهر في التأويل لما ذكرناه من سبب التنزيل- فيكون المعنى: وحُرِّمت عليكم المحصنات إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب فإنهن بعد الوضع إن كنّ حوامل، أو بعد الاستبراء إن كن حوائل، وإن لم يُطلَّقن لاختلاف الدار، وإلى هذا المعنى نظر الفرزدق في قوله:
وَذاتُ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْها رِمَاحُنَا ... حَلالٌ لِمَنْ يَبْنِي بها لَمْ تُطَلَّقِ (2)
فإن اشترى أَمَة محصنة بزوج، ففي انقطاع النكاح بذلك اختلافٌ بين الصحابة. والصحيحُ المشهور: أنه لا ينقطع.
وإن كان المراد: العفائف، فالمعنى: هنَّ حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم منهن بالنكاح أو غيره.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/75)، والحجة لابن زنجلة (ص:196-197)، والكشف (1/384)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:188)، والسبعة في القراءات (ص:230).
(2) البيت للفرزدق . انظر : ديوانه (ص:398)، والبحر المحيط (3/222)، والدر المصون (2/345).(1/487)
وإن كان المراد: الحرائر، فالمعنى: وحُرِّمت عليكم الحرائر بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم فإنهن غير محصورات بعدد.
قوله تعالى: { كتاب الله عليكم } قال الزجاج (1) : هو مصدر مؤكد، أي: كتب الله عليكم كتاباً.
وقال نحاة الكوفة: هو منصوب على الإغراء بـ"عليكم". وفيه ضعف؛ لأن ما انتصب بالإغراء لا يتقدم على ما قام مقام الفعل (2) .
قوله: { وأَحَلَّ لكم } عطفه على الفعل المضمر الذي نَصَبَ "كتاب الله" تقديره: كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم.
وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر: "وأُحِلَّ لكم" بضم الهمزة وكسر الحاء، عطفاً على قوله: "حُرِّمت عليكم" (3) .
{ ما وراء ذلكم } أي: ما بعد هذه الأشياء المحرَّمة.
وعمومُ التحليل مخصوص بالسُّنَّة، فإنها حرّمت الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها (4) .
__________
(1) معاني الزجاج (2/36).
(2) انظر: التبيان (1/175)، والدر المصون (2/345).
(3) الحجة للفارسي (2/77)، والحجة لابن زنجلة (ص:168)، والكشف (1/385)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:188-189)، والسبعة في القراءات (ص:230-231).
(4) أخرجه البخاري (5/1965)، ومسلم (2/1028) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" . ولهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ولفظه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها".(1/488)
{ أن تبتغوا } في موضع نصب، أو رفع على البدل من "ما" على حسب اختلاف القراءتين في "وَأُحِلَّ لَكُمْ" (1) .
{ أن تبتغوا بأموالكم } إما نكاحاً بالصداق، وإما شراءً بالثمن.
وقيل: هو مفعول له (2) ، بتقدير: بيّن لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن تبتغوا بأموالكم.
{ محصنين } عاقدين للتزويج، أو متعففين.
{ غير مسافحينَ } أي: زانين، وسُمِّيَ الزنا سفاحاً؛ لسفح الماء ضائعاً، لا في نكاح، ولا مِلْك.
وهما حالان من المضمر في "تَبْتَغُوا" (3) .
قوله: { فما استمتعتم به منهن } الضمير في "به" راجع إلى لفظ "ما"، والمعنى: فما تَلَذَّذْتُم وانتفعتم من النساء بالنكاح الصحيح.
{ فآتوهن أجورهن } أي: أعطوهن مهورهن، { فريضةً } حال، أو مصدر في موضع الحال (4) .
{ ولا جناح عليكم } أي: لا إثم عليكم { فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } من وفاق أو افتراق، أو زيادة أو نقصان في الصداق.
__________
(1) انظر: التبيان (1/175)، والدر المصون (2/346).
(2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/529).
(3) انظر: التبيان (1/175)، والدر المصون (2/347).
(4) مثل السابق.(1/489)
فصل
قد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية نزلت في المتعة وإباحتها ثم نُسِخت بعد (1) .
والصحيح: أنها محكمة، وأن المتعة إنما أبيحت بالسُّنَّة، ثم نُسِخت بالسُّنَّة، والأحاديث الناسخة لإباحتها مخرجة في الصحيحين (2) .
وقد روي أن ابن عباس: كان يفتي بإباحتها، ويقرأ: "فما استمتعتم به منهن إلى أجلٍ مسمى" (3) ، فرجع عن ذلك عند موته، وقال: اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف (4) .
`tBur لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
__________
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:325)، ومكي بن أبي طالب (ص:221)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:269).
(2) أخرجه البخاري (5/1966 ح4825)، ومسلم (2/1022 ح1407).
(3) المصاحف لابن أبي داود (ص:87).
(4) أما رجوعه عن المتعة؛ فرواه الترمذي (3/430 ح1122). وأما رجوعه عن الصرف؛ فرواه ابن ماجه (2/759 ح2258).(1/490)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اثخب
قوله تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولاً } أي: فضلاً وسعة، { أن ينكح(1/491)
المؤمنات } يريد: الحرائر المؤمنات، { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المئؤمنات } أي: من إمائكم المؤمنات، واحدتهن: فتاة، والعبد: فتى، وقد يُطلق الفتى على الحُرّ أيضاً، فيقال للجارية الشابة: فتاة، وللغلام: فتى، والكامل من الرجال: فتى، وإن لم يكن شاباً.
قال النابغة الجعدي (1) :
فَتىً تَمَّ فيهِ مَا يَسُرُّ صَدِيقَهُ ... عَلَى أَنَّ فيهِ مَا يَسُوءُ الأَعَادِيَا
فَتىً كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ غَيْرَ أَنَّهُ ... جَوادٌ فَمَا يُبْقِي مِنَ المَالِ بَاقِيَا (2)
فصل
ذهب الإمامان أحمد والشافعي إلى أن القادر على طَوْل الحُرّة لا يجوز له نكاح الأَمَة، لما يستلزم من استرقاق الولد تبعاً للأم.
وقال أبو حنيفة: يجوز له ذلك.
فأما العاجز عن طَوْل الحُرَّة فيُباح له نكاح الأَمَة المؤمنة للآية، وهو مذهب الأكثرين.
وقال أبو حنيفة وبعض فقهاء العراق: لا يُشترط كونها مؤمنة، وحملوا
__________
(1) قيس بن عبد الله بن عدس الجعدي العامري، أبو ليلى، شاعر زمانه، صحابي من المعمرين، وأنشد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسمي النابعة لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله (سير أعلام النبلاء 3/177، والأعلام 5/207).
(2) البيتان للنابغة الجعدي من قصيدة يرثي فيها أخاه وَحْوَح. انظر: ديوانه (ص:174-175)، والخزانة (3/336)، وهو في ديوان النابغة الذبياني (ص:127). وانظر البيت الثاني في: اللسان، مادة: (وحح).(1/492)
الآية على الفضيلة والاستحباب، ألا تراه قال في أول الآية: "المحصنات المؤمنات"، فوصف الحرائر بالإيمان، وليس بشرط في جواز نكاح الحرائر بالإجماع (1) .
{ والله أعلم بإيمانكم } أعْلَمَ أنه لما كان نكاح الأَمَة مُقيَّداً بإيمانها إما إيجاباً أو استحباباً على اختلاف المذهبين، وكان مجردُ الاعتراف بالإيمان كافياً في ترتيب الأحكام الدنيوية عليه بالإجماع أشار بقوله: { والله أعلم بإيمانكم } إلى أن الجزاء على ما أضمره الجَنَان، لا على ما أظهره اللسان.
وفي قوله: { بعضكم من بعض } تأنيس لذوي النفرة عن نكاح الإماء تَشَرُّفاً وتَعَظُّماً عليهن، حيث ذكَّرهم الله ما بينهم من الاشتراك في السبب والاشتباك في النسب.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بالتقوى" (2) .
قوله: { فانكحوهن بإذن أهلهن } أي: بإذن سادتهنّ، { وآتوهن أجورهن } أي: مُهورهن { بالمعروف } من غير مماطلة وممانعة.
والأمر بإعطائهن المهور لا ينافي كونها مملوكة لمواليهن، وأضيفت المهور إليهن؛ لأنها من كسبهن.
__________
(1) الهداية (1/194)، والروضة (7/129)، والمغني (7/104).
(2) أخرجه أحمد (4/145).
... ومعنى "طَفُّ الصَّاع"، أي: قريب بعضكم من بعض، لأن طف الصاع قريب من ملئه (تهذيب اللغة، مادة: طف).(1/493)
وقيل: هو على حذف المضاف، تقديره: فآتوا مواليهن أجورهن.
قوله: { محصنات غير مسافحات } حالان من الضمير المنصوب في "فَانْكِحُوهُنَّ" على معنى: تزوجوهن عفائف غير زَوانٍ (1) .
{ ولا متخذات أخدان } وهو جمع خِدْن، وهو الصَّديق، وكانت الواحدة منهن تأخذ لها خَدْناً، تُزانِيهِ سِرّاً، ولا يعتقدونه حراماً، فالمعنى: غير مجاهرات بالزنا، ولا مُسِرّات به.
وقوله: { فإذا أُحْصِنَّ } أي: زُوِّجن -يعني: الفتيات-.
وقرأ أهل الكوفة إلا حفصاً: "أَحْصَنَّ" (2) ، بفتح الهمزة والصاد.
وقال ابن جرير (3) : أَسْلَمْنَ.
وقيل: أُحْصِنَّ بالتزويج.
{ فإن أَتَيْنَ بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } أي: نصف ما على الحرائر البالغات العاقلات الأبكار، "من العذاب" وهو الجَلْد؛ لأن القتل لا يتنصف، فيجب على الأَمَة إذا أتت بالفاحشة وهي الزنا؛ خمسون جلدة.
قوله: { ذلك } إشارة إلى نكاح الفتيات عند عدم الطَوْل، { لمن خشي العَنَتَ منكم } ، أي: خاف الزنا بسبب ما عنده من الغُلْمَة وشدة الشبق، فأباح
__________
(1) انظر: التبيان (1/176)، والدر المصون (2/350).
(2) الحجة للفارسي (2/77)، والحجة لابن زنجلة (ص:198)، والكشف (1/385)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والسبعة في القراءات (ص:231).
(3) تفسير الطبري (5/21).(1/494)
الله نكاح الإماء شرطين:
أحدهما: عدم طَوْل الحرة.
والثاني: خوف الزنا.
قال الخرقي رحمه الله (1) : وله أن ينكح من الإماء أربعاً، إذا كان الشرطان فيه قائمين.
ونص عليه إمامنا أحمد رضي الله عنه، في إحدى الروايتين.
والرواية الأخرى (2) : ليس له أن يتزوج إلا أَمَة واحدة، لأن خوف العَنَت يزول بها، فيختل أحد شرطي الحِلّ، فينتفي الحِلّ.
{ وأن تصبروا } يعني: عن نكاح الفتيات تعففاً، { خير لكم } من التسبب إلى استرقاق أولادكم.
ك‰ƒجچمƒ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
__________
(1) مختصر الخرقي (ص:85).
(2) انظر: المغني (7/106).(1/495)
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا اثرب
قوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم } قال الزمخشري (1) : أصله: أن يُبين، فزيدت اللام للتوكيد، كما زيدت في "[لا] (2) أبا لك" لتأكيد إضافة الأب.
وقال الزجاج (3) : قال الكوفيون: معنى اللام هاهنا معنى "أَنْ"، وهذا غلط أن تكون لام الخفض تقوم مقام "أَنْ" وتؤدي معناها، لأن ما كان في معنى "أن" إذا دخلت عليه اللام تقول: جئتك كي تفعل كذا وكذا، وجئتك لكي تفعل كذا وكذا، فاللام في قوله: "يريد الله ليبين لكم" كاللام في: "كَيْ".
أنشد محمد بن يزيد (4) :
أَرَدْتُ لِكَيْما يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّها ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالوُفُودُ شُهودُ (5)
__________
(1) الكشاف (1/533).
(2) زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(3) معاني الزجاج (2/42-43).
(4) هو محمد بن يزيد بن الأزدي، أبو العباس، المبرد، صاحب الكامل. كان إماماً علاّمة فصيحاً مفوهاً، صاحب نوادر وطرف. توفي في أول سنة ست وثمانين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/576-577).
(5) البيت لقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري. كان ملك الروم قد أرسل إلى معاوية رجلاً طويلاً مسرف الطول، يتحداه أن يكون لديه مثله، فأرسل معاوية إلى قيس، فخلع قيس سراويله وقال للرومي ألبسه، فلبسه فبلغ ثدييه، وضحك منه الناس، ولام قيساً قومه في خلع سراويله، فأنشد هذا الشعر. انظر القصة والشعر كاملاً في الكامل للمبرد 1/318 ط التجارية. وانظر البيت في: اللسان، مادة: (سرل)، والقرطبي (5/148)، وسير أعلام النبلاء (3/102-112).(1/496)
فأدخل هذه اللام على "كي"، ولو كانت بمعنى "أَنْ" لم يدخل اللام عليها.
والمعنى: يريد الله ليبين لكم شرائع دينكم، ومصالح دنياكم.
{ ويهديكم سنن الذين من قبلكم } من الأنبياء والأولياء، لتهتدوا بأنوارهم، وتقتدوا بآثارهم، { ويتوب عليكم } أي: يرشدكم إلى ما يكون سبباً لتوبتكم من أعمال الطاعات، ويُرجعكم عما كنتم فيه قبل هذا من السيئات.
{ والله عليم } بما يصلحكم، { حكيم } في تدبيره فيكم.
{ والله يريد أن يتوب عليكم } أي: أن تفعلوا فعلاً يتوب به عليكم، ويُكفِّر عنكم تلك الآثام والفواحش.
{ ويريد الذين يتبعون الشهوات } وهم الكَفَرة والفَجَرة، { أن تميلوا } عن الحق الذي جاءكم به نبي الرحمة، { ميلاً عظيماً } فالمجوس يدعونكم إلى ما يستحلونه من نكاح ذوات المحارم، ويجادلونكم في ذلك، واليهود والنصارى يدعونكم إلى ضلالهم، وأهل الفجور إلى شهواتهم.
{ يريد الله أن يخفف عنكم } أي: يُيَسِّرَ عليكم، فلذلك أرسل إليكم محمداً بالحنيفية السهلة السمحة، وأباح لكم نكاح الإماء عند عدم الطَوْل إلى الحرائر(1/497)
من النساء.
{ وخُلِق الإنسان ضعيفاً } قال ابن عباس وجمهور المفسِّرين: لا يصبر عن النساء، وعلى مشاق الطاعات (1) .
قال سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتاهم من قِبَل النساء، فقد أتى عليَّ ثمانون سنة، وذهبت إحدى عَينيّ، وأنا أعشو بالأخرى، وإنَّ أخوفَ ما أخاف عليّ فتنة النساء (2) .
وقال معاذ بن جبل: أخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسوَّرن الذهب، ولَبسْنَ رياط الشام، وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلَّفن الفقير ما لا يجد (3) .
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا تَرَكْتُ في النَّاسِ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاء" (4) .
وقال الحسن في قوله: { وخُلِق الإنسان ضعيفاً } قال: هو خَلْقُهُ من مَاءٍ
__________
(1) ... أخرجه الطبري (5/30)، وابن أبي حاتم (3/926) كلاهما عن طاووس. وذكره الواحدي في الوسيط (2/38)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/60) من قول طاووس ومقاتل، والسيوطي في الدر (2/494) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن طاووس.
(2) أخرجه الثعلبي (3/291).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (7/466)، وأبو نعيم في الحلية (1/236-237)، والبيهقي في الشعب (7/373).
(4) أخرجه البخاري (5/1959 ح4808)، ومسلم (4/2097-2098 ح2740).(1/498)
مهين (1) .
وقال الزجاج (2) : ضعيف العزم عن قهر الهوى.
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا tچح !$t6ں2 مَا تُنْهَوْنَ
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/291). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/60).
(2) في معاني الزجاج (2/44) قال: "ضعيفاً" أي: يستميله هواه. وانظر: زاد المسير (2/60).(1/499)
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا اجتب
قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة } قرأ أهل الكوفة: "تجارةً" بالنصب، والباقون: بالرفع (1) ، وتعليلهما ما أسلفناه في آية الدَّيْن (2) .
فصل
أخرج أبو داود في سننه بإسناده، عن ابن عباس قال: "كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِن النَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِلِ } فَنُسِخَ ذلِكَ بالآيَة الأخرى الَّتي في النُّورِ: فقَالَ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ" (3) " (4) .
وهذا عند الفقهاء ليس من باب الناسخ والمنسوخ كما قررناه فيما مضى.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/78)، والحجة لابن زنجلة (ص:199)، والكشف (1/386)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والسبعة في القراءات (ص:231).
(2) في سورة البقرة، عند الآية رقم: 282.
(3) كذا في الأصل وسنن أبي داود، وصواب الآية في سورة النور: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ... الآية } [النور:61].
(4) أخرجه أبو داود (3/343 ح3753). وانظر دعوى النسخ في: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:72-73)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:33-34)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:271-273).(1/500)
قوله: { ولا تقتلوا أنفسكم } قال ابن عباس: لا يقتل بعضكم بعضاً (1) ، وهذا مثل قوله: { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } [البقرة:54].
وقيل: هو على ظاهره، نهاهم سبحانه وتعالى أن يقتلوا أنفسهم بطريق المباشرة أو السبب، ويؤيد هذا حديث عمرو بن العاص قال: "احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ في غزوة ذات السلاسل (2) ، فَأَشْفَقْتُ إِن اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بأَصْحَابي الصُّبْحِ فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بأَصْحَابكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي سمعت الله يقول: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بكُمْ رَحِيماً } ، فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً" (3) .
وفي الحديث أحكام، منها: جواز التيمم في البرد في السَّفَر، وعدم وجوب القضاء في الحَضَر، وجواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم، وأن التيمم لا يرفع الحدث؛ لقوله: "وأنت جُنُب".
وقال بعض أهل المعاني: "ولا تقتلوا أنفسكم" بارتكاب المعاصي.
__________
(1) ذكره الماوردي (1/475) من قول عطاء والسدي، والواحدي في الوسيط (2/38)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/61).
(2) ذات السلاسل: موضع معروف بناحية الشام في أرض بني عذرة، قال ابن هشام: سار عمرو بن العاصي رضي الله عنه حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له: السلسل، وقال: وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة (تهذيب الأسماء واللغات 3/107-108).
(3) أخرجه أبو داود (1/92 ح334)، وأحمد (4/203).(1/501)
وقال الفضيل بن عياض (1) : لا تغفلوا عن حظِّ أنفسكم، فإن مَن غفل عن حظ نفسه فقد قتلها (2) .
{ إن الله كان بكم } يا أُمَّة محمد { رحيماً } ، حيث حرّم عليكم ما أوجبه على بني إسرائيل من قتل الأنفس، وغيره من الأعمال الشاقة والتكاليف الشديدة.
{ ومَنْ يفعل ذلك } إشارة إلى القتل، أو القتل مع انضمام أكل الأموال بالباطل.
وقال ابن عباس: الإشارة إلى جميع ما نهى عنه من أول السورة إلى هاهنا (3) .
{ عدواناً وظلماً } مصدران في موضع الحال (4) .
{ فسوف نُصْليه } وقرئ: "نَصْلِيهِ" بفتح النون (5) ، وقرئ بالتشديد (6) .
__________
(1) الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي، أبو علي، من أكابر العباد الزهاد الصلحاء، أصله من خراسان. توفي سنة سبع وثمانين ومائة (سير أعلام النبلاء 8/421، والأعلام 5/153).
(2) ذكره الثعلبي (3/293)، والواحدي في الوسيط (2/39)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/62).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/62).
(4) انظر: التبيان (1/177)، والدر المصون (2/354).
(5) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:25)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والمحتسب (1/186).
(6) انظر: البحر المحيط (3/243).(1/502)
{ ناراً } يريد: ناراً مخصوصة شديدة العذاب.
{ وكان ذلك على الله يسيراً } هيّناً.
قوله تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم } .
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ، قالوا: يَا رَسُولَ الله! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بالله، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذفُ المُحْصِنَاتِ الغَافِلات" (1) .
وفي حديث آخر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الكَبَائِرُ، فَقَالَ: هي تِسْعٌ، فعدَّ السبع وزاد: عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ المُسْلِمَيْنِ، وَاسْتِحْلالُ البَيْتِ الحَرَامِ" (2) .
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عدَّ في الكبائر: "واليمين الغَمُوس" (3) .
وفيهما أيضاً من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أَلا أُنَبئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، فقَالَ: الإِشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وشهادة الزور، فَمَا زَالَ يُكَرّرها، حَتَّى قُلْنا: ليته سكت" (4) .
وفيهما أيضاً من حديث ابن مسعود، قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1017 ح2615)، ومسلم (1/92 ح89).
(2) أخرجه أبو داود (3/115 ح2875).
(3) أخرجه البخاري (6/2457 ح6298)، ولم أقف عليه عند مسلم.
(4) أخرجه البخاري (2/939 ح2511)، ومسلم (1/91 ح87).(1/503)
الذَّنْب أَكْبَرُ؟" (1) ، وقد سبق الحديث في أوائل البقرة.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس: "أن الكبائر مذكورة من أول سورة النساء إلى هاهنا" (2) .
وروي عن ابن عباس: "أنها كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب" (3) .
وفي رواية عنه: أنها كل ذنب أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحد في الدنيا (4) .
وقال سعيد بن جبير: "قال رجل لابن عباس: كم الكبائر، سبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار" (5) .
فهذا مجموع ما صحَّت به الأخبار والآثار في الكبائر، أعاذنا الله منها.
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2517 ح6468)، ومسلم (1/91 ح86) .
(2) أخرجه الطبري (5/37)، والثعلبي (3/295)، والحاكم (1/127) كلهم عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/505) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
(3) أخرجه الطبري (5/41)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/271)، والثعلبي (3/295). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/499) وعزاه لابن جرير.
(4) أخرجه الطبري (5/42)، والثعلبي (3/296) كلاهما عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/499) وعزاه لابن جرير عن الضحاك.
(5) ... أخرجه الطبري (5/41)، وابن أبي حاتم (3/934)، والثعلبي (3/295). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/500) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/504)
فإن قيل: لا شبهة أن ترك الصلاة أعظم جُرْماً من كثير من الكبائر المعدودة في الأحاديث، لا سيما وقد صار عَلَمُ العلماء أحمد رضي الله عنه إلى تكفير تاركها، وهو قول للشافعي (1) رضي الله عنه وكذلك منع الزكاة، وترك صوم رمضان، وترك الحج، فما بالها لم تُذكر في الكبائر؟!
قلت: هذه مباني الإسلام وأركانه، فتركها مؤثر في وهن الإسلام وضعفه، ومخرج للمتلبس بمجانبتها عن أن يكون راسخ القدم في الإسلام، فيدخل في حيز الكفر، وهو أعظم الكبائر المعدودة في الأحاديث، فكان ترك ذكرها في الكبائر مُشعِراً بكونها مضارعة للكفر.
ويحققُ هذا المعنى قولُه - صلى الله عليه وسلم - : "بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاة" (2) .
وقوله في تارك الحج: "فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً" (3) .
وقتال أبي بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، حتى ألحقوهم بالمرتدّين بذلك.
قال السدي: "نكفر عنكم سيئاتكم" يريد: الصغائر (4) .
{ وندخلكم مُدْخَلاً كريماً } قرأ نافع: "مَدْخَلاً" بفتح الميم، هنا وفي الحج (5) : وضَمَّهما الباقون (6) .
__________
(1) انظر: المجموع (3/17)، والمغني (2/156).
(2) أخرجه مسلم (1/88 ح82).
(3) أخرجه الترمذي (3/176 ح812)، والبيهقي في الكبرى (4/334 ح8443).
(4) أخرجه الطبري (5/44)، وابن أبي حاتم (3/934). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/506) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) الحج:59، في قوله تعالى: { ليدخلنهم مدخلاً يرضونه } .
(6) الحجة للفارسي (2/78-79)، والحجة لابن زنجلة (ص:99-200)، والكشف (1/386-387)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والسبعة في القراءات (ص:232).(1/505)
واتفقوا على الضم في قوله: { مُدْخَلَ صِدْقٍ } [الإسراء:80]، لقوله: { أَدْخِلْنِي } .
قال أبو علي (1) : يجوز أن يكون المَدْخَل مصدراً، ويجوز أن يكون مكاناً سواء ضَمَّ أو فَتَح.
قال الواحدي (2) : الأولى أن يكون مكاناً، لأن المفسِّرين قالوا: هو الجنة.
وقال مكي (3) : حُجَّةُ من فَتَحَ الميم: أنه جعله مصدراً لفعل ثلاثي مضمر، دَلَّ عليه الرباعي الظاهر، وهو قوله: "يدخلكم" أي: يدخلكم فتدخلون مُدخلاً، أي: دخولاً، فدخول ومَدخل مصدران.
ويجوز أن يكون مكاناً، فيتعدى إليه "يدخلكم" على المفعول به، وحَسُنَ ذلك لأنه قد وُصِفَ بالكريم.
وحُجَّة مَنْ ضَمَّ الميم: أنه أجراه مصدراً على ما قبله وهو "يدخلكم"، ولم يحتج إلى إضمار ثلاثي، فالميم في حركتها كحرف المضارعة في حركته، إن كان مفتوحاً فَتَحْتَ الميم، وإن كان مضموماً ضَمَمْتَ الميم.
والكريم: الشريف.
وقيل: الحسن، ومنه: { من كل زوج كريم } [الشعراء:7].
__________
(1) الحُجّة للفارسي (2/79).
(2) الوسيط (2/43).
(3) الكشف (1/386-387).(1/506)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا اجثب
قوله: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } (1) أخرج الترمذي من حديث أم سلمة قالت: "قلت: يا رسول الله؛ يغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث".
وفي رواية أخرى: "فياليتنا كنا رجالاً، فأنزل الله: { ولا تتمنوا } ".
قال مجاهد (2) : وأُنزل فيها: { إن المسلمين والمسلمات } [الأحزاب:35].
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الرابع عشر، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس التاسع والعشرين، مرة ثانية.
(2) أخرجه الطبري (5/47).(1/507)
وكانت أمُّ سلمة أولَ ظَعِينَة (1) قدمت المدينة مهاجرة (2) .
وهذا نهيٌ للإنسان أن يتمنى مال غيره، أو جاهه أو نعمة من النِعَم التي أنعم الله بها عليه، فإنه الحسد المذموم.
قال الحسن: لا تَتَمَنَّ مال فلان، ولا مال فلان، فلا تدري لعل هلاكَك في ذلك المال (3) .
{ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } قال قتادة ومقاتل (4) : يعني: من الثواب والعقاب، فالمرأة تُثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، فإن الرجال قالوا حين رأوا ما فُضِّلوا به، حين أُضعف لهم الميراث: إنا لنرجو أن نُفضَّل على النساء بحسناتنا كما فُضِّلنا في الميراث، وقال النساء: إنَّا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا من الميراث على النصف من نصيبهم (5) .
{ واسئلوا الله من فضله } وقرأ ابن كثير والكسائي: "وسَلُوا" بطرح
__________
(1) الظَّعينَة: المرأة (اللسان، مادة: ظعن).
(2) أخرجه الترمذي (5/237 ح3022)، والحاكم في المستدرك (2/335 ح3195).
(3) أخرجه الطبري (5/47). وذكره السيوطي في الدر (2/507) وعزاه لابن جرير.
(4) تفسير مقاتل (1/226).
(5) أخرجه الطبري (5/48)، والثعلبي (3/299). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/508) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/508)
الهمز في كل موضع جاء الأمر مواجهاً به وقبله واو أو فاء (1) ، نحو: { فاسألوا أهل الذكر } [الأنبياء:7]، { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا } [الزخرف:45].
والمعنى: لا تتمنوا ما فضَّل الله به غيركم، واسألوا الله من فضله وأن يرزقكم كما رزق غيركم، فإنَّ خزائنَه لا تنفد.
وفي قوله: { إن الله كان بكل شيء عليماً } تنبيهٌ على أنه قَسَمَ نِعَمَهُ بين عباده على حسبما اقتضته الحكمة الإلهية.
وفيما يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عز وجل أنه قال: "إني أُدَبر عبادي بعلمي فيهم، إني عليم خبير" (2) .
9e@à6د9ur جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ
__________
(1) الحجة للفارسي (2/79-80)، والحجة لابن زنجلة (ص:200-201)، والكشف (1/387)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والسبعة في القراءات (ص:232).
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/319) من حديث أنس مطولاً. وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/232) من حديث أنس أيضاً.(1/509)
نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا اججب
قوله تعالى: { ولكل جعلنا موالي مما ترك ... الآية } قال صاحب الكشاف (1) : "مما ترك" تبيين لـ"كل"، أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال، "جعلنا موالي": وُرَّاثاً يلونه ويحرزونه. أو لكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، على أنَّ "جعلنا موالي" صفة لـ"كل"، والضمير الراجع إلى "كل" محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل مَن خلقه الله إنساناً من رزق الله، أي: حظ من رزق الله. أو ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أي: وُرَّاثاً مما ترك، على أن "من" صلة "موالي"، لأنهم في معنى الوُرَّاث، وفي "ترك" ضمير "كل"، ثم فسَّر الموالي بقوله: "الوالدان والأقربون"، كأنه قيل: مَنْ هم؟ فقيل: الوالدان والأقربون.
قلت: فعلى الوجهين الأوّلين ارتفع "الوالدان" بإسناد الفعل إليه، و"الوالدان" هم الموروثون.
وعلى الوجه الثالث: ارتفع على معنى: هم الوالدان، كما ذكر، وهم الوُرَّاث.
{ والذين عقدت أيمانكم } مبتدأ تضمن معنى الشرط، ولذلك وقع في
__________
(1) الكشاف (1/535-536).(1/510)
خبره الفاء، ويجوز أن يكون معطوفاً على "الوالدان" (1) .
قرأ أهلُ الكوفة: "عَقَدَت" بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف (2) . فمَنْ أثبت الألف فلوجود المعاقدة، فهو من باب المفاعلة، ومَنْ نفاها اكتفى بإسناد العقد إلى الأيمان، ولم يحتج إلى المفاعلة، المعنى: والذين عقدت أيمانكم حِلْفَهم. والمراد بهم الحلفاء، وكان الرجل إذا عاقد الرجل قال: دمي دمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، فأقرَّهم الإسلام على ذلك، وجعل ميراث الحليف السُدُس، فإن كان المراد بقوله: { فآتوهم نصيبهم } الميراث، فهو منسوخ عند الأكثرين، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة (3) .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باق.
غير أنهم جعلوا ذوي الأرحام أولى، بقوله: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأنفال:75].
وإن كان المراد به المعاضدة والمناصرة، فحكمه باق لم يُنسخ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حِلْفَ في الإِسْلامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ في الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إلا
__________
(1) انظر: التبيان (1/178)، والدر المصون (2/357).
(2) "عَاقَدَتْ". انظر: الحجة للفارسي (2/80)، والحجة لابن زنجلة (ص:201)، والكشف (1/388)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189)، والسبعة في القراءات (ص:233).
(3) الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:331-335)، والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة (ص:73)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:34)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:273-278).(1/511)
شِدَّة" (1) .
وقيل: المراد بقوله: "الذين عقدت أيمانكم" الذين آخى رسول الله بينهم، وهم المهاجرون والأنصار، كانوا يتوارثون بالأُخوة دون ذوي أرحامهم، فنُسخ عند الأكثرين بالآية المذكورة.
مA%y`جhچ9$# قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
__________
(1) أخرجه مسلم (1/1961 ح2530).(1/512)
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا اجخب
قوله: { الرجال قوّامون على النساء } نزلت حين لَطَمَ سعد بن الربيع زوجته، فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطلب القِصاص (1) .
والمعنى: الرجالُ قائمون، مسيطرون، ومُسلَّطون على تأديب النساء
__________
(1) أخرجه الطبري (5/58)، ومجاهد (ص:155)، والواحدي في أسباب النزول (ص:144-145). وذكره الثعلبي في تفسيره (3/302)، وأبو داود في مراسيله (ص:155).(1/513)
وتهذيبهن بالحق.
روى هشام بن محمد (1) عن أبيه في قوله: { الرجال قوامون على النساء } قال: إذا كانوا رجالاً.
وأنشد:
أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً ... ... وَنَارٍ تُوَقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا (2)
قوله: { بما فضَّل الله } أي: بسبب تفضيل الله { بعضهم } يعني: الرجال { على بعض } يعني: النساء، وذلك بزيادة العقل، والعلم، والفضل، والحزم، والجهاد، وحفظ الذمار، والصلاحية للخلافة، والقضاء، والإمامة، والشهادة.
{ وبما أنفقوا من أموالهم } أي: بما أخرجوا من المهور والنفقات، { فالصالحات قانتات } مطيعات لله، { حافظات للغيب بما حفظ } يعني: ما غاب عنه الأزواج من الفروج والأموال.
وفي الحديث: "خيرُ النساء امرأة إن نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ، وإن أَمَرْتَها أَطَاعَتْكَ، وإذا غِبْتَ عنها حَفِظَتْكَ" (3) .
__________
(1) هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر، الأخباري، صاحب سمر ونسبة، متروك. توفي سنة أربع ومائتين (تاريخ بغداد 14/45، والكامل في ضعفاء الرجال 7/110).
(2) البيت لأبي دؤاد الإيادي، ونسب لحارثة بن الحجاج. انظر: الكتاب لسيبويه (1/66)، والأصمعيات (ص:191)، وخزانة الأدب (9/592)، وابن يعيش (3/26)، والبحر المحيط (3/248)، والقرطبي (15/313، 16/157)، وروح المعاني (10/33، 11/104).
(3) أخرجه أبو داود (2/126 ح1664) من حديث ابن عباس، والحاكم في المستدرك (2/175) من حديث أبي هريرة.(1/514)
{ بما حفظ الله } أي: بحفظ الله إياهن حين أوصى الأزواج بهن في كتابه وعلى لسان رسوله، أو بما حفظ الله مهورهن.
وقرأت على الشيخين أبي البقاء النحوي وأبي عمرو الياسري لأبي جعفر ابن القعقاع: "بما حفظ اللهَ" بالنصب (1) ، على أن "ما" موصولة، أي: حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق الله، وأمانة الله، وهو التعفف، والتحصن، والنصيحة للرجال.
قوله: { واللاتي تخافون نشوزهن } قال ابن عباس: الخوف هاهنا بمعنى العلم، وقيل: بمعنى الظن (2) .
والنُّشُوز والنُّشُوص بمعنى واحد، وهو: تَرَفُّعُ المرأة عن طاعة زوجها، مأخوذ من النَّشْزُ؛ وهو ما ارتفع من الأرض (3) .
{ فعظوهن } أي: ذكِّروهن بما وجب عليهن لأزواجهن.
{ واهجروهن في المضاجع } أي: في الفُرُش، وقيل: في البيوت.
فإن قلنا: في الفُرُش، فيكون كناية عن ترك الجِماع، وهو قول سعيد بن جبير (4) ومقاتل (5) .
أو يكون أمراً بهجر الفراش والمضاجعة فيه، وهو قول الحسن ومجاهد
__________
(1) النشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:189).
(2) ذكره الطبري (5/61) عن ابن عباس، والماوردي (1/481-482) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/57).
(3) انظر: اللسان، مادة: (نشز).
(4) أخرجه الطبري (5/64). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/76).
(5) تفسير مقاتل (1/228).(1/515)
وقتادة (1) . وهذان قولان عن ابن عباس (2) .
وإن قلنا: في البيوت، فالمعنى: لا تُبايتوهن في البيوت التي يضطجعن فيها.
وقيل: "في" للسببية لا للظرفية، فالمعنى: اهجروهن بسبب تخلفهن عن المضاجع إذا دعوتموهن إليها.
والأول أشهر وأظهر.
قال ابن عباس: تهجرها في المضجع، فإن أقبلتْ وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مُبَرِّح (3) .
قوله: { واضربوهن } يعني: ضرباً غير شائن، ولا كاسر، ولا مُبَرِّح، لأن المقصود التأديب، لا الإتلاف والتعذيب.
قال جماعة من العلماء، منهم الإمام أحمد رضي الله عنه: الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرره واللِّجاج فيه، ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز.
وقال الشافعي رضي الله عنه: يجوز.
{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } قال ابن عباس: لا تتجنّوا عليهن
__________
(1) أخرجه الطبري (5/64-65)، ومجاهد (ص:155-156).
(2) أخرجه الطبري (5/63).
(3) أخرجه الطبري (5/68).(1/516)
العلل (1) .
وقال سفيان بن عيينة: لا تكلفها الحب، فإن قلبها ليس في يدها (2) .
والمعنى: لا تطلبوا سبيلاً إلى أذاهن بما ليس لكم عليهن، ولا يحملنكم على ذلك كونكم أكثر اقتداراً، وأكبر أقداراً.
{ إن الله كان علياً كبيراً } يَصْغُرُ في جلاله كل كبيرة، وقيل: يَكْبُر عن شَبَهِ المخلوقين، والمعنى: إن الله كان كبيراً فاحذروه، أيها الأقوياء الأشداء المستطيلون على مَن في قبضتهم، وتحت تصرفهم.
قوله تعالى: { وإن خفتم شقاق بينهما } أي: علمتم شقاقاً بينهما، فأضيف ذلك إلى الظرف اتساعاً؛ كقوله: { بل مكر الليل والنهار } [سبأ:33]. والشِّقَاق: الخلاف والعداوة (3) .
والضمير في "بينهما" للزوجين، { فابعثوا } أيها الحكام وولاة الأحكام، { حَكَماً من أهله وحكماً من أهلها } ؛ لأنهما إذا كانا من أهلهما عرفا باطن أمرهما، وحرصا على صلاح حالهما.
والضميران في قوله: { إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } للحَكَمين. وقيل: للزوجين.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/69)، وابن أبي حاتم (3/944). وذكره الواحدي في الوسيط (2/47)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/76)، والسيوطي في الدر المنثور (2/521) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.
(2) أخرجه الطبري (5/70). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/524) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.
(3) انظر: اللسان، مادة: (شقق).(1/517)
فصل
إذا وقع الشقاقُ بين الزوجين، وادَّعى كل واحد منهما تعدِّي صاحبه عليه، أسكنهما الحاكم إلى جانب عدل يطلع على حالهما، فيرفع الأمر إليه، ليأخذ على يد الظالم، فإن التبس الأمر واتصل الشقاق بينهما، وأفضى إلى ما يحرم من القول والفعل، بعث الحاكم الحكمين ليفعلا ما رأيا المصلحة فيه من التفريق بعوض، أو غيره.
والأَوْلى أن يكونا من أهلهما، لما ذكرناه.
ويجوز أن يكونا أجنبيين، لأنهما إما حاكمان وإما وكيلان، وأيما كان فلا يُشترط له القرابة.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رضي الله عنه في الحَكَمين، فروي عنه أنهما وكيلان، فعلى هذا يُعتبر رضا الزوجين فيما يحكمان به، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولأن بذل المال حق للزوجة، والطلاق حق للزوج، فاعتبر رضاهما فيه، كسائر حقوقهما.
وروي عنه: أنهما حَكَمان، وهو قول مالك، والشافعي، في أحد قوليه (1) ، لأن الله سَمَّاهما حَكَمين، ولأن اعتبار رضاهما ربما أفضى إلى دوام الشقاق، فتنتفي الحكمة المطلوبة من شرعية التحكيم.
فعلى هذه الرواية: للحَكَمين أن يجمعا إن رأيا، أو يُفرِّقا، فما فعلا من ذلك لزمهما، وإن لم يرضيا.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع (2/334)، والتاج والإكليل (4/17)، ومغني المحتاج (3/261)، والمغني (7/243-244).(1/518)
وتُشترط عدالة الحَكَمين، على الروايتين معاً، لأن المقصود الإصلاح. والفاسق غير مأمون، فإنه بعرضية الإفساد، جرياً مع هواه وأغراضه الفاسدة.
ويجوز أن يكونا عبدين وعامّيين، إذا قلنا: هما وكيلان، وإن قلنا: هما حَكَمان، اشترط فيهما ما يُشترط في الحاكم من الحرية والعلم وغير ذلك.
{ إن الله كان عليماً } بتدبير الحَكَمين، { خبيراً } بأمر الزوجين.
* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ(1/519)
أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا اجدب
قوله: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } أخرجا في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: "بينا أنا رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، قال: يا معاذ، فقلت: لبيك يا رسول الله. قال: ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده، أن يعبدوه فلا يُشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم، فقلت: يا رسول الله؛ ألا أُبشِّر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتّكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً" (1) .
قوله: { والجار ذي القربى } الظاهر أنه يريد به قرابة النسب، وهو قول ابن عباس، والأكثرين (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (5/2224 ح5622)، ومسلم (1/58 ح30) .
... وقوله: "فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً" عند البخاري (1/59 ح128).
(2) أخرجه الطبري (5/78)، وابن أبي حاتم (3/948)، والبيهقي في الشعب (7/73). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/529) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشُعَب.(1/520)
أوصى سبحانه بذي القربى، ثم أكد الوصية به إذا كان جاراً لتأكيد حقه بالجوار منضماً إلى القرابة.
وقيل: المراد به: الجار القريب، وقيل: الجار المسلم.
قوله: { والجار الجنب } وهو البعيد النسب، على قول ابن عباس (1) .
أو الجار البعيد، أو غير المسلم، على القولين الآخرين (2) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا زَالَ جبريلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنهُ سَيُوَرِّثُه" (3) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يَا أَبَا ذرّ، إِذا طَبَخْتَ قدراً فَأَكْثِرْ المَرَقَةَ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَك" (4) .
وفي صحيح البخاري: أن عائشة رضي الله عنها قالت: "يَا رَسُولَ الله! إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبهِمَا مِنْكِ بَاباً" (5) .
قوله: { والصاحب بالجنب } قال علي رضي الله عنه: هو الزوجة (6) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرفيق (7) .
__________
(1) أخرجه الطبري (5/79)، وابن أبي حاتم (3/948). وانظر: الدر المنثور (2/529).
(2) انظر: الماوردي (1/485)، وزاد المسير (2/79).
(3) أخرجه البخاري (5/2239 ح5668)، ومسلم (4/2025ح 2625).
(4) أخرجه مسلم (4/2025 ح2625).
(5) أخرجه البخاري (2/788 ح2140).
(6) أخرجه الطبري (5/81)، وابن أبي حاتم (3/949). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/532) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7) أخرجه الطبري (5/80)، وابن أبي حاتم (3/949)، والبيهقي في الشعب (7/73). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/531) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.(1/521)
وقال ابن زيد: هو الذي يَلْصَقُ بك رجاءَ خيرك (1) .
قوله: { وما ملكت أيمانكم } يريد: من الأرقاء.
وقيل: يدخل فيه أيضاً الحيوان البهيم.
قال أنس بن مالك: "كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (2) .
قوله تعالى: { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } يَحمله اختيالُه وفخرُه على مجانبة مَن أوصى الله بهم في هذه الآية، والازدراء بهم إذا كانوا فقراء.
قال ابن عباس: المختال: البَطِرُ في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره (3) .
وقال الزجاج (4) : المختال: الصَّلِفُ التيَّاه الجهول.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول
__________
(1) أخرجه الطبري (5/82). وذكره الماوردي (1/485)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/80).
(2) أخرجه أحمد (3/117 ح12190) من حديث أنس. وأخرجه أحمد أيضاً (6/315 ح26726) من حديث أم سلمة، وابن ماجه (1/519 ح1625) من حديث أم سلمة أيضاً.
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/80).
(4) معاني الزجاج (2/51).(1/522)
الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله عز وجل: "العزُّ إزاري، والكِبرياء ردائي، فمَن نازعني شيئاً منهما عذّبته" (1) .
وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَنْظُرُ الله إلى مَنْ جَرَّ ثوْبَهُ خُيَلاء" (2) .
tûïد%©!$# يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ
__________
(1) أخرجه مسلم (4/2023 ح2620).
(2) أخرجه البخاري (5/2181 ح5446)، ومسلم (3/1651 ح2085) من حديث ابن عمر.(1/523)
قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا اجزب
قوله: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } "الذين" نصب على الذم، أو على البدل من قوله: "مَنْ كان مختالاً"، أو رفع بالابتداء، والخبر محذوف (1) ، تقديره: الذين يبخلون ملومون أو مُعذَّبون، أو على معنى: هم الذين يبخلون.
قال المفسِّرون: نزلت في اليهود (2) .
وفي الذي بخلوا به قولان:
أحدهما: أنه التصديقُ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإظهارُ صفته للناس حسداً، وبغياً، وتكبراً، ونفاسة عليه، حيث لم يكن منهم.
__________
(1) انظر: التبيان (1/179)، والدر المصون (2/361).
(2) الطبري (5/85)، وابن أبي حاتم (3/951)، ومجاهد (ص:158)، والوسيط (2/52)، وأسباب النزول للواحدي (ص:156)، والماوردي (1/487)، وزاد المسير (2/81)، ولباب النقول (ص:68).(1/524)
قال ابن السائب: بخلوا أن يصدِّقوه، فكتموه، وأمروا قومهم بكتمان أمره (1) .
وبهذا الاعتبار يصح النصب على البدل.
والقول الثاني: أنهم بخلوا بالأموال، وأمروا الناس أن يبخلوا بها (2) .
قال ابن عباس: كان كردم بن زيد، ورفاعة بن زيد بن التابوت، ونافع بن أبي نافع، وحيي بن أخطب ، في آخرين يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول الله، وكانوا يخالطونهم ، وينتصحون لهم ، فيقولون : لا تُنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، ولا تسارعوا فإنكم لا تدرون ما يكون ، فنزلت هذه الآية (3) .
قرأ حمزة والكسائي: "بالبَخَل" بفتح الباء والخاء، هنا وفي الحديد (4) . وقرأ الباقون: بضم الباء وسكون الخاء فيهما (5) ، وهما لغتان كالرُشْد والرَشَد.
{ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } قال ابن عباس والأكثرون: يريد:
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:156)، وفي الوسيط (2/52)، والماوردي (1/487) بلا نسبة.
(2) الماوردي (1/487)، وزاد المسير (2/82).
(3) أخرجه الطبري (5/81)، وابن أبي حاتم (3/964)، والثعلبي (3/306-307). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/538) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) الحديد: 24، في قوله تعالى: { ويأمرون الناس بالبخل } .
(5) الحجة للفارسي (2/82)، والحجة لابن زنجلة (ص:203)، والكشف (1/389)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:190)، والسبعة في القراءات (ص:233).(1/525)
العلم بما في التوراة مما عظَّم الله به أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّته (1) .
وإن قلنا: المراد به البخل بالأموال، فالأَليق أن يكون المعنى هاهنا: { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } أي: يُخفون نِعَم الله عليهم على ما هو المتعاهد من عادة البخلاء.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أنعم الله على عبده نعمة، أحب أن تُرى" (2) .
ويروى: أن بعض عُمَّال الرشيد بنى قصراً إلى جانب قصره، فنُمَّ به إليه فقال: يا أمير المؤمنين! إن الكريم يَسُرُّه أن يرى أثر نعمته، فأحببتُ أن أَسُرَّكَ بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه (3) .
وقال بعضهم: الشكرُ بإظهار حسن الحال أبلغُ من الشكر بالمقال.
ويروى: أن جعفر بن يحيى البرمكي (4) -رحمهما الله- ركب لحاجة، وكان طريقه على بيت الأصمعي (5) ، فدفع إلى غلام له كيساً فيه ألف دينار،
__________
(1) ذكره الواحدي في الوسيط (2/52)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/82).
(2) أخرجه الترمذي (5/123 ح2819)، وأحمد (3/473).
(3) ذكره الزمخشري في الكشاف (1/542-543).
(4) جعفر بن يحيى بن خالد، أبو الفضل البرمكي، وزير الرشيد العباسي وأحد مشهوري البرامكة، قُتِل مع البرامكة في وقعة الرشيد بهم سنة سبع وثمانين ومائة (تاريخ بغداد 7/152، والأعلام 2/130).
(5) عبد الملك بن قُرَيب بن علي بن أصمع الأصمعي، أبو سعيد الباهلي البصري، راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، ونسبته إلى جده أصمع. توفي سنة ست عشرة ومائتين (الأعلام 4/162).(1/526)
وقال: إني سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي، ثم سيحدثني، ويُضحكني، فإذا ضحكت، فضع الكيس بين يديه، فلما دخل جعفر على الأصمعي، رأى عنده حُبّاً (1) مكسور الرأس، وجَرّةً مُلتوية العنق، وقَصْعة مشعَّبة، ورآه على مُصلّى بالٍ وعليه بَرّكان (2) أجرد، فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان إلا أورده عليه، فما تَبَسَّم، وخرج، فقال لرجل يسايره: مَن استرعى الذئب ظلم، ومَن زرع سبخة حصد الفقر، إني والله لو علمتُ أن هذا يكتم المعروف بالفعل لما حفلتُ بنشره باللسان، وأين يقع مديح اللسان من آثار العيان، إن اللسان قد يكذب، والحال لا يكذب، لله در نُصَيْب (3) حيث يقول:
فَعَاجُوا فَأثنَوْا بالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَلَوْ سَكَتُوا أَثنَتْ عَلَيكَ الحَقَائِبُ (4)
قوله عز وجل: { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس... } (5) قال ابن
__________
(1) الحُبُّ -بضم الحاء المهملة وتشديد الباء المعجمة وضمها-: الجَرَّة الضخمة (اللسان، مادة: حبب).
(2) البرّكان -أو البَرْنكان-: هو ضرب من الثياب. قال الفرّاء: كساء من صوف له عَلَمان، وقيل: بَرْنَكان على وزن زعفران (اللسان، مادة: برنك).
(3) نصيب بن رباح، أبو محجن، مولى عبد العزيز بن مروان، شاعر فحل، مقدم في النسيب والمدائح (الأعلام 8/31).
(4) البيت في الشعر والشعراء (ص:260)، وذيل أمالي القالي (ص:40)، ومعجم الأدباء لياقوت (19/231).
(5) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثلاثين، مرة ثانية.(1/527)
عباس ومجاهد: نزلت في اليهود (1) .
وقال السدي: نزلت في المنافقين (2) .
وقيل: في مشركي مكة (3) .
فإن قيل: كيف قال ابن عباس: نزلت في اليهود، وهم أهل كتاب يصدِّقون بالله وبالبعث.
قلت: المعنى: لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إيماناً كاملاً، فإنهم كفروا بالقرآن، وبما جاءت به الرسل من عند الله، وكذَّبوا بالبعث على الوجه الذي أخبرتْ به رسل الله، وجاءت به كتبه، وقالوا: لا تُبعث الأجساد، ولا يُنَعَّمُ أهلُ الجنة بالأكل، والشرب، والنكاح، فكأنهم لم يؤمنوا.
فإن قيل: قد نطقت الآية التي قبلها أنهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، فكيف وصفهم في هذه الآية بأنهم يُنفقون أموالهم؟
قلت: ليجمع لهم الذم بكل طريق، فأخبر عنهم بأنهم جمدوا في الحق حتى بخلوا، وأمروا بالبخل غيرهم، فكانوا كما قيل:
وإن امرءاً ضنَّت يداه على امرئٍ ... ... بنيل يدٍ من غيره لبخيل (4)
__________
(1) أخرجه الطبري (5/87)، وابن أبي حاتم (3/953)، والثعلبي (3/307). وذكره الماوردي (1/487)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/83)، والسيوطي في الدر المنثور (2/539) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ذكره الثعلبي (3/307)، والواحدي في الوسيط (2/53) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/83).
(3) ذكره الثعلبي (3/307)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/83). ...
(4) البيت لأبي تمام. انظر: الكشاف (1/542).(1/528)
ودأبوا في الباطل حتى أنفقوا أموالهم فيه رياء وسمعة، واستمالةً للناس عن اتباع الهدى.
فإن قيل: ما إعراب قوله: "والذين ينفقون"؟
قلت: إن كان معطوفاً على "الذين يبخلون" فإعرابه النصب، أو الرفع، وإن كان معطوفاً على قوله: "وللكافرين" فإعرابه الجر (1) ، وبهذا البيان يتضح لك مقاطع الكلام ومواضع الوقف، فتَفَهَّم ذلك.
قوله: { ومن يكن الشيطان له قريناً } هو من قولك: قَرَنْتُ الشَّيْءَ بالشَّيْءِ؛ إذا وَصَلْته به (2) .
فالقَرِينُ هو: المواصل، المؤالف.
والمعنى: مَن يكن الشيطان له قريناً في الفعل { فساء قريناً } .
وقال ابن السائب: هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار، يقرن مع كل كافر شيطان، ويقول الله: { ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً } يقول: بئس المصاحب الشيطان (3) .
قوله: { وماذا عليهم } تقريع لهم؛ كما يقال للرجل الفاجر العاق: ما ضرّك لو أطعتَ ربك، وبررتَ أباك، وكما يقال للمنتقم: ما يضرّك لو عفوتَ.
ومنه قول قُتَيْلَة بنت النضر بن الحارث في أبياتها السائرة، حين قتل
__________
(1) انظر: التبيان (1/180).
(2) انظر: اللسان، مادة: (قرن).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/53).(1/529)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أباها بالصفراء مَقْفَلَه من بدر، وكان شديد الشكيمة في كفره وتكذيبه، وأذاه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاداته له:
أَمُحَمَّدٌ أَوَ لَسْتَ ضِنْءُ نَجِيبَةٍ ... في قَوْمِها وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ فَرُبَّمَا ... مَنَّ الفَتى وَهوَ المَغِيظُ المُحْنِقُ (1)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لو بلغني شِعْرها قبل أن أقتله لتركته لها".
والمعنى: أي شيء على هؤلاء الذين يُنفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون { لو آمنوا ... } .
{ وأنفقوا } قال ابن عباس: يعني: الصدقة (2) .
وقيل: الزكاة (3) .
{ وكان الله بهم عليماً } فهو يعلم ما هم عليه من الكفر والنفاق، ويعلم قصدهم بالإنفاق.
¨bخ) اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
__________
(1) انظر البيتان في: سيرة ابن هشام (3/309)، والاستيعاب (4/1905)، والقرطبي (8/59)، والإصابة (8/80) باختلاف في بعض الألفاظ.
... وانظر البيت الأول في: اللسان، مادة: (ضنأ، عرق)، والبيت الثاني في: اللسان، مادة: (غيظ).
... والضِّنْءُ: الأصلُ والمَعْدِن. ومُعْرِق: أي عريق النسب أصيل.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/83).
(3) وهو قول أبي سليمان الدمشقي (انظر: زاد المسير 2/83).(1/530)
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا احثب
قوله: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } (1) قال ابن عباس: لا ينقص مثقال ذرة من عمل منافق إلا جازاه بها (2) .
ومثقال كل شيء: وَزْنُه.
قال الأصمعي: إذا قلت للرجل: ناولني مثقالاً فأعطاك صنجة ألف أو
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الخامس عشر.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/53).(1/531)
[صنجة] (1) حبة، كان ممتثلاً (2) .
والذَرَّة في اللغة: أصغر النَّمل (3) .
وفي قراءة عبد الله: "مثقال نملة" (4) .
وروي عن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب، ثم رفعها، ثم نفخ فيه، ثم قال: كل واحد من هؤلاء ذَرَّة (5) .
وروي عنه: أنها رأس النملة (6) .
وقيل: الواحدة مما يتطاير من الهباء في ضوء الشمس.
وقيل: الخَرْدَلَة.
والمراد: أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً، لكنه ذكر الذّرَّة لأنها غاية ما يُضرب به المثل في القِلَّة.
{ وإن تَكُ حسنة يضاعفها } أي: إن تك فعلته حسنة، أو مثقال الذَرَّة حسنة، وأنَّثه لكونه مضافاً إلى مؤنث.
قرأ ابن كثير ونافع: "حَسَنَةٌ" على معنى: إن تحدث أو توجد حسنة.
__________
(1) زيادة من زاد المسير (2/84).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/84).
(3) انظر: اللسان، مادة: (ذرر).
(4) كتاب المصاحف لابن أبي داود (ص:64)، ومختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:26).
(5) أخرجه هناد في الزهد (1/144). وذكره السيوطي في الدر (8/598) وعزاه لهناد.
(6) أخرجه الطبري (5/88)، والثعلبي (3/308). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/539) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.(1/532)
وقرأ ابن عامر وابن كثير: "يُضَعِّفْها" بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون بألف، مع التخفيف (1) .
قال ابن عباس: وإن تَكُ حسنة من مؤمن يضاعفها بعشرة أضعافها (2) .
قال السدي: هذا عند الحساب، والقِصاص، فمن بقي له من الحساب مثقال ذرة ضاعفها الله إلى سبعمائة ضعف، وإلى الأجر العظيم، وهو قوله: { ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } يعني: يتفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف (3) .
وقال الكلبي: الأجر العظيم: الجنة (4) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك في قوله: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةً يُعْطَى بهَا في الدُّنْيَا وَيُجْزَى بهَا في الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بهَا لله في الدُّنْيَا، حَتَّى إِذا أَفْضَى إِلى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بهَا" (5) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/82)، والحجة لابن زنجلة (ص:203)، والكشف (1/389-390)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:190)، والسبعة في القراءات (ص:233).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/54).
(3) مثل السابق.
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (2/54)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/85) بلا نسبة. وانظر: الطبري (5/90).
(5) أخرجه مسلم (4/2162 ح2808).(1/533)
قوله: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } هذا استفهام في معنى التوبيخ، أي: كيف تكون حالهم يوم القيامة: { إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وهو نبيها يشهد لها، وعليها.
{ وجئنا بك } يا محمد { على هؤلاء } المكذبين { شهيداً } .
أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد [بن] (1) محمد بن أبي الفضل الأنصاري الحِرِسْتاني، قراءةً عليه وأنا أسمع بجامع دمشق، أخبرنا أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد السلمي، أخبرنا أبو نصر الحسين بن محمد بن أحمد، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جُميْع الغساني الصيداوي قراءةً عليه في داره بصيدا، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الواعظ ببغداد، حدثنا حميد بن الربيع، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقرأ عليّ من سورة النساء، قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي [أن] (2) أسمعه من غيري، فقرأت عليه حتى انتهيت إلى قوله: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } فسالت عيناه، فسَكَتُّ" (3) . هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه عن صدقة، عن يحيى، عن سفيان، عن سليمان الأعمش، فكأني سمعته من
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة على الأصل. وانظر ترجمته في: التقييد (1/381)، وسير أعلام النبلاء (22/80).
(2) زيادة من الصحيحين.
(3) أخرجه البخاري (4/1927 ح4768)، ومسلم (1/551 ح800) .(1/534)
طريق البخاري، عن الداودي، شيخ شيخ شيخنا.
قوله تعالى: { يومئذ يود الذين كفروا } العامل في "يومئذ": "يَوَدُّ"، وتنوين "إذ" عوض عن الجملة المحذوفة، تقديره: يوم إذ شهدت على هؤلاء، يود الذين كفروا.
{ وعصوا الرسول لو تُسَوَّى } قرأ نافع وابن عامر { تَسَّوَّى } بفتح التاء وتشديد السين، أصلها: تتسوى، فأدغمت التاء في السين. وكذلك قرأ حمزة والكسائي إلا أنهما حَقَّقا السين، وأمالا على أصلهما.
وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين (1) ، على معنى: لو تسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى.
قال قتادة: وَدُّوا لو تخرّقت بهم الأرض فَسَاخُوا فيها (2) .
قال الزجاج (3) : يودُّون أنهم كانوا والأرض سواء.
وقال ابن كيسان وغيره: ودُّوا أنهم لم يُبعثوا، وأنهم كانوا والأرض سواء (4) .
وقال الفرّاء (5) وغيره: المعنى: ودُّوا لو جُعِلوا تراباً، وكانوا هم
__________
(1) الحجة للفارسي (2/83)، ولابن زنجلة (ص:303)، والكشف (1/390-391)، والنشر (2/249)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:190)، والسبعة في القراءات (ص:234).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/957)، والثعلبي (3/310). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/542) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) معاني الزجاج (2/54).
(4) ذكره الثعلبي (3/310)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/87).
(5) معاني الفراء (1/269). وانظر: زاد المسير (2/86).(1/535)
والأرض سواء.
قال أبو هريرة: إذا حَشَرَ الله الخلائقَ قال للبهائم والدواب والطير: كوني تراباً، فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً (1) .
{ ولا يكتمون الله حديثاً } كلام مستأنف، على معنى: لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم، فتقول اليد: بطشتُ، وتقول الرِّجل: مشيتُ، وتقول العين: نظرتُ.
قال ابن عباس: هذا حين يُختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا يكتمون الله حديثاً (2) .
وقيل: الواو في قوله: "ولا يكتمون" واو الحال، فيكون متعلقاً بـ"يَوَدُّ"، على معنى: يودون لو تُسَوَّى بهم الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يَكْذبون في قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، إذا فضحتهم جوارحهم بالشهادة عليهم. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس (3) .
وقال عطاء: ودُّوا يوم القيامة لو تُسَوَّى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا
__________
(1) أخرجه الطبري (7/189، 30/26)، وابن أبي حاتم (4/1286، 10/3396)، والبيهقي في البعث والنشور (ص:341). وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/401) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور.
(2) أخرجه الطبري (5/94)، وابن أبي حاتم (3/957)، والثعلبي (3/311)، والطبراني في الكبير (10/246)، والحاكم (2/336). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/542-543) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) انظر: المصادر السابقة.(1/536)
كتموا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا (1) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح !$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/311)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/87).(1/537)
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا احجب
قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أخرج أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه -واللفظ له- بإسنادهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "صَنَعَ لَنَا ابْنُ عَوْفٍ طَعَاماً، فَدَعَانَا، فأكلنا وَسَقَانَا خمراً، قبل أن تُحَرَّم الخمر، فأخذت مِنَّا، وَحَضَرَتْ الصَّلاةُ، فَقَدَّمُونِي، فَقَرَأْتُ: " { قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون:1-2]، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، قَالَ: فخلطتُ، فنزلت: { لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون } " (1) .
والمراد من الآية: زجرهم عن الشرب في الأوقات القريبة من الصلوات، ثم نسخ ذلك بما ذكرناه في البقرة (2) .
وقيل: { لا تقربوا الصلاة } أي: مواضع الصلاة، وهي المساجد، كأنه نزَّه المساجد من السكارى، لأنه لا يؤمن تلويثهم للمساجد، كما قال عليه
__________
(1) أخرجه أبو داود (3/325 ح3671)، والترمذي (5/238 ح3026).
(2) نُسخ حكم هذه الآية بآية المائدة: { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [المائدة:90]. (انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ص:74، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص:279-280).(1/538)
السلام: "جَنِّبوا مساجدكم الصبيان والمجانين" (1) .
وقيل: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" من النعاس، فإنكم لا تعقلون ما تُصلُّون.
قال بعض أرباب الإشارات: "وأنتم سكارى" من حب الدنيا.
قال يحيى بن معاذ الرازي (2) : الدنيا خمر الشيطان، مَن سَكِرَ منها لا يُفيق إلا في عسكر الموتى (3) .
وكلُّ هذا محتمل، غير أن التفسيرَ الذي يُعتمد عليه ما اقتضاه سبب النزول، وهو السُّكْر المعروف، وهو المتبادر إلى الأفهام عند الإطلاق.
والسّكارى جمع سكران: وهو الذي سُدَّ عليه طريق الإدراك، ومتى بلغ إلى هذه الحالة، كان بيعه وشراؤه ملغي، وأُخذ بالقتل وسائر الاستهلاكات، وفي وقوع طلاقه وعتاقه اختلاف بين الصحابة، والأئمة الأربعة (4) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/247 ح750) عن واثلة بن الأسقع الليثي، والطبراني في الكبير (8/156) من حديث أبي أمامة وواثلة وأبي الدرداء، وابن عدي في الكامل (4/134) من حديث أبي هريرة.
(2) يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، أبو زكريا، الواعظ الزاهد، من كبار المشايخ، له كلام جيد، ومواعظ مشهورة. توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/15، والأعلام 8/172).
(3) ذكره المناوي في فيض القدير (3/368)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/98)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص:382).
(4) انظر: المغني (7/289-290).(1/539)
{ ولا جُنُباً } قال الزمخشري (1) : هو عطف على قوله: "وأنتم سكارى"؛ لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جُنُباً.
والجُنُب يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب.
{ إلا عابري سبيل } استثناء من عامة أحوال المخاطبين، وانتصابه على الحال.
فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟
قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تُعذرون فيها، وهي حال السفر، وعبور السبيل عبارة عنه.
ويجوز أن لا يكون حالاً، ولكن صفة لقوله: "جُنُباً"، أي: ولا تقربوا الصلاة جُنُباً غير عابري سبيل، أي: جُنُباً مقيمين غير معذورين.
قال (2) : فإن قلت: كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟.
قلت: أريد بالجُنُب الذين لم يغتسلوا، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين.
وقال (3) : مَنْ فسَّر الصلاة بالمسجد: معناه: لا تقربوا المسجد جُنُباً إلا
__________
(1) الكشاف (1/546).
(2) أي: الزمخشري في الكشاف (1/546).
(3) أي: الزمخشري في الكشاف، الموضع السابق.(1/540)
مجتازين فيه.
{ وإن كنتم مرضى أو على سفر } (1) نزل في رجل أنصاري أعجزه المرض القيام إلى الوضوء، ولم يكن له خادم (2) .
وقيل: في الجرحى حين شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيبهم من الجنابة.
وظاهرُ الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يُستضَر معه باستعمال الماء، سواء أكان يخاف التلف أو لا يخاف، وهو مذهب إمامنا.
وقال الشافعي رحمه الله -في أحد قوليه-: لا يجوز التيمم إلا إذا خاف التلف (3) .
وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، قصيراً كان أو طويلاً. والحضر كالسفر عند عدم الماء. وخصَّه بالذِّكر؛ لأن الماء لا يُعدم إلا فيه غالباً.
فإن حُبس في المصر ولم يقدر على الماء، وحضرت الصلاة، صلَّى بالتيمم، خلافاً لأبي حنيفة -في إحدى روايتيه- وداود، في قولهما: لا يصلي. ولا إعادة عليه عندنا.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس السادس عشر.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/961). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/548) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) مغني المحتاج (1/93)، والمغني (1/161).(1/541)
وقال الشافعي: يُعيد (1) .
{ أو جاء أحد منكم من الغائط } قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (2) : "أو" بمعنى الواو؛ لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحَدَث.
والغائط أصله: المكان المطمئن من الأرض (3) ، كانوا يتوارون فيه عند الحَدَث، فاستُعير له.
وكذلك العَذِرَة، أصله: فِناء الدار (4) ، ثم غلب على الحَدَث لأنهم كانوا يلقونه بأفنيتهم.
والرَّاوية: البعيرُ الذي يُستقى عليه (5) .
والظَّعينَة: الهَوْدَجُ الذي تُحمل المرأة فيه (6) . فهذا وأمثاله مما صارت الحقيقة فيه مهجورة، والمجاز مشهوراً.
قوله: { أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } قرأ حمزة والكسائي: "لَمَسْتُم". وقرأ الباقون:
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع (1/50)، والتمهيد (19/277)، ومغني المحتاج (1/89)، والمغني (1/149)، والمحلى (2/159).
(2) زاد المسير (2/91-92).
(3) انظر: اللسان، مادة: (غوط).
(4) انظر: اللسان، مادة: (عذر).
(5) انظر: اللسان، مادة: (روي).
(6) انظر: اللسان، مادة: (ظعن).(1/542)
"لاَمَسْتُم" بألف (1) ، وكذلك في المائدة [6].
فمن قرأ: "لاَمَسْتُم" قال: الفعل من اثنين، فجرى على المفاعلة، ويتجه على هذه القراءة قول عليّ وابن عباس: إن المراد به الجِماع (2) .
ومَن قرأ "لَمَسْتُم" جعل الفعل من واحد، وهو الإفضاء باليد، أو ببعض الجسد إلى جسد المرأة، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، ومنصور، والشعبي، والنخعي (3) .
وفي هذه الآية على هذا التفسير مستدلٌ لمن حكم بنقض الوضوء من لمس النساء، وقد اختلف العلماء في ذلك، وفيه عن الإمام أحمد ثلاث روايات:
أحدها: لا ينتقض بكل حال، وهو قول ابن عباس، والحسن البصري،
__________
(1) الحجة للفارسي (2/83-84)، ولابن زنجلة (ص:204)، والكشف (1/391)، والنشر (2/250)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:191)، والسبعة في القراءات (ص:234).
(2) أخرجه الطبري (5/102-103)، وابن أبي حاتم (3/961)، وابن أبي شيبة (1/153). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/550) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (5/104-105)، وابن أبي حاتم (3/961)، وعبد الرزاق (1/133)، وابن أبي شيبة (1/153)، والطبراني في الكبير (9/249)، والبيهقي في الكبرى (1/124)، والحاكم (1/228). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/549-551) وعزاه لسعيد بن منصور من طريق النخعي. ومن طريق آخر عن الشعبي، وعزاه لابن أبي شيبة. ومن طريق آخر عن ابن مسعود، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي.(1/543)
ومحمد بن الحسن، وسفيان الثوري، في إحدى الروايتين عنه.
الثانية: ينقض بكل حال، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، والشافعي.
الثالثة: التفصيل، إن كان لشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض، وهو الصحيح من المذهب، واختيار عامة الأصحاب، وهو قول مالك، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه.
وقال الأوزاعي: إن كان اللمس باليد نقض، وإلا فلا (1) .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كانت ملامسة فاحشة تنشر الآلة نقضت، وإلا فلا.
{ فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً } (2) أخرجا في الصحيحين: "أن عائشة رضي الله عنها كانت مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فانْقَطَعَ عِقْدٌ لِها، فَأَقَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى التِمَاسِهِ [وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ] (3) وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَنَزَلَتْ هذه الآية، فَقَالَ أُسَيْدُ بن حُضَيْر: مَا هِيَ بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبي بَكْر" (4) .
واختلف العلماءُ في وجوب طلب الماء: فذهب الإمام أحمد -في أصح
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع (1/30)، ومغني المحتاج (1/15)، والمغني (1/123-124)، والتمهيد (21/175).
(2) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الحادي، والثلاثين، مرة ثانية.
(3) زيادة من الصحيحين.
(4) أخرجه البخاري (1/127 ح327)، ومسلم (1/279 ح367).(1/544)
الروايتين عنه- إلى أن طلب الماء شرط، لقوله تعالى: { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } ، ولا يقال: لم يجد إلا إذا طلب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب ولا شرط، وهو الرواية الأخرى (1) .
والتَّيَمُّم: القَصْد (2) ، كما ذكرناه في البقرة.
والصَّعِيد: التراب، في قول عليّ، وابن مسعود، والفرَّاء، والزجَّاج (3) .
وقال الشافعي: لا يقع اسم الصَّعيد إلا على تراب ذي غبار، فلذلك قال: لا يجوز التيمم إلا بما كان بهذه الصفة، وهو الصحيح من مذهب إمامنا (4) .
وقال الزجَّاج (5) وأبو حنيفة وأصحابه: الصَّعيدُ: وجهُ الأرض تراباً كان أو غيره، حتى لو ضربتَ عندهم على صخرة، لا غبار عليها، كان ذلك طهوراً (6) .
وفي قوله في المائدة: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } [المائدة:6] دليلٌ على صحة مذهبنا، لأن المعنى: امسحوا بوجوهكم، وأيديكم ببعضه، وهذا مستحيل في الصخر الذي لا تراب عليه.
قالوا: "مِن" لابتداء الغاية.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع (1/47)، والمجموع (2/347)، والمغني (1/149).
(2) انظر: اللسان، مادة: (أمم).
(3) ذكره الماوردي (1/491)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/94).
(4) انظر: مغني المحتاج (1/96)، وكشاف القناع (1/172)، والمغني (1/155).
(5) معاني الزجاج (2/56).
(6) انظر: الهداية (1/25).(1/545)
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يَفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض.
قلت: هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء.
فصل
ذهب الإمام أحمد إلى أن التيممَ ضربةٌ واحدة للوجه والكفين، وهو قول علي، وابن عباس، وعمار، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وعكرمة، والأوزاعي، وإسحاق، لأن اليد عند الإطلاق إلى الكوع؛ بدليل قوله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [المائدة:38]، والقطع من الكوع بالإجماع.
وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يَكْفيكَ الوَجْهَ وَالكَفَّيْنِ" (2) .
ورواه أيضاً عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً فقال: "فضرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفّيه" (3) .
وذهب جماعة منهم ابن عمر، والحسن، وأبو حنيفة، والثوري،
__________
(1) الكشاف (1/547).
(2) أخرجه البخاري (1/130 ح334)، ومسلم (1/280 ح368).
(3) هو تكملة للحديث السابق.(1/546)
والشافعي إلى أنه ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (1) .
وذهب ابن سيرين إلى أنه ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين.
وذهب الزهري إلى أنه يمسح إلى الآباط، لأن عماراً قال: ضربنا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب (2) .
ولا حُجَّة فيه، لأنه حكى فعلهم، ولم يقل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، ولا أمر به، ولا رآه، أو بلغه فسكت.
قوله: { إن الله كان عفواً غفوراً } يصفح ويتجاوز عنكم، ويغفر لكم ما كان منكم.
ِNs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/287)، والطبراني في الكبير (12/367) كلاهما من حديث ابن عمر. وانظر: المغني (1/154).
(2) انظر: تفسير الطبري (5/112)، والثعلبي (3/320-321)، والهداية (1/25)، والتمهيد (19/282)، والمجموع (2/241)، والمغني (1/154).(1/547)
ِNن3ح !#y‰ôمr'خ/ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا(1/548)
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا احرب(1/549)
قوله: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال قتادة: هم اليهود (1) .
والنصيبُ الذي أوتوه: علمُهم بما في كتابهم من نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره.
{ يشترون الضلالة } يؤثرونها، ويرفضون ما كانوا عليه من الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه.
قال الزجَّاج (2) : يؤثرون التكذيب بالنبي عليه السلام، ليأخذوا على ذلك الرُّشا.
{ ويريدون أن تضلوا السبيل } أي: أن تخطئوا أيها المؤمنون طريق الهدى.
قوله تعالى: { والله أعلم بأعدائكم } أي هو أعرف بهم منكم، فهو يُطلعكم عليهم، فجانبوهم، ولا تناصحوهم، ولا تصاحبوهم، { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } فثقوا بولايته، ونصره لكم.
قوله تعالى: { من الذين هادوا } قال الزجّاج (3) : "مِن" صلة "الذين أوتوا الكتاب"، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا. أو جملة مستأنفة، المعنى: من الذين هادوا قوم يُحرِّفون، فيكون قوله: "يُحرِّفون" صفة، ويكون الموصوف محذوفاً. وأنشد سيبويه:
__________
(1) أخرجه الطبري (5/115-116). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/97).
(2) معاني الزجاج (2/57).
(3) معاني الزجاج (2/57-58).(1/550)
وَمَا الدَّهْرُ إلا تَارَتَانِ، فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ (1)
المعنى: فمنهما تارة أموت فيها.
وقال صاحب الكشاف هذا المعنى فأجاد، وزاد (2) : "من الذين هادوا" بيانٌ للذين أوتوا نصيباً من الكتاب.
قوله: { والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله } "وكفى بالله" جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل [الاعتراض] (3) ، أو بيان لـ"أعدائكم"، وما بينهما اعتراض، أو صلة لـ" نصيراً"، أي: ينصركم من الذين هادوا، كقوله: { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } [الأنبياء:77]. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، على أنّ "يُحرِّفون" صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يُحرِّفون (4) ، كقوله: -وأنشد البيت (5) -:
وَمَا الدَّهْرُ .............. ... ... .....................
ومعنى: { يُحرِّفون الكلم عن مواضعه } يميلونه ويزيلونه عنها؛ كما كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : راعنا، والسَّام عليك، وما حرّفوه أيضاً من التوراة،
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل. انظر: ديوانه (ص:24)، والكتاب لسيبويه (2/346)، والمحتسب (1/112)، والخزانة (2/308)، ومعاني الفرَّاء (2/142)، والبحر المحيط (3/273)، والكامل للمبرد (ص:538).
... والتارة: الحين والمرة. والشاهد في البيت: حذف الاسم لدلالة الصفة عليه.
(2) الكشاف (1/548-549).
(3) في الأصل: الاعراض. والتصويب من الكشاف (1/548).
(4) انظر: التبيان (1/182)، والدر المصون (2/371-372).
(5) أي: الزمخشري في الكشاف (1/549).(1/551)
وغيَّروه من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ ويقولون سمعنا وعصينا } أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وكانوا يجاهرون بالكفر، ويُعَرِّضون بالسبّ، فلذلك صرَّحوا بالعصيان ولوَّحوا بالسب في قولهم : { واسمع غير مُسْمَعٍ وراعنا } ، فقوله : "غير مسمع" حال من المخاطب.
قال ابن عباس: معناه: لا سمعت (1) . كأنهم قالوا: اسمع منا مَدْعُوّاً عليك بالصُّمّ.
وقال الحسن: المعنى: اسمع غير مقبول منك (2) .
فهذا مقصودهم، وباطن كلامهم، وظاهره: اسمع غير مُسمَع مكروهاً، فهو كلام ذو وجهين.
وقيل: كانوا يقولون بألسنتهم: اسمع، وفي نفوسهم: لا سمعت. وهذا القول يأباه قوله: "لياً بألسنتهم"، وقولهم: "راعنا"، ودلالة الحال.
وقد سبق في البقرة الكلام على "رَاعِنا" (3) .
قوله: { لياً بألسنتهم } مصدر، أصله: لَوْياً، فأدغمت الواو في الياء.
وقيل: إن رفاعة بن زيد كان إذا تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - لوى لسانه، وطعن في
__________
(1) أخرجه الطبري (5/118)، وابن أبي حاتم (3/966)، والطبراني في الكبير (12/123). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/554) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
(2) ذكره الطبري (5/118)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/100).
(3) عند قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } [البقرة:104].(1/552)
الإسلام، فأنزل الله فيه هذه الآية (1) .
والمعنى: تحريفاً للمدح إلى الذم.
{ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } بدل قولهم: "سمعنا وعصينا"، { واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم } مما أظهروا وأضمروا، { وأقوم } أي: أعدل، { ولكن لعنهم الله } طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن، { فلا يؤمنون إلا قليلاً } أي: إيماناً قليلاً ضعيفاً (2) .
والمنقول عن ابن عباس: فلا يؤمن منهم إلا قليل؛ كعبد الله بن سلام (3) .
ثم إن الله أمرهم بالإيمان وهددهم فقال: { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً } .
قال ابن عباس وقتادة وجمهور المفسِّرين: نطمس ما فيها من عين وحاجب وأنف، فنجعلها كخف البعير، وحافر الفرس، كما طمسنا أموال القبط، فجعلناها حجارة، ونحولها إلى الأدبار (4) .
__________
(1) أخرجه الطبري (5/116)، وابن أبي حاتم (3/967). وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/553) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والببهقي في الدلائل.
(2) انظر: تفسير الطبري (5/121).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/61) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/100).
(4) أخرج نحوه الطبري (5/121)، وابن أبي حاتم (3/969). وذكره الواحدي في الوسيط (2/62)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/101). وذكر نحوه السيوطي في الدر المنثور (2/555) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.(1/553)
وقال قتادة: نُحوِّل وجوههم قِبَل ظهورهم ونطمس عيونهم (1) .
وقيل: هو استعارة عن إعماء بصائرهم عن الحق، وردهم عن الهدى بكل وجه.
وروي أن كعباً لما سمع هذه الآية قال: يا رب آمنت، يا رب أسلمت، خشية أن يصيبه هذا الوعيد (2) .
{ أو نلعنهم } يعني: أصحاب الوجوه.
وقيل: "الذين أوتوا الكتاب" على طريقة الالتفات من المخاطبة إلى المغايبة.
والمراد بلعنهم: مسخهم قردة وخنازير، بدليل قوله: { كما لَعَنَّا أصحاب السبت } .
وقيل: طردهم في التِّيه. وفيه بُعْد.
فإن قيل: لم يوجد فيهم طمس ولا مسخ.
قلت: هو مرتقب لهم، ألا تراه يقول: { وكان أمر الله مفعولاً } .
وجائز أن يراد بالطمس: إعماء قلوبهم عن الهدى، وباللعن: طردهم عن رحمة الله أو عن بلادهم، أو اللعن المتعارف، وكل ذلك قد وُجِد فيهم، فإنهم
__________
(1) أخرجه الطبري (5/121)، وابن أبي حاتم (3/969)، والثعلبي (3/324). وذكره الواحدي في الوسيط (2/62).
(2) أخرجه الطبري (5/124)، وابن أبي حاتم (3/969). وذكره الواحدي في الوسيط (2/62-63)، والسيوطي في الدر المنثور (2/555-556) وعزاه لابن جرير.(1/554)
نُفوا إلى أَذرِعَات (1) ، وطُرِدوا عن رحمة الله، ولُعِنوا بكل لسان.
وجائزٌ أن يكون ذلك مشروطاً باتفاقهم على ترك الإيمان، فانتفى التعذيب عنهم في الدنيا لإيمان بعضهم، والله أعلم.
قوله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به } قال ابن عمر: لما نزلت: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ... الآية } [الزمر:53]، قالوا: يا رسول الله، والشرك، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فأنزل الله هذه الآية (2) .
قال عليّ رضي الله عنه: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (3) .
وقال ابن عمر: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا يقول: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (4) .
وفي هذه الآية دليلٌ على أن مَن مات على الإيمان من أهل الكبائر لا
__________
(1) أذرعات: المعروفة اليوم بـ: درعا، من الأراضي السورية.
(2) أخرجه الطبري (5/125)، وابن أبي حاتم (3/970)، والثعلبي (3/325). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/557) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الترمذي (5/247)، والثعلبي (3/325). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/558) وعزاه للفريابي والترمذي.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/106)، وأبو يعلى في مسنده (10/186)، وابن عدي
... في الكامل (2/419). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/557) وعزاه لابن الضريس وأبي يعلى وابن المنذر وابن عدي.(1/555)
يخلد في النار، وبرهان قاطع على بطلان ما انتحله القَدَرية (1) من قولهم: لا يجوز أن يغفر الله الكبيرة، ولا أن يعفو عن المعاصي.
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله ثمَّ مَاتَ عَلَى ذلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، ثمَّ قَالَ في الرَّابعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبي ذرٍّ. فَكَانَ أَبُو ذرّ يُحَدِّثُ بهَذا بَعْد وَيَقُول: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبي ذرٍّ" (2) .
وفي تعليق المغفرة بالمشيئة، تعديل لخوف المؤمن ورجائه.
ِNs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا
__________
(1) القَدَرية: لقبوا بذلك لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر فيها، وهذا يقتضي إثبات خالق لأفعال العباد غير الله، ولهذا سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مجوس هذه الأمة.
(2) أخرجه البخاري (5/2193 ح5489)، ومسلم (1/95 ح94).(1/556)
مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا اخثب
قوله: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قال ابن عباس: نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد؛ هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا، فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، وما عملناه بالنهار كُفِّر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كُفِّر عنا بالنهار، فنزلت هذه(1/557)
الآية (1) .
وقال غيره: كانت اليهود والنصارى يثنون على أنفسهم ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولن يدخل الجنة إلا مَن كان هوداً أو نصارى (2) ، ويُمنّون بأنهم أهل الكتاب وأوعية العلم، وأولاد الأنبياء، وورَّاث الحكمة إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة، والخدع، ويَركبون رؤوسهم في الجهل، والاجتراء على أنبياء الله وأوليائه، فيكذبون فريقاً ويقتلون فريقاً، فردّ الله عليهم وكذَّبهم فقال: { بل الله يزكى من يشاء } ، فيجعله زاكياً، مرضياً، مطهراً من دنس الإثم والرذائل.
قال ابن عباس: هم أهل التوحيد (3) .
{ ولا يظلمون } يعني: لا ينقص من ثواب أعمالهم.
{ فتيلاً } قال مجاهد وعطاء، وجمهور المفسِّرين، وابن قتيبة (4) ،
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/972) عن ابن عباس بمعناه. وذكره الثعلبي (3/326)، والواحدي في أسباب النزول (ص:159-160)، والوسيط (2/65) من طريق الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (2/104).
... وأخرج مجاهد في تفسيره (ص:161) في قوله: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قال: هم اليهود، كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة، فيؤمونهم ويزعمون أنه لا ذنوب لهم، فتلك التزكية.
(2) أخرجه الطبري (5/126-127)، والثعلبي (3/326). وذكره مقاتل في تفسيره (1/233)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/104)، والسيوطي في الدر المنثور (2/560) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن.
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/65).
(4) تفسير غريب القرآن (ص:129).(1/558)
والزجَّاج (1) : الفتيل: ما في شق النواة (2) .
وقال سعيد بن جبير والسدي: هو ما يخرج من بين الأصابع من الوسخ عند الدَّلْك. والقولان عن ابن عباس (3) .
قال ابن السكِّيت (4) : القِطْميرُ: القشرة الرقيقة على النواة. والفَتيل: ما في شق النواة. والنَّقير: النكتة في ظهر النواة (5) .
قال الأزهري (6) : هذه الأشياء كلها تُضرب أمثالاً للشيء التافه، الحقير القدر (7) ، أي: لا يُظلمون قدرها (8) .
__________
(1) معاني الزجاج (2/60).
(2) أخرجه الطبري (5/129)، وابن أبي حاتم (3/973)، ومجاهد (ص:166). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/561) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري (5/128-129)، وابن أبي حاتم (3/972). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/561) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس.
(4) يعقوب بن إسحاق بن السكيت البغدادي، أبو يوسف النحوي، المؤدب، شيخ العربية، صاحب كتاب إصلاح المنطق، كان موثوقاً بروايته. توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين (تاريخ بغداد 14/273، والأعلام 8/195).
(5) ذكره الأزهري في تهذيب اللغة (14/290).
(6) محمد بن أحمد الأزهري، أبو منصور اللغوي، أحد الأئمة في اللغة والأدب، صاحب كتاب "تهذيب اللغة" المشهور. توفي سنة سبعين وثلاثمائة (طبقات الأدباء ص:237، وسير أعلام النبلاء 16/315، والأعلام 5/311).
(7) في تهذيب اللغة: القليل.
(8) تهذيب اللغة (14/290).(1/559)
قال النابغة (1) :
يَجْمَعُ الجَيْشَ ذا الألُوف وَيَغْزُو ... ثمَّ لا يَرْزَأُ العَدُوَّ فَتِيلا (2)
{ انظر } يا محمد، { كيف يفترون على الله الكذب } وهو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وقولهم: لا ذنوب لنا.
{ وكفى به } أي: حسبهم بافترائهم على الله الكذب { إثماً مبيناً } أي: ظاهراً.
قوله (3) تعالى: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } قال المفسِّرون: خرج كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب في جماعة من اليهود إلى مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: أنتم أقرب إلى محمد منا، وأنتم وهو من أهل الكتاب، ونحن أُمِّيون، فلا نأمن مكركم بنا، فاسجدوا لصنمنا حتى نطمئن إليكم، فسجدوا، فعيّرهم الله بذلك (4) .
قال ابن عباس: قالت لهم كفار قريش: أدين محمد خير، أم ديننا؟ فقالوا:
__________
(1) زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني، أبو أمامة، شاعر جاهلي، وكان حظياً عند النعمان بن المنذر (الأعلام 3/54-55).
(2) البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (ص:99)، والقرطبي (5/248).
(3) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثاني والثلاثين، مرة ثانية.
(4) أخرجه الطبري (5/134). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/563) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.(1/560)
بل دينكم (1) .
قال أهلُ اللغة: كلُّ ما عُبد من دون الله من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جِبْت وطاغوت.
فعلى هذا إيمان اليهود بالجِبْت والطاغوت، سجودهم للصنم وطاعتهم للشيطان في ذلك.
قال ابن عباس: الجِبْت: الأصنام (2) .
قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان (3) .
{ ويقولون } يعني: كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأصحابهما، { للذين كفروا هؤلاء } يعنون: كفار قريش { أهدى من الذين آمنوا } يعني: أصحاب محمد { سبيلاً } أي: طريقاً في الديانة والاعتقاد، وكان كفار قريش قالوا لهم: أنحن أهدى طريقاً أم محمد وأصحابه؟ فقالوا: أنتم.
{ أولئك الذين لعنهم الله } يعني: الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب.
÷Pr& لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ
__________
(1) أخرجه الطبري (5/135). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/563) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (5/130-131)، وابن أبي حاتم (3/975). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/564) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (5/131)، وابن أبي حاتم (3/975)، وسعيد بن منصور (4/1283)، ومجاهد (ص:161). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/564) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/561)
الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا اخخب
قوله: { أم لهم نصيب من الملك } ، "أم" منقطعة، والاستفهام بمعنى الإنكار، والتقدير: بل ألهم نصيب من الملك، أي: ليس لهم ذلك.
{ فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } قال الفرّاء (1) : هذا جواب لجزاء مضمر، كأنك قلت: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس [إذاً] (2) نقيراً.
__________
(1) معاني الفراء (1/273).
(2) زيادة من معاني الفراء (1/273).(1/562)
قال الزجاج (1) : وتأويل "إذاً": إن كان الأمر كما جرى، أو كما ذكرتَ. يقول القائل: زيدٌ يصيرُ إليكَ، فتقول: إذاً أُكرمه، أي: إن كان الأمر على ما تَصِفُ، وقع إكرامه.
{ أم يحسدون } أي: بل أيحسدون الناس، يعني: محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، في قول ابن عباس وجمهور المفسِّرين (2) .
وقال علي رضي الله عنه في قوله: { أم يحسدون الناس } قال: يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر، وعمر (3) .
وقال قتادة: يريد: العرب (4) .
{ على ما آتاهم الله من فضله } وهو النبوة، والحكمة، واستفحال أمر الإسلام.
{ فقد آتينا آل إبراهيم } وهم سِنْخ محمد (5) { الكتاب } يريد: جنس الكتب:
__________
(1) معاني الزجاج (2/63).
(2) أخرجه الطبري (5/138). وذكره الماوردي (1/496)، والواحدي في الوسيط (2/67) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/110)، والسيوطي في الدر المنثور (2/566) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة. ومن طريق آخر عن مجاهد.
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/110).
(4) أخرجه الطبري (5/138)، والثعلبي (3/329). وذكره الماوردي (1/496)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/110)، والسيوطي في الدر المنثور (2/567) وعزاه لابن جرير.
(5) السِّنْخ من كل شيء: أصله، والجمع: أسناخ (اللسان، مادة: سنخ).(1/563)
التوراة، والإنجيل، والزبور، { والحكمة } وهي النبوة.
وقيل: التفقه في الدين، فغير بدْعٍ أن يسلك بسَلِيلِهم (1) واضح سبيلهم.
{ وآتيناهم مُلْكاً عظيماً } قال ابن عباس: هو ملك يوسف، وداود، وسليمان (2) .
وقيل: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين.
وقد أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (3) بإسناده عن عمرو بن ميمون (4) قال: "رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش، فغبطه بمكانه، فسأل عنه، فقيل: سأخبرك بعمله؛ لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه".
قوله: { فمنهم من آمن به } أي فمن اليهود من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ كعبد الله بن سلام، { ومنهم من صَدَّ } أعرض { عنه } . هذا قول ابن عباس والأكثرين (5) .
__________
(1) السَّلِيل: الولد (مختار الصحاح، مادة: سلل).
(2) ذكره الماوردي (1/497)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/111).
(3) ... الزهد (ص:85).
(4) عمرو بن ميمون الأودي المذحجي، أبو عبد الله، أدرك الجاهلية وأسلم، وقدم الشام مع معاذ بن جبل ثم سكن الكوفة. توفي سنة أربع وسبعين، وقيل: بعدها (سير أعلام النبلاء 4/158).
(5) ذكره الواحدي في الوسيط (2/68)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/112).(1/564)
وقال مجاهد: "آمن به" أي: بالذي أنزل على محمد (1) ، فيكون الكلام مبنياً على قوله: { ما آتاهم الله من فضله } .
وقيل: الضمير في قوله: "فمنهم" يعود إلى آل إبراهيم.
قال السدي: المعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم (2) .
وقال مقاتل (3) : المعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب، ومنهم مَن صدّ عنه.
¨bخ) الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِن اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
__________
(1) أخرجه الطبري (5/141)، وابن أبي حاتم (3/981)، ومجاهد (ص:162). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/567) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/112).
(3) تفسير مقاتل (1/235).(1/565)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا اخذب
قوله تعالى: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } قال الحسن: بلغنا أنها تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرة، تأكل جلودهم ولحومهم، كلّما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا (1) .
واختلفوا هل تعود الجلود التي احترقت بأعيانها؟
فذهب قوم: إلى أنها تعود بأعيانها، كما أُعيدت يوم النشور، فتكون الغيرية عائدة إلى الصفات، لا إلى الذوات، كما تقول: صغت من خاتمي خاتماً آخر.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/983)، والثعلبي (3/330)، وابن أبي شيبة (7/52 ح34151). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/569) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/566)
والمعنى: بدّلناهم جلوداً غير محترقة.
قال ابن عباس: يُبدَّلون جلوداً بيضاً كالقراطيس (1) .
وذهب قوم: إلى أنهم يُجدَّد لهم جلود غير الجلود التي احترقت. قالوا: لا يلزم عليه أن يقال: كيف عُذِّبت مكان الجلود العاصية، جلود لم تعصي؛ لأن النعيم والعذاب إنما هو للجملة الحساسة، والجسد آلة موصلة لذلك إليها (2) .
{ ليذوقوا العذاب } أي: ليدوم لهم ذوقه.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ [في النَّارِ] (3) ، حَتَّى إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذنِ أَحَدِهِمْ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعمائَةِ عَامٍ، وَإِنَّ غِلَظَ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعاً، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ" (4) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ضِرْسُ الكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلاث" (5) .
{ إن الله كان عزيزاً } لا يمتنع عليه الانتقام ممن عصاه، { حكيماً } فيما قدَّره وقضاه.
ثم ذكر الله مآل أهل الإيمان، وما أعد لهم في الجنان فقال: { والذين
__________
(1) أخرجه الطبري (5/142)، وابن أبي حاتم (3/982) كلاهما عن ابن عمر، والثعلبي (3/330). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/568) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر.
(2) ذكره الطبري (5/143)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/112-113).
(3) زيادة من مسند أحمد (2/26).
(4) أخرجه أحمد (2/26 ح4800).
(5) أخرجه مسلم (4/2189 ح2851).(1/567)
آمنوا وعملوا الصالحات ... -إلى قوله-: ظلاً ظليلاً } أي: دائماً، لا تنسخه الشمس، ومعتدلاً، لا حَرَّ فيه ولا قَرّ.
وقال الزجاج (1) : الظَّليل: الذي يظلّهم من الحر والريح، وليس كل ظل كذلك، فأعلم الله أن ظل الجنة ظليل لا حَرَّ معه ولا بَرْد.
فإن قيل: كيف سَمَّاه ظِلاً، وليس في الجنة شمس؟
قلت: نعيم الجنة لا تهتدي العقول إلى كُنْه معرفته.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "فيها مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ" (2) .
وإنما يقرب إلى العقول عند الوصف للتعريف بذكر أمثاله في أسمائه مما يعرف كون مثله نعيماً في الدنيا مع فرط التفاوت، واختلاف الذوات والحقائق بين نعيم الدارين.
وقيل: خاطبهم بما يعقلون مثله؛ كقوله: { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [مريم:62].
وقيل: هو إشارة إلى كمال وصفها وتمكين بنائها، فلو كان الحرّ، أو البرد يتسلط عليها لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل.
¨bخ) اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
__________
(1) معاني الزجاج (2/66).
(2) أخرجه مسلم (4/2175 ح2825).(1/568)
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا اخرب
قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال ابن عباس ومجاهد والزهري ومقاتل (1) وجمهور العلماء: السبب في نزول هذه الآية: أنه لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة الحجبي -وكانت له السدانة- فذهب ليعطيه إياه. فقال العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فَلَفَّ عثمان يده مخافة أن يعطيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هات المفتاح، فأعاد العباس قوله، فَلَفَّ عثمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فقال: هاكه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح، ففتح البيت (2) .
وروي: أنه لما امتنع من تسليم المفتاح، لوى عليّ يده فأخذ المفتاح منه،
__________
(1) تفسير مقاتل (1/236).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/114)، والسيوطي في الدر المنثور (2/570) وعزاه لابن مردويه.(1/569)
وفتح الباب فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال: "خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلا ظالم" (1) .
ويروى: أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان (2) .
وروي عن ابن عباس والحسن: أنها عامة في كل أمانة (3) .
قال ابن مسعود: الأمانة في كل شيء، في الوضوء، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحديث، والجنابة، وفي الوزن، والكيل، وأعظم من ذلك الودائع، ولا إيمان لمن لا أمانة له (4) .
وقال ابن عمر: الفرْجُ أمانة، والبصرُ أمانة (5) .
وقال أُبَيّ بن كعب: أمر الله الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/332)، والواحدي في أسباب النزول (ص:161-162)، والوسيط (2/69-70).
(2) ذكره الثعلبي (3/333)، والواحدي في أسباب النزول (ص:162).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/70)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/114).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (3/985)، والطبراني في الكبير (10/219)، والبيهقي في الشعب (4/323)، وأبو نعيم في الحلية (4/201)، وابن أبي شيبة (7/134) عن البراء. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/571-572) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.
(5) ذكره الواحدي في الوسيط (2/70).(1/570)
المسلمين (1) .
ويؤيدُ هذا القول قوله: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .
{ إن الله نِعِمَّا يعظكم به } من أداء الأمانة والحكم بالعدل.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ الله عَلَى مَنَابرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا" (2) .
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/114).
(2) أخرجه مسلم (4/1458 ح1827).(1/571)
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اخزب
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } طاعةُ الله: العمل بكتابه، وطاعة الرسول: امتثال أمره والعمل بسُنَّته، وأولوا الأمر: الولاة كالخلفاء والملوك، والقضاة.
وفي أفراد مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ الله فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ الله وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَة" (1) .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله" (2) .
وقال جابر، والحسن، وأبو العالية، وعطاء: هم العلماء العاملون بعلمهم (3) ، ودليل هذا التأويل قوله: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر
__________
(1) أخرجه مسلم (3/1482 ح1855).
(2) أخرجه البخاري (3/1080 ح2797)، ومسلم (3/1466 ح1835).
(3) أخرجه الطبري (5/148-149)، وابن أبي حاتم (3/988-989)، وابن أبي شيبة (6/418)، والحاكم (1/211)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/260). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/575) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن جابر، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن أبي العالية، وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.(1/572)
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء:83].
قال أبو الأسود الدِّيلي (1) : ليس شيء أعز من العلماء، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال عِكرمة: أُولوا الأمر: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما (2) .
أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي (3) في كتابه، أخبرنا جدي لأُمي أبو محمد العباس بن محمد بن العباس، المعروف بعبَّاسة الطوسي (4) ، ثنا أبو سعيد محمد بن سعيد بن فَرْخَزادا، ثنا الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو بكر الحِمْشاذي، أخبرنا أبو ظهير العمري البلخي، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا القعنبي، عن مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر، وإن لي وزيرين في السماء، ووزيرين في الأرض، فأما في السماء
__________
(1) ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال غير ذلك، مخضرم، ثقة، وهو أول من تكلم بالنحو. توفي سنة تسع وستين (تهذيب الكمال 33/37).
(2) أخرجه الطبري (5/149)، وابن أبي حاتم (3/989). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/575) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر.
(3) المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، أبو الحسن النيسابوري، رضي الدين، الشيخ الإمام المقرئ المعمر، مسند خراسان. توفي سنة سبع عشرة وستمائة (سير أعلام النبلاء 22/104، والشذرات 5/78).
(4) العباس بن محمد بن أبي منصور الطوسي، أبو محمد العصاري، كان شيخاً صالحاً، سكن نيسابور وكان يعظ في بعض الأوقات، وهو راوي الكشف والبيان في التفسير للثعلبي. توفي سنة تسع وأربعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/288، والتحبير في المعجم الكبير ص:602-604).(1/573)
فجبريل وميكائيل، وأما في الأرض فأبو بكر وعمر، وهما عندي بمنزلة الرأس والجسد" (1) .
قرأت على أبي المجد محمد بن بهرام، أخبركم محمد بن أسعد فأقرَّ به، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان (2) ، أخبرنا خيثمة بن سليمان (3) ، حدثنا أبو عمرو بن أبي غرزة بالكوفة (4) ، حدثنا ثابت بن موسى العابد (5) ، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبي بَكْرٍ وَعُمَر" (6) .
__________
(1) أخرجه الترمذي مختصراً (5/609 ح3662)، وأحمد (5/382 ح23293)، والبيهقي في الكبرى (5/212 ح9836)، والحميدي في مسنده (1/214 ح449) كلهم بلفظ: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". والزيادة أخرجها الترمذي (5/616 ح3680)، والحاكم (2/290 ح3047) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أبو محمد الدمشقي، مسند الشام. توفي سنة عشرين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 17/366، وشذرات الذهب 3/215).
(3) خيثمة بن سليمان بن حيدرة القرشي، أبو الحسن الشامي، محدث الشام، كان رحالاً جوالاً صاحب حديث، جمع فضائل الصحابة. توفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 15/412، وطبقات الحفاظ ص:355).
(4) أحمد بن حازم بن محمد بن أبي غرزة الكوفي، أبو عمرو الغفاري، صاحب المسند، محدث الكوفة. توفي سنة ست وسبعين ومائتين (سير أعلام النبلاء 13/239).
(5) ثابت بن موسى بن عبد الرحمن بن سلمة الضبي، أبو يزيد الكوفي، الضرير العابد. توفي سنة تسع وعشرين ومائتين (التقريب ص:133، وتهذيب الكمال 4/377).
(6) أخرجه الترمذي (5/609 ح3662)، وأحمد (5/382 ح23293). ...(1/574)
ورواه أيضاً خيثمة، عن يحيى بن أبي ميسرة، عن عبد الله بن الزبير الحميدي، عن سفيان، إلا أنه قال: حدثنا زائدة بن قدامة، عن عبد الملك بن عمير (1) .
قال الترمذي (2) : كان سفيان يدلس في هذا الحديث، فربما يذكر عن زائدة عن عبد الملك، وربما لم يذكر زائدة.
قلت: وغيرُ ممتنع أن يكون سمعه من زائدة ومن [عبد الملك] (3) ، على أن للراوي أن يرفع الحديث وأن يقفه، وأن يقطعه ويصله، وأن يسنده ويرسله. ورواه ابن مسعود كذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) .
وقال أبو بكر الوراق (5) : أُولوا الأمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله تعالى عنهم (6) .
قوله: { فإن تنازعتم في شيء } أي: اختلفت آراؤكم فيه، وأصله من النزع، كأن المتنازعين يتجاذبان ويتمانعان، ومنه قيل للمناولة: منازعة.
قال الأعشى:
__________
(1) مسند الحميدي (1/214).
(2) سنن الترمذي (5/610).
(3) في الأصل: سفيان، وهو خطأ.
(4) أخرجه الحاكم (3/80 ح4456).
(5) محمد بن إسماعيل بن العباس البغدادي المستملي، أبو بكر الوراق، محدث فاضل مكثر. توفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/388، ولسان الميزان 5/80).
(6) ذكره الثعلبي (3/333).(1/575)
ناَزعْتُهُ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئاً ... وَقَهْوَةً مُزّةً رَاوُوقُها خَضِلُ (1)
{ فردوه إلى الله والرسول } أي: ردوا المتنازَع فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته، وإلى سُنَّتِهِ بعد مماته نصاً واستدلالاً. والرد عند الجهل تفويض علم ذلك الشيء إلى الله وإلى رسوله.
{ ذلك } إشارة إلى الرد إلى الله والرسول، { خير وأحسن تأويلاً } أي: أحمد عاقبة، وسُمِّيت العاقبة تأويلاً؛ لأنها مآل الأمر.
وقيل: المعنى: أحسن تأويلاً من تأويلكم.
ِNs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
__________
(1) البيت للأعشى. انظر: ديوانه (ص:133)، واللسان، مادة: (مزز)، والقرطبي (5/261).(1/576)
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ(1/577)
لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ادجب
قوله (1) : { ألم تر إلى الذين يزعمون ... الآية } قال ابن عباس: نزلت في منافق خاصم يهودياً، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، فقال المنافق: بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف -وهو الذي سماه الله: الطاغوت-، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأى المنافق ذلك رافعه إلى رسول الله، فقضى لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، وقصا القصة عليه، فقال للمنافق: أكذلك هو؟ قال: نعم، فقال عمر: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على سيفه، ثم خرج، فضرب به المنافق، حتى بَرَدَ (2) ، فقال: هكذا أقضي لمن لم يَرْضَ بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهرب اليهودي. فنزل جبريل بهذه الآية وقال: يا محمد؛ إن عمر فرّق ببن الحق والباطل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنت الفاروق" (3) .
والزّعْم: بضم الزاي وفتحها لغتان، وأكثر ما يُستعمل فيما لا تتحقق صحته.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد، قراءة بمسجد الرقي، المجلس السابع عشر.
(2) بَرَدَ: أي: مات (اللسان، مادة: برد).
(3) أخرجه الطبري (5/152)، ومجاهد (ص:163-164) كلاهما مختصراً. وذكره الثعلبي في تفسيره (3/337)، والواحدي في أسباب النزول (ص:166)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/118-119)، والسيوطي في الدر المنثور (2/582) وعزاه للثعلبي.(1/578)
{ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } وهو كعب بن الأشرف، سُمِّي بذلك؛ لإفراطه في الطغيان، وعداوة الإسلام.
{ وقد أُمروا أن يكفروا به } قال مقاتل (1) : أُمروا أن يتبرأوا من الكهنة.
قوله (2) : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة } أي: كيف يكون حالهم إذا أصابتهم عقوبة من الله.
قيل: هي قتل المنافق، { بما قدمت أيديهم } من النفاق والتحاكم إلى الطاغوت، { ثم جاءوك } يعني: أولياء المنافق، وكانوا قد طلبوا القصاص من عمر رضي الله عنه، { يحلفون بالله إن أردنا } بطلب القصاص، { إلا إحساناً وتوفيقاً } أي: خيراً وطلباً لما يوافق الحق.
وقيل: ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحساناً وتوفيقاً بين الخصمين، لا مخالفة حكمك، وعدم الرضا بقضائك، وذلك كذب منهم. ألا تراه يقول: { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } يعني: من الكفر والنفاق وإضمارهم خلاف ما يقولون، { فأعرض عنهم } أي: دع عقوبتهم.
ذهب جماعةٌ من المفسِّرين إلى أن الأمرَ بالإعراض منسوخ بآية السيف (3) .
__________
(1) تفسير مقاتل (1/238).
(2) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثالث والثلاثين، مرة ثانية.
(3) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:74)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:34)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:281).(1/579)
وهذا ليس بصحيح؛ لأن آية السيف اقتضت إباحة دم المشركين، وحضَّت على قتلهم، والمنافق معصوم الدم؛ لإظهاره كلمة الحق.
{ وعظهم } خَوِّفهم أن يعودوا لمثلها، وحذرهم من النفاق.
{ وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } أي: قل لهم وبالغ في وعظهم مبالغة تؤثر في نفوسهم وتبلغ كُنْه قلوبهم.
قال الحسن البصري رحمه الله: المعنى: قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتِلتم (1) .
وقيل: المعنى: قل لهم خالياً بهم، لأن القول في السر أنجع وأدخل في النصيحة.
وقد تكلم الفصحاء في البلاغة فأحسنوا:
قال الزجَّاج (2) : يقال: بَلَغَ الرَّجُلُ يَبْلُغُ بَلاغَةً فهو بَلِيغٌ؛ إذا كان يُبلِّغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه.
وقد قيل: البلاغةُ: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
وقيل: حُسن العبارة مع صحة المعنى.
وقال خالد بن صفوان (3) : إن أحسن الكلام: ما قلَّت ألفاظه وكثرت معانيه. وخير الكلام: ما شوَّق أوله إلى سماع آخره.
__________
(1) ذكره الماوردي (1/503)، والواحدي في الوسيط (2/74).
(2) معاني الزجاج (2/70).
(3) خالد بن صفوان بن الأهتم المنقري، أبو صفوان البصري، العلامة البليغ فصيح زمانه، وقد وفد على عمر بن عبد العزيز (سير أعلام النبلاء 6/226).(1/580)
وقال غيره: إنما يستحق الكلام اسم البلاغة، إذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه (1) .
!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ادخب
قوله تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } دخلت "مِن" هاهنا للتوكيد، والمعنى: وما أرسلنا رسولاً قط إلا ليُطاع بتوفيق الله.
وقال الزجاج (2) : المعنى: إلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك.
{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بإيذائك والتحاكم إلى غيرك خوفاً من تجريعهم مُرّ الحق، وطمعاً في تحريفه على يد الطاغوت بما يبذلونه له من الرشوة، { جاءوك } تائبين نادمين، { فاستغفروا الله } بألسنة صادقة، وقلوب صافية من كدر النفاق.
ثم عَدَلَ عن المخاطبة إلى المغايبة، مُنوِّهاً باسم الرسالة، مُفخِّماً لشأن القائم بأعبائها، الناهض بأثقالها، فقال: { واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } .
وقد روى الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه في مواضع من كتبه (3) بإسناده عن محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي فَزارَهُ، ثم قال: يا خير الرسل! إن الله عز وجل أنزل عليك كتاباً صادقاً، قال فيه: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وإني جئتك
__________
(1) انظر هذه الأقوال في: زاد المسير (2/122).
(2) معاني الزجاج (2/70).
(3) ذكره في مثير الغرام الساكن (ص:490).(1/581)
مستغفراً إلى ربك من ذنوبي، مستشفعاً بك، ثم بكى وأنشأ يقول:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبهِنَّ القَاعُ وَالأَكُمُ
نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فيهِ العَفَافُ وَفيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ (1)
ثم استغفر [الله] (2) وانصرف، فرقدت، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومي وهو يقول: الحَق الرَّجُل فبشِّره أن الله تعالى قد غَفَرَ له بشفاعتي.
قوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } .
أخبرنا الشيخ أبو القاسم ابن عبد الرزاق العطار، قراءة عليه وأنا أسمع، في سنة ست وستمائة، والشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر الصوفي بقراءتي عليه، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن أعين، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: "خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِن الأَنْصَارِ في شِراجٍ (3) مِن الحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثمَّ أَرْسِلْ المَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الله، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْههُ - صلى الله عليه وسلم - ، ثمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثمَّ احْبس المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ، ثمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فاسْتَوْعَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ في صَرِيحِ
__________
(1) انظر البيتين في : البحر المحيط (3/296) . وانظر القصة في : الصارم المنكي (ص : 337 -338).
(2) زيادة من مثير الغرام (ص:490).
(3) الشراج: جمع شَرْجَة، وهي مسيل الماء من الحَرَّة إلى السهل (اللسان، مادة: شرج).(1/583)
الحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنصَارِيُّ، وكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بأَمْرٍ لَهُمَا فيهِ سَعَةٌ. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إلا نَزَلَتْ في ذلِكَ { فَلا وَرَبكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } " (1) . هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قصة المنافق واليهودي (2) . فعلى هذا هي متصلة بما قبلها.
قوله: { فلا } رد لزعمهم أنهم مؤمنون، أي: ليس الأمر كما زعمتم، ثم استأنف فقال: { وربك لا يؤمنون } .
وقيل: إن "لا" توطئة للنفي الذي يأتي، فإنه إذا ذكر في صدر الكلام وآخره كان أوكد وأحسن.
وقيل: زيدت لتوكيد معنى القسم، كما تقول: لا والله لا أفعل كذا. والتقدير: فوربك، و "لا يؤمنون" جواب القسم (3) .
{ فيما شَجَرَ بينهم } أي: فيما اختلط، ومنه: الشَّجَر؛ لالتفاف أغصانه.
ويقال لعصى الهودج: شِجَار.
{ ثم لا يجدوا في أنفسهم حَرَجاً } أي: ضيقاً.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1674 ح4309)، ومسلم (4/1829 ح2357).
(2) أخرجه الطبري (5/159)، ومجاهد (ص:164)، والثعلبي (3/340). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/585) وعزاه لابن جرير وابن المنذر. وقد سبقت قصتهما (ص:546).
(3) انظر: تفسير الطبري (5/158)، والدر المصون (2/384-385).(1/584)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: شكاً (1) . وهو يَؤُول إلى معنى الضيق.
{ ويسلموا تسليماً } أي: يذعنون وينقادون لأحكامك المضية، وأقضيتك المرضية.
ِqs9ur أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
__________
(1) أخرجه الطبري (5/158)، وابن أبي حاتم (3/995) كلاهما عن مجاهد. وأخرجه مجاهد في تفسيره (ص:164). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/586) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/585)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا اذةب
قوله: { ولو أنا كتبنا عليهم } أي: فرضنا عليهم، { أن اقتلوا أنفسكم } كما فرضنا على بني إسرائيل، { أو اخرجوا من دياركم } كما فرضنا عليهم الخروج من مصر، أو كما فرضنا على المهاجرين.
{ ما فعلوه إلا قليلٌ منهم } وقرأ ابن عامر: "قليلاً"، وكذلك هو في(1/586)
مصاحف أهل الشام (1) .
فمَن رَفَعَ؛ فعلى البدل من الواو في "فَعَلُوهُ".
ومَن نَصَبَ؛ فعلى الاستثناء، وفيه ضعف، أو على معنى: ما فعلوه إلا فعلاً قليلاً.
ولما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: والله لو أمرنا ربنا بذلك لفعلنا، والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك (2) .
وقال ثابت بن قيس: أما والله إنَّ الله ليعلم مني الصدق، والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها (3) .
وقال ابن مسعود وعمار بن ياسر مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده إن من أُمَّتي رجالاً، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" (4) .
{ ولو أنهم } يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم في غضون ذلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت { فعلوا ما يوعظون به } أي: يُذَكَّرون به من طاعة الله وطاعة رسوله { لكان خيراً لهم } في الحال والمآل، { وأشد تثبيتاً } في إيمانهم وأمانهم.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/86)، ولابن زنجلة (ص:206)، والكشف (1/392)، والنشر (2/250)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:192)، والسبعة في القراءات (ص:235).
(2) ذكره أبو السعود في تفسيره (2/198).
(3) ذكره البغوي في تفسيره (1/449).
(4) أخرجه الطبري (5/161)، والثعلبي (3/341). وانظر: الدر المنثور (2/587).(1/587)
{ وإذاً لآتيناهم } دخلت "إذاً" لتدل على الجزاء، كأنه قيل: ولو أنهم فعلوا إذاً لفعل بهم.
قوله: { ومن يطع الله والرسول } قال ابن عباس: كان ثوبانُ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديدَ المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرف النبي في وجه ثوبان الحزن يوماً، فقال: يا ثوبان؛ ما غيرَّ وجهك؟ فقال: يا رسول الله؛ ما بي من وجع، غير أني إذا لم أَرَكَ اشتقت إليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك، فنزلت هذه الآية (1) .
وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله؛ والله الذي لا إله إلا هو، لأنت أحب إليّ من نفسي، وأهلي، ومالي، وولدي، وإني لأذكرك وأنا في أهلي، فيأخذني مثل الجنون حتى أراك، وذكرت موتي، وأنك تُرفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، فأنزل الله هذه الآية (2) .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب
__________
(1) أخرجه الطبري (5/164) عن سعيد بن جبير. وذكره الثعلبي (3/341)، والواحدي في أسباب النزول (ص:168-169) من قول الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (2/126).
(2) أخرجه سعيد بن منصور (4/1307). وذكره الواحدي في الوسيط (2/77)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/126)، والسيوطي في الدر المنثور (2/588-589) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر.(1/588)
إليه من نفسه، وأبويه، وأهله، وولده، والناس أجمعين" (1) .
{ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } كمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، { والصِّدِّيقين } كأبي بكر، { والشهداء } كعمر، وعثمان، وعليّ، { والصالحين } من الصحابة وغيرهم.
فالصِّدِّيق: الكثير الصِّدق، ومثله: سِكِّيت، وسِكِّير، وشِرِّيب، وفِسِّيق، وضِلِّيل، وظِلِّيم، للذي يكثر منه ذلك، ولا يُطلق على مَن فعل شيئاً من ذلك مرة أو مرتين.
والشهيد: سُمِّي بذلك؛ لأن الله شهد له بالجنة، أو لأن ملائكة الرحمة تشهده، أو لقيامه بشهادة الحق حتى قُتِل، أو لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة في دار المقامة.
والصالح: مَن حسنت سيرته، وصلحت سريرته.
{ وحَسُن أولئك رفيقاً } قال الزجّاج (2) : "رفيقاً": منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء.
قال الشاعر:
بهَا جِيَفُ الحَسْرَى، فَأَمّا عِظَامُها ... فَبيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ (3)
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/342). وأصله في الصحيحين، أخرجه البخاري (1/14 ح14)، ومسلم (1/67 ح44).
(2) معاني الزجاج (2/73-74).
(3) البيت لعلقمة بن عَبَدَةَ المعروف بالفحل. انظر: ديوانه (ص:40) والكتاب (1/209)، والمفضليات (ص:394)، والطبري (4/244، 17/12)، والقرطبي (1/190)، ومعاني الزجاج (1/83، 2/74)، وزاد المسير (1/307، 401، 2/128، 8/103)، والدر المصون (1/108، 2/125).(1/589)
قوله: { ذلك الفضل من الله } "ذلك" مبتدأ، "الفضل" خبره، أو "ذلك" مبتدأ، "الفضل" صفته، "من الله" خبره (1) .
{ وكفى بالله عليماً } بمن أطاعه وأطاع رسوله.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
__________
(1) انظر: التبيان (1/186)، والدر المصون (2/389).(1/590)
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا اذحب
قوله: { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } الحِذْر والحَذَر لغتان؛ كالمِثْل والمَثَل، والشِبْه والشَبَه، والمعنى: خذوا حذركم من عدوكم، وذلك بالتيقظ وإعداد آلة الحرب، ونصب راية الجهاد، ألا تراه يقول:
{ فانفروا ثبات } أي: انفروا إلى الجهاد ثُبات، هو جمع ثُبَةٍ، وهي الجماعة (1) .
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (ثبا).(1/591)
قال زهير (1) :
وَقَدْ أَغْدُوا عَلَى ثبَةٍ كِرَامٍ ... ... نَشَاوى وَاجِدِينَ لمَا نَشَاءُ (2)
والمعنى: انفروا للجهاد سريّة بعد سريّة.
{ أو انفروا جميعاً } على حسب ما يقتضيه الرأي، وتوجبه الحكمة.
{ وإنَّ منكم لمن ليبطئن } وهم المنافقون، وأُضيفوا إليهم لجريان أحكام الإسلام عليهم.
وقيل: هم الذين قلَّت بصائرهم من المؤمنين.
ومعنى: { ليبطئن } ليتثاقلنّ ويتخلّفن. مِنْ بطأ وأَبْطَأَ.
ويجوز أن يكون المعنى: ليبطئن غيره.
واللام في "لمن" للابتداء، وفي "ليبطئن" جواب قسم محذوف، والتقدير: وإن منكم لمن أقسم بالله "ليبطئن"، والقسم وجوابه صلة "مَن"، والعائد ما استكن في "ليبطئن" (3) .
والمصيبة: قتل أو هزيمة، والفضل: فتح وغنيمة.
__________
(1) زهير بن أبي سلمى ربيعة المزني، حكيم الشعراء في الجاهلية، من أصحاب المعلقات (الأعلام 3/52).
(2) البيت لزهير بن أبي سلمى . انظر: ديوانه (ص:11) ، ومجاز القرآن (1/132) ، واللسان ، مادة :
... (ثبا، ثوب، نشا)، والطبري (5/164)، والماوردي (1/505)، وزاد المسير (2/129)، وروح المعاني (29/31).
(3) انظر: الدر المصون (2/390).(1/592)
قال صاحب الكشاف (1) : { كأن لم تكن بينكم وبينه مَودَّة } اعتراض بين الفعل الذي هو "ليقولن" وبين مفعوله وهو "يا ليتني".
والظاهر: أنه تَهَكُّمٌ بالمنافقين، لأنهم كانوا أعدى عدو للمؤمنين، فكيف يوصفون بالمَودَّة، إلا على وجه العكس.
وقال الواحدي (2) : قوله: { كأن لم تكن بينكم وبينه مَودَّة } متصل [في النظم] (3) بقوله: { قال قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً } ، كأن لم تكن بينكم وبينه مَودَّة.
قال ابن الأنباري (4) : المعنى: كأن لم يعاقدكم على الإسلام، ولم يبايعكم على الصبر والثبات فيه، بما ساء وسرّ.
قرأ ابن كثير وحفص: "كأن لم تكن" بالتاء؛ لتأنيث المَودَّة. وقرأ الباقون: بالياء (5) ؛ للفصل، أو لأن المودَّة بمعنى الوُدّ، أو لأن التأنيث غير حقيقي.
{ فأفوز } جواب التمني بالفاء.
__________
(1) الكشاف (1/565).
(2) الوسيط (2/80).
(3) زيادة من الوسيط (2/80).
(4) انظر: الوسيط (2/80).
(5) الحجة للفارسي (2/88)، ولابن زنجلة (ص:208)، والكشف (1/392)، والنشر (2/250)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:192)، والسبعة في القراءات (ص:235).(1/593)
وقرئ شاذاً: "فأفوزُ" بالرفع (1) ، على معنى: فأنا أفوز.
تمنوا ذلك ميلاً إلى المال، لا رغبة في المآل.
قوله تعالى (2) : { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون } أي: يبيعون { الحياة الدنيا بالآخرة } ، كقول ابن مُفَرِّغ الحميري (3) :
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ (4)
قوله: { فيُقتل أو يَغلب } خارج مخرج الغالب، إذ كل مجاهد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، له أجر عظيم وإن لم يُقتل ولم يغلب.
$tBur لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
__________
(1) قرأ بها الحسن ويزيد النحوي. انظر: مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:27)، والمحتسب (1/192)، والبحر المحيط (3/303).
(2) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الرابع والثلاثين، مرة ثانية.
(3) يزيد بن زياد بن ربيعة الملقب بمُفَرِّغ الحميري، أبو عثمان، شاعر غزل، وكان هجاء مقذعاً، وله مديح، وفد على مروان بن الحكم فأكرمه. توفي سنة تسع وستين (الأعلام 8/183).
(4) البيت ليزيد بن مُفَرِّغ الحميري. انظر: ديوانه (ص:213)، والخزانة (6/47)، والأضداد لابن السكيت (ص:185)، واللسان، مادة: (برد، شري)، والدر المصون (1/509، 4/165)، والطبري (1/415، 12/170)، والقرطبي (3/21، 9/155)، وزاد المسير (2/131)، وروح المعاني (12/204).(1/594)
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا اذدب(1/595)
{ والمستضعفين } فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مجروراً عطفاً على "سبيل الله"، أي: في سبيل الله وسبيل خلاص المستضعفين.
والثاني: أن يكون منصوباً على الاختصاص، بمعنى: وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفرة من أعظم الخير وأخصه (1) . هذا قول صاحب الكشاف (2) .
{ والمستضعفين } قوم أسلموا بمكة وصدَّهم المشركون عن الهجرة فلم يستطيعوا الخروج.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أنه تلا هذه الآية فقال: "كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ المُسْتَضْعَفين" (3) .
وفي ذكر الولدان تسجيل على الكفرة بالإفراط في التعدي والبغي، حيث تعدى ظلمهم وأذاهم إلى الأطفال.
{ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية } يعنون: مكة { الظالم أهلها } بالشرك والعدوان.
قال الزجَّاج (4) : { الظالم أهلها } نعت للقرية. ووَحَّدَ الظالم؛ لأنه صفة تقع
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/394).
(2) الكشاف (1/566).
(3) أخرجه البخاري (1/455 ح1291، 4/1675 ح4311).
(4) معاني الزجاج (2/77).(1/596)
موقع الفعل، يقال: مررت بالقرية الصالح أهلها، أي: التي صَلَحَ أَهلُها.
{ واجعل لنا من لدنك وليّاً } أي: وَلِّ علينا رجلاً مؤمناً يتولى أمورنا.
{ واجعل لنا من لدنك نصيراً } ينصرنا على عدونا، ويمنعنا منهم، فاستجاب الله دعاءهم، فهاجر مَن هاجر منهم، وأزال أذى الكفر عنهم.
قال ابن عباس: فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة جعله الله وليهم، واستعمل عليهم عَتَّاب بن أَسِيد (1) فكان نصيراً لهم، ينصف الضعيف من القوي (2) .
والمراد بقوله: { يقاتلون في سبيل الطاغوت } : الشيطان، وهو اسم جنس، { إن كيد الشيطان } يعني: مكره وتدبيره { كان ضعيفاً } بالنسبة إلى كيد الله ومكره.
َOs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا
__________
(1) عتاب بن أَسِيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، أسلم يوم الفتح، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة لما سار إلى حنين (الإصابة 4/429، وتهذيب الكمال 19/282).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/81) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/133).(1/597)
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ(1/598)
سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا اذزب
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } قال قتادة وجمهور المفسِّرين: نزلت في رجال من المؤمنين منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص كانوا يقولون: يا رسول الله! ائذن لنا في قتال المشركين، لِمَا يَلْقَوْن من الشدة والعناء، فيقول لهم: "كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم"، فلما أُذن في القتال بعد(1/599)
الهجرة، وأمر رسول الله بالمسير إلى العير والنفير، فلما عرفوا أنه القتال كرهه بعضهم وشق عليهم، فأنزل الله هذه الآية.
أخرجه أبو داود، والنسائي بمعناه من حديث ابن عباس (1) .
وروى عطية عن ابن عباس: أنها نزلت واصفة حال أقوام كانوا في الزمان المتقدم، يُحذّر هذه الأُمَّة مثل حالهم (2) .
قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله (3) .
ومعنى: "كُفُّوا أيديكم": امتنعوا من القتال.
{ فلما كُتِبَ عليهم القتال إذا فريق منهم } وهم قوم لم ترسخ أقدامهم في العلم.
{ يخشون الناس كخشية الله } قال الحسن البصري: هذا كان منهم لما في طبع البشر من المخافة، لا على كراهة أمر الله بالقتال (4) .
وقيل: هم قوم نافقوا عند الأمر بالقتال، كأن ما رُكِّب في الطبع من حب الحياة وكراهية الموت، وما خامر قلوبهم من الخوف؛ حملهم على أقوال وأفعال سلبتهم الإيمان، وكسبتهم النفاق.
__________
(1) أخرجه النسائي في الكبرى (3/3)، والحاكم في المستدرك (2/336)، والطبري (5/170-171)، والثعلبي (3/345). ولم أقف عليه في سنن أبي داود.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/134).
(3) مثل السابق.
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (2/82).(1/600)
"يخشون الناس" أي: يخافون الكفار.
"كخشية الله": محله من الإعراب: النصب على الحال من الضمير في "يَخْشَوْنَ"، أي: يخشون الناس مشبهين أهل خشية الله.
{ أو أشد خشية } عطف على الحال، يعني: أو أشد خشية من أهل خشية الله (1) .
{ وقالوا } حرصاً على الحياة { ربنا لِمَ كتبت علينا القتال لولا } أي: هلاّ، { أخَّرتنا إلى أجل قريب } ، بحيث نتقوى ونكثر، { قل متاع الدنيا } أي: نفعها والبقاء فيها { قليل، والآخرة خير لمن اتقى } الشرك والشك، { ولا تُظلمون } من ثواب جهادكم لأعداء الله، { فتيلاً } سبق تفسيره آنفاً (2) .
قوله: { أينما تكونوا يدرككم الموت } "أين": ظرف مكان فيه معنى الاستفهام والشرط (3) .
قال ابن عباس: نزلت في قول المنافقين يوم أُحُد: { لَوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } (4) [آل عمران:156].
وغيرُ مستبعدٍ ارتباطها بما قبلها، فتكون من تمام ما أمر الله به رسوله أن يقوله لكارهي القتال حباً للحياة وحذراً من الممات.
{ ولو كنتم في بروج مشيَّدة } أي: في حصون منيعة رفيعة، من قولهم:
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/396).
(2) عند تفسير الآية رقم: 49.
(3) انظر: الدر المصون (2/397).
(4) ذكره الثعلبي (3/346)، والواحدي في أسباب النزول (ص:160).(1/601)
شَادَ بناءه وَأَشَادَهُ وَشَيَّدَهُ؛ إذا رَفَعَهُ.
وقيل: "المُشَيَّدة": المَبْنِيَّة بالشِّيد، وهو الجِصّ (1) .
قال قتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري والسدي: هي بروج السماء الاثنا عشر (2) .
قوله تعالى: { وإن تصبهم } يعني: اليهود والمنافقين { حسنة } أي: نعمة من خصب ورخاء وغير ذلك، { يقولوا هذه من عند الله } .
{ وإن تصبهم سيئة } بَليَّة من قحط وشدة، { يقولوا هذه من عندك } أي: بشؤمك، تطيراً بمقدم رسول الله إلى المدينة، كما قيل لموسى عليه السلام: { اطَّيَّرْنَا بكَ وَبمَن مَّعَكَ } (3) .
{ قل كل عند الله } قبض الأرزاق وبسطها، ورفع الأسعار وحطها، { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } أي: يفهمون حديثاً، فيعلموا أن الله الحكيم في تدبيره، هو القابض الباسط، بعلمه وتقديره.
قوله: { ما أصابك من حسنة فمن الله } أي: ما أصابك أيها الإنسان أو
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (شيد).
(2) أخرجه الطبري (5/173)، وابن أبي حاتم (3/1008). وذكره الواحدي في الوسيط (2/83)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/137)، والسيوطي في الدر المنثور (2/595) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، ومن طريق آخر عن أبي العالية و سفيان. ...
(3) الذي قيل لموسى عليه السلام هو قوله: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [الأعراف:131]، أما قوله تعالى: { اطيرنا بك وبمن معك } فإنما هي قول ثمود لرسولها صالح.(1/602)
أيها السامع، أو هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره.
قال ابن عباس: ما أصابك يوم بدر من نصر وغنيمة فمن الله، وما أصابك يوم أُحُد من قتل وهزيمة فمن نفسك، أي: بذنبك (1) .
قال قتادة: عقوبة لذنبك يا ابن آدم (2) .
فإن قيل: ظاهرُ هذا يناقض قوله: { قل كل من عند الله } .
قلت: لا مناقضة لأوجه:
أحدها: أن المعنى كما ذكر ابن عباس وقتادة وغيرهما، أنه أضافه إليه إضافة الشيء إلى سببه، ومثله قوله عليه السلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل أنه قال: "يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أحفظها عليكم (3) ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَه" (4) .
فالمعنى على هذا: "فَمِنْ نَفْسِكَ": بسبب خطيئتك، وأنا قضيتُها عليك.
الثاني: أن التقدير: أَفَمِنْ نفسك؟ وقد يُحذف حرف الاستفهام كثيراً،
__________
(1) أخرجه الطبري (5/175)، وابن أبي حاتم (3/1010). وذكره الماوردي (1/509)، والواحدي في الوسيط (2/83)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/138)، والسيوطي في الدر المنثور (2/597) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (5/597). وذكره الواحدي في الوسيط (2/84)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/139)، والسيوطي في الدر المنثور (2/597) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(3) في صحيح مسلم بلفظ: "أُحْصِيهَا لَكُمْ ثمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا". ولفظ: "أحفظها عليكم" هي رواية الحاكم في المستدرك (4/269)، والبيهقي في الكبرى (6/93).
(4) أخرجه مسلم (4/1994 ح2577) من حديث أبي ذر الطويل.(1/603)
ومثله: { فظن أن لن نقدر عليه } [الأنبياء:87]، { أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُون } [الأنبياء:34]، { وتلك نعمة تمنها عليَّ } [الشعراء:22]، تقديره: أَفَظَنَّ؟ أَفَهُمُ؟ أَوَ تِلْكَ نعمة؟ فعلى هذا يكون الاستفهام بمعنى الإنكار عليهم، حيث نسبوا الفعل إلى غير فاعله، فإنه لا يقع في الكون أمر من رخص وغلاء، ونعمة وبلاء، إلا بقضاء الله وقدره.
الثالث: أن هذا من تمام ما حكاه الله عنهم منكراً عليهم، التقدير: { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } ، يقولون: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ، والمضمر المقدَّر كثير في القرآن وكلام العرب، ومنه قوله تعالى: { أو على سفر فعدَّة } [البقرة:184]، أي: فأفطر فعدَّة، وقوله: { أو به أذى من رأسه ففدية } [البقرة:196] أي: فحلق ففدية، { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم } [النور:20]، أي: لولا فضل الله عليكم لعذَّبكم.
وقال النمر بن تولب (1) :
فَإِنَّ المَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا ... فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا (2)
أراد: أينما ذهب.
__________
(1) النمر بن تولب بن زهير العُكْلي، كان شاعراً مشهوراً فصيحاً، وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكَيِّس؛ لجودة شعره، وكثرة أمثاله. وهو جاهلي أدرك الإسلام فأسلم (الإصابة 6/470).
(2) البيت للنمر بن تولب. انظر البيت في: مشكل القرآن (ص:217)، والطبري (1/196)، والقرطبي (1/262)، وزاد المسير (2/141).(1/604)
وقال غيره:
فَأَقْسَمَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفعَا (1)
قوله تعالى: { وأرسلناك للناس رسولاً } أي: لجميع الناس الموجودين في زمانك، والذين يوجدون إلى يوم القيامة، ومثله: { وما أرسلناك إلا كافة للناس } [سبأ:28].
وقوله عليه السلام : "بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ" (2) ، أي : إلى العجم والعرب.
وقيل: إلى الإنس والجن.
قال الزجاج (3) : ذكر الرسول توكيداً لقوله: "وأرسلناك".
{ وكفى بالله شهيداً } الباء مؤكدة، و "شهيداً" نصب على التمييز، والمعنى: كفى الله شهيداً لك بالرسالة، وعليهم بالضلالة.
`B يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
__________
(1) البيت لامرئ القيس. انظر: ديوانه (ص:242)، واللسان، مادة: (وحد)، والطبري (12/18، 13/152، 23/201)، وزاد المسير (2/141، 4/87)، وروح المعاني (7/128، 13/154).
(2) أخرجه مسلم (1/370 ح521)، وأحمد (1/301 ح2742).
(3) معاني الزجاج (2/80).(1/605)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ ×pxےح !$sغ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ارتب
قوله: { مَن يطع الرسول فقد أطاع الله } قال مقاتل (1) : السبب في نزولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني فقد أحب الله، فقال المنافقون: ألا تسمعون ما يقول، لقد قارب هذا الرجل الشرك. فنزلت هذه الآية".
{ ومن تولى } عن طاعتك، { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } أي: رقيباً تحفظ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها.
قال المفسِّرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نُسِخ بآية السيف (2) .
__________
(1) تفسير مقاتل (1/244).
(2) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:76)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:34)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:283).(1/606)
قوله: { ويقولون طاعة } أي: ويقول المنافقون لك إذا أمرتهم أو نهيتهم: شأننا أو أمرنا طاعة.
{ فإذا برزوا من عندك } أي: خرجوا، { بَيَّتَ طائفة منهم غير الذي تقول } قرأ أبو عمرو وحمزة: "بَيَّتْ طَائِفَةٌ" بإدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من حيز واحد.
وقرأ الباقون: بالإظهار وفتح التاء (1) ؛ لانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين.
والطائفة بمعنى: الفريق، والتأنيث فيه غير حقيقي، فلذلك ذَكَّر الفعل.
قال الزجَّاج (2) : وكل أمر فُكِّر فيه بليل فقد بُيِّت، ومنه قوله تعالى: { إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ } [النساء:108]. والمعنى: زَوَّرت وسوَّت خلاف ما قُلتَ وما أمرت به.
وقيل: المعنى: غير الذي تقول الطائفة، وتظهر من الطاعة.
{ والله يكتب ما يُبيِّتون } أي: يُثبته في صحائف أعمالهم، أو يكتبه فيما يوحيه إليك وينزله عليك، ليعلمك أسرارهم وإصْرارهم.
{ فأعرض عنهم } أي: عن الانتقام منهم.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/89)، والكشف (1/393)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:193)، والسبعة في القراءات (ص:235).
(2) معاني الزجاج (2/81).(1/607)
قال ابن عباس: نسخ هذا بالأمر بقتالهم (1) .
{ وتوكل على الله } فهو يكفيك شأنهم، وينتقم لك منهم إذا استفحل أمرك، وعظم سلطانك، وكثر أعوانك.
ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
__________
(1) ذكره ابن سلامة في الناسخ والمنسوخ (ص:76)، وابن حزم في الناسخ والمنسوخ (ص:34)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص:284).(1/608)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ارجب
قوله عز وجل: { أفلا يتدبرون القرآن } يَتَأَمَّلُونَهُ ويتفكرون فيه، فيستدلوا برصانة مبانيه عن المناقضة، وصيانة معانيه عن المعارضة، وكثرة حكمه وأحكامه مع إيجازه وإعجازه، وتشويق هواديه إلى أعجازه. على أنه كلام مَن تنزَّهت ذاته عن مشاكلة الذوات، وصفاته عن مماثلة الصفات.
{ ولو كان من عند غير الله } كما زعم حاسدوك ومعاندوك، { لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } تفاوتاً في النظم والمعنى على نحو كلام البشر ما بين بديع مستحسَن، ومرذول مستهجَن، وكلام الله تعالى جار على سَنَنٍ واحد من البلاغة والبراعة وصحة اللفظ والمعنى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قوله: { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله: أطلَّقتَ نساءك؟ قال: لا، فخرج، فنادى: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُطلِّق نساءه، فنزلت هذه الآية، فكان عمر هو الذي استنبط الأمر" (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم (2/1105-1107 ح1479).(1/609)
وروى أبو صالح (1) عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سريّة فغَلبت أو غُلِبت، تحدَّثوا بذلك، وأذاعوه قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبراء أصحابه وعلمائهم، فأنزل الله هذه الآية (2) .
والمشار إليهم بقوله: { وإذا جاءهم } : المنافقون.
وقيل: ضعفة المسلمين الذين لا اطلاع لهم على بواطن الأمور وجلايا القضايا.
والأمن: الظفر والغنيمة.
والخوف: القتل والهزيمة.
{ أذاعوا به } أظهروه وأشاعوه، يقال: أذاع السر وأذاع به،
{ ولو رَدُّوهُ } يعني: الأمر { إلى الرسول } ليكون هو المُخْبر به، { وإلى أولي الأمر منهم } وهم أصحاب البصائر المضيئة بنور العلم والإيمان.
قال ابن عباس: كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم (3) .
وقيل: هم ذوو الآراء من الأمراء.
{ لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي: يستخرجونه من أولي الأمر.
وقال مجاهد: من المذيعين (4) .
__________
(1) باذام -ويقال: باذان- أبو صالح، مولى أم هانئ (الجرح والتعديل 1/135). ...
(2) ذكره الثعلبي (3/350-351)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/145-146).
(3) ذكره الثعلبي (3/351)، والواحدي في الوسيط (2/87) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/147).
(4) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/147). وأخرج مجاهد في تفسيره (ص:167) عند قوله: { يستنبطونه منهم } قال: وهو قوله: ماذا كان؟ وماذا سمعتم؟.(1/610)
فالمعنى على القول الأول: ولو ردوه إلى أرباب العلم، وكبراء الصحابة لاستنبطوه بآرائهم السليمة، وأفهامهم المستقيمة، فعلموا منهم صحة ذلك الأمر من بطلانه، وهل المصلحة في إذاعته، أو في كتمانه.
والمعنى على قول مجاهد: ولو ردُّوه إلى أُولي الأمر منهم، وهم الكبراء أو الأمراء لعلمه المستنبطون من المذيعين.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } قال ابن عباس: "فضل الله": الإسلام، "ورحمته": القرآن (1) .
{ لاتبعتم الشيطان } قال ابن عباس: هاهنا تم الكلام (2) ، ثم استثنى القليل من قوله: "أذاعوا به" تقديره: أذاعوا به { إلا قليلاً } ممن عصم الله منهم فإنهم لا يذيعون (3) . وهذا اختيار الكسائي، والفرَّاء (4) ، وابن جرير (5) .
وقال الحسن: الاستثناء من المستنبطين، تقديره: لعلمه الذين يستنبطونه إلا القليل (6) .
وهذا اختيار ابن قتيبة (7) .
وقال الضحاك وغيره: المعنى: لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/351)، والواحدي في الوسيط (2/87).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/1017).
(3) الوسيط (2/87).
(4) معاني الفراء (1/279).
(5) تفسير الطبري (5/183-184).
(6) ذكره الماوردي (1/511)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/148).
(7) تفسير غريب القرآن (ص:132).(1/611)
قليلاً (1) . اختاره الزجَّاج (2) .
وقال بعض العلماء: المعنى: ولولا فضل الله عليكم بإرسال محمد إليكم لضللتم إلا قليلاً منكم، وهم الذين اهتدوا بنور عقولهم إلى عبادة الرحمن، ورفض الأوثان؛ كقُس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل.
ِ@دF"s)sù فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/148).
(2) معاني الزجاج (2/84).(1/612)
مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ارذب
قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله } قال ابن عباس: لما ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصغرى (1) بعد أُحُد كره بعضهم ذلك، فأنزل
__________
(1) وهي عندما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سفيان صبيحة أُحُد بحمراء الأسد، وقد تقدمت القصة في آل عمران عند قوله تعالى: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } [172].(1/613)
الله هذه الآية (1) .
والفاء في قوله: "فقاتل" متعلقة بقوله: { ومن يقاتل } [النساء:74]، أو بقوله: { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } [النساء:75]، على معنى: إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وإن بقيت وحدك.
{ لا تُكلَّف إلا نفسك } إلا الجهاد بنفسك.
{ وحَرِّض المؤمنين } أي: ليس عليك إلا تحريضهم، وحضَّهم على الجهاد، { عسى الله أن يَكُفَّ بأس الذين كفروا } أي: شدتهم.
قد سبق الكلام على "عسى". وفي الجملة إطماع الكريم واجب واقع، فحقق الله ذلك، فكف بأس الذين كفروا، أبو سفيان وأصحابه، كما ذكرناه في آل عمران.
{ والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً } عقوبة.
قوله: { من يشفع شفاعة حسنة ... الآية } قال الحسن: ما يجوز في الدين أن يُشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يُشفع فيه فهو شفاعة سيئة (2) .
فيدخل في الشفاعة الحسنة كل شفاعة جلبت للإنسان خيراً، ونَفَتْ عنه ضيراً، والإصلاح بين الناس والدعاء للمؤمنين.
والسيئة بخلاف ذلك.
وهذه الجملة تشتمل على تفاصيل أقوال المفسِّرين في الشفاعتين.
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/352)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/148-149).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/89).(1/614)
والنَّصيب والكِفْل بمعنى واحد.
والمعنى: أن لهذا نصيباً من الأجر، ولهذا كِفْلاً من الوِزْر.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَليَقْضِ الله عَلَى لِسَانِ نَبيِّهِ مَا أَحَبّ" (1) .
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر أنه قال: "مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله، فَقَدْ حَادَّ الله في ملكه" (2) .
قوله: { وكان الله على كل شيء مقيتاً } أي: مقتدراً. يقال: أَقَاتَ على الشيء يُقِيتُ إِقَاتَةً؛ إذا اقْتَدَرَ عليه (3) ، وأنشدوا:
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتا (4)
وقال قتادة: المُقِيت: الحفيظ (5) .
قال الزجاج (6) : هو بهذا أشبه، لأنه مشتق من القُوت. يقال: قُتُّ الرَّجُلَ
__________
(1) أخرجه البخاري (2/520 ح1365)، ومسلم (4/2026 ح2627).
(2) أخرجه أبو داود (3/305 ح3597)، وأحمد (2/70 ح5385).
(3) انظر: اللسان، مادة: (قوت).
(4) البيت للزبير بن عبد المطلب بن هاشم، أكبر أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - . انظر: اللسان، مادة: (قوت)، والصحاح (1/262)، والبحر المحيط (3/316)، والدر المصون (2/405، 6/156)، وتفسير غريب القرآن (ص:132)، والطبري (5/188)، والقرطبي (5/296)، والماوردي (1/513). ونسبه ابن الجوزي في زاد المسير (2/150)، والسيوطي في الدر المنثور (2/604) لأحيحة بن الجلاح الأنصاري.
(5) ذكره الواحدي في الوسيط (2/90)، وابن الجوزي في زاد المسير (3/150).
(6) معاني الزجاج (2/85-86).(1/615)
أَقُوتُهُ قَوْتاً؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسَهُ بما يَقُوته، واسم الشيء الذي يَحْفَظُ نَفْسَهُ: القُوت، فمعنى المُقِيت: الحافظ (1) الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ (2) .
قال الشاعر:
أَلِيَ الفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذا حُو ... ... سِبتُ، إِنِّي عَلَى الحِسَاب مُقِيتُ (3)
والقولان عن ابن عباس (4) .
قوله: { وإذا حييتم بتحية } التفسير المشهور الذي عليه الجمهور، أن التحية: السلام، { فحيوا بأحسن منها } مثل أن يقول لك أخوك المسلم: السلام عليكم، فتقول: وعليكم السلام ورحمة الله، { أو رُدُّوها } قولوا مثلها، ندب سبحانه إلى الفضل في الرد، وأوجب العدل، { إن الله كان على كل شيء }
__________
(1) في الزجاج واللسان: الحفيظ.
(2) انظر: اللسان، مادة: (قوت).
(3) البيت للسموأل بن عادياء. انظر: ديوانه (ص:13)، ومجاز القرآن (1/135)، وغريب القرآن لابن قتيبة (ص:133)، والأصمعيات (ص:86)، واللسان، مادة: (قوت)، والبحر المحيط (3/316)، والدر المصون (2/405)، والطبري (5/188)، وزاد المسير (2/151)، والكشاف (1/575). ...
(4) أخرج القول الأول لابن عباس: الطبراني في الكبير (10/252) من حديث طويل. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/604) وعزاه لأبي بكر ابن الأنباري في الوقف والابتداء والطبراني في الكبير والطستي في مسائله.
... وأخرج القول الثاني: الطبري (5/187)، وابن أبي حاتم (3/1019). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/604) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.(1/616)
من الفضل في الرد، والعدل فيه، { حسيباً } مجازياً مكافياً.
قوله: { لَيجمعنكم } هذه لام القسم، تقديره: والله ليجمعنكم، يعني: في الموت، أو في القبور، { إلى يوم القيامة } ويُحتمل أن يكون المعنى: ليجمعنكم في يوم القيامة.
وهو يوم قيام الناس من قبورهم، فالقيامة والقيام بمعنى، كالطِلابة والطِلاب، { ومن أصدق من الله حديثاً } أي: قولاً ووعداً.
* فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى(1/617)
يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا(1/618)
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ازتب(1/619)
قوله: { فما لكم في المنافقين فئتين } (1) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم، وأبو الحسن البغداديان، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثني محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر وعبد الرحمن، قالا: حدثنا شعبة، عن عدي، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت: " { فما لكم في المنافقين فئتين } رجع ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أُحُد، وكان الناس فيهم فرقتين، فريق يقول: اقتلهم (2) ، وفريق يقول: لا، فنزلت: { فما لكم في المنافقين فئتين } ، وقال: إنها طيبة تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة" (3) . وأخرجه مسلم أيضاً.
وقال عبد الرحمن بن عوف: نزلت في قوم أسلموا فأصابهم وباء المدينة وحماها، فخرجوا، فاستقبلهم نفر من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فَاجْتَوَيْنَاهَا (4) ، فقالوا: أما لكم في رسول الله أُسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية (5) .
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة مسجد الرقي، المجلس الثامن عشر، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الخامس والثلاثين، مرة ثانية.
(2) في هامش الأصل: صوابه: تقتلهم به.
(3) أخرجه البخاري (4/1676 ح4313)، ومسلم (4/2142 ح2776).
(4) اجْتَوَيْت البلد: إذا كرهت المُقام فيه. والاجْتِواء: النِّزاع إلى الوطن وكراهةُ المكان الذي أنت فيه وإن كنت في نعمة (اللسان، مادة: جوا).
(5) أخرجه أحمد (1/192)، والواحدي في أسباب النزول (ص:172). وذكره السيوطي في لباب النقول (ص:75-76)، وفي الدر المنثور (2/610) وعزاه لأحمد.(1/620)
وقيل: نزلت في العُرَنيين الذين أغاروا على سرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقيل: نزلت في الذين لم يهاجروا من مكة (2) .
والمعنى: ما لكم اختلفتم في شأن قوم ظهر نفاقهم، وتفرقتم فيهم فئتين -أي: فرقتين، ونصبها على الحال (3) -، وما لكم لم تجتمعوا على كفرهم.
{ والله أركسهم } رَدَّهُم إلى الشرك كما كانوا، يقال: أَرْكَسَ الشَّيْء ورَكَسَهُ، { بما كسبوا } من الفعل القبيح الدال على كفرهم ونفاقهم.
{ أتريدون } أيها المؤمنون، { أن تهدوا مَن أضل الله } لأنهم قالوا: هم إخواننا، وتكلموا بكلمتنا، فأنكر الله عليهم نسبة المنافقين إليهم.
{ ومَن يُضلل الله فلن تجد له سبيلاً } إلى الحُجَّة، ولا دليلاً على المحجة.
ثم أخبر الله المؤمنين بما تنطوي عليه ضمائرهم لهم، لئلا يحسنوا الظن بهم، فقال: { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون } عطف على "تكفرون" (4) ، إذ لو كان جواباً لحذفت النون، والمعنى: أحبوا كفركم وكونكم مثلهم.
{ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله } أي: يرجعوا إلى رسول الله بنِيَّةٍ خالصة من شوائب النفاق.
__________
(1) حديث العرنيين أخرجه البخاري (1/92 ح231).
(2) أخرجه الطبري (5/193)، وابن أبي حاتم (3/1023). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/609-610) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(3) انظر: التبيان (1/189)، والدر المصون (2/407).
(4) انظر: التبيان (1/189)، والدر المصون (2/409).(1/621)
{ فإن تولَّوا } عن التوحيد والهجرة، { فخذوهم } أُسَراء، { واقتلوهم حيث وجدتموهم } في حِلٍّ أو حرم، { ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } .
قوله: { إلا الذين يصلون } استثناهم الله عز وجل من قوله: { فخذوهم واقتلوهم } التقدير: خذوهم واقتلوهم إلا الذين يتصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيكون بينهم رابطة حِلْف أو جوار، فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم.
قال ابن عباس: والمراد بالقوم: هلال بن عويمر الأسلمي وقومه، وكان وَادَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن [لا] (1) يعينه، ولا يعين عليه، وكان مَن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال (2) .
وقال الحسن: بنو مدلج (3) .
وقال مقاتل (4) : خزاعة وبنو مدلج.
قال ابن عباس: والميثاق: العهد (5) .
{ أو جاءوكم } معطوف على صفة "قوم" (6) ، أي: يَصِلُون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن قتالكم.
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة على الأصل.
(2) أخرجه الطبري (5/197-198) عن عكرمة، وابن أبي حاتم (3/1027).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/92)، والماوردي (1/516)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/158).
(4) تفسير مقاتل (1/247).
(5) زاد المسير (2/158).
(6) وفيه وجه آخر، وهو أنه عطف على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورهم (انظر: الدر المصون 2/410).(1/622)
وقال الزجَّاج (1) : المعنى: يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو يصلون إلى قوم جاءوكم.
وقرأ أُبَيّ: "بينكم وبينهم ميثاق جاءوكم" بإسقاط "أو" (2) .
فعلى هذا: "جاءوكم" بيان لـ"يصلون"، أو بدل منه، أو استئناف، أو صفة بعد صفة لـ "قوم".
{ حصِرت صدورهم } أي: ضاقت صدورهم عن { أن يقاتلوكم } للعهد الذي بينكم وبينهم، { أو يقاتلوا قومهم } يعني: قريشاً.
قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حَصِر صدره أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه (3) .
وقيل: أو يقاتلوا قومهم الذين آمنوا، وصاروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فإن قيل: ما إعراب: "حَصِرت صدورهم"؟
قلت: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه في محل الحال بإضمار "قد"، والدليل عليه قراءة الحسن، وبها قرأتُ على أبي البقاء اللغوي، وأبي عمرو الياسري ليعقوب، والمفضل عن عاصم: "حَصِرَةً صدورهم" (4) على الحال، وهذا قول [الأخفش] (5) .
__________
(1) لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قول الزجاج في: زاد المسير (2/158).
(2) انظر: البحر المحيط (3/329)، والدر المصون (2/410).
(3) أخرجه الطبري (5/192-193)، وابن أبي حاتم (3/1028)، ومجاهد (ص:168).
(4) مختصر ابن خالويه (ص: 27-28)، وإتحاف فضلاء البشر (ص: 193).
(5) معاني الأخفش (ص:162). وفي الأصل: وهذا قول الفش. وهو تصحيف.(1/623)
الثاني: أنه صفة في موضع نصب، تقديره: أو جاءوكم قوماً حصرت صدورهم. قاله سيبويه.
الثالث: أنه دعاءٌ عليهم، لا موضع له من الإعراب، تقديره: ضيَّق الله صدورهم عن قتالكم. قاله المبرد (1) .
وردَّه أبو علي لقوله: "أو يقاتلوا قومهم"، ونحن لا ندعوا عليهم بأن يُضيِّق الله صدورهم عن قتال قومهم.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله (2) : فلما أعزّ الله الإسلام أُمِروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف.
{ ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم } فيه إشارة إلى أنه هو الذي حَصَرَ صدورهم عن قتال المؤمنين بما قذف في قلوبهم من الرعب.
قوله: { وألقوا إليكم السلم } قال الحسن: يعني: الإسلام (3) .
وقال غيره: الصلح (4) .
{ فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } إلى القتل والأخذ، ثم نسخ بآية السيف (5) .
__________
(1) المقتضب (4/124).
(2) انظر: زاد المسير (2/159).
(3) ذكره الماوردي (1/516)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/159).
(4) وهو قول الربيع ومقاتل. انظر: تفسير مقاتل (1/247)، والماوردي (1/516)، وزاد المسير (2/159).
(5) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:76)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:34)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:285-287).(1/624)
قوله: { ستجدون آخرين } قال ابن عباس: هم أسد وغطفان، وكانوا حاضري المدينة (1) .
وروي عنه: أنهم بنو عبد الدار (2) ، أظهروا الإيمان ليأمنوا المؤمنين بما أظهروا، { ويأمنوا قومهم } الكفار بما أضمروا، فأعلم الله نبيه أن هذه الموافقة منافقة، وأن مقصودهم من إظهار الإيمان الأمان.
{ كلما ردوا إلى الفتنة أُرْكِسوا فيها } أي: كلما سنح لهم الشرك عادوا إليه، لما عندهم من الشك في الإسلام، { فإن لم يعتزلوكم } فيتركوا قتالكم { ويلقوا إليكم السلم } ، وهو الانقياد والاستسلام للصلح.
{ ويكفوا أيديهم } عنكم، { فخذوهم } أسرى، { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي: حيث وجدتموهم قسراً.
{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أي: حُجَّة مضيئة بيِّنة في قتلهم لظهور مُحالهم في غدرهم، وانكشاف حالهم في كفرهم، ثم نُسِخ الكف عنهم بآية السيف (3) .
$tBur كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
__________
(1) ذكره مقاتل في تفسيره (1/247)، والثعلبي (3/358)، والواحدي في الوسيط (2/93) من قول الكلبي، وابن الجوزي في زاد المسير (2/160).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/160)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/159).
(3) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:76)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:34-35)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:287).(1/625)
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ(1/626)
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ازجب
قوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً } السبب في نزول هذه الآية: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم قبل أن يهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخاف أن يُظهر إسلامه لقومه، فخرج إلى المدينة، فقالت أُمه لابنيها: أبي جهل والحارث ابني هشام -وكانا أخويه لأمه-: والله لا يظلني سقف، ولا أذوق طعاماً، ولا شراباً حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن يزيد، حتى أتوا عياشاً وهو متحصن في أُطُم (1) ، فقالوا له: انزل -وأخبروه خبر أُمه-، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كل واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أمه، فقالت: والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر بمحمد، فطُرِح موثقاً في الشمس، حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن يزيد: يا عياش؛ إن كان ما كنت عليه هدىً لقد تركته، وإن كان ضلالاً لقد ركبته، فغضب وقال: والله لا ألقاك خالياً إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أسلم الحارث بعده، وهاجر، ولم يعلم عياش، فلقيه يوماً فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى
__________
(1) الأُطُم: -بضمتين يُخفَّف ويُثقَّل-: هو كل بيت مُرَبَّع مُسَطَّح. وقيل: حِصْنٌ مَبْنِيٌّ بحجارة. وقيل: هو البناء المرتفع، وهي حصون لأهل المدينة (اللسان، مادة: أطم).(1/627)
النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر بإسلامه، فنزلت هذه الآية (1) .
وقوله: { وما كان لمؤمن } أي: ما ينبغي ولا يليق بحال مَن اتصف بالإيمان، { أن يقتل مؤمناً } ابتداءً من غير سبب يوجب قتله.
وقوله: { إلا خطئاً } حال، أو صفة مصدر محذوف، أو مفعول له، على معنى: ما ينبغي أن يقتله لعِلَّة من العلل إلا للخطأ وحده (2) .
والمعنى: إلا على وجه الخطأ بأن يظنه كافراً، أو يرمي كافراً فيصيبه.
وروى أبو عبيدة عن يونس (3) أنه سأل رؤبة عن هذه الآية فقال: ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأً، ولكنه أقام "إلا" مُقَام الواو (4) .
قال الشاعر:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبيكَ إِلاَّ الفرْقَدانِ (5)
أراد: والفرقدان.
وقيل: وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم وإيجاب القتل.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/203-204)، ومجاهد (ص:169-170). وذكره الثعلبي (3/359)، والواحدي في أسباب النزول (ص:173-174) عن الكلبي، والدر المنثور (2/616).
(2) انظر: الدر المصون (2/413).
(3) يونس بن حبيب، الضبي بالولاء، أبو عبد الرحمن المعروف بالنحوي، علامة بالأدب، كان إمام نحاة البصرة في عصره، كانت له حلقة بالبصرة. توفي سنة اثنين وثمانين ومائة (الأعلام 8/261).
(4) ... زاد المسير (2/162)، والبحر المحيط (3/334)، والدر المصون (2/413).
(5) تقدم (ص:463).(1/628)
وقيل: الاستثناء منقطع، التقدير: لكن قد يقتله خطأ.
{ فتحرير رقبة } أي: فعليه تحرير رقبة { مؤمنة } ، واشترط الإمام أحمد -في إحدى الروايتين عنه- أن تكون قد صامت وصلَّت (1) ، وهو قول ابن عباس في رواية عنه، والحسن وقتادة وعامة المفسِّرين (2) .
{ وَدِيَةٌ مُسَلَّمة إلى أهله } وهم ورثة المقتول، { إلا أن يَصَّدَقوا } أي: إلا أن يتصدق الورثة بالدِيَة على القاتل فتسقط.
فصل
لا نعلم خلافاً أن إعتاق الرقبة متعلق بمال القاتل، وأن الدية على عاقلته، تحملها عنه على طريق المواساة منجمة أثلاثاً في ثلاث سنين، ولا يلزم الجاني منها شيء. وعند أبي حنيفة: هو كأحدهم (3) .
وعاقلته: عصباته، وإن لم تكن له عاقلة ففي بيت المال.
فصل
ودِيَة الحر المسلم: مائة من الإبل أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم من الوَرِق، أو ألفا شاة، أو مائتا بقرة.
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد رضي الله عنه في الحُلل هل هي أصل في الدِيَة؟ فإن قلنا: هي أصل -وبه قال أبو يوسف ومحمد- فقدرها
__________
(1) انظر: المغني (10/10).
(2) أخرجه الطبري (5/205)، وابن أبي حاتم (3/1032). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/617) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) انظر: الهداية (4/177)، والمغني (8/297).(1/629)
مائتا حُلَّة (1) .
ودِيَة الحرة المسلمة: على النصف من ذلك.
ودِيَة الذِّمِّي إذا قتله مسلم عمداً: مثل دِيَة المسلم.
وإن قتله خطأ؛ ففيه عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما: نصف دِيَة المسلم، والأخرى: ثلثها (2) .
ودِيَة المجوسي: ثمانمائة درهم.
وقال أبو حنيفة: دِيَة الكافر مثل دِيَة المسلم في العمد والخطأ (3) .
وقال مالك: نصف دِيَة المسلم (4) .
وقال الشافعي: ثلث الدِيَة في الحالين، وقال في المجوسي كقولنا (5) .
قوله: { فإن كان من قوم عدو لكم } أي: إن كان المؤمن المقتول خطأ من أعدائكم الكفار مقيماً بين أظهرهم، أو ليس منهم، ولكنه مقيم بين أظهرهم، فقتله مَن لا يعلم بإيمانه، { فتحرير رقبة مؤمنة } أي: فعليه عتق نسمة مؤمنة ولا دِيَة في قتله، لأنه ضيَّع نفسه بإقامته في دار الحرب، فإن عَلِمَ به أنه مسلم وجبت الدِيَة.
وقال أبو حنيفة: إن كان المسلم المقتول قد هاجر لزم القاتل الدِيَة
__________
(1) انظر: المغني (8/289)، والهداية (4/178)، والفروع (6/16)، والإنصاف (10/59).
(2) انظر: المغني (8/312)، والفروع (6/17).
(3) انظر: الهداية (4/178).
(4) انظر: بداية المجتهد (2/506).
(5) انظر: الروضة (9/258)، والمنهاج (ص:126).(1/630)
والكفَّارة بكل حال، وإن لم يكن هاجر إلينا لم يلزمه غير الكفَّارة في العمد والخطأ.
قوله: { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي عهد، وهم أهل الذمة، { فدِيَة مُسَلَّمة إلى أهله } وقد ذكرنا مقدارها { وتحرير رقبة مؤمنة } .
وقيل: هو المؤمن يُقتل خطأ، وقومه مشركون، ولهم عهد، فدِيَته لقومه وميراثه للمسلمين.
قوله: { فمن لم يجد } يعني: رقبة { فصيام شهرين متتابعين } بدلاً عن الرقبة في قول عامة أهل العلم، إلا ما يروى عن مسروق ومجاهد وابن سيرين، فإنهم قالوا: الصوم بدل عن التحرير والدِيَة (1) ، ولا ينقطع التتابع بالحيض والمرض.
وقال أبو حنيفة: ينقطع بالمرض (2) ، وإن تخللهما الإفطار لغير عذر انقطع التتابع، ولزمه الابتداء.
{ توبة من الله } مصدر، أو مفعول لأجله (3) ، والمعنى: شرع الله ذلك توبة منه (4) .
قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً ... الآية } السبب في نزولها: أن
__________
(1) أخرجه الطبري (5/215)، وابن أبي حاتم (3/1035).
(2) انظر: الهداية (2/21).
(3) انظر: التبيان (1/190)، والدر المصون (2/415).
(4) في هامش الأصل: أي: متعمداً لإيمانه أي: قصد قتله لأجل أنه مؤمن، ومن هذا قصده في القتل يكون كافراً، فأما من لم يقصد قتله لإيمانه فحكمه ما جاء في قوله: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، فسمى قاتل النفس عمداً مؤمناً مع أنه كبيرة.(1/631)
مقيس بن صُبابة كان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد مقيس أخاه قتيلاً في بني النجار، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر له ذلك، فأرسله، وأرسل معه زهير بن عياض الفِهْري (1) -وكان من المهاجرين من أهل بدر- إلى بني النجار ليدفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علموه، أو دِيَته إن لم يعلموه، فأبلغهم الفهري رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: والله ما نعلم قاتله، ولكنا نعطيه دِيَته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيساً، فقال: تقبل دِيَة أخيك فتكون عليك سُبَّة ما بقيت، اقتل الفهري، وافضل بالدِيَة، فرمى الفهريَّ بصخرة، فشدخ رأسه فقتله ولحق بمكة مشركاً، وهو يقول:
قَتَلْتُ بهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَني النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ
وَأَدْرَكْتُ ثأْرِي وَاضْطَجَعْتُ مُوَسَّداً ... وَكُنْتُ إِلى الأَوْثانِ أَوَّلَ رَاجِعِ (2)
فنزلت هذه الآية، فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم الفتح (3) .
فصل في حكم هذه الآية
ذهب أعلام الأئمة وجمهور الأمة: إلى أن المؤمن إذا قتل مؤمناً عمداً، لا يكفر بقتله، وأنه يُستتاب كما يُستتاب من سائر الذنوب، وناهيك بقبول
__________
(1) انظر: الإصابة (2/578).
(2) انظر البيتين في: البحر المحيط (3/338) وفيه: "حللت به وتري وأدركت ثورتي" بدل: "وأدركت ثأري واضطجعت موسداً".
(3) أخرجه الطبري (5/217) عن عكرمة، وابن أبي حاتم (3/1037-1038) عن سعيد بن جبير، والثعلبي (3/361-362) عن أبي صالح عن ابن عباس، والواحدي في أسباب النزول (ص:174) عن ابن عباس.(1/632)
التوبة من أكبر الكبائر، وهو الشرك، دليلاً على قبول التوبة من ذنب يتقاصر عنه في الجناية.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أنَّى له التوبة؟ ثم تلا هذه الآية (1) .
وطريقُ الانفصال عنها بادعاء كونها منسوخة تارة، وبالتأويل أخرى.
أما نسخها: فذهب جماعة من المفسِّرين إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (2) [النساء:48].
وأما التأويل فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المعنى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً لأجل إيمانه، فحينئذ يكفر باستحلاله دمه فيخلد. وهذا قول سعيد بن جبير (3) .
الثاني: أن المعنى: فجزاؤه جهنم إن جازاه، وهذا التأويل قد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) ، وروي عن جماعة من العلماء (5) ، منهم: أبو صالح
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/240 ح3029)، والنسائي (2/288 ح3468)، وابن ماجه (2/874)، وأحمد (1/240)، والطبراني في الكبير (12/101)، والطبري (5/218)، وابن أبي حاتم (3/1036)، والنحاس في ناسخه (ص:346). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/623-624) وعزاه لأحمد وسعيد بن منصور والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والطبراني.
(2) الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:343)، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص:77-78)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص:35)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:288).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (3/1038).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (3/1038)، والثعلبي (3/365).
(5) تفسير الطبري (5/217)، وابن أبي حاتم (3/1038).(1/633)
وأبو مِجْلَز (1) .
الثالث: أن المراد بتخليده في النار، طول مكثه، والعرب تسمي الجبال خوالد؛ لطول مكثها، وتقول: لأخلدن فلاناً في السجن.
على أننا نحمل كلام ابن عباس، وما شاكله من ذلك على التغليظ، فإن رجلاً سأله: ألقاتل المؤمن توبة؟ قال. لا، وسأله آخر، فقال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: جاءني ذلك ولم يكن قتل، فقلت: لا توبة لك، لكي لا يقتل، وجاءني هذا وقد قتل، فقلت له: لك توبة، لئلا يُلقي بيده إلى التهلكة (2) .
وحكى سفيان الثوري هذا المعنى عن أهل العلم (3) .
وصح عن ابن عباس أيضاً: أنه أتاه رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأُجيب، فغرتُ [عليها] (4) فقتلتها، فهل لي من توبة؟ فقال: أُمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت، فقيل: لم سألته عن حياة أُمِّه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر
__________
(1) أبو صالح هو: ذكوان السمان الزيات، المدني، من ثقات التابعين. توفي سنة إحدى ومائة (التقريب: 203).
... وأما أبو مجلز فهو: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري، مشهور بكنيته. توفي سنة تسع ومائة (التقريب: 586).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/99).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط، الموضع السابق.
(4) زيادة من مصادر التخريج.(1/634)
الوالدة (1) .
فصل
فإن مات من غير توبة، فمذهب أهل الحق: أنه تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له، وأرضى خصمه، وإن شاء عذَّبه على فعله ثم يُدخله الجنة بإيمانه فضلاً منه ورحمة.
وتحجّرتِ المعتزلة واسعاً، فقالت: لا يغفر الله لمن لم يتب من الكبائر.
قال الزمخشري (2) : ما أبين الدليل في هذه الآية على خلود مَن لم يتب من أهل الكبائر، والعجب من قوم يقرأون هذه الآية، ويطمعون في العفو من غير توبة، أفلا يتدبرون القرآن (3) أم على قلوب أقفالها.
قلت: ولو تلا هذه الآية على طائفته، لكانت تلاوتها عليهم بهذا الاعتبار أليق، وبحالهم أشبه، وليته اعتبر بما جرى لطاغيتهم وقائدهم في الضلالة عمرو بن عبيد (4) مع قريش بن أنس حين قال: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/15). وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/262) وعزاه للبخاري في الأدب المفرد والبيهقي.
(2) الكشاف (1/584).
(3) في هامش الأصل: أي: يتأملونه ويتفكرون به.
(4) عمرو بن عبيد بن باب التميمي، مولى بني تميم، أبو عثمان البصري، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها، كان من أصحاب الحسن، ثم عارضه في القَدَر فاعتزل مجلسه، وتبعه مَن تبعه، فسموا المعتزلة. مات في طريق مكة سنة اثنتين -أو ثلاث- وأربعين ومائة (البداية والنهاية 10/78، وميزان الاعتدال 5/329، والأعلام 5/81).(1/635)
يدي الله تعالى فيقال: قلت: إن القاتل يخلد في النار. فأقول: أنت قلت، ثم تلا: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ... } حتى فرغ من الآية.
قال قريش (1) : فقلت له: -وما في البيت أصغر مني- أرأيت إن قال لك: فإني قلت: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء:48] من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد عليّ شيئاً (2) .
ثم إنه أكثر ما يُقَدَّرُ أن الله توعَّد القاتل، وأصحاب الكبائر بالنار، والخلود فيها، غير أن الدلائل النقلية، والبراهين العقلية، توجب العلم بأن العفو بعد الوعيد والتهديد الشديد من نفائس المكارم، وغرائس الأكارم.
قال كعب بن زهير:
نُبئْتُ أَنَّ رَسُولَ الله أَوْعَدَنِي ... ... وَالعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ الله مَأْمُولُ (3)
وقال الأصمعي: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو! يُخلف الله ما وعد ؟ قال: لا، قال: أرأيت مَن أوعده على عمل عقاباً أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العُجْمَة أُتِيتَ يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تَعُدُّ عاراً ولا خُلْفاً أن تَعِدَ شراً ثم لا
__________
(1) ... قريش بن أنس الأنصاري، مولاهم، أبو أنس البصري، توفي سنة ثمان ومائتين (التقريب ص:455).
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور (ص:77)، والخطيب في تاريخ بغداد (12/182).
(3) هذا البيت من قصيدة كعب -المشهورة- ومطلعها:
... ... بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبُولُ ... ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
... شرح القصيدة للحموي (ص:54)، وجمهرة أشعار العرب للقرشي (ص:32).(1/636)
تفعله، ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تَعِدَ خيراً ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال: نعم، أما سمعت قول الأول:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... ... لمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي (1)
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى مNà6ّٹs9خ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
__________
(1) انظر: الوسيط (2/100-101)، وميزان الاعتدال (5/333-334)، وتهذيب التهذيب (8/63).
... والبيت لعامر بن الطفيل. انظر: ديوانه (ص:58)، واللسان، مادة: (ختأ، ختا)، والقرطبي (4/318، 5/334)، وسير أعلام النبلاء (6/409)، وميزان الاعتدال (5/334)، وتهذيب التهذيب (8/63).(1/637)
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ازحب
قوله تعالى (1) : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس قال: "لقي ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمات، فنزلت: { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } . وقرأها ابن عباس (2) : السَّلَمَ" (3) .
وروي عن ابن عباس: أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تريدهم، فهربوا، وأقام رجل منهم، يقال له: مرداس بن نُهيْك (4) ، من أهل فَدَك (5) ، ثقة بإسلامه، فلما رأى مرداس الخيل كبَّر وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقتله أسامة بن زيد ظناً منه أنه قالها تعوُّذاً، واستاق غنمه، فلما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه الخبر، وَجَدَ من ذلك وَجْداً شديداً، وقال: "قتلتموه إرادة ما معه"، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: "فكيف
__________
(1) في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس السادس والثلاثين، مرة ثانية.
(2) انظر: الحجة لابن زنجلة (ص:209).
(3) أخرجه البخاري (4/1677 ح4315)، ومسلم (4/2319 ح3025).
(4) مرداس بن عمرو الضمري، وقيل: مرداس بن نُهيك (الإصابة 6/74).
(5) فَدَك -بفتح أوله وثانيه-: قرية معروفة بينها وبين المدينة يومان (معجم البلدان 4/238).(1/638)
بلا إله إلا الله"؟ فما زال يقولها حتى وددتُ أني لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ، ثم استغفر لي، وقال: "أعتق رقبة"، ونزلت هذه الآية (1) .
ومعنى "ضربتم": سرتم وغزوتم، "فتبينوا": من البيان.
وقرأ حمزة والكسائي: "فَتَثَبَّتُوا" من الثبات، في الموضعين (2) ، وكذلك في الحجرات (3) .
{ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } وهو التحية المعروفة.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: "السَّلَمَ" بغير ألف (4) ، وهو الانقياد والاستسلام.
{ لست مُؤمِناً } وقرأت على شيخنا أبي البقاء لأبي جعفر: "مُؤْمَناً" بفتح الميم (5) ، من الأمان، وهي قراءة علي وابن عباس رضي الله عنهم.
{ تبتغون عرض الحياة الدنيا } وهو متاعها، يسير إلى غَنيمة: الغُنيمة، فهو الذي دعاكم إلى عدم التثبّت عن حال مَن تقتلونه.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/256) مختصراً.
... وأصل القصة في صحيح البخاري (4/1555 ح1021). والقصة بكاملها في: الثعلبي (3/367)، وأسباب النزول للواحدي (ص:177).
(2) الحجة للفارسي (2/89)، والحجة لابن زنجلة (ص:209)، والكشف (1/394)، والنشر (2/251)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:193)، والسبعة في القراءات (ص:236).
(3) ... في قوله تعالى: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [6].
(4) الحجة للفارسي (2/90)، والحجة لابن زنجلة (ص:209)، والكشف (1/395)، والنشر (2/251).
(5) إتحاف فضلاء البشر (ص:193).(1/639)
{ فعند الله مغانم كثيرة } قال مقاتل (1) : ثواب الجنة.
وقال أبو سليمان الدمشقي: أبواب الرزق (2) .
وعندي: أن هذا الكلام خارجٌ مخرج البشارة بما سيُفتَح من البلاد عليهم، ويُجبَى من الأموال إليهم، فيكون المعنى: لا يحملنكم حب إحراز الغنائم على المسارعة إلى القتل من غير تثبت، فلكم عند الله مغانم كثيرة.
{ كذلك كنتم من قبل } تخفون إيمانكم بمكة، كما أن هذا يخفي إيمانه بين ظهراني قومه، فمَنَّ الله عليكم بالهجرة وإعلان الإيمان.
وقال قتادة: "كذلك كنتم من قبل": ضُلالاً، "فمَنَّ الله عليكم" بالإسلام (3) .
ثم أكد الأمر بالتثبيت أو التبيين فقال: { فتبينوا } .
w يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
__________
(1) تفسير مقاتل (1/250).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/172).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/102)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/172)، والسيوطي في الدر المنثور (2/637) وعزاه لعبد بن حميد.(1/640)
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ(1/641)
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا(1/642)
وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اتةةب
ثم نفى المساواة بين المجاهدين والقاعدين مع اشتراكهم في وصف الإيمان، ليُحرِّك همم ذوي الأَنَفة، والنفوس الشريفة المتطلعة إلى معالي الأمور، كما نفى المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فقال عز وجل: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } .
قرأت على قاضي القضاة شرقاً وغرباً، أبي صالح عماد الدين، نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي، الحنبلي (1) : أخبرتكم شهدة بنت أحمد
__________
(1) نصر بن عبد الرزاق بن شيخ الإسلام عبد القادر الجيلي الأزجي، أبو صالح عماد الدين، تكلم في الوعظ وألّف في التصوف، وكان فقيهاً كريم النفس خيّراً. توفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (سير أعلام النبلاء 22/396، وشذرات الذهب 5/161، والمقصد الأرشد 3/56).(1/643)
بن الفرج الكاتبة (1) بقراءة والدك عليها، فأقرَّ به، أخبرنا أبو الفضل، محمد بن عبد السلام الأنصاري (2) ، أخبرنا الحافظ أبو بكر البرقاني (3) ، قرأت على أبي العباس بن حمدان (4) ، حدّثكم محمد بن أيوب (5) ، أخبرنا [عمرو] (6) بن مرزوق (7) ، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: "لما نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } ، { والمجاهدون في سبيل الله } دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيداً، قال: فجاء بكتف فكتبها، قال: فجاء ابن أم مكتوم فشكى ضرارته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فنزلت: { غيرُ أُولي
__________
(1) شهدة بنت أحمد بن الفرج الدينوري البغدادي، مسندة العراق، فخر النساء. توفيت سنة أربع وسبعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 20/542، والتقييد ص:501).
(2) محمد بن عبد السلام بن أحمد بن عمر الأنصاري، أبو الفضل، سمع علي أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني كتابه المصافحة (ذيل التقييد 1/159).
(3) أحمد بن محمد بن أحمد الخوارزمي البرقاني الشافعي، شيخ الفقهاء والمحدثين، شيخ بغداد، صاحب التصانيف. توفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة (تاريخ بغداد 4/373، وسير أعلام النبلاء 17/464، وطبقات الحفاظ ص:418).
(4) محمد بن أحمد بن حمدان الحيري النيسابوري، محدّث خوارزم. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/193، وشذرات الذهب 3/38).
(5) محمد بن أيوب بن يحيى ابن الضُّرَيْس، أبو عبد الله البجلي الرازي، صاحب تصانيف، وهو صاحب كتاب فضائل القرآن. توفي سنة أربع وتسعين ومائتين بالري (سير أعلام النبلاء 13/449، والتدوين في أخبار قزوين 1/229).
(6) في الأصل: عمر، وهو خطأ. والتصويب من التقريب (ص:426).
(7) عمرو بن مرزوق الباهلي، أبو عثمان البصري، مولاهم، مسند البصرة، ثقة فاضل. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/417، والتقريب ص:426).(1/644)
الضرر } " (1) . أخرجه مسلم عن بُنْدار عن غُنْدر عن شعبة، فكأني سمعته من طريق مسلم على الفراوي.
وأخرجه البخاري عن حفص بن عمر، عن شعبة. وأخرجه أيضاً عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق.
وأخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن، أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلتُ حتى جلستُ إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْلَى عَلَيْهِ { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنْ المُؤْمِنِينَ } ، { وَالمُجَاهِدُونَ في سَبيلِ الله } فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمْلِيهَا عَلَيَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، والله لَوْ أَسْتَطِيعُ الجِهَادَ لَجَاهَدْتُ -وَكَانَ أَعْمَى-، فَأَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي-، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْه، فَأَنْزَلَ الله: { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } " (2) .
وفي حديث آخر: فكان بعد ذلك ابن أم مكتوم يغزو ويقول: أعطوني اللواء وأقيموني بين الصفين، فإني لا أستطيع أن أفرّ (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1677 ح4317 وَ 4318)، ومسلم (3/1508 ح1898).
(2) أخرجه البخاري (4/1677 ح4316).
(3) أخرجه الثعلبي (3/370).(1/645)
وبالإسناد قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم. قال البخاري: وحدثني إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الكريم: أن مِقْسَماً -مولى عبد الله بن الحارث- أخبره، أن ابن عباس أخبره: " { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنْ المُؤْمِنِينَ } عَنْ بَدْرٍ وَالخَارِجُونَ إِلى بَدْرٍ" (1) .
واعلم أن الآية على عمومها في جميع المجاهدين والقاعدين، وإن نزلت على سببٍ خاص.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو [وعاصم] (2) وحمزة (3) : "غَيْرُ" بالرفع، صفة لـ"القاعدون".
وقرأ الباقون بالنصب (4) على الاستثناء من "القاعدين"، أو على الحال منهم.
وأُولوا الضرر: الأضرَّاء والزمنى والمرضى، ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1678 ح4319).
(2) زيادة من السبعة في القراءات (ص:237).
(3) في هامش الأصل: صوابه: وعاصم. اهـ.
(4) الحجة للفارسي (2/91-92)، والحجة لابن زنجلة (ص:210)، والكشف (1/396)، والنشر (2/251)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:193)، والسبعة في القراءات (ص:237).(1/646)
قال ابن عباس: أُولوا العذر (1) .
{ فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } . قال ابن عباس ومقاتل (2) : على القاعدين بالضرر (3) .
قال أبو سليمان الدمشقي: على القاعدين بغير عذر درجة (4) ، كأنه -والله أعلم- لحظ المساواة بين المجاهد والقاعد المحبوس بالعذر،
نظراً إلى ما أخبرنا الشيخ المعتمد أبو بكر محمد بن مسعود بن بَهْرُوز (5) بقراءتي عليه، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا إبراهيم بن خريم الشاشي (6) ، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد بن نصر، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس قال: "لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، قال: إِنَّ بالمَدِينَةِ
__________
(1) أخرجه الثعلبي (3/370)، وابن أبي حاتم (3/1043). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/174).
(2) تفسير مقاتل (1/251).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/174).
(4) المرجع السابق.
(5) محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي، المسند المعمر الطبيب. توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة (سير أعلام النبلاء 23/30، وشذرات الذهب 5/173).
(6) إبراهيم بن خريم بن قمير بن خاقان، أبو إسحاق الشاشي، المروزي الأصل، المحدِّث، سمع من عبد بن حميد تفسيره ومسنده في سنة تسع وأربعين ومائتين وحدث بهما، وهو في عداد الثقات (سير أعلام النبلاء 14/486، والتقييد ص:189).(1/647)
لَقَوْماً، مَا سِرْتُمْ من مَسِير، وَلا قَطَعْتُمْ من وَاد، إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ فيهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله،ِ وَهُمْ بالمَدِينَةِ؟ قَالَ: نعم، حَبَسَهُمْ العُذْرُ" (1) . هذا حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد، عن ابن أبي عدي، عن حميد.
وانفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن حميد.
{ وَكُلاً وعد الله الحسنى } يعني: الجنة.
{ وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين } قال ابن عباس: يعني: على القاعدين بغير عذر (2) .
{ أجراً عظيماً } لا يعلمه إلا الله.
{ درجات منه } بدل من: "أجراً عظيماً" (3) .
والدرجات: منازل الجنة، وبعضها أعلى من بعض.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّ في الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبيلِه، مَا بَيْنَ كِلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (4) .
قوله عز وجل (5) : { إن الذين توفاهم الملائكة } .
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1044 ح2684)، وأحمد (3/103 ح12028)، وعبد بن حميد في مسنده (1/412 ح1402).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/104) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/175).
(3) انظر: التبيان (1/192)، والدر المصون (2/418).
(4) أخرجه البخاري (3/1028 ح2637).
(5) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس التاسع عشر.(1/648)
وبالإسناد السالف حدثنا البخاري، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة بن شريح وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، أبو الأسود قال: "قُطِعَ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِي عَنْ ذلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاساً مِنْ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ المُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى [عَهْدِ] (1) رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بهِ، فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ الله: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ المَلائِكَةُ ظَالمِي أَنْفُسِهِمْ ... الآيَة } " (2) .
وقوله: "تَوَفَّاهُم" يصلح أن يكون ماضياً، ومستقبلاً، والمراد بتَوَفيهم: قبض أرواحهم. و"الملائكة": مَلَك الموت وأعوانه.
قال مقاتل (3) : وهم ستة: ثلاثة يَلُون أرواح المؤمنين، وثلاثة يَلُون أرواح الكافرين.
{ ظالمي أنفسهم } بترك الهجرة مع القدرة.
وقيل: بالشك في دين الحق.
وهو نصب على الحال من الهاء والميم في "تَوَفَّاهُم" (4) ، والتقدير: تتوفاهم في حال ظلمهم أنفسهم.
وقد روي: أنهم شَكُّوا يوم بدر في الدين، حين رأوا قلَّة المسلمين وقالوا:
__________
(1) زيادة من الصحيح (4/1678).
(2) أخرجه البخاري (4/1678 ح4320).
(3) تفسير مقاتل (1/251) وفيه: ملك الموت وحده.
(4) انظر: التبيان (1/192)، والدر المصون (2/418).(1/649)
غرَّ هؤلاء دينهم، فانتقم الله منهم بما أخبر به عنهم (1) في قوله: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } [الأنفال:50].
{ قالوا فيمَ كنتم } أي: قالت الملائكة لهم توبخهم وتقرِّعهم: فيم كنتم، المعنى: في أي شيء كنتم من الدين إذ لم تهاجروا، فعرجوا عن سَنَن الجواب رجاء النفع بتوجيه العذر، فـ { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } أي: مقهورين في أرض مكة، لا نستطيع إظهار الدين، ولا التخلف عن الخروج مع المشركين، فسدَّت عليهم الملائكة محجة الاعتذار بحُجَّة لا يمكن تلافيها، فـ { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } .
ثم أخبر الله بمآلهم تحذيراً، لمن هو في مثل حالهم وتبصيراً، فقال: { فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } .
ثم استثنى من هذا الإيعاد، العاجزين عن الإصعاد، جهلاً بالمسالك، وخوفاً من المهالك، فقال: { إلا المستضعفين } ثم نعتهم، ونصب لمن أراد معرفتهم دليلاً فقال: { لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا } .
ولعَمري إن الولدان ليسوا من جملة المكلَّفين، ولكن حسن استثناؤهم لانتظامهم في سلك المستضعَفين.
وإن أريد بالولدان: العبيد، زال الإشكال في جواز استثنائهم من الوعيد.
وبالإسناد السالف حدثنا البخاري، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد
__________
(1) تفسير مقاتل (1/252)، والثعلبي (3/371)، وزاد المسير (2/177).(1/650)
بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلا: { إِلاَّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ } قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ الله" (1) .
وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } .
قال ابن قتيبة (2) : المُرَاغَمُ والمُهاجَرُ واحد، وأصله: أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مُراغِماً لهم، أي: مُغاضِباً ومُهاجراً، أي: مقاطعاً من الهجران، فقيل للمَذْهب (3) : مُراغَم، وللمصير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.
وقال غيره: هو مأخوذ من الرَّغام، وهو التراب، فمعنى راغمته: هاجرته وإن رَغِمَ أنفه، أي: لصق بالتراب (4) .
وأما "السَّعة"، فقال ابن عباس والجمهور: يريد: سعة في الرزق (5) .
وقال قتادة: سعةً وتمكناً من إظهار الدين (6) .
قال ابن عباس: كان عبد الرحمن بن عوف يُخبر أهل مكة بما ينزل
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1675 ح4312).
(2) تفسير غريب القرآن (ص:134).
(3) المَذْهَب: الطريق (هامش الوسيط 2/106).
(4) انظر: اللسان، مادة: (رغم).
(5) ... أخرجه الطبري (5/241-242)، وابن أبي حاتم (3/1050). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/650) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) ذكره الماوردي (1/522)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/179).(1/651)
فيهم من القرآن، فلما نزلت: { إن الذين توفاهم الملائكة ... الآية } ، كتب بها عبد الرحمن إليهم، فلما قرأها المسلمون قال جندب بن ضمرة الليثي -وقيل اسمه: ضمرة، وقيل: سبرة- لبنيه -وكان شيخاً كبيراً-: احملوني فإني لستُ من المستضعَفين، وإني لأهتدي الطريق، فحملوه على سريره متوجهاً إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم، أشرف على الموت، فصفق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك به رسول الله، فمات حميداً، فبلغ خبره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم له أجراً، فأنزل الله هذه الآية (1) .
قوله: { فقد وقع أجره على الله } أي: وجب.
#sŒخ)ur ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/1050). وذكره الثعلبي (3/373)، والواحدي في أسباب النزول (ص:180-181)، والسيوطي في الدر المنثور (2/650-651).(1/652)
لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا اتةتب
قوله: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جُناح أن تقصروا من الصلاة } سبب نزولها: ما روي عن أبي عياش الزرقي قال: "صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غِرَّة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، ثم قالوا: تأتي عليهم صلاة العصر وهي أحب عليهم من آبائهم وأبنائهم، قال: فنزل جبريل بهؤلاء الآيات بين الظهر والعصر بعُسْفان" (1) .
وظاهرُ الآية يدل على أن القصر رخصة، وهو مذهب جماعة منهم: مجاهد، وطاووس، وأحمد، والشافعي (2) .
واحتجوا بما أخبرنا به الشيخان: شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي بدمشق، والشيخ النجيب محمد بن سعيد بن الموفق الخازن النيسابوري ببغداد قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان الكَرْجي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد (3) ، وعبد
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/11 ح1236)، والنسائي (1/597 ح1938).
(2) انظر: المغني (2/54).
(3) مسلم بن خالد المخزومي، مولاهم، أبو خالد، المعروف بالزنجي، فقيه مكة. توفي سنة تسع وسبعين ومائتين (سير أعلام النبلاء 8/176، وطبقات الحفاظ ص: 115).(1/653)
المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد (1) ، عن ابن جريج، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار (2) ، عن عبد الله بن باباه (3) ، عن يعلى بن أمية قال: "قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّاب: فيم إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد ذهب ذلك اليوم، فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَذكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (4) . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج.
ففي هذا الحديث دليل على أن القصر رخصة، وأن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم الخوف. وقوله: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم" دليل على أن القصر رخصة وإباحة، لا عزيمة.
وذهب أكثرُ أهل العلم من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم: إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (5) .
__________
(1) عبد المجيد بن أبي رواد شيخ الحرم. توفي سنة ست ومائتين (سير أعلام النبلاء 9/434).
(2) عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار المكي، حليف بني جمح، الملقب بالقَسّ لعبادته. (لسان الميزان 7/498).
(3) عبد الله بن باباه المكي، مولى آل حجير بن أبي إهاب، وهو الذي يقال له: ابن بابي. (مشاهير علماء الأمصار ص:86، وتهذيب الكمال 14/320).
(4) أخرجه مسلم (1/478 ح686)، والشافعي في مسنده (ص:24، 48).
(5) انظر: الهداية (1/80)، والمجموع (4/283)، والمغني (2/54)، وبداية المجتهد (1/199).(1/654)
وقد تكافأت الأدلة في نظر الإمام أحمد رضي الله عنه يوماً فقال -وقد سُئل عن هذه المسألة-: أنا أحب العافية في هذه المسألة، وجزم مرة بالفتيا على ما حكيناه أوّلاً من مذهبه (1) .
وذهب بعضُ أهل العلم إلى أن ركعتي المسافر ليس بقصر، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة عند الخوف والقتال، يروى ذلك عن جابر (2) ، وجعل شرط الخوف المذكور في الآية باقياً، وهذا محتمل لولا خبر عمر رضي الله عنه.
قوله: { أن تقصروا من الصلاة } يقال: قَصَرَ الصلاة، وأَقْصَرَها وقَصَّرَها (3) .
{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } قال ابن عباس: معناه: أن يقتلكم؛ كقوله: { على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم } (4) [يونس:83]، وهذا الكلام خارج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، فإن الغالب من أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تخلو من الخوف من العدو، فيكون القصر في حال الخوف، والأمن، مستفاداً من الآية بهذا التقرير المذكور.
#sŒخ)ur كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ
__________
(1) انظر: المغني (2/54).
(2) أخرجه الطبري (5/247) .
(3) انظر: اللسان، مادة: (قصر).
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (2/108).(1/655)
فَلْتَقُمْ ×pxےح !$sغ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ ِNà6ح !#u'ur وَلْتَأْتِ îpxےح !$sغ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ(1/656)
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا اتةثب
قوله: { وإذا كنت فيهم } خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكلُّ قائم بالأمر من بعده على أُمته بمنزلته، كقوله: { خذ من أموالهم صدقة } [التوبة:103].
وكان الحسن وأبو يوسف لا يريان صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - تمسكاً بظاهر هذه الآية (1) .
والضمير في "فيهم" يعود إلى الخائفين.
{ فلتقم طائفة منهم معك } ، أي فرِّقهم طائفتين، "فلتقم طائفة منهم معك" في صف الصلاة، وطائفة بإزاء العدو تحرس، { وليأخذوا أسلحتهم } يعني: الحارسين، وقيل: المصلين، فإنه يشرع لهم أن يحملوا من السلاح ما لا يُثْقِلُهُم كالسيف والسكين، { فإذا سجدوا } يعني: المصلين، { فليكونوا } يعني: الحارسين { من ورائكم } ، وقيل، "فليكونوا" يعني: المصلين أيضاً، على معنى: فإذا قضوا السجود فلينصرفوا إلى العدو.
واختلفوا في كيفية ذلك:
فقيل: إذا صلُّوا مع الإمام ركعة أتموا لأنفسهم أخرى، ثم سلَّموا وانصرفوا إلى الحرس، وقد تمت صلاتهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى،
__________
(1) انظر: التمهيد (15/279)، والمجموع (4/350)، والمغني (2/130)، والماوردي (1/524).(1/657)
فتُصلِّي الركعة الأخرى مع الإمام، ثم يركد الإمام في التشهد، حتى تأتي بالركعة الفائتة، ثم يُسلِّم بهم. وهذا اختيار الإمامين أحمد والشافعي -رضي الله عنهما- ويُروى نحوه عن مالك (1) .
وقيل: يثبت الإمام قائماً إذا صلُّوا معه ركعة، ثم ينصرفون إلى الحرس، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت تحرس، فتُصلِّي مع الإمام ركعة، ويُسلِّم الإمام وحده، ثم ترجع إلى العدو ثم تجيء الأولى فتتم صلاتها، وتُسلِّم، ثم تنصرف إلى العدو، ثم تأتي الأخرى فتُتم صلاتها وتُسلِّم، وهذا اختيار أبي حنيفة (2) .
فإن صلَّى على هذا الوجه الذي اختاره أبو حنيفة فصلاته صحيحة عند إمامنا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاَّها على هذا النحو (3) .
وقال الشافعي: لا تصح.
قال الإمام أحمد: صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف من خمسة أوجه، أو ستة، كل ذلك جائز لمن فعله (4) .
قوله: { وليأخذوا } يعني: الذين صلُّوا أوّلاً.
وقيل: الذين كانوا وجاه العدو.
وقيل: هو أمر للجميع بالتيقظ والتحرز، وحمل السلاح.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (1/393)، والمغني (2/130-131).
(2) انظر: المبسوط (2/47)، والهداية (1/89)، والمغني (2/132).
(3) أخرجه أبو داود (2/16 ح1244).
(4) انظر: المغني (2/137)، وكشاف القناع (2/11).(1/658)
قوله: { ولا جُناح } أي: لا إثم { عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } في الصلاة وغيرها إذا لم تخافوا معرَّة العدو، { وخذوا حذركم } على كل حال في الصلاة وغيرها.
#sŒخ*sù قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ(1/659)
عَلِيمًا حَكِيمًا اتةحب
قوله (1) : { فإذا قضيتم الصلاة } أي: فرغتم من صلاة الخوف، { فاذكروا الله } بألسنتكم وقلوبكم، في جميع أحوالكم.
وقيل: الأمر بالذِكر كناية عن الصلاة، أي: صلُّوا أيها الأصحاء، { قياماً و } صلُّو أيها المرضى، والجرحى العاجزون عن القيام { قعوداً وعلى جنوبكم } إن لم تستطيعوا القعود.
{ فإذا اطمأننتم } أي: سكنتم بالرجوع إلى الوطن، { فأقيموا الصلاة } أتموها وصلُّوا صلاة الأمن، { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي: فرضاً مؤقتاً لا يسقطها خوف ولا مرض، ولا حال من الأحوال ما دام الإنسان أهلاً للتكليف.
وفي هذه الآية حُجَّة على أبي حنيفة في قوله: يجوز تأخير الصلاة حالة المسايفة إلى زمان الطمأنينة (2) .
قوله: { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } أي: لا تضعفوا عن طلب أبي سفيان وأصحابه، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أُحُد أمر أصحابه بالمسير في أثر القوم، فشكوا إليه ألم الجراح، فأنزل الله هذه الآية (3) .
__________
(1) كتب في الهامش: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس السابع والثلاثين، مرة ثانية.
(2) انظر: الهداية (1/89)، والمغني (2/139).
(3) ذكره الثعلبي (3/380)، والواحدي في الوسيط (2/111)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/188).(1/660)
{ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } يقال: أَلِمَ الرَّجُلُ يَأْلَمُ فهو آلِمٌ.
ثم نبههم على أنهم أولى بالصبر لما يأملون من الأجر، فقال: { وترجون من الله } من النصر، وكون العاقبة لكم، ومن نعيم الجنة وما أعد الله فيها للمجاهدين في سبيله { ما لا يرجون } .
{ وكان الله عليماً } يعلم ما بكم وبهم من ألم الجراح وغيره، { حكيماً } في تدبيره، وقد أمركم على لسان رسوله مع علمه وحكمته باتباعهم، فكان من شأنكم أن تبادروا إلى امتثال أمره.
!$¯Rخ) أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ tûüدZح !$y‚ù=دj9 خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِن اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ(1/661)
أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ(1/662)
اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ ×pxےح !$©غ مِنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ(1/663)
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) * لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا اتتخب
قوله: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ... الآيات } ذهب ابن عباس وقتادة،(1/664)
وجمهور المفسِّرين إلى أنها نزلت في طعمة بن أبيرق، وكان من حديثه: على ما أخرجه الترمذي بإسناده عن قتادة بن النعمان (1) ، قال: "كان أهل بيت منّا، يقال لهم بنو أُبيرق: بشْر وبُشَيْر ومُبَشِّر، وكان بُشير رجلاً منافقاً، يقول الشعر ويهجو به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ينحله بعض العرب يقول: قال فلان كذا وكذا.
قال قتادة: فنُقِبت مَشْربة (2) عمي رفاعة بن زيد ليلاً، وذُهِبَ بطعامه وسلاحه، وقيل لنا: إن بني أبيرق استوقدوا ناراً في هذه الليلة، ولا نراه إلا لبعض طعامكم، قال: فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أهل بيت منا أهلَ جفاء، عمدوا إلى عمي، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
فذهب قوم من بني أُبيرق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن قتادة وعمّه، عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير ثبت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتادة: عمدتَ إلى أهل بيت ذُكِر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير ثبت؟ قال: فرجعتُ، ولوددتُ أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله في ذلك، فلم يلبث أن نزل القرآن: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ... الآيات } ، فأُتي رسول الله بالسلاح فرده إلى عمي، فلما أتيته به، وكان شيخاً قد عَشِيَ في الجاهلية، وكنت أُرَى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته
__________
(1) قتادة بن النعمان بن زيد الأوسي الظَفَري، شهد بدراً، وهو أخو أبي سعيد الخدري لأمه. توفي سنة ثلاث وعشرين (الإصابة 5/416).
(2) المَشْرَبَة -بالضم والفتح- الغرفة (اللسان، مادة: شرب).(1/665)
بالسلاح قال لي: يا ابن أخي؛ هو في سبيل الله، فعرفتُ أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بُشَيْر بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد (1) ، فرماها حسان بن ثابت بأبيات من الشعر، فأخذتْ رحله فرمتْ به في الأبطح، وقالت: أهديتَ إليَّ شعر حسان، ما كنتَ تأتيني بخير" (2) .
قال ابن عبد البر (3) في كتاب الاستيعاب (4) : شهد بُشَيْر مع أخويه بشر ومبشر أُحُداً، وكانوا أهل حاجة، فسرق بشير من رفاعة بن زيد درعه، ثم ارتد في شهر ربيع الأول سنة أربع من الهجرة.
قلتُ: وجمهور المفسِّرين يقولون: طعمة بن أبيرق، ولعله لقبٌ لبشير، أو اسم آخر كان يُسمَّى به، والله أعلم.
وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فجَعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتُمستِ الدرع عند طُعمة، فلم تُوجَد، وحلف ما لي بها علم، فتركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي، فأخذوها، فقال: دفعها إليَّ طُعمة. فقال قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله لنجادل
__________
(1) سلافة بنت سعد الأنصارية والدة عثمان بن طلحة، أسلمت سلافة بعد فتح مكة.
... وقد أوردها ابن الأثير: سلامة، وإنما هي سلافة بفاء بدل الميم (7/724).
(2) أخرجه الترمذي (5/244 ح3036).
(3) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، من كبار حفاظ الحديث، يقال له: حافظ المغرب. توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/153، والأعلام 8/240).
(4) الاستيعاب (1/171).(1/666)
عن صاحبنا، فأتوه فكلّموه في ذلك، وقالوا: إن لم تجادل عن صاحبنا هلك وافتضح، وبرئ اليهودي، فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأن يعاقب اليهودي، فنزلت الآيات (1) .
قوله: { بما أراك الله } أي: علَّمك وأوحى إليك، { ولا تكن للخائنين } طُعمة وبني أبيرق، { خصيماً } مخاصماً مدافعاً عنهم.
قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن الله عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - على مثل ذلك.
{ واستغفر الله } من لومك لقتادة، ومخاصمتك عن الخائنين.
وقال ابن عباس: مِنْ هَمِّك بقطع اليهودي (2) .
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } أي: يخونوها.
قوله: { يستخفون من الناس } يعني: يكتمون الخيانة منهم، { ولا يستخفون } أي: لا يقدرون على كتمانها، { من الله } .
{ وهو معهم } قال ابن عباس: بالعلم (3) .
قال الثعلبي (4) : استدلت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية على أن الله في كل مكان. وهذا لا يوجب ذلك؛ لأنه قال: { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/380-381)، والواحدي في أسباب النزول (ص:183)، والوسيط (2/111-112) بلا نسبة.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/112)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/192).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/193) بلا نسبة.
(4) تفسير الثعلبي (3/382).(1/667)
الأرض } [الملك:16]، ولم يرد بقوله: أنه في السماء معنى غير الذات، لأن القولَ: بأن زيداً في موضع كذا من غير أن يقيد بذكر فعل شيء من الأشياء، لا يكون إلا بالذات، وقال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب } [فاطر:10]، وقال: { يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض } [السجدة:5]، فأخبر أنه يدبّر الأشياء من السماء، ولا يجوز أن يكون معهم بذاته، ثم يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض، وإليه يصعد الكلم الطيب.
وهذه الآية تتضمن الحث على الحياء من الله تعالى، فإنه أحق أن يُستحى منه.
قال لقمان لابنه: يا بني كل أمر حدَّثتَ به نفسك مما لو أخرجته من قلبك، فإن الله أحق أن يُستحَى منه.
ومعنى الآية: { وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } مما زوَّروه ليلاً، وتحدَّثوا به فيما بينهم؛ ليُروِّجوا به باطلهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأيمان الفاجرة، وغيرها.
ثم هددهم فقال: { وكان الله بما يعملون محيطاً } .
قوله: { ها أنتم هؤلاء } سبق القول عليه في آل عمران (1) .
{ جادلتم عنهم } أي: حاججتم عن بني أبيرق، { في الحياة الدنيا } ودافعتم، واشتقاقه من الجَدْل، وهو شدة الفَتْل، كأن كل واحد من المتجادلين يفتل صاحبه بالحُجَّة إليه. وقيل: من الجَدالة، وهو وجه الأرض، كأنه يروم
__________
(1) عند تفسير الآية رقم: 66.(1/668)
عند المُحاججة صرع خصمه بالجدالة، { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } إذا ظهرت قبائحهم، وشهدت عليهم جوارحهم، { أم من يكون عليهم } ، أي: لهم { وكيلاً } قائماً بأمرهم في الجدال.
ثم إن الله الحليم الكريم عرض التوبة على طعمة وبني أبيرق فقال: { ومن يعمل سوءاً } أي: قبيحاً متعدياً يسوء به غيره، كما فعل طعمة باليهودي البريء من تلك الخيانة، { أو يظلم نفسه } ظلماً لا يتعدى ضرره وقبحه إلى غيره؛ كاليمين الفاجرة التي حلفوها.
وقيل: من يعمل سوءاً دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك، { ثم يستغفر الله } يطلب منه المغفرة { يجد الله غفوراً رحيماً } .
أخبرنا العالم الثقة النبيل أبو الحسن، علي بن محمد بن عبد الكريم الأثيري (1) وغيره، قالوا: أخبرنا الخطيب أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي (2) ، أخبرنا الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج المقرئ (3) ، حدثنا عبيد الله بن عمر (4) ، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن
__________
(1) هو ابن الأثير، تقدمت ترجمته (ص:35).
(2) عبد الله بن أحمد الطوسي البغدادي الموصلي، أبو الفضل الشافعي، خطيب الموصل، مسند العصر. توفي سنة ثمان وسبعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 21/87).
(3) جعفر بن أحمد بن الحسين البغدادي، أبو محمد السراج القارئ الأديب. توفي سنة خمسمائة (انظر: المنتظم 9/151، ووفيات الأعيان 1/357، وسير أعلام النبلاء 19/228).
(4) عبيد الله بن عمر بن شاهين، أبو الفتح البغدادي، الواعظ. توفي سنة أربعين وأربعمائة (تاريخ بغداد 10/386، وسير أعلام النبلاء 17/601).(1/669)
أيوب (1) ، حدثنا أبو مسلم، هو إبراهيم بن عبد الله (2) ، حدثنا حجاج بن [نصير] (3) ، حدثنا شعبة، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، قال: سمعت عليّ بن ربيعة الأسدي، عن أبي أسماء -أو أسماء- عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني، فحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من عبد يُذنب ذنباً فيتوضأ ويُحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ويستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفر الله له، ثم تلا هذه الآية: { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } ، وهذه الآية: { والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ... الآية } [آل عمران:135]".
وهذا الحديث رواه عن عثمان بن المغيرة جماعة؛ منهم: شريك، وسفيان الثوري، وزاد فيه: وكان إذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدَّثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي البغدادي، أبو محمد البزاز. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة (تاريخ بغداد 9/408، وسير أعلام النبلاء 16/252).
(2) إبراهيم بن عبد الله بن مسلم البصري، أبو مسلم الكجِّي، صاحب السنن. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين (تاريخ بغداد 6/120، وسير أعلام النبلاء 13/423).
(3) في الأصل: نصر، وهو خطأ. وهو : حجاج بن نُصير -بضم النون- الفَساطيطي القيسي، أبو محمد
... البصري. توفي سنة أربع عشرة ومائتين (ميزان الاعتدال 2/205).(1/670)
يقول: ما من عبد مسلم ..." وساق الحديث (1) ، ولم يشك أنه أسماء بن الحكم الفزاري.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري، قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن إبليس قال لربه عز وجل: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال له ربه: بعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني" (2) .
وقال لقمان لابنه: يا بني؛ عوِّد لسانك: اللَّهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً (3) .
قوله: { فإنما يكسبه على نفسه } أي: إنما يعود ضرر كسبه عليه.
والظاهر -والذي عليه أكثر المفسِّرين- أن قوله: { ومن يكسب خطيئة أو إثماً } متصل بقصة طُعمة، ومن تمام ما نزل فيه.
وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ بن سلول حين رمى عائشة رضي الله عنها بالإفك (4) .
و "الخطيئة": الصغيرة، و "الإثم": الكبيرة.
{ ثم يَرْمِ به } أي: بالكسب.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/86 ح1521)، والترمذي (2/257 ح406، 5/228 ح3006)، والطيالسي في مسنده (1/2 ح1، 2).
(2) أخرجه أحمد (3/29 ح11255، 3/41 ح11385).
(3) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/294)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/394)، والسيوطي في الدر المنثور (6/520) وعزاه للحكيم الترمذي.
(4) ذكره الثعلبي (3/383)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/195).(1/671)
وقال ابن جرير (1) : بالإثم.
وقيل: أراد الخطيئة والإثم، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ كما في قوله: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } [التوبة:34].
والمعنى: يَرْمِ به بريئاً من ذلك الكسب أو الإثم، كما فعل طُعمة باليهودي، أو المنافق ابن أُبَيّ بن سلول بأم المؤمنين بنت الصِّدِّيق زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
{ فقد احتمل بهتاناً } كذباً يُبهت منه، أي: يتحير من عظمه { وإثماً مبيناً } .
قال ابن السائب: "فقد احتمل بهتاناً" برميه البريء، "وإثماً مبيناً" بيمينه الكاذبة (2) .
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليك ورحمته } قال ابن عباس: بالنبوة والعصمة (3) .
{ لهمَّت طائفة منهم أن يضلوك } أي: لظهر تأثير ما هَمُّوا به من استزلالك عن الحق، واستنزالك عن العمل به، وهم قوم طُعمة على الأظهر
__________
(1) تفسير الطبري (5/274).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/114)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/196).
(3) ذكره الثعلبي (3/383)، والواحدي في الوسيط (2/114)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/196).(1/672)
في التفسير (1) .
وروى الضحاك عن ابن عباس: أن وفدَ ثقيف قالوا: يا رسول الله! نبايعك على أن تمتعنا بالعُزّى سنة (2) .
{ وما يضلون إلا أنفسهم } .
فإن كانوا قوم طعمة؛ فالذي هَمُّوا به: استنزاله عن طريق الصواب في القضاء.
وإن كانوا وفد ثقيف؛ فالذي هَمُّوا به: استنزاله عن التشديد في النكير عليهم إلى المساهلة والإغضاء.
{ وما يضرونك من شيء } لأنك مُؤيَّدٌ بالنبوة والعصمة.
ومن نتائج هذا: أن الواو في قوله: "وأنزل الله" واو الحال، على معنى: وما يضرونك من شيء وقد أنزل الله عليك الكتاب والحكمة.
وكنت أعجب كيف لم أتنبه لمثل هذا الموضع، حتى أخبرني بعض العلماء أن الواحدي ذكره في البسيط.
والمعنى: { وأنزل الله عليك الكتاب } وهو القرآن، { والحكمة } وهو إلهام الصواب وبيان معاني الكتاب.
{ وعلَّمك ما لم تكن تعلم } من شرائع الدين، وسنن المرسلين، ونبأ الأولين والآخرين، { وكان فضل الله عليك } بالنبوة والعصمة، والكتاب والحكمة { عظيماً } .
__________
(1) انظر: الطبري (5/275).
(2) ذكره الثعلبي (3/383)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/196).(1/673)
قوله (1) : { لا خير في كثير من نجواهم } الضمير يرجع إلى قوم طُعمة، في قول ابن عباس (2) .
وقال مجاهد بعمومه في جميع الناس (3) .
والمراد بنجواهم: ما يدبرونه بينهم من الكلام خُفية.
{ إلا مَن أمر بصدقة } "من" في محل الجر، تقديره: إلا نجوى الآمر بصدقة.
ويجوز أن يكون في محل النصب على الاستثناء المنقطع؛ كقول النابغة:
......................... ... ... ........ وَمَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إلا أُوَارِي ............... ... ... ......................... (4)
والتقدير: لكن مَن أمر بصدقة ففي نجواه خير.
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثامن والثلاثين مرة ثانية.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/198).
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (2/115)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/198).
(4) جزء من بيتين للنابغة يصف سيلاً. وهما:
... ... ... ... وَقَفْتُ فيها أُصَيْلاناً أُسَائِلُها ... عَيَّتْ جَوَاباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَد
... ... ... ... إِلاَّ الأواريَ لأْياً ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومة الجَلَدِ
... انظر: ديوانه (ص:30)، والكتاب (2/321)، والمقتضب (4/414)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/80)، وأوضح المسالك (2/389)، ومجاز القرآن (1/328)، والتصريح (2/367)، والإنصاف (1/170)، والطبري (1/78)، والقرطبي (7/356)، واللسان، مادة: (أصل). ... والأواري: جمع آري، وهو مربط الدواب.(1/674)
وفي أفراد مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ" (1) .
{ أو معروف } وهو أعمال البر كلها، لأن العقول تعرف حسنها وصحتها.
قال ابن عباس. "أو معروف": صلة الرحم (2) .
وقيل: القرض (3) . وقيل: إغاثة الملهوف.
وفي صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ"، "ومِنْ المَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إِنَائه" (4) .
{ أو إصلاح بين الناس } قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي أيوب الأنصاري: "ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حُمُر النعم!!، فقال: نعم يا رسول الله، قال: تُصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا" (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم (3/1506 ح1893).
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/115).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1065) عن مقاتل بن حيان. وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/679) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
(4) أخرج البخاري في صحيحه قوله: "كل معروف صدقة" (5/2241 ح6575)، وبقية الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/114 ح304)، والترمذي (4/347 ح1970)، وأحمد في المسند (3/344 ح14751، 3/360 ح14920).
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (4/138 ح3922). ...(1/675)
فصل
وقد أذن صاحب الشرع للساعي بين الناس بالإصلاح في قول ما يرفع به الأحقاد، ويدفع به الفساد، ولم يَعُدَّه كذباً مُؤَثَّماً. ففي الصحيحين من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف (1) أن أُمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيْسَ الكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فيُنْمِي خيراً، أو يقول خيراً. وقالت: لَمْ أَسْمَعْه يُرَخَّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ [كَذِبٌ] (2) إِلاَّ في ثَلاثٍ: في الحَرْبُ، وَالإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ المَرْأَةِ زَوْجَهَا" (3) . وليس لأم كلثوم في الصحيح غيره.
ثم إن الله تعالى شرط في استحقاق الأجر العظيم طلب مرضاته بالفعل فقال: { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } .
قال مالك بن دينار (4) : قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
وقال الربيع بن صبيح (5) : كنا عند الحسن، فوعظ فانتحب رجل، فقال
__________
(1) حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، من أعيان التابعين، توفي سنة خمس ومائة، على الصحيح (الثقات 4/146، والتقريب ص:182).
(2) زيادة من مسلم (4/2011).
(3) أخرجه البخاري (2/9582546) دون قوله: "لم أسمعه يرخص... إلخ"، ومسلم (4/2011 ح2605) بلفظه، وبيَّن أن آخره مدرج من قول الزهري ولم يرفعه. وانظر: فتح الباري (5/300).
(4) ... مالك بن دينار البصري الزاهد، أبو يحيى، من ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف. توفي سنة ثلاثين ومائة أو نحوها (سير أعلام النبلاء 5/362).
(5) ... الربيع بن صَبيح السعدي البصري، العابد، مولى ابن سعد، من أعيان مشايخ البصرة. توفي سنة ستين ومائتين (سير أعلام النبلاء 7/287).(1/676)
الحسن: أما والله ليسألنك الله يوم القيامة ما أردتَ بهذا (1) .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن مالك بن دينار عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبد يخطب خطبة إلا والله عز وجل سائله عنها يوم القيامة ما أراد بها. فكان مالك إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، حتى ينقطع، ثم يقول: تحسبون أن عينيَّ تَقَرُّ بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة ما أردتُ به" (2) .
قوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول ... الآية } قال ابن عباس: لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة، خاف من القطع، والفضيحة، فهرب إلى مكة فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية (3) .
وفي كيفية هلاكه اختلاف:
قيل: إنه خرج مع تجار، فَسَرَقَ منهم شيئاً، فرموه بالحجارة حتى مات.
وقيل: ركب سفينة فَسَرَقَ منها مالاً، فعُلِمَ به، فأُلقي في البحر.
وقال مقاتل (4) : لما قدم مكة نزل على الحجاج بن عِلاط السُلمي، فأحسن نُزُلَه، فبلغه أن في بيته ذهباً، فخرج بالليل، فنقب حائط البيت، فعلموا به،
__________
(1) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:330).
(2) ... أخرجه أحمد في الزهد (ص:391).
(3) ... أخرجه الطبري (5/271)، وابن أبي حاتم (4/1066) عن قتادة، والثعلبي (3/385). وذكره الواحدي في الوسيط (2/116)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/200).
(4) ... تفسير مقاتل (1/257). وذكره الثعلبي (3/385).(1/677)
فأحاطوا بالبيت، فلما رأوه أرادوا أن يرجموه، فاستحى الحجاج لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرة بني سليم (1) يعبد صنمهم حتى مات على الشرك.
والمعنى: ومن يخالف الرسول ويعاديه من بعد ما ظهر له الهدى وبان، { ويَتَّبع غير سبيل المؤمنين } غير دين الموحِّدين، وذلك أن طُعمة ترك دين الإسلام، وخالف سبيلهم.
وقد يُحتج بهذا على وجوب التمسك بالإجماع.
{ نُوَلِّه ما تولَّى } نَدَعُه وما اختار لنفسه، { ونصله جهنم } ندخله إياها، { وساءت مصيراً } موضعاً يُصار إليه.
¨bخ) اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا
__________
(1) حرة بني سليم: تقع جنوب المدينة في عالية نجد، وأقرب مكان لها مهد الذهب، فإنه معدن بني سليم المعروف (انظر: معجم البلدان 2/246).(1/678)
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ(1/679)
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا اتثثب
قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ذُكر سبب نزولها من قبل في هذه السورة (1) .
وقد رُوي عن ابن عباس: أن شيخاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني منهمكٌ في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته، وإني لنادم مستغفر، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية (2) .
__________
(1) عند تفسير الآية رقم 48 من هذه السورة.
(2) ذكره الثعلبي (3/386).(1/680)
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول: إلَهي أطعتك في أحب الأشياء إليك -وهو التوحيد-، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك -وهو الشرك-فاغفر لي ما بينهما.
قوله: { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } أي: ما يعبدون من دون الله إلا إناثاً، جمع أُنثى، كما قرأ ابن عباس (1) .
قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا لهم صنم يعبدونه، ويسمونه أُنثى بني فلان (2) .
قال: وكل شيء لا روح فيه كالحجر والخشب فهو إناث (3) .
وقال جماعة -منهم السدي-: الإناث: اللاَّت، والعُزَّى، ومناة (4) .
وقال الزجَّاج (5) : المعنى: ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث.
وقال الضحاك: المراد: الملائكة، كانوا يزعمون أنها بنات الله (6) . تعالى
__________
(1) انظر: المحتسب (1/198)، والبحر المحيط (3/368).
(2) أخرجه الطبري (5/279). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/687) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر.
(3) أخرجه الثعلبي (3/387)، والطبري (5/279)، وابن أبي حاتم (4/1067)، ومجاهد (ص:174). وذكره السيوطي في الدر (2/687) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الطبري (5/278)، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/203)، والسيوطي في الدر المنثور (2/687) وعزاه لابن جرير.
(5) لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قول الزجاج في: زاد المسير (2/203).
(6) أخرجه الطبري (5/279)، وابن أبي حاتم (3/1067-1068).(1/681)
الله عن ذلك عُلُواً كبيراً.
وقرأ سعد بن أبي وقاص: "إلا وَثَناً" .
وقرأت عائشة: "أوثاناً" .
وقُرئ: "أُثُناً" بالتثقيل والتخفيف (1) ، جمع وَثَن، كأَسَد وأُسُد، وقلب الواو ألفاً مثل: "أُجُوه" في وجوه. وكذلك "أُقِّتَتْ" أصلها: وُقِّتَتْ (2) .
{ وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم (3) .
وقال أُبَيّ بن كعب: مع كل صنم جِنِّيَّة (4) .
وقال الزجَّاج (5) : يعني به إبليس، وهم إذا أطاعوه فيما سوَّل لهم فقد عبدوه.
و"المَرِيد": العاتي المتجرد عن الخير، الظاهرُ الشر، ومنه: الأَمْرَد، وشجرة مَرْدَاء: إذا تناثر ورقها وتجرَّدت، وصخرة مَرْدَاء: مَلْسَاء.
__________
(1) وهي قراءة ابن عباس أيضاً.
(2) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص:28-29)، والمحتسب (1/198-199)، والبحر المحيط (3/367-368).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/203).
(4) أخرجه أحمد (5/135)، وابن أبي حاتم (4/1067)، والضياء في المختارة (3/362). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/203)، والسيوطي في الدر المنثور (2/686) وعزاه لعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم والضياء في المختارة.
(5) معاني الزجاج (2/108).(1/682)
{ لعنه الله وقال لأتخذن } صفتان للشيطان، التقدير: إلا شيطاناً لعيناً قائلاً ذلك.
وقيل: هو دعاء عليه باللعن.
{ نصيباً مفروضاً } حظاً مقطوعاً، أقتطعتهم لنفسي، ومنه: فُرْضة النهر، وفُرْضة القوس، وهو الحز الذي يُشَد فيه الوتر. وفُرِض له في العطاء، وفرض للجند .. كل ذلك أصله القطع.
قال الحسن: مِن كلِّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار (1) .
{ ولأضلَّنهم } يعني: عن سبيل الهدى إلى طريق الردى، { ولأمنينهم } الأماني الباطلة.
قال ابن عباس: أقول لهم: لا جنة ولا نار، وأسوّفهم بالتوبة (2) .
ولقد عجبتُ من كشف صاحب الكشاف (3) قِنَاع الحياء، ورفضه الأحاديث الصحيحة الصريحة لخيالات الآراء، وتحريفه كلام الله عن مواضعه، حتى إنه قال في قوله تعالى: "ولأمنينهم": يعني: الأماني الباطلة،
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1069) عن مقاتل. وذكره مقاتل بن سليمان (1/257)، والسيوطي في الدر المنثور (2/688) وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
... وقول الحسن أصله في الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: يا آدم؛ فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ... الحديث". أخرجه البخاري (3/1221 ح3170)، ومسلم (1/201 ح222).
(2) ذكره الثعلبي (3/388)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/204-205).
(3) الكشاف (1/599-600).(1/683)
فعدّ منها: الخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، فَرَدّ أحاديث الشفاعة، وقد رواها أئمةُ الإسلام، وحُفَّاظ الحديث والأحكام، وسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من سادات الصحابة، ورُوِيت عنهم، وسُمِعت منهم؛ كأبي بكر، وعمر، وابنه، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري وغيرهم.
وخرَّجها الأئمة في مسانيدهم؛ كالإمام أحمد، والشيخين صاحبي الصحيحين. ففيهما من حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فساق حديث الشفاعة إلى أن قال: "ثم أعود الرابعة، فأقول: يا رب! ما بقي إلا مَن حبسه القرآن -إلى أن قال-: ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرَّة" (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - [فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ] (2) فيُسَمَّوْنَ الجَهَنَّمِيِّينَ" (3) .
فمَن أجهلُ جهلاً، وأسخفُ عقلاً، وأضلُ سبيلاً ممن يقابل القرآن بالتعطيل، والأحاديث النبوية بالتبطيل، وهو يدَّعي الاستسلام لدين الإسلام، ولكن هذه جناية الكلام عليهم، وشؤم البدعة لديهم.
اللهم اجعل نور إيماننا مؤنساً لنا في ظُلَم الإلحاد، وأنلنا شفاعة نبينا إذا
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2695-2696 ح6975)، ومسلم (1/180 ح193).
(2) زيادة من الصحيح.
(3) أخرجه البخاري (5/2401 ح6198).(1/684)
حرمتها أهل الإلحاد.
قوله تعالى: { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } البَتْكُ: القَطْعُ.
قال المفسِّرون: هو شق أُذن البَحِيرة، وهي: الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكَراً، امتنعوا من الانتفاع بها؛ تسويلاً من إبليس بأن ذلك قُرْبة لهم إلى الله تعالى.
{ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قال ابن مسعود: هو الوَشْم (1) .
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: "لَعَنَ الله الوَاشِمَاتِ، وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ الله، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَة مِنْ بَنِي أَسَد: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ كَذا وَكَذا، وذكرته، فَقَال: مَالِي لا أَلعَنُ مَنْ لَعَنَ رسول الله" (2) .
وقال ابن عباس: هو تغيير دين الله (3) ؛ كقوله: { لا تبديل لخلق الله } [الروم:30]، أي لدين الله.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/285)، وابن أبي حاتم (4/1070) عن الحسن. وذكره الماوردي (1/530) من قول ابن مسعود والحسن، وابن الجوزي في زاد المسير (2/205).
(2) أخرجه البخاري (5/2218 ح5595)، ومسلم (3/1678 ح2125).
... والواشمة: التي تفعل الوَشم، والمستوشمة: التي تطلب الوَشم، وهو: أن يُغرز الجلد بإبرة ثم يُحشى بكحل أو نيل فيَزْرَقّ أو يَخْضَرّ (اللسان، مادة: وشم).
... والنَّمْصُ: هو نَتْفُ الشعر (اللسان، مادة: نمص).
... والمتفلجات: اللاتي يفرجن ما بين الثنايا والرّباعيات (انظر: اللسان، مادة: فلج).
(3) أخرجه الطبري (5/283)، وابن أبي حاتم (4/1069). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/690) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/685)
ومعنى تغيير الدين: جعلهم الحلال حراماً، والحرام حلالاً، ويدخل فيه قول مَن قال: هو تحريم ما حرَّموا من الأنعام.
وقال في رواية عكرمة: هو الخِصَاء (1) . وقيل: التَّخَنُّث.
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أَنَّهُ لَعَنَ المُتَشَبّهَاتِ من النِّسَاءِ بالرِّجَالِ، و[المُتَشَبّهِينَ] (2) من الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ" (3) .
فإن قيل: من أين علم إبليس وقوع ما أخبر الله به عنه في قوله: { لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنهم ولأمنينهم ... الآية } ، وفي قوله: { لأحْتنكن ذريته إلا قليلاً } [الإسراء:62]، وفي قوله: { ولا تجد أكثرهم شاكرين } ؟ [الأعراف:17].
قلت: رأى الخبيث أسباباً، منها: خلق الجنة والنار، وكون الأب أجوف فعرف أنه خلقٌ لا يتمالك، واستزلاله إياه مع كماله، وما كان من حال الذين سكنوا الأرض من قبلهم، فأثارت هذه القضايا عنده غلبة الظن بتحقيق ما توعّدهم به. قال الله تعالى: { ولقد صَدَّقَ عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } [سبأ:20].
قوله: { يعدهم ويمنِّيهم } ، أي: يعد أولياءه أنه لا بعث ولا نشور، ويمنيهم
__________
(1) أخرجه الطبري (5/283)، وابن أبي حاتم (3/1069)، ومجاهد (ص:174). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/689) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة.
(2) زيادة من سنن أبي داود (4/60).
(3) أخرجه البخاري (5/2207 ح5546)، وأبو داود (4/60 ح4097) كلاهما من حديث ابن عباس.(1/686)
الباطل والغرور، { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } باطلاً وتمويهاً، فيُخْرج لهم ما يضرهم في صورة ما يسرهم، ويَغُرُّهم بالعاجل عن الآجل، فبينا هم يترددون في أودية الأماني، اعترضتهم المنيّة دون بلوغ الأمنية، فتمنوا أن يُطلقوا ساعة من أسرها، ولو بالدنيا بأسرها.
الآنَ حِينَ تَعَلَّقَتْهُ حِبَالُنَا ... ... يَرْجُو الخَلاصَ وَلاَتَ حِينَ مَنَاص (1)
{ ولا يجدون عنها } إذا راموا الخلاص منها { محيصاً } أي : مذهباً ومهرباً.
قوله: { وعد الله حقاً } مصدران. وقيل: تمييز (2) .
}ّٹ9 بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
__________
(1) انظر البيت في: تاريخ الطبري (3/311) ونسبه إلى عبيد الله بن زياد، وسير أعلام النبلاء (3/300) باختلاف في بعض الألفاظ.
(2) انظر: الدر المصون (2/429).(1/687)
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا اتثدب
قوله عز وجل (1) : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } قال ابن عباس وقتادة: اختصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبيّنا خير
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس العشرين.(1/688)
الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبيّنا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية (1) .
ثم خيَّر بين الأديان بقوله: { ومن أحسن ديناً } .
وقال عكرمة: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا. وقال كفار قريش: لا نُبعث، فنزلت (2) .
قال الزجَّاج (3) : اسم "ليس" مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب.
قال الحسن رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولا التحلي، ولكنه ما وقر في الصدر، وصدَّقه العمل (4) .
نفى الله سبحانه وتعالى أن يكون ثوابه وجنته بالأماني الكاذبة والدعاوي الباطلة كما زعمته اليهود في قولهم: { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [البقرة:111]، وقولهم: { نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة:18]، { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [البقرة:80].
فلما أوضح لعباده خيبة الأماني الكاذبة أعلمهم أن الجزاء معقود
__________
(1) أخرجه الطبري (5/288) عن قتادة، وابن أبي حاتم (4/1073) عن ابن عباس. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:184).
(2) ... ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/209)، والسيوطي في الدر المنثور (2/695) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3) معاني الزجاج (2/111).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (6/163، 7/189)، والبيهقي في الشعب (1/80). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/695) وعزاه لابن أبي شيبة.(1/689)
بالأعمال لا بالأماني والآمال، فقال عز وجل: { مَن يعمل سوءاً يُجْزَ به } .
قال ابن عباس: هو الشرك (1) .
والأظهر عمومه في جميع السيئات، يدل عليه ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "لمَّا نَزَلَتْ: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ } بَلَغَتْ مِنَ المُسْلِمِينَ مَبْلَغاً شَدِيداً، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفي كُلِّ مَا يُصَابُ بهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" (2) .
وفي الحديث: "أن أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه قال لما نزلت: يا رسول الله؛ كيف الصلاح بعد هذه الآية: { مَن يعمل سوءاً يُجْزَ به } ، فقال: غفر الله لك يا أبا بكر ألستَ تمرض؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تُجزون به" (3) .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ في الدُّنْيَا" (4) .
قال مسروق: لما نزلت: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت: { ومن يعمل من الصالحات ...
__________
(1) أخرجه الطبري (5/293)، وابن أبي حاتم (4/1070). وذكره السيوطي في الدر (2/703) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه مسلم (4/1993 ح2574).
(3) أخرجه أحمد (1/11 ح68)، والحاكم في المستدرك (4/78 ح4450).
(4) أخرجه أحمد (1/6 ح23)، والطبري (9/241).(1/690)
الآية } (1) .
هذه "مِنْ" للتبعيض، والتي في قوله: { مِن ذكَرٍ } لتبيين الإبهام في قوله: { مَن يعمل } .
وفي قوله: { وهو مؤمن } إخراج لأهل الكتاب عن تناول الآية لهم؛ لكفرهم بما لا يتم الإيمان إلا به.
{ ولا يُظلمون نقيراً } يعني: أهل السوء، وأهل العمل الصالح.
وقد سبق تفسير (2) ما بعده إلى قوله: { حنيفاً } ، وهو حال من الضمير المرفوع في "واتبع" أو حال من "إبراهيم" (3) .
{ واتخذ الله إبراهيم خليلاً } جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا جبرائيل؛ لِمَ اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: لإطعامه الطعام" (4) .
قال ابن عباس: كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان، يُضِيف من مرّ به مِنَ الناس، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصابت الناسَ سنةٌ، فأقبلوا إلى باب ابراهيم يطلبون الطعام، وكانت له مَيْرة من صَديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه، فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا جئنا بميرة، فملأوا الغرائر رملاً، ثم أتوا إلى
__________
(1) أخرجه الطبري (5/288)، وابن أبي حاتم (4/1072-1073)، والثعلبي (3/389). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/704) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) انظر: (ص:205).
(3) انظر: التبيان (1/195)، والدر المصون (2/430).
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/98)، والواحدي في أسباب النزول (ص:184).(1/691)
إبراهيم، فأعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت الغرائر، فإذا دقيق حُوَّارَى (1) ، فأمرت الخبّازين فخبزوا وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم عليه السلام فقال: من أين هذا الطعام؟ قالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند الله، خليلي الله، فيومئذ اتخذه الله خليلاً (2) .
قال ابن عباس: الخليل: الصفي (3) .
والمعنى: اصطفى إبراهيم واختصه بأسنى المواهب، وأقوم المذاهب، وأناله من الكرامة فوق ما رامه، وجعله جرثومة الرسالة، ودوحة الإمامة.
واشتقاق الخليل من الخَلَّة، وهي: الحاجة، فإبراهيم خليل الله، أي: فقيره الذي يُنْزِل به فقره وفاقته لا بغيره، أو من الخُلَّة -بضم الخاء- وهي: الصداقة، والخليل: المُحِبّ الذي ليس في محبته خلل، فسمي إبراهيم خليل الله؛ لأن الله أحبه محبة تامة، وأحبَّ الله محبة تامة لا خلل فيها.
{ وكان الله بكل شيء } أي: بكل شيء من خلقه، { محيطاً } بعلمه، ومضمون ذلك ترغيب الصالح، وترهيب الطالح.
y7tRqçGّےtGَ،o"ur فِي
__________
(1) الحُوَّارَى: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه (اللسان، مادة: حور).
(2) ذكره الطبري (5/298)، والثعلبي (3/392)، والواحدي في أسباب النزول (ص:185).
(3) ذكره الثعلبي (3/392)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/211).(1/692)
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا اتثذب
قوله (1) : { ويستفتونك في النساء } أي: يطلبون منك الفتوى في ميراثهن،
__________
(1) كتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس التاسع والثلاثين، مرة ثانية.(1/693)
وكانوا لا يورثون النساء والأطفال - كما ذكرناه (1) -، فلما فرض الله المواريث شرقوا بتوريث النساء، والأطفال، فنزلت هذه الآية (2) .
{ وما يتلى عليكم } معطوف على اسم الله، أي: الله يفتيكم، والمتلوُّ في الكتاب يفتيكم أيضاً، وهو قوله: { وآتوا اليتامى أموالهم } [النساء:2].
وقيل: "ما يُتلى" مبتدأ، و"في الكتاب" خبره، على أنها جملة اعتراضية (3) .
والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، { في يتامى النساء } أي: في شأنهن.
والتقدير: وما يُتلى عليكم في شأن النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم؛ كقولهم: يوم الجمعة، هذا مذهب الكوفيين، والبصريون يقولون في هذا وأمثاله: الإضافة هاهنا بمعنى: "مِنْ".
وقيل: المراد بالنساء هاهنا: أمهات اليتامى، فأضيف أولادهن إليهن، وإعراب "يتامى النساء" ينبني على الوجهين في إعراب "وما يتلى". فإن قلنا: هو مبتدأ، فقوله: "في يتامى النساء" بدل من "فيهن". وإن قلنا: هو عطف، فجائز أن يكون قوله: "في يتامى النساء" بدلاً أيضاً. وجائز أن يكون من صلة "وما يتلى"، تقديره: وما يتلى عليكم في شأن يتامى النساء يفتيكم أيضاً (4) .
__________
(1) انظر: (ص:438-439).
(2) انظر: الوسيط (2/123)، وزاد المسير (2/213).
(3) انظر: التبيان (1/196)، والدر المصون (2/431).
(4) انظر: الدر المصون (2/433).(1/694)
{ اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } أي: ما فُرِض لهن من الميراث، وقيل: من الصداق.
واختلف الحسن ومحمد بن سيرين في قوله: { وترغبون أن تنكحوهن } فقال أحدهما: المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن.
وقال الآخر: المعنى: وترغبون عن أن تنكحوهن، أي: عن أن تنكحوهن لدمامتهن (1) .
وكان هذا من سُنَّة الجاهلية إذا كانت اليتيمة دميمة ولها مال عضلها وليها عن التزويج حتى تموت فيرثها، وإن كانت ذات مال وجمال تزوجها واستأثر بمالها، ولم يعدل في صداقها.
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة في قوله: " { ويستفتونك في النساء ... إلى قوله: وترغبون أن تنكحوهن } قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة وهو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العَذْق (2) ، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يُزوِّجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية" (3) .
قوله: { والمستضعفين من الولدان } عطف على "يتامى النساء"، "وأن
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/216)، والسيوطي في الدر المنثور (2/709) وعزاه لابن المنذر.
(2) العَذْق بالفتح: النخلة، وبالكسر: عنقود العنب. (المعجم الوسيط ص:590).
(3) أخرجه البخاري (4/1679 ح4324). ...(1/695)
تقوموا" في محل الجر (1) ، أي: يفتيكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين، وفي { أن تقوموا لليتامى بالقسط } وهو العدل في ميراثهن ومهورهن، وأمورهن.
{ وما تفعلوا من خير } فيما أمركم به ونهاكم عنه، { فإن الله كان به عليماً } المعنى: وهو يجازي عليه.
بbخ)ur امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
__________
(1) انظر: التبيان (1/196)، والدر المصون (2/435).(1/696)
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِن اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا اتجةب
قوله: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } أي: خشيتْ من زوجها نشوزاً ترفعاً عليها، أو إعراضاً عنها لدمامة في خَلْقها، أو لذمامة في خُلُقها، أو لِكبَر، أو لملال وضجر، أو اشتغال بغيرها.
{ فلا جُناحَ عليهما } أي: لا إثم عليهما { أن يَصَّالَحا } أصله: يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد.
وقرأ أهل الكوفة: "يُصْلِحَا" بضم الياء وسكون الصاد وتخفيفها وكسر(1/697)
اللام من غير ألف (1) ، مِن أصلح يُصْلح.
والمعنى: لا بأس أن تطيب له نفساً ببعض صداقها، أو بإسقاط بعض حقوقها، أو بتخفيف نفقتها.
أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ: لا تُطَلِّقْني وَأَمْسِكْني، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ" (2) .
أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق، والشيخ أبو بكر محمد بن سعيد بن الموفق النيسابوري بقراءتي عليه ببغداد قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور بن عِلان الكَرْجي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، "أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كِبَراً، وإما غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تُطلِّقني، وأمسكني، واقسم لي ما بدا لك، فأنزل الله: { وإن امرأة
__________
(1) الحجة للفارسي (2/94)، والحجة لابن زنجلة (ص:213-214)، والكشف (1/398-399)، والنشر (2/252)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:194)، والسبعة في القراءات (ص:238).
(2) أخرجه الترمذي (5/249 ح3040).(1/698)
خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ... الآية } " (1) .
{ والصلح خير } أي: خير من الفُرْقة.
وقيل: خير من النشوز والإعراض.
قوله: { وأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } أي: أُلزمته، والشُّحّ: البخل مع الحرص، فالمرأة تشح بحقها من زوجها، والزوج يشح بنفسه عليها لعدم ميله إليها.
{ وإن تحسنوا } أيها الأزواج بالصبر عليهن، والإحسان في العشرة إليهن، { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } .
قوله: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } يعني: في المحبة التي هي ميل القلب، { ولو حرصتم } ؛ لأن ذلك لا يدخل تحت كسبكم.
أخرج الإمام أحمد من حديث عائشة قالت: "كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثمَّ يَقُولُ: اللهمّ هَذا فِعْلِي فيمَا أَمْلِكُ، فَلا تَلُمْني فيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ" (2) ، يريد بذلك - صلى الله عليه وسلم - ميله إلى عائشة، وإفراطه في محبتها من بين نسائه.
{ فلا تميلوا } بالنفقة والقسم إلى التي تحبون { كل الميل } ، فتذروا المرغوب عنها { كالمُعلَّقة } وهي التي ليست بذات بعل ولا مُطلَّقة.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ إلى إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ يجرّ أحد
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده (ص:260)، والبيهقي في الكبرى (7/296 ح14507).
(2) أخرجه أبو داود (2/242 ح2134)، والترمذي (3/446 ح1140)، والنسائي (5/281 ح8891)، وابن ماجه (1/633 ح1971)، وأحمد (6/144 ح25154).(1/699)
شِقَّيْهِ ساقطاً أو مائلاً" (1) .
قوله: { وإن تُصْلِحوا } يعني: تعدلوا في النفقة والقسم، { وتتقوا } الجور { فإن الله كان غفوراً رحيماً } رحمكم وغفر لكم ميل قلوبكم.
وقيل: المعنى: "وإن تُصْلِحوا" ما أفسدتموه وحملكم الميل عليه بالتوبة والاستغفار "وتتقوا" الجَوْر فيما تستقبلون في صحبتهن.
{ فإن الله كان غفوراً } لما كان منكم، { رحيماً } بكم.
قوله تعالى: { وإن يتفرقا } يعني: الزوجين إذا لم يتفقا على الصلح، { يُغْنِ الله كُلاً من سعته } أي: يرزق كل واحد منهما من رزقه الواسع ما يغنيه، ومن الأزواج ما يرضيه، { وكان الله واسعاً } يسع رزقه جميع خلقه { حكيماً } فيما أمر به، ونهى عنه، وخوّف منه.
!ur مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/242 ح2133)، والترمذي (3/447 ح1141)، وابن ماجه (1/633 ح1969)، وأحمد (2/295 ح7923).(1/700)
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا اتجحب
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } فإليه فارغبوا، وإياه فاسألوا.
{ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } قوله:(1/701)
"من قبلكم" متعلق بـ"وصينا" أو بـ"أُوتوا"، والمعنى: وصينا أهل الكتب من قبلكم، وإياكم يا أهل القرآن وصينا أيضاً أن تخافوا الله وتحذروه. { وإن تكفروا } عطف على "أن اتقوا"، أي: قلنا لهم ولكم: اتقوا، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا (1) ، { فإن لله ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وعبيداً. فإيمانكم لا يزيد في سلطانه، وكفركم لا ينقص منه.
{ وكان الله غنياً } عنكم، { حميداً } يستحق الحمد منكم.
ثم هَدَّدَ المنافقين والمشركين فقال: { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً } .
قوله: { من كان يريد ثواب الدنيا } كالمقاتل مثلاً يطلب المدح والغنيمة بقتاله، ولا تخطر الآخرة بباله، فماله يعدل عن الأخص إلى الأخس، وإلى الأرذل عن الأفضل، ولكن هذا الحرمان أنتجه الخذلان، والا فلو نوى بقتاله الجهاد في سبيل الله والطاعة لفاز بالمُعَلَّى من قَدح الثواب في الدارين، والمدح بالشجاعة.
وقال الزجَّاج (2) : كان مشركوا العرب يتقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عز وجل أن
__________
(1) قاله الزمخشري في الكشاف (1/607).
... قال ... في الدر المصون (2/438): وفي كلامه نظر؛ لأن تقديره القول ينفي كون الجملة الشرطية مندرجة في حيز الوصية بالنسبة إلى الصناعة النحوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط، بل قصده هو وتفسير الإعراب، بدليل قوله: عطف على "اتقوا"، و"اتقوا" داخل في حيز الوصية، سواء أجعلت "أن" مصدرية أم مفسرة.
(2) معاني الزجاج (2/117).(1/702)
خير الدنيا والآخرة عنده.
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا اتجخب
قوله: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } قيل: إنها متعلقة بقصة ابن أُبيرق.
قال السدي وغيره: اختصم رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما فقير والآخر(1/703)
غني، فكان صِغْو (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفقير لكونه لا يظلم الغني في مستقر العادة، فنزلت هذه الآية (2) .
والمعنى: كونوا مجتهدين في إقامة العدل.
{ شهداء لله } أي: لوجهه ورضاه، لا تأخذكم فيه لومة لائم، { ولو على أنفسكم } ولو كان الحق عليكم { أو } على { الوالدين والأقربين } والشهادة على الأنفس مجاز عن الإقرار بما عليها من الحقوق.
{ إن يكن } يعني: المشهود عليه، أو له { غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } أعلم بحالهما، فلا تصرفنكم عن شهادة الحق والقيام بالعدل، مسكنة الفقير، ولا نباهة الغني.
{ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } كراهة أن تعدلوا عن الحق، أو لأن تعدلوا.
ولقد أحسن القائل:
وَاعْلَمْ بأَنَّكَ لَنْ تَسُودَ وَلَنْ تَرَى ... سُبُلَ الرَّشَادِ إِذا اتَّبَعْتَ هَوَاكَا
{ وإن تلووا } ألسنتكم أيها الشهود عن الشهادة فتحرفوها، { أو تعرضوا } عنها، فلا تؤدوها.
وقيل: "وإن تلووا" وجوهكم أيها الحكام إلى بعض الخصوم، "أو تعرضوا" عن بعض.
__________
(1) الصِّغْو: الميل (اللسان، مادة: صغا).
(2) أخرجه الطبري (5/321). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:188)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/222)، والسيوطي في الدر (2/715) وعزاه لابن جرير.(1/704)
وقرأ ابن عامر وحمزة: "وإن تَلُوا" (1) من الوِلاية، أي: تَلُوا إقامة الشهادة، أو أمور الناس، والحكم بينهم "أو تعرضوا" عن ذلك، { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } فهو يتولى جزاء القاسطين والمقسطين.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا اتجدب
__________
(1) الحجة للفارسي (2/95)، والحجة لابن زنجلة (ص:215)، والكشف (1/399)، والنشر (2/252)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:195)، والسبعة في القراءات (ص:238-239).(1/705)
قوله: { يا أيها الذين آمنوا } خطاب للمسلمين، في قول الحسن (1) .
ولأهل الكتابين، في قول الضحاك (2) .
وللمنافقين، في قول مجاهد (3) .
فالمعنى على القول الأول: { يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله } أي: دوموا على إيمانكم، كما تقول للقائم: قم حتى آتيك.
وعلى القول الثاني: { يا أيها الذين آمَنوا } بالتوراة وموسى، والإنجيل وعيسى، { آمِنوا بالله ورسوله } محمد وما جاء به من القرآن.
وعلى القول الثالث: { يا أيها الذين آمَنوا } بألسنتهم، { آمِنوا } بقلوبكم بوحدانية الله ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - (4) .
__________
(1) ... ذكره الماوردي (1/536)، والواحدي في الوسيط (2/128) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/224).
(2) ... ذكره الماوردي (1/536)، والواحدي في الوسيط (2/128)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/224)، والسيوطي في الدر المنثور (2/716) وعزاه لابن المنذر.
(3) ... مثل السابق.
(4) ... قال الطبري (5/326): فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم مؤمنين؟
... قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمهم مؤمنين، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق، وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وصنف أهل إنجيل وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذبون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم: يا أيها الذين آمنوا -يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل- آمنوا بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - والكتاب الذين نزل على رسوله، فإنكم قد علمتم أن محمداً رسول الله تجدون صفته في كتبكم، وبالكتاب الذين أنزل من قبل، الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون؛ لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمداً، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: { يا أيها الذين آمنوا } . اهـ.(1/706)
{ والكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي أَنْزَل من قبل } : يريد: جنس الكتب، وإنما قال: "نزل على رسوله" و"أَنْزل من قبل"؛ لأن القرآن نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة (1) ، بخلاف سائر الكتب.
¨bخ) الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
__________
(1) قال السيوطي في الإتقان (1/117): اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال: أحدها -وهو الأصح والأشهر-: أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجماً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة.(1/707)
(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا اتحةب
قوله: { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } ذهب ابن عباس(1/708)
وجمهور المفسِّرين إلى أنهم اليهود، آمنوا بموسى ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد (1) .
وقيل: { إن الذين آمنوا } بالتوراة وموسى، { ثم كفروا } بالإنجيل وعيسى، { ثم ازدادوا كفراً } بمحمد والقرآن.
وقال قتادة: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد (2) .
وروي عنه: أنها في اليهود والنصارى؛ آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بالإنجيل، ثم آمن النصارى بالإنجيل، ثم تركوه، فكفروا به، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وقال الحسن: هم قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يُظهرون الإيمان، ثم الكفر، ثم ازدادوا كفراً بموتهم على كفرهم (4) .
وقال مقاتل (5) : آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم كفروا بعده، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن.
وقيل: هو نعت المنافقين، آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا
__________
(1) زاد المسير (2/225).
(2) ذكره الماوردي (1/536)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/225).
(3) أخرجه الطبري (5/327). وذكره الواحدي في الوسيط (2/128)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/225)، والسيوطي في الدر المنثور (2/716) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ذكره الماوردي (1/537)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/225).
(5) تفسير مقاتل (1/263).(1/709)
كفراً بالثبات على النفاق حتى ماتوا عليه.
{ لم يكن الله ليغفر لهم } ويمكن أن يُستدل بهذه الآية على عدم قبول توبة مَن تكررت ردّته، وهو مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، لأن الله أخبر عن الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان أنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلاً، ومن كان بهذه المثابة لا يقبل الله له توبة (1) .
قوله: { بَشِّر المنافقين } قال الزجَّاج (2) : المعنى: اجعل موضع بشارتهم العذاب، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف.
قال الشاعر:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بخَيْلٍ ... ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ (3)
ثم وصف المنافقين فقال: { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } قال ابن عباس: كانوا يوالون اليهود (4) .
{ أيبتغون عندهم العزة } أي: الغلبة والاستعلاء على محمد وأصحابه، مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز: وهي التي لا تنبت، كأن الشدة منعتها من ذلك، وعزَّ الشيء: أي صعب واشتد وجوده، ومنه مَنْ عزَّ بزَّ: أي: مَن اشتد
__________
(1) انظر: المغني (9/18).
(2) معاني الزجاج (2/120).
(3) ... البيت لعمرو بن معديكرب. انظر: ديوانه (ص:343)، والكتاب (2/323)، وشرح المفصل (2/80)، والخزانة (9/263)، وشرح أبيات الكتاب للسيرافي (2/200)، والخصائص (1/368)، والمقتضب (2/20، 4/413)، ومعاني الأخفش (ص:98)، والدر المصون (1/508)، والطبري (1/391)، وزاد المسير (2/226).
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (2/129) بلا نسبة، وابن الجوزي في زاد المسير (2/226).(1/710)
وقوي، غلب وسلب.
قال الشاعر:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حمىً يُتَّقى ... ... إِذِ النّاس إِذ ذاكَ مِنْ عَزَّ بزّا (1)
{ فإن العزة لله جميعاً } فعنده تُبتغى، فالتمسوها بالإيمان والطاعة.
قال رجل -يريد سفراً- للإمام أحمد: أوصني، فقال: أعِزَّ أمر الله حيث ما كنت يعزّك الله (2) .
قوله (3) : { وقد نُزِّلَ عليكم في الكتاب } قرأ عاصم: "نَزَّلَ" بفتح النون والزاي (4) .
والذي نَزَل هو: النهي عن مجالسة الخائضين في آيات الله، وذلك في سورة الأنعام في قوله: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [الأنعام:68].
{ أن إذا سمعتم آيات الله } في موضع نصب، على قراءة عاصم، وفي موضع رفع، على قراءة الباقين.
__________
(1) البيت للخنساء. انظر: ديوانها (ص:59)، وزاد المسير (2/227، 4/13).
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (2/246) عن أبي بن كعب قال: أردت أن أخرج إلى الفتنة، قال: قلت للحسن: أوصني فقال: ...، وأخرجه أحمد في الزهد (ص:322) قال: قال رجل للحسن رحمه الله: إني أريد سفراً فزودني. قال: ابن أخي أعز أمر الله ...
(3) كتب في الهامش: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الأربعين، مرة ثانية.
(4) الحجة للفارسي (2/96)، والحجة لابن زنجلة (ص:217)، والكشف (1/400-401)، والنشر (2/253)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:195)، والسبعة في القراءات (ص:239).(1/711)
وقوله: { يُكفر بها ويُستهزأ بها } يستلزم وجود كافرين مستهزئين، فيعود الضمير في قوله: { معهم } إليهم.
{ إنكم إذاً مثلهم } المماثلة واقعة بين الخائضين والقاعدين معهم في الكفر إذا كانوا راضين بحالهم، أو في المعصية إذا لم يكونوا راضين.
ويحتمل عندي: أن الخطاب بهذه الآية للمنافقين، فإنهم كانوا يقعدون مع اليهود خائضين في آيات الله بالتكذيب والاستهزاء، ألا تراه يقول عقيب ذلك: { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } أي: كما اجتمعوا في الدنيا على التكذيب والاستهزاء، يجمعهم في الآخرة في العذاب.
tûïد%©!$# يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ(1/712)
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا اتحتب
ثم وصف الله المنافقين فقال: { الذين يتربصون بكم } أي: ينتظرون، { فإن كان لكم فتح من الله } وكانت الدولة لكم { قالوا ألم نكن معكم } فأعطونا من الغنيمة، { وإن كان للكافرين نصيب } حظ من الظفر والنصر { قالوا ألم نستحوذ عليكم } .
الاسْتِحْواذ في اللغة: الاستيلاء. يقال: حَاذ الحِمَارُ أُتُنَهُ؛ إذا استولى عليها وجمعها (1) .
فالمعنى: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم، ونستولي عليكم بالمعونة، والذب عنكم.
{ ونمنعكم من المؤمنين } بالتثبيط تارة، وبنقل الأخبار إليكم أخرى، امتنوا بذلك عليهم ليدفعوا نصيبهم من الغنيمة إليهم.
{ فالله يحكم بينكم } أيها المؤمنون والمنافقون، وفي قوله: { يوم القيامة } إشعار بأن الحكم يقع على ما أضمروه لا على ما أظهروه، بخلاف أحكام الدنيا، { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
قال رجل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرأيت قول الله: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وهم يقتلوننا؟!
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (حوذ).(1/713)
فقال: "ولن يجعل الله للكافرين" يوم القيامة "على المؤمنين سبيلاً" (1) .
وقال ابن عباس في رواية عكرمة والضحاك: حُجَّة (2) .
وقال في رواية أبي صالح: "على المؤمنين" أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (3) .
كأنه نفى ظهور كفار العرب على الصحابة، وأثبت أن الظفر للمسلمين والعاقبة لهم، فكان كذلك.
وقيل: هذا نفيٌ لاستيلاء الكفار على المسلمين بحيث يستأصلونهم، فإن العاقبة للمسلمين، وإن كانت الحرب سجالاً بين المسلمين والكافرين.
¨bخ) الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
__________
(1) أخرجه الطبري (5/333)، وابن أبي حاتم (4/1095)، والحاكم في المستدرك (2/338). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/718) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه.
(2) أخرجه الطبري (5/333-334) عن ابن عباس والسدي، وابن أبي حاتم (4/1095) عن السدي. وذكره الواحدي في الوسيط (2/130) عن ابن عباس والسدي، والسيوطي في الدر المنثور (2/719) وعزاه لابن جرير عن السدي.
(3) ذكره الثعلبي (3/404).(1/714)
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا اتحجب
قوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } سبق تفسيره في البقرة.
{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } متثاقلين لعدم الدواعي الطبيعية والشرعية. وهو جمع "كَسْلان"، مثل: سَكْران وسُكَارى.
{ يراءون الناس } معنى المفاعلة هاهنا أن المرائي يريهم أعماله ويُرُوْنَه استحسانها، أو يكون من باب: عاقبت اللص، وطارقت النعل.
{ ولا يذكرون الله إلا قليلاً } أي: ذكراً قليلاً.
قال علي رضي الله عنه: إنما قلَّ لأنه غير مقبول (1) .
قال ابن عباس: لو كان لله لكان كثيراً (2) .
__________
(1) أخرجه الطبري (5/335) عن قتادة. وذكره الواحدي في الوسيط (2/131) من قول قتادة، والسيوطي في الدر المنثور (2/719-720) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
(2) ذكره الثعلبي (3/405)، والواحدي في الوسيط (2/131) من قول الحسن، وابن الجوزي في زاد المسير (2/232).(1/715)
قوله: { مُذَبْذَبينَ } نصب على الحال من "يذكرون"، أو على الذم (1) .
والتَّذَبْذُبُ: التَّحَرُّكُ والاضطراب. فالمنافقون مترددون بين الإيمان والشرك والإيقان والشك، { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } أي: لا إلى المؤمنين بالاعتقاد الصحيح، ولا مع المشركين بالمجاهرة والتصريح.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَثَلُ المُنَافِقِ مَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلى هَذِهِ مَرَّةً، لا تدري أيهما تتبع" (2) .
{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي: طريقاً إلى الهدى.
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ
__________
(1) انظر: التبيان (1/199)، والدر المصون (2/447).
(2) أخرجه مسلم (4/2146 ح2784).(1/716)
سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا اتحذب
قوله: { لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي: لا تجعلوا(1/717)
اليهود والمنافقين بطانتكم وخاصتكم، { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } أي: حُجَّة ظاهرة.
واشتقاقه من السَّليط: وهو ما يُستضاء به، والزَّيْت: سليط، والسَّلاطَة من التَّسَلُّط: وهو القَهْر والظهور، والسَّلِيطَة: المرأة الصَخَّابَة (1) .
والسَّليط: الفصيح اللسان، ومنه: السُّلطان. كل ذلك يرجع إلى أصل واحد.
قوله: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قرأ أهل الكوفة: "الدَّرْك" بسكون الراء. وقرأ الباقون: بفتحها (2) .
قال ابن فارس (3) : الجنةُ درجات، والنار دركات.
وإنما كانوا أشد عذاباً من الكافر؛ لأنهم ساووهم في الكفر، وزادوا عليهم بالاستهزاء.
قوله: { إلا الذين تابوا } يعني: رجعوا عن نفاقهم، { وأصلحوا } أعمالهم بعد التوبة، { واعتصموا بالله } استمسكوا بدينه، { وأخلصوا دينهم لله } ، فلم يكدروه بشوائب الرياء، { فأولئك مع المؤمنين } في الولاية والدين.
قوله: { ما يفعل الله بعذابكم } استفهام في معنى التقرير، أي: لا يعذبكم، { إن شكرتم وآمنتم } أي: إن شكرتم نعمه، فوحَّدتموه وأطعتموه.
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (سلط).
(2) الحجة للفارسي (2/97)، والحجة لابن زنجلة (ص:218)، والكشف (1/401)، والنشر (2/253).
(3) معجم مقاييس اللغة (2/269).(1/718)
{ وكان الله شاكراً } للقليل من أعمالكم، { عليماً } بمقاصدكم ونيَّاتكم.
* لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ(1/719)
هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اتخثب
قوله: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم } أي: إلا جهر مَن ظُلِم، وهو أن يدعو على الظالم، ويذكّرَه بما فيه من السوء، أو يبدأه إنسان بالشتيمة فيرد عليه.
قال ابن عباس: نزلت في الضيافة؛ ينزل الرجل بالرجل عنده سعة فلا يضيفه، فإن تناوله بلسانه فقد عذره الله (1) .
__________
(1) أخرجه الطبري (6/2)، والثعلبي (3/407) عن مجاهد. وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص:189)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/236) كلهم عن مجاهد، والواحدي في الوسيط (2/134) عن ابن عباس، والسيوطي في الدر المنثور (2/723) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد.(1/720)
وقال مقاتل (1) : نال رجل من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر، فسكت عنه أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسول الله؛ شتمني فلم تقل له شيئاً، حتى إذا رددتُ عليه قمتَ، فقال: إن مَلَكاً كان يجيب عنك، فلما رددتَ عليه ذهب المَلَك، وجاء الشيطان، فنزلت هذه الآية.
وقرأ جماعة منهم عبد الله بن [عمر] (2) ، والحسن، والسعيدان، وأبو رجاء، وقتادة والضحاك، وزيد بن أسلم: بفتح الظاء واللام (3) ، فيكون الاستثناء منقطعاً، على معنى: لكن الظالم قد يجهر بالسوء فاجهروا له بالسوء.
وقال الزمخشري (4) : يجوز أن يكون "من ظلم" مرفوعاً، كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة مَن يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو. ومنه: { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } [النمل:65].
وقال ثعلب: هي مردودة على قوله: { ما يفعل الله بعذابكم ... إلا من ظُلِم } (5) .
__________
(1) ... تفسير مقاتل (1/267).
(2) في الأصل: عمرو. والتصويب من: البحر المحيط (3/398)، والدر المصون (2/451).
(3) مختصر ابن خالويه (ص:30)، والمحتسب (1/203)، والبحر المحيط (3/398).
(4) الكشاف (1/616). وقال أبو حيان في البحر (3/399): وهذا الذي جوَّزه الزمخشري لا يجوز. وانظر: الدر المصون (2/451).
(5) انظر: زاد المسير (2/238).(1/721)
{ وكان الله سميعاً } لقول المظلوم ودعائه، { عليماً } بفعل الظالم، وقدر جزائه، فليحذر المظلوم من الحيف، فطالما صار بسببه ظالماً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة: بلغني أن مَن قِبَلَك يَسُبُّون الحَجَّاج، فانههم عن ذلك، فإنه بلغني أنه لا يزال المظلوم يدعو على الظالم حتى يصير المظلومُ ظالماً، والظالِمُ مظلوماً.
ثم إن الله تعالى نبَّه المظلوم على فضيلة العفو، ورغَّبه فيه وأعلمه أنه من أوصافه، فقال: { إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء } . المعنى: إن تبدوا خيراً بدلاً من السوء الذي أطلق لكم الجهر به تفضلاً وكرماً وتقرُّباً إلى الله، واكتساباً للحمد والثناء، أو تُخفوا الخير في أنفسكم، فلا تجهروا به اكتفاء بعلم الله بما في قلوبكم، ورغبة في ثوابه، { أو تعفوا عن سوء } فتتجاوزوا عنه إغضاءً وتسامحاً، وتركاً للانتصار مع الاقتدار، { فإن الله كان عفواً قديراً } .
قوله (1) : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } قال المفسِّرون: هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ومحمد والقرآن (2) .
{ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } في الإيمان، { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } ، فأخبر الله أن الإيمان بالبعض كفر بالكل لما فيه من
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الحادي والأربعين، مرة ثانية.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/135)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/240).(1/722)
التكذيب فقال: { أولئك هم الكافرون حقاً } .
{ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك } أي: بين الكفر والإيمان { سبيلاً } مذهباً يدعون إليه ويحضون عليه.
{ أولئك هم الكافرون } ثم أكده فقال: { حقاً } ، فشهد عليهم بالكفر في أول الآية وأكّده ثانياً بقوله: { أولئك هم الكافرون حقاً } سلباً لوصف الإيمان عنهم، ونفياً لما توهَّموه من الانتفاع بالإيمان بالبعض.
قوله عز وجل: { والذين آمنوا بالله ورسله } وهم المسلمون، { ولم يفرقوا بين أحد منهم } أي: من الرسل، كما فعلت اليهود والنصارى، { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم } سبق الكلام على" سوف" وفائدة دخولها في مثل هذه المواضع فيما مضى.
قال الزمخشري (1) : فإن قلت: كيف جاز دخول "بين" على "أحد" وهو يقتضي شيئين فصاعداً؟
قلت: إن "أحداً" عام في الواحد المذكر والمؤنث، وتثنيتهما وجمعهما. تقول: ما رأيت أحداً، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بني فلان، وإلا بنات فلان.
فالمعنى: ولم يُفَرِّقوا بين اثنين منهم، أو بين جماعة، ومنه قوله: { لَسْتُنّ كأحد من النساء } [الأحزاب:32].
__________
(1) ... الكشاف (1/617).(1/723)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ(1/724)
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا اتخحب
قوله عز وجل: { يَسْئَلُكَ أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } قال أهل التفسير: قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بن عمران (1) .
وقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السماء من الله إلى فلان، وإلى فلان، أنّ محمداً رسولي أرسلته إليكم (2) .
{ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } أي: أعظم، وهو جواب شرط مقدَّر تقديره: إن أكبرت ذلك وأعظمته { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } .
فإن قيل: "ثم" للترتيب، فكيف قال: { ثم اتخذوا العجل } واتخاذهم
__________
(1) أخرجه الطبري (6/7)، وابن أبي حاتم (4/1103) كلاهما عن السدي ومحمد بن كعب القرظي. وذكره الواحدي في الوسيط (2/135)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/241)، والسيوطي في الدر المنثور (2/726) وعزاه لابن جرير عن السدي. ومن طريق آخر عن محمد بن كعب القرظي، وعزاه لابن جرير أيضاً.
(2) ذكره ابن جرير (6/8) عن ابن جريج، وابن الجوزي في زاد المسير (2/241)، والسيوطي في الدر المنثور (2/726) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج.(1/725)
العجل إلَهاً متقدم على سؤال الرؤية؟
قلتُ: هو خبر مستأنَف، كما تقول: زرتك اليوم، ثم إني زرتك أمس، أي: ثم أُخبرك أني زرتك أمس.
{ فعفونا عن ذلك } فلم نستأصلهم بالهلاك، { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } وهي الآيات التسع (1) .
ومعنى قوله: { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } بسبب نقض ميثاقهم.
$yJخ6sù نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ
__________
(1) ... وهي المذكورة في قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [الإسراء:101].(1/726)
عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ(1/727)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا اتخزب
قوله: { فبما نقضهم } "ما" زائدة، وقد ذكرناه في آل عمران (1) .
والجالب للباء محذوف، تقديره: فبنقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا.
وقيل: الجالب للباء: { حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [النساء:160] فيكون حينئذ قوله: { فبظلم } [النساء:160] بدلاً من قوله: "فبما نقضهم" (2) .
قوله: { وبكفرهم } يعني: بمحمد. وقيل: بعيسى.
وهو عطف على: "فبما نقضهم" أو على: { بل طبع } .
وجميع ما أغفلناه هاهنا مفسَّر في البقرة.
{ وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } وهو قذفها بالزنا.
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم } قال الزجَّاج (3) : يُعذَّبون عذاب مَن قتل لأنهم قتلوا الذي قتلوه على أنه نبي.
وقوله: { رسول الله } من كلام الله تعالى.
وقيل: من كلام اليهود على معنى تهكم به؛ كقول فرعون: { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [الشعراء:27]، أو رسول الله على زعمه.
__________
(1) ... عند تفسير قوله تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم } [آل عمران:159].
(2) ... انظر: الدر المصون (2/455).
(3) ... معاني الزجاج (2/128).(1/728)
قوله: { ولكن شُبهَ لهم } قال صاحب الكشاف (1) : إن قلت: "شُبهَ" مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول، فالمقتول لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؟
قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور، وهو "لهم"؛ كقولك: خُيِّل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يُسند إلى ضمير المقتول، لأن قوله: "إنا قتلنا" يدل عليه.
اختلفت الرواية عن ابن عباس فيمن أُلقي عليه شبهه؛ فروى أبو صالح عنه: أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها رَوْزَنة (2) ، فدخل، ورآه رجل منهم، فألقى الله شبه عيسى عليه، فلما خرج الرجل إلى أصحابه قتلوه ظناً منهم أنه عيسى، ثم صلبوه (3) .
وروى عنه سعيد بن جبير: أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أيكم يُلقَى عليه شبهي، فيُقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقال الشاب: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقال الشاب: أنا، فقال عيسى: نعم أنت ذلك، فأُلقي عليه شبه عيسى،
__________
(1) ... الكشاف (1/620).
(2) الخوخة: مُخْتَرَقُ ما بين كل دارين، لم ينصب عليها باب، بلغة أهل الحجاز (اللسان، مادة: خوخ).
... والروزنة: الكوة (اللسان، مادة: رزن).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/244).(1/729)
ورُفِع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا الشاب فقتلوه، ثم صلبوه (1) .
{ وإن الذين اختلفوا فيه } قيل: إنهم النصارى اختلفوا في عيسى، هل هو إله أو لا؟ وهل قُتِل أو لا؟
والصحيح: أن المختلفين اليهود (2) ، اختلفوا في عيسى، هل قُتِل أم لا؟ والسبب في ذلك أنهم قالوا: إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟
وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا.
قوله: { إلا اتباع الظن } استثناء منقطع، { وما قتلوه } يعني: الظن، وقيل: العلم، فالمعنى: أنهم ما بالغوا في العلم به، حتى تحققوه، وعرفوه، { يقيناً } كما يقول: قتلت الشيء علماً (3) .
وقيل: الضمير يرجع إلى عيسى.
قال الحسن: المعنى: وما قتلوا عيسى حقاً (4) .
وقال ابن الأنباري (5) : فيه تقديم وتأخير، التقدير: فما قتلوا عيسى، بل رفعه الله يقيناً. وقد ذكرنا رفعه في آل عمران (6) .
__________
(1) أخرجه النسائي في الكبرى (6/489)، وابن أبي حاتم (4/1110). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/727) وعزاه لعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) انظر: الطبري (6/16).
(3) أخرجه الطبري (6/17) عن ابن عباس.
(4) ذكره الماوردي (1/544)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/246).
(5) انظر: زاد المسير (2/246)، والدر المصون (2/459).
(6) عند تفسير قوله تعالى: { إني متوفيك ورافعك إليّ } [آل عمران:55].(1/730)
قوله: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به } قال الزجَّاج (1) : المعنى: وما منهم [من] (2) أحد إلا ليؤمننّ به، ومثله: { وإن منكم إلا واردها } [مريم:71].
أي: بعيسى، { قبل موته } فيؤمن أنه عبد الله ورسوله.
قال ابن عباس: يؤمن اليهودي قبل أن يموت ، ولا تخرج نفس النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد الله ، قيل له: فإن خرَّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء (3) .
وقال شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آيةٌ من كتاب الله ما قرأتها قط إلا تخالج في نفسي منها، قلت: أصلح الله الأمير، ما هي؟ فقرأ هذه الآية: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } ، وإني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى، فآمر بضرب عنقه، فما أسمعه يتكلم شيئاً، قلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا له: يا عدو الله؛ أتاك عيسى عبداً نبياً فكذَّبتَ به؟ فيقول: إني آمنتُ أنه عبد نبي، فيؤمن به حيث لا ينفعه إيمانه، ويؤتى النصراني فيقال: يا عدو الله؛ أتاك عيسى عبداً نبياً، فقلتَ: إنه الله أو ابن الله؟ فيؤمن به أنه عبد الله ورسوله حين لا ينفعه إيمانه.
__________
(1) معاني الزجاج (2/129).
(2) زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(3) أخرجه الطبري (6/20)، وابن أبي حاتم (4/1113)، وسعيد بن منصور (4/1427-1428). وذكره السيوطي في الدر (2/733) وعزاه للطيالسي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر.(1/731)
قال شهر: فنظر إليَّ الحَجاج وقال: مَن حدَّثك بهذا الحديث، فقلت: حدَّثني محمد ابن الحنفية. قال: وكان متكئاً فجلس، ثم نكت بقضيبه الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إليَّ فقال: أخذتها من عين صافية من معدنها (1) .
قال عكرمة: لا تخرج نفس اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (2) .
فعلى هذا: يكون الضمير في قوله: "ليؤمنن به" يرجع إليه - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: "ليؤمنن به" أي: بالله.
وقال جماعة منهم قتادة وابن قتيبة (3) : الضمير في "موته" يعود إلى عيسى (4) .
قال ابن عباس: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهودي، ولا نصراني، ولا أحد يعبد غير الله إلا اتبعه وصدَّقه وشهد أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه (5) .
{ ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } بالبلاغ، وعلى نفسه بالعبودية لله تعالى.
5Où=فàخ6sù z`دiB ڑْïد%©!$#
__________
(1) ذكره الثعلبي (3/412)، والسيوطي في الدر المنثور (2/734) وعزاه لابن المنذر.
(2) ذكره الثعلبي (3/413)، والماوردي (1/544)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/247).
(3) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص:137).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1114). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/248).
(5) ذكره الواحدي في الوسيط (2/137-138)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/248).(1/732)
(#rكٹ$yd $oYّBچym ِNحkِژn=tم BM"t7حhٹsغ ôM¯=دmé& ِNçlm; ِNدdدd‰|ءخ/ur `tم ب@خ6y™ "!$# #ZژچدWx. اتدةب مNدdة÷{r&ur (#4qt/جhچ9$# ô‰s%ur (#qهkçX çm÷Ztم ِNخgخ=ّ.r&ur tA؛uqّBr& ؤ¨$¨Z9$# ب@دـ"t7ّ9$$خ/ $tRô‰tGôمr&ur tûïجچدے"s3ù=د9 ِNهk÷]دB $¹/#xtم $VJٹد9r& اتدتب ا`إ3"©9 tbqم‚إ™؛چ9$# 'خû ةOù=دèّ9$# ِNهk÷]دB tbqمYدB÷sçRùQ$#ur tbqمZدB÷sمƒ !$oےد3 tAج"Ré& y7ّs9خ) !$tBur tAج"Ré& `دB y7خ=ِ6s% tûüدJٹة)çRùQ$#ur no4qn=¢ء9$#(1/733)
ڑcqè?÷sكJّ9$#ur no4qں2¨"9$# tbqمZدB÷sçRùQ$#ur "!$$خ/ دQِquّ9$#ur جچإzFy$# y7ح´¯"s9'ré& ِNحkژد?÷sمYy™ #·چô_r& $·Kدàtم اتدثب
قوله تعالى: { فبظلم من الذين هادوا } أي: ما حرَّمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه من أكل الربا، والرُشا وغير ذلك من العظائم.
والطيبات المحرَّمة عليهم: الألبان، وما اشتمل عليه قوله: { وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ... الآية } [الأنعام:146].
{ وبصدهم عن سبيل الله كثيراً } أي: صداً كثيراً، أو أناساً كثيراً.
{ وأكلهم أموال الناس بالباطل } وهو ما كانوا يأخذونه من الرُشا في القضاء، وعلى تبديل أحكام الله تعالى.
قوله: { لكن الراسخون في العلم منهم } وهم الثابتون فيه، المتقنون له، كعبد الله بن سلام.
و"الراسخون" مبتدأ، خبره "يؤمنون" (1) .
و { المؤمنون } مَن دخل معه في الإسلام من اليهود، وقيل: المهاجرون والأنصار.
قوله: { والمقيمين الصلاة } نصب على المدح، والاختصاص، وهو باب
__________
(1) انظر: التبيان (1/202)، والدر المصون (2/461).(1/734)
واسع (1) . وأنشدوا:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النَّازِلِينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (2)
وهذا قول الخليل وسيبويه (3) والزجَّاج وحُذَّاق البصريين.
وقيل: هو نسق على "ما"، المعنى: يؤمنون بما أُنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، وهم الملائكة والأنبياء.
وقيل: هو نسق على الهاء والميم في "منهم"، المعنى: منهم ومن المقيمين الصلاة.
قال الزجَّاج (4) : وهذا رديء عند النحويين، لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في الشعر.
وقد روي عن عائشة: أن ذلك خطأ من الكاتب (5) .
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/461).
(2) البيتان للخرنق بنت هفان القيسية. انظر: ديوانها (ص:29) والكتاب لسيبويه (1/202، 2/57-58، 64)، وتأويل مشكل القرآن (ص:53)، والخزانة (2/301)، ومجاز القرآن (1/65)، ومعاني الزجاج (2/132)، والدر المصون (2/462)، والمحتسب (2/198)، وأوضح المسالك (2/76).
(3) الكتاب (2/57).
(4) معاني الزجاج (2/131).
(5) أخرجه الطبري (6/25)، وسعيد بن منصور (4/1507). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/744-745) وعزاه لأبي عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر.(1/735)
وروي عن عثمان أنه قال: إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها (1) .
وهذا مستبعد جداً، لأن عائشة كانت من الفصاحة وحفظ أشعار العرب والاطلاع على افتنان أساليبها في خطابها بالمكانة التي لا تُدافَع عنها ولا تُمانَع منها، فكيف تحكم بخطأ الكاتب مع ظهور الصواب فيما ذكرناه من الإعراب.
وما نقل عن عثمان رضي الله عنه فقال ابن الأنباري (2) : لا يصح؛ لأنه غير متصل.
قال: ومحال أن يُؤخِّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه مَن بعده.
قال الزجَّاج (3) : الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئاً يُصلحه غيرهم، لا ينبغي أن يُنسب هذا إليهم.
وفي مصحف عبد الله: "والمقيمون" (4) ، وهي قراءة جماعة، منهم مالك بن دينار، والجُحْدَري.
* !$¯Rخ) !$uZّym÷rr& y7ّs9خ) !$yJx.
__________
(1) كتاب المصاحف (ص:41).
(2) انظر: زاد المسير (2/252).
(3) معاني الزجاج (2/131).
(4) انظر مختصر ابن خالويه (ص:30)، والبحر المحيط (3/411).(1/736)
!$uZّym÷rr& 4'n<خ) 8yqçR z`؟حhخ;¨Z9$#ur .`دB ¾حnد‰÷èt/ !$uZّٹym÷rr&ur #'n<خ) zOٹدd؛tچِ/خ) ں@ٹدè"yJَ™خ)ur t,"ysَ™خ)ur z>qà)÷ètƒur إق$t6َ™F{$#ur 4س|Oٹدمur z>qoƒr&ur }çRqمƒur tbrمچ"ydur z`"uKّn=ك™ur $oY÷ s?#uنur yٹ¼مr#yٹ #Y'qç/y- اتدجب Wxك™â'ur ô‰s% ِNكg"oYَء|ءs% ڑپّn=tم `دB م@ِ6s% Wxك™â'ur ِN©9 ِNكgَءفءّ)tR ڑپّn=tم zN¯=x.ur ھ!$# 4سyqمB $VJٹخ=ٍ6s? اتدحب Wxك™o' tûïخژإe³t6oB tûïح'ةYمBur xy¥د9 tbqن3tƒ ؤ¨$¨Z=د9 'n?tم "!$# 8pOfمm y‰÷èt/(1/737)
ب@ك™"چ9$# tb%x.ur ھ!$# #¹"ƒحotم $VJٹإ3ym اتدخب ا`إ3"©9 ھ!$# ك‰pkôtƒ !$yJخ/ tAt"Rr& ڑپّs9خ ¼م&s!t"Rr& ¾دmدJù=دèخ/ èps3ح´¯"n=yJّ9$#ur tbrك‰ygô±o" 4's"x.ur "!$$خ/ #´‰حky اتددب
قوله تعالى (1) : { إنا أوحينا إليك } نزلت مُكذِّبة لليهود في قولهم: ما أوحى الله إليك يا محمد، ولا إلى أحد بعد موسى.
{ كما أوحينا إلى نوح } وقد ذكرنا اسمه في آل عمران (2) ، وسبب تسميته نوحاً.
وقُدِّم في الذكر على سائر الأنبياء عليهم السلام؛ لاختصاصه بشرف الأبوة، وامتيازه بامتداد زمن النبوة.
{ والنبيين من بعده } كصالح، وهود، ويونس، يُقرأ بالحركات الثلاث
__________
(1) كتب في هامش الأصل: وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثاني والأربعين، مرة ثانية.
(2) ... عند تفسير قوله تعالى: { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ... } [آل عمران:33].(1/738)
على النون (1) ، وبالهمز وعدمه، إلا أن القراء العشرة أطبقوا على القراءة المشتهرة.
والزَّبُور: الكتاب، فَعُول بمعنى مفعول؛ كحَلُوب ورَكُوب.
وقرأ حمزة: "زُبُوراً"، بضم الزاي (2) ، جمع زَبْر.
قال أبو علي (3) : كأنَّ حمزة جعل كتاب داود أنحاءً، وجعل كل نحو زَبْراً، ثم جمع فقال: "زبوراً".
قوله: { ورُسُلاً } منصوب بفعل مضمر يُفسِّره ما بعده (4) . التقدير: قصصنا رسلاً عليك قد قصصناهم.
وجائزٌ أن يُحمل على معنى: أوحينا إليك، كأنه قال: أرسلناك والنبيين ورسلاً.
قوله: { وكلَّم الله موسى تكليماً } قال ثعلب: لولا أن الله أكد الفعل بالمصدر لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلَّمتُ لك فلاناً، بمعنى كتبت إليه رُقْعة، وبعثت إليه رسولاً، فلما قال: "تكليماً" لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله عز وجل (5) .
قوله: { رُسُلاً } نصب على المدح أو التكرير، { مبشرين ومنذرين }
__________
(1) إعراب القراءات الشواذ (ق/58/أ).
(2) الحجة للفارسي (2/100)، والحجة لابن زنجلة (ص:219)، والكشف (1/402)، والنشر (2/253)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:196)، والسبعة في القراءات (ص:240).
(3) الحجة للفارسي (3/64).
(4) انظر: التبيان (1/203)، والدر المصون (2/465).
(5) انظر: زاد المسير (2/256).(1/739)
نعت لـ"رسلاً" (1) .
وفي قوله: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } دليل على توقف وجوب الإيمان والطاعة على بعثة الرسل، كما قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [الإسراء:15].
{ وكان الله عزيزاً } في سلطانه { حكيماً } في بعثة رسله إلى خلقه.
ولما نزلت: { إنا أوحينا إليك } قالت اليهود والنصارى: لا نشهد لك بهذا، فنزل: { لكن الله يشهد } أي يبين صدقك ورسالتك { بما أنزل إليك } من القرآن المعجز، { أنزله بعلمه } أي: ملتبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره، وهو ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والإخبار عما كان ويكون، والسلامة من المناقضة والمعارضة، إلى غير ذلك من العلوم التي يُقَوَّم إعجاز القرآن بها، والأسرار المودعة فيه.
قال سفيان بن عيينة: إنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلت خزانة فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها (2) .
وقيل: "أنزله" مشتملاً بما علم من مصالح العباد.
وقيل: "بعلمه": أنك أهل لإنزاله عليك.
وقيل: "أنزله" وفيه علمه.
{ والملائكة يشهدون } بصدقك ورسالتك.
{ وكفى بالله شهيداً } وإن لم يشهد غيره.
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/466).
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (4/98).(1/740)
¨bخ) z`ƒد%©!$# (#rمچxےx. (#r'‰|¹ur `tم ب@خ6y™ "!$# ô‰s% (#q=|ت Kx"n=|ت #´‰دèt/ اتدذب ¨bخ) tûïد%©!$# (#rمچxےx. (#qكJn=sكur ِNs9 ا`ن3tƒ ھ!$# tچدےَّuد9 ِNكgs9 ںwur ِNكgtƒد‰ِkuژد9 $¸)ƒجچsغ اتدرب wخ) t,ƒجچsغ zO¨Yygy_ tûïد$خ#"yz !$pkژدù #Y‰t/r& tb%x.ur y7د9؛sŒ 'n?tم "!$# #Zژچإ،o" اتدزب $pkڑ‰r'¯"tƒ â¨$¨Z9$# ô‰s% مNن.uن!$y_ مAqك™چ9$# بd,ysّ9$$خ/ `دB ِNن3خn/' (#qمZدB$t"sù #Zژِچyz ِNن3©9 bخ)ur (#rمچàےُ3s? ¨bخ*sù ! $tB 'خû دN؛uq"yJ،،9$# اعِ'F{$#ur tb%x.ur ھ!$# $·Kخ=tم(1/741)
$VJٹإ3ym اتذةب ں@÷dr'¯"tƒ ة="tGإ6ّ9$# ںw (#qè=َّs? 'خû ِNà6دZƒدٹ ںwur (#qن9qà)s? 'n?tم "!$# wخ) ¨,ysّ9$# $yJ¯Rخ) كxٹإ،yJّ9$# س|Oٹدم كûَّ$# zNtƒَ tB ع^qق™u' "!$# ے¼çmçFyJخ=ں2ur !$yg9s)ّ9r& 4'n<خ) zNtƒَ tB سyrâ'ur çm÷ZدiB (#qمZدB$t"sù "!$$خ/ ¾د&خ#ك™â'ur ںwur (#qن9qà)s? îpsW"n=rO (#qكgtFR$# #Zژِچyz ِNà6©9 $yJ¯Rخ) ھ!$# ×m"s9خ) س‰دm؛ur ے¼çmoY"ysِ7ك™ br& ڑcqن3tƒ ¼م&s! س$s!ur ¼م&©! $tB 'خû دN؛uq"yJ،،9$# $tBur 'خû اعِ'F{$# 4's"x.ur "!$$خ/ Wxٹإ2ur اتذتب(1/742)
قوله: { إن الذين كفروا } وهم اليهود، { وصَدُّوا عن سبيل الله } أي: منعوا الناس من الدخول في دين الإسلام بما كتموا من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثم وصفهم بالظلم منضماً إلى الكفر فقال: { إن الذين كفروا وظلموا } أي: ظلموا محمداً بتكذيبه، وتبديل صفته { لم يكن الله ليغفر لهم } كفرهم وظلمهم.
وقيل: "لم يكن الله" ليستر عيوبهم، بل فضحهم في الدنيا بإبداء معايبهم، وعذَّبهم بالقتل والسبي، والنفي، وألزمهم الذلة، والمسكنة والجزية.
{ ولا ليهديهم طريقاً } إلى الإسلام.
{ إلا طريق جهنم } وهو دين اليهودية وغيره من الطرق التي تفضي بهم إلى جهنم.
قوله تعالى: { فآمنوا خيراً لكم } منصوب بفعل مضمر دلَّت عليه الحال، لأنه لما حضَّهم على الإيمان، علم أنه يحملهم على أمر، فقال: "خيراً لكم" أي: إئتوا، واقصدوا أمراً خيراً لكم (1) من الكفر والتثليث.
ثم أظهر لهم عظمته وغناه عن إيمانهم فقال: { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليماً } بما يكون منهم من كفر وإيمان، { حكيماً } في تكليفه إياهم مع علمه بما يكون منهم.
قولُه تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } هذا نهي لليهود والنصارى عن الإفراط وتجاوز الحد في الدين، فإن اليهود غَلَتْ في عيسى
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/468).(1/743)
حتى دفعته عن حقه ومرتبته، وغَلَتْ فيه النصارى حتى رفعته عن منزلته وادعته إلهاً، فقالت اليعقوبية: هو الله.
وقالت النسطورية: هو ابن الله.
وقالت المرقوسية (1) : هو ثالث ثلاثة.
{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } أي الصدق، فَتُنَزِّهوه عن الشريك والولد.
ثم نَزَّه عيسى عما رَمَتْهُ به اليهود، وادَّعته له النصارى فقال: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } ، وقد سبق معنى كونه "كلمة" في آل عمران (2) .
ومعنى كونه "روحاً منه": أنه خلقه، وأوجده، واخترعه اختراعاً غير منوط بسبب، كسائر ولد آدم، وأضافه إليه إضافة تكريم وتشريف، كما قال عن آدم: { ونفخت فيه من روحي } [الحجر:29].
ويروى: أن الله لما أخرج الأرواح من ظهر آدم لأخذ الميثاق، ثم ردها
__________
(1) اليعقوبية: هم أصحاب يعقوب البراذعي، قالوا بالأقانيم الثلاثة إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحماً ودماً، فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده. ويعني بالأقانيم الثلاثة: الوجود والعلم والحياة.
... والنسطورية: أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه.
... والمرقوسية: أتباع مرقس صاحب الإنجيل المعروف (الملل والنحل للشهرستاني1/224-225، ومحاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص:191-194).
(2) عند تفسير قوله تعالى: { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح } [آل عمران:45].(1/744)
إلى صلبه، أمسك عنده روح عيسى إلى أن أراد إيجاده، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل فيها، فكان عيسى عليه السلام (1) .
قرأت على الشيخ الزاهد أبي عبد الله محمد بن داود بن عثمان الدربندي الصوفي، بمسجد الخليل عليه السلام سنة سبع وستمائة، أخبركم الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السِلفي الأصبهاني بالإسكندرية، فأقرَّ به، قال: أخبرنا الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن محمود الثقفي (2) بأصبهان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المُزَكِّي بنيسابور (3) ، سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (4) ، حدثنا بشر بن
بكر (5) ، عن [ابن] (6) جابر، عن عمير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أُمية،
__________
(1) وهو قول أبي بن كعب. أخرجه الطبري (6/36). وذكره الواحدي في الوسيط (2/143)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/261).
(2) القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي، أبو عبد الله، الأصبهاني، صاحب الأربعين، مسند الوقت ورئيس أصبهان. توفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 19/8، وشذرات الذهب 3/393).
(3) يحيى بن إبراهيم بن محمد، أبو زكريا النيسابوري، شيخ التزكية ببلده. توفي سنة أربع عشرة وأربعمائة (سير أعلام النبلاء (17/295، والتقييد ص:483).
(4) محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعْين المصري، أبو عبدالله الفقيه، عالم الديار المصرية. توفي سنة ثمان وستين ومائتين (سير أعلام النبلاء 12/497).
(5) بشر بن بكر التِنِّيسي، أبو عبد الله البجلي الدمشقي. توفي سنة خمس ومائتين (سير أعلام النبلاء 9/507).
(6) زيادة من الصحيحين. وابن جابر هو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، أبو عتبة الدمشقي الداراني، من أئمة الشاميين وصلحائهم. توفي سنة ثلاث -أو أربع- وخمسين ومائة (تذكرة الحفاظ 1/183، والتقريب ص:353).(1/745)
حدثني عبادة بن الصامت، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قال: أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله وابن أَمَته، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله تعالى في أي أبواب الجنة الثمانية شاء" (1) . رواه مسلم عن داود بن رشيد.
ورواه البخاري عن صدقة بن الفضل، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فكأنني سمعته من طريق البخاري على أبي الوقت، ومن طريق مسلم على الفَرَاوي.
قوله تعالى: { ولا تقولوا ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف (2) ، تقديره: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة: أب، وابن، وروح القدس، { إنما الله إله واحد } ، ثم نزَّه نفسه فقال: { سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً، فكيف يكون خلقه جزء منه، { وكفى بالله وكيلاً } يكل الخلقُ أمرَهم إليه.
`9 y#إ3YtFَ،o" كxٹإ،yJّ9$#
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1267 ح3252)، ومسلم (1/57 ح28).
(2) ... انظر: التبيان (1/204)، والدر المصون (2/470).(1/746)
br& ڑcqن3tƒ #Y‰ِ7tم °! ںwur èps3ح´¯"n=yJّ9$# tbqç/چs)çRùQ$# `tBur ô#إ3ZtGَ،o" ô`tم ¾دmد?yٹ$t6دم ÷ژة9ٍ6tGَ،tƒur ِNèdçژà³َsu|،sù دmّs9خ) $YèٹدHsd اتذثب $¨Br'sù ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# ِNخgٹدjùuqمٹsù ِNèdu'qم_é& Nèdك‰ƒج"tƒur `دiB ¾د&خ#ôزsù $¨Br&ur ڑْïد%©!$# (#qàےs3ZtFَ™$# (#rçژy9ُ3tFَ™$#ur َOكgç/ةjyèمٹsù $¹/#xtم $VJٹد9r& ںwur tbrك‰إgs† Nكgs9 `دiB بbrكٹ "!$# $wٹد9ur ںwur #ZژچإءtR اتذجب $pkڑ‰r'¯"tƒ(1/747)
â¨$¨Z9$# ô‰s% Nن.uن!%y` ض`"ydِچç/ `دiB ِNن3خn/' !$uZّ9t"Rr&ur ِNن3ِs9خ) #Y'qçR $YY خ6oB اتذحب $¨Br'sù ڑْïد%©!$# (#qمYtB#uن "!$$خ/ (#qكJ|ءtFôم$#ur ¾دmخ/ ِNكgè=إzô‰م|،sù 'خû 7puH÷qu' çm÷ZدiB 9@ôزsùur ِNحk‰د‰ِku‰ur دmّs9خ) $Wغ؛uژإہ $VJٹة)tGَ،oB اتذخب
قوله تعالى: { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله } وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: "أن يكون عُبَيْداً لله" (1) على التصغير.
والمعنى: لن يأنف، ولن يتنحى عن مقام العبودية لله، من قولك: نكَفْتُ الدَّمْعَ؛ إذا نحَّيْتَ بأصبعك عن خَدِّكَ (2) .
{ ولا الملائكة المقربون } قال ابن عباس: هم حَمَلة العرش (3) .
__________
(1) ... البحر المحيط (3/419).
(2) انظر: اللسان، مادة: (نكف).
(3) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/263).(1/748)
وقيل: هم الكَرُّوبيُّون كجبريل وميكال وإسرافيل.
والحكمة في تخصيص الملائكة بالذّكْر: كون بعض الناس اتخذوهم آلهة من دون الله.
وباقي الآية تهديد شديد.
قوله: { فيوفيهم أجورهم } يعني: جزاء أعمالهم، { ويزيدهم من فضله } ما لا يعلم كُنْهه إلا الله.
وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: { فيوفيهم أجورهم } قال: يدخلون الجنة، { ويزيدهم من فضله } الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا (1) .
قوله تعالى: { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } قال ابن عباس: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من البيان (2) .
{ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } ، وهو القرآن الكريم، سُمِّيَ بذلك؛ لإنارته للحق، واستنارة الخلق به.
قوله: { واعتصموا به } أي: استمسكوا بالنور المبين.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1124-1125)، والطبراني في الأوسط (6/53)، وأبو نعيم في الحلية (4/108)، والإسماعيلي في معجمه (2/569). وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/752) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والإسماعيلي في معجمه، بسند ضعيف.
(2) ذكره الواحدي في الوسيط (2/144)، وابن الجوزي في زاد المسير (2/264) من قول سفيان الثوري، والسيوطي في الدر المنثور (2/753) وعزاه لابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه. وانظر: تفسير سفيان الثوري (ص:98).(1/749)
وقيل: بالله.
{ فسيدخلهم في رحمة منه } وهي الجنة.
{ ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } قال محمد ابن الحنفية: هو دين الإسلام (1) .
y7tRqçFّےtGَ،o" ب@è% ھ!$# ِNà6دFّےمƒ 'خû د's#"n=s3ّ9$# بbخ) (#îtâگِD$# y7n=yd }ّٹs9 ¼çms9 س$s!ur ے¼م&s!ur ×M÷zé& $ygn=sù ك#َءدR $tB x8tچs? uqèdur !$ygèOجچtƒ bخ) ِN©9 `ن3tƒ $ol°; س$s!ur bخ*sù $tFtR%x. بû÷ütFuZّO$# $yJكgn=sù بb$sVè=V9$# $®ےتE x8tچs? bخ)ur (# qçR%x. Zouq÷zخ) Zw%y`حh' [ن!$|،خSur جچx.©%#خ=sù م@÷WدB إeلym بû÷üus[RW{$#
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (2/264).(1/750)
كûخiüt6مƒ ھ!$# ِNà6s9 br& (#q=إزs? ھ!$#ur بe@ن3خ/ >نَسx" 7Oٹخ=tو اتذدب
قوله: { يستفتونك } .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم، عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل القاضي الأنصاري، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد الصاعدي الفراوي، وأخبرنا المؤيَّد بن محمد الطوسي في كتابه، قال: أخبرنا الفراوي، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي (1) ، أخبرنا محمد بن عيسى (2) ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان (3) ، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله يقول: "مرضت، فأتاني رسول الله وأبو بكر يعودانني ماشيين، فأُغمي عليّ، فتوضأ ثم صب عليّ من وَضُوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله؟ كيف
__________
(1) عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، أبو الحسن النيسابوري، الإمام الثقة المعمر الصالح. حدّث عن الجَلُودي بصحيح مسلم، سمعه منه سنة خمس وستين وثلاثمائة. توفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء 18/19، وشذرات الذهب 3/277).
(2) محمد بن عيسى بن محمد، أبو أحمد النيسابوري الجَلُودي، من كبار عبّاد الصوفية، وراوي صحيح مسلم. توفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 16/301).
(3) إبراهيم بن محمد بن سفيان، أبو إسحاق النيسابوري، كان من العبّاد المجتهدين الملازمين لمسلم بن الحجاج. توفي سنة ثمان وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء 14/311، والتقييد ص:186).(1/751)
أقضي في مالي؟ فلم يَرُد عليّ شيئاً حتى نزلت آية الميراث: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } " (1) . هذا حديث صحيح.
وقد سبق تفسير الكلالة، واستقصينا الكلام في شرحها في موضعها (2) .
قوله: { إن امرؤ } مرفوع بمضمر يُفسِّره الظاهر، وقوله: { ليس له ولد } في محل نصب على الحال، أو في محل الرفع على الصفة (3) ، تقديره: إن هلك امرؤ غيرُ ذي ولد.
وقال صاحب الكشاف (4) : المراد بالولد: الابن، لأن الأخت تسقط به، ولا تسقط بالبنت، وتابعه على ذلك صاحب "التقشير في التفسير"، وأبو السعادات ابن الأثير (5) في تفسيره الذي سماه "الإنصاف"، وضمن فيه الجمع بين "الكشف" و"الكشاف"، ولم يُنَبها على فساد هذا الكلام، ولم يقفا على موضع الخطأ فيه.
ووجهُ فساده: أن الآية اقتضت فرض النصف للأخت من الأبوين، أو الأب، وهذا إنما يكون عند عدم الولد مطلقاً كما ذكر الله، لأنها تسقط بالابن، وترث مع البنت بالتعصيب، لا بالفرض.
__________
(1) أخرجه مسلم (4/1234 ح1616).
(2) عند تفسير الآية رقم: 12.
(3) انظر: الدر المصون (2/473).
(4) الكشاف (1/632).
(5) المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزري الموصلي، مجد الدين الشيباني المعروف بابن الأثير، صاحب جامع الأصول وغريب الحديث. توفي سنة ست وستمائة (سير أعلام النبلاء 21/488). ...(1/752)
والمراد: ليس له ولد ولا والد، لأن هذا تبيين للكلالة، وقد ذكرنا فيما مضى أن الكلالة: من لا والد له، ولا ولد.
{ وهو يرثها } أي: يستغرق ميراثها، { إن لم يكن لها ولد } يريد: إن لم يكن لها ولد ذكر أو والد ، فإن كان لها بنت أو بنت ابن فله ما تبقى بعد الفرض بالتعصيب.
{ فإن كانتا اثنتين } أنّث، وثنّى لتأنيث الخبر وتثنيته، والقول في جمع، "وإن كانوا" كالقول في تثنية "وإن كانتا".
قوله: { يبين الله لكم أن تضلوا } أي: كراهة أن تضلوا، أو أن لا تضلوا، فأضمرت "لا"، أو: لئلا تضلوا.
{ والله بكل شيء عليم } فهو يعلم مقادير الأنصباء، وما فرض للأقرباء.
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق، سنة ست وستمائة، وأبو الحسن الصوفي بقراءتي عليه برأس عين، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا ابن حمويه، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: "آخر سورة نزلت: "براءة"، وآخر آية نزلت: "يستفتونك"" (1) .
وأخرجه أيضاً مسلم عن بُنْدار، عن غُنْدَر، عن شعبة.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1681 ح4329)، ومسلم (3/1236 ح1618).(1/753)
وقد سبق لهذا الحديث إسناد آخر في مقدمة الكتاب (1) . (2) .
... ... ... ... ******
__________
(1) ... وكتب في هامش الأصل: بلغ محمد بن أحمد، قراءة بمسجد الرقي، المجلس الحادي والعشرين، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي، المجلس الثالث والأربعين، مرة ثانية، ثم كتب: أنهاه مصنفه نظراً وتصحيحاً، ثم قوبل بالأصل.
... نقله وما قبله: محمد بن إسماعيل بن الدنيسري حامداً الله ومصلياً على نبيه.
(2) جاء في آخر هذا الجزء المخطوط: آخر المجلد الثاني بخط الفقير إلى رحمة ربه: أبي نصر بن عثمان الموصلي غفر الله له، ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
... وذلك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وستمائة، ويتلوه في السِفْر الثالث سورة المائدة.
... والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين وسلم.(1/754)
السماع الموجود بآخر الأصل
سمع جميع هذا المجلد وهو الثاني من كتاب رموز الكنوز، تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل الكامل، عز الدين عبد الرازق بن رزق الله بن أبي الهيجاء الرسعني -رضي الله عنه- من لفظ شيخنا الشيخ الإمام العالم الحافظ الصدر تقي الدين، أبي الثناء محمود بن علي بن محمود الدقوقي (1) -رحمه الله تعالى- وذلك بحق روايته له عن الشيخ الإمام العالم، مجد الدين أبي أحمد، عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الجيش المقرئ (2) إجازة، بروايته له، إجازة عن المؤلف -رحمه الله تعالى- الشيخ الصالح، نور الدين أبو عبد الله، محمد بن محمود بن حامد المقرئ (3) ، والشيخ زين الدين، علي بن حسين بن محمد المؤذن، والشيخ أبو بكر بن علي بن ناصر الجراعي،
__________
(1) محمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، أبو الثناء، تقي الدين، محدث بغداد شيخ المستنصرية بها. توفي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة (ذيل التقييد 2/275، وشذرات الذهب 6/106).
(2) ... عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الجيش البغدادي المقرئ، خطيب بغداد وشيخها. توفي سنة ست وسبعين وستمائة (المقصد الأرشد 2/120، وذيل طبقات الحنابلة 2/290، وشذرات الذهب 5/353).
(3) ... محمد بن محمود بن حامد الحنبلي المقرئ، البغدادي، ولي الحديث بمسجد يانس. توفي سنة ست وستين وسبعمائة (شذرات الذهب 6/207).(1/755)
وكاتب الأسماء يوسف بن محمد بن مسعود العبّادي السُرَّمرِّي (1) ، في آخرين بأفوات مختلفة، وصح ذلك وثبت في يوم الجمعة، سابع ربيع الأول من سنة ثلاث وسبعمائة بمسجد يانس بالريحانين، شرقي بغداد، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم.
__________
(1) ... يوسف بن محمد بن مسعود العبادي العقيلي، جمال الدين أبو المظفر السرمري الحنبلي. كان عمدة ثقة ذا فنون. توفي سنة ست وسبعين وسبعمائة (شذرات الذهب 6/249، وذيل تذكرة الحفاظ ص:160).(1/756)
سورة الأنعام
ijk
ربّ يسرْ وأعنْ، إنكَ وليّ ذلك.
tPِqtƒur يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ اتثرب
قوله تعالى: { ويوم نحشرهم جميعاً } قرأ حفص: { يحشرهم } بالياء،(1/3)
حملاً على لفظ الغيبة في قوله: { لهم دار السلام } [الأنعام:127]. وقرأ الباقون بالنون، على الإخبار من الله تعالى عن نفسه (1) .
والمعنى: اذكر يوم نحشر الثقلين الإنس والجنّ جميعاً في موقف القيامة.
و"جميعاً" حالٌ من المفعول (2) .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ } فيه إضمارٌ تقديره: فيُقال لهم: يا معشر الجنِّ.
والمعْشَرُ: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: مَعَاشِر (3) .
والمراد بشياطين الجنّ: مَرَدَتُهم.
{ قد استكثرتم من الإنس } أي: من إغوائهم واستهوائهم، حتى صاروا لكم أشياعاً وأتباعاً.
{ وقال أولياؤهم من الإنس } أي: وقال أولياء الجن الذين أطاعوهم من الإنس: { ربنا استمتع بعضنا ببعض } ، أي: انتفع بعضنا ببعض، واستمتاع الإنس بالجن ما حصل لهم من الشهوات بواسطة تسويلهم وتسهيلهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما زيّنوه لهم من الكفر والمعاصي.
فإن قيل: أي غرض لهم ونفع في كفر الإنس ومعصيتهم؟
قلت: هم قوم طبعوا على الشّر، فهم يرتاحون إلى اجتذاب الإنس إليه
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/152)، والحجة لابن زنجلة (509)، والكشف (1/451-452)، والنشر (2/262)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (1/269).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/178).
(3) انظر: اللسان (مادة: عشر).(1/4)
وإن لم يكن لهم فيه نفع، كما قيل (1) :
من الناسِ من يرتاحُ للشرِّ طبعُه ... وإن لم يكن فيه غِنىً وغِنَاء
كما يشرف الياقُوت والدُّرّ عقعق ... وليسَ له في ذا وذاكَ غِذاء
وقيل: استمتاع الإنس ما في قوله: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ } [الجن:6]، وكان الرجل إذا نزل وادياً أو أراد مبيتاً قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله.
واستمتاعُ الجن: فخرُهم بذلك على قومهم حيث اعترف لهم الجن والإنس بالسيادة. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس (2) .
وقيل: استمتاع الجن: إغواؤهم الإنس، واستمتاع الإنس: ما يتلقونه منهم من السحر والكهانة (3) .
{ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } وهو أجل البعث بعد الموت، وهذا الاعتراف خارج مخرج الاعتذار والندم والاستسلام لما يُراد بهم يوم القيامة.
{ قال النار مثواكم } قال ابن عباس: يريد: فيها مقامكم (4) .
{ خالدين فيها } منصوب على الحال (5) .
__________
(1) لم أعرف قائل البيتين.
(2) زاد المسير (3/123).
(3) زاد المسير (3/123).
(4) الوسيط (2/323)، وزاد المسير (3/124).
(5) انظر: التبيان (1/261)، والدر المصون (3/179).(1/5)
{ إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } وهو قدر ما بين بعثهم إلى دخولهم النار، كأنه قيل: داخلين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم وحسابهم، وهذا اختيار الزجَّاج (1) .
وقال ابن عباس: استثنى الله قوماً قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
و"ما" على هذا القول بمعنى: "مَن"، ويكون الاستثناء من المضاف إليه في قوله: { مثواكم } .
وقيل: "إلا ما شاء الله" من أنواع العذاب، فقد روي أنهم يعذبون بالزمهرير، فينقادون ويطلبون الرد إلى الجحيم.
y7د9؛xx.ur نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ اتثزب
قوله تعالى: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } أي: كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، "نولي بعض الظالمين بعضاً": نُسلّط بعضهم على بعض حتى كان منهم ما كان.
قال مالك بن دينار: قرأتُ في بعض كتب الله المنزلة أن الله يقول: أفني
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/292).
(2) الوسيط (2/323).(1/6)
أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي (1) .
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده، عن مالك بن دينار، قال: قرأت في التوراة: "إني أنا الله لا إله إلا أنا، ملك الملوك، قلوبهم بيدي، ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم" (2) .
وقال قتادة: يجعل بعضهم أولياء بعض (3) .
وقال في رواية أخرى: يجعل بعضهم يتبع بعضاً (4) .
uژ|³÷èyJ"tƒ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1389)، وأبو نعيم في الحلية (2/376). وذكره السيوطي في الدر (3/358) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. كلهم بلفظ: قال مالك: قرأت في الزبور: "إني أنتقم من المنافق بالمنافق، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً". وذكره ابن كثير بهذا اللفظ (2/177).
(2) لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. والحديث أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/378، 6/172). وذكره السيوطي في الدر (4/618) وعزاه لأبي الشيخ.
(3) ... أخرجه الطبري (8/35)، وابن أبي حاتم (4/1389). وذكره السيوطي في الدر (3/360) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) أخرجه الطبري (8/35)، وابن أبي حاتم (4/1388). وذكره السيوطي في الدر (3/358) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/7)
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ اتجةب
قوله تعالى: { ألم يأتكم } وقرأ الحسن: "تأتكم" بالتاء (1) .
{ رسل منكم } تعلق الضحاك بظاهر الآية فقال: إن الله يبعث إلى الجن رسلاً منهم كما بعث إلى الإنس، وإليه ذهب مقاتل (2) وأبو سليمان (3) . وهو الذي تقتضيه الحكمة الإلهية، لأن الجنس بالجنس آنس، وإليه أميل.
وقال مجاهد: الرّسل من الإنس، والنُّذُر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى: { وَإِذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } (4) [الأحقاف:29].
__________
(1) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/125).
(2) تفسير مقاتل (1/370).
(3) أخرجه الطبري (8/36). وذكره السيوطي في الدر (3/360) وعزاه لابن جرير.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم (4/1389).
... وانظر: الطبري (8/36). وذكره السيوطي في الدر (3/359) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.(1/8)
وقال آخرون -منهم ابن جريج والزجّاج (1) -: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قال: "رسل منكم" لأنه لما جمع الإنس والجن في الخطاب صحّ ذلك، وإن كان من أحدهما؛ كقوله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن:22]، وإنما يخرج من المِلْح وحده (2) .
ولا خلاف بين أهل العلم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى الإنس والجن.
أخرج الإمام أحمد في المسند، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ. قَالَ: الأَحْمَرَ: الإِنْسُ، وَالأَسْوَدَ: الْجِنُّ" (3) .
وقال ابن عباس: كانت الرسل تُبعثُ إلى الإنس خاصة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى الإنس والجن (4) .
قوله تعالى: { يقصون عليكم آياتي } أي: يقرؤون عليكم كتبي، { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } أي: يُخوّفونكم بيوم القيامة، { قالوا شهدنا } أي: أقررنا { على أنفسنا } أو شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل.
ثم أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: { وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } .
قال مقاتل (5) : حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر.
__________
(1) معاني الزجاج (2/292).
(2) انظر: الطبري (8/36)، والماوردي (1/170)، وزاد المسير (3/125).
(3) أخرجه أحمد (5/145 ح21337).
(4) زاد المسير (3/125).
(5) تفسير مقاتل (1/371).(1/9)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اتجثب
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى بعثة الرسل وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدأ محذوف (1) ، أي: الأمر ذلك.
{ أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } تعليل، أي: الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم.
فعلى هذا { أن } هي التي تنصب الأفعال. ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأنَّ الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلاً من "ذلك"؛ كقوله: { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ } (2) [الحجر:66].
وقوله: { بظلم } قال ابن عباس: بشرك (3) .
__________
(1) انظر: التبيان (1/261)، والدر المصون (3/182).
(2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (2/63).
(3) الطبري (8/37) بلا نسبة، وزاد المسير (3/126).(1/10)
وقيل: بذنوبهم ومعاصيهم.
فعلى هذا: المعنى: بسبب ظلم.
ويجوز أن يكون حالاً، على معنى: لم يكن ربك مهلك القرى ظالماً لهم حتى يوقظهم من غفلتهم ويرشدهم إلى طريق النجاة.
فإن قيل: قد ثبت بالبرهان القطعي أن الظلم مستحيلٌ على الله، وأنه لو أهلكهم قبل إنذارهم لم يكن ظالماً لهم، فكيف يصح هذا المعنى؟
قلتُ: لما كانت العقوبة قبل الإنذار ظلماً في عرف الناس بعضهم مع بعض وفيما يتوهمه الجاهلون مما يجوز على الله وما لا يجوز، خاطبهم بما يتعارفون وعلى ما يعتقده الجاهلون منهم ومن غيرهم.
والواو في قوله: { وأهلها غافلون } واو الحال.
قوله تعالى: { ولكل درجات } أي: ولكل عامل بطاعة أو معصيته، { درجات } منازل ومراتب متفاوتة في الارتفاع والانحطاط، { مما عملوا } أي: من أجل ما عملوا.
{ وما ربك بغافل عمّا يعملون } قرأ ابن عامر: "تعملون" بالتاء، حملاً على ما بعده من المخاطبة. وقرأ الباقون: بالياء، حملاً على ما قبله ومن المغايبة (1) .
والمعنى: وما ربك بغافل عما يعملون من الحسنات والسيئات، بل علم أجزاءها وأعدّ جزاءها.
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/213)، والحجة لابن زنجلة (ص:272)، والكشف (1/452)، والنشر (2/262-263)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (ص:269).(1/11)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِن مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ اتجخب
{ وربك الغني ذو الرحمة } أي: الغني عن خلقه ذو الرحمة لهم، { إن يشأ يذهبكم } أيها العتاة الكفرة، والعصاة الفجرة، { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } أي: يخلق خلقاً آخر خلفاً منكم، يكونون له أطوع وإلى مرضاته(1/12)
أسرع.
{ كما أنشأكم } أي: ابتدأ خلقكم من ذرية قوم آخرين.
قال الزجَّاج (1) : موضع الكاف نصب، المعنى: ويستخلف من بعدكم مثل ما أنشأكم. يقال: أنشأ الله الخلق؛ إذا خلقه وابتدأه، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه. ومن ذلك قولنا: فأنشأ الشاعر يقول، أي: ابتدأ من نفسه.
والنَّشَأُ: الصِّغارُ من الأولاد. قال نُصيب:
وَلَوْلا أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيْبٌ ... ... لَقُلْتُ بِنَفْسِيَ النَّشَأُ الصِّغَارُ (2)
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ } أي: إنما توعدون من مجيء الساعة والجزاء على الأعمال لآت.
{ وما أنتم بمعجزين } قال أبو عبيدة (3) : يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.
فالمعنى: وما أنتم بفائتين الله إذا طلبكم.
{ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } وقرأ [أبو بكر] (4) عن عاصم:
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/293).
(2) ... البيت لنصيب بن رباح. من فحول الشعراء الإسلاميين. كان أسود اللون، عبداً لرجل من كنانة من آل ودان، ذو فصاحة، لم يشبب بغير امرأته، وكان عفيفاً كبير النفس. مدح عبد العزيز بن مروان فأعطاه ألف دينار فكَّ بها نفسه، واتصل بعده بسليمان بن عبد الملك. انظر البيت في: اللسان، مادة: (نشأ).
(3) مجاز القرآن (1/206).
(4) في الأصل: أبو عمر . والصواب ما أثبتناه (انظر: الحجة للفارسي 2/212، والإتحاف ص:217).(1/13)
"مكاناتكم" بالجمع حيث وقع (1) .
قال الزجاج (2) : المعنى: اعملوا على تمكنكم.
ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه، ويقال للرجل إذا أمرتَه أن يَثْبُتَ على حال: على مكانتكَ يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يأمرهم بالثبات على ما هم عليه والله لا يأمر بالفحشاء؟
قلتُ: هذا تهديد لهم؛ كقوله: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت:40]. ألا تراه يقول: { فسوف تعلمون } .
وقوله: { إني عامل } وقف حسن. المعنى: إني عامل على مكانتي، ثابتٌ على ما أنا عليه من دين الإسلام. وقوله: { فسوف تعلمون } لم يعده أحد رأس آية وليس بوقف؛ لأن قوله: { من تكون له عاقبة الدار } معمول "تعلمون".
قال مكي (3) : إن جعلت "مَنْ" استفهاماً كانت في موضع رفع بالابتداء، وما بعده الخبر، والجملة في موضع نصب بـ"تعلمون". وإن جعلتها بمعنى "الذي" كانت في موضع نصب بـ"تعلمون".
__________
(1) الحجة للفارسي (2/212)، والحجة لابن زنجلة (ص:272)، والكشف (1/452)، والنشر (2/263)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (ص:269).
(2) معاني الزجاج (2/293).
(3) مشكل إعراب القرآن لمكي (1/291).(1/14)
قرأ حمزة والكسائي: { من يكونُ } بالياء، هنا وفي القصص (1) . وقرأ الباقون بالتاء فيهما؛ لتأنيث العاقبة (2) .
و"عاقبة الدار": الجنَّة. و"الظالمون": المشركون.
(#qè=yèy_ur لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا $oYح !%x.uژà³د9 فَمَا كَانَ ِNخgح !%ں2uژà³د9 فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى َOخgح !%ں2uژà° سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ اتجدب
قوله تعالى: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } قال ابن
__________
(1) عند الآية رقم: 37.
(2) الحجة للفارسي (2/213)، والحجة لابن زنجلة (ص:272)، والكشف (1/453)، والنشر (2/263)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (1/270).(1/15)
عباس: كان المشركون يجعلون لله من حرثهم وأنعامهم وثمارهم نصيباً، وللأوثان نصيباً، فما كان للأوثان أنفق على السدنة والقائمين بحفظها، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك شيئاً، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وما سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله ردوه إلى نصيب الأوثان وقالوا: إنها لفقيرة، فذلك قوله: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث } (1) . أي: خلق من الزرع والأنعام "نصيباً".
وفي الآية إضمار.
قال الزجاج (2) : المعنى: وجعلوا لله نصيباً وجعلوا لشركائهم نصيباً، يدل عليه قوله: { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } . فدل بالإشارة إلى النصيبين.
{ فقالوا هذا لله بزعمهم } قرأ الكسائي: { بزُعْمِهِمْ } بضم الزاي، وهي لغة بني أسد، وفتحها الباقون (3) ، وبعض قيس يكسرون الزاي (4) .
والمعنى: قالوا هذا لله بزعمهم الكاذب واعتقادهم الباطل.
__________
(1) أخرجه الطبري (8/40)، وابن أبي حاتم (4/1390-1391)، والبيهقي في سننه (10/10). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:215). وذكره السيوطي في الدر (3/362) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.
(2) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر: زاد المسير (3/128).
(3) ... الحجة للفارسي (2/213)، والحجة لابن زنجلة (ص:273)، والكشف (1/453)، والنشر (2/263)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (1/270).
(4) ... انظر: زاد المسير (3/128).(1/16)
قال شريح القاضي (1) : لكل شيء كنية، وكنية الكذب: زعموا (2) .
{ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } قال الحسن: كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدلَهُ مما لله، ولا يفعلون ذلك في ما لله (3) .
وقيل: كانوا إذا حصدوا ما جعلوه لله فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم تركوه، وقالوا: هي إليه محتاجة، فإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم فوقع منه شيء فيما جعلوه لله أعادوه إلى موضعه. وهكذا كانوا يفعلون في البُدن إذا وقع من أحد النصيبين في الآخر. وفي السقي إذا انفجر ماء أحد النصيبين إلى الآخر.
{ ساء ما يحكمون } أي: قبح الحكم حكمهم؛ حيث آثروا الأصنام على الله تعالى الذي ذرأ الحرث والأنعام.
ڑپد9؛xں2ur زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
__________
(1) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم سنان، قاضي الكوفة، ويقال: شريح بن شراحيل، أو ابن شرحبيل، أبو أمية، ممن أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وانتقل من اليمن زمن الصدّيق. مات سنة ثمان وسبعين، وقيل: سنة ثمانين (سير أعلام النبلاء 4/100).
(2) القرطبي (7/90، 18/135).
(3) الماوردي (1/174)، والوسيط (2/326)، وزاد المسير (3/129).(1/17)
وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ اتجذب
قوله تعالى: { وكذلك } أي: ومثل ذلك الفعل القبيح.
{ زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } قال الحسن ومجاهد: "شركاؤهم": شياطينهم (1) .
وقال قتادة: شركاؤهم في الشرك (2) .
وقال الزجاج (3) : سدنة الأصنام، زيّنوا لهم قتل أولادهم بوأد البنات
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/43)، وابن أ بي حاتم (4/1393)، ومجاهد (ص:224). وذكره السيوطي في الدر (3/363) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ... الماوردي (1/174)، وزاد المسير (3/130).
... قال ابن الجوزي: وللمفسرين في المراد بـ"شركائهم" أربعة أقوال:
... أحدها: أنهم الشياطين ، قاله الحسن ومجاهد والسدي .
... والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة .
... والثالث: قوم كانوا يخدمون الأوثان، قاله الفراء والزجاج .
... والرابع: أنهم الغواة من الناس ، ذكره الماوردي .
... وإنما أضيف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.
(3) ... لم أقف عليه في معاني الزجاج. وقد عزا ابن الجوزي النص إليه في: زاد المسير (3/130).(1/18)
خشية الفقر والنحر للآلهة.
قال ابن السائب: كان أحدهم يحلف إن وُلِد له كذا وكذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب (1) .
وقد اختلف القرّاء في هذا الحرف، فقرأ الأكثرون "زَيَّنَ" بفتح الزاي على البناء للفاعل، الذي هو "شركاؤهم"، على معنى: زين لهم الشركاء قتل الأولاد، وهذا وجه ظاهر.
وقرأ ابن عامر: { زُيِّنَ } بضم الزاي، على البناء للمفعول الذي هو القتل، { أَوْلادَهُمْ } بالنصب، أعملوا فيه القتل، { شركائهم } بالجر، على إضافة القتل إليهم (2) ، التقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، فأضاف القتل إلى الشركاء وإن لم يباشروه؛ لأنهم زينوه لآبائهم ودعوهم إليه.
وقد ضعفوا هذه القراءة للفصل بين المضاف والمضاف إليه.
قال أبو علي الفارسي (3) : وهذا قبيح قليل الاستعمال، ولكنه جاء في الشعر، كما أنشده أبو الحسن الأخفش (4) :
__________
(1) ... الماوردي (1/174-175)، وزاد المسير (3/130).
(2) ... الحجة للفارسي (2/214)، والحجة لابن زنجلة (ص:273)، والكشف (1/453)، والنشر (2/263)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:217)، والسبعة في القراءات (ص:270).
(3) ... الحجة للفارسي (2/214، 215).
(4) الأخفش، إمام النحو، أبو الحسن ، سعيد بن مسعدة البلخي ثم البصري، مولى بني مجاشع، كان قدرياً، أخذ عن الخليل بن أحمد ولزم سيبويه حتى برع، وكان من أسنان سيبويه بل أكبر، وله كتب كثيرة في النحو والعروض ومعاني القرآن ، مات الأخفش سنة نيف عشرة ومئتين وقيل سنة عشر. (السير 10/206) .(1/19)
فَزَجَجْتُها مُتَمَكِّناً ... ... زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزَادَهْ (1)
أي: زجَّ أبي مزاده القلوص.
وقال الزمخشري (2) : الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، كان سمجاً مردوداً، فكيف في الكلام المنثور؟ فكيف [به] (3) في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته.
والذي حمله على ذلك: أن رأى [في] (4) بعض المصاحف "شركائهم" مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجرّ "الأولاد" و"الشركاء"، لأن الأولاد شركاؤهم [في أموالهم] (5) لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب.
__________
(1) انظر البيت في: الكتاب (1/176)، وتخليص الشواهد (ص:82)، والخزانة (4/415، 416، 418، 421، 422، 423)، ومعاني الفراء (1/358)، والخصائص (2/406)، والأشموني (2/327)، وشرح المفصل (3/189)، ومجالس ثعلب (ص:152)، والحجة للفارسي (2/215)، والدر المصون (3/187)، والطبري (8/44)، والقرطبي (8/33).
... والزج: الطعن، والقلوص: الناقة الشابة، وهو مفعول فاصل بين المضاف والمضاف إليه شذوذاً. يقول: فطعنت الناقة أو الجماعة برمح قصير، كطعن أبي مزادة القلوص في السير.
(2) الكشاف (2/66).
(3) زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(4) مثل السابق.
(5) مثل السابق.(1/20)
قلتُ: وقد روي عن (1) ابن عامر أنه قرأ بجرّ "الأولاد" على الإضافة، وجرّ "الشركاء" على البدل من "الأولاد"، لأنهم يشاركون آباءهم في النسب والميراث والدين.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري: "زُيّن" بضم الزاي، "قتلُ" بالرفع، كابن عامر، "أولادِهم" بالجرّ للإضافة، "شركاؤهم" بالرفع (2) .
قال سيبويه: كأنه قيل: من زيّنه؟ قال: شركاؤهم.
قوله تعالى: { ليردوهم } أي: ليهلكوهم بالإغواء. واللام في "ليردوهم" و"ليلبسوا" -على قول الحسن ومجاهد أنَّ التزيين من الشياطين-: للتعليل والعرض، وعلى قول من قال: أنَّ التزيين من السدنة أو الشركاء في الشرك، فهي لام الضرورة.
{ وليلبسوا عليهم دينهم } أي: ليخلطوه.
قال ابن عباس: ليُدخلوا عليهم الشك، وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشياطين (3) .
{ ولو شاء الله ما فعلوه } أي: ما فعل المشركون ما زيّن لهم من قتل الأولاد، أو ما فعل الشركاء أو الشياطين أو السدنة التزيين ولا الإرداء ولا اللبس.
__________
(1) قوله: "عن" مكرر في الأصل.
(2) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/130)، والدر المصون (3/187).
(3) الوسيط (2/328)، وزاد المسير (3/131).(1/21)
ثم هددهم فقال: { فذرهم وما يفترون } ، أي: فدعهم وما يختلقون من الإفك وما يتقوّلون من الباطل، فأنا الذي أجازيهم على افترائهم.
قال ابن عباس: كانوا إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك (1) .
(#qن9$s%ur هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ
__________
(1) زاد المسير (3/131).(1/22)
لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ اتحةب
قوله تعالى: { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } والحِجْرُ: الحرام، وأصله من الحَجْر، وهو المنع، ومنه: فلان في حَجْر القاضي، أي: في منعه الصادّ له عن التصرف في ماله (1) .
والحِجْر: العقل؛ لأنه يمنع من التورط في المهالك.
__________
(1) انظر: اللسان، مادة: (حجر).(1/23)
وضم الحاء لغة قرأ بها الحسن البصري وقتادة (1) .
وقرأ ابن مسعود وأُبيّ بن كعب وابن عباس في آخرين: "حِرْجٌ" بتقديم الراء على الجيم (2) ، مثل: جَذَبَ وجَبَذَ.
"وحِجْر" فِعْل بمعنى مفعول؛ كالذِّبْح والطِّحْن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، والواحد والجمع.
وأشاروا بقولهم: { هذه حجر } إلى البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وقيل: إلى الذبائح التي كانوا يذبحونها لآلهتهم وإلى ما كانوا يجعلونه لها من زروعهم.
{ لا يطعمها إلا من نشاء } قال ابن السائب: هم الرجال دون النساء (3) .
وقال ابن زيد: بالعكس من ذلك (4) .
وقيل: سدنَةُ الأوثان.
وفي قوله: { بزعمهم } إشعار بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم.
{ وأنعام حرمت ظهورها } وهي البحائر والسوائب والحوامي حين تذبح، { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } وإنما يذكرون عليها اسم الصنم.
وقيل: هي التي لا يحجّون عليها ولا يُلبّون على ظهورها.
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر (ص:218).
(2) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/131)، والدر المصون (3/195).
(3) الماوردي (2/175)، وزاد المسير (3/131).
(4) زاد المسير (3/132).(1/24)
والمعنى: أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حِجْرٌ، وهذه أنعام محرمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكرون اسم الله عليها، فنوّعوها على هذا التنويع، ونسبوا ذلك إليه افتراءً واجتراءً عليه.
و { افتراء } نصب على [غير] (1) المصدر.
وقيل: على الحال، أو هو مفعول لأجله (2) .
{ سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي: يجزيهم بكذبهم في قولهم: "إن الله أمرنا بذلك".
قوله تعالى: { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } أي: ما في بطون البحائر والسوائب والوصائل من الأجنَّة والألبان، { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } أي: ما انفصل عنها حياً خالص للذكور دون الإناث، وما ولد منها ميتاً اشترك في أكله الذكور والإناث.
وتأنيث "خالصةٌ" للمبالغة في الخلوص؛ كرَاوِيَة، وعلاَّمَة، ونسَّابَة، أو لأن ما في بطون الأنعام أنعام، فحمل التأنيث في "خالصة" على معنى "ما" والتذكير في "مُحَرَّمٌ" على لفظها.
وقال الزمخشري (3) : يجوز أن يكون مصدراً وقع موقع الخالص؛ كالعاقبة. أي: ذو خالصة.
ويدل عليه قراءة من قرأ: "خالصةً" بالنصب، على أن قوله:
__________
(1) زيادة على الأصل. وانظر: الدر المصون (2/196).
(2) وهو مذهب سيبويه. انظر: الكتاب (1/367). وانظر: الدر المصون (2/196).
(3) الكشاف (2/68).(1/25)
"لذكورنا" هو الخبر، و"خالصة" مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حالُه.
وقرأ ابن مسعود وأبو العالية (1) والأعمش: "خَالِصٌ" بالرفع من غير هاء (2) .
وقرأ ابن عباس وأبو رزين (3) : "خَالِصه" برفع الصاد والهاء على ضمير مذكر (4) .
قال الزجاج (5) : هو عندي -والله أعلم- ما خَلصَ حَيّاً.
وقرأ قتادة: "خالصةً" بالنصب (6) ، كما تقدم.
{ وإن يَكْنْ مَيْتَةً } قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: "تَكُنْ" بالتاء؛ لتأنيث لفظ الميتة، وقرأ الباقون بالياء، حملاً على لفظ "ما".
وقرأ ابن كثير (7) وابن عامر: "ميتةٌ" بالرفع، جعلا "كان" تامة لا تحتاج
__________
(1) رُفَيع -بالتصغير- ابن مهران، أبو العالية الرِّياحي -بكسر الراء والتحتانية-، مشهور بكنيته، توفي سنة تسعين ( التقريب ص:210).
(2) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/133)، والدر المصون (3/197).
(3) مسعود بن مالك، أبو رزين الأسدي الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة خمس وثمانين (التقريب ص:528).
(4) إتحاف فضلاء البشر (ص:218).
... وانظر: زاد المسير (3/133)، والدر المصون (3/197).
(5) معاني الزجاج (2/295).
(6) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/133)، والدر المصون (3/197).
(7) عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد، القارئ. مات سنة عشرين ومائة (التقريب ص:318).(1/26)
إلى خبر. وقرأ الباقون بالنصب، جعلوها ناقصة، وأضمروا فيها الاسم (1) .
{ سيجزيهم وصفهم } أي: جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم.
{ إنه حكيم عليم } فكيف يشرع هذه الأحكام التي لا ينقاد لها عقل سليم، ولا فهم مستقيم.
وقيل: إنه حكيم في مجازاتهم، عليم بمقادير جزائهم.
قوله تعالى: { قد خسر الذين قَتَلُوا أولادهم سفهاً بغير علم } وقرأ ابن عامر وابن كثير: "قتّلوا" بالتشديد (2) .
قال قتادة: كان أحدهم يقتل بنته مخافة السبي عليها والفاقة، ويغذو كلبه (3) .
قال ابن عباس: نزلت في ربيعة ومضر والذين كانوا يئدون بناتهم أحياءً في الجاهلية (4) .
__________
(1) الحجة للفارسي (2/216-217)، والحجة لابن زنجلة (ص:274)، والكشف (1/454)، والنشر (2/265-266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:218)، والسبعة في القراءات (ص:270-271).
(2) ... الحجة للفارسي (2/217)، والحجة لابن زنجلة (ص:275)، والكشف (1/455)، والنشر (2/243)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:219)، والسبعة في القراءات (ص:271).
(3) أخرجه الطبري (8/51)، وابن أبي حاتم (5/1396). وذكره السيوطي في الدر (3/366) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) أخرجه الطبري (8/51) عن عكرمة. وذكره السيوطي في الدر (3/366) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن عكرمة.(1/27)
قال الزجاج (1) : "سفهاً" منصوب على معنى اللام، أي: للسفه، مثل: فعلت ذلك حذرَ الشر.
ويجوز أن يكون منصوباً على تأويل المصدر؛ لأن قتلهم أولادهم قد سفهوا فيه، فكأنه قال: قد سفهوا سفهاً.
وقرأ ابن السميفع (2) والجحدري (3) : "سُفَهَاءَ"، جمع سفيه (4) . ونصبه على الحال (5) .
{ وحرموا ما رزقهم الله } من الحرث والأنعام.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: "إِذا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ، فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلاثِينَ وَالْمَائَة مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بغَيْرِ عِلْمٍ } إِلَى قَوْلِهِ: { قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } " (6) .
* وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
__________
(1) معاني الزجاج (2/295).
(2) محمد بن السميفع اليماني، أحد القراء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الداني وغيره، مات سنة تسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك (ميزان الاعتدال 6/179، ولسان الميزان 5/193).
(3) أبو مجشر، عاصم الجحدري، صاحب القراءة، بصري، عن يحيى بن معين أنه قال: عاصم الجحدري، ثقة. (الجرح والتعديل 6/349، والمقتنى 2/64).
(4) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/134)، والدر المصون (3/199).
(5) انظر: الدر المصون (2/199).
(6) أخرجه البخاري (3/1297 ح3334).(1/28)
جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ اتحثب(1/29)
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } أي: أبدع وأظهر "جنات معروشات" أي: ممسوكات، "وغير معروشات" أي: ومتروكات على وجه الأرض.
وقال ابن عباس: "المعروشات": ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش؛ كالكرم والقرع والبطيخ. "وغير معروشات": ما قام على ساق وبسق؛ كالنخل وسائر الأشجار والزرع (1) .
وقال الضحاك: الكرم منه ما يعرش ومنه ما لم يعرش (2) .
وقيل: "المعروشات": ما أنبته الناس في الأرياف والعمران، "وغير معروشات": مما نبت بنفسه في البراري، كأن الذي أنبته الناس اهتمّوا به فعرّشوه، والذي نبت بنفسه في البراري غير معروش (3) . تقول: عرشت الكَرْم؛ إذا جعلت له دعائم (4) .
قرأ علي عليه السلام: "مغروسات وغير مغروسات"، بالغين المعجمة والسين المهملة فيهما (5) .
__________
(1) زاد المسير (3/134).
... وقال ابن عباس في تفسيره (ص:216) عند ذكر هذه الآية: المعروشات: ما عرش الناس، وغير معروشات: ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
(2) زاد المسير (3/135).
(3) وهو قول ابن عباس. أخرجه الطبري (8/52). وذكره السيوطي في الدر (2/367) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وانظر: الماوردي (2/178).
(4) انظر: اللسان، مادة: (عرش).
(5) انظر هذه القراءة في: القرطبي (7/98).(1/30)
{ والنخل والزرع مختلفاً أكله } يعني: ثمر النخل وحب الزرع، لكلِّ شيء منه طعم يُخالفُ طعم الآخر.
و { مختلفاً } حال مقدرة (1) ؛ لأنها لم يكن لها وقت الإنشاء أُكُلٌ فيوصف بالاختلاف. ومثله قوله تعالى: { فادخلوها خالدين } [الزمر:73].
قال الزجاج (2) : هذه مسألة شديدة في النحو إلا على من عرف حقيقتها، لأن للقائل أن يقول: كيف أنشأه في حال اختلاف أُكله وهو قد نشأ من قبل وقوع أَكُلِه؟ وأُكُلُهُ ثمره.
فالجواب في ذلك: أنه عز وجل قد ذكر (3) إنشاءَهُ بقوله: { هو خالق كل شيء } [الأنعام:102].
فأعلم جل وعز أنه المنشئ له في حال اختلاف أُكُلِهِ، ويجوز أن يكون أنشأَهُ ولا أكل فيه مختلفاً أُكُلُه، لأن المعنى: مُقَدِّراً ذلك فيه، كما تقول: لَتَدْخُلُنَّ منزل زيد آكلين شاربين. فالمعنى: أنكم تدخلون مُقَدِّرِينَ ذلك. وسيبويه هو دلّ على هذا وبيّنه في قوله (4) : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ معه صَقْرٌ صائداً به غداً، فنصب "صائداً" على الحال. والمعنى: مُقَدِّراً به الصيد.
قوله تعالى: { كلوا من ثمره إذا أثمر } أمرُ إباحة.
{ وآتوا حقه يوم حصاده } قرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو:
__________
(1) انظر: التبيان (1/263)، والدر المصون (2/199).
(2) معاني الزجاج (2/296).
(3) في معاني الزجاج: قدَّر.
(4) انظر: الكتاب لسيبويه (2/49).(1/31)
"حَصَادِه" بفتح الحاء -وهي لغة بني تميم وأهل نجد-، وكسرها الباقون (1) -وهي لغة أهل الحجاز-.
قال سيبويه (2) : وهو الأصل.
وفي المراد بهذا الحق قولان:
أحدهما: أنَّه الزكاة. قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومحمد ابن الحنفية، وقتادة (3) .
فعلى هذا القول: الآية مدنية، وهي محكمة (4) .
__________
(1) ... الحجة للفارسي (2/217)، والحجة لابن زنجلة (ص:151)، والكشف (1/456)، والنشر (2/266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:219)، والسبعة في القراءات (ص:271).
(2) الكتاب (4/12).
(3) أخرجه الطبري (8/54)، وابن أبي حاتم (5/1398)، وابن أبي شيبة (2/407 ح10475)، والبيهقي في سننه (4/132)، وابن عدي في الكامل (7/278)، والنحاس في ناسخه (ص:421). وذكره السيوطي في الدر (3/370) وعزاه لابن أبي حاتم والنحاس وابن عدي والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك. ومن طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن طاوس، وعزاه لابن أبي شيبة وأبي داود في ناسخه والبيهقي.
(4) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/419)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:331-335).
... قال الشوكاني في فتح القدير (2/169): وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية محكمة أو منسوخة، أو محمولة على الندب؟ فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطى من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما، وذهب ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والحسن والنخعي وطاوس وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريح أن هذه الآية منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير، ويؤيده أن هذه الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف. وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب. اهـ.(1/32)
والثاني: أنَّه حقٌّ غير الزكاة.
قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه، وإذا دسته وذَرَيْتَه فاطرح لهم منه، وإذا أكدسته فاطرح لهم منه، فإذا عرفت كيله فاعزل زكاته (1) .
وقال الربيع: هو لقاط السنبل (2) .
وقال [يزيد] (3) بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه (4) .
فعلى هذا؛ قوله: { وآتوا حقه } أمر استحباب.
__________
(1) أخرجه الطبري (8/55)، وابن أبي حاتم (5/1398)، وسعيد بن منصور (5/95)، وابن أبي شيبة (2/407 ح10477). وذكره السيوطي في الدر (3/368) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي.
(2) أخرجه الطبري (8/57). وذكره السيوطي في الدر (3/367) وعزاه لابن المنذر والنحاس وأبي الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: { وآتوا حقه يوم حصاده } قال: ما سقط من السنبل.
(3) في الأصل: زيد. والصواب ما أثبتناه. وانظر: ترجمته في: تقريب التهذيب (ص:599).
(4) أخرجه الطبري (8/57) عن يزيد بن الأصم، وابن أبي شيبة (2/437 ح10787) عن البراء. وذكره السيوطي في الدر (3/368) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم.(1/33)
وقال سعيد بن جبير وعطية: كان هذا قبل الزكاة، فلما فرضت الزكاة نُسخ هذا (1) .
قال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر. قلتُ: عن من؟ قال: عن العلماء (2) .
قال ابن عباس: نَسخت الزكاة كلّ نفقة في القرآن (3) .
فعلى هذا يكون قوله: { وآتوا حقه يوم حصاده } أمر إيجاب، ويكون منسوخاً كما ذكروا (4) . هذا حاصل ما ذكره المتقدمون من العلماء.
وذهب أكثر متأخري العلماء إلى أن المراد بالحقِّ: الزكاة.
قال القاضي أبو يعلى ابن الفراء: فائدةُ ذكر الحصاد: أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، وإنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه، وقد كان يجوز أن يُتوهم أن الحق يَلْزَمُ بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن
__________
(1) أخرجه الطبري (8/58)، والنحاس في ناسخه (ص:419). وذكره السيوطي في الدر (3/368) وعزاه للنحاس وأبي الشيخ عن سعيد بن جبير.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (2/408 ح10480). وذكره السيوطي في الدر (3/367) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (2/408 ح10484)، والنحاس في ناسخه (1/420) كلاهما عن الضحاك، وابن أبي حاتم (5/1398) عن عكرمة. وانظر: الماوردي (2/178). وذكره السيوطي في الدر (3/368) وعزاه لأبي عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك. ومن طريق آخر عن عكرمة، وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:419) وما بعدها، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:331-335).(1/34)
الوجوب فيما يحصل في اليد دون ما يتلف (1) .
وقال أيضاً: "اليوم" ظرفٌ للحقّ لا للإيتاء، فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية (2) .
وقال الواحدي (3) : هذا في النخيل؛ لأن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب (4) فيها من الصدقة، والزرع محمول عليه في وجوب الإخراج، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد، فيؤخر إلى زمان التنقية.
وقال صاحب الكشاف (5) : معناه: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
وهذه الفوائد في نهاية ما يكون من الحسن.
ويجوز عندي -والله أعلم- أن يقال: العرب توقع اليوم على الزمان،
فيقولون: كان ذلك يوم بُعاث (6) ، ويوم صفين (7) ، وقد قررنا ذلك فيما مضى.
__________
(1) انظر قول أبي يعلى في: زاد المسير (3/136).
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) الوسيط (2/330).
(4) قوله: "يجب" مكرر في الأصل.
(5) الكشاف (2/69).
(6) يوم بُعاَث: كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وهو يوم من مشاهير أيام العرب (انظر: اللسان، مادة: بعث). وكان الظهور فيه للأوس.
(7) صفين: موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما (معجم البلدان 3/414)(1/35)
والمعنى: فآتوا حقه زمان حصاده، وزمان الحصاد مظنة استقرار الوجوب، فلذلك أمر بالإيتاء فيه.
قوله تعالى: { ولا تسرفوا } أي: لا تتجاوزوا الحدّ في الإعطاء، كما فعل ثابت بن قيس بن شمّاس (1) .
قال ابن عباس: [صرم] (2) ثابت خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئاً، فكره الله له ذلك فنزلت: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } (3) .
وقال الزهري في قوله: "ولا تسرفوا": لا تنفقوا في المعصية (4) .
قال مجاهد: لو كان أبو قبيس (5) ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً واحداً أو مداً في معصية الله كان مسرفاً (6) .
__________
(1) ثابت بن قيس بن شماس -بمعجمة وميم مشددة وآخره مهملة-، أنصاري خزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، واستشهد باليمامة بمنام رآه خالد بن الوليد رضي الله عنهما (التقريب ص:133).
(2) في الأصل: صم. والتصويب من المصادر التالية.
(3) ذكره القرطبي (7/110)، والبغوي (2/136).
(4) زاد المسير (3/136).
(5) أبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة، وجهه إلى قعيقعان، ومكة بينهما، أبو قبيس من شرقيها وقعيقعان من غربيها، قيل: سمي باسم رجل من مذحج؛ لأنه أول من بنى فيه قبة (معجم البلدان 1/80).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم (5/1399). وذكره السيوطي في الدر (3/369) وعزاه لابن أبي حاتم.(1/36)
وقيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير (1) .
وقال سعيد بن المسيب: لا تمنعوا الصدقة الواجبة (2) .
قوله تعالى: { ومن الأنعام حمولة وفرشاً } هذا عطف على قوله: { أنشأ جنات معروشات } (3) ، وأنشأ من الأنعام حمولة، وهي التي تحمل الأثقال.
قال عنترة:
مَا رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولَةُ أَهْلِها ... ... وَسْطَ الرِّكَابِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (4)
قال ابن مسعود: هي ما حَمَل من الإبل (5) .
وقال قتادة: الحَمُولَة: ما حمل من الإبل والبقر. والفرش: الغنم والفصلان والعجاجيل، سميت فرشاً؛ لأنها تفرش للذبح، أو لما ينسج من
__________
(1) ذكره القرطبي (7/110).
(2) أخرجه الطبري (8/61)، وابن أبي حاتم (5/1399)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/145). وذكره السيوطي في الدر (3/369) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.
(3) انظر: التبيان (1/263)، والدر المصون (2/200).
(4) البيت لعنترة. انظر: ديوانه (ص:17)، واللسان، مادة: (خمم)، وشرح القصائد (ص:327)، وتهذيب اللغة (7/17)، والدر المصون (2/201)، والطبري (12/78)، والقرطبي (7/112)، وروح المعاني (12/102).
... والخِمْخِم: -بكسر الخائين المعجمتين- نبات تُعْلَفُ حَبَّه الإبل. ويقال: هو بالحاء: "الحمحم" (اللسان، مادة: خمم).
(5) أخرجه الطبري (8/62)، وابن أبي حاتم (5/1400)، ومجاهد (ص:226)، والطبراني في الكبير (9/208)، والحاكم (2/347). وذكره السيوطي في الدر (3/370) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني والحاكم وصححه.(1/37)
أصوافها وأوبارها وأشعارها من الفرش (1) .
{ كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في التحريم والتحليل.
وقد سبق تفسير ما لم نذكره هاهنا.
spuٹدZ"yJrO أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
__________
(1) أخرجه الطبري (8/63)، وابن أبي حاتم (5/1400-1401).(1/38)
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ اتححب
قوله تعالى: { ثمانية أزواج } بدلاً من "حمولةً وفرشاً"، أي: وأنشأ ثمانية أزواج، أو بدل مما بعد "كلوا" فإنه في موضع نصب، والأول أوجه (1) .
والزوج: كل فرد معه آخر من جنسه (2) .
ثم فسّر الأزواج فقال: { من الضأن اثنينِ } أي: زوجين اثنين؛ يريد:
__________
(1) التبيان (1/263)، والدر المصون (2/201).
(2) انظر: اللسان، مادة: (زوج).(1/39)
الذكر والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم (1) . والمَعْز: ذوات الشعر منها (2) .
قال الزجاج (3) : والضَّأْنُ: جمع ضَائِن [وضأْن] (4) ، مثل: تَاجِر وتَجْر.
قرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير: "المعَز" بفتح العين، وسكّنها الباقون (5) . وهو جمع ماعز؛ كحَارِس وحَرَس، وتَاجِر وتَجَر أيضاً.
{ قل آلذكرين } من الضأن والمعز، { حرّم أم الأنثيين } المعنى: فإن كان حرّم الذكرين فكلّ الذكور حرام، وإن كان حرّم الأنثيين فكلّ الإناث حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز من الأجنة، فهي إما ذكور وإما إناث.
أو يقال: إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فقد حرّم الأولاد، وكلها أولاد، فيكون التحريم شاملاً للكل.
قال الزجاج (6) : وكذلك الاحتجاج في قوله: { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } .
قل لهم يا محمد على وجه التبكيت لهم عند ظهور الحُجّة عليهم،
__________
(1) انظر: المعجم الوسيط (ص:532).
(2) انظر: اللسان، مادة: (معز).
(3) معاني الزجاج (2/299).
(4) ما بين المعكوفين زيادة من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(5) الحجة للفارسي (2/219)، والحجة لابن زنجلة (ص:275)، والكشف (1/456)، والنشر (2/266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:219)، والسبعة في القراءات (ص:271).
(6) ... معاني الزجاج (2/299).(1/40)
ووضوح كون ما اختلقوه فرية بلا مرية: { نبئوني بعلم } أي: خبروني بعلم من جهة الله تعالى يدلُّ على تحريم مَا حرمتم { إن كنتم صادقين } في إضافة التحريم إليه.
ومضمون هذه الآية والتي بعدها: إبطال ما كانوا عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي (1) ، وإبطال قولهم: { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا... الآية } .
قال الزجاج (2) : فأما الإعراب في "آلذكرين" فالنصب بـ"حَرَّمَ"، وتَثْبُتُ (3) ألف المعرفة مع ألف الاستفهام؛ لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، لأنه
__________
(1) ... البحيرة: كانت العرب إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين، فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر، وتترك ترعى وترد الماء، ويُحَرَّم لحمها على النساء، ويُحَلَّلُ للرجال (اللسان، مادة: بحر).
... والسَّائبة: كان الرجُل في الجاهلية إذا قدم من سَفَر أو برئ من مَرَض و غير ذلك قال: ناقِتي سائبة، فلا ينتفع بظهرها ولا تُحَلأُ عن ماءٍ، ولا تُمنَع من كلأٍ ولا تُرْكَب (اللسان، مادة: سيب).
... والوَصِيلة: كانت في الشاة خاصة، كانت الشاة إذا وَلَدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذَكراً جعلوه لآلهتهم، فإذا ولدت ذَكَراً وأُنْثَى قَالوا: وَصَلت أخَاهَا، فلم يذبحوا الذَّكَر لآلهتهم. والوصيلة التي كانت في الجاهلية: الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، وهي من الشاء التي ولدت سبعة ابطن عناقين عناقين، فإن ولدت في السابع عناقاً قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء، وتجري مجرى السائبة (اللسان، مادة: وصل).
... والحَامِي: الفَحْلُ من الإِبل يَضْرِبُ الضَّرَابَ المعدودَ (اللسان، مادة: حما).
(2) معاني الزجاج (2/300-301).
(3) تدغم وتندمج.(1/41)
لو قيل: "أَلذكرين حَرَّمَ" بألف واحدة، لالتبس الاستفهام بالخبر، وقد يجوز مع "أم" حذف الألف، لأن "أم" تدل على الاستفهام، ولكن القراءة بتبيين الألف الثانية.
قوله تعالى: { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } قال الزجاج (1) : معناه: هل شاهدتم الله حرّم هذا (2) ؛ إذ كنتم لا تؤمنون برسول.
ثم بيّن الله تعالى ظلمهم فقال: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم } .
قال ابن عباس: يريد: عمرو بن لُحَي (3) الذي سَيَّبَ السوائب ومن جاء بعده (4) .
@è% لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ
__________
(1) معاني الزجاج (2/299).
(2) بمعنى: قال لكم ذلك مشافهة وسمعتموه منه.
(3) ... عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، من قحطان، أول من غيّر دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان (الأعلام 5/84).
(4) الوسيط (2/331)، وزاد المسير (3/139).(1/42)
رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اتحخب
قوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه } هذه الآية تتضمن الإعلام أن التحليل والتحريم إنما يُتلقّى من جهة الوحي والتنزيل.
{ إلا أن يكون ميتة } قرأ ابن عامر وابن كثير وحمزة: "تكون" بالتاء، حملاً على المعنى، لأن المحرّم إما أن يكون عيناً، أو نفساً، أو جثة. وقرأ الباقون بالياء حملاً على اللفظ، لأن قوله: "لا أجد" يدل على نفي الوجود، والتقدير: إلا أن يكون الموجود ميتةً.
واتفقوا على نصب "ميتةً"، إلا ابن عامر، فإنه رفع (1) . وقد أشرنا إلى تعليل القراءتين آنفاً (2) .
{ أو دماً مسفوحاً } يعني: مصبوباً.
{ أو فسقاً } سمى سبحانه ما ذُبح باسم آلهتهم فسقاً؛ لتوغّله في الفسق
__________
(1) الحجة للفارسي (2/221)، والحجة لابن زنجلة (ص:276)، والكشف (1/456)، والنشر (2/266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:219)، والسبعة في القراءات (ص:272).
(2) عند تفسير قوله تعالى: { وإن يكن ميتة } [الأنعام: 139].(1/43)
الذي هو الخروج عن الطاعة.
وقوله: { أُهِلَّ } صفة منصوبة المحل (1) . وما لم أذكره هاهنا فقد سبق ذكره فيما مضى.
فصل
ذهب قوم من المفسِّرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية المائدة المشتملة على تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكلّ السبع (2) ، وبالأحاديث التي وردت في تحريم الحُمر الأهلية وكلِّ ذي ناب من السباع، ومِخْلَب (3) من الطير. وهو مذهبٌ بعيدٌ من التحقيق والصواب، لأن المنخنقة وما بعدها من جملة الميتة، وأخبار الآحاد لا تَنْسَخُ القرآن، وإنما المعنى: لا أجد فيما أوحي إليّ من القرآن، أو لا أجد فيما أوحي إليّ من القرآن وغيره محرّماً، إلا أن يكون ميتة (4) .
وليس في هذا دلالة على إباحة ما عدا المحرمات في الآية، وإنما الآية اقتضت أمره - صلى الله عليه وسلم - بإخبار الكفار أنه لم يجد مُحرّماً سوى ما عيّن في الآية، ثم بعد ذلك حرّم عليه ما حرّم من المطاعم.
أو يكون المعنى: لا أجد شيئاً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها،
__________
(1) انظر: الدر المصون (2/205).
(2) كما جاء ذلك في الآية الثالثة من سورة المائدة.
(3) المخلب: بكسر الميم، وهو للطائر والسباع بمنزلة الظفر للإنسان (اللسان، مادة: خلب).
(4) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/432)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:335-336).(1/44)
فيكون الاستثناء منقطعاً؛ لأنهم كانوا يستحلون الميتة والدم.
'n?tمur الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ اتحدب
قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } يقال: ظُفُر بضمِّ الظاء والفاء، وبها قرأ الأكثرون، و "ظُفْر" بضم الظاء وإسكان الفاء.
قال الشاعر:
لَقَدْ كُنْتُ ذا نَابٍ وَظُفْرٍ عَلَى العِدَا ... فَأَصْبَحْتُ لا يَخْشَوْنَ نَابي وَلا ظُفْري (1)
__________
(1) انظر البيت في: زاد المسير (3/142).(1/45)
و "ظِفْر" بكسر الظاء وسكون الفاء، وبها قرأ الحسن (1) .
و "ظِفِر" [بكسرهما] (2) ، وبها قرأ أبو السَّمَّال (3) .
و "أُظْفور" (4) .
قال الشاعر:
مَا بَيْنَ لُقْمَتِهِ الأُولى إِذا انْحَدَرَتْ ... ... وَبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قَيْدَ أُظْفُورِ (5)
قال ابن عباس وجمهور المفسِّرين في هذه الآية: والظفر: ما ليس بمتفرج الأصابع؛ كالإبل والنعام والإوز والبط (6) .
وقال ابن زيد: يريد: الإبل فقط (7) . ويأباه قوله: "كل".
وقال ابن الأنباري (8) : الظفر هاهنا يجري مجرى الظفر للإنسان.
__________
(1) انظر: مختصر ابن خالويه (ص:41)، وإعراب القراءات الشواذ للعكبري (ص:519)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220).
(2) في الأصل: بسكونهما، والصواب ما أثبتناه ، انظر الدر المصون (3/206).
(3) انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/245).
(4) وهذه لم يقرأ بها، ولكنها لغة في "الظُّفُر".
(5) انظر البيت في: اللسان، مادة: (ظفر)، وتهذيب اللغة (14/375)، وزاد المسير (3/142)، وشرح الزرقاني (1/102).
(6) أخرجه الطبري (8/74)، وابن أبي حاتم (5/1410)، والبيهقي في سننه (10/8). وذكره السيوطي في الدر (3/377) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لأبي الشيخ. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد.
(7) أخرجه الطبري (8/73).
(8) انظر قول الأنباري في: زاد المسير (3/142).(1/46)
وقال صاحب الكشاف (1) : ذو الظفر: ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم، فلما ظلموا حُرّم ذلك عليهم، فعمّ التحريم كل ذي ظفر، بدليل قوله: { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلّت لهم } [النساء:160]، وقوله: { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } كقولك: من زيد أخذت ماله، يريد بالإضافة: زيادة الربط. والمعنى: أنه حرم عليهم لحم كلِّ ذي ظفر وشحمه وكل شيء بينه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم [الخالصة] (2) ، وهي الثروب وشحوم الكلى، وذلك قوله: { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } يريد: ما اشتمل بالظهر من الشحم.
{ أو الحوايا } قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والزجاج وابن قتيبة وجمهور المفسِّرين واللغويين: هي المَبَاعِرُ، واحدتها: حَوِيَّة وحَاوِيَة وحاوياء (3) .
قال علي عليه السلام:
__________
(1) الكشاف (2/71).
(2) في الأصل: الخاصة. والتصويب من الكشاف (2/71).
(3) أخرجه الطبري (8/75-76)، وابن أبي حاتم (5/1411)، والبيهقي في سننه (10/8). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:218)، وتفسير مجاهد (ص:226)، ومعاني الزجاج (2/301)، وتفسير غريب القرآن (ص:163). وذكره السيوطي في الدر (3/378-379) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.(1/47)
أَقْتُلُهُم وَلاَ أَرَى مُعَاوِيَهْ ... ... الجَاحِظَ العَيْنِ العَظِيمِ الحَاوِيَهْ (1)
وقال آخر:
كَأَنَّ نَقيقَ الحَبِّ في حَاوِيائِهِ ... ... فَحِيحُ الأَفَاعِي أَوْ نَقيقُ العَقَارِبِ (2)
والمراد: ما حملت الحوايا من الشحم أو ما اختلط بعظم.
قال جمهور المفسِّرين: يريد: الألية (3) .
وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فهو ما اختلط بعظم، وهو حلال لهم، وإنما حرم عليهم الثرب وشحم الكِلية (4) .
وقيل: "الحوايا" عطف على "شُحُومَهُمَا" (5) .
والأول أكثر وأشهر وأوضح، و"أو" بمنزلتها، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين (6) .
__________
(1) انظر البيت في: اللسان، مادة: (حوا)، وزاد المسير (3/143).
(2) البيت لجرير يصف الخنزير والحب في حاويائه. انظر: ديوانه (ص:239)، واللسان، مادة: (نقق)، وتهذيب اللغة (5/292)، وزاد المسير (3/143)، والدر المصون (2/209).
(3) أخرجه الطبري (8/76) عن ابن جريج. وذكره السيوطي في الدر (3/379) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(4) أخرجه الطبري (8/76). وذكره السيوطي في الدر (3/379) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(5) انظر: التبيان (1/264)، والدر المصون (2/208).
(6) هذا قول الزمخشري في الكشاف (2/71). قال السمين الحلبي (2/208): والأحسن في هذه الآية إذا قلنا إن "الحوايا" معطوف على "شحومهما"؛ أن تكون "أو" فيه للتفصيل، فصل بها ما حرّم عليهم من البقر والغنم.
... ثم قال -يعني: السمين-: وعبارة الزمخشري سبقه إليها أبو إسحاق -يعني: الزجاج- فإنه قال (2/301-302): وقال قوم: حرمت عليهم الثروب، وأحل لهم ما حملت الظهور، وصارت "الحوايا أو ما اختلط بعظم" نسقاً على ما حرم، لا على الاستثناء.(1/48)
وقيل: بمعنى الواو -كما سبق-.
{ ذلك } إشارةٌ إلى التحريم، { جزيناهم ببغيهم } أي: بسبب ظلمهم الفاحش من قتل الأنبياء والأولياء وأخذهم الربا وغير ذلك، { وإنا لصادقون } فيما أخبرناكم عنهم من البغي والظلم والتحريم والجزاء وغير ذلك.
bخ*sù كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ(1/49)
حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ(1/50)
يَعْدِلُونَ (150) * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اتختب(1/51)
قوله تعالى: { فإن كذبوك } قال ابن عباس: يريد: المشركين (1) .
وقال مجاهد: اليهود (2) .
{ فقل ربكم ذو رحمة واسعة } فغير بِدْع ولا بعيد أن لا يعاجلكم بالعقوبة لسعة رحمته، ولكنه أجّلكم إلى الوقت المقدر لعذابكم والانتقام منكم، { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } .
قوله تعالى: { سيقول الذين أشركوا } هذا إخبار من الله تعالى لنبيّه بما سيقوله المشركون، فلما قالوه، قال: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [النحل:35].
والمعنى: سيقول المشركون من عُبّاد الأصنام وغيرهم { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } يريدون: البحائر والسوائب.
قال الزجاج (3) : زعم سيبويه أن العطف بالظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح، يستقبح: قمت وزيد، فإن جاءت "لا" حَسُنَ الكلام فقلت: ما قمتُ ولا زيد.
والمعنى: لو شاء لحال بيننا وبين ذلك، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام. وهذه مجادلةٌ فاسدة؛ لأن
__________
(1) زاد المسير (3/144).
(2) أخرجه الطبري (8/77)، وابن أبي حاتم (5/1412)، ومجاهد (ص:226). وذكره السيوطي في الدر (2/379) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(3) معاني الزجاج (2/302).(1/52)
لخصمِهم أن يقابل ما اعتلوا به من الشبه بمثله، ولا يلزم من ذلك كونه على الحق عندكم.
ثم إن الله أكذبهم فيما نسبوه إليه من الرضى بما هم عليه فقال: { كذلك كذب الذين من قبلهم } قال ابن عباس: قالوا لرسلهم مثل ما قال هؤلاء لك، ولو أن الله أكذبهم في نسبتهم المشيئة إليه لقال: { كذلك كَذَب } بالتخفيف (1) .
{ قل } لهم يا محمد على وجه التهكم بهم، { هل عندكم من علم } جاءكم به رسول أو نزل عليكم به كتاب، { فتخرجوه لنا إن تتبعون } فيما أنتم عليه من الدين إلا الباطل، { إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } أي: تكذبون.
{ قل فلله الحجة البالغة } حيث أنزل الكتب وبعث الرسل، وأوضح الدلائل، لأنكم أيها المحتجون لصحة شركهم وباطلهم والمعتقدون رضى الله بما هم عليه، حيث لم يقهرهم على تركه، بل أرخى لهم أعنّة تماديهم في ميادين غيّهم.
{ فلو شاء لهداكم أجمعين } قال جويرية بن أسماء (2) : سمعت علي بن زيد تلا هذه الآية: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فنادى بأعلى صوته: انقطع والله هاهنا كلام القدرية (3) .
__________
(1) الطبري (8/79)، وزاد المسير (3/145).
(2) جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي، بضم المعجمة وفتح الموحدة، البصري، صدوق، مات سنة ثلاث وسبعين . (التقريب:143).
(3) ذكره السيوطي في الدر (3/380) وعزاه لأبي الشيخ عن علي بن زيد.
والقدرية: قوم ينسبون إلى التكذيب بما قدر الله من الأشياء .(1/53)
قوله تعالى: { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } . "هَلُمّ" (1) كلمة يستوي في الدعاء بها الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث. هذه لغة أهل الحجاز، وبها جاء القرآن.
وأما بنو تميم وأهل نجد فإنهم يقولون للواحد: هَلُمَّ، وللاثنين: هَلُمَّا، وللجماعة: هَلُمُّوا، وللأنثى: هَلُمِّي، وللثنتين: هَلُمَّا، وللنسوة: هَلْمُمْنَ.
والمعنى: هاتوا شهداءكم. والمراد بهذا: تبكيتُهم وإظهار انقطاع حجتهم.
{ الذين يشهدون أن الله حرم هذا } يعني: ما ذَكَرَ من الحرث والأنعام مما حرمه المشركون.
{ فإن شهدوا فلا تشهد معهم } أي: لا توافقهم ولا تصدقهم، { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } فحَرَّموا الحلال وحَلَّلوا الحرام، { والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } سبق تفسيره.
قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } سبق الكلام على "تعالوا" في آل عمران (2) .
وقوله: { ما حرّم } منصوب بفعل التلاوة، تقديره: اتلوا الذي حرّمه ربكم عليكم (3) .
__________
(1) هلم: هو اسم فعل لا ينصرف عند أهل الحجاز، وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم. انظر: المفصل للزمخشري (ص:193)، واللباب للعكبري (2/89)، والتبيان (1/264)، والدر المصون (2/212).
(2) عند تفسير قوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا ... } [الآية:61].
(3) ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، أي: حرم ربكم أن تشركوا ، و"لا" زائدة (انظر: التبيان 1/265، والدر المصون 2/213).(1/54)
ثم فسّره فقال: { ألا تشركوا به شيئاً } ، و"لا" للنهي، ويجوز أن تكون: "أنْ" هي الناصبة للفعل، و"لا" زائدة، والجملة في موضع نصب على البدل من "ما حرّم"، أو في موضع رفع، على معنى: هو "أَلا تشركوا به".
وقيل: تم الكلام عند قوله: "ما حرّم ربكم" ثم قال: "عليكم أَلا تشركوا به شيئاً"، كما قال: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة:105] فيكون إغراءً (1) .
وقال الزمخشري (2) : "أن" في "أن لا تشركوا" مفسِّرة، و"لا" للنهي.
فإن قلت: هلاَّ قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت "أن لا تشركوا" بدلاً من "ما حرّم"؟
قلتُ: وجب أن تكون "ألا تشركوا"، "ولا تقربوا"، "ولا تقتلوا"، "ولا تتبعوا السُّبل" نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله: "وبالوالدين إحساناً"؛ لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، "وأوفوا"، "وإذا قلتم فاعدلوا"، "وبعهد الله أوفوا".
فإن قلت: فما تصنع بقوله: "وأن هذا صراطي مستقيماً" فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على "أن لا تشركوا" إذا جعلت "أن" هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أَتْلُ عليكم نفي الإشراك والتوحيد، وأَتْلُ عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟
قلتُ: أجعل قوله: "وأن هذا صراطي مستقيماً" علةً للاتباع بتقدير
__________
(1) انظر: التبيان (1/265)، والدر المصون (2/213).
(2) الكشاف (2/75).(1/55)
اللام؛ كقوله: { وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا } [الجن:18] بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، [أو: واتبعوا صراطي إنه مستقيم] (1) .
فإن قلت: إذا جعلت "أنْ" مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بِ "ما حرّم ربكم" وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله؛ كالشرك، وما بعده مما دخل عليه حرف النهي، فما تصنع بالأوامر؟
قلتُ: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، عُلِمَ أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله عز وجل. هذا تمام كلامه (2) .
قوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } قال ابن عباس: يريد: مخافة الفقر (3) .
يقال: أَمْلَقَ الرَّجُلُ فهو مُمْلِقٌ؛ إذا افْتَقَرَ (4) .
والمراد: نهيهم عما كانوا عليه من دفن البنات أحياءً خشية النفقة عليهن.
ثم ضمن الله تعالى الرزق للجميع فقال: { نحن نرزقكم وإياهم } .
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من الكشاف (2/75).
(2) أي: الزمخشري في الكشاف.
(3) أخرجه الطبري (8/82)، وابن أبي حاتم (5/1414). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:219). وذكره السيوطي في الدر (3/383) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4) انظر: اللسان، مادة: (ملق).(1/56)
{ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } سبق تفسيره في قوله: { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [الأنعام:120].
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وهو أن يكفر بعد إيمانه، أو يزني بعد إحصانه، أو يقتل نفساً مؤمنة معصومة (1) .
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كان فيما أعطى الله موسى في الألواح: ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها، والسماء بأقطارها، وتبوء بسخطي والنار" (2) .
{ ذلكم } يعني: ما ذكر في هذه الآية، { وصّاكم } أي: أمركم به، { لعلكم تعقلون } .
ںwur تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
__________
(1) ... أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة" (البخاري 6/2521 ح6484، ومسلم 3/1302 ح1676).
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/265-266). وذكره السيوطي في الدر (3/551) وعزاه لابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن لال في مكارم الأخلاق عن جابر بن عبد الله.(1/57)
بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اتخجب
قوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } .
أي: بالخصلة التي هي أحسن، وهي القيام بتثميره، وحسن تدبيره، وعدم تبذيره.
وقال ابن عباس: يريد: إن كنتَ له وصياً فأصلحتَ ماله أكلتَ(1/58)
بالمعروف إن احتجت إليه، وإن كنت غنياً عنه فَعُفَّ عن أكله (1) .
{ حتى يبلغ أشده } وهو استحكام قوة الشباب، والمراد به: أن يبلغ ويؤنس منه الرشد، وهو الصلاح في المال والدين، وقد ذكرناه في سورة النساء (2) .
قال أبو عبيدة (3) : الأشدّ: لا واحد له.
وقال الفراء (4) : واحده: "شدّ" في القياس، ولم نسمع لها بواحد.
وقال ابن قتيبة (5) : لا واحد له، فإن أكرهوا على ذلك قالوا: شد بمنزلة "ضبّ وأضبَّ".
وقيل: واحد الأشد: شدّ، بفتح الشين وضمها (6) .
قال بعض البصريين: واحد الأشد: "شِدة"، كنعمة وأنعم (7) .
فإن قيل: لم خصَّ مال اليتيم بالذكر مع أن جميع الأموال لا يجوز قربانها إلا بالتي هي أحسن؟
قلتُ: خصه بالذِّكْر؛ لضعفه عن الانتصار لنفسه، وزيادة الطمع فيه لصغره.
__________
(1) الوسيط (2/337)، وزاد المسير (3/149).
(2) عند تفسير قوله تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكَاحَ... } [النساء:6].
(3) مجاز القرآن (2/99).
(4) لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر: زاد المسير (3/149)، واللسان، مادة: (شدد).
(5) انظر قول ابن قتيبة في: زاد المسير (3/149).
(6) انظر: زاد المسير (3/149).
(7) انظر: زاد المسير (3/149).(1/59)
قوله تعالى: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } أتموها بالعدل والتسوية من غير بخس ولا شطط، على حسب اجتهاد المكلف في تحري العدل.
{ لا نكلف نفساً إلا وسعها } أي: ما يسعها وتقدر عليه، { وإذا قلتم فاعدلوا } أي: إذا تكلمتم أو شهدتم فاعدلوا، { ولو كان ذا قربى } أي: ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها ذا قرابتك.
{ وبعهد الله أوفوا } هو مثل قوله: { أوفوا بالعقود } [المائدة:1]، وقد سبق تفسيره. { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } .
{ وأَنَّ هذا صراطي مستقيماً } اتفقوا على تشديد النون في "أَنَّ" إلا ابن عامر، فإنه خففها من الثقيلة، تقديره: وأنه، فحذف ضمير الشأن، وكسر حمزة والكسائي الهمزة على الاستئناف، وفتحها الباقون (1) .
قال الفراء (2) : إن شئت جعلت "أَنَّ" مفتوحة بوقوع "أُتْلُ" عليها، وإن شئت جعلتها خفضاً على معنى: ذلكم وصاكم به وأنَّ هذا صراطي مستقيماً.
وسيبويه يقول (3) : التقدير: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه؛ كقوله: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } [المؤمنون:52] والمشار إليه: القرآن ودين الإسلام.
{ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهي: الضلالات والبدع.
__________
(1) الحجة للفارسي (2/227)، والحجة لابن زنجلة (ص:277)، والكشف (1/457)، والنشر (2/266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220)، والسبعة في القراءات (ص:273).
(2) معاني الفراء (1/364).
(3) انظر: الكتاب (2/126-127).(1/60)
أخبرنا أبو علي بن عبد الله بن الفرج في كتابه، أخبرنا أبو القاسم هبة الله الشيباني، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي الواعظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان، أخبرنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، [عن] (1) عاصم، عن أبي وائل، عن عبدالله رضي الله عنه قال: "خَطَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطّاً بيَدِهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا سَبيلُ اللهِ مُسْتَقيماً، ثمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثمَّ قَالَ: هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبيلٌ إِلاَّ وعَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثمَّ قَرَأ:َ { وَأِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } " (2) .
وأخرج الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الصَّحِيفَةِ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَقْرَأ هؤلاء الآيَاتِ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: { لَعَلَّكُمْ تتَّقُونَ } " (3) .
وقال ابن عباس: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب (4) .
¢OèO آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى
__________
(1) في الأصل: بن. والمثبت من مسند أحمد.
(2) أخرجه أحمد (1/465 ح4437).
(3) أخرجه الترمذي (5/264 ح3070) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4) الوسيط (2/339).(1/61)
الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى بû÷ütGxےح !$sغ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ(1/62)
جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ(1/63)
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ اتخرب
قوله تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن } إن قيل: على أي شيء عطف قوله: "ثم آتينا"؟
قلتُ: قال الزجاج (1) : على معنى التلاوة (2) ، التقدير: قل تعالوا أَتْلُ ما حَرَّمَ ربكم عليكم ثم أَتْلُ عليكم ما آتاه الله موسى.
وقال الزمخشري (3) : عطفه على "وصاكم".
فإن قلت: كيف [صَحَّ] (4) عطفه عليه بـ"ثم" وإيتاء موسى الكتاب قبل التوصية بدهر طويل؟
قلتُ: هذه التوصية قديمة، لم تزل [توصاها] (5) كلّ أمة على لسان نبيها، كما قال ابن عباس: [محكمات] (6) لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، كأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً.
__________
(1) معاني الزجاج (2/306).
(2) أي: الانتقال من كلام لآخر بقطع النظر عن الزمن.
(3) الكشاف (2/76-77).
(4) زيادة من الكشاف (2/76).
(5) في الأصل: توصاتها. والتصويب من الكشاف، الموضع السابق.
(6) زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/64)
ثم أعظم من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب [وأنزلنا هذا الكتاب] (1) المبارك.
وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } [الأنعام:84].
وقال غيره: تقديره: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب، ومثله قول الشاعر:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثمّ سَادَ أَبُوهُ ... ... ثم قَدْ سَادَ قَبْلَ ذلِكَ جَدُّه (2)
قوله تعالى: { تماماً } مفعول له (3) ، المعنى: آتيناه الكتاب لأجل التمام على الذي أحسنه من كتب الله وشرائع دينه، وعلوم أنبيائه.
وقيل: تماماً للنعمة والكرامة على ما أحسن في طاعتي وتبليغ رسالتي، فتكون الذي بمعنى "ما".
وقيل: المعنى: آتيناه الكتاب تاماً جملة واحدة لم نفرق إنزاله، كالقرآن مضافاً إلى الذي أحسنه من العلم وزيادة عليه.
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من الكشاف، الموضع السابق.
(2) البيت لأبي نواس في مدح العباس بن عبيد الله. انظر البيت في: تفسير ابن كثير (1/68)، وشرح النووي على مسلم (2/78). و(ثم) هنا لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب.
(3) التبيان (1/266)، والدر المصون (2/220).
... قال العكبري: قوله تعالى: (تماماً) مفعول له، أو مصدر، أي: أتممناه إتماماً، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الكتاب، (على الذي أحسن) يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض، وفي فاعله وجهان: أحدهما: ضمير اسم الله والهاء محذوفة، أي: على الذي أحسنه الله، أي: أحسن إليه وهو موسى، والثاني: هو ضمير موسى؛ لأنه أحسن في فعله، ويقرأ بضم النون على أنه اسم، والمبتدأ محذوف، وهو العائد على الذي، أي: على الذي هو أحسن، وهو ضعيف. اهـ.(1/65)
فعلى هذه [الأقوال] (1) المشار إليه: موسى - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: المعنى: تماماً للنعمة والكرامة على من كان محسناً صالحاً، يريد: جنس المحسنين، وهو اختيار أبي عبيدة وكثير من المحققين (2) .
ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود: "على الذي أحسنوا" (3) .
وقال ابن زيد: تماماً على إحسان الله على أنبيائه (4) .
وفيه تعسف.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والحسن ويحيى بن يعمر (5) : "أحسنُ" بالرفع (6) ، على معنى: هو أحسن، فحذف المبتدأ.
وقرأ ابن عمرو وأبو المتوكل: "أُحسِن" بضم الهمزة وكسر السين (7) .
{ وتفصيلاً لكل شيء } تبياناً لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين.
قوله تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } يعني: القرآن، ووصفه بالبركة
__________
(1) في الأصل: إلا قول.
(2) انظر: الماوردي (2/189)، وزاد المسير (3/153).
(3) انظر: مختصر ابن خالويه (ص:41)، وإعراب القراءات الشواذ للعكبري (ص:522).
(4) أخرجه الطبري (8/91)، وابن أبي حاتم (5/1423). وذكره السيوطي في الدر (3/386) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) يحيى بن يعمر العدواني، أبو سليمان البصري، قاضي مرو. كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علماً باللغة. روى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبا هريرة وغيرهم. أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي. قيل: هو أول من نقط المصحف. مات سنة تسع وثمانين (تهذيب التهذيب 11/266).
(6) انظر هذه القراءة في: زاد المسير (3/154)، والدر المصون (3/221).
(7) انظر هذه القراءة في: زاد المسير، الموضع السابق.(1/66)
لما يأتي من قِبَلِه من الخير الكثير، { فاتبعوه } اعملوا بما فيه، { واتقوا } مخالفته، { لعلكم ترحمون } .
قوله تعالى: { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } وهم اليهود والنصارى.
قال مقاتل (1) : كان كفار مكة يقولون: قاتل الله اليهود والنصارى كيف كذبوا أنبيائهم، فوالله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية.
و"أَنْ" في محل النصب.
قال الكسائي والفراء (2) : معناه: اتقوا أن تقولوا.
والذي عليه حذاق النحاة من البصريين وغيرهم: أنه مفعول لأجله، تقديره: أنزلناه كراهة أن تقولوا يا أهل مكة: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا (3) .
{ وإن كنا } هي "إِنْ" المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والأصل: وإنه كنا { عن دراستهم لغافلين } على أن الهاء ضمير الشأن.
والمعنى: كنا عن قراءتهم غافلين لا نعلم ما هي إذا سمعناها أو نظرنا فيها؛ لأن لغتنا تنافيها.
{ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } أرشدُ إلى الصواب
__________
(1) تفسير مقاتل (1/379).
(2) معاني الفراء (1/366).
(3) انظر: زاد المسير (3/145)، ومعاني الزجاج (2/307).(1/67)
وأدرى بمواقع الكلام وفصل الخطاب؛ لحدة أذهاننا، [ونقاوة] (1) أفهامنا.
{ فقد جاءكم بينة من ربكم } وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يخاطبكم بلسانكم العربي، { وهدى ورحمة } وهو القرآن.
{ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } أي: فمن أشد ظلماً ممن جحد بالقرآن ومعجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعرض عنها بعد أن عرفها.
وقيل: صدف الناس عنها، فهو أبلغ؛ لأنه صدف بنفسه وصدف الناس عنها.
ثم توعدهم فقال: { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } .
قوله تعالى: { هل ينظرون } أي: هل ينتظرون.
{ إلا أن تأتيهم الملائكة } وقرأ حمزة والكسائي: "يأتيهم الملائكة" بالياء، هنا وفي النحل (2) ؛ لتذكير معنى الملائكة (3) .
قال مقاتل (4) : هو مَلَكُ الموت وحده.
وقال غيره: مَلَكُ الموت وأعوانه يأتيهم لقبض أرواحهم.
{ أو يأتي ربك } قال الثعلبي (5) : يأتي ربك بلا كيف لفصل القضاء بين
__________
(1) في الأصل: وتقاية.
(2) عند الآية رقم: 33.
(3) الحجة للفارسي (2/228)، والحجة لابن زنجلة (ص:277)، والكشف (1/458)، والنشر (2/266)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220)، والسبعة في القراءات (ص:273-274).
(4) تفسير مقاتل (1/380).
(5) الثعلبي (4/207).(1/68)
خلقه في موقف القيامة.
وقال الحسن والضحاك: يأتي أمره (1) .
قوله تعالى: { أو يأتي بعض آيات ربك } قال عامة المفسرين: يعني: طلوع الشمس من مغربها (2) .
وقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - في قَوْلِه: " { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } ، قَالَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا" (3) .
وروى مسروق عن ابن مسعود قال: طلوع الشمس والقمر من مغربهما (4) .
قوله تعالى: { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد العطار، وأبو
__________
(1) زاد المسير (3/156).
(2) أخرجه الطبري (8/96)، وابن أبي حاتم (5/1427)، ومجاهد (ص:228). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/157)، والسيوطي في الدر المنثور (3/389).
... فائدة: قال ابن الجوزي في زاد المسير (3/157): إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها: أن الملحدة والمنجمين زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله قدرته ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق؛ ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: { فَأْتِ بهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ } [البقرة:258].
(3) أخرجه الترمذي (5/264 ح3071) وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه.
(4) أخرجه الطبري (8/96)، وابن أبي حاتم (5/1427)، والطبراني في الكبير (9/209 ح9019). وذكره السيوطي في الدر (3/389) وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني عن ابن مسعود.(1/69)
الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة البغداديان قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا فَإِذا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذاكَ حِينَ { لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } " (1) .
وأخرجه مسلم عن أبي بكر، عن ابن فضيل، عن عمارة.
ويقع لنا عالياً من طريق المسند، فإن الإمام أحمد رحمه الله، يرويه عن محمد بن فضيل، عن عمارة.
وبه قال: حدثنا البخاري، حدثني إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طلعت ورَآهَا النَّاسُ آمَنَوا أجمعون، وَذَلكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا، ثم قرأ الآية" (2) .
وأخبرنا الشريف أبو الفتوح محمد بن محمد البكري التيمي (3) برباطه
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1697 ح4359)، ومسلم (1/137 ح157)، وأحمد (2/231 ح7161).
(2) أخرجه البخاري (4/1697 ح4360).
(3) محمد بن محمد بن محمد بن عمرو القرشي التيمي البكري النيسابوري الصوفي، ولد سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وحدث ببغداد وبمكة ومصر ودمشق، وجاور مدة. توفي في حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة (سير أعلام النبلاء 22/89-90).(1/70)
بدمشق، حدثنا أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري (1) ، حدثنا أبو عبد الله إسماعيل بن عبد الله القلانسي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل (2) ، أخبرنا محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن أبي نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أبي سعيد البقال، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يأتي على الناس ليلة قياس ثلاث ليال من لياليكم هذه، لا يعرفها إلا المتهجدون، يقوم المتهجد فيقرأ أجزاءه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ أجزاءه، ثم ينام، فإذا كان ذلك فزعوا إلى المساجد، فبينا هم كذلك إذ طلعت الشمس من مغربها" (3) .
__________
(1) هبة الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن، أبو الأسعد القشيري النيسابوري، خطيب نيسابور، كان صاحب فضل ومعرفة بعلوم القوم، ولد في جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة، روى الكثير، وذاع صيته وارتحلوا إليه، وحدث عنه خلق كثير، وأملى مجالس كثيرة، وظهر به صمم في آخر حياته، توفي في ثالث عشر شوال سنة ست وأربعين وخمسمائة، وله ست وثمانون سنة (سير أعلام النبلاء 20/180-182، ولسان الميزان 6/187).
(2) محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي النيسابوري، من أهل نيسابور، ثقة، كان والده مثرياً، وكان ينفق، فكان لا يحدث حتى يحضر محمد هذا، وإن غاب عن سماع جزء أعاده له، فأكثر عنه جداً، مات في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة عن نيف وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء 17/350، والتقييد ص:110).
(3) ذكره ابن كثير في تفسيره (2/195) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس هو في شيء من الكتب الستة (وانظر: فتح الباري 11/355).(1/71)
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي ذرّ قال: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ وَعَلَيْهِ بَرْذَعَةٌ أَوْ قَطِيفَةٌ (1) ، قَالَ: وَذاكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذرٍّ؛ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَغِيبُ هذه الشمس؟ قُلْتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَامِئَةٍ تَنْطَلِقُ حَتَّى تَخِرَّ لِرَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدَةً تَحْتَ الْعَرْشِ، فإذا حان خروجها أذن الله لها فتخرج فتطلع، فَإِذا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُطْلِعَهَا مِنْ حَيْثُ تَغْرُبُ حَبَسَهَا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ مَسِيرِي بَعِيدٌ، فَيَقُولُ لَهَا: اطْلعِي مِنْ حَيْثُ غِبْتِ، فَذلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا" (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ثَلاثٌ إِذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ" (3) .
وفيه من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجاً: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى. قَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: ويمكث الناس بعد طلوعها، فَأَيَّتُهُمَا خَرَجَتْ قبل فَالأُخْرَى مِنْهَا قَرِيبٌ" (4) .
وقال عبد الله بن عمرو: يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها
__________
(1) البَرْذَعَة: الحِلس الذي يُلقى تحت الرحل (اللسان، مادة: برذع).
... والقطيفة: كساء له خَمْل (اللسان، مادة: قطف).
(2) أخرجه أحمد (5/165 ح21497).
(3) أخرجه البخاري (1/138 ح158).
(4) أخرجه مسلم (4/2260 ح2941).(1/72)
مائة وعشرين سنة (1) .
قوله تعالى: { لم تكن آمنت من قبل } صفة لقوله: "نفساً" (2) .
وقوله: { أو كسبت } عطف على "آمنت" (3) ، وإنما لم ينفعها الإيمان؛ لأنها اضطرت إليه عند رؤية الآية الخارقة، وسقط معنى التكليف والإيمان الاختياري.
{ قل انتظروا } ما توعدكم الله به في هذه الآية وغيرها، { إنا منتظرون } ذلك لكم.
¨bخ) الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ اتخزب
قوله تعالى: { إن الذين فارقوا دينهم } قرأ عليّ عليه السلام وحمزة
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (7/506). وذكره السيوطي في الدر (3/391) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) انظر: التبيان (1/266)، والدر المصون (2/224).
(3) انظر: الدر المصون (2/224).(1/73)
والكسائي: "فارقوا" بزيادة ألف. وقرأ باقي القُرَّاء السَّبعة: "فرّقوا" بتشديد الرَّاء من غير ألف (1) .
وفي المشار إليهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة. قاله أبو هريرة (2) .
فعلى هذا؛ معنى "فارقوا دينهم": باينوه وتركوه جانباً واتبعوا أهواءهم.
ومعنى "فرقوا دينهم": آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه؛ كالمعتزلة (3) والرافضة (4) ، فإنهم آمنوا بكثير مما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفروا بكثير منه، فإنهم لا يؤمنون بكثير من أحوال الآخرة، كعذاب القبر، وإخراج المؤمنين من النار بالشفاعة، والنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة.
ويجوز أن يكون معنى: "فرقوا دينهم": صاروا أشياعاً وفرقاً.
القول الثاني: إنهم أهل الكتاب. قاله ابن عباس والضحاك وقتادة
__________
(1) الحجة للفارسي (2/228)، والحجة لابن زنجلة (ص:278)، والكشف (1/458)، والنشر (2/216)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220)، والسبعة في القراءات (ص:274).
(2) أخرجه الطبري (8/105)، والطبراني في الأوسط (1/207). وذكره السيوطي في الدر (3/402) وعزاه للحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه.
(3) المعتزلة: هم القائلون بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية ، وبوجوب الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة (تحفة الأحوذي 7/334).
(4) الرافضة: فرقة من فرق الشيعة، سميت بذلك؛ لأنها رفضت رأي زيد بن علي بن الحسين في صحة خلافة أبي بكر وعمر، وانشقوا عليه (انظر: ضحى الإسلام 3/136).(1/74)
ومجاهد (1) . فالمعنى: فارقوا دينهم الذي جاءهم به موسى وعيسى.
ومعنى "فرّقوا دينهم": صاروا فرقاً وشيعاً، أو هو إيمانهم بالبعض وكفرهم بالبعض.
أخبرنا الشيخ أبو طاهر إسماعيل بن ظفر بن أحمد النابلسي (2) سنة أربع وستمائة، أخبرنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد بن محمد بن اللبان (3) العدل بأصبهان، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد (4) ، أخبرنا الحافظ
__________
(1) أخرجه الطبري (8/105)، وابن أبي حاتم (5/1429). وأخرجه النحاس في ناسخه (ص:442) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (3/401، 403) وعزاه للنحاس في ناسخه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن مجاهد، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر. ومن طريق آخر عن السدي، وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) إسماعيل بن ظفر بن أحمد النابلسي، ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة، مات رابع شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون (ذيل التقييد 1/464-465).
(3) أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبد السلام، أبو المكارم اللبان التيمي الأصبهاني، ولد سنة سبع وخمسمائة، حدث عن أبي علي الحداد بجميع مسند الطيالسي وكتاب صفة الجنة لأبي نعيم وغير ذلك، وسماعه صحيح. توفي يوم الخميس سابع عشري ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 21/362-363، والتقييد ص:181).
(4) الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن مهرة، أبو علي الحداد الأصبهاني المقرئ، كان شيخاً عالماً ثقة صدوقاً من أهل القرآن، حدث عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ فأكثر عنه، ورحل إليه الناس، وكان خيراً ديّناً صالحاً، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة، وتوفي في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس عشرة وخمسمائة (التحبير ص:177-179، والتقييد ص:237).(1/75)
أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (1) ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين
الآجري (2) ، قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي (3) ، حدثنا أبو بكر بن زنجويه (4) ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي (5) ، حدثنا سفيان الثوري، عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم (6) .
__________
(1) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المهراني أبو نعيم الأصبهاني. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأجاز له مشايخ الدنيا وله ست سنين، وتفرد بهم، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه وضبطه وعلو إسناده. صنف "الحلية"، و"المستخرج على البخاري"، و"المستخرج على مسلم"، و"دلائل النبوة"، و"تاريخ أصبهان"، و"فضائل الصحابة"، و"صفة الجنة" وغيرها. مات في سنة ثلاثين وأربعمائة (طبقات الحفاظ ص:423).
(2) محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغدادي، مصنف كتاب الشريعة، كان مجاوراً بمكة، وكان عالماً عاملاً صاحب سنّة واتباع، ديّناً ثقة. توفي بمكة في المحرم سنة ستين وثلاثمائة (تذكرة الحفاظ 3/936، وطبقات الحفاظ ص:379).
(3) جعفر بن محمد بن يعقوب، أبو الفضل الصندلي، كان ثقة صالحاً ديّناً يسكن باب الشعير. مات في ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة وثلاثمائة (تاريخ بغداد 7/211).
(4) محمد بن عبد الملك بن زنجويه، أبو بكر البغدادي الغزال، صاحب الإمام أحمد، واسع الرحلة، وثقه النسائي وغيره، توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين ومائتين (سير أعلام النبلاء 12/346-347، وتذكرة الحفاظ 2/554).
(5) محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الفريابي، أبو عبد الله الضبي، نزيل قيسارية من مدائن فلسطين، أخذ عن عمر بن ذر والأوزاعي والثوري وخلق. وكان رجلاً صالحاً ثقة، مات في أول سنة اثنتي عشرة ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/114-118، وتذكرة الحفاظ 1/376).
(6) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، أبو أيوب الإفريقي الشعباني، قاضي إفريقية وعالمها ومحدّثها. قيل: كان أول مولود ولد في الإسلام بإفريقية، توفي سنة ست وخمسين ومائة (سير أعلام النبلاء 6/411-412).(1/76)
قال الآجري: وأخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي (1) ، حدثنا الهيثم بن خارجة (2) ، حدثنا إسماعيل بن
عياش (3) ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل، تفرَّق بَنُو إسْرائيلَ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَستَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ، تزيد عليهم، كُلّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: مَنْ هذه الملة، قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابي" (4) .
وهذا لفظ حديث الصوفي.
__________
(1) أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، مشهور، وثقه الدارقطني، مات سنة ست وثلاثمائة (ميزان الاعتدال 1/226، ولسان الميزان 1/151-153).
(2) الهيثم بن خارجة الخراساني، أبو أحمد المروزي البغدادي، أصله من خراسان، روى عن إسماعيل بن عياش وحفص بن ميسرة، وروى عنه الإمام أحمد وابنه، والبخاري وأبو حاتم وغيرهم، وثقه ابن معين، مات في ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/477-479، وطبقات الحفاظ ص:207).
(3) إسماعيل بن عياش بن سليم، أبو عتبة الحمصي العنسي، محدّث الشام، كان من بحور العلم، محتشماً نبيلاً جواداً، صادق اللهجة، متين الديانة، صاحب سنّة واتباع وجلال ووقار، ولد سنة ست ومائة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة (سير أعلام النبلاء 8/312-328، وتذكرة الحفاظ 1/253-255).
(4) أخرجه الترمذي (5/26 ح2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وأبو نعيم في الحلية (9/242)، والآجري في الشريعة (ص:21).(1/77)
وبالإسناد، قال الآجري:
حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: "أصول البدع أربع: الروافض (1) ، والخوارج (2) ،
والقَدَرية (3) ، والمرجئة (4) ، ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك ثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون الناجية (5) التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها الناجية" (6) .
القول الثالث: أنهم المشركون. قاله الحسن (7) .
ومعنى: "فارقوا دينهم": أي: تركوا دين إبراهيم وإسماعيل وعبدوا
__________
(1) الروافض: من الشيعة، وهم الذين رفضوا زيد بن علي حين سألوه عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما، فقالوا: إذاً نرفضك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة.
(2) الخوارج: هم المفرطة المكفرة لسيدنا علي رضي الله عنه، ومن أذنب كبيرة، وهم عشرون فرقة (تحفة الأحوذي 7/334).
(3) القدرية: نسبة إلى القدر، وهي فرقة كلامية ذات مفاهيم خاطئة في مفهوم القدر، حيث زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته وليس لله في فعله مشيئة ولا خلق، وأول من أظهر القول بالقدر معبد الجهني.
(4) المرجئة: هي القائلة بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهي خمس فرق (تحفة الأحوذي 7/334).
(5) في الآجري: الجماعة.
(6) أخرجه الآجري في الشريعة (ص:21). وذكره الأحوذي في التحفة، في تعليقه على حديث افتراق الأمة (7/334). وأصل الحديث في الترمذي، وقد سبق تخريجه في الحديث السابق. وانظر: طبقات الحنابلة (2/32).
(7) الماوردي (2/192)، وزاد المسير (3/158).(1/78)
الأصنام، وفارقوا دينهم الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ومعنى فرّقوه: صاروا فرقاً وشِيعاً، وذهبوا إلى التكذيب به كل مذهب، فهؤلاء يقولون: كهانة، وهؤلاء يقولون: سحر، وهؤلاء يقولون: أساطير الأولين، إلى غير ذلك.
قوله تعالى: { لستَ منهم في شيء } قال أبو الضحى: برئ نبيكم منهم (1) .
وقيل: المعنى: لست من السؤال عنهم في شيء.
وقال السدي: لست من قتالهم في شيء (2) .
فعلى هذا؛ تكون الآية في المشركين وفي أهل الكتاب، وتكون منسوخة بآية السيف.
{ إنما أمرهم } المجازاة والمكافأة { إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } إذا وردوا القيامة.
`tB جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
__________
(1) أخرجه الطبري (8/106)، وابن أبي حاتم (5/1431) كلاهما عن أبي الأحوص. وذكره السيوطي في الدر (3/403) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي الأحوص.
(2) أخرجه الطبري (8/106)، وابن أبي حاتم (5/1431). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/159). والسيوطي في الدر (3/403) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وانظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي (ص:337).(1/79)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اتدةب
قوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها } وقرأت ليعقوب الحضرمي: "عَشْرٌ" بالتنوين، "أَمْثَالُها" بالرفع (1) .
فمن قرأ بالإضافة؛ فعلى معنى: فله عشر حسنات أمثالها.
ومن رفعهما؛ فعلى معنى: فله حسنات عشر أمثالها، وهذا أقلّ الجزاء، والله يضاعف لمن يشاء ما يشاء.
وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا أوْ أَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ [فَجَزَاؤُهُ] (2) سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أغفر" (3) .
وقال سفيان الثوري: لما نزلت: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"،
__________
(1) النشر (2/216-217)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220).
(2) في الأصل: فجزاء.والمثبت من صحيح مسلم (4/2068).
(3) أخرجه مسلم (4/2068 ح2687).
... قال النووي في شرحه على مسلم (17/12): قوله تعالى: "فله عشر أمثالها وأزيد" معناه: أن التضعيف بعشرة أمثالها لا بد بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف, والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف, وإلى أضعاف كثيرة, يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى.(1/80)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ربي زدني، فنزلت: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ... الآية } [البقرة:261]، قال: رب زد أمتي، فنزلت: { مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة:245]، قال: رب زد أمتي، فنزلت: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10]" (1) .
والظاهر: عموم الآية في كل حسنة وسيئة.
وقال ابن مسعود ومجاهد والنخعي: "الحسنة": لا إله إلا الله، و"السيئة": الشرك (2) .
{ وهم لا يظلمون } بالنقصان من الثواب والزيادة على العقاب، فإنه سبحانه وتعالى قدَّرَ لكل حسنة وسيئة جزاءً معلوماً عنده.
ِ@è% إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
__________
(1) انظر: العجاب في بيان الأسباب (1/606).
(2) أخرجه الطبري (8/108)، وابن أبي حاتم (5/1431). وذكره السيوطي في الدر (3/404) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الحلية عن ابن مسعود. وانظر: تفسير ابن عباس (ص:221).(1/81)
الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ اتدجب
قوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } وهو دين الإسلام.
{ دِيناً } بدل من محل "إلى صراط مستقيم" (1) لأن التقدير: هداني صراطاً مستقيماً، كما قال: { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [الفتح:2].
وقوله: { قَيِّماً } [فَيْعِل] (2) ، من قَامَ، أصله: قَيْوِم، ثم أدغمت الياء في الواو؛ كسَيِّد ومَيِّت (3) .
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة: "قِيَماً" بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها (4) .
__________
(1) انظر: التبيان (1/267)، والدر المصون (2/227).
(2) في الأصل: فعيل. وانظر: (اللسان، مادة: قوم).
(3) انظر: اللسان، مادة: (قوم).
(4) الحجة للفارسي (2/229)، والحجة لابن زنجلة (ص:278-279)، والكشف (1/458)، والنشر (2/267)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:220)، والسبعة في القراءات (ص:274).(1/82)
فعلى هذا: هو مصدر بمعنى القيام وصف به.
{ ملة إبراهيم } عطف بيان، { حنيفاً } : حال من "إبراهيم" (1) ، تقديره: هداني ربي ملة إبراهيم في حال حنيفيته.
قوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي } قال الزجاج (2) : النُّسك: كلُّ مَا يتقرب به إلى الله تعالى، إلا إنَّ الغالبَ عليه أمر الذَّبح.
{ ومحياي ومماتي } قرأ الأكثرون بتحريك الياء وبالفتح من "محيايَ"؛ لالتقاء الساكنين، وبإسكانها من "مماتيْ"؛ لنقل الحركة على الياء.
وقرأ نافع بإسكان الياء من "محيايْ" للعلة المذكورة في "مماتي" في جعل المَدَّة حائلة بين الساكنين، وقرأ بإسكانها في: "مماتي" (3) ؛ لأنَّ حقَّ الياء في مثل هذا أن تكون مفتوحةً، مثل الكاف من: رأسكَ، والتاء في: قمتَ.
والمعنى: إن صلاتي ونسكي من جميع ما أتقرب به إلى الله وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.
{ لله رب العالمين } خالصاً لوجهه.
{ وبذلك } الإخلاص { أمرت وأنا أول المسلمين } من هذه الأمة.
__________
(1) انظر: التبيان (1/267)، والدر المصون (1/383).
(2) معاني الزجاج (2/311).
(3) الحجة للفارسي (2/229)، والحجة لابن زنجلة (ص:279)، والكشف (1/459)، والنشر (2/267)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:221)، والسبعة في القراءات (ص:274).(1/83)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اتدخب(1/84)
{ قل أغير الله أبغي رباً } أي: قل لهم يا محمد مجيباً لهم عن دعائهم إياك إلى عبادة آلهتهم: { أغير الله أبغي رباً } إلهاً وسيداً، { وهو رب كل شيء } فكيف أبغي سواه.
{ ولا تكسب كل نفس } من صالح وطالح، { إلا عليها } عقابه، ولها ثوابه.
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، وهو جواب لقولهم: { اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } [العنكبوت:12].
قوله تعالى: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } قال ابن مسعود: يخلف حكم بعضكم بعضاً (1) .
وقال الزجاج (2) : خلفتم سائر الأمم.
{ ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في العلم والرزق والشرف , وغير ذلك.
{ ليبلوكم فيما آتاكم } أي: ليختبركم فيما أعطاكم، فيظهر منكم ما تستحقون الجزاء عليه.
{ إن ربك سريع العقاب } قال عطاء: سريع العقاب لأعدائه، { وإنه لغفور رحيم } لأوليائه (3) .
أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن بن روزبة البغداديان
__________
(1) زاد المسير (3/163) من قول ابن قتيبة.
(2) معاني الزجاج (2/312).
(3) الوسيط (2/246) بلا نسبة.(1/85)
قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا ابن حمويه السرخسي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعة وَتِسْعِينَ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ [الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ] (1) العذابِ لم يأمنْ مِن النَّارِ" (2) .
والحمد لله على إحسانه.
__________
(1) ما بين المعكوفين زيادة من الصحيح.
(2) أخرجه البخاري (5/2374 ح6104).(1/86)
سورة الأعراف
ijk
وهي مائتا آية وست آيات (1) .
وعامة المفسرين يقولون: نزلت بمكة. واستثنى قوم من قوله: { واسألهم عن القرية } إلى قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم } (2) .
üب J!9# (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ اجب
وقد ذكرنا أقوال العلماء في أول البقرة على الحروف المقطعة في أوائل
__________
(1) انظر: البيان في عدّ آي القرآن (ص:155).
(2) انظر: الماوردي (2/198)، وزاد المسير (3/164)، وتفسير مقاتل (1/383).(1/87)
السور.
وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: { المص } قال: معناه أنا الله أعلم وأفصل (1) .
قوله تعالى: { كتاب } خبر مبتدأ محذوف (2) ، أي: هذا كتاب، { أنزل إليك } صفته، { فلا يكن في صدرك حرج منه } .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين: الحرج هاهنا: الشك (3) .
وقال الحسن والزجاج (4) : الحرج: الضيق (5) . وهذا هو الأصل، واستعماله بمعنى الشك لما يُخامر الشاكّ من الضيق والحرج.
والضمير في "منه" يعود إلى الكتاب. فعلى القول الأول معناه: فلا يكن عندك شك أن الكتاب منزل من عند الله، ويكون هذا مثل قوله: { فلا تكونن
__________
(1) أخرجه الطبري (8/115)، وابن أبي حاتم (5/1437). وذكره السيوطي في الدر (3/412) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/267)، والدر المصون (3/229).
(3) ... أخرجه الطبري (8/116)، وابن أبي حاتم (5/1438)، ومجاهد (ص:231). وانظر: الماوردي (2/199). وذكره السيوطي في الدر (3/413) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن نفس الطريق عزاه أيضاً لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4) ... معاني الزجاج (2/315).
(5) ... الماوردي (2/199). وذكره السيوطي في الدر (3/413) وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.(1/88)
من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين } [يونس:94-95]، النهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ظاهر الأمر، والمراد غيره، وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في سورة البقرة.
وعلى القول الثاني معناه: لا يكن عندك ضيق وحرج من إبلاغ ما أُرسلتَ به، فإنه كان يخاف أذى قومه وإعراضهم عنه وتكذيبهم له.
وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أي رب! إني أخاف أن يثلغوا (1) رأسي فيجعلوه كالخبزة" (2) .
قوله تعالى: { لتنذر به } إما أن يتعلق بـ"أُنزِلَ"، فيكون معناه: أنزل إليك لكي تنذر به. وإما أن يتعلق بالنهي، فيكون معناه: لا يكن في صدرك حرج منه لتتمكن من الإنذار (3) .
قوله تعالى: { وذكرى } إما أن يكون مرفوعاً، عطفاً على "كتاب"، أو خبر مبتدأ محذوف. وإما أن يكون منصوباً بإضمار فعل، على معنى: لتنذر به وتُذَكِّر تذكيراً. وإما أن يكون مجروراً عطفاً على محل "لتنذر"، تقديره: للإنذار والذكرى (4) .
وإنما خص المؤمنين؛ لموضع انتفاعهم.
قوله تعالى: { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني: القرآن والسنة، وهذا
__________
(1) ... الثَّلْغ: الشَّدْخ (لسان العرب، مادة: ثلغ).
(2) ... أخرجه مسلم (4/2197 ح2865).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/267)، والدر المصون (3/229-230).
(4) ... انظر: التبيان للعكبري (1/268)، والدر المصون (3/230-231).(1/89)
دليل واضح على وجوب تعلم العلم، خصوصاً علم التفسير، فإن المراد بالاتباع: العمل، وذلك يستدعي العلم قبله.
قال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم! أمرتَ باتباع كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وما معناها (1) .
{ ولا تتبعوا من دونه أولياء } أي: من دون الله. وقيل: من دون المُنَزَّل، { أولياء } يعني: شياطين الإنس والجن، فيحملوكم على عبادة الأوثان واتباع الأهواء والبدع.
{ قليلاً ما تذكرون } هو كقوله: { قليلاً ما تؤمنون } [الحاقة:41]، وقد سبق القول عليه في البقرة.
قرأ ابن عامر بياء وتاء. وقرأ الباقون بتاء واحدة، وخفف الذال أهل الكوفة إلا أبا بكر (2) .
Nx.ur مِنْ قَرْيَةٍ
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/348).
(2) ... مَنْ خفّف حذف إحدى التاءين وهي الثانية، وهما زائدتان، إلا أن الأولى تدل على معنى الاستقبال، والثانية إنما دخلت على معنى: (فعلت الشيء) على تمهل، نحو قولك: تفهمت الشيء، أي: أخذت على مهل. ومن شدد أدغم التاء في الذال لقرب مكان هذه من مكان هذه. انظر: الحجة للفارسي (2/231)، والحجة لابن زنجلة (ص:279)، والكشف (1/460)، والنشر (2/267)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:222)، والسبعة في القراءات (ص:278).(1/90)
أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ ڑcqè=ح !$s% (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا ڑْüخ7ح !$xî اذب
قوله تعالى: { وكم من قرية أهلكناها } ، قال الزجاج (1) : المعنى: كم من أهل قرية، إلا أن [أهل] (2) حذفت؛ لأن في الكلام دليلاً عليه.
وقوله: { فجاءها بأسنا بياتاً } محمولٌ على لفظ القرية.
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/317).
(2) ... في الأصل: أهلاً. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.(1/91)
قال الزمخشري (1) : إنما يقدر المضاف للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تهلك كما يهلك أهلها، وإنما قدرناه قبل الضمير في "فجاءها" لقوله: { أوْ هم قائلون } .
و"بياتاً" مصدر واقع موقع الحال (2) ، يعني: بائتين. يقال: بات بياتاً حسناً وبيتةً حسنة (3) .
وقوله: "هم قائلون" حال معطوفة على "بياتاً" (4) ، كأنه قيل: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين.
والبيتوتة بالليل، والقَيْلُولة: الاستراحة نصف النهار من اشتداد الحر وإن لم يكن معها نوم (5) . والمعنى: جاءهم عذابنا غير متوقعين له في وقت الدّعة والغفلة؛ إما ليلاً؛ كقوم لوط، وإما نهاراً؛ كقوم شعيب.
فإن قيل: نظمُ الآية يدل على تقدم الهلاك على البأس، وهو العكس؟
قلت: المراد: أردنا إهلاكها؛ كقوله: { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [المائدة:6]، وقوله: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } [النحل:98].
وقال الفراء (6) : وقع الإهلاك والبأس معاً، كما تقول: أعطيتني فأحسنت إليّ.
__________
(1) الكشاف (2/83).
(2) ... انظر: التبيان للعكبري (1/268)، والدر المصون (3/233).
(3) ... انظر: اللسان (مادة: بيت).
(4) ... انظر: التبيان للعكبري (1/268)، والدر المصون (3/233).
(5) انظر: اللسان (مادة: قيل)، والصحاح (5/1808).
(6) معاني الفراء (1/371).(1/92)
وذكر ابن الأنباري عن ذلك جوابين (1) :
أحدهما: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها وكان بأسنا قد جاءها، كما أضمر في قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } [البقرة:102] أي: ما كانت تتلوه.
الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا [بياتاً] (2) أو هم قائلون فأهلكناها، كقوله: { إني متوفيك ورافعك إليّ } .
والأول هو الجواب الذي ينبغي أن يُعتمد عليه.
فإن قيل: لا يقال: جاءني زيد هو فارس، بغير واو، فكيف قال: "أو هم قائلون"؟
قلت: قال الفراء (3) : الواو مضمرة، تقديره: أو وهم قائلون، فاستثقلوا نَسَقاً على نسق (4) .
وردّ هذا القول الزجاج فقال (5) : لو قلتَ: جاءني زيدٌ راجلاً أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس، لم تحتج فيه إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد [إلى] (6) الأول (7) .
__________
(1) ذكرهما ابن الجوزي في: زاد المسير (3/168).
(2) زيادة من زاد المسير (3/168).
(3) ... معاني الفراء (1/372).
(4) ... أي اجتماع عطفين متتاليين.
(5) ... معاني الزجاج (2/317).
(6) في الأصل: على. والتصويب من معاني الزجاج، الموضع السابق.
(7) قال السمين الحلبي في الدر المصون (3/234): أما امتناعها في المثال الأول ؛ فلأن النحويين نصُّوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها، والعلة فيه المشابهة اللفظية، ولأن واو الحال في الأصل عاطفة.(1/93)
قال الزمخشري (1) : والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي عطف؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حده، وقولك: جاءني زيد هو فارس فخبيث.
قوله تعالى: { فما كان دعواهم } أي: تضرعهم ودعاهم ودعاؤهم.
حكى سيبويه (2) : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين، أي: دعائهم، وأنشد على ذلك:
.......................... ... ... ... وَلَّت ودَعْواها كثيرٌ صَخَبُه (3)
وأنشد ابن الأنباري:
إذا مَذِلَتْ رِجْلي دَعوتُكِ أَشْتفي ... ... بدَعْواكِ مِنْ مَذْلٍ بها فيَهُون (4)
وقيل: المعنى: فما كان استغاثتهم، كقوله:
.......................... ... ... ... دَعَوا: يا لكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لعامر (5)
__________
(1) الكشاف (2/84).
(2) ... انظر: الكتاب لسيبويه (4/40).
(3) ... عجز بيت، لبشير بن النِّكْث. انظر: اللسان (مادة: دعا، نكث)، وتاج العروس (مادة: نكث).
(4) ... البيت لكثير عزة. انظر: ديوانه (ص:176)، والطبري (8/120)، واللسان (مادة: مذل)، وتاج العروس (مادة: مذل)، وتهذيب اللغة (14/435)، والدر المصون (3/235).
... ومَذِلَتْ رِجْلُه مَذْلاً، بفتح وسكون، وأمذت: خَدِرَتْ (اللسان، مادة: مذل). وكانوا يزعمون أن المرء إذا خدرت رجله، ثم دعا باسم من أحب، زال خدرها.
(5) ... عجز بيت، للراعي النميري وهو عبيد بن حصين، من قبيلة نمير التي هجاها جرير، سمي الراعي؛ لكثرة نعته الإبل وجودة وصفه إياها. وصدر البيت: (فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا ورِجالُهم) وهو في: الطبري (1/167)، وزاد المسير (1/50)، واللسان (مادة: عزا).(1/94)
وقال الزجاج (1) : المعنى -والله أعلم-: أنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب والدّين ويدعونه إلا على الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين. والدعوى: اسم لما ندّعيه.
وكل واحد من "دعواهم" و"أن قالوا" يصلح أن يكون اسماً لـ"كان" والآخر خبراً.
قوله تعالى: { فلنسألن الذين أرسل إليهم } أي: لنسألنهم هل بلَّغتكم الرسل، { ولنسئلن المرسلين } ماذا أجبتم؟ يسألهم سبحانه وتعالى مع أنه أعلم منهم بما قالوا، وقيل لهم: إظهاراً للعدل والنَّصَفَة، فإنهم ينكرون تبليغ الرسل ما أرسلوا به إليهم، فتشهد هذه الأمة أن الرسل بلغت رسالات ربهم، وفي ضمن ذلك توبيخهم وتقريعهم.
قوله تعالى: { فلنقصن عليهم بعلم } أي: على المرسلين وأممهم ما كان منهم وبينهم.
قال ابن عباس: يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا يعملون (2) .
{ وما كنا غائبين } عما جرى لهم.
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/318).
(2) ... أخرجه الطبري (8/122)، وابن أبي حاتم (5/1440). وذكره السيوطي في الدر (3/414) وعزاه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.(1/95)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ازب
قوله تعالى: { والوزن يومئذ الحق } "الوزن" مبتدأ، خبره: "يومئذ"، "الحق": صفته (1) ، على معنى: الوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن "الحق"، أي: العدل.
فصل
ذهب قوم إلى أن نصب الميزان يوم القيامة مجاز عن إرصاد الحساب السوي، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، فمَثَّلَ ذلك بنصب الموازين تحقيقاً لمعنى العدل.
__________
(1) التبيان للعكبري (1/269)، والدر المصون (3/236).(1/96)
والصحيح الذي عليه علماء النقل وأئمة الحديث وأعلام الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة فمن بعدهم: أنه ميزان ذو لسان وكفَّتين (1) ؛
لما أخبرنا به الشيخان الحافظ عبدالقادر بن عبدالله الرهاوي (2) قراءة عليه وأنا أسمع بحران، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الدُّنبلي (3) بقراءتي عليه بالموصل غير مرة ولا مرتين، قالا: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني (4) بثغر الإسكندرية، حدثنا أبو
__________
(1) أخرجه الطبري (8/123). وذكره السيوطي في الدر (3/418) وعزاه لأبي الشيخ.
(2) عبد القادر بن عبد الله الرهاوي الحنبلي، الإمام الحافظ الرحال، محدث الجزيرة. ولد بالرهاء سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ونشأ بالموصل، وكان مملوكاً لبعض المواصلة السفارين فأعتقه، فطلب العلم وأقبل على الحديث. كان عالماً ثقةً مأموناً، صالحاً ناسكاً، خشن العيش، إلا أنه عسراً في الرواية لا يكثر عنه إلا من أقام عنده، توفي بحران في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستمائة، وله ست وسبعون سنة (سير أعلام النبلاء 22/71-74، وتذكرة الحفاظ 4/1388).
(3) علي بن أبي بكر بن سليمان، أبو الحسن الدنبلي الموصلي. قدم بغداد حاجاً، وحدّث بها عن الحافظ أبي طاهر السلفي. وكان مولده بالموصل سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (تكملة الإكمال 2/595).
(4) أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني الجرواني، أبو طاهر السلفي، الإمام العلامة المحدث، الحافظ المفتي شيخ الإسلام، ولد في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، وسمع الكثير، وكان أول سماع حضره مجلس رزق الله التميمي الحنبلي، وحدث عن الكثير أيضاً، ورحل، فدخل بغداد ثم الشام، ثم ارتحل منها إلى خراسان، وحج وسمع بمكة والمدينة، وارتحل إليه خلق كثير جداً، فارتحل إليه السلطان صلاح الدين وإخوته وأمراؤه فسمععوا منه. وتوفي صبيحة يوم الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء 21/5-39).(1/97)
عبدالله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي (1) المعدل بالإسكندرية، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن حمصة الحراني (2) بمصر، حدثنا أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي الكناني (3) الحافظ إملاءً، أخبرنا عمران بن موسى الطبيب، حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير (4) ، حدثني الليث بن سعد (5) ، عن عامر بن يحيى المعافري، عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال: سمعت عبدالله
__________
(1) محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الرازي الإسكندري، أبو عبد الله، المعروف بابن الحطاب، ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، واعتنى به والده، فسمع الكثير في سنة أربعين وما بعدها، مات في سادس جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وله إحدى وتسعون سنة (سير أعلام النبلاء 19/583-584).
(2) علي بن عمر بن حمصة الحراني الصواف، ما سمع شيئاً سوى مجلس البطاقة، وتفرد عن حمزة الكناني. ولد في رمضان سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، ومات في ثالث رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة عن ثمان وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء 17/601-602).
(3) حمزة بن محمد بن علي بن العباس، أبو القاسم الكناني المصري، مملي مجلس البطاقة، كان حافظاً ثبتاً، مات في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وثلاثمائة (طبقات الحفاظ ص:378).
(4) يحيى بن عبد الله بن بكير، الإمام المحدث الحافظ الصدوق، أبو زكريا القرشي المخزومي. ولد سنة خمس وخمسين ومائة، وسمع من الإمام مالك والليث وابن لهيعة وحماد بن زيد، وعنه البخاري وابن معين وخلق، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء 10/612-615، وطبقات الحفاظ ص:184).
(5) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة كثير الحديث، مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب 8/412-417، والتقريب ص:464).(1/98)
بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كُلُّ سِجِلٍّ منها مدًّ البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: لك عذر أو حسنة؟! فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: بلى! إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظُلم عليك، فتُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلاّت؟ فيقول عز وجل: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كِفَّة، والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السِّجِلاَّت وثقلت البطاقة" (1) .
قال حمزة: ولا نعلمه روى هذا الحديث غير الليث بن سعد، وهو من أحسن الحديث، وبالله التوفيق.
قال أبو الحسن الحراني: لما أملى علينا حمزة هذا الحديث صاح غريب من الحلقة صيحة [فاضت] (2) نفسه معها، وأنا فيمن حضر جنازته وصَلَّى عليه، رحمه الله.
وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكِفَّتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل
__________
(1) ... وهو المشهور بحديث البطاقة. أخرجه الترمذي (5/24) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1437)، وأحمد (2/213)، وابن حبان (1/461)، والحاكم (1/710) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(2) ... في الأصل: فاظت.(1/99)
حسناته على سيئاته. وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه (1) .
وقال حذيفة: صاحب الميزان يوم القيامة جبريل، فيقول له ربه: زِن بينهم، ورُدّ من بعضهم على بعض، فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة، فإن لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم فرد على سيئات الظالم (2) .
ويروى: أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يُريه الميزان، فلما رآه غشي عليه، ثم أفاق فقال: إلهي! من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي، ملأتها بتمرة (3) .
فصل
واختلفوا في كيفية الوزن وما الذي يوزن؟
فقال قوم: توزن صحائف الأعمال؛ لحديث عبدالله بن عمرو (4) .
وقال قوم: يوزن الإنسان؛ لما أخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال: اقرأوا إن شئتم: { فلا نقيم
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في الشعب (1/263). وذكره السيوطي في الدر (3/420) بأطول منه وعزاه إلى البيهقي في الشعب.
(2) ... أخرجه الطبري (8/123). وذكره السيوطي في الدر (3/418) وعزاه لابن أبي الدنيا وابن جرير واللالكائي.
(3) ... ذكره ابن الجوزي في: زاد المسير (3/171).
(4) ... السابق قبل قليل.(1/100)
لهم يوم القيامة وزناً } [الكهف:105]" (1) .
وقال قوم: تجعل في كِفّة الحسنات جواهر بيض، وفي كِفّة السيئات جواهر سود مُظْلِمَة.
فإن قيل: ما الحكمة في نصب الميزان والله سبحانه وتعالى يعلم مقادير الأعمال؟
قلت: فيه حِكَم، منها: تأكيدُ الحجة وإظهارُ العدل وقطع المعذرة، ولأجل ذلك أثبتت أعمالهم في الصحائف، وشهدت عليهم الملائكة والأنبياء والجوارح (2) .
قوله تعالى: { فمن ثقلت موازينه } هو من باب إطلاق الجمع على الواحد، كقوله: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } [آل عمران:173].
وقال الواحدي (3) وأبو الفرج ابن الجوزي رحمهما الله (4) : إنما قال:
__________
(1) ... أخرجه البخاري (4/1759 ح4452)، ومسلم (4/2147 ح2785).
(2) ... انظر: زاد المسير (3/171). وفيه ذكر ابن الجوزي خمس حكم في نصب الميزان:
... أحدها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا.
... والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى.
... والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر.
... والرابعة: إقامة الحجة عليهم.
... والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الأعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه.
(3) الوسيط (2/350).
(4) زاد المسير (3/169).(1/101)
{ موازينه } على الجمع؛ لأن "من" في معنى الجمع، ألا ترى أنه قال: { فأولئك هم المفلحون } .
وقال الفراء (1) : المراد بموازينه: وزنه. والعرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك.
قال الشاعر:
.......................... ... ... عندي لكلِّ مُخاصِمٍ ميزانُه (2)
يعني: مثل كلامه ولفظه.
وقوله: { بما كانوا بآياتنا يظلمون } أي: يكذبون بها ظلماً.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحق وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفّت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الباطل وخفته عليهم، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف (3) .
__________
(1) معاني الفراء (3/287).
(2) جاء في اللسان: الميزان: المقدار. وهو عجز بيت. وصدره: (قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقائِكُمْ ذَا مِرَّة) انظر: اللسان (مادة: وزن)، والطبري (30/282)، والقرطبي (10/13، 17/86، 20/166)، وزاد المسير (3/170)، وتاج العروس (مادة: وزن).
(3) ... أخرجه الطبري (26/18). وانظر: الوسيط (2/351). وذكره السيوطي في الدر (7/443) وعزاه لابن جرير عن مجاهد قال: دعا أبو بكر عمر رضي الله عنهما فقال له: إني موصيك بوصية أن تحفظها ... إنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه... فذكره.(1/102)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ اتةب
قوله تعالى: { ولقد مكناكم في الأرض } أي: وطأناها لكم وسهلناها لكم قراراً.
وقال ابن عباس: ملكناكم في الأرض (1) ، على أن الخطاب لقريش.
{ وجعلنا لكم فيها معايش } أي: ما تعيشون به من المطاعم والمشارب، أو ما تتوصَّلون به إلى ذلك من أنواع المكاسب.
واتفق القُرّاء على ترك الهمز في "معايش"، وروى خارجة عن نافع همزها (2) .
قال الزجاج (3) : جميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ؛ لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، مثل صحيفة وصحائف، فأما "معايش" فمن العَيْش، الياء أصلية، وصحيفة من الصُّحُف، فالياء زائدة، وإنما همزت الياء الزائدة؛ لأنه لا حَظَّ لها في الحركة، وقد قَرُبَتْ من آخر الكلمة ولزمتها الحركة فأوجبوا فيها الهمز.
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/352).
(2) ... الحجة للفارسي (2/232)، وإتحاف فضلاء البشر (ص:222)، والسبعة (ص:278).
(3) ... معاني الزجاج (2/320-321).(1/103)
فأما ما رواه نافع من "معائش" بالهمز فلا أعرف له وجهاً، إلا أن لفظ هذه الياء التي من نفس الكلمة أُسْكِنَ في معيشة، فصار على لفظ: صحيفة، فحمل الجمع على ذلك، ولا أحب القراءة بذلك.
وقوله: { قليلاً ما تشكرون } مثل قوله: { قليلاً ما تؤمنون } [الحاقة:41] وقد سبق القول فيه.
ô‰s)s9ur خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ tچ 6s3tFs? فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ(1/104)
الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ ِNخgخ=ح !$oےw وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ اترب
قوله تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } قال ابن عباس في رواية سعيد(1/105)
بن جبير: "خلقناكم" في الأصلاب، "ثم صورناكم" في الأرحام (1) .
وقال في رواية أخرى: "خلقناكم" في ظهر آدم، "ثم صورناكم" في الأرحام (2) .
وقال في رواية العوفي: "ولقد خلقناكم" يعني: آدم، "ثم صورناكم" يعني: ذريته من بعده (3) .
وقال معمر: خلقناكم في بطون أمهاتكم، ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر (4) .
وقال مجاهد: "خلقناكم" يعني: آدم، "ثم صورناكم" في ظهره (5) .
وقيل: "خلقناكم" يعني: الأرواح، "ثم صورناكم" يعني: الأجساد (6) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/127) عن ابن عباس، من رواية عكرمة، وابن أبي حاتم (5/1442)، والحاكم (2/349 ح3242)، والبيهقي في الشعب (1/132 ح107). وذكره السيوطي في الدر (3/424) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب.
(2) ... أخرجه الطبري (8/126). وذكره السيوطي في الدر (3/424) وعزاه للفريابي.
(3) ... أخرجه الطبري (8/126)، وابن أبي حاتم (5/1442). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:222). وذكره السيوطي في الدر (3/424) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(4) ... أخرجه الطبري (8/127) عن معمر عن رجل لم يصرح باسمه. وانظر: الماوردي (2/203)، وزاد المسير (3/173).
(5) ... أخرجه الطبري (8/127)، وابن أبي حاتم (5/1442)، ومجاهد (ص:232). وذكره السيوطي في الدر (3/424) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(6) ... ذكره ابن الجوزي في: زاد المسير (3/173).(1/106)
حكاه القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد.
وقال الزجاج (1) : زعم الأخفش (2) أن "ثم" هاهنا في معنى الواو، وهذا خطأ لا يجيزه الخليل ولا سيبويه وجميع من يوثق بعلمه، إنما "ثم" للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولاً، فإنما المعنى: بدأنا خلق آدم عليه السلام ثم صورناه، فابتداء خلق آدم التراب، الدليل على ذلك قوله: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } [آل عمران:59]، فبدأ الله خلق آدم تراباً، وبدأ خلق حواء من [ضلع] (3) من أضلاعه، ثم وقعت الصورة بعد ذلك، فهذا معنى: { خلقناكم ثم صورناكم } ، أي: هذا أصل خلقكم، ثم خلق ولده نطفاً ثم صُوِّرُوا. وهاهنا تمّ كلام الزجاج.
فإن قيل: فما تصنع بقوله: { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على الأقوال المروية عن ابن عباس وقول معمر؟
قلت: إما أن يقال بأن فيه تقديماً وتأخيراً، وإما أن يكون التقدير: ثم كنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } لآدم تعظماً وتكبراً عليه وحسداً له.
{ قال ما منعك } "ما" رفع بالابتداء وما بعده الخبر، و"أن" في موضع
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/321-322).
(2) ... معاني القرآن للأخفش (ص:189).
(3) ... في الأصل: ظلع. والتصويب من معاني الزجاج (2/321).(1/107)
نصب بـ"منعك"، تقديره: أي شيء منعك السجود لآدم (1) ، وإنما سأله -وهو أعلم بحاله منه-؛ توبيخاً له وإظهاراً لعناده وكفره وتعظمه في نفسه وكبره.
و"لا" في قوله: { أن لا تسجد } صلة، بدليل قوله في موضع آخر: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص:75] ومثلها: { لئلا يعلم أهل الكتاب } [الحديد:29] بمعنى: لِيَعْلَمَ. وفائدة زيادتها: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ما منعك أن تلزم نفسك السجود وتحققه لآدم. وكذا لـ"يعلم"، أي: يتحقق علم أهل الكتاب (2) .
{ قال أنا خير منه } كأنه قال: منعني فضلي عليه. ثم ذكر ما ظنه موجباً لفضله عليه فقال: { خلقتني من نار وخلقته من طين } .
قال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس وكفر بقياسه. فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس (3) .
وقال ابن سيرين: ما عُبِدَتِ الشمس والقمر إلا بالمقاييس (4) .
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/240)، وإعراب القرآن للنحاس (2/116).
(2) ... انظر: الكشاف (2/86).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/353)، والسيوطي في الدر (3/425) وعزاه لابن جرير عن الحسن.
(4) ... أخرجه الطبري (8/131). قال ابن كثير (2/204): إسناده صحيح.
... وحجة إبليس لعنه الله في قوله: { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } هي باطلة؛ لأنه عارض النص بالقياس. قال الإمام القرطبي (7/171): الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها: أن جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء. الثاني: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وأن في النار تراباً. الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سبباً للعذاب. الرابع: أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
... قلت: ومحتمل قولاً خامساً وهو أن التراب مسجد وطهور، كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب، كما قال تعالى: { ذلك يخوف الله به عباده } . اهـ.(1/108)
وقال جماعة من أهل العلم: وقع الخطأ من إبليس حيث قاس مع وجود النص (1) .
{ قال فاهبط منها } أي: من السماء إلى الدار التي هي مقر العاصين والمتكبرين، { فما يكون لك أن تتكبر فيها } أي: ما يصلح لك أن تتكبر في السماء التي هي مقر ملائكتي الخاضعين لجلالي، الخاشعين من هيبتي، { فاخرج إنك من الصاغرين } الأذلاّء، جُوزي اللعين بالصَّغار والخلود في النار، حيث عصى ربه بالاستكبار.
قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارجُ له التوبة، فإن آدم عصى مشتهياً فغفر له. وإذا كانت معصيته في كِبْر فاخْشَ على صاحبه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلُعن (2) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
__________
(1) ... انظر: الوسيط (2/353)، وزاد المسير (3/174).
(2) ... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/295 ح8217). وأبي نعيم في الحلية (7/272).(1/109)
- صلى الله عليه وسلم - : "ما تواضع أحد لله إلا رفعه" (1) .
وروى أبو أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانها، فإن هو رفع نفسه جبذاها، ثم قالا: اللهم ضعه، وإن وضع نفسه جبذاها ثم قالا: اللهم ارفعه" (2) .
وفيما أوحى الله تعالى إلى موسى: إني إنما أَقْبَلُ صلاةَ من تواضع لعظمتي، ولم يَعْظُمْ على خلقي، وأَلْزَمَ قلبَه خوفي (3) .
وقال عمر رضي الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته، وقال: انتعش نعشك الله، ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض (4) .
{ قال أنظرني } أي: أمهلني، { إلى يوم يبعثون } سأل الإنظار إلى غاية رام ببلوغها النجاة من الممات، فأنظر المغرور إلى النفخة الأولى في الصور، فذلك قوله: { قال إنك من المنظرين } ، وقد بيّن ذلك في الحِجر بقوله: { إلى يوم الوقت المعلوم } [الحجر:38].
{ قال فبما أغويتني } أي: فبسبب إغوائك لي إياي { لأقعدن لهم } ، وقيل: هي باء القسم (5) ، كأنه أقسم بسلطان الله عليه ونفاذ قدرته فيه حتى أغواه.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (4/200 ح2588).
(2) ... أخرجه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (ص:98).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (ص:116).
(4) ... أخرجه ابن أبي شيبة (5/329 ح26583، 7/96 ح34461)، والبيهقي في الشعب (6/275 ح8139).
(5) للباء أربعة عشر معنى انظرها في: مغني اللبيب لابن هشام (ص:137) وما بعدها، والإتقان في علوم القرآن (2/182) وما بعدها.(1/110)
ومعنى "أغويتني": أضللتني عن الهدى (1) . وقيل: أهلكتني (2) ، من قول العرب: غَوِيَ الفصيلُ يَغْوَى؛ إذا فَقَدَ اللبن فمات (3) .
فعلى هذا سمي التزيين إغواء؛ لإفضائه بصاحبه إلى الهلاك.
قال أبو [معاوية] (4) الضرير: حدثنا رجل ولم يُسَمِّه قال: كنت عند طاووس في المسجد الحرام، فجاء رجل ممن يُرْمَى بالقدر من كبار الفقهاء، فجلس إليه، فقال [له طاووس] (5) : تَقوم أو تُقام، فقام الرجل، فقلت لطاووس: تقول هذا لرجل فقيه؟! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني، ويقول هذا: أنا أغوي نفسي (6) .
فإن قيل: ما موقع "ما" في قوله: { فبما أغويتني } ؟
قلت: الجزاء؛ على المعنى الأول، ومصدرية في موضع القسم؛ على المعنى الثاني.
__________
(1) وهو قول ابن عباس والجمهور. أخرجه الطبري (8/133). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:223). وذكره السيوطي في الدر (3/425) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة.
(2) انظر: زاد المسير (3/175). وهو قول ابن الأنباري.
(3) انظر: لسان العرب (مادة: غوى).
(4) في الأصل: معواية. وهو خطأ. وأبو معاوية هو محمد بن خازم. انظر ترجمته في: التقريب (ص:475).
(5) زيادة من القرطبي (7/175).
(6) ذكره القرطبي (7/175).(1/111)
وقد قيل: إنها استفهامية (1) ، المعنى: فبأي شيء أغويتني.
ثم ابتدأ فقال: { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } قال الزجاج (2) : هو مثل قولهم: ضُرِبَ زيد الظَّهْرَ والبَطْن.
والصراط المستقيم: هو الطريق المفضي بسالكه إلى الجنة. ويدخل في هذا قول ابن مسعود والحسن: هو طريق مكة (3) .
وقول جابر ومحمد ابن الحنفية: هو دين الإسلام (4) .
وقول مجاهد: هو الحق (5) .
وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الشيطان قَعَدَ لابن آدم بأَطْرُقِه، فَقَعَدَ له بطريق الإسلام، فقال له: أتُسْلِمُ وَتَذرُ دينكَ ودينَ آبائك، فَعَصَاهُ فأَسْلَم. ثم قَعَدَ له بطريق الهِجْرة، ثم قال له: أَتُهاجِرُ وتَذَر أرضكَ وسماءك، وإنما مَثَلُ المُهاجِرِ مثل الفرس في الطِّول (6) ، فعَصَاهُ فَهَاجَر. ثم قَعَدَ له
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/241).
(2) ... معاني الزجاج (2/324).
(3) ... الماوردي (2/206)، وزاد المسير (3/176). وذكره السيوطي في الدر (3/426) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن مسعود.
(4) ... زاد المسير (3/176).
(5) ... أخرجه الطبري (8/134). وذكره السيوطي في الدر (3/426) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.
(6) ... الطِّوَل والطِّيَل -بالكسر-: الحبل الطويل يُشَدُّ أحدُ طَرَفَيْه في وتد أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى، ولا يذهب لوجهه. وطوَّل وأطال بمعنى: أي شدّها في الحبل (النهاية في غريب الحديث 3/145، ولسان العرب، مادة: طول).(1/112)
بطريق الجِهاد، قال: فهو جَهْدُ النَّفْسِ والمال فتُقاتل فتُقْتَل وتنكَحُ المرأة ويُقَسَّمُ المال، فعَصاهُ فجَاهَد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" (1) .
ومقصود الخبيث إبليس بهذا: إفساد بني آدم وإهلاكهم. المعنى: لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسد بسببي كما فسدت بسببهم.
ثم توعدهم بأنواع التحيل على [إضلالهم] (2) من جميع جهاتهم فقال: { لآتينهم من بين أيديهم } فأشككهم في الآخرة، وأقول: لا بعث ولا نشور، { ومن خلفهم } فأرغبهم في الدنيا وأعدهم وأمنيهم، { وعن أيمانهم } فأثبطهم عن الحسنات، { وعن شمائلهم } فأزين لهم السيئات (3) .
وقيل: { لآتينهم من بين أيديهم } أي: من قبل دنياهم، { ومن خلفهم } : من قبل آخرتهم. رُويا عن ابن عباس (4) .
قال قتادة: أتاك يا ابن آدم من كل جهة، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم
__________
(1) ... أخرجه النسائي في الكبرى (3/15 ح4342)، والصغرى (6/21 ح3134)، وأحمد (3/483).
(2) ... في الأصل: إظلالهم.
(3) ... أخرجه الطبري (8/136)، وابن أبي حاتم (5/1444-1445). وذكره السيوطي في الدر (3/426-427) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس. وانظر: تفسير ابن عباس (ص:223).
(4) ... أخرجه الطبري (8/136)، وابن أبي حاتم (5/1444-1445). وذكره السيوطي في الدر (3/427) وعزاه لابن أبي حاتم. وانظر: تفسير ابن عباس (ص:223).(1/113)
يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله (1) .
{ ولا تجد أكثرهم شاكرين } قال ابن عباس: يريد: أن أكثرهم لإبليس طائعون ولله عاصون (2) .
وقال أيضاً: "شاكرين": مُوحِّدين (3) .
وقيل: لا تجد أكثرهم شاكرين لسوابغ نعمك وسوائغ منّتك (4) .
{ قال اخرج منها مذءوماً } أي: اخرج من الجنة أو من السماء مذءوماً.
قال الفراء (5) : يقال: ذأَمْتُ الرّجلَ، أَذأَمُهُ ذأْماً؛ وذممتُه، أذُمُّه ذمّاً، وذِمْتُهُ، أَذيمُه ذَيْماً (6) .
قال المبرد: المذءوم: المعيب.
قال امرؤ القيس:
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/136). وذكره السيوطي في الدر (3/427) وعزاه لأبي الشيخ عن عكرمة.
(2) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/355).
(3) ... أخرجه الطبري (8/138)، وابن أبي حاتم (5/1446). وانظر: تفسير ابن عباس (ص:223). وذكره السيوطي في الدر (3/426-427) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(4) فائدة: قال الماوردي (2/207): فإن قيل: كيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه ظنّ ذلك فصدق ظنّه، كما قال تعالى: { ولقد صدق عليهِم إِبلِيس ظَنَّهُ } [سبأ:20]، وسبب ظنه: أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال : ذرية هذا أضعف منه. والثاني: أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله.
(5) ... لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في: زاد المسير (3/178).
(6) ... انظر: لسان العرب (مادة: ذأم).(1/114)
وبدا له وجه يردُّ ... الليل منجاباً ظلامُه
شهدت محاسنه التي كانت ... تصون وغاب ذامه
وقال الكسائي: الذّؤم: المقبوح.
وقيل: الذَّأْم والذَّيْم: أشد العيب، وهو أبلغ من الذمّ.
والدّحر: الطرد والإبعاد، فمعنى { مدحوراً } : مبعداً من رحمة الله.
{ لمن تبعك منهم } هذه لام التوكيد دخلت موطئة للقسم (1) ، { لأملأن جهنم } جواب القسم، وهو ساد مسد جواب الشرط (2) ، والمعنى: لمن تبعك من أولاد آدم، { لأملأن جهنم منكم أجمعين } . جعله ابن الأنباري من باب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب.
وقال صاحب الكشاف (3) : المعنى منكم (4) ومنهم، فغلّب [ضمير] (5) المخاطب.
ويجوز عندي أن يقال: صاروا باتباع إبليس ومشايعته وتلبسهم بطاعته كالجزء منه ومن ذريته، ولذلك شملهم اسم الشيطنة، فيسلم الكلام بهذا التقرير من الإضمار والتقدير.
مPyٹ$t"¯"tƒur اسْكُنْ
__________
(1) ... انظر: الدر المصون (3/245)، وإعراب القرآن للنحاس (2/117).
(2) ... انظر: الدر المصون (3/245).
(3) ... الكشاف (2/90).
(4) ... في الكشاف: منك.
(5) ... زيادة من الكشاف، الموضع السابق.(1/115)
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ اثتب
قوله تعالى: { فوسوس لهما الشيطان } ، الوَسْوَسَة: حديث النفس. يقال:(1/116)
وَسْوَسَتْ إليه نفسه وَسْوَسَة ووِسْواساً -بكسر الواو-. والوَسْواسُ -بفتح الواو-: الاسم، ووَسْوَسَ الرجل؛ إذا تكلم كلاماً خفياً، ووَسْوَسَ الحلي (1) ، قال الشاعر:
تَسْمَعُ للحَلْي وَسْواساً إذا انْصَرَفَتْ ... ... كما اسْتَعانَ بِريحٍ عِشْرِقٌ زَجلُ (2)
وهو فعل غير متعد؛ كَوَلْوَلَت المرأة، وَوَعْوَع الذئب. والمعنى: ألقى الشيطان إليهما ذلك في خفية. وقد ذكرنا في البقرة كيفية توصله إليهما.
واللام في قوله: { ليبدي لهما } لام العاقبة (3) ؛ لأن مراد الشيطان معصيتهما لا إبداء سوأتهما. ويجوز أن يكون إبداء سوأتهما غرضاً له ليسوؤهما إذا رأيا ما يواريان ستره، وقوله: { ما ووري } أي: ما ستر، من المواراة، ومنه: { ليواري سوأة أخيه } [المائدة:31].
وفي قراءة ابن مسعود: "ما أُوري" على قلب الواو المضمومة همزة (4) .
{ وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا } وقرأت شاذاً: "هذي الشجرة" على الأصل، فإن الأصل: الياء، والهاء بدل منها.
{ إلا أن تكونا } أي: كراهة أن تكونا { ملكين } فلا تموتان إلى يوم
__________
(1) ... انظر: لسان العرب (مادة: وسس).
(2) ... البيت للأعشى. انظر: القرطبي (7/178)، واللسان، مادة: (وسس، عشرق، زجل).
(3) ... انظر: الدر المصون (3/247).
(4) ... انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/279)، والدر المصون (3/247).(1/117)
القيامة.
وقرأ ابن عباس: "مَلِكين" بكسر اللام (1) ، لقوله: { وملك لا يبلى } [طه:120].
{ أو تكونا من الخالدين } فلا تموتان أبداً.
{ وقاسمهما } أي: حلف لهما، { إني لكما لمن الناصحين } .
قال ابن عباس وقتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وإنما يخادع المؤمن بالله. قال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما (2) .
$yJكg9©9y‰sù بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا
__________
(1) ... وهي قراءة يحيى بن كثير، والضحاك، والحسن بن علي، والزهري، وابن حكيم أيضاً. وقد أنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام، قال: لم يكن قبل آدم - صلى الله عليه وسلم - مُلك فيصيرا مَلِكين (انظر: الطبري 8/140، والبحر المحيط 4/280).
(2) أخرجه الطبري (8/141)، وابن أبي حاتم (5/1451). وذكره السيوطي في الدر (3/431) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.(1/118)
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ اثخب(1/119)
{ فدلاّهما } (1) هذا مجاز عن إلقائهما في هوة { بغرور } وكل واقع في مثل ذلك، فإنه نازل من علو إلى استفال، ومن كرامة إلى إذلال.
قال الأزهري (2) : أصله: تدلية العطشان في البئر ليَرْوى من الماء فلا يَجِد الماء، فيكون مُدَلَّى بالغرور، ثم وضعت التَّدْلِيَةُ موضع الإطماع فيما لا يُجْدي نفعاً، فيقال: دلَّاه إذا أطمعه في غير مطمع.
قال ابن عباس: غرّهما باليمين، وكان آدم يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً (3) .
{ فلما ذاقا الشجرة } أي: أكلا منها، قال الزجاج (4) : قوله: "ذاقا" يدل على أنهما لم يُبالِغَا في الأكل.
{ بَدَتْ لهما سوآتهما } قال وهب: كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر (5) .
{ وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } أي: أقبلا، يقال: طَفِقَا وطَفَقَا، بفتح الفاء وكسرها (6) . وبالفتح قرأ أبو [السَّمَّال] (7) .
__________
(1) في الأصل زيادة قوله: { بغرور } . وستأتي بعد.
(2) تهذيب اللغة (14/172).
(3) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/357)، وزاد المسير (3/180).
(4) ... معاني الزجاج (2/328).
(5) ... أخرجه الطبري (8/143). وذكره السيوطي في الدر (3/430) وعزاه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.
(6) انظر هذه القراءة في: البحر المحيط (4/281)، والدر المصون (3/251).
(7) ... في الأصل: السماك. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في: لسان الميزان (4/475)، والمغني في الضعفاء (2/789).(1/120)
قال قتادة: أقبلا يرقعان ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين، حتى صار كهيئة الثوب (1) .
{ وناداهما ربهما } على وجه التوبيخ والعتاب: { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة... الآية } .
ويروى أنه قال: ألم يكن لك فيما أبحتك ومنحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ فبعزتي حلفتُ لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كداً. فأُهبط وعُلّم صنعة الحديد، وأمر الحرث فحرث وزرع، وسقى وحصد، وداس وذرى، وعجن وخبز (2) .
ومعنى قوله: { فيها تحيون } أي: في الأرض تعيشون، { وفيها تموتون } أي: فيها قبوركم، { ومنها تخرجون } للبعث. وما لم أذكره هاهنا مُفسّر في البقرة.
ûسح_t6"tƒ آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى
__________
(1) ... ذكره الواحدي في الوسيط (2/357).
(2) ... أخرجه الطبري (8/142) من حديث ابن عباس.(1/121)
ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اثذب
قوله تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } سبب نزولها: أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة؛ تنزهاً عن الطواف في ثياب تدنست(1/122)
بالمعاصي، وتفاؤلاً بالتعري من الذنوب (1) .
وقيل: إنه لما ذكر عري آدم امتنّ علينا فأنزل اللباس.
فإن قيل: اللباس غير منزل، فكيف أوقع عليه لفظ الإنزال؟
قلتُ: عنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: أنزلنا عليكم الحكم به، كما يقال: أنزل الله الصلاة.
الثاني: أنه لما كان اللباس متخذاً من النبات الذي سببه المطر أوقع عليه لفظ الإنزال.
ومثله: { وريشاً } . وقرأتُ لعاصم من رواية أبان والمفضل: "ورياشاً" بزيادة ألف (2) ، قيل: هو جمع ريش؛ كشعب وشعاب.
قال سفيان: الريش: المال، والرياش: الثياب (3) .
والأكثرون على أنهما بمعنى واحد.
قال قطرب: هما واحد (4) .
قال ابن قتيبة (5) : الرِّيش والرِّياش: ما ظهر من اللباس.
__________
(1) ... انظر: الماوردي (2/213)، وزاد المسير (3/181).
(2) ... انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص:223)، والطبري (8/147)، والبحر المحيط (4/283)، وزاد المسير (3/181).
(3) ... أخرجه الطبري (8/148) عن ابن عباس ومجاهد والسدي وعروة والضحاك، وابن أبي حاتم (5/1457). وذكره السيوطي في الدر (3/434) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طرق عن ابن عباس.
(4) ... انظر قول قطرب في: زاد المسير (3/182).
(5) ... تفسير غريب القرآن (ص:166).(1/123)
وقيل: هو الجمال والزينة، استعير من ريش الطائر، فكأنه قيل: أنزلنا عليكم لباسين، لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم.
وقال الزجاج (1) : الرِّيش: اللباس، والرياش: كل ما ستر الرجل في جِسْمِه ومعيشتِه. يقال: قد تريَّش فلان، أي: صار له ما يعيش به، أنشد سيبويه وغيره:
فَرِيشِي مِنْكُمُ وهَوَايَ مَعْكُمْ ... وإِنْ كَانَتْ زيارَتُكُمْ لِمَاما (2)
قوله تعالى: { ولباس التقوى } : مبتدأ، { ذلك } : صفته، { خير } : خبره (3) ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
وقيل: خبره الجملة، كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير.
ومعنى الكلام: ولباس التقوى خير لصاحبه عند الله من لباس الثياب.
وقيل: لباس التقوى هو اللباس الأول، فـ { لباس التقوى } على هذا: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو لباس التقوى (4) .
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي: "ولباسَ التقوى" بالنصب (5) ، عطفاً
__________
(1) ... معاني الزجاج (2/328).
(2) ... البيت لجرير. انظر: ديوانه (ص:410)، والكتاب لسيبويه (3/287) ونسبه للراعي، وانظر: شرح المفصل لابن يعيش (2/128)، والعيني (3/432)، وأمالي ابن الشجري (1/245)، والأشموني (2/256)، والتصريح (2/48)، والقرطبي (7/184)، وزاد المسير (3/182)، والدر المصون (3/253)، ولسان العرب (مادة: معع).
(3) ... انظر: التبيان للعكبري (1/271)، والدر المصون (3/253).
(4) ... مثل السابق.
(5) ... الحجة للفارسي (2/234)، والحجة لابن زنجلة (ص:280)، والكشف (1/460)، والنشر (2/268)، والإتحاف (ص:223)، والكشف (1/460)، والسبعة في القراءات (ص:280).(1/124)
على "لباساً" و"رياشاً" و"ريشاً".
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى: هو السمت الحسن (1) .
وقيل: العمل الصالح (2) . رُويا عن ابن عباس.
وقال قتادة: الإيمان (3) .
وقال عروة بن الزبير: خشية الله (4) .
وقال معبد الجهني: الحياء (5) .
__________
(1) ... أخرجه الطبري (8/149)، وابن أبي حاتم (5/1458). وذكره السيوطي في الدر (3/435) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ... أخرجه الطبري (8/149)، وابن أبي حاتم (5/1457).
(3) ... أخرجه الطبري (8/149). وذكره السيوطي في الدر (3/434) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(4) ... أخرجه الطبري (8/149). وذكره السيوطي في الدر (3/434) وعزاه لابن جرير.
(5) ... أخرجه الطبري (8/149)، وابن أبي حاتم (5/1458). وذكره السيوطي في الدر (3/435) وعزاه لأبي عبيد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
... قلت: ولا منافاة بين هذه الأقوال، فهي مندرجة تحت تقوى الله. ولهذا قال ابن جرير الطبري (8/151): وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: { ولباس التقوى } استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمت الحسن، لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً ومنه خائفاً، وله مراقباً، ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره. اهـ.(1/125)
وقد روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الهديَ الصالح والسمتَ الصالح والاقتصاد جزءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة" (1) .
قال الخطابي: هديُ الرجل: حاله ومذهبه وكذلك سمته، والاقتصاد: سلوك القصد في الأمر والدخول فيه برفق (2) .
والمعنى: أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء فاقتدوا بهم فيها، وليس المعنى: النبوة تتجزأ، فإنها غير مكتسبة.
وفيه وجه آخر: أن يكون معنى النبوة هاهنا: ما جاءت به النبوة ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام.
قال: ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن من اجتمعت له هذه الخصال لقيه الناس بالتعظيم وألبسه الله لباس التقوى الذي يلبسه الأنبياء، وكأنها جزء من النبوة.
قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من إنزال اللباس والرياش { من آيات الله } الدالة على فضله ونعمته ورحمته لعباده، { لعلهم يذكرون } فيعرفوا عظيم نعمته عليهم وإحسانه إليهم.
قوله تعالى: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } أي: لا يخدعنكم بغروره فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف، كما فتن أبويكم من قبل فخدعهما حتى أخرجهما من الجنة.
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (4/247 ح4776)، وأحمد (1/296).
(2) ... انظر: عون المعبود (13/94).(1/126)